اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 مايو 2022

مجلد 8. جامع البيان {تفسير الطبري}

 

مجلد 8. جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف : محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري،
[ 224 - 310 هـ ]

فقالوا : رجلان في كلّ حال. قال : وقد اجتمعت العرب على إثبات الألف في كلا الرجلين ، في الرفع والنصب والخفض ، وهما اثنان ، إلا بني كنانة ، فإنهم يقولون : رأيت كلي الرجلين ، ومررت بكلي الرجلين ، وهي قبيحة قليلة مضوا على القياس ، قال : والوجه الآخر أن تقول : وجدت الألف من هذا دعامة ، وليست بلام فعل ، فلما بنيت زدت عليها نونا ، ثم تركت الألف ثابتة على حالها لا تزول بكلّ حال ، كما قالت العرب الذي ، ثم زادوا نونا تدلّ على الجمع ، فقالوا : الذين في رفعهم ونصبهم وخفضهم ، كما تركوا هذان في رفعه ونصبه وخفضه ، قال : وكان القياس أن يقولوا : اللذون ، وقال آخر منهم : ذلك من الجزم المرسل ، ولو نصب لخرج إلى الانبساط.
وحُدثت عن أبي عُبيدة معمر بن المثنى ، قال : قال أبو عمرو وعيسى بن عمر ويونس : إن هذين لساحران في اللفظ ، وكتب هذان كما يريدون الكتاب ، واللفظ صواب ، قال : وزعم أبو الخطاب أنه سمع قوما من بني كنانة وغيرهم ، يرفعون الاثنين في موضع الجر والنصب ، قال : وقال بشر بن هلال : إن بمعنى الابتداء والإيجاب ، ألا ترى أنها تعمل فيما يليها ، ولا تعمل فيما بعد الذي بعدها ، فترفع الخبر ولا تنصبه ، كما نصبت الاسم ، فكان مجاز " إن هذان لساحران " ، مجاز كلامين ، مَخْرجه : إنه إي نعم ، ثم قلت : هذان ساحران. ألا ترى أنهم يرفعون المشترك كقول ضابئ :
فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمَدِينَةِ رَحْلُهُ... فإنّي وَقيار بِهَا لَغَرِيبُ (1)
وقوله :
__________
(1) البيت لضابئ بن الحارث البرجمي ، وهو أول أبيات قالها وهو محبوس بالمدينة ، في زمن عثمان بن عفان . وبعده ثلاثة أبيات أنشدها أبو العباس المبرد في الكامل ( خزانة الأدب للبغدادي 4 : 323 - 328 ) واستشهد به النحاة على أن قوله ( قيار ) مبتدأ حذف خبره ، والجملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها ، والتقدير : فإني وقيار كذلك ، لغريب . وإنما لم يجعل الخبر لقيار ، ويكون خبر إن محذوفا ؛ لأن اللام لا تدخل في خبر المبتدأ حتى يقدم ، نحو لقائم زيد . وهذا تخريج له خلاف مذهب سيبويه ، فإن الجملة عنده في نية التأخير ، فهي معطوفة لا معترضة ، وزعم الكسائي والفراء أن نصب إن ضعيف لأنها إنما تغير الاسم ولا تغير الخبر ، قال الزجاج : وهذا غلط ، لأن إن قد عملت عملين : الرفع والنصب ، وليس في العربية ناصب ليس معه مرفوع ، لأن كل منصوب مشبه بالمفعول ، والمفعول لا يكون بغير فاعل ، إلا فيما لم يسم فاعله . وكيف يكون نصب إن ضعيفا وهي تتخطى الظروف وتنصب ما بعدها نحو " إن فيها قوما جبارين " ، ونصب إن من أقوى المنصوبات أه .

(18/329)


إنَّ السُّيوفَ غُدُوَّها ورَوَاحَها... تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعْضَبِ (1)
قال : ويقول بعضهم : إن الله وملائكته يصلون على النبيّ ، فيرفعون على شركة الابتداء ، ولا يعملون فيه إنَّ. قال : وقد سمعت الفصحاء من المحرمين يقولون : إن الحمد والنعمةَ لك والملك ، لا شريك لك ، قال : وقرأها قوم على تخفيف نون إن وإسكانها ، قال : ويجوز لأنهم قد أدخلوا اللام في الابتداء وهي فصل ، قال :
أُمُّ الحُلَيْس لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ (2)
قال : وزعم قوم أنه لا يجوز ، لأنه إذا خفف نون " إن " فلا بدّ له من أن يدخل " إلا " فيقول : إن هذا إلا ساحران.
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا(إنّ) بتشديد نونها ،
__________
(1) البيت للأخطل ( خزانة الأدب للبغدادي 2 : 372 ) من قصيدة له ستة عشر بيتا مدح بها العباس بن محمد بن عبد الله بن العباس . والبيت شاهد عند النحاة على أنه قد يعتبر الأول في اللفظ دون الثاني ، أي يعتبر المبدل منه في اللفظ دون البدل فإن قوله " غدوها " بدل من السيوف ، قال المبرد في الكامل : هو بدل اشتمال ، وقد روعي المبدل منه في اللفظ ، بإرجاع الضمير إليه من الخبر ، ولم يراع البدل ولو روعي لقيل " تركا " بالتثنية . وهوازن : أبو قبيلة ، وهو هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر . والأعضب : الذي انكسر أحد قرنيه . وأورد المؤلف البيت شاهدا على أنهم قد يرفعون المشترك ، أي المعطوف على اسم إن ، وليس في البيت عطف على اسم إن ، وإنما هو إبدال من المنصوب كما قرره المبرد وأبو علي الفارسي في إيضاح الشعر .
(2) هذا بيت من مشطور الرجز نسبه الصاغاني في العباب إلى عنترة بن عروش بالشين في آخره ، وقيل بالسين ، مولى ثقيف . ( خزانة الأدب الكبرى للبغدادي 4 : 328 - 330 ) . وهو شاهد على أنه شذ دخول اللام على خبر المبتدأ المؤخر ، مجردا من إن . وقدر بعضهم : لهي عجوز ، لتكون في التقدير داخلة على المبتدأ . قال ابن السراج في الأصول : قال أبو عثمان : وقرأ سعيد بن جبير ( إلا أنهم لا يأكلون الطعام ) : فتح أن ، وجعل اللام زائدة كما زيدت في قوله : أم الحليس لعجوز شهربه ... ترضى من اللحم بعظم الرقبة
انتهى . وعند ابن جني غير زائدة ، لكنها في البيت ضرورة . قال في سر الصناعة : وأما الضرورة التي تدخل لها اللام في خبر إن فمن ضرورات الشعر ، ولا يقاس عليها ؛ والوجه أن يقال : لأم الحليس عجوز شهربه ، كما يقال لزيد قائم . وأورد المؤلف البيت شاهدا على أن اللام فيه " وقيار بها لغريب " هي لام ابتداء أخرجت إلى الخبر ، كما في قول الراجز : أم الحليس لعجوز ، وأصله : لأم الحليس عجوز .

(18/330)


وهذان بالألف لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأنه كذلك هو في خطّ المصحف ، ووجهه إذا قرئ كذلك مشابهته الذين إذ زادوا على الذي النون ، وأقرّ في جميع الأحوال الإعراب على حالة واحدة ، فكذلك(إنَّ هَذَانِ) زيدت على هذا نون وأقرّ في جميع أحوال الإعراب على حال واحدة ، وهي لغة الحارث بن كعب ، وخثعم ، وزبيد ، ومن وليهم من قبائل اليمن.
وقوله( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) يقول : ويغلبا على ساداتكم وأشرافكم ، يقال : هو طريقة قومه ونظورة قومه ، ونظيرتهم إذا كان سيدهم وشريفهم والمنظور إليه ، يقال ذلك للواحد والجمع ، وربما جمعوا ، فقالوا : هؤلاء طرائق قومهم ، ومنه قول الله تبارك وتعالى : ( كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ) وهؤلاء نظائر قومهم.
وأما قوله(المُثْلَى) فإنها تأنيث الأمثل ، يقال للمؤنث ، خذ المثلى منهما. وفي المذكر : خذ الأمثل منهما ، ووحدت المثلى ، وهي صفة ونعت للجماعة ، كما قيل( لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) وقد يحتمل أن يكون المُثلى أنثت لتأنيث الطريقة.
وبنحو ما قلنا في معنى قوله( بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) يقول : أمثلكم وهم بنو إسرائيل.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( ويذهبا بطريقتكم المثلى ) قال : أولي العقل والشرف والأنساب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) قال : أولي العقول والأشراف والأنساب.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتَادة ، قوله : ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) وطريقتهم المُثلى يومئذ كانت بنو إسرائيل ، وكانوا أكثر القوم عددا وأموالا وأولادا ، قال عدوّ الله : إنما يريدان

(18/331)


فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)

أن يذهبا بهم لأنفسهما.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله( بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) قال : ببني إسرائيل.
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) يقول : يذهبا بأشراف قومكم.
وقال آخرون : معنى ذلك ، ويغيرا سنتكم ودينكم الذي أنتم عليه ، من قولهم : فلان حسن الطريقة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) قال : يذهبا بالذي أنتم عليه ، يغير ما أنتم عليه ، وقرأ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ ) قال : هذا قوله : ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) وقال : يقول طريقتكم اليوم طريقة حسنة ، فإذا غيرت ذهبت هذه الطريقة.
ورُوي عن عليّ في معنى قوله( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) ما حدثنا به القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن القاسم ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : يصرفان وجوه الناس إليهما.
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله ابن زيد في قوله( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) وإن كان قولا له وجه يحتمله الكلام ، فإن تأويل أهل التأويل خلافه ، فلا أستجيز لذلك القول به.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) }
اختلفت القراء في قراءة قوله( فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ) فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة( فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ) بهمز الألف من(فأجْمِعُوا) ، ووجِّهوا معنى ذلك إلى : فأحكموا كيدكم ، واعزموا عليه ، من قولهم : أجمع فلان الخروج ، وأجمع

(18/332)


على الخروج ، كما يقال : أزمع عليه ، ومنه قول الشاعر :
يا لَيت شِعْرِي والمُنى لا تَنْفَعُ... هَلْ أغْدُونْ يوْما وأمْرِي مُجْمعُ (1)
يعني بقوله : " مجمع " ; قد أحكم وعزم عليه ، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لمْ يُجْمَعْ عَلى الصَّوْمِ مِن اللَّيْلِ فَلا صَوْم لَهُ " .
وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل البصرة : ( فاجْمِعُوا كَيْدكُمْ) بوصل الألف ، وترك همزها ، من جمعت الشيء ، كأنه وجَّهه إلى معنى : فلا تدعَوا من كيدكم شيئا إلا جئتم به. وكان بعض قارئي هذه القراءة يعتلّ فيما ذُكر لي لقراءته ذلك كذلك بقوله( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ )..
قال أبو جعفر : والصواب في قراءة ذلك عندنا همز الألف من أجمع ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأن السحرة هم الذين كانوا به معروفين ، فلا وجه لأن يقال لهم : أجمعوا ما دعيتم له مما أنتم به عالمون ، لأن المرء إنما يجمع ما لم يكن عنده إلى ما عنده ، ولم يكن ذلك يوم تزيد في علمهم بما كانوا يعملونه من السحر ، بل كان يوم إظهاره ، أو كان متفرّقا مما هو عنده ، بعضه إلى بعض ، ولم يكن السحر متفرّقا عندهم فيجمعونه ، وأما قوله( فَجَمَعَ كَيْدَهُ ) فغير شبيه المعنى بقوله( فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ) وذلك أن فرعون كان هو الذي يجمع ويحتفل بما يغلب به موسى مما لم يكن عنده مجتمعا حاضرا ، فقيل : فتولى فرعون فجمع كيده.
__________
(1) البيت في ( اللسان : جمع ) ولم ينسبه قال وجمع أمره وأجمع عليه : عزم عليه ، كأنه جمع نفسه له ، والأمر مجمع . ويقال أيضا . أجمع أمرك ولا تدعه منتشرا وقال آخر " يا ليت شعري . . . البيت " وقوله تعالى : " فأجمعوا أمركم وشركاءكم " أي وادعوا شركاءكم قال وكذلك هي في قراءة عبد الله ؛ لأنه لا يقال أجمعت شركائي ، إنما يقال جمعت ، وقال الفراء الإجماع : الإعداد والعزيمة على الأمر قال ونصب شركائي بفعل مضمر ، كأنك قلت فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم قال أبو إسحاق الذي قاله الفراء غلط في إضماره " وادعوا شركاءكم " . لأن الكلام لا فائدة له . لأنهم كانوا يدعون شركاءهم لأن يجمعوا أمرهم . قال والمعنى فأجمعوا أمركم مع شركاءكم ، وإذا كان الدعاء لغير شيء فلا فائدة فيه قالوا والواو بمعنى مع . كقولك " لو يركب الناقة وفصيلها لرضعها " المعنى لو يركب الناقة مع فصيلها قال ومن قرأ " فأجمعوا أمركم وشركاءكم " بألف موصولة فإنه يعطف شركاءكم على أمركم قال ويجوز فأجمعوا أمركم مع شركائكم .

(18/333)


وقوله( ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ) يقول : احضروا وجيئوا صفا ، والصفّ هاهنا مصدر ، ولذلك وحد ، ومعناه : ثم ائتوا صفوفا ، وللصفّ في كلام العرب موضع آخر ، وهو قول العرب : أتيت الصفّ اليوم ، يعني به المصلى الذي يصلي فيه.
وقوله( وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ) يقول : قد ظفر بحاجته اليوم من علا على صاحبه فقهره.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه ، قال : جمع فرعون الناس لذلك الجمع ، ثم أمر السحرة فقال( ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ) أي قد أفلح من أفلج اليوم على صاحبه.

(18/334)


قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) }
يقول تعالى ذكره : فأجمعت السحرة كيدهم ، ثم أتوا صفا فقالوا لموسى( يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ) وترك ذكر ذلك من الكلام اكتفاء بدلالة الكلام عليه.
واختلف في مبلغ عدد السحرة الذين أتوا يومئذ صفا ، فقال بعضهم : كانوا سبعين ألف ساحر ، مع كل ساحر منهم حبل وعصا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن هشام الدستوائي ، قال : ثنا القاسم بن أبي بزّة ، قال : جمع فرعون سبعين ألف ساحر ، فألقوا سبعين ألف حبل ، وسبعين ألف عصا ، فألقى موسى عصاه ، فإذا هي ثعبان مبين فاغر به فاه ، فابتلع حبالهم وعصيهم( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا ) عند ذلك ، فما رفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما ،

(18/334)


فعند ذلك( قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ).
وقال آخرون : بل كانوا نيفا وثلاثين ألف رجل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ( قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ ) ألقوا ، فألقوا حبالهم وعصيهم ، وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل ليس منهم رجل إلا ومعه حبل وعصا.
وقال آخرون بل كانوا خمسة عشر ألفا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثت عن وهب بن منبه ، قال : صف خمسة عشر ألف ساحر ، مع كل ساحر حباله وعصيه.
وقال آخرون : كانوا تسع مئة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : كان السحرة ثلاث مئة من العريش ، وثلاث مئة من فيوم ، ويشكون في ثلاث مئة من الإسكندرية ، فقالوا لموسى : إما أن تلقي ما معك قبلنا ، وإما أن نلقي ما معنا قبلك ، وذلك قوله( وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ) وأن في قوله(إمَّا أنْ) في موضع نصب ، وذلك أن معنى الكلام : اختر يا موسى أحد هذين الأمرين : إما أن تلقي قبلنا ، وإما أن نكون أوّل من ألقى ، ولو قال قائل : هو رفع ، كان مذهبا ، كأنه وجَّهه إلى أنه خبر ، كقول القائل :
فَسِيرَا فإمَّا حاجَةً تَقْضِيانها... وإمَّا مَقِيل صَالِحٌ وصَدِيقُ (1)
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( مصورة الجامعة ، الورقة 198) قال : وقوله " إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى " . . أن وأن : في موضع نصب ، والمعنى : اختر إحدى هاتين ؛ ولو رفع إذ لم يظهر الفعل ، كان صوابا ، كأنه خبر ، كقول الشاعر : فسيرا . . . البيت " . ولو رفع " فإما منا بعد وإما فداء " كان أيضا صوابا . ومذهبه كمذهب قوله : " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " والنصب في قوله " إما أن تلقي " وفي قوله " فإما منا بعد وإما فداء " : أجود من الرفع ، لأنه شيء ليس بعام ، مثل ما ترى من معنى قوله " فإمساك " و " فصيام ثلاثة أيام " لما كان المعنى يعم الناس في الإمساك بالمعروف في صيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين ، كان الجزاء ، فرفع لذلك ، والاختيار إنما هي فعلة واحدة .

(18/335)


فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)

وقوله( قَالَ بَلْ أَلْقُوا ) يقول تعالى ذكره : قال موسى للسحرة : بل ألقوا أنتم ما معكم قبلي. وقوله( فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) ، وفي هذا الكلام متروك ، وهو : فألقوا ما معهم من الحبال والعصيّ ، فإذا حبالهم ، ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام الذي ذكر عليه عنه ، وذُكر أن السحرة سحروا عين موسى وأعين الناس قبل أن يلقوا حبالهم وعصيهم ، فخيل حينئذ إلى موسى أنها تسعى.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه ، قال : قالوا يا موسى ، ( إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا ) فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون ، ثم أبصار الناس بعد ، ثم ألقى كلّ رجل منهم ما في يده من العصي والحبال ، فإذا هي حيات كأمثال الحبال ، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
واختلفت القراء في قراءة قوله( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ) بالياء بمعنى : يخيل إليهم سعيها ، وإذا قرئ ذلك كذلك ، كانت " أن " في موضع رفع ، ورُوي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه : ( تُخَيَّلُ) بالتاء ، بمعنى : تخيل حبالهم وعصيهم بأنها تسعى ، ومن قرأ ذلك كذلك ، كانت " أن " في موضع نصب لتعلق تخيل بها ، وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يقرؤه : ( تُخَيَّلُ إلَيْه) بمعنى : تتخيل إليه ، وإذا قرئ ذلك كذلك أيضا ف " أن " في موضع نصب بمعنى : تتخيل بالسعي لهم.
والقراءة التي لا يجوز عندي في ذلك غيرها( يُخَيَّل ) بالياء ، لإجماع الحجة من القراء عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) }

(18/336)


يعني تعالى ذكره بقوله : فأوجس في نفسه خوفا موسى فوجده.
وقوله( قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى ) يقول تعالى ذكره : قلنا لموسى إذ أوجس في نفسه خيفة( لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى ) على هؤلاء السحرة ، وعلى فرعون وجنده ، والقاهر لهم( وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ) يقول : وألق عصاك تبتلع حبالهم وعصيهم التي سحروها حتى خيل إليك أنها تسعى.
وقوله( إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة( إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ) برفع كيد وبالألف في ساحر بمعنى : إن الذي صنعه هؤلاء السحرة كيد من ساحر. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة( إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ) برفع الكيد وبغير الألف في السحر بمعنى إن الذي صنعوه كيد سحر.
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، وذلك أن الكيد هو المكر والخدعة ، فالساحر مكره وخدعته من سحر يسحر ، ومكر السحر وخدعته : تخيله إلى المسحور ، على خلاف ما هو به في حقيقته ، فالساحر كائد بالسحر ، والسحر كائد بالتخييل ، فإلى أيهما أضفت الكيد فهو صواب ، وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأ( كَيْدَ سِحْرٍ) بنصب كيد ، ومن قرأ ذلك كذلك ، جعل إنما حرفا واحدا وأعمل صنعوا في كيد.
قال أبو جعفر : وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القرّاء على خلافها.
وقوله( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ) يقول : ولا يظفر الساحر بسحره بما طلب أين كان. وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقول : معنى ذلك : أن الساحر يُقتل حيث وُجد. وذكر بعض نحويي البصرة ، أن ذلك في حرف ابن مسعود( ولا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أيْنَ أتَى) وقال : العرب تقول : جئتك من حيث لا تعلم ، ومن أين لا تعلم ، وقال غيره من أهل العربية الأول : جزاء يقتل الساحر حيث أتى وأين أتى وقال : وأما قول العرب : جئتك من حيث لا تعلم ، ومن أين لا تعلم ، فإنما هو جواب لم يفهم ، فاستفهم كما قالوا : أين الماء والعشب.

(18/337)


فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) }
وفي هذا الكلام متروك قد استغنى بدلالة ما ترك عليه وهو : فألقى موسى عصاه ، فتلقفت ما صنعوا( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ) وذكر أن موسى لما ألقى ما في يده تحوّل ثعبانا ، فالتقم كلّ ما كانت السحرة ألقته من الحبال والعصي.
* ذكر الرواية عمن قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : لما اجتمعوا وألقوا ما في أيديهم من السحر ، ( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، قال : فتحت فما لها مثل الدحل ، ثم وضعت مشفرها على الأرض ورفعت الآخر ، ثم استوعبت كل شيء ألقوه من السحر ، ثم جاء إليها فقبض عليها ، فإذا هي عصا ، فخرّ السحرة سجدا( قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ) قال : فكان أول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف فرعون( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) قال : فكان أول من صلب في جذوع النخل فرعون.
حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ) فأوحى الله إليه( لا تَخَفْ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ) فألقى عصاه فأكلت كل حية لهم ، فلما رأوا ذلك سجدوا و( قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن

(18/338)


وهب بن منبه( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ) لما رأى ما ألقوا من الحبال والعصيّ وخيل إليه أنها تسعى ، وقال : والله إن كانت لعصيا في أيديهم ، ولقد عادت حيات ، وما تعدو عصاي هذه ، أو كما حدّث نفسه ، فأوحى الله إليه أن( وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ) وفرح موسى فألقى عصاه من يده ، فاستعرضت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم ، وهي حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى ، فجعلت تلقفها ، تبتلعها حية حية ، حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا ، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت ، ووقع السحرة سجدا ، قالوا : آمنا برب هارون وموسى ، لو كان هذا سحر ما غلبنا.
وقوله( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) يقول جلّ ثناؤه : وقال فرعون للسحرة : أصدقتم وأقررتم لموسى بما دعاكم إليه من قبل أن أطلق ذلك لكم( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ) يقول : إن موسى لعظيمكم( الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ).
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه ، قال : لما قالت السحرة( آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ) قال لهم فرعون ، وأسف ورأى الغلبة والبينة : ( آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) : أي لعظيم السحار الذي علمكم.
وقوله : ( فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ) يقول : فلأقطعن أيديكم وأرجلكم مخالفا بين قطع ذلك ، وذلك أن يقطع يمنى اليدين ويسرى الرجلين ، أو يسرى اليدين ، ويمنى الرجلين ، فيكون ذلك قطعا من خلاف ، وكان فيما ذُكر أوّل من فعل ذلك فرعون ، وقد ذكرنا الرواية بذلك. وقوله( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) يقول : ولأصلبنكم على جذوع النخل ، كما قال الشاعر :
هُمْ صَلَبُوا العَبْدِيّ فِي جِذعِ نَخْلَةٍ... فَلا عَطَسَتْ شَيْبان إلا بأجْدَعا (1)
__________
(1) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري ( اللسان : عبد ) قال : قال سيبويه : النسبة إلى عبد القيس عبدي ، وهو من القسم الذي أضيف فيه الأول ، لأنهم لو قالوا : قيسي ، لالتبس بالمضاف إلى قيس عيلان ونحوه ، قال سويد بن أبي كاهل : " وهو صلبوا . . . البيت " . قال ابن بري : قوله بأجدعا ، أي بأنف أجدع ، فحذف الموصوف ، وأقام صفته مكانه . واستشهد المؤلف بقوله : صلبوا العبدي في جذع نخلة أي على جذع نخلة ، كقول القرآن : وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ . وإنما ذلك على الاستعارة التبعية في الحرف ( في ) بتشبيه الاستعلاء بالظرفية ، بجامع التمكن في كل منهما .

(18/339)


قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)

يعني على ، جذع نخلة ، وإنما قيل : في جذوع ، لأن المصلوب على الخشبة يرفع في طولها ، ثم يصير عليها ، فيقال : صلب عليها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) لما رأى السحرة ما جاء به عرفوا أنه من الله فخروا سجدا ، وآمنوا عند ذلك ، قال عدو الله( فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ )... الآية.
حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال فرعون : ( فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) فقتلهم وقطعهم ، كما قال عبد الله بن عباس حين قالوا( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ) وقال : كانوا في أوّل النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء.
وقوله( وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ) يقول : ولتعلمنَّ أيها السحرة أينا أشدّ عذابا لكم ، وأدوم ، أنا أو موسى.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) }
يقول تعالى ذكره : قالت السحرة لفرعون لما توعدهم بما توعدهم به( لَنْ نُؤْثِرَكَ ) فنتبعك ونكذب من أجلك موسى( عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ) يعني من الحجج والأدلة على حقيقة ما دعاهم إليه موسى( وَالَّذِي فَطَرَنَا ) يقول : قالوا : لن نؤثرك على الذي جاءنا من البينات ، وعلى الذي فطرنا ، ويعني بقوله(فَطَرَنا) خلقنا ، فالذي من قوله( وَالَّذِي فَطَرَنَا ) خفض على قوله( مَا جَاءَنَا ) وقد يحتمل أن يكون قوله( وَالَّذِي فَطَرَنَا ) خفضا على القسم ، فيكون معنى الكلام : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والله ، وقوله( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ )

(18/340)


يقول : فاصنع ما أنت صانع ، واعمل بنا ما بدا لك( إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) يقول : إنما تقدر أن تعذّبنا في هذه الحياة الدنيا التي تفنى ، ونصب الحياة الدنيا على الوقت وجعلت إنما حرفا واحدا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه( لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ) أي على الله على ما جاءنا من الحجج مع بينة( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ) أي اصنع ما بدا لك( إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) أي ليس لك سلطان إلا فيها ، ثم لا سلطان لك بعده.
وقوله( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ) يقول تعالى ذكره : إنا أقررنا بتوحيد ربنا ، وصدقنا بوعده ووعيده ، وأن ما جاء به موسى حق( لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ) يقول : ليعفو لنا عن ذنوبنا فيسترها علينا( وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ) يقول : ليغفر لنا ذنوبنا ، وتعلمنا ما تعلمناه من السحر ، وعملنا به الذي أكرهتنا على تعلُّمه والعمل به ، وذُكر أن فرعون كان أخذهم بتعليم السحر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن سهل ، قال : ثنا نعيم بن حماد ، قال : ثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قول الله تبارك وتعالى : ( وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ) قال : غلمان دفعهم فرعون إلى السحرة ، تعلمهم السحر بالفَرَما.
حدثي يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ) قال : أمرهم بتعلم السحر ، قال : تركوا كتاب الله ، وأمروا قومهم بتعليم السحر.
(وما أكرهتنا عليه من السحر) قال : أمرتنا أن نتعلمه.
وقوله( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) يقول : والله خير منك يا فرعون جزاء لمن أطاعه ، وأبقى عذابا لمن عصاه وخالف أمره.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) : خير منك ثوابا ، وأبقى عذابا.

(18/341)


إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب ، ومحمد بن قيس في قول الله( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) قالا خيرا منك إن أطيع ، وأبقى منك عذابا إن عُصي.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل السحرة لفرعون( إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ ) من خلقه(مُجْرِما) يقول : مكتسبا الكفر به ، ( فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ) يقول : فإن له جهنم مأوى ومسكنا ، جزاء له على كفره( لا يَمُوتُ فِيهَا ) فتخرج نفسه( وَلا يَحْيَا ) فتستقر نفسه في مقرها فتطمئن ، ولكنها تتعلق بالحناجر منهم( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا ) موحدا لا يُشرك به( قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ ) يقول : قد عمل ما أمره به ربه ، وانتهى عما نهاه عنه( فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ) يقول : فأولئك الذين لهم درجات الجنة العلى.
القول في تأويل قوله تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) }
يقول تعالى ذكره : ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات ، فأولئك لهم الدرجات العلى. ثم بين تلك الدرجات العلى ما هي ، فقال : هن( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) يعني : جنات إقامة لا ظعن عنها ولا نفاد لها ولا فناء( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ) يقول : تجري من تحت أشجارها الأنهار( خَالِدِينَ فِيهَا ) يقول : ماكثين فيها إلى غير غاية محدودة; فالجنات من قوله( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) مرفوعة بالردّ على الدرجات.

(18/342)


كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ) قال : عدن.
وقوله( وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ) يقول : وهذه الدرجات العُلى التي هي جنات عدن على ما وصف جلّ جلاله ثواب من تزكى ، يعني : من تطهر من الذنوب ، فأطاع الله فيما أمره ، ولم يدنس نفسه بمعصيته فيما نهاه عنه.

(18/343)


وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى (77) }
يقول تعالى ذكره( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى ) نبينا(مُوسَى) إذ تابعنا له الحجج على فرعون ، فأبى أن يستجيب لأمر ربه ، وطغى وتمادى في طغيانه(أنْ أسْرِ) ليلا(بِعِبادِي) يعني بعبادي من بني إسرائيل ،
( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا ) يقول : فاتخذ لهم في البحر طريقا يابسا ، واليَبَس واليَبْس : يجمع أيباس ، تقول : وقفوا في أيباس من الأرض ، واليَبْس المخفف : يجمع يبوس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(يَبسا) قال : يابسا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن مجاهد ، مثله.
وأما قوله( لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) فإنه يعني : لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك ، ولا تخشى غرقا من بين يديك ووَحَلا.

(18/343)


وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله( لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) يقول : (لا تخافُ) من آل فرعون( دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) من البَحْرِ غرقا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) يقول : لا تخاف أن يدركك فرعون من بعدك ولا تخشى الغرق أمامك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيْج : قال أصحاب موسى : هذا فرعون قد أدركنا ، وهذا البحر قد غشينا ، فأنزل الله( لا تَخَافُ دَرَكًا ) أصحاب فرعون(ولا تَخْشَى) من البحر وحلا.
حدثني أحمد بن الوليد الرملي ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : ثنا هشيم ، عن بعض أصحابه ، في قوله( لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) قال : الوَحَل.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( لا تَخَافُ دَرَكًا ) فقرأته عامَّة قرّاء الأمصار غير الأعمش وحمزة : ( لا تَخَافُ دَرَكًا ) على الاستئناف بلا كما قال : ( وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ) فرفع ، وأكثر ما جاء في هذا الأمر الجواب مع " لا " . وقرأ ذلك الأعمش وحمزة( لا تَخَفْ دَرَكا) فجزما لا تخاف على الجزاء ، ورفعا( وَلا تَخْشَى ) على الاستئناف ، كما قال جلّ ثناؤه( يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) فاستأنف بثم ، ولو نوى بقوله : ( وَلا تَخْشَى ) الجزم ، وفيه الياء ، كان جائزا ، كما قال الراجز :
هُزّي إلَيْكِ الجِذْعَ يجْنِيكِ الجَنى
وأعجب القراءتين إليّ أن أقرأ بها(لا تخافُ) على وجه الرفع ، لأن ذلك أفصح اللغتين ، وإن كانت الأخرى جائزة ، وكان بعض نحويي البصرة يقول : معنى قوله( لا تَخَافُ دَرَكًا ) اضرب لهم طريقا لا تخاف فيه دركا ، قال : وحذف فيه ، كما تقول : زيد أكرمت ، وأنت تريد أكرمته ، وكما تقول( وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ) أي لا تجزى فيه ، وأما نحويو الكوفة فإنهم

(18/344)


فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)

ينكرون حذف فيه إلا في المواقيت ، لأنه يصلح فيها أن يقال : قمت اليوم وفي اليوم ، ولا يجيزون ذلك في الأسماء.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) }
يقول تعالى ذكره : فسرى موسى ببني إسرائيل إذ أوحينا إليه أن أسر بهم ، فأتبعهم فرعون بجنوده حين قطعوا البحر ، فغشي فرعون وجنده في اليم ما غشيهم ، فغرقوا جميعا( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ) يقول جلّ ثناؤه : وجاوز فرعون بقومه عن سواء السبيل ، وأخذ بهم على غير استقامة ، وذلك أنه سلك بهم طريق أهل النار ، بأمرهم بالكفر بالله ، وتكذيب رسله( وَمَا هَدَى ) يقول : وما سلك بهم الطريق المستقيم ، وذلك أنه نهاهم عن اتباع رسول الله موسى ، والتصديق به ، فأطاعوه ، فلم يهدهم بأمره إياهم بذلك ، ولم يهتدوا باتباعهم إياه.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ وَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي (81) }
يقول تعالى ذكره : فلما نجا موسى بقومه من البحر ، وغشي فرعون قومه من اليم ما غشيهم ، قلنا لقوم موسى( يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فِرْعَوْنَ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ وَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ) وقد ذكرنا كيف كانت مواعدة الله موسى وقومه جانب الطور الأيمن ، وقد بيَّنا المنّ والسلوى باختلاف المختلفين فيهما ، وذكرنا الشواهد على الصواب من القول في

(18/345)


ذلك فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ ) فكانت عامة قرّاء المدينة والبصرة يقرءونه( قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ ) بالنون والألف وسائر الحروف الأخرى معه كذلك ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة( قَدْ أنْجَيْتُكُمْ ) بالتاء ، وكذلك سائر الحروف الأخر ، إلى قوله( وَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ) فإنهم وافقوا الآخرين في ذلك وقرءوه بالنون والألف.
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان باتفاق المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ ذلك فمصيب.
وقوله( كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) يقول تعالى ذكره لهم : كلوا يا بني إسرائيل من شهيات رزقنا الذي رزقناكم ، وحلاله الذي طيبناه لكم( وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ) يقول : ولا تعتدوا فيه ، ولا يظلم فيه بعضكم بعضا. كما حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : ( وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ) يقول : ولا تظلموا.
وقوله( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ) يقول : فينزل عليكم عقوبتي.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة ، قوله( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ) يقول : فينزل عليكم غضبي.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ ) بكسر الحاء( وَمَنْ يَحْلِلْ ) بكسر اللام ، ووجهوا معناه إلى : فيجب عليكم غضبي ، وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة( فَيَحُلَّ عَلَيْكُم) بضم الحاء ، ووجهوا تأويله إلى ما ذكرنا عن قَتادة من أنه فيقع وينزل عليكم غضبي.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، وقد حذّر الله الذين قيل لهم هذا القول من بني إسرائيل وقوع بأسه بهم ونزوله بمعصيتهم إياه إن هم عصوه ، وخوّفهم وجوبه لهم ، فسواء قرئ ذلك بالوقوع أو بالوجوب ، لأنهم كانوا قد خوّفوا المعنيين كليهما.
" 81 "

(18/346)


كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) }
يقول تعالى ذكره : ومن يجب عليه غضبي ، فينزل به ، فقد هوى ، يقول فقد تردى فشقي. كما حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَقَدْ هَوَى ) يقول : فقد شقي.
وقوله( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) يقول : وإني لذو غفر لمن تاب من شركه ، فرجع منه إلى الإيمان لي( وآمَنَ ) يقول : وأخلص لي الألوهة ، ولم يشرك في عبادته إياي غيري.( وَعَمِلَ صَالِحًا ) يقول : وأدّى فرائضي التي افترضتها عليه ، واجتنب معاصي( ثُمَّ اهْتَدَى ) يقول : ثم لزم ذلك فاستقام ولم يضيع شيئا منه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) قال : أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) من الشرك(وآمَنَ) يقول : وحد الله( وَعَمِلَ صَالِحًا ) يقول : أدى فرائضي.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) من ذنبه(وآمَنَ) به( وَعَمِلَ صَالِحًا ) فيما بينه وبين الله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) من الشرك(وآمَنَ) يقول : وأخلص لله ، وعمل في إخلاصه.
واختلفوا في معنى قوله( ثُمَّ اهْتَدَى ) فقال بعضهم : معناه : لم يشكك في إيمانه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( ثُمَّ اهْتَدَى ) يقول : لم يشكُك.

(18/347)


وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)

وقال آخرون : معنى ذلك : ثم لزم الإيمان والعمل الصالح.
* ذكر قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ثُمَّ اهْتَدَى ) يقول : ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم استقام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس( ثُمَّ اهْتَدَى ) قال : أخذ بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون : بل معناه : أصاب العمل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) قال : أصاب العمل.
وقال آخرون : معنى ذلك : عرف أمر مُثيبه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن الكلبي( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) من الذنب(وآمَنَ) من الشرك( وَعَمِلَ صَالِحًا ) أدّى ما افترضت عليه( ثُمَّ اهْتَدَى ) عرف مثيبه إن خيرًّا فخير ، وإن شرًّا فشر.
وقال آخرون بما حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ، قال : أخبرنا عمر بن شاكر ، قال : سمعت ثابتا البناني يقول في قوله( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) قال : إلى ولاية أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر : إنما اخترنا القول الذي اخترنا في ذلك ، من أجل أن الاهتداء هو الاستقامة على هدى ، ولا معنى للاستقامة عليه إلا وقد جمعه الإيمان والعمل الصالح والتوبة ، فمن فعل ذلك وثبت عليه فلا شكّ في اهتدائه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) }

(18/348)


قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)

يقول تعالى ذكره : ( وَمَا أَعْجَلَكَ ) وأي شيء أعجلك( عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى ) فتقدمتهم وخلفتهم وراءك ، ولم تكن معهم
( قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي ) يقول : قومي على أثري يلحقون بي( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ) يقول وعجلت أنا فسبقتهم ربّ كيما ترضى عني.
وإنما قال الله تعالى ذكره لموسى : ما أعجلك عن قومك ، لأنه جلّ ثناؤه ، فيما بلغنا ، حين نجاه وبني إسرائيل من فرعون وقومه ، وقطع بهم البحر ، وعدهم جانب الطور الأيمن ، فتعجل موسى إلى ربه ، وأقام هارون في بني إسرائيل يسير بهم على أثر موسى.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وعد الله موسى حين أهلك فرعون وقومه ونجاه وقومه ، ثلاثين ليلة ، ثم أتمها بعشر ، فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة ، تلقاه فيها بما شاء ، فاستخلف موسى هارون في بني إسرائيل ، ومعه السامريّ ، يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به ، فلما كلم الله موسى ، قال له( وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ).
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ) قال : لأرضيك.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) }
يقول الله تعالى ذكره قال الله لموسى : فإنا يا موسى قد ابتلينا قومك من بعدك بعبادة العجل ، وذلك كان فتنتهم من بعد موسى.
ويعني بقوله( مِنْ بَعْدِكَ ) من بعد فراقك إياهم يقول الله تبارك وتعالى( وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ )

(18/349)


وكان إضلال السامريّ إياهم دعاءه إياهم إلى عبادة العجل.
وقوله( فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ ) يقول : فانصرف موسى إلى قومه من بني إسرائيل بعد انقضاء الأربعين ليلة( غَضْبَانَ أَسِفًا ) متغيظا على قومه ، حزينا لما أحدثوه بعده من الكفر بالله.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله( غَضْبَانَ أَسِفًا ) يقول : حزينا ، وقال في الزخرف( فَلَمَّا آسَفُونَا ) يقول : أغضبونا ، والأسف على وجهين : الغضب ، والحزن.
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( غَضْبَانَ أَسِفًا ) يقول : حزينا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ) : أي حزينا على ما صنع قومه من بعده.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(أسِفا) قال : حزينا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، وقوله( قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ) يقول : ألم يعدكم ربكم أنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ، ويعدكم جانب الطور الأيمن ، وينزل عليكم المنّ والسلوى ، فذلك وعد الله الحسن بني إسرائيل الذي قال لهم موسى : ألم يعدكموه ربكم ، وقوله( أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) يقول : أفطال عليكم العهد بي ، وبجميل نعم الله عندكم ، وأياديه لديكم ، أم أردتم أن يحلّ عليكم غضب من ربكم : يقول : أم أردتم أن يجب عليكم غضب من ربكم فتستحقوه بعبادتكم العجل ، وكفركم بالله ، فأخلفتم موعدي. وكان إخلافهم موعده ، عكوفهم على العجل ، وتركهم السير على أثر موسى للموعد الذي كان الله وعدهم ، وقولهم لهارون إذ نهاهم عن عبادة العجل ، ودعاهم إلى السير معه في أثر موسى( لَنْ

(18/350)


قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)

نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ).
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) }

(18/351)


فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) }
يقول تعالى ذكره : قال قوم موسى لموسى : ما أخلفنا موعدك ، يعنون بموعده : عهده الذي كان عهده إليهم.
كما حدثني محمد بن عمرو ، ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " وحدثنا الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(مَوْعِدِي) قال : عهدي ، وذلك العهد والموعد هو ما بيَّناه قبل.
وقوله(بِملْكِنا) يخبر جلّ ذكره عنهم أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ ، وقالوا : إنا لم نطق حمل أنفسنا على الصواب ، ولم نملك أمرنا حتى وقعنا في الذي وقعنا فيه من الفتنة.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة( بِمَلْكِنا) بفتح الميم ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة( بِمُلْكِنا(بضم الميم ، وقرأه بعض أهل البصرة( بِمِلْكِنا) بالكسر ، فأما الفتح والضمّ فهما بمعنى واحد ، وهما بقدرتنا وطاقتنا ، غير أن أحدهما مصدر ، والآخر اسم ، وأما الكسر فهو بمعنى ملك الشيء وكونه للمالك.
واختلف أيضا أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ما أخلفنا موعدك بأمرنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني

(18/351)


معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ، قوله( مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ) يقول : بأمرنا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(بِمَلْكِنا) قال : بأمرنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقال آخرون : معناه : بطاقتنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ) : أي بطاقتنا.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ) يقول : بطاقتنا.
وقال آخرون : معناه : ما أخلفنا موعدك بهوانا ، ولكنا لم نملك أنفسنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ) قال : يقول بهوانا ، قال : ولكنه جاءت ثلاثة ، قال ومعهم حلي استعاروه من آل فرعون ، وثياب.
وقال أبو جعفر : وكلّ هذه الأقوال الثلاثة في ذلك متقاربات المعنى ، لأن من لم يملك نفسه ، لغلبة هواه على ما أمر ، فإنه لا يمتنع في اللغة أن يقول : فعل فلان هذا الأمر ، وهو لا يملك نفسه وفعله ، وهو لا يضبطها وفعله وهو لا يطيق تركه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فسواء بأيّ القراءات الثلاث قرأ ذلك القارئ ، وذلك أن من كسر الميم من الملك ، فإنما يوجه معنى الكلام إلى ما أخلفنا موعدك ، ونحن نملك الوفاء به لغلبة أنفسنا إيانا على خلافه ، وجعله من قول القائل : هذا ملك فلان لما يملكه من المملوكات ، وأن من فتحها ، فإنه يوجه معنى الكلام إلى نحو ذلك ، غير أنه يجعله مصدرا من قول القائل : ملكت الشيء أملكه ملكا وملكة ، كما يقال : غلبت فلانا أغلبه غَلبا وغَلَبة ، وأن من ضمها فإنه وجَّه معناه إلى ما أخلفنا موعدك بسلطاننا وقدرتنا ، أي ونحن نقدر

(18/352)


أن نمتنع منه ، لأن كل من قهر شيئا فقد صار له السلطان عليه ، وقد أنكر بعض الناس قراءة من قرأه بالضمّ ، فقال : أيّ ملك كان يومئذ لبني إسرائيل ، وإنما كانوا بمصر مستضعفين ، فأغفل معنى القوم وذهب غير مرادهم ذهابا بعيدا ، وقارئو ذلك بالضم لم يقصدوا المعنى الذي ظنه هذا المنكر عليهم ذلك ، وإنما قصدوا إلى أن معناه : ما أخلفنا موعدك بسلطان كانت لنا على أنفسنا نقدر أن نردها عما أتت ، لأن هواها غلبنا على إخلافك الموعد.
وقوله( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ) يقول : ولكنا حملنا أثقالا وأحمالا من زينة القوم ، يعنون من حلي آل فرعون ، وذلك أن بني إسرائيل لما أراد موسى أن يسير بهم ليلا من مصر بأمر الله إياه بذلك ، أمرهم أن يستعيروا من أمتعة آل فرعون وحليهم ، وقال : إن الله مغنمكم ذلك ، ففعلوا ، واستعاروا من حليّ نسائهم وأمتعتهم ، فذلك قولهم لموسى حين قال لهم( أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ) فهو ما كان مع بني إسرائيل من حلي آل فرعون ، يقول : خطئونا بما أصبنا من حليّ عدوّنا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(أوْزَارًا) قال : أثقالا وقوله( مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ) قال : هي الحليّ التي استعاروا من آل فرعون ، فهي الأثقال.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا ) قال : أثقالا( مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ) قال : حليهم.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ) يقول : من حليّ القبط.

(18/353)


حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ) قال : الحليّ الذي استعاروه والثياب ليست من الذنوب في شيء ، لو كانت الذنوب كانت حملناها نحملها ، فليست من الذنوب في شيء.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأ عامة قرّاء المدينة وبعض المكيين(حُمِّلْنا) بضم الحاء وتشديد الميم بمعنى أن موسى يحملهم ذلك ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة وبعض المكيين( حَمَلْنا) بتخفيف الحاء والميم وفتحهما ، بمعنى أنهم حملوا ذلك من غير أن يكلفهم حمله أحد.
قال أبو جعفر : والقول عندي في تأويل ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، لأن القوم حملوا ، وأن موسى قد أمرهم بحمله ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب.
وقوله(فَقَذَفْناها) يقول : فألقينا تلك الأوزار من زينة القوم في الحفرة( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ) يقول : فكما قذفنا نحن تلك الأثقال ، فكذلك ألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله(فَقَذَفْناها) قال : فألقيناها( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ) : كذلك صنع.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد(فَقَذَفْناها) قال : فألقيناها( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ) فكذلك صنع.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(فَقَذَفْناها) : أي فنبذناها.
وقوله( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ) يقول : فأخرج لهم السامريّ مما قذفوه ومما ألقاه عجلا جسدا له خوار ، ويعني بالخوار : الصوت ، وهو صوت البقر.

(18/354)


ثم اختلف أهل العلم في كيفية إخراج السامريّ العجل ، فقال بعضهم : صاغه صياغة ، ثم ألقى من تراب حافر فرس جبرائيل في فمه فخار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ) قال : كان الله وقَّت لموسى ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر ، فلما مضت الثلاثون قال عدوّ الله السامري : إنما أصابكم الذي أصابكم عقوبة بالحلي الذي كان معكم ، فهلموا وكانت حليا تعيروها (1) من آل فرعون ، فساروا وهي معهم ، فقذفوها إليه ، فصوّرها صورة بقرة ، وكان قد صرّ في عمامته أو في ثوبه قبضة من أثر فرس جبرائيل ، فقذفها مع الحليّ والصورة( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ) فجعل يخور خوار البقر ، فقال( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما استبطأ موسى قومه قال لهم السامريّ : إنما احتبس عليكم لأجل ما عندكم من الحليّ ، وكانوا استعاروا حليا من آل فرعون فجمعوه فأعطوه السامريّ فصاغ منه عجلا ثم أخذ القبضة التي قبض من أثر الفرس ، فرس الملك ، فنبذها في جوفه ، فإذا هو عجل جسد له خوار ، قالوا : هذا إلهكم وإله موسى ، ولكن موسى نسي ربه عندكم.
وقال آخرون في ذلك بما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أخذ السامريّ من تربة الحافر ، حافر فرس جبرائيل ، فانطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل وواعدهم ثلاثين ليلة ، فأتمها الله بعشر ، قال لهم هارون : يا بني إسرائيل إن الغنيمة لا تحلّ لكم ، وإن حليّ القبط إنما هو غنيمة ، فاجمعوها جميعا ، فاحفروا لها حفرة فادفنوها ، فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها ، وإلا كان شيئا لم تأكلوه ، فجمعوا ذلك الحليّ في تلك الحفرة ، فجاء السامريّ بتلك القبضة فقذفها فأخرج الله من الحليّ عجلا جسدا له خوار ، وعدّت بنو إسرائيل موعد موسى ، فعدوا الليلة يوما ، واليوم
__________
(1) لعله : تعوروها : أي استعاروها ، كما أورده في اللسان في قصة العجل من حديث ابن عباس .

(18/355)


يوما ، فلما كان لعشرين خرج لهم العجل ، فلما رأوه قال لهم السامريّ( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) فعكفوا عليه يعبدونه ، وكان يخور ويمشي( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ) ذلك حين قال لهم هارون : احفروا لهذا الحليّ حفرة واطرحوه فيها ، فطرحوه ، فقذف السامريّ تربته ، وقوله : ( فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ) يقول : فقال قوم موسى الذين عبدوا العجل : هذا معبودكم ومعبود موسى ، وقوله(فَنَسي) يقول : فضلّ وترك.
ثم اختلف أهل التأويل في قوله(فَنَسِيَ) من قائله ومن الذي وصف به وما معناه ، فقال بعضهم : هذا من الله خبر عن السامريّ ، والسامريّ هو الموصوف به ، وقالوا : معناه : أنه ترك الدين الذي بعث الله به موسى وهو الإسلام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جُبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : يقول الله(فَنَسِيَ) : أي ترك ما كان عليه من الإسلام ، يعني السامري.
وقال آخرون : بل هذا خبر من الله عن السامريّ ، أنه قال لبني إسرائيل ، وأنه وصف موسى بأنه ذهب يطلب ربه ، فأضلّ موضعه ، وهو هذا العجل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبى ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس(فَقَذَفْناها) يعني زينة القوم حين أمرنا السامريّ لما قبض قبضة من أثر جبرائيل عليه السلام ، فألقى القبضة على حليهم فصار عجلا جسدا له خوار( فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ) الذي انطلق يطلبه(فَنَسِيَ) يعني : نسي موسى ، ضلّ عنه فلم يهتد له.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(فَنَسِيَ) يقول : طلب هذا موسى فخالفه الطريق.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة(فَنَسِيَ) يقول : قال السامريّ : موسى نسي ربه عندكم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن

(18/356)


أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)

مجاهد ، قوله(فَنَسِي) موسى ، قال : هم يقولونه : أخطأ الربّ العجل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد(فَنَسيَ) قال : نسي موسى ، أخطأ الربّ العجل ، قوم موسى يقولونه.
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(فَنَسِيَ) يقول : ترك موسى إلهه هاهنا وذهب يطلبه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) قال : يقول : فنسي حيث وعده ربه هاهنا ، ولكنه نسي.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) يقول : نسي موسى ربه فأخطأه ، وهذا العجل إله موسى.
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن هؤلاء ، وهو أن ذلك خبر من الله عزّ ذكره عن السامريّ أنه وصف موسى بأنه نسي ربه ، وأنه ربه الذي ذهب يريده هو العجل الذي أخرجه السامري ، لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه ، وأنه عقيب ذكر موسى ، وهو أن يكون خبرا من السامري عنه بذلك أشبه من غيره.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) }
يقول تعالى ذكره موبخا عبدة العجل ، والقائلين له( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) وعابهم بذلك ، وسفه أحلامهم بما فعلوا ونالوا منه : أفلا يرون أن العجل الذي

(18/357)


قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)

زعموا أنه إلههم وإله موسى لا يكلمهم ، وإن كلَّموه لم يرد عليهم جوابا ، ولا يقدر على ضرّ ولا نفع ، فكيف يكون ما كانت هذه صفته إلها ؟ كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم. قال : ثنا عيسى " ح " وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا ) العجل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا ) قال : العجل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله( أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ ) ذلك العجل الذي اتخذوه( قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ).
وقوله( وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ ) يقول : لقد قال لعبدة العجل من بني إسرائيل هارون ، من قبل رجوع موسى إليهم ، وقيله لهم ما قال مما أخبر الله عنه( إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ ) يقول : إنما اختبر الله إيمانكم ومحافظتكم على دينكم بهذا العجل الذي أحدث فيه الخوار ، ليعلم به الصحيح الإيمان منكم من المريض القلب ، الشاكّ في دينه.
كما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال لهم هارون : ( إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ ) يقول : إنما ابتليتم به ، يقول : بالعجل.
وقوله( وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) يقول : وإن ربكم الرحمن الذي يعم جميع الخلق نعمه ، فاتَّبعوني على ما آمركم به من عبادة الله ، وترك عبادة العجل ، وأطيعوا أمري فيما آمركم به من طاعة الله ، وإخلاص العبادة له ، وقوله( قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ ) يقول : قال عبدة العجل من قوم موسى : لن نزال على العجل مقيمين نعبده ، حتى يرجع إلينا موسى.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) }

(18/358)


يقول تعالى ذكره : قال موسى لأخيه هارون لما فرغ من خطاب قومه ومراجعته إياهم على ما كان من خطأ فعلهم : يا هارون أي شيء منعك إذ رأيتهم ضلوا عن دينهم ، فكفروا بالله وعبدوا العجل ألا تتبعني.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عذل موسى عليه أخاه من تركه اتباعه ، فقال بعضهم : عذله على تركه السير بمن أطاعه في أثره على ما كان عهد إليه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما قال القوم( لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ) أقام هارون فيمن تبعه من المسلمين ممن لم يُفتتن ، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل ، وتخوّف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى( فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) وكان له هائبا مطيعا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِي ) قال : تدعهم.
وقال آخرون : بل عذله على تركه أن يصلح ما كان من فساد القوم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله( مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِي ) قال : أمر موسى هارون أن يصلح ، ولا يتبع سبيل المفسدين ، فذلك قوله( أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) بذلك ، وقوله( قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي ) وفي هذا الكلام متروك ، ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه ، وهو : ثم أخذ موسى بلحية أخيه هارون ورأسه يجرّه إليه ، فقال هارون( يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي ).
وقوله( إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) فاختلف أهل العلم في صفة التفريق بينهم ، الذي خشيه هارون ، فقال بعضهم : كان هارون خاف أن يسير بمن أطاعه ، وأقام على دينه في أثر موسى ، ويخلف

(18/359)


قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)

عبدة العجل ، وقد(قالوا) له( لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ) فيقول له موسى( فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) بسيرك بطائفة ، وتركك منهم طائفة وراءك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد ، في قول الله تعالى( ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قَالَ خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) قال : خشيت أن يتبعني بعضهم ويتخلف بعضهم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : خشيت أن نقتتل فيقتل بعضنا بعضا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) قال : كنا نكون فرقتين فيقتل بعضنا بعضا حتى نتفانى.
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، القول الذي قاله ابن عباس من أن موسى عذل أخاه هارون على تركه اتباع أمره بمن اتبعه من أهل الإيمان ، فقال له هارون : إني خشيت أن تقول ، فرّقت بين جماعتهم ، فتركت بعضهم وراءك ، وجئت ببعضهم ، وذلك بين في قول هارون للقوم( يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) وفي جواب القوم له وقيلهم( لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ).
وقوله( وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) يقول : ولم تنظر قولي وتحفظه ، من مراقبة الرجل الشيء ، وهي مناظرته بحفظه.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس( وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) قال : لم تحفظ قولي.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) }

(18/360)


يعني تعالى ذكره بقوله( فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ ) قال موسى للسامري : فما شأنك يا سامري ، وما الذي دعاك إلى ما فعلته. كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ ) قال : ما أمرك ؟ ما شأنك ؟ ما هذا الذي أدخلك فيما دخلت فيه.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ ) قال : ما لك يا سامريّ ؟
وقوله( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ) يقول : قال السامريّ : علمت ما لم يعلموه ، وهو فعلت من البصيرة : أي صرت بما عملت بصيرا عالما.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : لما قتل فرعون الولدان قالت أمّ السامريّ : لو نحيته عني حتى لا أراه ، ولا أدري قتله ، فجعلته في غار ، فأتى جبرائيل ، فجعل كفّ نفسه في فيه ، فجعل يُرضعه العسل واللبن ، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه ، فمن ثم معرفته إياه حين قال : ( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ).
وقال آخرون : هي بمعنى : أبصرت ما لم يبصروه ، وقالوا : يقال : بصرت بالشيء وأبصرته ، كما يقال : أسرعت وسرعت ما شئت.
* ذكر من قال : هو بمعنى أبصرت : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ) يعني فرس جبرائيل عليه السلام.
وقوله( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) يقول : قبضت قبضة من أثر حافر فرس جبرائيل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما قذفت بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آل فرعون في النار ، وتكسرت ، ورأى السامري أثر فرس جبرائيل عليه السلام ، فأخذ ترابا من أثر حافره ، ثم

(18/361)


أقبل إلى النار فقذفه فيها ، وقال : كن عجلا جسدا له خوار ، فكان للبلاء والفتنة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قبض قبضة من أثر جبرائيل ، فألقى القبضة على حليهم فصار عجلا جسدا له خوار ، فقال : هذا إلهكم وإله موسى.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا ) قال : من تحت حافر فرس جبرائيل ، نبذه السامريّ على حلية بني إسرائيل ، فانسبك عجلا جسدا له خوار ، حفيف الريح فيه فهو خواره ، والعجل : ولد البقرة.
واختلف القرّاء في قراءة هذين الحرفين ، فقرأته عامَّة قرّاء المدينة والبصرة( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ) بالياء ، بمعنى : قال السامريّ بصرت بما لم يبصر به بنو إسرائيل. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بِهِ) بالتاء على وجه المخاطبة لموسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، بمعنى : قال السامريّ لموسى : بصرت بما لم تبصر به أنت وأصحابك.
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء مع صحة معنى كل واحدة منهما ، وذلك أنه جائز أن يكون السامريّ رأى جبرائيل ، فكان عنده ما كان بأن حدثته نفسه بذلك أو بغير ذلك من الأسباب ، أن تراب حافر فرسه الذي كان عليه يصلح لما حدث عنه حين نبذه في جوف العجل ، ولم يكن علم ذلك عند موسى ، ولا عند أصحابه من بني إسرائيل ، فلذلك قال لموسى( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بِهِ) أي علمت بما لم تعلموا به. وأما إذا قرئ(بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) بالياء ، فلا مؤنة فيه ، لأنه معلوم أن بني إسرائيل لم يعلموا ما الذي يصلح له ذلك التراب.
وأما قوله( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) فإن قرّاء الأمصار على قراءته بالضاد ، بمعنى : فأخذت بكفي ترابا من تراب أثر فرس الرسول.
ورُوي عن الحسن البصري وقَتادة ما حدثني أحمد بن يوسف ، قال :

(18/362)


قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)

ثنا القاسم ، قال : ثنا هشيم ، عن عباد بن عوف ، عن الحسن أنه قرأها( فَقَبَصْتُ قَبْصَةً ) بالصاد.
وحدثني أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا هشيم ، عن عباد ، عن قَتادة مثل ذلك بالصاد بمعنى : أخذت بأصابعي من تراب أثر فرس الرسول ، والقبضة عند العرب : الأخذ بالكفّ كلها ، والقبصة : الأخذ بأطراف الأصابع.
وقوله(فَنَبَذْتُها) يقول : فألقيتها( وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) يقول : وكما فعلت من إلقائي القبضة التي قبضت من أثر الفرس على الحلية التي أوقد عليها حتى انسبكت فصارت عجلا جسدا له خوار ، ( سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) يقول : زينت لي نفسي أن يكون ذلك كذلك.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) قال : كذلك حدثتني نفسي.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) }
يقول تعالى ذكره : قال موسى للسامريّ : فاذهب فإن لك في أيام حياتك أن تقول : لا مساس : أي لا أمس ، ولا أُمسُّ.. وذُكر أن موسى أمر بني إسرائيل أن لا يؤاكلوه ، ولا يخالطوه ، ولا يبايعوه ، فلذلك قال له : إن لك في الحياة أن تقول لا مساس ، فبقي ذلك فيما ذكر في قبيلته.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : كان والله السامريّ عظيما من عظماء بني إسرائيل ، من قبيلة يقال لها سامرة ، ولكن عدوّ الله نافق بعد ما قطع البحر مع بني إسرائيل ، قوله( فَاذْهَبْ فَإِنَّ

(18/363)


لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ ) فبقاياهم اليوم يقولون لا مساس.
وقوله( وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ ) اختلفت القراء في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة(لن تُخْلَفَهُ) بضم التاء وفتح اللام بمعنى : وإن لك موعدا لعذابك وعقوبتك على ما فعلت من إضلالك قومي حتى عبدوا العجل من دون الله ، لن يخلفكه الله ، ولكن يذيقكه ، وقرأ ذلك الحسن وقَتادة وأبو نهيك( وَإنَّ لَكَ مَوْعِدا لَنْ تُخْلِفَهُ) بضمّ التاء وكسر اللام ، بمعنى : وإن لك موعدا لن تخلفه أنت يا سامريّ ، وتأوّلوه بمعنى : لن تغيب عنه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد المؤمن ، قال : سمعت أبا نهيك يقرأ( لَن تُخْلِفَهُ أنْتَ) يقول : لن تغيب عنه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ ) يقول : لن تغيب عنه.
قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، لأنه لا شكّ أن الله موف وعده لخلقه بحشرهم لموقف الحساب ، وأن الخلق موافون ذلك اليوم ، فلا الله مخلفهم ذلك ، ولا هم مخلفوه بالتخلف عنه ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في ذلك.
وقوله( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ) يقول : وانظر إلى معبودك الذي ظلت عليه مقيما تعبده.
كما حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ) الذي أقمت عليه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : فقال له موسى( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ) يقول : الذي أقمت عليه. وللعرب في ظلت : لغتان : الفتح في الظاء ، وبها قرأ قرّاء الأمصار ، والكسر فيها ، وكأن الذين كسروا نقلوا حركة اللام التي هي عين الفعل من ظللت إليها ، ومن فتحها أقرّ حركتها التي كانت لها قبل أن يحذف منها شيء ، والعرب تفعل في الحروف التي فيها التضعيف ذاك ،

(18/364)


فيقولون في مَسِسْت مَست ومِسْت وفي هممت بذلك : همت به ، وهل أحست فلانا وأحسسته ، كما قال الشاعر :
خَلا أنَّ العِتاقَ مِنَ المَطايا... أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ (1)
وقوله(لَنحرّقَنَّه) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والعراق(لَنُحَرّقَنَّهُ) بضم النون وتشديد الراء ، بمعنى لنحرقنه بالنار قطعة قطعة ، ورُوي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك( لَنُحْرِقَنَّهُ) بضم النون ، وتخفيف الراء ، بمعنى : لنحرقنه بالنار إحراقة واحدة ، وقرأه أبو جعفر القارئ : ( لَنَحرُقَنَّهُ) بفتح النون وضم الراء بمعنى : لنبردنه بالمبارد من حرقته أحرقه وأحرّقه ، كما قال الشاعر :
بِذِي فِرْقَيْنِ يَوْمَ بَنُو حُبَيْبٍ... نُيُوبَهُمُ عَلَيْنا يَحْرُقُونا (2)
__________
(1) البيت لأبي زبيد الطائي ( اللسان : حسس ) . ورواية الشطر الثاني فيه : " حسين به فهن إليه شوس " . قال : حس بالشيء يحس ( كيقتل ) حسا ( بالفتح ) وحسا ( بالكسر ) وحسيسا ، وأحس به ، وأحسه : شعر به . وأما قولهم " أحست بالشيء " فعلى الحذف كراهية التقاء المثلين . قال سيبويه : وكذلك يفعل في كل بناء يبنى اللام من الفعل منه على السكون ، لا تصل إليه الحركة ، شبهوها بأقمت . الأزهري : ويقال : هل أحست : بمعنى أحسست . ويقال : حست بالشيء إذا علمته وعرفته . قال : ويقال : أحسست الخبر وأحسته وحسيت وحست : إذا عرفت منه طرفا وتقول ما أحسست بالخبر وما أحست وما حسيت وما حست : أي لم أعرف منه شيئا . . . وربما قالوا : حسيت بالخبر ، وأحسيت به ، يبدلون من السين ياء ، قال أبو زبيد : " خلا أن . . . البيت " . قال الجوهري وأبو عبيدة يروي بيت أبي زبيد ؛ " أحسن به فهو إليه شوس " . وأصله أحسن . أه . ويقال في ظل وما وما أشبهه كل مضعف مكسور العين في الماضي : ظللت أفعل كذا ، بلامين ، وظلت أفعل كذا بحذف اللام الأولى ، وبفتح الفاء . وظلت أفعل كذا ، بحذف اللام ونقل حركتها إلى الظاء .
(2) البيت أنشده المفضل الضبي ونسبه لعامر بن شقيق ( اللسان : حرق ، ومعجم ما استعجم للبكري 210 ) وذو فرقين أو ذات فريقين كما في معجم ما استعجم : هضبة ببلاد بني تميم - بين طريق البصرة والكوفة وهي إلى الكوفة أقرب . أه . وفي شرح الحماسة للتبريزي ( 2 : 67 ) نسب القصيدة لعامر بن شقيق من بني كوز بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك . وقبل البيت : فإنك لو رأيت ولم تريه ... أكف القوم تخرق بالقنينا
قال : وذو فرقين : هضبة في بلاد بني أسد ، من ناحية الفرات . وقوله " بذي فرقين " : يجوز أن يتعلق بقوله : " لو رأيت " ، ويجوز أن يتعلق بتخرق بالقنينا . وكذلك قوله " يوم بني حبيب " : ويجوز أن يكون ظرفا لكل واحد من الفعلين ، لأنهما ظرفان ، والفاعل ، تيينا+ لها . ويقال : هو يحرق أنيابه : أحدهما للزمان والآخر للمكان ، وأضاف اليوم إلى الجملة التي بعده ، لأن الأزمنة تضاف إلى الجمل ، من الابتداء والخبر ، والفعل والفاعل ، تبيينا لها. ويقال : هو يحرق أنيابه : إ ذا حك بعضها ببعض تهديدا ، ويقال : هو يحرق عليه الأرم ، أي يصف بأنيابه تغيظا . ويقال : حرقه إذا حك بعضها ببعض تهديدا ، ويقال : هو يحرق عليه الأرم ، أي يصرف بأنيابه تغيظا . ويقال : حرقه بالمبرد : إذا برده . وحكى أبو حاتم : فلان يحرق نابه على ، برفع الباء ، لأنه هو الذي يحرق . وقال أبو العلاء قوله " بذي فرقين " : أراد : ذات فرقين ، فذكر على معنى الموضع أو الجبل وهي التي ذكرها عبيد في قوله * فذات فرقين فالقليب *
قيل : هي تثنية كسنام الفالج ، فلذلك سميت ذات فرقين .

(18/365)


والصواب في ذلك عندنا من القراءة(لَنُحَرِّقَنَّهُ) بضم النون وتشديد الراء ، من الإحراق بالنار.
كما حدثني عليّ قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : (لَنُحَرقَنَّهُ) يقول : بالنار.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس(لَنُحَرّقَنَّهُ) فحرّقه ثم ذراه في اليم ، وإنما اخترت هذه القراءة لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
وأما أبو جعفر ، فإني أحسبه ذهب إلى ما حدثنا به موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط عن السديّ( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) ثم أخذه فذبحه ، ثم حرقه بالمبرد ، ثم ذراه في اليم ، فلم يبق بحر يومئذ إلا وقع فيه شيء منه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) قال : وفي بعض القراءة لنذبحنه ثم لنحرقنه ، ثم لننسفنه في اليمّ نسفا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في حرف ابن مسعود( وانْظُرْ إلى إلهِكَ الَّذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفا لَنذْبَحَنَّهُ ثُمَّ لَنُحَرّقنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ في اليَمّ نَسْفا).
وقوله( ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) يقول : ثم لنذرّينه في البحر تذرية ، يقال منه : نسف فلان الطعام بالمنسف : إذا ذراه فطير عنه قشوره وترابه باليد أو الريح.

(18/366)


وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) يقول : لنذرينه في البحر.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : ذراه في اليمّ ، واليمّ : البحر.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ذراه في اليم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في اليمّ ، قال : في البحر.
وقوله( إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) يقول : ما لكم أيها القوم معبود إلا الذي له عبادة جميع الخلق لا تصلح العبادة لغيره ، ولا تنبغي أن تكون إلا له( وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) يقول : أحاط بكل شيء علما فعلمه ، فلا يخفى عليه منه شيء ولا يضيق عليه علم جميع ذلك ، يقال منه : فلان يسع لهذا الأمر : إذا أطاقه وقوي عليه ، ولا يسع له : إذا عجز عنه فلم يطقه ولم يقو عليه.
وكان قَتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) يقول : ملأ كلّ شيء علما تبارك وتعالى.

(18/367)


كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)

القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : كما قصصنا عليك يا محمد نبأ موسى وفرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل مع موسى( كَذَلِكَ نَقُصُّ

(18/367)


خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)

عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ) يقول : كذلك نخبرك بأنباء الأشياء التي قد سبقت من قبلك ، فلم تشاهدها ولم تعاينها ، وقوله( وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ) يقول تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم : وقد آتيناك يا محمد من عندنا ذكرا يتذكر به ، ويتعظ به أهل العقل والفهم ، وهو هذا القرآن الذي أنزله الله عليه ، فجعله ذكرى للعالمين ، وقوله( مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ) يقول تعالى ذكره : من ولى عنه فأدبر فلم يصدّق به ولم يقرّ( فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ) يقول : فإنه يأتي ربه يوم القيامة يحمل حملا ثقيلا وذلك الإثم العظيم. كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ) قال : إثما.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا (103) }
يقول تعالى ذكره : خالدين في وزرهم ، فأخرج الخبر جلّ ثناؤه عن هؤلاء المعرضين عن ذكره في الدنيا أنهم خالدون في أوزارهم ، والمعنى : أنهم خالدون في النار بأوزارهم ، ولكن لما كان معلوما المراد من الكلام اكتفي بما ذكر عما لم يذكر.
وقوله( وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا ) يقول تعالى ذكره : وساء ذلك الحمل والثقل من الإثم يوم القيامة حملا وحقّ لهم أن يسوءهم ذلك ، وقد أوردهم مهلكة لا منجى منها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

(18/368)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا ) يقول : بئسما حملوا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا ) يعني بذلك : ذنوبهم.
وقوله( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) يقول تعالى ذكره : وساء لهم يوم القيامة ، يوم ينفخ في الصور ، فقوله( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) ردًّا على يوم القيامة ، وقد بيَّنا معنى النفخ في الصور ، وذكرنا اختلاف المختلفين في معنى الصور ، والصحيح في ذلك من القول عندي بشواهده المغنية عن إعادته في هذا الموضع قبل.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) بالياء وضمها على ما لم يسمّ فاعله ، بمعنى : يوم يأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور. وكان أبو عمرو بن العلاء يقرأ ذلك( يَوْمَ نَنْفُخُ فِي الصُّورِ) بالنون بمعنى : يوم ننفخ نحن في الصور ، كأن الذي دعاه إلى قراءة ذلك كذلك طلبه التوفيق بينه وبين قوله( وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ ) إذ كان لا خلاف بين القرّاء في نحشر أنها بالنون.
قال أبو جعفر : والذي أختار في ذلك من القراءة يوم ينفخ بالياء على وجه ما لم يسمّ فاعله ، لأن ذلك هو القراءة التي عليها قرّاء الأمصار وإن كان للذي قرأ أبو عمرو وجه غير فاسد.
وقوله( وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ) يقول تعالى ذكره : ونسوق أهل الكفر بالله يومئذ إلى موقف القيامة زرقا ، فقيل : عنى بالزرق في هذا الموضع : ما يظهر في أعينهم من شدة العطش الذي يكون بهم عند الحشر لرأي العين من الزرق ، وقيل : أريد بذلك أنهم يحشرون عميا ، كالذي قال الله( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا ).
وقوله( يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا ) يقول تعالى ذكره : يتهامسون بينهم ، ويسرّ بعضهم إلى بعض : إن لبثتم في الدنيا ، يعني أنهم يقول بعضهم لبعض : ما لبثتم في الدنيا إلا عشرا.

(18/369)


نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : (يتخافتون بينهم) يقول : يتسَارُّون بينهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ ) : أي يتسارُّون بينهم( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا (104) }
يقول تعالى ذكره : نحن أعلم منهم عند إسرارهم وتخافتهم بينهم بقيلهم( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا ) بما يقولون لا يخفى علينا مما يتساررونه بينهم شيء( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا ) يقول تعالى ذكره حين يقول أوفاهم عقلا وأعلمهم فيهم : إن لبثتم في الدنيا إلا يوما.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن شعبة ، في قوله : ( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً ) أوفاهم عقلا
وإنما عنى جلّ ثناؤه بالخبر عن قيلهم هذا القول يومئذ ، إعلام عباده أن أهل الكفر به ينسون من عظيم ما يعاينون من هول يوم القيامة ، وشدّة جزعهم من عظيم ما يردون عليه ما كانوا فيه في الدنيا من النعيم واللذّات ، ومبلغ ما عاشوا فيها من الأزمان ، حتى يخيل إلى أعقلهم فيهم ، وأذكرهم وأفهمهم أنهم لم يعيشوا فيها إلا يوما.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107) }

(18/370)


يقول تعالى ذكره : ويسألك يا محمد قومك عن الجبال ، فقل لهم : يذريها ربي تذرية ، ويطيرها بقلعها واستئصالها من أصولها ، ودكّ بعضها على بعض ، وتصييره إياها هباء منبثا
(فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا) يقول تعالى ذكره : فيدع أماكنها من الأرض إذا نسفها نسفا ، قاعا : يعني : أرضا ملساء ، صفصفا : يعني مستويا لا نبات فيه ، ولا نشز ، ولا ارتفاع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( قَاعًا صَفْصَفًا ) يقول : مستويا لا نبات فيه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ) قال : مستويا ، الصفصف : المستوي.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا عبد الله بن يوسف ، قال : ثنا عبد الله بن لهيعة ، قال : ثنا أبو الأسود ، عن عروة ، قال : كنا قعودا عند عبد الملك حين قال كعب : إن الصخرة موضع قدم الرحمن يوم القيامة ، فقال : كذب كعب ، إنما الصخرة جبل من الجبال ، إن الله يقول( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ) فسكت عبد الملك.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(صَفْصَفا) قال : مستويا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
قال أبو جعفر : وكان بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل الكوفة يقول : القاع : مستنقع الماء ، والصفصف : الذي لا نبات فيه.
وقوله( لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ) يقول : لا ترى في الأرض عوجا ولا أمتا.
واختلف أهل التأويل في معنى العوج والأمت ، فقال بعضهم عنى

(18/371)


بالعوج في هذا الموضع : الأودية ، وبالأمت : الروابي والنشوز.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ) يقول : واديا ، ولا أمتا : يقول : رابية.
حدثني محمد بن عبد الله المخرمي ، قال : ثنا أبو عامر العقدي ، عن عبد الواحد بن صفوان مولى عثمان ، قال : سمعت عكرمة ، قال : سئل ابن عباس ، عن قوله(لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) قال : هي الأرض البيضاء ، أو قال : الملساء التي ليس فيها لبنة مرتفعة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ) قال : ارتفاعا ، ولا انخفاضا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ) قال : لا تعادي ، الأمت : التعادي.
وقال آخرون : بل عنى بالعوج في هذا الموضع : الصدوع ، وبالأمت : الارتفاع من الآكام وأشباهها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ) قال : صدعا(ولا أمتا) يقول : ولا أكمة.
وقال آخرون : عنى بالعوج : الميل ، وبالأمت : الأثر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ) يقول : لا ترى فيها ميلا والأمت : الأثر مثل الشراك.
وقال آخرون : الأمت : المحاني والأحداب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : الأمت : الحدب.

(18/372)


يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بالعوج : الميل ، وذلك أن ذلك هو المعروف في كلام العرب.
فإن قال قائل : وهل في الأرض اليوم من عوج ، فيقال : لا ترى فيها يومئذ عوجا ، قيل : إن معنى ذلك : ليس فيها أودية وموانع تمنع الناظر أو السائر فيها عن الأخذ على الاستقامة ، كما يحتاج اليوم من أخذ في بعض سبلها إلى الأخذ أحيانا يمينا ، وأحيانا شمالا لما فيها من الجبال والأودية والبحار. وأما الأمت فإنه عند العرب : الانثناء والضعف ، مسموع منهم ، مد حبله حتى ما ترك فيه أمتا : أي انثناء ، وملأ سقاءه حتى ما ترك فيه أمتا ، ومنه قول الراجز :
ما فِي انْجِذَابِ سَيْرِهِ مِنْ أمْتِ (1)
يعني : من وهن وضعف ، فالواجب إذا كان ذلك معنى الأمت عندهم أن يكون أصوب الأقوال في تأويله : ولا ارتفاع ولا انخفاض ، لأن الانخفاض لم يكن إلا عن ارتفاع ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : لا ترى فيها ميلا عن الاستواء ، ولا ارتفاعا ، ولا انخفاضا ، ولكنها مستوية ملساء ، كما قال جلّ ثناؤه : ( قَاعًا صَفْصَفًا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (108) }
يقول تعالى ذكره : يومئذ يتبع الناس صوت داعي الله الذي يدعوهم إلى موقف القيامة ، فيحشرهم إليه( لا عِوَجَ لَهُ ) يقول : لا عوج
__________
(1) البيت من مشطور الرجز ، وهو للعجاج كما في ( اللسان : أمت ) والرواية فيه : * ما في انطلاق ركبه من أمت *
قال : وفي حديث أبي سعيد الخدري : " أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر ، فلا أمت فيها ، وأنا أنهي عن السكر والمسكر " . قال أبو منصور : معنى قول أبي سعيد عن النبيّ : أراد أنه حرمها تحريما لا هوادة فيه ولا لين ، لكنه شدد في تحريمها ؛ وهو من قولك : سرت سيرا لا أمت فيه : أي لا وهن فيه ولا ضعف . وجائز أن يكون المعنى أنه حرمها تحريمًا لا شك فيه . وأصله من الأمت بمعنى الحزر والتقدير ، لأن الشك يدخلها . قال العجاج * ما في انطلاق ركبه من أمت *
أي من فتور واسترخاء . أه .

(18/373)


لهم عنه ولا انحراف ، ولكنهم سراعا إليه ينحشرون ، وقيل : لا عوج له ، والمعنى : لا عوج لهم عنه ، لأن معنى الكلام ما ذكرنا من أنه لا يعوجون له ولا عنه ، ولكنهم يؤمونه ويأتونه ، كما يقال في الكلام : دعاني فلان دعوة لا عوج لي عنها : أي لا أعوج عنها ، وقوله( وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ ) يقول تعالى ذكره : وسكنت أصوات الخلائق للرحمن فوصف الأصوات بالخشوع ، والمعنى لأهلها إنهم خضع جميعهم لربهم ، فلا تسمع لناطق منهم منطقا إلا من أذن له الرحمن.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ ) يقول : سكنت.
وقوله( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) يقول :
إنه وطء الأقدام إلى المحشر ، وأصله : الصوت الخفيّ ، يقال همس فلان إلى فلان بحديثه إذا أسرّه إليه وأخفاه ، ومنه قول الراجز :
وَهُنَّ يَمْشِينَ بنا هَمِيسًا... إنْ يَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا (1)
يعني بالهمس : صوت أخفافِ الإبل في سيرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عليّ بن عابس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) قال : وطء الأقدام.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) يعني : همس الأقدام ، وهو الوطء.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن
__________
(1) البيت مما أنشده ابن عباس ، وقد نقله عنه السيوطي في الإتقان وكثير من المفسرين ، ومنهم المؤلف ، ونقل صاحب ( اللسان : همس ) شطره الأول . وهو * وهن يمشين بنا هميسا *
قال : وهو صوت نقل أخفاف الإبل . أ هـ . وقال في أول المادة : الهمس : الخفي من الصوت والوطء والأكل . وفي التنزيل : " فلا تسمع إلا همسا " . وفي التهذيب : يعني به والله أعلم : خفق الأقدام على الأرض . وقال الفراء : يقال إنه نقل الأقدام إلى المحشر . ويقال : الصوت الخفي . وروي عن ابن عباس تمثل فأنشده * وهن يمشين بنا هميسا *
.

(18/374)


يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)

ابن عباس( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) يقول : الصوت الخفي.
حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ ، قال : أخبرنا شريك ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عكرمة( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) قال : وطء الأقدام.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا سليمان ، قال : ثنا حماد ، عن حميد ، عن الحسن( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) قال : همس الأقدام.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) قال قتادة : كان الحسن يقول : وقع أقدام القوم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) قال : تهافتا ، وقال : تخافت الكلام.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(هَمْسا) قال : خفض الصوت.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد ، قال : خفض الصوت ، قال : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : كلام الإنسان لا تسمع تحرّك شفتيه ولسانه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قوله( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) يقول : لا تسمع إلا مشيا ، قال : المشي الهمس وطء الأقدام.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) }
يقول تعالى ذكره( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا ) شفاعة(من أذن له الرحمن) أن يشفع( وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا ) وأدخل في الكلام له دليلا على إضافة

(18/375)


وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)

القول إلى كناية " مَنْ " وذلك كقول القائل الآخر : رضيت لك عملك ، ورضيته منك ، وموضع مَن من قوله( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ ) نصب لأنه خلاف الشفاعة.
وقوله( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : يعلم ربك يا محمد ما بين أيدي هؤلاء الذين يتبعون الداعي من أمر القيامة ، وما الذي يصيرون إليه من الثواب والعقاب( وَمَا خَلْفَهُمْ ) يقول : ويعلم أمر ما خلفوه وراءهم من أمر الدنيا. كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) من أمر الساعة(وما خلفهم) من أمر الدنيا.
وقوله( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) يقول تعالى ذكره : ولا يحيط خلقه به علما. ومعنى الكلام : أنه محيط بعباده علما ، ولا يحيط عباده به علما ، وقد زعم بعضهم أن معنى ذلك : أن الله يعلم ما بين أيدي ملائكته وما خلفهم ، وأن ملائكته لا يحيطون علما بما بين أيدي أنفسهم وما خلفهم ، وقال : إنما أعلم بذلك الذين كانوا يعبدون الملائكة ، أن الملائكة كذلك لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها ، موبخهم بذلك ومقرّعهم بأن من كان كذلك ، فكيف يعبد ، وأن العبادة إنما تصلح لمن لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) }
يقول تعالى ذكره : استرّت وجوه الخلق ، واستسلمت للحيّ القيوم الذي لا يموت ، القيوم على خلقه بتدبيره إياهم ، وتصريفهم لما شاءوا ، وأصل العنو الذلّ ، يقال منه : عنا وجهه لربه يعنو عنوا ، يعني خضع له وذلّ ، وكذلك قيل للأسير : عان لذلة الأسر ، فأما قولهم : أخذت الشيء عنوة ، فإنه يكون وإن كان معناه يئول إلى هذا أن يكون أخذه غلبة ، ويكون أخذه عن تسليم وطاعة ، كما قال الشاعر :

(18/376)


هَلْ أنْتَ مُطِيعي أيُّها القلب عنوة... ولم تلح نفس لم تلم في اختيالها (1)
وقال آخر :
هَلْ أخَذُوها عَنْوَةً عَنْ مَوَدَّةٍ... وَلَكِنْ بِحَدِّ المَشْرَفِي اسْتَقالَهَا (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) يقول : ذلت.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمى ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) يعني بعنت : استسلموا لي.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ ) قال : خشعت.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ،
__________
(1) لم أقف على قائل البيت . وعنوة : قال في اللسان ( عنو ) في حديث الفتح أنه دخل مكة عنوة : أي قهرا وغلبة . قال ابن الأثير : هو من عنا يعنو : إذا ذل وخضع . والعنوة : المرة منه ، كأن المأخوذ بها يخضع ويذل . وأخذت البلاد عنوة : بالقهر والإذلال . ابن الأعرابي : عنا يعنو : إذا أخذ الشيء قهرا . وعنا يعنو عنوة : إذا أخذ الشيء صلحا ، بإكرام ورفق . والعنوة أيضا المودة قال الأزهري : أخذت الشيء عنوة : يعني غلبة ، ويكون عن تسليم وطاعة مما يؤخذ منه الشيء . وأنشد الفراء لكثير : فَمَا أخَذُوها عَنْوَةً عَنْ مَوَدَّةٍ ... وَلَكِنَّ ضَرْبَ المَشْرَفِيّ اسْتَقَالَهَا
فهذا على معنى التسليم والطاعة بلا قتال . وقال الأخفش في قوله تعالى : " وعنت الوجوه " : استأسرت . قال : والعاني : الأسير . وقال أبو الهيثم : العاني الخاضع .
(2) البيت لكثير عزة ، كما في ( اللسان : عنا ) وقد تقدم القول في معناه في الشاهد السابق عليه . المشرفي : السيف منسوب إلى قرية يقال لها مشارف بالشام أو اليمن . واستقلالها : أخذها وانتزاعها .

(18/377)


عن قتادة ، قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) أي ذلَّت الوجوه للحيّ القيوم.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال : ذلت الوجوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قال طلق : إذا سجد الرجل فقد عنا وجهه ، أو قال : عنا.
حدثني أبو حُصَن عبد الله بن أحمد ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثنا حصين ، عن عمرو بن مرة عن طلق بن حبيب ، في هذه الآية( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال : هو وضع الرجل رأسه ويديه وأطراف قدميه.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن عمرو بن مرّة ، عن طلق بن حبيب في قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال : وهو وضعك جبهتك وكفيك وركبتيك وأطراف قدميك في السجود.
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال ثنا محمد بن فضيل ، عن حصين ، عن عمرو بن مرّة ، عن طلق بن حبيب في قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال : وضع الجبهة والأنف على الأرض.
حدثني يعقوب : قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عمرو بن مرّه ، عن طلق بن حبيب ، في قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال : هو السجود على الجبهة والراحة والركبتين والقدمين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال : أستأسرت الوجوه للحيّ القيوم ، صاروا أسارى كلهم له ، قال : والعاني : الأسير ، وقد بيَّنا معنى الحيّ القيوم فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله( وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) يقول تعالى ذكره : ولم يظفر بحاجته وطلبته من حمل إلى موقف القيادة شركا بالله ، وكفرا به ، وعملا بمعصيته.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) قال : من حمل شركا.

(18/378)


وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) قال : من حمل شركا. الظلم هاهنا : الشرك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112) }
يقول تعالى ذكره وتقدّست أسماؤه : ومن يعمل من صالحات الأعمال ، وذلك فيما قيل أداء فرائض الله التي فرضها على عباده( وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) يقول : وهو مصدّق بالله ، وأنه مجاز أهل طاعته وأهل معاصيه على معاصيهم( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا ) يقول : فلا يخاف من الله أن يظلمه ، فيحمل عليه سيئات غيره ، فيعاقبه عليها( وَلا هَضْمًا ) يقول : لا يخاف أن يهضمه حسناته ، فينقصه ثوابها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) وإنما يقبل الله من العمل ما كان في إيمان.
حدثنا القاسم ، قال : قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، قوله( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) قال : زعموا أنها الفرائض.
* ذكر من قال ما قلنا : في معنى قوله( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ).
حدثنا أبو كريب وسليمان بن عبد الجبار ، قالا ثنا ابن عطية ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : هضما : غصبا.
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قال : ( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يظلم فيزاد عليه في سيئاته ، ولا يظلم فيهضم في حسناته.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني

(18/379)


أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) يقول : أنا قاهر لكم اليوم ، آخذكم بقوّتي وشدّتي ، وأنا قادر على قهركم وهضمكم ، فإنما بيني وبينكم العدل ، وذلك يوم القيامة.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) أما هضما فهو لا يقهر الرجل الرجل بقوّته ، يقول الله يوم القيامة : لا آخذكم بقوّتي وشدتي ، ولكن العدل بيني وبينكم ، ولا ظلم عليكم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(هَضْما) قال : انتقاص شيء من حقّ عمله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن مِسْعر ، قال : سمعت حبيب بن أبي ثابت يقول في قوله( وَلا هَضْمًا ) قال : الهضم : الانتقاص.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : ظلما أن يزاد في سيئاته ، ولا يهضم من حسناته.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : لا يخاف أن يظلم فلا يجزى بعمله ، ولا يخاف أن ينتقص من حقه فلا يوفى عمله.
حدثنا الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا سلام بن مسكين ، عن ميمون بن سياه ، عن الحسن ، في قول الله تعالى( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : لا ينتقص الله من حسناته شيئا ، ولا يحمل عليه ذنب مسيء ،
وأصل الهضم : النقص ، يقال : هضمني فلان حقي ، ومنه امرأة هضيم : أي ضامرة

(18/380)


وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)

البطن ، ومنه قولهم : قد هضم الطعام : إذا ذهب ، وهضمت لك من حقك : أي حططتك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) }
يقول تعالى ذكره : كما رغبنا أهل الإيمان في صالحات الأعمال ، بوعدناهم ما وعدناهم ، كذلك حذرنا بالوعيد أهل الكفر بالمقام على معاصينا ، وكفرهم بآياتنا فأنزلنا هذا القرآن عربيا ، إذ كانوا عَرَبا( وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ ) فبيناه : يقول : وخوّفناهم فيه بضروب من الوعيد( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) يقول : كي يتقونا ، بتصريفنا ما صرّفنا فيه من الوعيد( أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) يقول : أو يحدث لهم هذا القرآن تذكرة ، فيعتبرون ويتعظون بفعلنا بالأمم التي كذبت الرسل قبلها ، وينزجرون عما هم عليه مقيمون من الكفر بالله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ما حذروا به من أمر الله وعقابه ، ووقائعه بالأمم قبلهم(أو يحدث لهم) القرآن(ذِكْرًا) : أي جدّا وورعا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ) قال : جدا وورعا ، وقد قال بعضهم في( أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ) أن معناه : أو يحدثُ لهم شرفا ، بإيمانهم به.

(18/381)


فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) }

(18/381)


يقول تعالى ذكره : فارتفع الذي له العبادة من جميع خلقه ، الملك الذي قهر سلطانه كل ملك وجبار ، الحق عما يصفه به المشركون من خلقه( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تعجل يا محمد بالقرآن ، فتقرئه أصحابك ، أو تقرأه عليهم ، من قبل أن يوحى إليك بيان معانيه ، فعوتب على إكتابه وإملائه ما كان الله ينزله عليه من كتابه من كان يكتبه ذلك من قبل أن يبين له معانيه ، وقيل : لا تتله على أحد ، ولا تمله عليه حتى نبينه لك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) قال : لا تتله على أحد حتى نبينه لك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : يقول : لا تتله على أحد حتى نتمه لك ، هكذا قال القاسم : حتى نتمه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس. قوله( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) يعنى : لا تعجل حتى نبينه لك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) : أي بيانه.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) قال : تبيانه.
حدثنا ابن المثنى وابن بشار ، قالا ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قتادة( مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) من قبل أن يبين لك بيانه.
وقوله( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) يقول تعالى ذكره : وقل يا محمد : ربّ زدني علما إلى ما علمتني أمره بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم.

(18/382)


وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) }
يقول تعالى ذكره : وإن يضيع يا محمد هؤلاء الذين نصرّف لهم في هذا القرآن من الوعيد عهدي ، ويخالفوا أمري ، ويتركوا طاعتي ، ويتبعوا أمر عدّوهم إبليس ، ويطيعوه في خلاف أمري ، فقديما ما فعل ذلك أبوهم آدم( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ) يقول : ولقد وصينا آدم وقلنا له( إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ ) ووسوس إليه الشيطان فأطاعه ، وخالف أمري ، فحلّ به من عقوبتي ما حلّ.
وعنى جلّ ثناؤه بقوله(مِنْ قَبْلُ) هؤلاء الذين أخبر أنه صرَّف لهم الوعيد في هذا القرآن ، وقوله(فَنَسِيَ) يقول : فترك عهدي.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ) يقول : فترك.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(فَنَسِيَ) قال : ترك أمر ربه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : قال له( يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) فقرأ حتى بلغ( لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ) وقرأ حتى بلغ( وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ) قال : فنسي ما عهد إليه في ذلك ، قال : وهذا عهد الله إليه ، قال : ولو كان له عزم ما أطاع عدوّه الذي حسده ، وأبي أن يسجد له مع من سجد له إبليس ، وعصى الله الذي كرّمه وشرّفه ، وأمر ملائكته فسجدوا له.
حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا ثنا يحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن ، ومؤمل ، قالوا : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي.
وقوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) اختلف أهل التأويل في معنى العزم هاهنا ، فقال بعضهم : معناه الصبر.

(18/383)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) أي صبرا.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قتادة( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : صبرا.
حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، قال : ثنا أبو النضر ، قال : ثنا شعبة ، عن قَتادة ، مثله.
وقال آخرون : بل معناه : الحفظ ، قالوا : ومعناه : ولم نجد له حفظا لما عهدنا إليه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : حفظا لما أمرته.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هاشم بن القاسم ، عن الأشجعي ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، في قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : حفظا.
حدثنا عباد بن محمد ، قال : ثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، في قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : حفظا لما أمرته به.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) يقول : لم نجد له حفظا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : العزم : المحافظة على ما أمره الله تبارك وتعالى بحفظه والتمسك به.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) يقول : لم نجعل له عزما.
حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا الحجاج بن فضالة ، عن لقمان بن عامر ، عن أبي أمامة قال : لو أن أحلام بني آدم جمعت منذ يوم خلق

(18/384)


وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)

الله تعالى آدم إلى يوم الساعة ، ووضعت في كفة ميزان. ووضع حلم آدم في الكفة الأخرى ، لرجح حلمه بأحلامهم ، وقد قال الله تعالى( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ).
قال أبو جعفر : وأصل العزم اعتقاد القلب على الشيء ، يقال منه : عزم فلان على كذا : إذا اعتقد عليه ونواه ، ومن اعتقاد القلب : حفظ الشيء ، ومنه الصبر على الشيء ، لأنه لا يجزع جازع إلا من خور قلبه وضعفه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فلا معنى لذلك أبلغ مما بينه الله تبارك وتعالى ، وهو قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) فيكون تأويله : ولم نجد له عزم قلب ، على الوفاء لله بعهده ، ولا على حفظ ما عهد إليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) }
يقول تعالى ذكره معلما نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، ما كان من تضييع آدم عهده ، ومعرّفه بذلك أن ولده لن يعدوا أن يكونوا في ذلك على منهاجه ، إلا من عصمه الله منهم(و) اذكر يا محمد( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى ) أن يسجد له( فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ) ولذلك من شنآنه لم يسجد لك ، وخالف أمري في ذلك وعصاني ، فلا تطيعاه فيما يأمركما به ، فيخرجكما بمعصيتكما ربكما ، وطاعتكما له( مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) يقول : فيكون عيشك من كدّ يدك ، فذلك شقاؤه الذي حذّره ربه.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : أهبط إلى آدم ثور أحمر ، فكان يحرث عليه ، ويمسح العرق من جبينه ، فهو الذي قال الله تعالى ذكره( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) فكان ذلك شقاؤه ، وقال تعالى ذكره(فَتَشْقَى) ولم يقل : فتشقيا ، وقد قال : ( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا ) لأن

(18/385)


إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)

ابتداء الخطاب من الله كان لآدم عليه السلام ، فكان في إعلامه العقوبة على معصيته إياه ، فيما نهاه عنه من أكل الشجرة الكفاية من ذكر المرأة ، إذ كان معلوما أن حكمها في ذلك حكمه. كما قال( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) اجتزئ بمعرفة السامعين معناه من ذكر فعل صاحبه.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) }
يقول تعالى ذكره ، مخبرا عن قيله لآدم حين أسكنه الجنة(إنَّ لَك) يا آدم( أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ) و " أن " في قوله( أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ) في موضع نصب بإنَّ التي في قوله : (إنَّ لَك).
وقوله( وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا ) اختلفت القرّاء في قراءتها ، فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والكوفة بالكسر : وإنك ، على العطف على قوله(إنَّ لَك) ، وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة والبصرة وأنك ، بفتح ألفها عطفا بها على " أن " التي في قوله( أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ) ، ووجَّهوا تأويل ذلك إلى أن لك هذا وهذا ، فهذه القراءة أعجب القراءتين إليّ ، لأن الله تبارك وتعالى ذكره وعد ذلك آدم حين أسكنه الجنة ، فكون ذلك بأن يكون عطفا على أن لا تجوع أولى من أن يكون خبر مبتدأ ، وإن كان الآخر غير بعيد من الصواب ، وعني بقوله( لا تَظْمَأُ فِيهَا ) لا تعطش في الجنة ما دمت فيها( وَلا تَضْحَى ) ، يقول : لا تظهر للشمس فيؤذيك حرّها ، كما قال ابن أبي ربيعة :
رأتْ رَجُلا أمَّا إذا الشَّمْسُ عارَضَتْ... فَيَضْحَى وأمَّا بالعشِيّ فَيَخْصَرُ (1)
__________
(1) البيت لعمر بن أبي ربيعة القرشي المخزومي . وقد أورده صاحب اللسان في ( ضحا ) ولم ينسبه . قال : وضحا الرجل ضحوا ( على فعل ) وضحوا ( على فعول ) وضحيا : برز للشمس وضحى بكسر الحاء يضحى في اللغتين معه ضحوا وضحيا : أصابته الشمس ، قال الله تعالى : ( وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) قال : لا يؤذيك حر الشمس . وقال الفراء : لا تضحى : لا تصيبك شمس مؤذية . قال : وفي بعض التفسير : ولا تضحى : لا تعرق . قال الأزهري : والأول أشبه بالصواب ، وأنشد : " رأت رجلا . . . البيت " . أه . وقوله " يخصر " : هو من الخصر بالتحريك ، والبرد يجده الإنسان في أطرافه .

(18/386)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله( وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ) يقول : لا يصيبك فيها عطش ولا حرّ.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ) يقول : لا يصيبك حرّ ولا أذى.
حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي ، قال : ثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : ثني أبي ، عن خصيف عن سعيد بن جُبير( لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ) قال : لا تصيبك الشمس.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا تَضْحَى ) قال : لا تصيبك الشمس ، وقوله( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ) يقول : فألقى إلى آدم الشيطان وحدّثه( قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ) يقول : قال له : هل أدلك على شجرة إن أكلت منها خلدت فلم تمت ، وملكت ملكا لا ينقضي فيبلى.
كما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ) إن أكلت منها كنت مَلكا مثل الله( أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) فلا تموتان أبدا.

(18/387)


فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) }
يقول تعالى ذكره : فأكل آدم وحوّاء من الشجرة التي نُهيا عن الأكل منها ، وأطاعا أمر إبليس ، وخالفا أمر ربهما( فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ) يقول : فانكشفت لهما عوراتهما ، وكانت مستورة عن أعينهما.
كما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : إنما أراد ، يعني إبليس بقوله( هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ) ليبدي لهما ما توارى عنهما من سوآتهما ، بهتك لباسهما ، وكان قد علم أن لهما سوأة لما كان يقرأ من كتب الملائكة ، ولم يكن آدم يعلم ذلك ، وكان لباسهما الظفر ، فأبى آدم أن يأكل منها ، فتقدمت حوّاء ، فأكلت ثم قالت : يا آدم كل ، فإني قد أكلت ، فلم يضرّني ، فلما أكل آدم بدت سوآتهما.
وقوله( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) يقول : أقبلا يشدان عليهما من ورق الجنة.
كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) يقول : أقبلا يغطيان عليهما بورق التين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) يقول : يوصلان عليهما من ورق الجنة.
وقوله( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) يقول : وخالف أمر ربه ، فتعدّى إلى ما لم يكن له أن يتعدّى إليه ، من الأكل من الشجرة التي نهاه عن الأكل منها ، وقوله( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) يقول : اصطفاه ربه من بعد معصيته إياه فرزقه الرجوع إلى ما يرضى عنه ، والعمل بطاعته ، وذلك هو كانت توبته التي تابها عليه ، وقوله(وَهَدَى) يقول : وهداه للتوبة ، فوفَّقه لها.

(18/388)


قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) }
يقول تعالى ذكره : قال الله تعالى لآدم وحوّاء( اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا إِلَى الأرْضِ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) يقول : أنتما عدوّ إبليس وذرّيته ، وإبليس عدوّكما وعدوّ ذرّيتكما.
وقوله( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ) يقول : فإن يأتكم يا آدم وحواء وإبليس مني هدى : يقول : بيان لسبيلي ، وما أختاره لخلقي من دين( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ ) يقول : فمن اتبع بياني ذلك وعمل به ، ولم يزغ منه( فَلا يَضِلُّ ) يقول : فلا يزول عن محجة الحق ، ولكنه يرشد في الدنيا ويهتدي(ولا يَشْقَى) في الآخرة بعقاب الله ، لأن الله يدخله الجنة ، وينجيه من عذابه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن يزيد الطحان ، قال : ثنا أبو خالد الأحمر ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : تضمن الله لمن قرأ القرآن ، واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، ثم تلا هذه الآية( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ).
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : ثنا حكام الرازيّ ، عن أيوب بن موسى ، عن مرو ثنا الملائي عن ابن عباس أنه قال : إن الله قد ضمن.... فذكر نحوه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن أيوب بن يسار أبي عبد الرحمن ، عن عمرو بن قيس ، عن رجل عن ابن عباس ، بنحوه.
حدثنا عليّ بن سهل الرملي ، قال : ثنا أحمد بن محمد النسائي ، عن أبي سلمة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، قال : قال ابن عباس : من قرأ القرآن واتبع ما فيه عصمه الله من الضلالة ، ووقاه ، أظنه أنه قال : من هول يوم القيامة ،

(18/389)


وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)

وذلك أنه قال( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) }

(18/390)


قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) }
يقول تعالى ذكره( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ) الذي أذكره به فتولى عنه ولم يقبله ولم يستجب له ، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) يقول : فإن له معيشة ضيقة ، والضنك من المنازل والأماكن والمعايش : الشديد ، يقال : هذا منزل ضنك : إذا كان ضيقا ، وعيش ضنك : الذكر والأنثى والواحد والاثنان والجمع بلفظ واحد; ومنه قول عنترة :
وإنْ نزلُوا بضَنْك أنزل (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) يقول : الشقاء.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن
__________
(1) هذا جزء من عجز بيت لعنترة بن عمرو بن شداد العبسي ( مختار الشعر الجاهلي طبعة الحلبي ، شرح مصطفى السقا ، ص 388 ) والبيت بتمامه هو : إنْ يُلْحَقُوا أكْرُرْ وإنْ يُسْتَلْحَمُوا ... أشْدُدْ وإنْ يُلْفَوا بضَنْكٍ أنْزِل
وفي ( اللسان : ضنك ) : الضنك : الضيق من كل شيء ، الذكر والأنثى فيه سواء . ومعيشة ضنك : ضيقة . وفي التزيل : ( فإن له معيشة ضنكا) أي غير حلال .

(18/390)


مجاهد ، قوله(ضَنْكا) قال : ضيقة.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : الضنك : الضيق.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) يقول : ضيقة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي جعل الله لهؤلاء المعرضين عن ذكره العيشة الضنك ، والحال التي جعلهم فيها ، فقال بعضهم : جعل ذلك لهم في الآخرة في جهنم ، وذلك أنهم جعل طعامهم فيها الضريع والزقوم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو بن عليّ بن مقدم ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : في جهنم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) فقرأ حتى بلغ( وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ ) قال : هؤلاء أهل الكفر ، قال : ومعيشة ضنكا في النار شوك من نار وزقوم وغسلين ، والضريع : شوك من نار ، وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة ، ما المعيشة والحياة إلا في الآخرة ، وقرأ قول الله عزّ وجلّ( يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) قال : لمعيشتي ، قال : والغسلين والزقوم : شيء لا يعرفه أهل الدنيا.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : في النار.
وقال آخرون : بل عنى بذلك : فإن له معيشة في الدنيا حراما قال : ووصف الله جلّ وعزّ معيشتهم بالضنك ، لأن الحرام وإن اتسع فهو ضنك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة في قوله : ( مَعِيشَةً ضَنْكًا )

(18/391)


قال : هي المعيشة التي أوسع الله عليه من الحرام.
حدثني داود بن سليمان بن يزيد المكتب من أهل البصرة ، قال : ثنا عمرو بن جرير البجلي ، عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم في قول الله( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : رزقا في معصيته.
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا يعلى بن عبيد ، قال : ثنا أبو بسطام ، عن الضحاك( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : الكسب الخبيث.
حدثني محمد بن إسماعيل الصراري ، قال : ثنا محمد بن سوار ، قال : ثنا أبو اليقظان عمار بن محمد ، عن هارون بن محمد التيمي ، عن الضحاك ، في قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : العمل الخبيث ، والرزق السيئ.
وقال آخرون ممن قال عنى أن لهؤلاء القوم المعيشة الضنك في الدنيا ، إنما قيل لها ضنك وإن كانت واسعة ، لأنهم ينفقون ما ينفقون من أموالهم على تكذيب منهم بالخلف من الله ، وإياس من فضل الله ، وسوء ظنّ منهم بربهم ، فتشتدّ لذلك عليهم معيشتهم وتضيق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) يقول : كلّ مال أعطيته عبدا من عبادي قلّ أو كثر ، لا يتقيني فيه ، لا خير فيه ، وهو الضنك في المعيشة. ويقال : إن قوما ضُلالا أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين ، فكانت معيشتهم ضنكا ، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله عزّ وجل ليس بمخلف لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله ، والتكذيب به ، فإذا كان العبد يكذّب بالله ، ويسيء الظنّ به ، اشتدّت عليه معيشته ، فذلك الضنك.
وقال آخرون : بل عنى بذلك : أن ذلك لهم في البرزخ ، وهو عذاب القبر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يزيد بن مخلد الواسطي ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي حازم عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال في قول الله( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب

(18/392)


القبر.
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي حازم ، عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخُدري ، قال : إن المعيشة الضنك ، التي قال الله : عذاب القبر.
حدثني حوثرة بن محمد المنقري ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حازم ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخُدريّ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، قال : ثنا خالد بن زيد ، عن ابن أبي هلال ، عن أبي حازم ، عن أبي سعيد ، أنه كان يقول : المعيشة الضنك : عذاب القبر ، إنه يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنينا تنهشه وتخدش لحمه حتى يُبعث ، وكان يقال : لو أن تنينا منها نفخ الأرض لم تنبت زرعا.
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : يطبق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، وهي المعيشة الضنك التي قال الله( مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح والسديّ ، في قوله( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب القبر.
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب القبر.
حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، قال : ثنا محمد بن ربيعة ، قال : ثنا أبو عُمَيس ، عن عبد الله بن مخارق عن أبيه ، عن عبد الله ، في قوله( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب القبر.
حدثني عبد الرحيم البرقيّ ، قال : ثنا ابن أبي مَريم ، قال : ثنا محمد بن جعفر وابن أبي حازم ، قالا ثنا أبو حازم ، عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخدريّ( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب القبر.

(18/393)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : هو عذاب القبر الذي حدثنا به أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثنا عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن درّاج ، عن ابن حُجَيرة عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أتَدْرُونَ فِيمَ أُنزلتْ هَذِهِ الآيَة( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) أتَدْرُونَ مَا المعيشَةُ الضَّنْكُ ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : عَذَابُ الكافرِ فِي قَبْرِهِ ، والَّذِي نَفْسِي بَيَدِهِ أنَّه لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينا ، أتَدْرُونَ ما التِّنِينُ : تسْعَةٌ وَتسْعُونَ حَيَّه ، لكلّ حَيَّه سَبْعَةُ رُءُوسٍ ، يَنْفُخُونَ فِي جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ وَيخْدِشُونَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ " .
وإن الله تبارك وتعالى اتبع ذلك بقوله : ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) فكان معلوما بذلك أن المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم قبل عذاب الآخرة ، لأن ذلك لو كان في الآخرة لم يكن لقوله : ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) معنى مفهوم ، لأن ذلك إن لم يكن تقدّمه عذاب لهم قبل الآخرة ، حتى يكون الذي في الآخرة أشدّ منه ، بطل معنى قوله( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) ، فإذ كان ذلك كذلك ، فلا تخلو تلك المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم من أن تكون لهم في حياتهم الدنيا ، أو في قبورهم قبل البعث ، إذ كان لا وجه لأن تكون في الآخرة لما قد بيَّنا ، فإن كانت لهم في حياتهم الدنيا ، فقد يجب أن يكون كلّ من أعرض عن ذكر الله من الكفار ، فإن معيشته فيها ضنك ، وفي وجودنا كثيرا منهم أوسع معيشة من كثير من المقبلين على ذكر الله تبارك وتعالى ، القائلين له المؤمنين في ذلك ، ما يدلّ على أن ذلك ليس كذلك ، وإذ خلا القول في ذلك من هذين الوجهين صحّ الوجه الثالث ، وهو أن ذلك في البرزخ.
وقوله( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) اختلف أهل التأويل في صفة العمى الذي ذكر الله في هذه الآية ، أنه يبعث هؤلاء الكفار يوم القيامة به ، فقال بعضهم : ذلك عمى عن الحجة ، لا عمى عن البصر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ،

(18/394)


في قوله : ( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) قال : ليس له حجة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) قال : عن الحجة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله ، وقيل : يحشر أعمى البصر.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قال الله تعالى ذكره ، وهو أنه يحشر أعمى عن الحجة ورؤية الشيء كما أخبر جلّ ثناؤه ، فعمّ ولم يخصص.
وقوله( قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم في ذلك ، ما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرزاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى ) لا حجة لي.
وقوله( وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وقد كنت بصيرا بحجتي.
ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) قال : عالما بحجتي.
وقال آخرون. بل معناه : وقد كنت ذا بصر أبصر به الأشياء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) في الدنيا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) قال : كان بعيد البصر ، قصير النظر ، أعمى عن الحقّ.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن الله عزّ شأنه وجلّ ثناؤه ، عمّ بالخبر عنه بوصفه نفسه بالبصر ، ولم يخصص منه معنى دون

(18/395)


معنى ، فذلك على ما عمه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية ، قال : ربّ لم حشرتني أعمى عن حجتي ورؤية الأشياء ، وقد كنت في الدنيا ذا بصر بذلك كله.
فإن قال قائل : وكيف قال هذا لربه( لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى ) مع معاينته عظيم سلطانه ، أجهل في ذلك الموقف أن يكون لله أن يفعل به ما شاء ، أم ما وجه ذلك ؟ قيل : إن ذلك منه مسألة لربه يعرّفه الجرم الذي استحق به ذلك ، إذ كان قد جهله ، وظنّ أن لا جرم له ، استحق ذلك به منه ، فقال : ربّ لأيّ ذنب ولأيّ جرم حشرتني أعمى ، وقد كنت من قبل في الدنيا بصيرا وأنت لا تعاقب أحدا إلا بدون ما يستحق منك من العقاب.
وقوله( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ) يقول تعالى ذكره ، قال الله حينئذ للقائل له : ( لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) فعلت ذلك بك ، فحشرتك أعمى كما أتتك آياتي ، وهي حججه وأدلته وبيانه الذي بيَّنه في كتابه ، فنسيتها : يقول : فتركتها وأعرضت عنها ، ولم تؤمن بها ، ولم تعمل. وعنى بقوله( كَذَلِكَ أَتَتْكَ ) هكذا أتتك. وقوله : ( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) يقول : فكما نسيت آياتنا في الدنيا ، فتركتها وأعرضت عنها ، فكذلك اليوم ننساك ، فنتركك في النار.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) فقال بعضهم بمثل الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال ، ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) قال : في النار.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ) قال : فتركتها( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) وكذلك اليوم تترك في النار.
ورُوي عن قتادة في ذلك ما حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) قال : نسي من الخير ، ولم ينس من الشرّ. وهذا القول الذي قاله قَتادة قريب المعنى مما

(18/396)


وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)

قاله أبو صالح ومجاهد ، لأن تركه إياهم في النار أعظم الشرّ لهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) }
يقول تعالى ذكره : وهكذا نجزي : أي نثيب من أسرف فعصى ربه ، ولم يؤمن برسله وكتبه ، فنجعل له معيشة ضنكا في البرزخ كما قد بيَّنا قبل( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) يقول جلّ ثناؤه : ولعذاب في الآخرة أشدّ لهم مما وعدتهم في القبر من المعيشة الضنك وأبقى يقول : وأدوم منها ، لأنه إلى غير أمد ولا نهاية.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى (128) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أفلم يهد لقومك المشركين بالله ، ومعنى يهد : يبين. يقول : أفلم يبين لهم كثرة ما أهلكنا قبلهم من الأمم التي سلكت قبلها التي يمشون في مساكنهم ودورهم ، ويرون آثار عقوباتنا التي أحللناها بهم سوء مغبة ما هم عليه مقيمون من الكفر بآياتنا ، ويتعظوا بهم ، ويعتبروا ، وينيبوا إلى الإذعان ، ويؤمنوا بالله ورسوله ، خوفا أن يصيبهم بكفرهم بالله مثل ما أصابهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ) لأن قريشا كانت تتجر إلى الشأم ، فتمر بمساكن عاد وثمود ومن أشبههم ، فترى آثار وقائع الله تعالى بهم ، فلذلك قال لهم : أفلم يحذّرهم ما يرون من فعلنا بهم بكفرهم بنا نزول مثله لهم ، وهم على مثل فعلهم مقيمون ، وكان الفرّاء يقول : لا يجوز

(18/397)


وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)

في كم في هذا الموضع أن يكون إلا نصبا بأهلكنا ، وكان يقول : وهو وإن لم يكن إلا نصبا ، فإن جملة الكلام رفع بقوله( يَهْدِ لَهُمْ ) ويقول : ذلك مثل قول القائل : قد تبين لي أقام عمرو أم زيد في الاستفهام ، وكقوله( سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ) ويزعم أن فيه شيئا يرفع سواء لا يظهر مع الاستفهام ، قال : ولو قلت : سواء عليكم صمتكم ودعاؤكم تبين ذلك الرفع الذي في الجملة ، وليس الذي قال الفرّاء من ذلك ، كما قال : لأن كم وإن كانت من حروف الاستفهام فإنها لم تجعل في هذا الموضع للاستفهام ، بل هي واقعة موقع الأسماء الموصوفة ، ومعنى الكلام ما قد ذكرنا قبل وهو : أفلم يبين لهم كثرة إهلاكنا قبلهم القرون التي يمشون في مساكنهم ، أو أفلم تهدهم القرون الهالكة ، وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله( أفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ مَنْ أهْلَكْنا) فكم واقعة موقع من في قراءة عبد الله ، هي في موضع رفع بقوله( يَهْدِ لَهُمْ ) وهو أظهر وجوهه ، وأصحّ معانيه ، وإن كان الذي قاله وجه ومذهب على بعد.
وقوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى ) يقول تعالى ذكره : إن فيما يعاين هؤلاء ويرون من آثار وقائعنا بالأمم المكذّبة رسلها قبلهم ، وحلول مثلاتنا بهم لكفرهم بالله(لآيات) يقول : لدلالات وعبرا وعظات(لأولي النهى) يعني : لأهل الحجى والعقول ، ومن ينهاه عقله وفهمه ودينه عن مواقعة ما يضره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( لأولِي النُّهَى ) يقول : التقى.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى ) أهل الورع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ

(18/398)


فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)

وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) }
يقول تعالى ذكره( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) يا محمد أن كلّ من قضى له أجلا فإنه لا يخترمه قبل بلوغه أجله( وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) يقول : ووقت مسمى عند ربك سماه لهم في أمّ الكتاب وخطه فيه ، هم بالغوه ومستوفوه( لَكَانَ لِزَامًا ) يقول : للازمهم الهلاك عاجلا وهو مصدر من قول القائل : لازم فلان فلانا يلازمه ملازمة ولزاما : إذا لم يفارقه ، وقدّم قوله( لَكَانَ لِزَامًا ) قبل قوله( أَجَلٍ مُسَمًّى ) ومعنى الكلام : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما ، فاصبر على ما يقولون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) الأجل المسمى : الدنيا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) وهذه من مقاديم الكلام ، يقول : لولا كلمة سبقت من ربك إلى (1) .
أجل مسمى كان لزاما ، والأجل المسمى ، الساعة ، لأن الله تعالى يقول( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) قال : هذا مقدّم ومؤخر ، ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله( لَكَانَ لِزَامًا ) فقال بعضهم : معناه : لكان موتا.
__________
(1) لعله يريد : لولا أن الله سبقت كلمته بتأخير عذابهم إلى أجل مسمى . ويجوز أن تكون " إلى " وضعت في موضع واو العطف سهوًا من الناسخ .

(18/399)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ قال : ثني أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( لَكَانَ لِزَامًا ) يقول : موتا.
وقال آخرون : معناه لكان قتلا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( لَكَانَ لِزَامًا ) واللزوم : القتل.
وقوله( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه : فاصبر يا محمد على ما يقول هؤلاء المكذبون بآيات الله من قومك لك إنك ساحر ، وإنك مجنون وشاعر ونحو ذلك من القول( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) يقول : وصل بثنائك على ربك ، وقال : بحمد ربك ، والمعنى : بحمدك ربك ، كما تقول : أعجبني ضرب زيد ، والمعنى : ضربي زيدا ، وقوله : ( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) وذلك صلاة الصبح( وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) وهي العصر( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ ) وهي ساعات الليل ، واحدها : إنى ، على تقدير حمل ، ومنه قول المنخل السعدي :
حُلْوٌ وَمُرّ كَعطْفِ القِدْحِ مِرَّتُهُ... فِي كُلّ إني قَضَاهُ اللَّيْلُ يَنْتَعِلُ (1)
ويعني بقوله( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ ) صلاة العشاء الآخرة ، لأنها تصلى بعد مضيّ آناء من الليل. وقوله( وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ) : يعني صلاة الظهر والمغرب ، وقيل : أطراف النهار ، والمراد بذلك الصلاتان اللتان ذكرتا ، لأن صلاة الظهر في آخر طرف النهار الأول ، وفي أوّل طرف النهار الآخر ، فهي في طرفين منه ،
__________
(1) ( في اللسان : أنى ) لأني : واحد آناء الليل ، وهي ساعاته ، وفي التنزيل العزيز : ( ومن آناء الليل ) . قال أهل اللغة : منهم الزجاج : آناء الليل : ساعاته ، واحدها : إني وإني ؛ فمن قال : إني ، فهو مثل نحى وأنحاء ؛ ومن قال : إني فهو مثله معي وأمعاء ؛ قال الهذلي المتنخل : السَّالِكُ الثَّغْرَ مَخْشِيًّا مَوَارِدُهُ ... بكُلِّ إني قَضَاه اللَّيْلُ يَنْتَعِلُ
قال الأزهري : كذا رواه ابن الأنباري ، وأنشد الجوهري : " حلو ومر . . . البيت " ونسبه أيضًا المتنخل ؛ فإما أن يكون هو البيت يعنيه ، أو آخر من قصيدة أخرى .

(18/400)


والطرف الثالث : غروب الشمس ، وعند ذلك تصلى المغرب ، فلذلك قيل أطراف ، وقد يحمل أن يقال : أريد به طرفا النهار. وقيل : أطراف ، كما قيل( صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) فجمع ، والمراد : قلبان ، فيكون ذلك أول طرف النهار الآخر ، وآخر طرفه الأول (1) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن ابن أبي زيد ، عن ابن عباس(وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) قال : الصلاة المكتوبة.
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبد الله ، قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأى القمر ليلة البدر فقال : " إنَّكُمْ راَءُونَ رَبَّكُمْ كَما تَرَوْنَ هَذَا ، لا تُضَامُونَ فِي رُؤيته ، فإن اسْتَطَعْتُم أنْ لا تُغْلَبْوا عَلى صَلاةٍ قَبلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها فافْعَلُوا " ثم تلا( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) " .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) قال ابن جريج : العصر ، وأطراف النهار قال : المكتوبة.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة في قوله( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) قال : هي صلاة الفجر( وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) قال : صلاة العصر( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ ) قال : صلاة المغرب والعشاء( وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ) قال : صلاة الظهر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ) قال : من آناء الليل : العتمة ، وأطراف النهار : المغرب والصبح ، ونصب قوله( وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ) عطفا على قوله( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) لأن معنى ذلك : فسبح بحمد ربك آخر الليل ، وأطراف النهار.
__________
(1) في الأصل : الآخر ؟ وهو سهو من الكاتب . كما تبين من عبارة المؤلف .

(18/401)


وبنحو الذي قلنا في معنى( آنَاءَ اللَّيْلِ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ ) قال : المصلى من الليل كله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سمعت الحسن قرأ( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ ) قال : من أوّله ، وأوسطه ، وآخره.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ ) قال : آناء الليل : جوف الليل.
وقوله( لَعَلَّكَ تَرْضَى ) يقول : كي ترضى.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والعراق( لَعَلَّكَ تَرْضَى ) بفتح التاء. وكان عاصم والكسائي يقرآن ذلك( لَعَلَّك تُرْضَى) بضم التاء ، ورُوي ذلك عن أبي عبد الرحمن السلمي ، وكأن الذين قرءوا ذلك بالفتح ، ذهبوا إلى معنى : إن الله يعطيك ، حتى ترضى عطيَّته وثوابه إياك ، وكذلك تأوّله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لَعَلَّكَ تَرْضَى ) قال : الثواب ، ترضى بما يثيبك الله على ذلك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( لَعَلَّكَ تَرْضَى ) قال : بما تعطى ، وكأن الذين قرءوا ذلك بالضم ، وجهوا معنى الكلام إلى لعل الله يرضيك من عبادتك إياه ، وطاعتك له. والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، وهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، متفقتا المعنى ، غير مختلفتيه ، وذلك أن الله تعالى ذكره إذا أرضاه ، فلا شكّ أنه يرضى ، وأنه إذا رضي فقد أرضاه الله ، فكل واحدة منهما تدلّ على معنى الأخرى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب.

(18/402)


وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تنظر إلى ما جعلنا لضرباء هؤلاء المعرضين عن آيات ربهم وأشكالهم ، متعة في حياتهم الدنيا ، يتمتعون بها ، من زهرة عاجل الدنيا ونضرتها( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) يقول : لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ، ونبتليهم ، فإن ذلك فانٍ زائل ، وغُرور وخدع تضمحلّ( وَرِزْقُ رَبِّكَ ) الذي وعدك أن يرزقكه في الآخرة حتى ترضى ، وهو ثوابه إياه(خَيْرٌ) لك مما متعناهم به من زهرة الحياة الدنيا(وأبْقَى) يقول : وأدوم ، لأنه لا انقطاع له ولا نفاد ، وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهوديّ يستسلف منه طعاما ، فأبى أن يسلفه إلا برهن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي رافع ، قال : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهودي يستسلفه ، فأبى أن يعطيه إلا برهن ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد ، عن يعقوب بن يزيد ، عن أبي رافع ، قال : نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف : فأرسلني إلى يهودي بالمدينة يستسلفه ، فأتيته ، فقال : لا أسلفه إلا برهن ، فأخبرته بذلك ، فقال : إنِّي لأمِينٌ فِي أهْلِ السَّماءِ وفي أهْلِ الأرْضِ ، فاحْمِلْ دِرْعِي إليه ، فنزلت( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) وقوله(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) إلى قوله( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) ويعني بقوله : ( أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) رجالا منهم

(18/403)


أشكالا وبزهرة الحياة الدنيا : زينة الحياة الدنيا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) : أي زينة الحياة الدنيا ، ونصب زهرة الحياة الدنيا على الخروج من الهاء التي في قوله به من( مَتَّعْنَا بِهِ ) ، كما يقال : مررت به الشريف الكريم ، فنصب الشريف الكريم على فعل مررت ، وكذلك قوله( إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) تنصب على الفعل بمعنى : متعناهم به زهرة في الحياة الدنيا وزينة لهم فيها ، وذكر الفراء أن بعض بني فقعس أنشده :
أبَعْد الَّذِي بالسَّفْح سَفْحِ كُوَاكِب... رَهِينَةَ رَمْسٍ مِنْ تُرَابٍ وَجَنْدَلِ (1)
فنصب رهينة على الفعل من قوله : " أبعد الذي بالسفح " ، وهذا لا شك أنه أضعف في العمل نصبا من قوله( مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) لأن العامل في الاسم وهو رهينة ، حرف خافض لا ناصب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
__________
(1) البيت من شواهد الفراء عن بعض بني فقعس ، كما قال المؤلف. وكواكب بضم الكاف : جبل بعينه ، ورهينة الرمس الذي نزل واستقر به لا يبرحه . والرمس : القبر . أو التراب والصخور يوارى بها الميت في لحده . والجندل : الصخر والشاهد في البيت : نصب رهينة على الخروج كما قال المؤلف ، كما نصبت " زهرة الحياة الدنيا " . قال صاحب تاج العروس : والخروج عن أئمة النحو : هو النصب على المفعولية ، وهو عبارة البصريين ، لأنهم يقولون في المفعول : هو منصوب على الخروج : أي خروجه عن طرفي الإسناد وعمدته ، وهو كقولهم له ( فضلة ) . أه . أراد المؤلف أن رهينة منصوب على البدل من محل المجرور ( بالسفح ) ، لأنه محله النصب على المفعولية . وقد تبين أبو البقاء العكبري في " إعراب القرآن " وجوه نصب " زهرة الحياة " قال ( 2 : 68 ) في نصبه أوجه : ( أحدها ) : أن يكون منصوبا بفعل محذوف ، دل عليه " متعنا " أي جعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا . و ( الثاني ) : أن يكون بدلا من موضع ( به ) . و ( الثالث ) : أن يكون بدلا من أزواج . والتقدير : ذوي زهرة ؛ فحذف المضاف . ويجوز أن يكون جعل الأزواج زهرة على المبالغة . ولا يجوز على أن يكون صفة ، لأنه معرفة ، وأزواجا : نكرة . و ( الرابع ) : أن يكون على الذم ، أي أذم أو أعنى . و ( الخامس ) : أن يكون بدلا من ( ما ) . اختاره بعضهم . وقال آخرون : لا يجوز ؛ لأن قوله تعالى : ( لنفتنهم ) من صلة " متعنا " ، فيلزم منه الفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي . و ( السادس ) : أن يكون حالا من الهاء ، أو من ( ما ) ، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين ، وجر الحياة على البدل . وممن اختاره مكي ( لعله أبو الحرم مكي بن ريان الماكسيني الضرير ) ، وفيه نظر . و ( السابع ) : أنه تمييز لما ، أو للهاء في ( به ) ، حكي عن الفراء ، وهو غلط ، لأنه معرفة . أه .

(18/404)


وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) قال : لنبتليهم فيه( وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) مما متَّعنا به هؤلاء من هذه الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (وأمُرْ) يا محمد( أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ) يقول : واصطبر على القيام بها ، وأدائها بحدودها أنت( لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ) يقول : لا نسألك مالا بل نكلفك عملا ببدنك ، نؤتيك عليه أجرا عظيما وثوابا جزيلا يقول( نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) نحن نعطيك المال ونكسبكه ، ولا نسألكه ، وقوله : ( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) يقول : والعاقبة الصالحة من عمل كلّ عامل لأهل التقوى والخشية من الله دون من لا يخاف له عقابا ، ولا يرجو له ثوابا.
وبنحو الذي قلنا في قوله( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا حفص بن غياث ، عن هشام بن عروة ، قال : كان عروة إذا رأى ما عند السلاطين دخل داره ، فقال( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) ثم ينادي : الصلاة الصلاة ، يرحمكم الله.
حدثنا أبو كريب قال : ثنا عثام ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنه كان إذا رأى شيئا من الدنيا جاء إلى أهله ، فقال الصلاة( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ).
حدثنا العباس بن عبد العظيم ، قال : ثنا جعفر بن عون ، قال : أخبرنا

(18/405)


وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)

هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، قال : كان يبيت عند عمر بن الخطاب من غلمانه أنا ويرفأ ، وكانت له من الليل ساعة يصليها ، فإذا قلنا لا يقوم من الليل كان قياما (1) .
، وكان إذا صلى من الليل ثم فرغ قرأ هذه الآية( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ).... الآية.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى (133) }
يقول تعالى ذكره : قال هؤلاء المشركون الذين وصف صفتهم في الآيات قبل هلا يأتينا محمد بآية من ربه ، كما أتى قومه صالح بالناقة وعيسى بإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، يقول الله جلّ ثناؤه : أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب من أنباء الأمم من قبلهم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات فكفروا بها لما أتتهم كيف عجَّلنا لهم العذاب ، وأنزلنا بأسنا بكفرهم بها ، يقول : فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم حال أولئك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى ) قال : التوراة والإنجيل.
حدثنا القاسم : قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مثله.
__________
(1) لعله يريد : كان يقوم قياما ، أي قياما طويلا ، والضمير في كان راجع إلى " عمر " رضي الله عنه .

(18/406)


وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى ) الكتب التي خلت من الأمم التي يمشون في مساكنهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) }
يقول تعالى ذكره : ولو أنا أهلكنا هؤلاء المشركين الذين يكذبون بهذا القرآن من قبل أن ننزله عليهم ، ومن قبل أن نبعث داعيا يدعوهم إلى ما فرضنا عليهم فيه بعذاب ننزله بهم بكفرهم بالله ، لقالوا يوم القيامة ، إذ وردوا علينا ، فأردنا عقابهم : ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا يدعونا إلى طاعتك ، فنتبع آياتك : يقول : فنتبع حجتك وأدلتك وما تنزله عليه من أمرك ونهيك من قبل أن نذلّ بتعذيبك إيانا ونخزى به.
كما حدثني الفضل بن إسحاق ، قال : ثنا أبو قتيبة سلم بن قتيبة ، عن فضيل عن مرزوق ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " يَحْتَجُّ عَلى اللهِ يَوْمَ القيامَةِ ثَلاثَةٌ : الهَالِكُ فِي الفَتْرَةِ ، والمَغْلُوبُ على عَقْلِه ، والصَّبيُّ الصَّغيرُ ، فَيَقُولُ المَغْلُوبُ عَلى عَقْلِهِ : لَمْ تَجْعَلْ لي عَقْلا أنْتَفِع بِهِ ، وَيَقُولُ الهَالِكُ فِي الفتْرَةِ : لَمْ يأْتِني رَسُولٌ وَلا نَبيٌّ ، ولَوْ أتانِي لَكَ رَسُولٌ أوْ نَبيّ لكُنْتُ أطْوَعَ خَلْقِكَ لَكَ وقرأ : ( لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا ) ويَقُولُ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ : كَنْتُ صَغِيرًا لا أعْقِلُ قال : فَتُرْفَعُ لَهُمْ نارٌ وَيُقالُ لَهُمْ : رِدُوها قال : فَيرِدُها مَنْ كَانَ فِي علْمِ اللهِ أنَّه سَعيدٌ ، وَيَتَلَكَّأُ عَنْها مَنْ كانَ فِي عِلْمِ اللهِ أنَّهُ شَقِيّ ، فَيَقُولُ : إيَّايَ عَصَيْتُمْ ، فَكَيْفَ بِرُسُلي لَوْ أتَتْكُمْ ؟ " .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) }

(18/407)


يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : كلكم أيها المشركون بالله متربص يقول : منتظر لمن يكون الفلاح ، وإلى ما يئول أمري وأمركم متوقف ينتظر دوائر الزمان ، فتربصوا يقول : فترقبوا وانتظروا ، فستعلمون من أهل الطريق المستقيم المعتدل الذي لا اعوجاج فيه إذا جاء أمر الله وقامت القيامة ، أنحن أم أنتم ؟ ومن اهتدى يقول : وستعلمون حينئذ من المهتدي الذي هو على سنن الطريق القاصد غير الجائر عن قصده منا ومنكم ، وفي " مَن " من قوله( فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ ) ، والثانية من قوله(وَمَنِ اهْتَدَى) وجهان الرفع ، وترك إعمال تعلمون فيهما ، كما قال جلّ ثناؤه( لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى ) والنصب على إعمال تعلمون فيهما ، كما قال جلّ ثناؤه( وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ).

(18/408)


اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام
القول في تأويل قوله تعالى : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) }
يقول تعالى ذكره : دنا حساب الناس على أعمالهم التي عملوها في دنياهم ونعمهم التي أنعمها عليهم فيها في أبدانهم ، وأجسامهم ، ومطاعمهم ، ومشاربهم ، وملابسهم وغير ذلك من نعمه عندهم ، ومسألته إياهم ماذا عملوا فيها ؛ وهل أطاعوه فيها ، فانتهوا إلى أمره ونهيه في جميعها ، أم عصوه فخالفوا أمره فيها ؟( وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) يقول : وهم في الدنيا عما الله فاعل بهم من ذلك يوم القيامة ، وعن دنو محاسبته إياهم منهم ، واقترابه لهم في سهو وغفلة ، وقد أعرضوا عن ذلك ، فتركوا الفكر فيه ، والاستعداد له ، والتأهب ، جهلا منهم بما هم لاقوه عند ذلك من عظيم البلاء ، وشديد الأهوال.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) قال أهل التأويل ، وجاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا أبو الوليد ، قال : ثني أبو معاوية ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم( وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) قال : في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) }
يقول تعالى ذكره : ما يحدث الله من تنزيل شيء من هذا القرآن للناس ، ويذكرهم به ويعظهم إلا استمعوه ، وهم يلعبون لاهية قلوبهم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ،

(18/409)


لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)

عن قتادة قوله( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ). .. الآية ، يقول : ما ينزل عليهم من شيء من القرآن إلا استمعوه وهم يلعبون.
القول في تأويل قوله تعالى : { لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) }
يقول تعالى ذكره( لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) غافلة : يقول : ما يستمع هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم هذا القرآن إلا وهم يلعبون غافلة عنه قلوبهم ، لا يتدبرون حكمه ولا يتفكرون فيما أودعه الله من الحجج عليهم.
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) يقول : غافلة قلوبهم.
وقوله( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) يقول : وأسرّ هؤلاء الناس الذين اقتربت الساعة منهم وهم في غفلة معرضون ، لاهية قلوبهم ، النجوى بينهم ، يقول : وأظهروا المناجاة بينهم فقالوا : هل هذا الذي يزعم أنه رسول من الله أرسله إليكم ، إلا بشر مثلكم : يقولون : هل هو إلا إنسان مثلكم في صوركم وخلقكم ؟ يعنون بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم ، وقال الذين ظلموا فوصفهم بالظلم بفعلهم وقيلهم الذي أخبر به عنهم في هذه الآيات إنهم يفعلون ويقولون من الإعراض عن ذكر الله ، والتكذيب برسوله وللذين من قوله( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) في الإعراب وجهان : الخفض على أنه تابع للناس في قوله اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ) والرفع على الردّ على الأسماء الذين (1) في قوله( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ) من ذكر الناس ، كما قيل : ( ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ) وقد يحتمل أن يكون رفعا على الابتداء ، ويكون معناه : وأسرّوا النجوى ، ثم قال : هم الذين ظلموا.
وقوله( أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) يقول : وأظهروا هذا القول بينهم ، وهي النجوى التي أسرّوها بينهم ، فقال بعضهم لبعض : أتقبلون السحر وتصدّقون به وأنتم تعلمون أنه سحر ؟ يعنون بذلك القرآن.
__________
(1) لعله على الاسم الذي . . إلخ .

(18/410)


قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)

كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) قال : قال أهل الكفر لنبيهم لما جاء به من عند الله ، زعموا أنه ساحر ، وأن ما جاء به سحر ، قالوا : أتأتون السحر وأنتم تبصرون ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله( قُلْ رَبّي ) فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين( قُلْ رَبّي) على وجه الأمر ، وقرأه بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء الكوفة(قَالَ رَبِّي) على وجه الخبر.
وكأن الذين قرءوه على وجه الأمر أرادوا من تأويله : قل يا محمد للقائلين( أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) ربي يعلم قول كلّ قائل في السماء والأرض ، لا يخفى عليه منه شيء وهو السميع لذلك كله ، ولما يقولون من الكذب ، العليم بصدقي ، وحقيقة ما أدعوكم إليه ، وباطل ما تقولون وغير ذلك من الأشياء كلها. وكأن الذين قرءوا ذلك قال على وجه الخبر أرادوا ، قال محمد : ربي يعلم القول خبرا من الله عن جواب نبيه إياهم.
والقول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قَرَاءة الأمصار ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، وجاءت بهما مصاحف المسلمين متفقتا المعنى ، وذلك أن الله إذا أمر محمدا بقيل ذلك قاله ، وإذا قاله فعن أمر الله قاله ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في قراءته.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ (5) }
يقول تعالى ذكره : ما صدّقوا بحكمة هذا القرآن ، ولا أنه من عند الله ، ولا أقرّوا بأنه وحي أوْحَى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، بل قال بعضهم :

(18/411)


مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)

هو أهاويل رؤيا رآها في النوم ، وقال بعضهم : هو فرية واختلاق افتراه واختلقه من قبل نفسه ، وقال بعضهم : بل محمد شاعر ، وهذا الذي جاءكم به شعر(فَلْيَأْتِنا) به يقول : قالوا فليجئنا محمد إن كان صادقا في قوله ، إن الله بعثه رسولا إلينا وإن هذا الذي يتلوه علينا وحي من الله أوحاه إلينا ، (بآية) يقول : بحجة ودلالة على حقيقة ما يقول ويدّعي( كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ ) يقول : كما جاءت به الرسل الأوّلون من قَبْله من إحياء المَوتى ، وإبراء الأكمه والأبرص وكناقة صالح ، وما أشبه ذلك من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الله ولا يأتي بها إلا الأنبياء والرسل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) أي فعل حالم ، إنما هي رؤيا رآها( بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ) كل هذا قد كان منهم. وقوله( فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ ) يقول : كما جاء عيسى بالبيِّنات وموسى بالبينات ، والرسل.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) قال : مشتبهة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) قال أهاويلها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقال تعالى ذكره : بل قالوا : ولا جحد في الكلام ظاهر فيحقق ببل ، لأن الخبر عن أهل الجحود والتكذيب ، فاجْتُزِي بمعرفة السامعين بما دلّ عليه قوله ، بل من ذكر الخبر عنهم على ما قد بينا.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) }
يقول تعالى ذكره : ما آمن من قبل هؤلاء المكذّبين محمدا من مشركي

(18/412)


وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)

قومه الذين قالوا : فليأتنا محمد بآية كما جاءت به الرسل قبله من أهل قرية عذّبناهم بالهلاك في الدنيا ، إذ جاءهم رسولنا إليهم بآية معجزة( أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ) يقول : أفهؤلاء المكذبون محمدا السائلوه الآية يؤمنون إن جاءتهم آية ولم تؤمن قبلهمْ أسلافهم من الأمم الخالية التي أهلكناها برسلها مع مجيئها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ) يصدّقون بذلك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ) أي الرسل كانوا إذا جاءوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم يناظروا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) }
يقول تعالى ذكره لنبيه : وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولا إلى أمة من الأمم التي خلت قبل أمتك إلا رجالا مثلهم نوحي إليهم ، ما نريد أن نوحيه إليهم من أمرنا ونهينا ، لا ملائكة ، فماذا أنكروا من إرسالنا لك إليهم ، وأنت رجل كسائر الرسل الذين قبلك إلى أممهم. وقوله( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) يقول للقائلين لمحمد صلى الله عليه وسلم في تناجيهم بينهم : هل هذا إلا بشر مثلكم ، فإن أنكرتم وجهلتم أمر الرسل الذين كانوا من قبل محمد ، فلم تعلموا أيها القوم أمرهم إنسا كانوا أم ملائكة ، فاسألوا أهل الكتب من التوراة والإنجيل ما كانوا يخبروكم عنهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) يقول فاسألوا أهل التوراة

(18/413)


وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)

والإنجيل قال أبو جعفر : أراه أنا قال : يخبروكم أن الرسل كانوا رجالا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق. وقيل : أهل الذكر : أهل القرآن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن محمد الطوسيّ ، قال : ثني عبد الرحمن بن صالح ، قال : ثني موسى بن عثمان ، عن جابر الجعفيّ ، قال : لما نزلت( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال : عليّ : نحن أهل الذّكر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال : أهل القرآن ، والذكر : القرآن. وقرأ( إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) }
يقول تعالى ذكره : وما جعلنا الرسل الذين أرسلناهم من قبلك يا محمد إلى الأمم الماضية قبل أمتك ، ( جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) يقول : لم نجعلهم ملائكة لا يأكلون الطعام ، ولكن جعلناهم أجسادا مثلك يأكلون الطعام.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) يقول : ما جعلناهم جسدا إلا ليأكلوا الطعام.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) يقول : لم أجعلهم جسدا ليس فيهم أرواح لا يأكلون الطعام ، ولكن جعلناهم جسدا فيها أرواح يأكلون الطعام.
قال أبو جعفر : وقال : ( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا ) فوحَّد الجسد وجعله موحدا ، وهو من صفة الجماعة ، وإنما جاز ذلك لأن الجسد بمعنى المصدر ، كما يقال في الكلام : وما جعلناهم خَلْقا لا يأكلون.

(18/414)


ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)

وقوله( وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) يقول : ولا كانوا أربابا لا يموتون ولا يفنون ، ولكنهم كانوا بشرا أجسادا فماتوا ، وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قد أخبر الله عنهم( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا ..) إلى قوله( أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا ) قال الله تبارك وتعالى لهم : ما فعلنا ذلك بأحد قبلكم فنفعل بكم ، وإنما كنا نرسل إليهم رجالا نوحي إليهم كما أرسلنا إليكم رسولا نوحي إليه أمرنا ونهينا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) أي لا بد لهم من الموت أن يموتوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) }
يقول تعالى ذكره : ثم صدقنا رسلنا الذين كذبّهم أممهم وسألتهم الآيات ، فأتيناهم ما سألوه من ذلك ، ثم أقاموا على تكذيبهم إياها ، وأصرّوا على جحودهم نبوّتها بعد الذي أتتهم به من آيات ربها ، وعدنا الذي وعدناهم من الهلاك على إقامتهم على الكفر بربهم بعد مجيء الآية التي سألوا ، وذلك كقوله جل ثناؤه( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) وكقوله( وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ) ونحو ذلك من المواعيد التي وعد الأمم مع مجيء الآيات ، وقوله( فأنجيناهم ) يقول تعالى ذكره : فأنجينا الرسل عند إصرار أممها على تكذيبها بعد الآيات ، ( وَمَنْ نَشَاءُ ) وهم أتباعها الذين صدقوها وآمنوا بها ، وقوله( وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ) يقول تعالى ذكره : وأهلكنا الذين أسرفوا على أنفسهم بكفرهم بربهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ) والمسرفون : هم المشركون.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ

(18/415)


لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)

أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) }
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه ، لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم ، فيه حديثكم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قوله( فِيهِ ذِكْرُكُمْ ) قال : حديثكم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ) قال : حديثكم( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) قال : في قد أفلح( بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا سفيان : نزل القرآن بمكارم الأخلاق ، ألم تسمعه يقول( لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ).
وقال آخرون : بل عني بالذكر في هذا الموضع : الشرف ، وقالوا : معنى الكلام : لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه شرفكم.
قال أبو جعفر : وهذا القول الثاني أشبه بمعنى الكلمة ، وهو نحو مما قال سفيان الذي حكينا عنه ، وذلك أنه شرف لمن اتبعه وعمل بما فيه.

(18/416)


وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) }
يقول تعالى ذكره : وكثيرا قصمنا من قرية ، والقصم : أصله الكسر ، يقال منه : قصمت ظهر فلان إذا كسرته ، وانقصمت سنه : إذا انكسرت ، وهو هاهنا معني به أهلكنا ، وكذلك تأوّله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ،

(18/416)


لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)

عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَكَمْ قَصَمْنَا ) قال : أهلكنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله( وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ ) قال : أهلكناها ، قال ابن جُرَيج : قصمنا من قرية ، قال : باليمن قصمنا ، بالسيف أهلكوا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله( قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ ) قال : قصمها أهلكها.
وقوله( مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً ) أجرى الكلام على القرية ، والمراد بها أهلها لمعرفة السامعين بمعناه ، وكأن ظلمها كفرها بالله وتكذيبها رسله ، وقوله( وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) يقول تعالى ذكره : وأحدثنا بعد ما أهلكنا هؤلاء الظلمة من أهل هذه القرية التي قصمناها بظلمها قوما آخرين سواهم.
وقوله( فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا ) يقول : فلما عاينوا عذابنا قد حلّ بهم ورأوه قد وجدوا مسه ، يقال منه : قد أحسست من فلان ضعفا ، وأحسته منه( إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ) يقول : إذا هم مما أحسوا بأسنا النازل بهم يهربون سراعا عَجْلَى ، يَعْدُون منهزمين ، يقال منه : ركض فلان فرسه : إذا كَدَّه سياقته.
القول في تأويل قوله تعالى : { لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) }
يقول تعالى ذكره : لا تهربوا وارجعوا إلى ما أُترفتم فيه : يقول : إلى ما أُنعمتم فيه من عيشتكم ومساكنكم.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله( لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) يعني من نزل به العذاب في الدنيا ممن كان يعصي الله من الأمم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن

(18/417)


قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)

مجاهد ، قوله( لا تَرْكُضُوا ) لا تفرّوا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ) يقول : ارجعوا إلى دنياكم التي أترفتم فيها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور عن معمر ، عن قتادة( وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ) قال : إلى ما أترفتم فيه من دنياكم.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله( لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) فقال بعضهم : معناه : لعلكم تفقهون وتفهمون بالمسألة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله( لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) قال : تفقهون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) قال : تفقهون.
وقال آخرون : بل معناه لعلكم تسألون من دنياكم شيئا على وجه السخرية والاستهزاء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) استهزاء بهم.
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) من دنياكم شيئا ، استهزاء بهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) }
يقول تعالى ذكره : قال هؤلاء الذين أحلّ الله بهم بأسه بظلمهم لما نزل بهم بأس الله : يا ويلنا إنا كنا ظالمين بكفرنا بربنا ، فما زالت تلك دعواهم يقول فلم تزل دعواهم ، حين أتاهم بأس الله ، بظلمهم أنفسهم : ( يَاوَيْلَنَا إِنَّا

(18/418)


وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)

كُنَّا ظَالِمِينَ ) حتى قتلهم الله ، فحصدهم بالسيف كما يُحْصَد الزرع ويستأصل قطعا بالمناجل ، وقوله( خَامِدِينَ ) يقول : هالكين قد انطفأت شرارتهم ، وسكنت حركتهم ، فصاروا همودا كما تخمد النار فتطفأ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ )... الآية : فلما رأوا العذاب وعاينوه لم يكن لهم هِجِّيرَى إلا قولهم( يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) حتى دمَّر الله عليهم وأهلكهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ) يقول : حتى هلكوا.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال ابن عباس(حَصِيدًا) الحصاد(خامدين) خمود النار إذا طفئت.
حدثنا سعيد بن الربيع ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إنهم كانوا أهل حصون ، وإن الله بعث عليهم بختنصر ، فبعث إليهم جيشا فقتلهم بالسيف ، وقتلوا نبيا لهم فحُصِدوا بالسيف ، وذلك قوله( فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ) بالسيف.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) }
يقول تعالى ذكره : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ) إلا حجة عليكم أيها الناس ، ولتعتبروا بذلك كله ، فتعلموا أن الذي دبره وخلقه لا يشبهه شيء ، وأنه لا تكون الألوهية إلا له ، ولا تصلح العبادة لشيء غيره ، ولم يَخْلق ذلك عبثا ولعبا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ) يقول : ما خلقناهما عَبَثا ولا باطلا.

(18/419)


لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) }
يقول تعالى ذكره : لو أردنا أن نتخذ زوجة وولدا لاتخذنا ذلك من عندنا ، ولكنا لا نفعل ذلك ، ولا يصلح لنا فعله ولا ينبغي ، لأنه لا ينبغي أن يكون لله ولد ولا صاحبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سليمان بن عبيد الله الغيداني ، قال : ثنا أبو قُتيبة ، قال : ثنا سلام بن مسكين ، قال : ثنا عقبة بن أبي حمزة ، قال : شهدت الحسن بمكة ، قال : وجاءه طاووس وعطاء ومجاهد ، فسألوه عن قول الله تبارك وتعالى( لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذنا ) قال الحسن : اللهو : المرأة.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : ثنا بقية بن الوليد ، عن عليّ بن هارون ، عن محمد ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا ) قال : زوجة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا )... الآية ، أي أن ذلك لا يكون ولا ينبغي. واللهو بلغة أهل اليمن : المرأة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا ) قال : اللهو في بعض لغة أهل اليمن : المرأة( لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا ).
وقوله( إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ) حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله( إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ) يقول : ما كنا فاعلين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قالوا مريم صاحبته ، وعيسى ولده ، فقال تبارك وتعالى( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا )

(18/420)


بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)

نساء وولدا( لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ) قال : من عندنا ، ولا خلقنا جنة ولا نارا ، ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا ) من عندنا ، وما خلقنا جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) }
يقول تعالى ذكره : ولكن ننزل الحق من عندنا ، وهو كتاب الله وتنزيله على الكفر به وأهله ، فيدمغه ، يقول : فيهلكه كما يدمغ الرجل الرجل بأن يشجه على رأسه شجة تبلغ الدماغ ، وإذا بلغت الشجة ذلك من المشجوج لم يكن له بعدها حياة.
وقوله( فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) يقول : فإذا هو هالك مضمحلٌ.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة( فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) قال : هالك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) قال : ذاهب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) والحقّ كتاب الله القرآن ، والباطل : إبليس ، فيدمغه فإذا هو زاهق : أي ذاهب.
وقوله( وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) يقول : ولكم الويل من وصفكم ربكم بغير صفته ، وقِيلكم إنه اتخذ زوجة وولدا ، وفِريتكم عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، إلا أن بعضهم قال : معنى تصفون تكذبون.

(18/421)


وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)

وقال آخرون : معنى ذلك : تشركون ، وذلك وإن اختلفت به الألفاظ فمتفقة معانيه ؛ لأن من وصف الله بأن له صاحبة فقد كذب في وصفه إياه بذلك ، وأشرك به ، ووصفه بغير صفته ، غير أن أولى العبارات أن يُعَبر بها عن معاني القرآن أقربها إلى فهم سامعيه.
* ذكر من قال ما قلنا في ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) أي تكذبون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) قال : تشركون وقوله( عَمَّا يَصِفُونَ ) قال : يشركون قال : وقال مجاهد( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ) قال : قولهَم الكذب في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) }
يقول تعالى ذكره : وكيف يجوز أن يتخذ الله لهوا ، وله ملك جميع من في السماوات والأرض ، والذين عنده من خلقه لا يستنكفون عن عبادتهم إياه ولا يَعْيَون من طول خدمتهم له ، وقد علمتم أنه لا يستعبد والد ولده ولا صاحبته ، وكل من في السماوات والأرض عبيده ، فأنى يكون له صاحبة وولد : يقول : أولا تتفكرون فيما تفترون من الكذب على ربكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ) لا يرجعون.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ) لا يحسرون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.

(18/422)


يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ) قال : لا يُعيون.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، قوله : ( وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ) قال : لا يعيون.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ) قال : لا يستحسرون ، لا يملُّون ذلك الاستحسار ، قال : ولا يفترون ، ولا يسأمون ، هذا كله معناه واحد والكلام مختلف ، وهو من قولهم : بعير حَسِير : إذا أعيا وقام ؛ ومنه قول علقمة بن عبدة :
بِها جِيفُ الحَسْرَى فأمَّا عِظامُها... فَبِيضٌ ، وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ (1)
القول في تأويل قوله تعالى : { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) }
يقول تعالى ذكره : يسبح هؤلاء الذين عنده من ملائكة ربهم الليل والنهار لا يفترون من تسبيحهم إياه.
كما حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا حميد ، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث ، عن أبيه أن ابن عباس سأل كعبا عن قوله : ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) و( يسبحون الليل والنهار لا يسأمون) (2) فقال : هل يئودك طرفك ؟ هل يَئُودك نَفَسُك ؟ قال : لا قال : فإنهم ألهموا التسبيح كما ألهمتم الطَّرْف والنَّفَس.
__________
(1) البيت لعلقمة بن عبدة التميمي ، من قصيدة له يمدح بها الحارث بن أبي الحارث بن أبي شمر الغساني ( مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة مصطفى البابي الحلبي ، ص 421 ، وهو البيت العشرون في القصيدة ) والحسرى : جمع حسير من الدواب ، وهو الذي كل من من المسير ، فمات إعياء . وصليب : يابس لم يدبغ . والضمير في ( بها ) راجع إلى المغارة التي سلكها ، فوجد فيها بقايا الدواب التي سارت فيها من قبل ، من عظام وجلود .
(2) التلاوة " يسبحون له بالليل والنهار وهم " . . إلخ .

(18/423)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو معاوية ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن حسان بن مخارق ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : قلت : لكعب الأحبار( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) أما يشغلهم رسالة أو عمل ؟ قال : يا بن أخي إنهم جُعل لهم التسبيح ، كما جُعل لكم النفس ، ألست تأكل وتشرب وتقوم وتقعد وتجيء وتذهب وأنت تنفَّس ؟ قلت : بلى قال : فكذلك جُعل لهم التسبيح.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن وأبو داود ، قالا ثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن عمرو البكالي ، عن عبد الله بن عمر ، قال : إن الله خلق عشرة أجزاء ، فجعل تسعة أجزاء الملائكة ، وجزءا سائر الخلق ، وجزأ الملائكة عشرة أجزاء ، فجعل تسعة أجزاء يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، وجزءا لرسالته ، وجزأ الخلق عشرة أجزاء ، فجعل تسعة أجزاء الجنّ ، وجزءا سائر بني آدم ، وجزأ بني آدم عشرة أجزاء ، فحمل يأجوج ومأجوج تسعة أجزاء وجزءا سائر بني آدم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) يقول : الملائكة الذين هم عند الرحمن لا يستكبرون عن عبادته ، ولا يسأمون فيها.
وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه ، إذ قال : " تَسْمَعُونَ ما أسْمَعُ ؟ قالوا : ما نسمع من شيء يا نبيّ الله ، قال : إنّي لأسْمَعُ أطِيطَ السَّماءِ ، وما تُلامُ أنْ تَئِطَّ ولَيْسَ فِيها مَوْضِعُ رَاحَةٍ إلا وفِيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ أوْ قائمٌ " .
وقوله( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ) يقول تعالى ذكره : أتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض هم ينشرون : يعني بقوله هم : الآلهة ، يقول : هذه الآلهة التي اتخذوها تنشر الأموات ، يقول : يحيون الأموات ، وينشرون الخلق ، فإن الله هو الذي يحيي ويميت.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى " ح " وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(يُنْشِرُونَ) يقول : يُحيون.

(18/424)


لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ) يقول : أفي آلهتهم أحد يحيي ذلك ينشرون ، وقرأ قول الله( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ )... إلى قوله( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره : لو كان في السماوات والأرض آلهة تصلح لهم العبادة سوى الله الذي هو خالق الأشياء ، وله العبادة والألوهية التي لا تصلح إلا له(لَفَسَدَتا) يقول : لفسد أهل السماوات والأرض( فسبحان الله عما يصفون ) يقول جل ثناؤه : فتنزيه لله وتبرئة له مما يفتري به عليه هؤلاء المشركون به من الكذب.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) يسبح نفسه إذ قيل عليه البهتان.
القول في تأويل قوله تعالى : { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره : لا سائل يسأل رب العرش عن الذي يفعل بخلقه من تصريفهم فيما شاء من حياة وموت وإعزاز وإذلال ، وغير ذلك من حكمه فيهم ؛ لأنهم خلقه وعبيده ، وجميعهم في ملكه وسلطانه ، والحكم حكمه ، والقضاء قضاؤه ، لا شيء فوقه يسأله عما يفعل فيقول له : لم فعلت ؟ ولمَ لم تفعل ؟( وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) يقول جلّ ثناؤه : وجميع من في السماوات والأرض من عباده مسئولون عن أفعالهم ، ومحاسبون على أعمالهم ، وهو الذي يسألهم عن ذلك ويحاسبهم عليه ، لأنه فوقهم ومالكهم ، وهم في سلطانه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ،

(18/425)


أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)

عن قتادة ، قوله( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) يقول : لا يسأل عما يفعل بعباده ، وهم يسألون عن أعمالهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قوله( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) قال : لا يسأل الخالق عن قضائه في خلقه ، وهو يسأل الخلق عن عملهم.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) قال : لا يسأل الخالق عما يقضي في خلقه ، والخلق مسئولون عن أعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) }
يقول تعالى ذكره : أتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة تنفع وتضرّ ، وتخلق وتحيي وتميت ، قل يا محمد لهم : هاتوا برهانكم ، يعني حجتكم يقول : هاتوا إن كنتم تزعمون أنكم محقون في قيلكم ذلك حجة ودليلا على صدقكم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) يقول : هاتوا بينتكم على ما تقولون.
وقوله( هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ ) يقول : هذا الذي جئتكم به من عند الله من القرآن والتنزيل ، ( ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ ) يقول : خبر من معي مما لهم من ثواب الله على إيمانهم به ، وطاعتهم إياه ، وما عليهم من عقاب الله على معصيتهم إياه وكفرهم به( وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ) يقول : وخبر من قبلي من الأمم التي سلفت قبلي ، وما فعل الله بهم في الدنيا وهو فاعل بهم في الآخرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني بِشْر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ ) يقول : هذا القرآن فيه ذكر الجلال والحرام

(18/426)


( وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ) يقول : ذكر أعمال الأمم السالفة وما صنع الله بهم إلى ما صاروا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ ) قال : حديث من معي ، وحديث من قبلي.
وقوله( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ ) يقول : بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الصواب فيما يقولون ولا فيما يأتون ويذرون ، فهم معرضون عن الحق جهلا منهم به ، وقلَّة فهم.
وكان قَتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ) عن كتاب الله.

(18/427)


وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) }
يقول تعالى ذكره : وما أرسلنا يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الأمم إلا نوحي إليه أنه لا معبود في السماوات والأرض ، تصلح العبادة له سواي فاعبدون يقول : فأخلصوا لي العبادة ، وأفردوا لي الألوهية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) قال : أرسلت الرسل بالإخلاص والتوحيد ، لا يقبل منهم " قال أبو جعفر : أظنه أنا قال " : عمل حتى يقولوه ويقرّوا به ، والشرائع مختلفة ، في التوراة شريعة ، وفي الإنجيل شريعة ، وفي القرآن شريعة ، حلال وحرام ، وهذا كله في الإخلاص لله والتوحيد له.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) }

(18/427)


يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)

يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء الكافرون بربهم : اتخذ الرحمن ولدا من ملائكته ، فقال جلّ ثناؤه استعظاما مما قالوا ، وتبريًّا مما وصفوه به سبحانه ، يقول تنزيها له عن ذلك ، ما ذلك من صفته( بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) يقول : ما الملائكة كما وصفهم به هؤلاء الكافرون من بني آدم ، ولكنهم عباد مكرمون ، يقول : أكرمهم الله.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) قال : قالت اليهود : إن الله تبارك وتعالى صاهر الجنّ ، فكانت منهم الملائكة ، قال الله تبارك وتعالى تكذيبا لهم وردّا عليهم ، ( بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) وإن الملائكة ليس كما قالوا ، إنما هم عباد أكرمهم الله بعبادته.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، وحدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ) قالت اليهود وطوائف من الناس : إن الله تبارك وتعالى خاتن إلى الجنّ والملائكة من الجنّ ، قال الله تبارك وتعالى( سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) ، وقوله : ( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ) يقول جلّ ثناؤه : لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم ، ولا يعملون عملا إلا به.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الله( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ) يثني عليهم( وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره : يعلم ما بين أيدي ملائكته ما لم يبلغوه ما هو وما هم فيه قائلون وعاملون ، وما خلفهم : يقول : وما مضى من قبل اليوم مما خلفوه وراءهم من الأزمان والدهور ما عملوا فيه ، قالوا ذلك كله محصى لهم وعليهم ، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(18/428)


وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)

* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) يقول : يعلم ما قدّموا وما أضاعوا من أعمالهم( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) يقول : ولا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) يقول : الذين ارتضى لهم شهادة أن لا إله إلا الله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) قال : لمن رضي عنه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) يوم القيامة ، ( وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال أخبرنا معمر ، عن قتادة يقول : ولا يشفعون يوم القيامة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله ، وقوله( وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) يقول : وهم من خوف الله وحذار عقابه أن يحلّ بهم مشفقون ، يقول : حذرون أن يعصوه ويخالفوا أمره ونهيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) }
يقول تعالى ذكره : ومن يقل من الملائكة : إني إله من دون الله(فَذَلَك) الذي يقول ذلك منهم( نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ) يقول : نثيبه على قيله ذلك جهنم( كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) يقول : كما نجزي من قال من الملائكة إني إله من

(18/429)


أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)

دون الله جهنم ، كذلك نجزي ذلك كل من ظلم نفسه ، فكفر بالله وعبد غيره ، وقيل : عنى بهذه الآية إبليس ، وقال قائلو ذلك : إنما قلنا ذلك ، لأنه لا أحد من الملائكة قال : إني إله من دون الله سواه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ ) قال : قال ابن جُرَيج : من يقل من الملائكة إني إله من دونه ؛ فلم يقله إلا إبليس دعا إلى عبادة نفسه ، فنزلت هذه في إبليس.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) وإنما كانت هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس لما قال ما قال ، لعنه الله وجعله رجيما ، فقال( فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ).
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة( وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ) قال : هي خاصة لإبليس.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) }
يقول تعالى ذكره : أو لم ينظر هؤلاء الذي كفروا بالله بأبصار قلوبهم ، فيروا بها ، ويعلموا أن السماوات والأرض كانتا رَتْقا : يقول : ليس فيهما ثقب ، بل كانتا ملتصقتين ، يقال منه : رتق فلان الفتق : إذا شدّه ، فهو يرتقه رتقا ورتوقا ، ومن ذلك قيل للمرأة التي فرجها ملتحم : رتقاء ، ووحد الرتق ، وهو من صفة السماء والأرض ، وقد جاء بعد قوله(كانَتا) لأنه مصدر ، مثل قول الزور والصوم والفطر.
وقوله(فَفَتَقْناهُما) يقول : فصدعناهما وفرجناهما.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله السماوات والأرض بالرتق

(18/430)


وكيف كان الرتق ، وبأيْ معنى فتق ؟ فقال بعضهم : عنى بذلك أن السماوات والأرض كانتا ملتصقتين ، ففصل الله بينهما بالهواء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا ) يقول : كانتا ملتصقتين.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما)... الآية ، يقول : كانتا ملتصقتين ، فرفع السماء ووضع الأرض.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) كان ابن عباس يقول : كانتا ملتزقتين ، ففتقهما الله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) قال : كان الحسن وقتادة يقولان : كانتا جميعا ، ففصل الله بينهما بهذا الهواء.
وقال آخرون : بل معنى ذلك أن السماوات كانت مرتتقة طبقة ، ففتقها الله فجعلها سبع سماوات وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة ، ففتقها ، فجعلها سبع أرضين
* ذكر من قال : ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى( رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) من الأرض ستّ أرضين معها فتلك سبع أرضين معها ، ومن السماء ستّ سماوات معها ، فتلك سبع سماوات معها ، قال : ولم تكن الأرض والسماء متماسَّتين.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) قال : فتقهنّ سبع سماوات ، بعضهنّ فوق بعض ، وسبع أرضين بعضهنّ تحت بعض.

(18/431)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم.
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، قال : سألت أبا صالح عن قوله( كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) قال : كانت الأرض رتقا والسماوات رتقا ، ففتق من السماء سبع سماوات ، ومن الأرض سبع أرضين.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كانت سماء واحدة ثم فتقها ، فجعلها سبع سماوات في يومين ، في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض ، فذلك حين يقول( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ يَقُولُ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ).
وقال آخرون : بل عنى بذلك أن السماوات كانت رتقا لا تمطر ، والأرض كذلك رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) قال : كانتا رتقا لا يخرج منهما شيء ، ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات. قال : وهو قوله( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ) .
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : ثنا أبي ، عن الفضيل بن مرزوق ، عن عطية ، في قوله( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) قال : كانت السماء رتقا لا تمطر ، والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر ، وفتق الأرض بالنبات ، وجعل من الماء كل شيء حيّ ، أفلا يؤمنون ؟
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) قال : كانت السماوات رتقا لا ينزل منها مطر ، وكانت الأرض رتقا لا يخرج منها نبات ، ففتقهما الله ، فأنزل مطر السماء ، وشقّ الأرض فأخرج نباتها ، وقرأ( فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ).
وقال آخرون : إنما قيل(فَفَتَقْنَاهُما) لأن الليل كان قبل النهار ، ففتق النهار.
* ذكر من قال ذلك :

(18/432)


حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : خلق الليل قبل النهار ، ثم قال : كانتا رتقا ففتقناهما.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا من المطر والنبات ، ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله : ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) على ذلك ، وأنه جلّ ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه.
فإن قال قائل : فإن كان ذلك كذلك ، فكيف قيل : أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ، والغيث إنما ينزل من السماء الدنيا ؟ قيل : إن ذلك مختلف فيه ، قد قال قوم : إنما ينزل من السماء السابعة ، وقال آخرون : من السماء الرابعة ، ولو كان ذلك أيضا كما ذكرت من أنه ينزل من السماء الدنيا ، لم يكن في قوله( أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ) دليل على خلاف ما قلنا ، لأنه لا يمتنع أن يقال السماوات ، والمراد منها واحدة فتجمع ، لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وقميص أسمال.
فإن قال قائل : وكيف قيل إن السماوات والأرض كانتا ، فالسماوات جمع ، وحكم جمع الإناث أن يقال في قليلة كنّ ، وفي كثيره كانت ؟ قيل : إنما قيل ذلك كذلك لأنهما صنفان ، فالسماوات نوع ، والأرض آخر ، وذلك نظير قول الأسود بن يعفر :
إنَّ المَنِيَّةَ والحُتُوفَ كِلاهُما... تُوفِي المَخارِمَ يَرْقُبانِ سَوَادِي (1)
فقال كلاهما ، وقد ذكر المنية والحتوف لما وصفت من أنه عنى النوعين ، وقد
__________
(1) البيت للأسود بن يعفر النهشلي التميمي ( المفضليات 101 ) والمنية : الموت ، والحتوف جمع حتف ، يريد به أنواع الأخطار التي تؤدي إلى الموت والمخارم جمع مخرم : الطريق في الغلظ ( عن السكري ) . وقيل : الطرق في الجبال وأفواه الفجاج ، وسواد الإنسان شخصه . والشاهد في البيت أن الشاعر ذكر المنية والحتوف ثم قال يرقبان بالتثنية ، لأنه جعل المنية والحتوف نوعين للهلاك ، ثم قال : يرقبان . ولو جرى على ما يقتضيه اللفظ لقال : ترقب سوادي ، لأن المنية والحتوف عدة أشياء .

(18/433)


وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)

أخبرت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، قال : أنشدني غالب النفيلي للقطامي :
ألمْ يَحْزُنْكَ أنَّ حِبالَ قَيْسٍ... وَتَغْلِبَ قَدْ تَبايَنَتا انْقِطاعَا (1)
فجعل حبال قيس وهي جمع ، وحبال تغلب وهي جمع اثنين.
وقوله( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) يقول تعالى ذكره : وأحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كلّ شيء.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) قال : كلّ شيء حيّ خُلق من الماء.
فإن قال قائل : وكيف خصّ كل شيء حيّ بأنه جعل من الماء دون سائر الأشياء غيره ، فقد علمت أنه يحيا بالماء الزروع والنبات والأشجار ، وغير ذلك مما لا حياة له ، ولا يقال له حيّ ولا ميت ؟ قيل : لأنه لا شيء من ذلك إلا وله حياة وموت ، وإن خالف معناه في ذلك معنى ذوات الأرواح في أنه لا أرواح فيهنّ وأن في ذوات الأرواح أرواحا ، فلذلك قيل( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ).
وقوله( أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) يقول : أفلا يصدّقون بذلك ، ويقرّون بألوهية من فعل ذلك ويفردونه بالعبادة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) }
يقول تعالى ذكره : أو لم ير هؤلاء الكفار أيضا من حججنا عليهم وعلى جميع خلقنا ، أنا جعلنا في الأرض جبالا راسية ؟ والرواسي : جمع راسية ، وهي الثابتة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ ) أي جبالا.
__________
(1) البيت للقطامي ، وهو الرابع من عينيته المشهورة التي مطلعها " قفي قبل التفرق يا ضباعا " ( انظر ديوانه ، طبعة ليدن سنة 1902 ، ص 27 ) . قال : تباينت تفرقت . والحبال : العلائق والعهود . والشاهد في البيت أن الشاعر قال : تباينتا بلفظ التثنية ، مع أن حبال قيس جمع ، وحبال تغلب جمع ، فكان ظاهر اللفظ يقتضي أن يقول : ( تباينت انقطاعا ) مراعاة لمعنى الجمعية في حبال قيس وتغلب .

(18/434)


وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)

وقوله( أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) يقول : أن لا تتكفأ بهم ، يقول جلّ ثناؤه : فجعلنا في هذه الأرض هذه الرواسي من الجبال ، فثبتناها لئلا تتكفأ بالناس ، وليقدروا بالثبات على ظهرها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانوا على الأرض تمور بهم لا تستقرّ ، فأصبحوا وقد جعل الله الجبال وهي الرواسي أوتادا للأرض ، وجعلنا فيها فجاجا سبلا يعني مسالك ، واحدها فجّ.
كما حدثنا بِشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا ) أي أعلاما. وقوله(سُبُلا) أي طرقا ، وهي جمع السبيل.
وكان ابن عباس فيما ذُكر عنه يقول : إنما عنى بقوله( وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا ) وجعلنا في الرواسي ، فالهاء والألف في قوله( وَجَعَلْنَا فِيهَا ) من ذكر الرواسي.
حدثنا بذلك القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، قوله( وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا ) سبلا قال : بين الجبال.
وإنما اخترنا القول الآخر في ذلك وجعلنا الهاء والألف من ذكر الأرض ، لأنها إذا كانت من ذكرها داخل في ذلك السهل والجبل ؛ وذلك أن ذلك كله من الأرض ، وقد جعل الله لخلقه في ذلك كله فجاجا سبلا ولا دلالة تدلّ على أنه عنى بذلك فجاج بعض الأرض التي جعلها لهم سبلا دون بعض ، فالعموم بها أولى.
وقوله( لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) يقول تعالى ذكره : جعلنا هذه الفجاج في الأرض ليهتدوا إلى السير فيها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) }

(18/435)


يقول تعالى ذكره : ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا ) للأرض مسموكا ، وقوله : (مَحْفُوظا) يقول : حفظناها من كلّ شيطان رجيم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( سَقْفًا مَحْفُوظًا ) قال : مرفوعا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بِشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا )... الآية : سقفا مرفوعا ، وموجا مكفوفا.
وقوله : ( وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ) يقول : وهؤلاء المشركون عن آيات السماء. ويعني بآياتها : شمسها وقمرها ونجومها.(معرضون) يقول : يعرضون عن التفكر فيها ، وتدبر ما فيها من حجج الله عليهم ، ودلالتها على وحدانية خالقها ، وأنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا لمن دبرها وسوّاها ، ولا تصلح إلا له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ) قال : الشمس والقمر والنجوم آيات السماء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
وقوله : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) يقول تعالى ذكره : والله الذي خلق لكم أيها الناس الليل والنهار ، نعمة منه عليكم وحجة ، ودلالة عظيم سلطانه ، وأن الألوهة له دون كلّ ما سواه فهما يختلفان عليكم لصلاح معايشكم وأمور دنياكم وآخرتكم ، وخلق الشمس والقمر أيضا ، ( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) يقول : كلّ ذلك في فلك

(18/436)


يسبحون.
واختلف أهل التأويل في معنى الفلك الذي ذكره الله في هذه الآية ، فقال بعضهم : هو كهيئة حديدة الرحى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال : فلك كهيئة حديدة الرحى.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : (كُلّ فِي فَلَكٍ) قال : فلك كهيئة حديدة الرحى.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثني جرير ، عن قابوس بن أبي ظَبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال : فلك السماء.
وقال آخرون : بل الفلك الذي ذكره الله في هذا الموضع سرعة جري الشمس والقمر والنجوم وغيرها.
* ذكر من قال ذلك : حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الفلك : الجري والسرعة.
وقال آخرون : الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه.
وقال آخرون : بل هو القطب الذي تدور به النجوم ، واستشهد قائل هذا القول لقوله هذا بقول الراجز :
باتَتْ تُناجِي الفَلَكَ الدَّوَّارَا... حتى الصَّباحِ تعمَل الأقْتارَا (1)
وقال آخرون في ذلك ، ما حدثنا به بِشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا
__________
(1) البيت شاهد على أن الفلك هو القطب الذي تدور به النجوم . وقال في ( اللسان : فلك ) : الفلك : مدار النجوم ، والجمع : أفلاك . وفي حديث ابن مسعود : أن رجلا أتى رجلا وهو جالس عنده فقال : " إني تركت فرسك كأنه يدور في فلك " . قال أبو عبيدة : قوله " في فلك " : فيه قولان : فأما الذي تعرفه العامة ، فإنه شبه بفلك السماء الذي تدور عليه النجوم ، وهو الذي يقال له القطب ، شبه بقطب الرحى . قال : وقال بعض العرب : الفلك هو الموج إذا ماج في البحر فاضطرب ، وجاء وذهب ، فشبه الفرس في اضطرابه بذلك .

(18/437)


سعيد ، عن قتادة ، قوله : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) : أي في فلك السماء.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال : يجري في فلك السماء كما رأيت.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال : الفلك الذي بين السماء والأرض من مجاري النجوم والشمس والقمر ، وقرأ : ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ) وقال : تلك البروج بين السماء والأرض وليست في الأرض(كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال : فيما بين السماء والأرض : النجوم والشمس والقمر.
وذُكر عن الحسن أنه كان يقول : الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : كما قال الله عزّ وجل : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وجائز أن يكون ذلك الفلك كما قال مجاهد كحديدة الرحى ، وكما ذُكر عن الحسن كطاحونة الرحى ، وجائز أن يكون موجا مكفوفا ، وأن يكون قطب السماء ، وذلك أن الفلك في كلام العرب هو كل شيء دائر ، فجمعه أفلاك ، وقد ذكرت قول الراجز :
باتَّتْ تُناجِي الفُلْكَ الدَّوَّارَا
وإذ كان كل ما دار في كلامها ، ولم يكن في كتاب الله ، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عمن يقطع بقوله العذر ، دليل يدل على أيّ ذلك هو من أيّ كان الواجب أن نقول فيه ما قال ، ونسكت عما لا علم لنا به.
فإذا كان الصواب في ذلك من القول عندنا ما ذكرنا ، فتأويل الكلام : والشمس والقمر ، كلّ ذلك في دائر يسبحون.
وأما قوله : (يُسَبِّحُونَ) فإن معناه : يَجْرُون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال : يجرون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.

(18/438)


وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (يَسْبَحُونَ) قال : يجرون.
وقيل : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) فأخرج الخبر عن الشمس والقمر مخرج الخبر عن بني آدم بالواو والنون ، ولم يقل : يسبحن أو تسبح ، كما قيل : (والشَّمْس والقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لي ساجِدِينَ ) لأن السجود من أفعال بني آدم ، فلما وصفت الشمس والقمر بمثل أفعالهم ، أجرى الخبر عنهما مجرى الخبر عنهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وما خلدنا أحدا من بني آدم يا محمد قبلك في الدنيا فنخلدك فيها ، ولا بد لك من أن تموت كما مات من قبلك رسلنا( أفإن مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ ) يقول : فهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون في الدنيا بعدك ، لا ما ذلك كذلك ، بل هم ميتون بكلّ حال عشت أو متّ ، فأدخلت الفاء في إن وهي جزاء ، وفي جوابه ، لأن الجزاء متصل بكلام قبله ، ودخلت أيضا في قوله فهم لأنه جواب للجزاء ، ولو لم يكن في قوله فهم الفاء جاز على وجهين : أحدهما : أن تكون محذوفة ، وهي مرادة ، والآخر أن يكون مرادا تقديمها إلى الجزاء فكأنه قال : أفهم الخالدون إن متّ.
وقوله( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) يقول تعالى ذكره : كل نفس منفوسة من خلقه ، معالجة غصص الموت ومتجرّعة كأسها.
وقوله( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) يقول تعالى ذكره : ونختبركم أيها الناس بالشر وهو الشدة نبتليكم بها ، وبالخير وهو الرخاء والسعة العافية فنفتنكم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين : قال : ثني

(18/439)


حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، قوله( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) قال : بالرخاء والشدة ، وكلاهما بلاء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) يقول : نبلوكم بالشر بلاء ، والخير فتنة ، ( وإلينا ترجعون).
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) قال : نبلوهم بما يحبون وبما يكرهون ، نختبرهم بذلك لننظر كيف شكرهم فيما يحبون ، وكيف صبرهم فيما يكرهون.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ ) يقول : نبتليكم بالشدة والرخاء ، والصحة والسقم ، والغنى والفقر ، والحلال والحرام ، والطاعة والمعصية ، والهدى والضلالة ، وقوله( وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) يقول : وإلينا يردّون فيجازون بأعمالهم ، حسنها وسيئها.

(18/440)


وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( وَإِذَا رَآكَ ) يا محمد( الَّذِينَ كَفَرُوا ) بالله ، ( إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا ) يقول : ما يتخذونك إلا سخريا يقول بعضهم لبعض( أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ) يعني بقوله : يذكر آلهتكم بسوء ويعيبها ، تعجبا منهم من ذلك ، يقول الله تعالى ذكره : فيعجبون من ذكرك يا محمد آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بسوء( وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ ) الذي خلقهم وأنعم عليهم ، ومنه نفعهم ، وبيده ضرّهم ، وإليه مرجعهم بما هو أهله منهم ؛ أن يذكروه به( كافرون ) والعرب تضع الذكر موضع المدح والذمّ ، فيقولون : سمعنا فلانا يذكر فلانا ، وهم يريدون سمعناه يذكره بقبيح ويعيبه ؛ ومن ذلك قول

(18/440)


خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)

عنترة :
لا تَذْكُرِي مُهْرِي ومَا أطْعَمْتُهُ... فَيكُونَ جِلْدُكِ مِثلَ جِلْدِ الأجْرَبِ (1)
يعني بذلك : لا تعيبي مهري. وسمعناه يُذكر بخير.
القول في تأويل قوله تعالى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) }
يقول تعالى ذكره( خَلَقَ الإنْسَانَ ) يعني آدم( مِنْ عَجَلٍ ).
واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : من عجل في بنيته وخلقته ، كان من العجلة ، وعلى العجلة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد في قوله( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) قال : لما نفخ فيه الروح في ركبتيه ذهب لينهض ، فقال الله : ( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ).
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما نفخ فيه يعني في آدم الروح ، فدخل في رأسه عطس ، فقالت الملائكة : قل الحمد لله ، فقال : الحمد لله ، فقال الله له : رحمك ربك ، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة ؛ فذلك حين يقول( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) يقول : خلق الإنسان عجولا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) قال : خلق عجولا.
__________
(1) البيت لعنترة بن عمرو بن شداد العبسي ( مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة الحلبي ، ص 396 ) يقول : لا تلوميني بذكر مهري وطعامه ، وإلا نفرت منك كما ينفر الصحيح من الأجرب . يعني لا تعيبي مهري ولا تلوميني من أجل اهتمامي به ، فهو وسيلتي للدفاع عنك وعن قومي .

(18/441)


وقال آخرون : معناه : خلق الإنسان من عجل : أي من تعجيل في خلق الله إياه ومن سرعة فيه وعلى عجل ، وقالوا : خلقه الله في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس على عجل في خلقه إياه قبل مغيبها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) قال : قول آدم حين خُلق بعد كلّ شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق : فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ، ولم تبلغ أسفله ، قال : يا رب استعجل بخلقي قبل غروب بالشمس. (1)
حدثني الحارث ، قال ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) قال آدم حين خُلق بعد كلّ شيء ثم ذكر نحوه ، غير أنه قال في حديثه : استعجلْ بخلقي فقد غربت الشمس.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) قال : على عجل آدم آخر ذلك اليوم من ذينك اليومين ، يريد يوم الجمعة ، وخلقه على عجل ، وجعله عجولا.
وقال بعض أهل العربية من أهل البصرة ممن قال نحو هذه المقالة : إنما قال : ( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) وهو يعني أنه خلقه من تعجيل من الأمر ، لأنه قال( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) قال : فهذا العجل. وقوله( فَلا تَسْتَعْجِلُونِ إِنِّي سَأُرِيكُمْ آيَاتِي ) وعلى قول صاحب هذه المقالة ، يجب أن يكون كل خلق الله خُلق على عجل ، لأن كل ذلك خلق بأن قيل له كن فكان. فإذا كان ذلك كذلك ، فما وجه خصوص الإنسان إذا بذكر أنه خُلق من عجل دون الأشياء كلها ، وكلها مخلوق من عجل ، وفي خصوص الله تعالى ذكره الإنسان بذلك الدليل الواضح ، على أن القول في ذلك غير الذي قاله صاحب هذه المقالة.
__________
(1) هذا السند تكرار للذي قبله من غير فرق .

(18/442)


وقال آخرون منهم : هذا من المقلوب ، وإنما خُلق العجل من الإنسان ، وخُلقت العجلة من الإنسان. وقالوا : ذلك مثل قوله( مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) وإنما هو لتنوء العصبة بها متثاقلة ، وقالوا : هذا وما أشبهه في كلام العرب كثير مشهور ، قالوا : وإنما كلم القوم بما يعقلون ، قالوا : وذلك مثل قولهم : عَرضتُ الناقة ، وكقولهم : إذا طلعت الشعرى واستوت العود على الحِرْباء : أي استوت الحرباء على العود ، كقول الشاعر :
وَتَرْكَبُ خَيْلا لا هَوَادَةَ بَيْنَها... وَتَشْقَى الرّماحُ بالضياطِرَة الحُمْرِ (1)
وكقول ابن مقبل :
حَسَرْتُ كَفِّي عَنِ السِّربالِ آخُذُهُ... فَرْدًا يُجَرُّ عَلى أيْدِي المُفَدّينا (2)
يريد : حسرت السربال عن كفي ، ونحو ذلك من المقلوب ، وفي إجماع أهل التأويل على خلاف هذا القول ، الكفاية المغنية عن الاستشهاد على فساده بغيره.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا الذي ذكرناه عمن قال معناه : خُلق الإنسان من عجل في خلقه : أيْ على عجل وسرعة في ذلك ، وإنما قيل ذلك كذلك ، لأنه بُودر بخلقه مغيب الشمس في آخر ساعة من نهار يوم الجمعة ، وفي ذلك الوقت نفخ فيه الروح.
وإنما قلنا أولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب ، لدلالة قوله تعالى( سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ) علي ذلك.
وأن أبا كريب ، حدثنا قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا محمد بن
__________
(1) البيت لخداش بن زهير ( اللسان : ضطر ) . الجوهري : الضيطر : الرجل الضخم الذي لا غناء عنده ؛ وكذلك الضواطر والضوطري . وفي حديث علي : من يعذرني من هؤلاء الضياطرة : هم الضخام الذين لا غناء عندهم ، الواحد ضيطار . وقول خداش : " وتركب خيلا . . . البيت " : قال ابن سيده : يجوز أن يكون عني أن الرماح تشفى بهم ، أي أنهم لا يحسنون حملها ، ولا الطعن بها ، ويجوز أن يكون على " القلب " أي تشقى الضياطرة الحمر بالرماح ؛ يعني أنهم يقتلون بها . والهوادة : المصالحة والموادعة . والبيت شاهد على القلب .
(2) البيت لتميم بن أبي مقبل ، كما قال المؤلف . وحسرت كفي عن السربال : يريد حسرت السربال عنها . والسربال : القميص والدرع . والمفدون : الذي يقولون لي فديناك من المكاره ، تعظيما لي وإكبارا لبلائي في الحرب ؛ وهو كالشاهد قبله على أن الكلام فيه مقلوب ، لأنه يريد حسرت السربال عن كفي ، لشجاعتي .

(18/443)


عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ فِي الجُمُعَةِ لَساعَةٌ يَقَلِّلُها (1)
، قال لا يُوَافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسأْلُ اللهَ فِيها خَيْرًا إلا أتاهُ اللهُ إيَّاهُ فقال عبد الله بن سلام : قد علمت أيّ ساعة هي ، هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة ، قال الله( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا المحاربي وعبدة بن سليمان وأسير بن عمرو ، عن محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو سلمة ، عن أبى هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وذكر كلام عبد الله بن سلام بنحوه.
فتأويل الكلام إذا كان الصواب في تأويل ذلك ما قلنا بما به استشهدنا( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) ولذلك يستعجل ربه بالعذاب( سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ) أيها المستعجلون ربهم بالآيات القائلون لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم : بل هو شاعر ، فليأتنا بآية كما أرسل الأوّلون آياتي ، كما أريتها من قبلكم من الأمم التي أهلكناها بتكذيبها الرسل ، إذا أتتها الآيات فلا تستعجلون ، يقول : فلا تستعجلوا ربكم ، فإنا سنأتيكم بها ونريكموها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) بضمّ الخاء على مذهب ما لم يسمّ فاعله. وقرأه حُميد الأعرج( خَلَقَ ) بفتحها ، بمعنى : خلق الله الإنسان ، والقراءة التي عليها قرّاء الأمصار ، هي القراءة التي لا أستجيز خلافها.
وقوله( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) يقول تعالى ذكره : ويقول هؤلاء المستعجلون ربهم بالآيات والعذاب لمحمد صلى الله عليه وسلم : متى هذا الوعد : يقول : متى يجيئنا هذا الذي تعدنا من العذاب إن كنتم صادقين فيما تعدوننا به من ذلك. وقيل( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) كأنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به ، و متى في موضع نصب ، لأن معناه : أي وقت هذا الوعد وأيّ يوم هو فهو نصب على الظرف لأنه وقت.
__________
(1) في ابن كثير ، رواية ابن أبي حاتم : " وقبض أصابعه يقللها " .

(18/444)


لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) }
يقول تعالى ذكره : لو يعلم هؤلاء الكفار المستعجلون عذاب ربهم ماذا لهم من البلاء حين تلفح وجوههم النار ، وهم فيها كالحون ، فلا يكفون عن وجوههم النار التي تلفحها ، ولا عن ظهورهم فيدفعونها عنها بأنفسهم( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ).
يقول : ولا لهم ناصر ينصرهم ، فيستنقذهم حينئذ من عذاب الله لما أقاموا على ما هم عليه مقيمون من الكفر بالله ، ولسارعوا إلى التوبة منه والإيمان بالله ، ولما استعجلوا لأنفسهم البلاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) }
يقول تعالى ذكره : لا تأتي هذه النار التي تلفح وجوه هؤلاء الكفار الذين وصف أمرهم في هذه السورة حين تأتيهم عن علم منهم بوقتها ، ولكنها تأتيهم مفاجأة لا يشعرون بمجيئها فتبهتهم : يقول : فتغشاهم فجأة ، وتلفح وجوههم معاينة كالرجل يبهت الرجل في وجهه بالشيء ، حتى يبقى المبهوت كالحيران منه( فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا ) يقول : فلا يطيقون حين تبغتهم فتبهتهم دفعها عن أنفسهم( وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) يقول : ولا هم وإن لم يطيقوا دفعها عن أنفسهم يؤخرون بالعذاب بها لتوبة يحدثونها ، وإنابة ينيبون ، لأنها ليست حين عمل وساعة توبة وإنابة ، بل هي ساعة مجازاة وإثابة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن يتخذك يا محمد

(18/445)


قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)

هؤلاء القائلون لك : هل هذا إلا بشر مثلكم ، أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ، إذ رأوك هُزُوا ويقولون : هذا الذي يذكر آلهتكم كفرا منهم بالله ، واجتراء عليه ، فلقد استهزئ برسل من رسلنا الذين أرسلناهم من قبلك إلى أممهم ، يقول : فوجب ونزل بالذين استهزءوا بهم ، وسخروا منهم من أممهم ما كانوا به يستهزئون : يقول جلّ ثناؤه : حلّ بهم الذي كانوا به يستهزءون من البلاء والعذاب الذي كانت رسلهم تخوّفهم نزوله بهم ، يستهزءون : يقول جلّ ثناؤه ، فلن يعدو هؤلاء المستهزءون بك من هؤلاء الكفرة أن يكونوا كأسلافهم من الأمم المكذّبة رسلها ، فينزل بهم من عذاب الله وسخطه باستهزائهم بك نظير الذي نزل بهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد بهؤلاء المستعجليك بالعذاب ، القائلين : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين من يكلؤكم أيها القوم : يقول : من يحفظكم ويحرسكم بالليل إذا نمتم ، وبالنهار إذا تصرّفتم من الرحمن ؟ يقول : من أمر الرحمن إن نزل بكم ، ومن عذابه إن حلّ بكم ، وترك ذكر الأمر ، وقيل من الرحمن اجتزاء بمعرفة السامعين لمعناه من ذكره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله( قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ) قال : يحرسكم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة( قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ) قل من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن ، يقال منه : كلأت القوم : إذا حرستهم ، أكلؤهم ، كما قال ابن هَرْمة :
إنَّ سُلَيْمَى( واللهُ يَكْلَؤُها)... ضَنَّتْ بِشَيْءٍ ما كانَ يَرْزَؤُها (1)
__________
(1) البيت لإبراهيم بن هرمة ، كما قال المؤلف . وقد جاء في ( اللسان : كلأ ) غير منسوب . وفيه " بزاد " في موضع " بشيء " . قال : يقال : كلأك الله كلاءة ( بالكسر ) حفظك الله وحرسك .
وأنشد " إن سليمي ... البيت " وجملة ( والله يكلؤها ) اعتراضية للدعاء . ويرزؤها : ينقص منها ويضيرها . يريد : ضنت بشيء هين عليها لو بذلته لنا واستشهد المؤلف به على أن معنى يكلأ يحفظ ، كما قال أهل اللغة .

(18/446)


أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)

قوله( بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ) وقوله بل : تحقيق لجحد قد عرفه المخاطبون بهذا الكلام ، وإن لم يكن مذكورا في هذا الموضع ظاهرا.
ومعنى الكلام : وما لهم أن لا يعلموا أنه لا كالئ لهم من أمر الله إذا هو حلّ بهم ليلا أو نهارا ، بل هم عن ذكر مواعظ ربهم وحججه التي احتجّ بها عليهم معرضون لا يتدبرون ذلك فلا يعتبرون به ، جهلا منهم وسفها.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) }
يقول تعالى ذكره : الهؤلاء المستعجلي ربهم بالعذاب آلهة تمنعهم ، إن نحن أحللنا بهم عذابنا ، وأنزلنا بهم بأسنا من دوننا ؟ ومعناه : أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم منا ، ثم وصف جلّ ثناؤه الآلهة بالضعف والمهانة ، وما هي به من صفتها ، فقال وكيف تستطيع آلهتهم التي يدعونها من دوننا أن تمنعهم منا وهي لا تستطيع نصر أنفسها ، وقوله : ( وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) اختلف أهل التأويل في المعني بذلك ، وفي معنى يُصْحبون ، فقال بعضهم : عنى بذلك الآلهة ، وأنها لا تصحب من الله بخير.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ ) يعني الآلهة( وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) يقول : لا يصحبون من الله بخير.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا هم منا ينصرون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا أبو ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) قال : لا ينصرون.

(18/447)


بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا ) إلى قوله : (يُصْحَبُونَ) قال : ينصرون ، قال : قال مجاهد : ولا هم يُحْفظون.
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) يُجَارُون (1) .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) يقول : ولا هم منا يجارون ، وهو قوله( وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ ) يعني الصاحب ، وهو الإنسان يكون له خفير مما يخاف ، فهو قوله يصحبون.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : هذا القول الذي حكيناه عن ابن عباس ، وأن(هُمْ) من قوله(ولا هُمْ) من ذكر الكفار ، وأن قوله(يُصْحَبُونَ) بمعنى : يجارون يصحبون بالجوار ؛ لأن العرب محكي عنها أنا لك جار من فلان وصاحب ، بمعنى : أجيرك وأمنعك ، وهم إذا لم يصحبوا بالجوار ، ولم يكن لهم مانع من عذاب الله مع سخط الله عليهم ، فلم يصحبوا بخير ولم ينصروا.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) }
يقول تعالى ذكره : ما لهؤلاء المشركين من آلهة تمنعهم من دوننا ، ولا جار يجيرهم من عذابنا ، إذا نحن أردنا عذابهم ، فاتكلوا على ذلك ، وعصوا رسلنا اتكالا منهم على ذلك ، ولكنا متعناهم بهذه الحياة الدنيا وآباءهم من قبلهم حتى
__________
(1) لم يقدم قبل هذا القول الأخير خلاصته ، كعادته التي سار عليها ، قبل ذكر القائلين له . كان يقول : وقال بعضهم : بل معناه يجأرون .

(18/448)


طال عليهم العمر ، وهم على كفرهم مقيمون ، لا تأتيهم منا واعظة من عذاب ، ولا زاجرة من عقاب على كفرهم وخلافهم أمرنا ، وعبادتهم الأوثان والأصنام ، فنسوا عهدنا وجهلوا موقع نعمتنا عليهم ، ولم يعرفوا موضع الشكر ، وقوله( أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) يقول تعالى ذكره : أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله السائلو محمد صلى الله عليه وسلم الآيات المستعجلو بالعذاب ، أنا نأتي الأرض نخرّبها من نواحيها بقهرنا أهلها ، وغلبتناهم ، وإجلاؤهم عنها ، وقتلهم بالسيوف ، فيعتبروا بذلك ويتعظوا به ، ويحذروا منا أن ننزل من بأسنا بهم نحو الذي قد أنزلنا بمن فعلنا ذلك به من أهل الأطراف ، وقد تقدم ذكر القائلين بقولنا هذا ومخالفيه بالروايات عنهم في سورة الرعد ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله( أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ) يقول تبارك وتعالى : أفهؤلاء المشركون المستعجلو محمدا بالعذاب الغالبونا ، وقد رأوا قهرنا من أحللنا بساحته بأسنا في أطراف الأرضين ، ليس ذلك كذلك ، بل نحن الغالبون ، وإنما هذا تقريع من الله تعالى لهؤلاء المشركين به بجهلهم ، يقول : أفيظنون أنهم يغلبون محمدا ويقهرونه ، وقد قهر من ناوأه من أهل أطراف الأرض غيرهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ) يقول : ليسوا بغالبين ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الغالب.

(18/449)


قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء القائلين فليأتنا بآية كما أرسل الأولون : إنما أنذركم أيها القوم بتنزيل الله الذي يوحيه إلى من عنده ، وأخوّفكم به بأسه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ) أي بهذا القرآن.

(18/449)


وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)

وقوله( وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : (ولا يسمع بفتح الياء من( يَسْمَعُ) بمعنى أنه فعل للصمّ ، والصمّ حينئذ مرفوعون ، ورُوي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرأ( ولا تُسْمعُ ) بالتاء وضمها ، فالصمّ على هذه القراءة مرفوعة ، لأن قوله( لا تُسْمِعُ ) لم يسمّ فاعله ، ومعناه على هذه القراءة : ولا يسمع الله الصمّ الدعاء.
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندنا في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، ومعنى ذلك : ولا يصغي الكافر بالله بسمع قلبه إلى تذكر ما في وحي الله من المواعظ والذكر ، فيتذكر به ويعتبر ، فينزجر عما هو عليه مقيم من ضلاله إذا تُلي عليه وأُريد به ، ولكنه يعرض عن الاعتبار به والتفكر فيه ، فعل الأصمّ الذي لا يسمع ما يقال له فيعمل به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ) يقول : إن الكافر قد صمّ عن كتاب الله لا يسمعه ، ولا ينتفع به ولا يعقله ، كما يسمعه المؤمن وأهل الإيمان.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) }
يقول تعالى ذكره : ولئن مست هؤلاء المستعجلين بالعذاب يا محمد نفحة من عذاب ربك ، يعني بالنفحة النصيب والحظّ ، من قولهم : نفح فلان لفلان من عطائه : إذا أعطاه قسما أو نصيبا من المال.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ ). .. الآية ، يقول : لئن أصابتهم عقوبة.
وقوله( لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) يقول : لئن أصابتهم هذه النفحة من عقوبة ربك يا محمد بتكذيبهم بك وكفرهم ، ليعلمن حينئذ غبّ تكذيبهم بك ، وليعترفن على أنفسهم بنعمة الله وإحسانه إليهم وكفرانهم أياديه عندهم ،

(18/450)


وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)

وليقولن يا ويلنا إنا كان ظالمين في عبادتنا الآلهة والأنداد ، وتركنا عبادة الله الذي خلقنا وأنعم علينا ، ووضعنا العبادة غير موضعها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) }
يقول تعالى ذكره( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ ) العدل وهو(القِسْطَ) وجعل القسط وهو موحد من نعت الموازين ، وهو جمع لأنه في مذهب عدل ورضا ونظر. وقوله( لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) يقول : لأهل يوم القيامة ، ومن ورد على الله في ذلك اليوم من خلقه ، وقد كان بعض أهل العربية يوجه معنى ذلك إلى " في " كأن معناه عنده : ونضع الموازين القسط في يوم القيامة ، وقوله( فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ) يقول : فلا يظلم الله نفسا ممن ورد عليه منهم شيئا بأن يعاقبه بذنب لم يعمله أو يبخسه ثواب عمل عمله ، وطاعة أطاعه بها ، ولكن يجازي المحسن بإحسانه ، ولا يعاقب مسيئا إلا بإساءته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ )... إلى آخر الآية ، وهو كقوله( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) يعني بالوزن : القسط بينهم بالحقّ في الأعمال الحسنات والسيئات ، فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه ، يقول : أذهبت حسناته سيئاته ، ومن أحاطت سيئاته بحسناته فقد خفَّت موازينه وأمه هاوية ، يقول : أذهبت سيئاته حسناته.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) قال : إنما هو مثل ، كما يجوز الوزن كذلك يجوز الحقّ ، قال الثوري : قال ليث عن مجاهد( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ ) قال : العدل.

(18/451)


وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)

وقوله( وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ) يقول : وإن كان الذي من عمل الحسنات ، أو عليه من السيئات وزن حبة من خردل أتينا بها : يقول : جئنا بها فأحضرناها إياه.
كما حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ابن زيد ، في قوله( وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ) قال : كتبناها وأحصيناها له وعليه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ) قال : يؤتي بها لك وعليك ، ثم يعفو إن شاء أو يأخذ ، ويجزي بما عمل له من طاعة ، وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ) قال : جازينا بها.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد أنه كان يقول( وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ) قال : جازينا بها ، وقال أتينا بها ، فأخرج قوله بها مخرج كناية المؤنث ، وإن كان الذي تقدم ذلك قوله مثقال حبة ، لأنه عني بقوله بها الحبة دون المثقال ، ولو عني به المثقال لقيل به ، وقد ذكر أن مجاهدا إنما تأوّل قوله( أَتَيْنَا بِهَا ) على ما ذكرنا عنه ، لأنه كان يقرأ ذلك( آتَيْنا بها) بمدّ الألف. وقوله : ( وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) يقول : وحسب من شهد ذلك الموقف بنا حاسبين ، لأنه لا أحد أعلم بأعمالهم وما سلف في الدنا من صالح أو سيئ منا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) }
يقول تعالى ذكره : ولقد آتينا موسى بن عمران وأخاه هارون الفرقان ، يعني به الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل ، وذلك هو التوراة في قول بعضهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ،

(18/452)


قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (الفُرْقان) قال : الكتاب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ) الفرقان : التوراة حلالها وحرامها ، وما فرق الله به بين الحق والباطل.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ) قال : الفرقان : الحق آتاه الله موسى وهارون ، فرق بينهما وبين فرعون ، قضى بينهم بالحق ، وقرأ( وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ) قال : يوم بدر.
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله ابن زيد في ذلك أشبه بظاهر التنزيل ، وذلك لدخول الواو في الضياء ، ولو كان الفرقان هو التوراة كما قال من قال ذلك ، لكان التنزيل : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء ، لأن الضياء الذي آتى الله موسى وهارون هو التوراة التي أضاءت لهما ولمن اتبعهما أمر دينهم فبصرّهم الحلال والحرام ، ولم يقصد بذلك في هذا الموضع ضياء الإبصار ، وفي دخول الواو في ذلك دليل على أن الفرقان غير التوراة التي هي ضياء.
فإن قال قائل : وما ينكر أن يكون الضياء من نعت الفرقان ، وإن كانت فيه واو فيكون معناه : وضياء آتيناه ذلك ، كما قال( بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا ) ؟ قيل له : إن ذلك وإن كان الكلام يحتمله ، فإن الأغلب من معانيه ما قلنا ، والواجب أن يوجه معاني كلام الله إلى الأغلب الأشهر من وجوهها المعروفة عند العرب ما لم يكن بخلاف ذلك ما يجب التسليم له من حجة خبر أو عقل.
وقوله( وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ) يقول : وتذكيرا لمن اتقى الله بطاعته وأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، ذكرّهم بما آتى موسى وهارون من التوراة.
القول في تأويل قوله تعالى

(18/453)


الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)

: { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)}
يقول تعالى ذكره : آتينا موسى وهارون الفرقان : الذكر الذي آتيناهما للمتقين الذين يخافون ربهم بالغيب ، يعني في الدنيا أن يعاقبهم في الآخرة إذا قدموا عليه بتضييعهم ما ألزمهم من فرائضه فهم من خشيته ، يحافظون على حدوده وفرائضه ، وهم من الساعة التي تقوم فيها القيامة مشفقون ، حذرون أن تقوم عليهم ، فيردوا على ربهم قد فرّطوا في الواجب عليهم لله ، فيعاقبهم من العقوبة بما لا قِبَل لهم به.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) }
يقول جلّ ثناؤه : وهذا القرآن الذي أنزلناه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ذكر لمن تذكر به ، وموعظة لمن اتعظ به( مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ ) كما أنزلنا التوراة إلى موسى وهارون ذكرا للمتقين( أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) يقول تعالى ذكره : أفأنتم أيها القوم لهذا الكتاب الذي أنزلناه إلى محمد منكرون وتقولون هو( أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ) وإنما الذي آتيناه من ذلك ذكر للمتقين ، كالذي آتينا موسى وهارون ذكرا للمتقين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ )... إلى قوله( أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) أي هذا القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) }

(18/454)


يقول تعالى ذكره( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ) موسى وهارون ، ووفَقناه للحقّ ، وأنقذناه من بين قومه وأهل بيته من عبادة الأوثان ، كما فعلنا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى إبراهيم ، فأنقذناه من قومه وعشيرته من عبادة الأوثان ، وهديناه إلى سبيل الرشاد توفيقا منا له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ) قال : هديناه صغيرا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ) قال : هداه صغيرا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ) قال : هداه صغيرا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ) يقول : آتينا هداه.
وقوله( وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ) يقول : وكنا عالمين به أنه ذو يقين وإيمان بالله وتوحيد له ، لا يشرك به شيئا( إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ) يعني في وقت قيله وحين قيله لهم( مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ) يقول : قال لهم : أيّ شيء هذه الصور التي أنتم عليها مقيمون ، وكانت تلك التماثيل أصنامهم التي كانوا يعبدونها.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ) قال : الأصنام.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله. وقد بيَّنا فيما مضى من كتابنا هذا أن العاكف على الشيء المقيم عليه بشواهد ذلك ، وذكرنا الرواية عن أهل التأويل.

(18/455)


قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ (55) }
يقول تعالى ذكره : قال أبو إبراهيم وقومه لإبراهيم : وجدنا آباءنا لهذه الأوثان عابدين ، فنحن على ملة آبائنا نعبدها كما كانوا يعبدون ، (قال) إبراهيم(لَقَدْ كُنْتُم) أيها القوم( أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ) بعبادتكم إياها( فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) يقول : في ذهاب عن سبيل الحقّ ، وجور عن قصد السبيل مبين : يقول : بين لمن تأمله بعقل ، إنكم كذلك في جور عن الحقّ( قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ ) ؟ يقول : قال أبوه وقومه له : أجئتنا بالحقّ فيما تقول( أَمْ أَنْتَ ) هازل لاعب( مِنَ اللاعِبِينَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) }
يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم لهم : بل جئتكم بالحق لا اللعب ، ربكم ربّ السماوات والأرض الذي خلقهنّ ، وأنا على ذلكم من أن ربكم هو ربّ السماوات والأرض الذي فطرهنّ ، دون التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، ودون كلّ أحد سواه شاهد من الشاهدين ، يقول : فإياه فاعبدوا لا هذه التماثيل التي هي خلقه التي لا تضرّ ولا تنفع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) }

(18/456)


فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) }
ذكر أن إبراهيم صلوات الله عليه حلف بهذه اليمين في سرّ من قومه وخفاء ، وأنه لم يسمع ذلك منه إلا الذي أفشاه عليه حين قالوا. من فعل هذا بآلهتنا

(18/456)


إنه لمن الظالمين ، فقالوا : سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.
*ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ) قال : قول إبراهيم حين استتبعه قومه إلى عيد لهم فأبى وقال : إني سقيم ، فسمع منه وعيد أصنامهم رجل منهم استأخر ، وهو الذي يقول( سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ) قال : نرى أنه قال ذلك حيث لم يسمعوه بعد أن تولَّوا مدبرين.
وقوله( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا ) (1) بمعنى جمع جذيذ ، كأنهم أرادوا به جمع جذيذ وجذاذ ، كما يجمع الخفيف خفاف ، والكريم كرام.
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأه(جُذَاذا) بضمّ الجيم ، لإجماع قرّاء الأمصار عليه ، وأن ما أجمعت عليه فهو الصواب ، وهو إذا قرئ كذلك مصدر مثل الرُّفات ، والفُتات ، والدُّقاق لا واحد له ، وأما من كسر الجيم فإنه جمع للجذيذ ، والجذيذ : هو فعيل صُرِف من مجذوذ إليه ، مثل كسير وهشيم ، والمجذوذة : المكسورة قِطَعا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا ) يقول : حُطاما.
__________
(1) في العبارة هنا قصور ، ولعل بها سقطا ، وسيوضحها المؤلف في كلامه الآتي بعدها . والحاصل أن قراءة عامة القراء " جذاذا " بضم الجيم ، قيل هو مفرد كحطام ، وقيل من الجمع العزيز . وقرأ ابن وثاب وجماعة بالكسر ، وهو جذيذ ، ونظيره كريم وكرام .

(18/457)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(جُذَاذًا) كالصَّريم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا ) : أي قطعا.
وكان سبب فعل إبراهيم صلوات الله عليه بآلهة قومه ذلك ، كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط عن السديّ أن إبراهيم قال له أبوه : يا إبراهيم إن لنا عيدا لو قد خرجت معنا إليه قد أعجبك ديننا ، فلما كان يوم العيد ، فخرجوا إليه ، خرج معهم إبراهيم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال : إني سقيم ، يقول : أشتكي رجلي فتواطئوا رجليه وهو صريع ؛ فلما مضوا نادى في آخرهم ، وقد بقي ضَعْفَى الناس( وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) فسمعوها منه ، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة ، فإذا هنّ في بهو عظيم ، مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى بعض ، كل صنم يليه أصغر منه ، حتى بلغوا باب البهو ، وإذا هم قد جعلوا طعاما ، فوضعوه بين أيدي الآلهة ، قالوا : إذا كان حين نرجع رجعنا ، وقد باركت الآلهة في طعامنا فأكلنا ، فلما نظر إليهم إبراهيم ، وإلى ما بين أيديهم من الطعام( قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) فلما لم تجبه ، قال( مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ) فأخذ فأس حديد ، فنقر كلّ صنم في حافتيه ، ثم علَّق الفأس في عنق الصنم الأكبر ، ثم خرج ، فلما جاء القوم إلى طعامهم نظروا إلى آلهتهم( قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ).
وقوله( إِلا كَبِيرًا لَهُمْ ) يقول : إلا عظيما للآلهة ، فإن إبراهيم لم يكسره ، ولكنه فيما ذكر علق الفأس في عنقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني

(18/458)


قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)

حجاج ، عن ابن جُرَيج( إِلا كَبِيرًا لَهُمْ ) قال : قال ابن عباس ، إلا عظيما لهم عظيم آلهتهم ، قال ابن جُرَيْج ، وقال مجاهد : وجعل إبراهيم الفأس التي أهلك بها أصنامهم مُسْندة إلى صدر كبيرهم الذي تَرَك.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : جعل إبراهيم الفأس التي أهلك بها أصنامهم مسندة إلى صدر كبيرهم الذي ترك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أقبل عليهنّ كما قال الله تبارك وتعالى( ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ) ثم جعل يكسرهنّ بفأس في يده ، حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده ، ثم تركهنّ ، فلما رجع قومه ، رأوا ما صنع بأصنامهم ، فراعهم ذلك وأعظموه وقالوا : من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ، وقوله( لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ) يقول : فعل ذلك إبراهيم بآلهتهم ليعتبروا ويعلموا أنها إذا لم تدفع عن نفسها ما فعل بها إبراهيم ، فهي من أن تدفع عن غيرها من أرادها بسوء أبعد ، فيرجعوا عما هم عليه مقيمون من عبادتها إلى ما هو عليه من دينه وتوحيد الله ، والبراءة من الأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ) قال : كادهم بذلك لعلهم يتذكرون أو يبصرون.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) }
يقول تعالى ذكره : قال قوم إبراهيم لما رأوا آلهتهم قد جذّت ، إلا الذي ربط به الفأسَ إبراهيم : من فعل هذا بآلهتنا ؟ إن الذي فعل هذا بآلهتنا لمن

(18/459)


الظالمين! أي لمن الفاعلين بها ما لم يكن له فعله
( قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ) يقول : قال الذين سمعوه يقول( وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) سمعنا فتى يذكرهم بعيب يقال له إبراهيم.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ) قال ابن جُرَيج : يذكرهم يعيبهم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قوله( سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ) سمعناه يسبها ويعيبها ويستهزئ بها ، لم نسمع أحدا يقول ذلك غيره ، وهو الذي نظن صنع هذا بها.
وقوله( فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ) يقول تعالى ذكره : قال قوم إبراهيم بعضهم لبعض : فأتوا بالذي فعل هذا بآلهتنا الذي سمعتموه يذكرها بعيب ويسبها ويذمها على أعين الناس ؛ فقيل : معنى ذلك : على رءوس الناس. وقال بعضهم : معناه : بأعين الناس ومرأى منهم ، وقالوا : إنما أريد بذلك أظهروا الذي فعل ذلك للناس كما تقول العرب إذا ظهر الأمر وشهر : كان ذلك على أعين الناس ، يراد به كان بأيدي الناس.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله( لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ) فقال بعضهم : معناه : لعلّ الناس يشهدون عليه ، أنه الذي فعل ذلك ، فتكون شهادتهم عليه حجة لنا عليه ، وقالوا إنما فعلوا ذلك لأنهم كرهوا أن يأخذوه بغير بينة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ) عليه أنه فعل ذلك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ) قال : كرهوا أن يأخذوه بغير بيِّنة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لعلهم يشهدون ما يعاقبونه به ، فيعاينونه ويرونه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : بلغ ما فعل إبراهيم بآلهة قومه نمرود ، وأشراف قومه ، فقالوا :

(18/460)


قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)

( فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ) : أي ما يُصْنع به ، وأظهر معنى ذلك أنهم قالوا : فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون عقوبتنا إياه ، لأنه لو أريد بذلك ليشهدوا عليه بفعله كان يقال : انظروا من شهده يفعل ذلك ، ولم يقل : أحضروه بمجمع من الناس.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) }
يقول تعالى ذكره : فأتوا بإبراهيم ، فلما أتوا به قالوا له : أأنت فعلت هذا بآلهتنا من الكسر بها يا إبراهيم ؟ فأجابهم إبراهيم : بل فعله كبيرهم هذا وعظيمهم ، فاسألوا الآلهة من فعل بها ذلك وكسرها إن كانت تنطق ، أو تعبر عن نفسها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما أُتِي به واجتمع له قومه عند ملكهم نمرود( قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ) غضب من أن يعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها ، فكسرهن.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا )... الآية ، وهي هذه الخصلة التي كادهم بها.
وقد زعم بعض من لا يصدّق بالآثار ، ولا يقبل من الأخبار إلا ما استفاض به النقل من العوامّ ، أن معنى قوله( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) إنما هو : بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم ، أي إن كانت الآلهة المكسورة تنطق ، فإن كبيرهم هو الذي كسرهم ، وهذا قول خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلها في الله ، قوله( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) وقوله( إِنِّي سَقِيمٌ ) وقوله لسارة :

(18/461)


فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)

هي أختي ، وغير مستحيل أن يكون الله تعالى ذكْره أذن لخليله في ذلك ، ليقرِّع قومه به ، ويحتجّ به عليهم ، ويعرّفهم موضع خطئهم ، وسوء نظرهم لأنفسهم ، كما قال مؤذّن يوسف لإخوته( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) ولم يكونوا سرقوا شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) }
يقول تعالى ذكره : فذكروا حين قال لهم إبراهيم صلوات الله عليه( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ) في أنفسهم ، ورجعوا إلى عقولهم ، ونظر بعضهم إلى بعض ، فقالوا : إنكم معشر القوم الظالمون هذا الرجل في مسألتكم إياه وقيلكم له من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم ، وهذه آلهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرتكم فاسألوها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ) قال : أرعوَوْا ورجعوا عنه يعني عن إبراهيم ، فيما ادّعوا عليه من كسرهنّ إلى أنفسهم فيما بينهم ، فقالوا : لقد ظلمناه وما نراه إلا كما قال.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ ) قال : نظر بعضهم إلى بعض( فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ).
وقوله( ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ ) يقول جلّ ثناؤه : ثم غُلبوا في الحجة ، فاحتجوا على إبراهيم بما هو حجة لإبراهيم عليهم ، فقالوا : لقد علمت ما هؤلاء الأصنام ينطقون.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم قالوا :

(18/462)


قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)

يعني قوم إبراهيم ، وعرفوا أنها ، يعني آلهتهم لا تضرّ ولا تنفع ولا تبطش : ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ) : أي لا تتكلم فتخبرنا من صنع هذا بها ، وما تبطش بالأيدي فنصدّقك ، يقول الله( ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ ) في الحجة عليهم لإبراهيم حين جادلهم ، فقال عند ذلك إبراهيم حين ظهرت الحجة عليهم بقولهم : ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قال الله( ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ ) أدركت الناس حَيرة سَوْء.
وقال آخرون : معنى ذلك : ثم نكسوا في الفتنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ ) قال : نكسوا في الفتنة على رءوسهم ، فقالوا : لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
وقال بعض أهل العربية : معنى ذلك : ثم رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيم ، فقالوا : لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
وإنما اخترنا القول الذي قلنا في معنى ذلك ، لأن نَكَس الشيء على رأسه : قلبه على رأسه وتصيير أعلاه أسفله ؛ ومعلوم أن القوم لم يقلبوا على رءوس أنفسهم ، وأنهم إنما نُكست حجتهم ، فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم ، وإذ كان ذلك كذلك ، فنَكْس الحجة لا شك إنما هو احتجاج المحتجّ على خصمه بما هو حجة لخصمه ، وأما قول السديّ : ثم نكسوا في الفتنة ، فإنهم لم يكونوا خرجوا من الفتنة قبل ذلك فنكسوا فيها.وأما قول من قال من أهل العربية ما ذكرنا عنه ، فقول بعيد من الفهوم ، لأنهم لو كانوا رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيم ، ما احتجوا عليه بما هو حجة له ، بل كانوا يقولون له : لا تسألهم ، ولكن نسألك فأخبرنا من فعل ذلك بها ، وقد سمعنا أنك فعلت ذلك ، ولكن صدقوا القول( فقالوا لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) وليس ذلك رجوعا عما كانوا عرفوا ، بل هو إقرار به.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ

(18/463)


أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)

مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) }
يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم لقومه : أفتعبدون أيها القوم ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ، وأنتم قد علمتم أنها لم تمنع نفسها ممن أرادها بسوء ، ولا هي تقدر أن تنطق إن سئلت عمن يأتيها بسوء فتخبر به ، أفلا تستحيون من عبادة ما كان هكذا.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ )... الآية ، يقول يرحمه الله : ألا ترون أنهم لم يدفعوا عن أنفسهم الضرّ الذي أصابهم ، وأنهم لا ينطقون فيخبرونكم من صنع ذلك بهم ، فكيف ينفعونكم أو يضرّون.
وقوله( أُفٍّ لَكُمْ ) يقول : قُبحا لكم وللآلهة التي تعبدون من دون الله ، أفلا تعقلون قبح ما تفعلون من عبادتكم ما لا يضرّ ولا ينفع ، فتتركوا عبادته ، وتعبدوا الله الذي فطر السماوات والأرض ، والذي بيده النفع والضرّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ (70) }
يقول تعالى ذكره : قال بعض قوم إبراهيم لبعض : حرّقوا إبراهيم بالنار( وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ) يقول : إن كنتم ناصريها ، ولم تريدوا ترك عبادتها.
وقيل : إن الذي قال ذلك رجل من أكراد فارس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : ( حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ ) قال : قالها رجل من أعراب فارس ، يعني الأكراد.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ،

(18/464)


قال : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبئي ، قال : إن الذي قال حرّقوه " هيزن " فخسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أجمع نمرود وقومه في إبراهيم فقالوا( حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ) أي لا تنصروها منه إلا بالتحريق بالنار إن كنتم ناصريها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، قال : تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر ، فقال : أتدري يا مجاهد من الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار ؟ قال : قلت لا قال : رجل من أعراب فارس. قلت : يا أبا عبد الرحمن ، أو هل للفرس أعراب ؟ قال : نعم الكرد هم أعراب فارس ، فرجل منهم هو الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار.
وقوله( قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) في الكلام متروك اجتزئ بدلالة ما ذكر عليه منه ، وهو : فأوقدوا له نارا ليحرقوه ثم ألقوه فيها ، فقلنا للنار : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، وذُكر أنهم لما أرادوا إحراقه بنوا له بنيانا ، كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال( قالوا ابنوا له بنيانا فألقو في الجحيم ) قال : فحبسوه في بيت ، وجمعوا له حطبا ، حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول : لئن عافاني الله لأجمعنّ حطبا لإبراهيم ، فلما جمعوا له ، وأكثروا من الحطب (1) حتى إن الطير لتمرّ بها فتحترق من شدة وهجها ، فعمدوا إليه فرفعوه على رأس البنيان ، فرفع إبراهيم صلى الله عليه وسلم رأسه إلى السماء ، فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة : ربنا ، إبراهيم يحرق فيك ، فقال : أنا أعلم به ، وإن دعاكم فأغيثوه ، وقال إبراهيم حين رفع رأسه إلى السماء : اللهم أنت الواحد في السماء ، وأنا الواحد في الأرض ليس في الأرض أحد يعبدك غيري ، حسبي الله ونعم الوكيل ، فقذفوه في النار ، فناداها فقال( يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) فكان جبريل عليه السلام هو الذي ناداها.
__________
(1) سقطت من هذا الخبر عبارة ذكر نحوها الثعلبي المفسر في عرائس المجالس ، وهي : أشعلوا النار في كل ناحية بالحطب ، فاشتعلت النار ، حتى إن كان الطير ليمر بها فيحترق . . . الخ .

(18/465)


وقال ابن عباس : لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من شدّة بردها ، فلم يبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت ، ظنت أنها هي تعنى ، فلما طُفئت النار نظروا إلى إبراهيم ، فإذا هو رجل آخر معه ، وإذا رأس إبراهيم في حجره يمسح عن وجهه العرق ، وذكر أن ذلك الرجل هو ملك الظلّ ، وأنزل الله نارا فانتفع بها بنو آدم ، وأخرجوا إبراهيم ، فأدخلوه على الملك ، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه.
حدثني إبراهيم بن المقدام أبو الأشعث ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي ، قال : ثنا قتاده ، عن أبي سليمان ، عن كعب ، قال : ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) قال : ذُكر لنا أن كعبا كان يقول : ما انتفع بها يومئذ أحد من الناس ، وكان كعب يقول : ما أحرقت النار يومئذ إلا وثاقه.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن شيخ ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله( قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) قال : بردت عليه حتى كادت تقتله ، حتى قيل : وسلاما ، قال : لا تضرّيه.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن المنهال بن عمرو ، قال : قال إبراهيم خليل الله : ما كنت أياما قطّ أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : لمَّا ألقي إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم في النار ، قال الملك خازن المطر : رب خليلك إبراهيم ، رجا أن يؤذن له فيرسل المطر ، قال : فكان أمر الله أسرع من ذلك فقال( قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) فلم يبق في الأرض نار إلا طُفئت.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الحارث ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة ، قال : إن أحسن شيء قاله أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق

(18/466)


وهو في النار ، وجده يرشح جبينه ، فقال عند ذلك : نعم الربّ ربك يا إبراهيم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجَبَسِي ، قال : ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ستّ عشرة سنة ، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين ، وولدته سارة وهي ابنة تسعين سنة ، وكان مذبحه من بيت إيلياء على ميلين ، ولما علمت سارة بما أراد بإسحاق بُطِنت يومين ، وماتت اليوم الثالث ، قال ابن جُرَيج : قال كعب الأحبار : ما أحرقت النار من إبراهيم شيئا غير وثاقه الذي أوثقوه به.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا معتمر بن سليمان التيمي ، عن بعض أصحابه قال : جاء جبريل إلى إبراهيم عليهما السلام وهو يوثق أو يقمَّط ليلقى في النار ، قال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال : أمَّا إليك فلا.
قال : ثنا معتمر ، قال : ثنا ابن كعب ، عن أرقم : أن إبراهيم قال حين جعلوا يوثقونه ليلقوه في النار : لا إله إلا أنت سبحانك ربّ العالمين ، لك الحمد ، ولك الملك لا شريك لك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله( قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) قال : السلام لا يؤذيه بردها ، ولولا أنه قال : وسلاما لكان البرد أشدّ عليه من الحرّ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله(بَرْدًا) قال : بردت عليه(وَسَلاما) لا تؤذيه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) قال : قال كعب : ما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار ، ولا أحرقت النار يومئذ شيئا إلا وثاق إبراهيم.
وقال قتادة : لم تأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار ، إلا الوزغ.
وقال الزهري : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله ، وسماه فُوَيسقا.
وقوله( وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا ) يقول تعالى ذكره : وأرادوا بإبراهيم كيدا( فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ ) يعني الهالكين.

(18/467)


وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)

وقد حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ ) قال : ألقوا شيخا منهم في النار لأن يصيبوا نجاته ، كما نجي إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فاحترق.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) }
يقول تعالى ذكره : ونجينا إبراهيم ولوطا من أعدائهما نمرود وقومه من أرض العراق( إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) وهي أرض الشأم ، فارق صلوات الله عليه وقومه ودينهم وهاجر إلى الشأم.
وهذه القصة التي قص ، الله من نبأ إبراهيم وقومه تذكير منه بها قوم محمد صلى الله عليه وسلم من قريش أنهم قد سلكوا في عبادتهم الأوثان ، وأذاهم محمدا على نهيه عن عبادتها ، ودعائهم إلى عبادة الله مخلصين له الدين ، مسلك أعداء أبيهم إبراهيم ، ومخالفتهم دينه ، وأن محمدا في براءته من عبادتها وإخلاصه العبادة لله ، وفي دعائهم إلى البراءة من الأصنام ، وفي الصبر على ما يلقى منهم في ذلك سالك منهاج أبيه إبراهيم ، وأنه مخرجه من بين أظهرهم كما أخرج إبراهيم من بين أظهر قومه حين تمادوا في غيهم إلى مهاجره من أرض الشأم ، مسلٍّ بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما يلقى من قومه من المكروه والأذى ، ومعلمه أنه منجيه منهم كما نجى أباه إبراهيم من كفرة قومه.
وقد اختلف أهل التأويل في الأرض التي ذكر الله أنه نجَّى إبراهيم ولوطا إليها ، ووصفه أنه بارك فيها للعالمين ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين بن حريث المروزي أبو عمار ، قال : ثنا الفضل بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) قال : الشأم ، وما من ماء عذب إلا خرج من تلك الصخرة التي ببيت المقدس.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن فرات القزاز ، عن الحسن ، في قوله( إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) قال : الشام.

(18/468)


حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) كانا بأرض العراق ، فأنجيا إلى أرض الشأم ، وكان يقال للشأم عماد دار الهجرة ، وما نقص من الأرض زيد في الشأم ، وما نقص من الشأم زيد في فلسطين ، وكان يقال : هي أرض المحشر والمنشر ، وبها مجمع الناس ، وبها ينزل عيسى ابن مريم ، وبها يهلك الله شيخ الضلالة الكذّاب الدجال.
وحدثنا أبو قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رأيْتُ فِيما يَرَى النَّائِمُ كأنَّ الملائِكَةَ حَمَلَتْ عَمُودَ الكِتابِ فَوَضَعَتْه بالشَّأْمِ ، فأوَّلْتُه أن الفِتَنَ إذَا وَقَعَتْ فإنَّ الإيمَانَ بالشَّأْمِ " .
وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبه : " إنَّهُ كائِنٌ بالشَّأْمِ جُنْدٌ ، وبالعِراقِ جُنْدٌ ، وباليَمَنِ جُنْدٌ ، فقال رجل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم خر لي ، فقال : عَلَيْكَ بالشَّأمِ فإنَّ اللهَ قَدْ تكَفَّلَ لي بالشَّأمِ وأهْلِهِ ، فَمَنْ أبَى فَلْيَلْحَقْ بأمِنْهِ وَلْيَسْق بِقَدَرِهِ " .
وذُكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا كعب ألا تحوّل إلى المدينة فإنها مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضع قبره ، فقال له كعب : يا أمير المؤمنين ، إني أجد في كتاب الله المنزل ، أن الشام كنز الله من أرضه ، وبها كنزه من عباده.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) قال : هاجرا جميعا من كُوْثَى إلى الشام.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : انطلق إبراهيم ولوط قِبَل الشأم ، فلقي إبراهيم سارة ، وهي بنت ملك حَرّان ، وقد طعنت على قومها في دينهم ، فتزوّجها على أن لا يغيرها (1) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : خرج إبراهيم مهاجرا إلى ربه ، وخرج معه لوط مهاجرا ، وتزوج سارة ابنة عمه ، فخرج
__________
(1) في ابن كثير : على أن يفر بها .

(18/469)


بها معه يلتمس الفرار بدينه ، والأمان على عبادة ربه ، حتى نزل حرّان ، فمكث فيها ما شاء الله أن يمكث ، ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر ، ثم خرج من مصر إلى الشام ، فنزل السبع من أرض فلسطين ، وهي برّية الشام ، ونزل لوط بالمؤتفكة ، وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة ، أو أقرب من ذلك ، فبعثه الله نبيا صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) قال : نجاه من أرض العراق إلى أرض الشام.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، أنه قال في هذه الآية( بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) قال : ليس ماء عذب إلا يهبط إلى الصخرة التي ببيت المقدس ، قال : ثم يتفرّق في الأرض.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) قال : إلى الشأم.
وقال آخرون : بل يعني مكة وهي الأرض التي قال الله تعالى( الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) يعني مكة ونزول إسماعيل البيت. ألا ترى أنه يقول : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ).
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا ما اخترنا من القول في ذلك لأنه لا خلاف بين جميع أهل العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى الشام ، وبها كان مقامه أيام حياته ، وإن كان قد كان قدم مكة وبنى بها البيت وأسكنها إسماعيل ابنه مع أمه هاجر ، غير أنه لم يقم بها ، ولم يتخذها وطنا لنفسه ، ولا لوط ، والله إنما أخبر عن إبراهيم ولوط أنهما أنجاهما إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين.
القول في تأويل قوله تعالى

(18/470)


وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)

: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) }

(18/457)


وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) }
يقول تعالى ذكره : ووهبنا لإبراهيم إسحاق ولدا ويعقوب ولد ولده ، نافلة لك.
واختلف أهل التأويل في المعني بقوله(نَافِلَةً) فقال بعضهم : عنى به يعقوب خاصة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ) يقول : ووهبنا له إسحاق ولدا ، ويعقوب ابن ابن نافلة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ) والنافلة : ابن ابنه يعقوب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ) قال : سأل واحدا فقال( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فأعطاه واحدا ، وزاده يعقوب ، ويعقوب ولد ولده.
وقال آخرون : بل عنى بذلك إسحاق ويعقوب ، قالوا : وإنما معنى النافلة : العطية ، وهما جميعا من عطاء الله أعطاهما إياه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان. عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، في قوله( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ) قال : عطية.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ) قال : عطاء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.

(18/457)


وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)

قال أبو جعفر : وقد بيَّنا فيما مضى قبل ، أن النافلة الفضل من الشيء يصير إلى الرجل من أيّ شيء كان ذلك ، وكلا ولديه إسحاق ويعقوب كان فضلا من الله تفضل به على إبراهيم ، وهبة منه له ، وجائز أن يكون عنى به أنه آتاهما إياه جميعا نافلة منه له ، وأن يكون عنى أنه آتاه نافلة يعقوب ، ولا برهان يدلّ على أيّ ذلك المراد من الكلام ، فلا شيء أولى أن يقال في ذلك مما قال الله ووهب الله له لإبراهيم إسحاق ويعقوب نافلة.
وقوله( وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) يعني عاملين بطاعة الله ، مجتنبين محارمه ، وعنى بقوله : (كُلا) إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وقوله : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) يقول تعالى ذكره : وجعلنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أئمة يؤتمّ بهم في الخير في طاعة الله في اتباع أمره ونهيه ، ويقتدي بهم ، ويُتَّبَعون عليه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) جعلهم الله أئمة يُقتدى بهم في أمر الله وقوله( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) يقول : يهدون الناس بأمر الله إياهم بذلك ، ويدعونهم إلى الله وإلى عبادته ، وقوله( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) يقول تعالى ذكره : وأوحينا فيما أوحينا أن افعلوا الخيرات ، وأقيموا الصلاة بأمرنا بذلك( وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) يقول : كانوا لنا خاشعين ، لا يستكبرون عن طاعتنا وعبادتنا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) }
يقول تعالى ذكره : وآتينا لوطا حكما ، وهو فصل القضاء بين الخصوم ، وعلما : يقول : وآتيناه أيضا علما بأمر دينه ، وما يجب عليه لله من فرائضه.
وفي نصب لوط وجهان : أن ينصب لتعلق الواو بالفعل كما قلنا : وآتينا لوطا ، والآخر بمضمر بمعنى : واذكر لوطا.
وقوله( وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ ) يقول : ونجيناه من عذابنا الذي أحللناه بأهل القرية التي كانت تعمل الخبائث ، وهي قرية سَدُوم

(18/472)


وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)

التي كان لوط بعث إلى أهلها ، وكانت الخبائث التي يعملونها : إتيان الذكران في أدبارهم ، وخَذْفهم الناس ، وتضارطهم في أنديتهم ، مع أشياء أخرَ كانوا يعملونها من المنكر ، فأخرجه الله حين أراد إهلاكهم إلى الشام.
كما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أخرجهم الله ، يعني لوطا وابنتيه زيثا وزعرثا إلى الشام حين أراد إهلاك قومه.
وقوله( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ) مخالفين أمر الله ، خارجين عن طاعته وما يرضى من العمل.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) }
يقول تعالى ذكره : وأدخلنا لوطا في رحمتنا بإنجائنا إياه ما أحللنا بقومه من العذاب والبلاء وإنقاذناه منه إنه من الصالحين : يقول : إن لوطا من الذين كانوا يعملون بطاعتنا ، وينتهون إلى أمرنا ونهينا ولا يعصوننا ، وكان ابن زيد يقول في معنى قوله( وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا ) ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا ) قال : في الإسلام.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) }
يقول تعالى ذكره : واذكر يا محمد نوحا إذ نادى ربه من قبلك ، ومن قبل إبراهيم ولوط ، وسألنا أن نهلك قومه الذين كذّبوا الله فيما توعدهم به من وعيده ، وكذّبوا نوحا فيما أتاهم به من الحق من عند ربه( قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) فاستجبنا له دعاءه ، ( وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ) يعني

(18/473)


وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)

بأهله : أهل الإيمان من ولده وحلائلهم( مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) يعني بالكرب العظيم : العذاب الذي أحل بالمكذّبين من الطوفان والغرق ، والكرب : شدّة الغم ، يقال منه : قد كربني هذا الأمر فهو يكربني كربا ، وقوله : ( وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) يقول : ونصرنا نوحا على القوم الذين كذّبوا بحججنا وأدلتنا ، فأنجيناه منهم ، فأغرقناهم أجمعين ، إنهم كانوا قوم سوء ، يقول تعالى ذكره : إن قوم نوح الذين كذّبوا بآياتنا كانوا قوم سوء ، يسيئون الأعمال ، فيعصون الله ويخالفون أمره.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر داود وسليمان يا محمد إذ يحكمان في الحرث.
واختلف أهل التأويل في ذلك الحرث ما كان ؟ فقال بعضهم : كان نبتا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن إسحاق ، عن مرّة في قوله( إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ) قال : كان الحرث نبتا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قَتادة ، قال : ذكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا.
وقال آخرون : بل كان ذلك الحرث كَرْما.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا المحاربيّ ، عن أشعث ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، عن ابن مسعود ، في قوله( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ) قال : كَرْم قد أنبت عناقيده.

(18/474)


حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن مسروق ، عن شريح ، قال : كان الحرث كَرما.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قال الله تبارك وتعالى( إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ) والحرث : إنما هو حرث الأرض ، وجائز أن يكون ذلك كان زرعا ، وجائز أن يكون غَرْسا ، وغير ضائر الجهل بأيّ ذلك كان.
وقوله( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) (1) يقول : حين دخلت في هذا الحرث غنم القوم الآخرين من غير أهل الحرث ليلا فرعته أو أفسدته( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) يقول : وكنا لحكم داود وسليمان والقوم الذين حكما بينهم فيما أفسدت غنم أهل الغنم من حرث أهل الحرث ، شاهدين لا يخفى علينا منه شيء ، ولا يغيب عنا علمه وقوله(فَفهَّمْناها) يقول : ففهَّمنا القضية في ذلك(سُلَيْمانَ) دون داود ، ( وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ) يقول : وكلهم من داود وسليمان والرسل الذين ذكرهم في أوّل هذه السورة آتينا حكما وهو النبوة ، وعلما : يعني وعلما بأحكام الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصمّ قالا ثنا المحاربيّ ، عن أشعث ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، عن ابن مسعود ، في قوله( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : كرم قد أنبت عناقيده فأفسدته ، قال : فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم ، فقال سليمان غير هذا يا نبيّ الله ، قال : وما ذاك ؟ قال : يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها ، حتى إذا كان الكرم كما كان دَفعت الكرم إلى صاحبه ، ودَفعت الغنم إلى صاحبها ، فذلك قوله( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ).
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي
__________
(1) نفشت الماشية في الزرع : تفرقت فيه ليلا ترعاه وليس معها راع والفعل من ... .

(18/475)


الْحَرْثِ )... إلى قوله( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) يقول : كنا لما حكما شاهدين ، وذلك أن رجلين دخلا على داود ، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الحرث : إن هذا أرسل غنمه في حرثي ، فلم يُبق من حرثي شيئا ، فقال له داود : اذهب فإن الغنم كلها لك ، فقضى بذلك داود ، ومرّ صاحب الغنم بسليمان ، فأخبره بالذي قضى به داود ، فدخل سليمان على داود فقالا يا نبيّ الله إن القضاء سوى الذي قضيت ، فقال : كيف ؟ قال سليمان : إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه في كل عام ، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث ، فإن الغنم لها نسل في كلّ عام ، فقال داود : قد أصبت ، القضاء كما قضيت ، ففهَّمها الله سليمان.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن علي بن زيد ، قال : ثني خليفة ، عن ابن عباس قال : قضى داود بالغنم لأصحاب الحرث ، فخرج الرُّعاة معهم الكلاب ، فقال سليمان : كيف قضى بينكم ؟ فأخبروه ، فقال : لو وافيت أمركم لقضيت بغير هذا ، فأُخبر بذلك داود ، فدعاه فقال : كيف تقضي بينهم ؟ قال : أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث ، فيكون لهم أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها ، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم ، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه ، أخذ أصحاب الحرث الحرث ، وردّوا الغنم إلى أصحابها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، قال : ثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث ، وحكم سليمان بجزة الغنم وألبانها لأهل الحرث ، وعليهم رعايتها على أهل الحرث ، ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون الحرث كهيئته يوم أُكل ، ثم يدفعونه إلى أهله ويأخذون غنمهم.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثني ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج بنحوه ، إلا أنه قال : وعليهم رعيها.

(18/476)


حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن إسحاق ، عن مرّة في قوله( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : كان الحرث نبتا ، فنفشت فيه ليلا فاختصموا فيه إلى داود ، فقضى بالغنم لأصحاب الحرث. فمرّوا على سليمان ، فذكروا ذلك له ، فقال : لا تُدفع الغنم فيصيبون منها ، يعني أصحاب الحرث ويقوم هؤلاء على حرثهم ، فإذا كان كما كان ردوا عليهم. فنزلت( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ).
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن مسروق ، عن شريح ، في قوله( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : كان النفْش ليلا وكان الحرث كرما ، قال : فجعل داود الغنم لصاحب الكرم ، قال : فقال سليمان : إن صاحب الكرم قد بقي له أصل أرضه وأصل كرمه ، فاجعل له أصوافها وألبانها! قال : فهو قول الله( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ).
حدثنا ابن أبي زياد ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن عامر ، قال : جاء رجلان إلى شُرَيح ، فقال أحدهما : إن شياه هذا قطعت غَزْلا لي ، فقال شريح : نهارا أم ليلا ؟ قال : إن كان نهارا فقد برئ صاحب الشياه ، وإن كان ليلا فقد ضمن ، ثم قرأ( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : كان النفش ليلا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن عامر ، عن شريح بنحوه.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي ، عن شريح ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ )... الآية ، النفْش بالليل ، والهَمَل بالنهار.
وذُكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا فُرفع ذلك إلى داود ، فقضى بالغنم لأصحاب الزرع ، فقال سليمان : ليس كذلك ، ولكن له نسلها ورَسْلها وعوارضها وجُزازها ، حتى إذا كان من العام المقبل كهيئه يوم أكل ، دفعت الغنم إلى ربها وقبض صاحب الزرع زرعه ، فقال الله( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ).

(18/477)


حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتَادة والزهري( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : نفشت غنم في حرث قوم ، قال الزهري : والنفش لا يكون إلا ليلا فقضى داود أن يأخذ الغنم ، ففهمها الله سليمان ، قال : فلما أخبر بقضاء داود ، قال : لا ولكن خذوا الغنم ، ولكم ما خرج من رسلها وأولادها وأصوافها إلى الحول.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : في حرث قوم ، قال معمر : قال الزهري : النفش لا يكون إلا بالليل ، والهمل بالنهار ، قال قَتادة : فقضى أن يأخذوا الغنم ، ففهمها الله سليمان ، ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث عبد الأعلى.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ )... الآيتين ، قال : انفلت غنم رجل على حرث رجل فأكلته ، فجاء إلى داود ، فقضى فيها بالغنم لصاحب الحرث بما أكلت ، وكأنه رأى أنه وجه ذلك ، فمرّوا بسليمان ، فقال : ما قضى بينكم نبيّ الله ؟ فأخبروه ، فقال : ألا أقضي بينكما عسى أن ترضيا به ؟ فقالا نعم. فقال : أما أنت يا صاحب الحرث ، فخذ غنم هذا الرجل فكن فيها كما كان صاحبها ، أصب من لبنها وعارضتها وكذا وكذا ما كان يصيب ، وأحرث أنت يا صاحب الغنم حرث هذا الرجل ، حتى إذا كان حرثه مثله ليلة نفشت فيه غنمك ، فأعطه حرثه ، وخذ غنمك ، فذلك قول الله تبارك وتعالى( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) وقرأ حتى بلغ قوله( وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، في قوله( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : رعت.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : النفش : الرعية تحت الليل.
قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن حرام بن محيصة

(18/478)


بن مسعود ، قال : " دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطا لبعض الأنصار فأفسدته ، فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) فقضى على البراء بما أفسدته الناقة ، وقال عَلى أصحَابِ المَاشِيةِ حِفْظُ المَاشِيَةِ باللَّيْلِ ، وَعَلى أصحَابِ الحَوَائِطِ حِفْظُ حِيطانِهِمْ بالنَّهارِ " .
قال الزهري : وكان قضاء داود وسليمان في ذلك أن رجلا دخلت ماشيته زرعا لرجل فأفسدته ، ولا يكون النفوش إلا بالليل ، فارتفعا إلى داود ، فقضى بغنم صاحب الغنم لصاحب الزرع ، فانصرفا فمرا بسليمان ، فقال : بماذا قضى بينكما نبيّ الله ؟ فقالا قضى بالغنم لصاحب الزرع ، فقال : إن الحكم لعلى غير هذا ، انصرفا معي! فأتى أباه داود ، فقال : يا نبيّ الله ، قضيت على هذا بغنمه لصاحب الزرع ؟ قال نعم. قال : يا نبيّ الله ، إن الحكم لعلى غير هذا ، قال : وكيف يا بنيّ ؟ قال : تدفع الغنم إلى صاحب الزرع ، فيصيب من ألبانها وسمونها وأصوافها ، وتدفع الزرع إلى صاحب الغنم يقوم عليه ، فإذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم عليها ، ردّت الغنم على صاحب الغنم ، وردّ الزرع إلى صاحب الزرع ، فقال داود : لا يقطع الله فمك ، فقضى بما قضى سليمان ، قال الزهري : فذلك قوله( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ )... إلى قوله( حُكْمًا وَعِلْمًا ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، وعليّ بن مجاهد ، عن محمد بن إسحاق ، قال : فحدثني من سمع الحسن يقول : كان الحكم بما قضى به سليمان ، ولم يعنف الله داود في حكمه.
وقوله( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ) يقول تعالى ذكره : وسخرنا مع داود الجبال ، والطير يسبحن معه إذا سبح.
وكان قَتادة يقول في معنى قوله( يُسَبِّحْنَ ) في هذا الموضع ما حدثنا به بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ) : أي يصلين مع داود إذا صلى.
وقوله( وَكُنَّا فَاعِلِينَ ) يقول : وكنا قد قضينا أنا فاعلو ذلك ، ومسخرو الجبال والطير في أمّ الكتاب مع داود عليه الصلاة والسلام.

(18/479)


وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) }
يقول تعالى ذكره : وعلمنا داود صنعة لبوس لكم ، واللبوس عند العرب : السلاح كله ، درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا ، يدلّ على ذلك قول الهُذليّ :
وَمَعِي لَبُوسٌ لِلَّبِيسِ كأنَّهُ... رَوقٌ بِجَبْهَةِ ذِي نِعاجٍ مُجْفِلِ (1)
وإنما يصف بذلك رمحا ، وأما في هذا الموضع فإن أهل التأويل قالوا : عنى الدروع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ )... الآية ، قال : كانت قبل داود صفائح ، قال : وكان أوّل من صنع هذا الحلق وسرد داود.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ) قال : كانت صفائح ، فأوّل من سَرَدَها وحَلَّقها داود عليه السلام.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله(لِتُحْصِنَكُمْ) فقرأ ذلك أكثر قرّاء الأمصار( لِيُحْصِنَكُمْ ) بالياء ، بمعنى : ليحصنكم اللَّبوس من بأسكم ، ذَكَّروه لتذكير اللَّبوس ، وقرأ ذلك أبو جعفر يزيد بن القعقاع(لِتُحْصِنَكُمْ) بالتاء ، بمعنى : لتحصنكم الصنعة ، فأنث لتأنيث الصنعة ، وقرأ شيبة بن نصاح وعاصم بن أبي النَّجود( لِنُحْصِنَكُمْ) بالنون ، بمعنى : لنحصنكم نحن من بأسكم.
قال أبو جعفر : وأولى القراءات في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه
__________
(1) البيت في ( اللسان : لبس ) . واللبوس : ما يلبس ، واللبوس : الثياب والسلاح ، مذكر ، فإن ذهبت به إلى الدرع أنثت وقال الله تعالى : ( وعلمناه صنعة لبوس لكم ) : قالوا : هي الدرع تلبس في الحروب .
واستشهد المؤلف بالبيت على أن اللبوس عام في السلاح كله : الدرع والسيف والرمح والجوشن . والتشبيه في البيت يعطي ما قاله المؤلف ، لأن الشاعر يشبه رمحا بروق الثور المجفل ، يدافع عن نعاجه ، وهي بقر الوحش .

(18/480)


وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)

بالياء ، لأنها القراءة التي عليها الحجة من قرّاء الأمصار ، وإن كانت القراءات الثلاث التي ذكرناها متقاربات المعاني ، وذلك أن الصنعة هي اللبوس ، واللَّبوس هي الصنعة ، والله هو المحصن به من البأس ، وهو المحصن بتصيير الله إياه كذلك ، ومعنى قوله : (لِيُحْصِنَكُمْ) ليحرزكم ، وهو من قوله : قد أحصن فلان جاريته ، وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل ، والبأس : القتال ، وعلَّمنا داود صنعة سلاح لكم ليحرزكم إذا لبستموه ، ولقيتم فيه أعداءكم من القتل.
وقوله( فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ) يقول : فهل أنتم أيها الناس شاكرو الله على نعمته عليكم بما علَّمكم من صنعة اللبوس المحصن في الحرب وغير ذلك من نعمه عليكم ، يقول : فاشكروني على ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) }
يقول تعالى ذكره(وَ) سخرنا(لِسُلَيْمانَ) بن داود( الرِّيحَ عَاصِفَةً ) وعصوفُها : شدة هبوبها ؛ ( تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) يقول : تجري الريح بأمر سليمان إلى الأرض التي باركنا فيها ، يعني : إلى الشام ، وذلك أنها كانت تجري بسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان ، ثم تعود به إلى منزله بالشام ، فلذلك قيل : ( إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ).
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير ، وقام له الجنّ والإنس حتى يجلس إلى سريره ، وكان امرءا غزّاء ، قلما يقعد عن الغزو ، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله ، وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو ، أمر بعسكره فضَرب له بخشب ، ثم نصب له على الخشب ، ثم حمل عليه الناس والدوابّ وآلة الحرب كلها ، حتى إذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح ، فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته ، حتى إذا استقلت أمر الرخاء ، فمدّته شهرا في روحته ، وشهرا في غدوته إلى حيث أراد ، يقول الله عزّ وجل( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ قال

(18/481)


وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ) قال : فذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتاب كتبه بعض صحابة سليمان ، إما من الجنّ وإما من الإنس ، نحن نزلناه وما بنيناه ، ومبنيا وجدناه ، غدونا من إصطخر فقلناه ، ونحن راحلون منه إن شاء الله قائلون الشام.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً )... إلى قوله( وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ) قال : ورث الله سليمان داود ، فورثه نبوّته وملكه وزاده على ذلك أن سخر له الريح والشياطين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ) قال : عاصفة شديدة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها ، قال : الشام.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار بالنصب على المعنى الذي ذكرناه ، وقرأ ذلك عبد الرحمن الأعرج( الرِّيحُ) رفعا بالكلام في سليمان على ابتداء الخبر عن أن لسليمان الريح.
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله( وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) يقول : وكنا عالمين بأن فعلنا ما فعلنا لسليمان من تسخيرنا له ، وإعطائنا ما أعطيناه من الملك وصلاح الخلق ، فعلى علم منا بموضع ما فعلنا به من ذلك فعلنا ، ونحن عالمون بكل شيء لا يخفى علينا منه شيء.

(18/482)


وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) }
يقول تعالى ذكره : وسخرنا أيضا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في البحر ، ويعملون عملا دون ذلك من البنيان والتماثيل والمحاريب( وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ) ، يقول : وكنا لأعمالهم ولأعدادهم حافظين ، لا يئودنا حفظ ذلك كله.

(18/482)


وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر أيوب يا محمد ، إذ نادى ربه وقد مسه الضرّ والبلاء( رب أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له ) يقول تعالى ذكره : فاستجبنا لأيوب دعاءه إذ نادانا ، فكشفنا ما كان به من ضرّ وبلاء وجهد ، وكان الضر الذي أصابه والبلاء الذي نزل به امتحانًا من الله له واختبارًا .
وكان سبب ذلك كما حدثني محمد بن سهل بن عسكر البخاري ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن هشام ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل (1) ، قال : سمعت وهب بن منبه يقول : كان بدء أمر أيوب الصديق صلوات الله عليه ، أنه كان صابرا نعم العبد ، قال وهب : إن لجبريل بين يدي الله مقاما ليس لأحد من الملائكة في القربة من الله والفضيلة عنده ، وإن جبريل هو الذي يتلقى الكلام ، فإذا ذكر الله عبدا بخير تلقاه جبرائيل منه ، ثم تلقاه ميكائيل ، وحَوْله الملائكة المقرّبون حافين من حول العرش ، وشاع ذلك في الملائكة المقرّبين ، صارت الصلاة على ذلك العبد من أهل السماوات ، فإذا صلت عليه ملائكة السماوات ، هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض ، وكان إبليس لا يُحْجَب بشيء من السماوات ، وكان يقف فيهن حيث شاء ما أرادوا. ومن
__________
(1) عبد الصمد بن معقل ، بكسر القاف اليماني ؛ يروى عن عمه وهب بن منبه وعنه ابن أخيه إسماعيل بن عبد الكريم وثقه أحمد . مات سنة ثلاث وثمانين ومئة . ( عن الخلاصة ) . وهذا الحديث من أحاديث أهل الكتاب ، رواه وهب وكعب وغيرهما من أهل الكتاب ، كما قال الثعلبي في عرائس المجالس ( ص 153 - 163 ) طبعة شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة . وأصله في الكتاب المقدس سفر أيوب ( 793 - 833 ) .

(18/483)


هنالك وصل إلى آدم حين أخرجه من الجنة ، فلم يزل على ذلك يصعد في السماوات ، حتى رفع الله عيسى ابن مريم ، فحُجِب من أربع ، وكان يصعد في ثلاث ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم حُجِب من الثلاث الباقية ، فهو محجوب هو وجميع جنوده من جميع السماوات إلى يوم القيامة( إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ) ولذلك أنكرت الجنّ ما كانت تعرف حين قالت : ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا )... إلى قوله( شِهَابًا رَصَدًا ) .
قال وهب : فلم يَرُعْ إبليس إلا تجاوبُ ملائكتها بالصلاة على أيوب ، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه ، فلما سمع إبليس صلاة الملائكة ، أدركه البغي والحسد ، وصعد سريعا حتى وقف من الله مكانا كان يقفه ، فقال : يا إلهي ، نظرت في أمر عبدك أيوب ، فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك ، وعافيته فحمدك ، ثم لم تجرّبه بشدة ولم تجرّبه ببلاء ، وأنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرنّ بك ولينسينك وليعبدنّ غيرك ، قال الله تبارك وتعالى له : انطلق ، فقد سلطتك على ماله ، فإنه الأمر الذي تزعم أنه من أجله يشكرني ، ليس لك سلطان على جسده ، ولا على عقله ، فانقض عدوّ الله ، حتى وقع على الأرض ، ثم جمع عفاريت الشياطين وعظماءهم ، وكان لأيوب البَشَنِية من الشام كلها بما فيها من شرقها وغربها ، وكان له بها ألف شاة برعاتها وخمس مئة فدان يتبعها خمس مئة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ومال ، وحمل آلة كل فدان أتان ، لكل أتان ولد من اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك ، فلما جمع إبليس الشياطين ، قال لهم : ماذا عندكم من القوّة والمعرفة ؟ فإني قد سُلطت على مال أيوب ، فهي المصيبة الفادحة ، والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال ، قال عفريت من الشياطين : أعطيت من القوّة ما إذا شئت تحوّلت إعصارا من نار فأحرقت كل شيء آتي عليه ، فقال له إبليس : فأت الإبل ورُعاتَها ، فانطلق يؤمّ الإبل ، وذلك حين وضعت رؤوسها وثبتت في مراعيها ، فلم تشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار تنفخ منها أرواح السموم ، لا يدنو منها أحد إلا احترق فلم يزل يُحْرقها ورعاتَها حتى أتى على آخرها ، فلما فرغ منها تمثل إبليس على قَعود منها

(18/484)


براعيها ، ثم انطلق يؤمّ أيوب حتى وجده قائما يصلي ، فقال : يا أيوب ، قال : لبيك ، قال : هل تدري ما الذي صنع ربك ؟ الذي اخترت وعبدت ووحدت بإبلك ورعاتها ، قال أيوب : إنها ماله أعارنيه ، وهو أولى به إذا شاء نزعه ، وقديما ما وطَّنْت نفسي ومالي على الفناء ، قال إبليس : وإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت ورعاتُها ، حتى أتى على آخر شيء منها ومن رعاتها ، فتركت الناس مبهوتين ، وهم وقوف عليها يتعجبون ، منهم من يقول : ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور ، ومنهم من يقول : لو كان إله أيوب يقدر على أن يمنع من ذلك شيئا لمنع وليه ، ومنهم من يقول : بل هو فعل الذي فعل ليُشمت به عدوه ، وليفجع به صديقه ، قال أيوب : الحمد لله حين أعطاني ، وحين نزع مني ، عُرْيانا خرجت من بطن أمي ، وعريانا أعود في التراب ، وعريانا أحشر إلى الله ، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك الله وتجزع حين قبض عاريته ، الله أولى بك ، وبما أعطاك ، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع ملك الأرواح ، فآجرني فيك وصرت شهيدا ، ولكنه علم منك شرّا فأخرك من أجله ، فعرّاك الله من المصيبة ، وخلصك من البلاء كما يخلص الزُّوان من القمح الخلاص.
ثم رجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا فقال لهم : ماذا عندكم من القوّة ، فإني لم أكلم قلبه ؟ قال عفريت من عظمائهم عندي من القوّة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه ، قال له إبليس : فأت الغنم ورعاتَها ، فانطلق يؤمّ الغنم ورعاتها ، حتى إذا وَسَطها صاح صوتا جثمت أمواتا من عند آخرها ورعاءَها ، ثم خرج إبليس متمثلا بقَهْرمان الرّعاء (1) ، حتى إذا جاء أيوب وجده وهو قائم يصلي ، فقال له القول الأوّل ، وردّ عليه أيوب الرّد الأوّل ، ثم إن إبليس رجع إلى أصحابه ، فقال لهم : ماذا عندكم من القوّة ، فإني لم أكلم قلب أيوب ؟ فقال عفريت من عظمائهم : عندي من القوّة إذا شئت تحوّلت ريحا عاصفا تنسف كل شيء تأتي عليه ، حتى لا أبقي شيئا ، قال له
__________
(1) المراد بقهرمان الرعاء : وكيل صاحب المال ، المختص بتدبير أمر الدعاء .

(18/485)


إبليس : فأت الفدادين والحرث ، فانطلق يؤمهم ، وذلك حين قَربوا الفَدَادين وأنشئوا في الحرث ، والأتن وأولادها رُتوع ، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف تنسف كل شيء من ذلك ، حتى كأنه لم يكن ، ثم خرج إبليس متمثلا بقهْرمان الحَرْث ، حتى جاء أيوب وهو قائم يصلي ، فقال له مثل قوله الأوّل ، ورد عليه أيوب مثل ردّه الأوّل.
فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ، ولم ينجح منه ، صعد سريعا ، حتى وقف من الله الموقف الذي كان يقفه ، فقال : يا إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بنفسه وولده (1) ، فأنت معطيه المال ، فهل أنت مسلطي على ولده ؟ فإنها الفتنة المضلة ، والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال ، ولا يقوى عليها صبرهم ، فقال الله تعالى له : انطلق ، فقد سلَّطتك على ولده ، ولا سلطان لك على قلبه ولا جسده ، ولا على عقله ، فانقضّ عدو الله جوادا ، حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم ، فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده ، ثم جعل يناطح الجُدُر بعضها ببعض ، ويرميهم بالخشب والجندل ، حتى إذا مَثَّل بهم كل مُثْلة ، رفع بهم القصر ، حتى إذا أقلَّه بهم فصاروا فيه منكَّسين ، انطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلِّم الذي كان يعلمهم الحكمة ، وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه ، متغيرا لا يكاد يُعرف من شدّة التغير ، والمُثْلة التي جاء متمثلا فيها ، فلما نظر إليه أيوب هاله ، وحزن ودمعت عيناه ، وقال له : يا أيوب ، لو رأيت كيف أفلتّ من حيث أفلت ، والذي رمانا به من فوقنا ومن تحتنا ، ولو رأيت بنيك كيف عُذّبوا ، وكيف مُثِّل بهم ، وكيف قُلِبوا فكانوا منكَّسين على رءوسهم ، تسيل دماؤهم ودماغهم من أنوفهم وأجوافهم ، وتقطر من أشفارهم ، ولو رأيت كيف شُقَّتْ بطونهم ، فتناثرت أمعاؤهم ، ولو رأيت كيف قُذِفوا بالخشب والجندل يشدخ دماغهم ، وكيف دقّ الخشب عظامهم ، وخرق جلودهم ، وقطع عصبهم ، ولو رأيت العصب عريانا ، ولو رأيت العظام متهشمة في الأجواف ، ولو رأيت الوجوه مشدوخة ، ولو رأيت الجُدُر تَناطَحُ عليهم ، ولو رأيت ما رأيت ، قطع قلبك ، فلم يزل يقول هذا ونحوه ، ولم يزل يرقّقه حتى رقّ أيوب فبكى ، وقبض قبضة
__________
(1) انظر عبارة الثعلبي المفسر في هذا المقام في عرائس المجالس ، ص 155 فإنها أوضح وأدق .

(18/486)


من تراب ، فوضعها على رأسه ، فاغتنم إبليس(الفرصة منه ) (1) عند ذلك ، فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به ، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر ، فاستغفر ، وصَعَد قرناؤه من الملائكة بتوبة منه ، فبدروا إبليس إلى الله ، فوجدوه قد علم بالذي رُفع إليه من توبة أيوب ، فوقف إبليس خازيا ذليلا فقال : يا إلهي ، إنما هوّن على أيوب خَطَر المال والولد ، أنه يرى أنك ما متعته بنفسه ، فأنت تعيد له المال والولد ، فهل أنت مسلِّطي على جسده ؟ فأنا لك زعيم لئن ابتليته في جسده لينسينك ، وليكفرنّ بك ، وليَجْحَدنَّكَ نعمتك ، قال الله : انطلق فقد سلطتك على جسده ، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ، ولا على عقله.
فانقضّ عدوّ الله جوادا ، فوجد أيوب ساجدا ، فعجَّل قبل أن يرفع رأسه ، فأتاه من قِبَل الأرض في موضع وجهه ، فنفخ في منخره نفخه اشتعل منها جسده ، فترهل ، ونبتت(به) : ثآليل مثل أليات الغنم ، ووقعت فيه حكة لا يملكها ، فحكّ بأظفاره حتى سقطت كلها ، ثم حكّ بالعظام ، وحكّ بالحجارة الخشنة ، وبقطع المُسوح الخشنة ، فلم يزل يحكه حتى نَفِد لحمه وتقطع ، ولما نَغِلَ جلد أيوب وتغير وأنتن ، أخرجه أهل القرية ، فجعلوه على تلّ وجعلوا له عريشا ، ورفضه خلق الله غير امرأته ، فكانت تختلف إليه بما يُصلحه ويلزمه ، وكان ثلاثة من أصحابه اتبعوه على دينه ، فلما رأوا ما ابتلاه الله به رفضوه من غير أن يتركوا دينه واتهموه ، يُقال لأحدهم بلدد ، وأليفز ، وصافر (2) ، قال : فانطلق إليه الثلاثة ، وهو في بلائه ، فبكتوه : فلما سمع منهم أقبل على ربه ، فقال أيوب صلى الله عليه وسلم : ربّ لأيّ شيء خلقتني ؟ لو كنتَ إذْ كرهتني في الخير تركتني فلم تخلقني ، يا ليتني كنت حَيْضة ألقتني أمي ، ويا ليتني مِتّ في بطنها ، فلم أعرف شيئا ولم تعرفني ، ما الذنب الذي أذنبت لم يذنبه أحد غيري ، وما العمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني ، لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي ، فالموت كان أجمل بي ، فأسوة لي بالسلاطين الذي صُفَّت من دونهم الجيوش ،
__________
(1) انظر عرائس المجالس للثعلبي المفسر ص 155 .
(2) وردت أسماء أصحاب أيوب الثلاثة في الكتاب المقدس ص 795 وهو : أليفاز التيماني ، وبلدد الشوحي ، وصوفر النعمائي .

(18/487)


يضربون عنهم بالسيوف بخلا بهم عن الموت ، وحرصا على بقائهم ، أصبحوا في القبور جاثمين ، حتى ظنوا أنهم سيخلَّدون ، وأسوة لي بالملوك الذين كنزوا الكنوز ، وطَمروا المطامير ، وجمعوا الجموع ، وظنوا أنهم سيخلدون ، وأسوة لي بالجبارين الذين بنوا المدائن والحصون ، وعاشوا فيها المئين من السنين ، ثم أصبحت خرابا ، مأوى للوحوش ، ومثنى للشياطين.
قال أليفز التيماني : قد أعيانا أمرك يا أيوب ، إن كلَّمناك فما نرج للحديث منك موضعا ، وإن نسكت عنك مع الذي نرى فيك من البلاء ، فذلك علينا ، قد كنا نرى من أعمالك أعمالا كنا نرجو لك عليها من الثواب غير ما رأينا ، فإنما يحصد امرؤ ما زرع ، ويجزى بما عمل ، أشهد على الله الذي لا يقدر قدر عظمته ، ولا يحصى عدد نعمه ، الذي ينزل الماء من السماء فيحيي به الميت ، ويرفع به الخافض ، ويقوّي به الضعيف : الذي تضلّ حكمة الحكماء عند حكمته ، وعلم العلماء عند علمه ، حتى تراهم من العيّ في ظلمة يموجون ، أن من رجا معونة الله هو القويّ ، وإن من توكل عليه هو المكفيّ ، هو الذي يكسر ويجبر ويجرح ويداوي.
قال أيوب : لذلك سكتّ فَعضِضْت على لساني ، ووضعت لسوء الخدمة رأسي ، لأني علمت أن عقوبته غيرت نور وجهي ، وأن قوته نزعت قوّة جسدي ، فأنا عبده ، ما قضى عليّ أصابني ، ولا قوّة لي إلا ما حمل عليّ ، لو كانت عظامي من حديد ، وجسدي من نُحاس ، وقلبي من حجارة ، لم أطق هذا الأمر ، ولكن هو ابتلاني ، وهو يحمله عني ، أتيتموني غِضابا ، رهبتم قبل أن تسترهبوا ، وبكيتم من قبل أن تُضربوا ، كيف بي لو قلت لكم : تصدّقوا عني بأموالكم ، لعلّ الله أن يخلصني ، أو قرّبوا عني قربانا لعلّ الله أن يتقبله مني ويرضى عني ، إذا استيقظت تمنَّيت النوم رجاء أن أستريح ، فإذا نمت كادت تجود نفسي ، تقطَّعت أصابعي ، فإني لأرفع اللقمة من الطعام بيديّ جميعا فما تبلغان فمي إلا على الجهد مني ، تساقطت لَهَواتي ونخر رأسي ، فما بين أذنيّ من سداد ، حتى إن إحداهما لترى من الأخرى ، وإن دماغي ليسيل من فمي ، تساقط شعري عني ، فكأنما حُرِّق بالنار وجهي ، وحدقتاي هما متدليتان على

(18/488)


خدي ، ورم لساني حتى ملأ فمي ، فما أُدخل فيه طعاما إلا غصني ، وورمت شفتاي حتى غطَّت العليا أنفي ، والسفلى ذقني ، تقطَّعت أمعائي في بطني ، فإني لأدخل الطعام فيخرج كما دخل ، ما أحسه ولا ينفعني ، ذهبت قوة رجليّ ، فكأنهما قربتا ماء مُلئتا ، لا أطيق حملهما ، أحمل لحافي بيديّ وأسناني ، فما أطيق حمله حتى يحمله معي غيري ، ذهب المال فصرت أسأل بكفي ، فيطعمني من كنت أعوله اللقمةَ الواحدة ، فيمنُّها عليّ ويعيِّرني ، هلك بَنيّ وبناتي ، ولو بقي منهم أحد أعانني على بلائي ونفعني ، وليس العذاب بعذاب الدنيا ، إنه يزول عن أهلها ، ويموتون عنه ، ولكن طوبى لمن كانت له راحة في الدار التي لا يموت أهلها ، ولا يتحوّلون عن منازلهم ، السعيد من سعد هنالك والشقي من شقي فيها.
قال بِلدد : كيف يقوم لسانك بهذا القول ، وكيف تفصح به ، أتقول إن العدل يجور ، أم تقول إن القويّ يضعف ؟ ابك على خطيئتك وتضرّع إلى ربك عسى أن يرحمك ، ويتجاوز عن ذنبك ، وعسى إن كنت بريئا أن يجعل هذا لك ذخرا في آخرتك ، وإن كان قلبك قد قسا فإن قولنا لن ينفعك ، ولن يأخذ فيك ، هيهات أن تنبت الآجام في المفاوز ، وهيهات أن ينبت البَرْديّ في الفلاة ، من توكل على الضعيف كيف يرجو أن يمنعه ، ومن جحد الحقّ كيف يرجو أن يوفّي حقه ؟.
قال أيوب : إني لأعلم أن هذا هو الحقّ ، لن يَفْلُج العبد على ربه ، ولا يطيق أن يخاصمه ، فأيّ كلام لي معه ، وإن كان إليّ القوّة هو الذي سمك السماء فأقامها وحده ، وهو الذي يكشطها إذا شاء فتنطوي له ، وهو الذي سطح الأرض فدحاها وحده ، ونصب فيها الجبال الراسيات ، ثم هو الذي يزلزلها من أصولها حتى تعود أسافلها أعاليها ، وإن كان فيّ الكلام ، فأيّ كلام لي معه ، من خلق العرش العظيم بكلمة واحدة ، فحشاه السماوات والأرض وما فيهما من الخلق ، فوسعه وهو في سعة واسعة ، وهو الذي كلَّم البحار ففهمت قوله ، وأمرها ، فلم تعْد أمره ، وهو الذي يفقه الحِيتان والطير وكل دابَّة ، وهو الذي يكلم الموتى فيحييهم قوله ، ويكلم الحجارة فتفهم قوله ويأمرها فتطيعه.
قال أليفز : عظيم ما تقول يا أيوب ، إن الجلود لتقشعرّ من ذكر ما تقول ،

(18/489)


إنما أصابك ما أصابك بغير ذنب أذنبته ، مثل هذه الحدّة ، وهذا القول أنزلك هذه المنزلة ، عظُمت خطيئتك ، وكثر طلابك ، وَغَصَبْت أهل الأموال على أموالهم ، فلبست وهم عراة ، وأكلت وهم جياع ، وحبست عن الضعيف بابك ، وعن الجائع طعامك ، وعن المحتاج معروفك ، وأسررت ذلك وأخفيته في بيتك ، وأظهرت أعمالا كنا نراك تعملها ، فظننت أن الله لا يجزيك إلا على ما ظهر منك ، وظننت أن الله لا يطلع على ما غيبت في بيتك ، وكيف لا يطَّلع على ذلك وهو يعلم ما غيَّبت الأرضون وما تحت الظلمات والهواء ؟.
قال أيوب صلى الله عليه وسلم : إن تكلمت لم ينفعني الكلام ، وإن سكت لم تعذروني ، قد وقع عليّ كَيْدي ، وأسخطت ربي بخطيئتي ، وأشمتّ أعدائي ، وأمكنتهم من عنقي ، وجعلتني للبلاء غَرَضا ، وجعلتني للفتنة نُصبا ، لم تنفسني مع ذلك ، ولكن أتبعني ببلاء على إثر بلاء ، ألم أكن للغريب دارا ، وللمسكين قرارا ، ولليتيم وليًّا ، وللأرملة قَيِّما ؟ ما رأيت غريبا إلا كنت له دارا مكان داره وقرارا مكان قراره ، ولا رأيت مسكينا إلا كنت له مالا مكان ماله وأهلا مكان أهله ، وما رأيت يتيما إلا كنت له أبا مكان أبيه ، وما رأيت أيِّما إلا كنت لها قيِّما ترضّى قيامه ، وأنا عبد ذليل ، إن أحسنت لم يكن لي كلام بإحسان ، لأن المنّ لربي وليس لي ، وإن أسأت فبيده عقوبتي ، وقد وقع عليّ بلاء لو سلَّطته على جبل ضعف عن حمله ، فكيف يحمله ضعفي ؟.
قال أليفز : أتحاجّ الله يا أيوب في أمره ، أم تريد أن تناصفه وأنت خاطئ ، أو تبرئها وأنت غير بريء ؟ خلق السماوات والأرض بالحقّ ، وأحصى ما فيهما من الخلق ، فكيف لا يعلم ما أسررت ، وكيف لا يعلم ما عملت فيجزيَك به ؟ وضع الله ملائكة صفوفا حول عرشه وعلى أرجاء سماواته ، ثم احتجب بالنور ، فأبصارهم عنه كليلة ، وقوّتهم عنه ضعيفة ، وعزيزهم عنه ذليل ، وأنت تزعم أن لو خاصمك ، وأدلى إلى الحكم معك ، وهل تراه فتناصفه ، أم هل تسمعه فتحاوره ؟ قد عرفنا فيك قضاءه ، إنه من أراد أن يرتفع وضعه ، ومن اتضع له رفعه.
قال أيوب صلى الله عليه وسلم : إن أهلكني فمن ذا الذي يعرض له في عبده ويسأله عن أمره ، لا يردّ غضبه شيء إلا رحمته ، ولا ينفع عبده إلا التضرّع

(18/490)


له ، قال : ربّ أقبل عليّ برحمتك ، وأعلمني ما ذنبي الذي أذنبت ؟ أو لأيّ شيء صرفت وجهك الكريم عني ، وجعلتني لك مثل العدوّ ، وقد كنت تكرمني ، ليس يغيب عنك شيء تُحصي قَطْر الأمطار ، وورق الأشجار ، وذرّ التراب ، أصبح جلدي كالثوب العفن ، بأيه أمسكت سقط في يدي ، فهب لي قُربانا من عندك ، وفرجا من بلائي ، بالقدرة التي تبعث موتى العباد ، وتنشر بها ميت البلاد ، ولا تهلكني بغير أن تعلمني ما ذنبي ، ولا تُفسد عمل يديك ، وإن كنت غنيا عني ، ليس ينبغي في حكمك ظلم ، ولا في نقمتك عَجَل ، وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف ، وإنما يعجل من يخاف الفوت ، ولا تذكرني خطئي وذنوبي ، اذكر كيف خلقتني من طين ، فجُعِلت مضغة ، ثم خلقت المضغة عظاما ، وكسوت العظام لحما وجلدا ، وجعلت العصب والعروق لذلك قَواما وشدة ، وربَّيتني صغيرا ، ورزقتني كبيرا ، ثم حفظت عهدك وفعلت أمرك ، فإن أخطأت فبين لي ، ولا تهلكني غمًّا ، وأعلمني ذنبي ، فإن لم أرضك فأنا أهل أن تعذّبني ، وإن كنت من بين خلقك تحصي عليّ عملي ، وأستغفرك فلا تغفر لي ، إن أحسنت لم أرفع رأسي ، وإن أسأت لم تبلعني ريقي ، ولم تُقِلني عثرتي ، وقد ترى ضعفي تحتك ، وتضرّعي لك ، فلم خلقتني ، أو لم أخرجتني من بطن أمي ، لو كنت كمن لم يكن لكان خيرا لي ، فليست الدنيا عندي بخطر لغضبك ، وليس جسدي يقوم بعذابك ، فارحمني وأذقني طعم العافية من قبل أن أصير إلى ضيق القبر وظلمة الأرض ، وغمّ الموت.
قال صافر : قد تكلمت يا أيوب ، وما يطيق أحد أن يحبس فمك ، تزعم أنك بريء ، فهل ينفعك إن كنت بريئا وعليك من يحصي عملك ، وتزعم أنك تعلم أن الله يغفر لك ذنوبك ، هل تعلم سَمْك السماء كم بُعده ؟ أم هل تعلم عمق الهواء كم بعده ؟ أم هل تعلم أيّ الأرض أعرضها ؟ أم عندك لها من مقدار تقدرها به ؟ أم هل تعلم أيّ البحر أعمقه ؟ أم هل تعلم بأيّ شيء تحبسه ؟ فإن كنت تعلم هذا العلم وإن كنت لا تعلمه ، فإن الله خلقه وهو يحصيه ، لو تركت كثرة الحديث ، وطلبت إلى ربك رجوتَ أن يرحمك ، فبذلك تستخرج رحمته ، وإن كنت تقيم على خطيئتك وترفع إلى الله يديك عند الحاجة وأنت مُصِرّ على ذنبك إصرار الماء الجاري في صَبَب لا يستطاع إحباسه ، فعند طلب الحاجات

(18/491)


إلى الرحمن تسودّ وجوه الأشرار ، وتظلم عيونهم ، وعند ذلك يسرّ بنجاح حوائجهم الذين تركوا الشهوات تزينا بذلك عند ربهم ، وتقدّموا في التضرّع ، ليستحقوا بذلك الرحمة حين يحتاجون إليها ، وهم الذين كابدوا الليل ، واعتزلوا الفرش ، وانتظروا الأسحار.
قال أيوب : أنتم قوم قد أعجبتكم أنفسكم ، وقد كنت فيما خلا والرجال يُوَقِّرونني ، وأنا معروف حقي منتصف من خصمي ، قاهر لمن هو اليوم يقهرني ، يسألني عن علم غيب الله لا أعلمه ويسألني ، فلعمري ما نصح الأخ لأخيه حين نزل به البلاء كذلك ، ولكنه يبكي معه ، وإن كنت جادًّا فإن عقلي يقصر عن الذي تسألني عنه ، فسل طير السماء هل تخبرك ، وسل وحوش الأرض هل تَرْجِع إليك ؟ وسل سباع البرية هل تجيبك ؟ وسل حيتان البحر هل تصف لك كل ما عددت ؟ تعلم أن صنع هذا بحكمته ، وهيأه بلطفه. أما يعلم ابن آدم من الكلام ما سمع بأذنيه ، وما طعم بفيه ، وما شمّ بأنفه ، وأن العلم الذي سألت عنه لا يعلمه إلا الله الذي خلقه ، له الحكمة والجبروت ، وله العظمة واللطف ، وله الجلال والقدرة ، إن أفسد فمن ذا الذي يصلح ؟ وإن أعجم فمن ذا الذي يُفْصح ؟ إن نظر إلى البحار يبست من خوفه ، وإن أذن لها ابتلعت الأرض ، فإنما يحملها بقدرته هو الذي تبْهَت الملوك عند ملكه ، وتطيش العلماء عند علمه ، وتعيا الحكماء عند حكمته ، ويخسأ المبطلون عند سلطانه ، هو الذي يذكر المنسي ، وينسى المذكور ، ويجري الظلمات والنور ، هذا علمي ، وخلقه أعظم من أن يحصيه عقلي ، وعظمته أعظم من أن يقدرها مثلي.
قال بلدد : إن المنافق يجزى بما أسرّ من نفاقه ، وتضلّ عنه العلانية التي خادع بها ، وتوكل على الجزاء بها الذي عملها ، ويهلك ذكره من الدنيا ويظلم نوره في الآخرة ، ويوحش سبيله ، وتوقعه في الأحبولة سريرته ، وينقطع اسمه من الأرض ، فلا ذكر فيها ولا عمران ، لا يرثه ولد مصلحون من بعده ، ولا يبقى له أصل يعرف به ، ويبهت من يراه ، وتقف الأشعار عند ذكره.
قال أيوب : إن أكن غويا فعليّ غواي ، وإن أكن بريا فأيّ منعة عندي ، إن صرخت فمن ذا الذي يصرخني ، وإن سكتُّ فمن ذا الذي يَعْذرني ، ذهب رجائي وانقضت أحلامي ، وتنكرت لي معارفي ؛ دعوت غلامي ، فلم يجبني ،

(18/492)


وتضرّعت لأمتي فلم ترحمني ، وقع عليّ البلاء فرفضوني ، أنتم كنتم أشدّ عليّ من مصيبتي ، انظروا وابهتوا من العجائب التي في جسدي ، أما سمعتم بما أصابني ، وما شغلكم عني ما رأيتم بي ، لو كان عبد يخاصم ربه رجوت أن أتغلب عند الحكم ، ولكن لي ربا جبارا تعالى فوق سماواته ، وألقاني هاهنا ، وهنت عليه ، لا هو عذرني بعذري ، ولا هو أدناني فأخاصم عن نفسي يسمعني ولا أسمعه ، ويراني ولا أراه ، وهو محيط بي ، ولو تجلى لي لذابت كليتاي ، وصعق روحي ، ولو نفسني فأتكلم بملء فمي ، ونزع الهيبة مني ، علمت بأيّ ذنب عذّبني ، نودي فقيل : يا أيوب ، قال : لبيك ، قال : أنا هذا قد دنوت منك ، فقم فاشدد إزارك ، وقم مقام جبار ، فإنه لا ينبغي لي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ، ولا ينبغي أن يخاصمني إلا من يجعل الزنار في فم الأسد ، والسِّخال في فم العنقاء ، واللحم في فم التنين ، ويكيل مكيالا من النور ، ويزن مثقالا من الريح ، ويُصر صُرَّة من الشمس ، ويردّ أمس لغد ، لقد منَّتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوّتك ، ولو كنت إذ منتك نفسك ذلك ودعتك إليه تذكرت أيّ مرام رام بك ، أردت أن تخاصمني بغيَّك ؟ أم أردت أن تحاجيني بخطئك ، أم أردت أن تكاثرني بضعفك ، أين كنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها ، هل علمت بأيّ مقدار قدرتها ؟ أم كنت معي تمرّ بأطرافها ؟ أم تعلم ما بُعد زواياها ؟ أم على أيّ شيء وضعت أكنافها ؟ أبطاعتك حمل ماء الأرض ؟ أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء ، أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا بعلائق ثبتت من فوقها ، ولا يحملها دعائم من تحتها ، هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها ، أو تسير نجومها ، أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها ، أين كنت مني يوم سجرت البحار وأنبعت الأنهار ؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها ؟ أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها ؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ، ونصبت شوامخ الجبال ، هل لك من ذراع تطيق حملها ، أم هل تدري كم مثقال فيها ، أم أين الماء الذي أنزل من السماء ؟ هل تدري أمّ تلده أو أب يولده ؟ أحكمتك أحصت القطر وقسمت الأرزاق ، أم قدرتك تثير السحاب ، وتغشيه الماء ؟ هل تدري ما أصوات الرعود ؟ أم من أي شيء لهب البروق ؟ هل رأيت عمق البحور ؟ أم هل تدري ما بُعد الهواء ، أم هل خزنت أرواح الأموات ؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج ، أو أين خزائن البرد ، أم أين جبال البرد ؟ أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار ، وأين خزانة النهار بالليل ؟ وأين طريق النور ؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار ؟ وأين خزانة الريح ، كيف تحبسه الأغلاق ؟ ومن جعل العقول في أجواف الرجال ؟ ومن شق الأسماع والأبصار ، ومن ذلَّت الملائكة لملكه ، وقهر الجبارين بجبروته ، وقسم أرزاق الدوابّ بحكمته ، ومن قسم للأسد أرزاقها وعرف الطير معايشها ، وعطَّفها على أفراخها ، من أعتق الوحش من الخدمة ، وجعل مساكنها البرية لا تستأنس بالأصوات ، ولا تهاب المسلطين ، أمن حكمتك تفرّعت أفراخ الطير ، وأولاد الدّوابّ لأمهاتها ؟ أم من حكمتك عطفت أمهاتها عليها ، حتى أخرجت لها الطعام من بطونها ، وآثرتها بالعيش على نفوسها ؟ أم من حكمتك يبصر العُقاب ، فأصبح في أماكن القتلى أين أنت مني يوم خلقت بهموت (1) مكانه في منقطع التراب ، والوتينان (2) يحملان الجبال والقرى والعمران ، آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال رؤوسهما ، كأنها آكام الحبال ، وعروق أفخاذهما كأنها أوتاد الحديد ، وكأن جلودهما فِلَق الصخور ، وعظامهما كأنها عَمَد النحاس ، هما رأسا خلقي الذين خلقت للقتال ، أأنت ملأت جلودهما لحما ؟ أم أنت ملأت رؤوسهما دماغا ؟ أم هل لك في خلقهما من شِرك ؟ أم لك بالقوة التي عملتهما يدان ؟ أو هل يبلغ من قوّتك أن تخطم على أنوفهما أو تضع يدك على رؤوسهما ، أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما ، أو تصدّهما عن قوتهما ؟ أين أنت يوم خلقت التّنين ورزقه في البحر ، ومسكنه في السحاب ، عيناه تَوَقَّدان نارا ، ومنخراه يثوران دخانا ، أذناه مثل قوس السحاب ، يثور منهما لهب كأنه إعصار العجاج ، جوفه يحترق ونَفَسه يلتهب ، وزبده كأمثال الصخور ، وكأن صريف أسنانه صوت الصواعق ، وكأن نظر عينيه لهب البرق ، أسراره لا تدخله الهموم ، تمرّ به الجيوش وهو متكئ ، لا يفزعه شيء ليس فيه مفصل [ زُبَر] الحديد عنده مثل التين ، والنحاس عنده مثل الخيوط ، لا يفزع من النُّشاب ، ولا يحسّ وقع الصخور على جسده ، ويضحك من النيازك ، ويسير في الهواء كأنه عصفور ، ويهلك كلّ شيء يمرُّ به ملك الوحوش ، وإياه آثرت بالقوّة على خلقي ، هل أنت آخذه بأحبولتك فرابطه بلسانه ، أو واضع اللجام في شدقه ، أتظنه يوفي بعهدك ، أو يسبح من خوفك ؟ هل تحصي عمره ، أم هل تدري أجله ، أو تفوّت رزقه ؟ أم هل تدري ماذا خرب من الأرض ؟ أم ماذا يخرّب فيما بقي من عمره ؟ أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك ؟ تبارك الله وتعالى ؟
قال أيوب صلى الله عليه وسلم : قَصُرْت عن هذا الأمر الذي تعرض لي ، ليت الأرض انشقت بي ، فذهبت في بلائي ولم أتكلم بشيء يسخط ربي ، اجتمع عليّ البلاء ، إلهي حملتني لك مثل العدوّ ، وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي ، وقد علمت أن الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك ، وأعظم من هذا ما شئت عملت ، لا يعجزك شيء ولا يخفى عليك خافية ، ولا تغيب عنك غائبة ، مَنْ هذا الذي يظن أن يُسِرّ عنك سرّا ، وأنت تعلم ما يخطر على القلوب ؟ وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم ، وخفت حين بلوت أمرك أكثر مما كنت أخاف ، إنما كنت أسمع بسطوتك سمعا ، فأمَّا الآن فهو بصر العين ، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني ، وسكتّ حين سكتّ لترحمني ، كلمة زلت فلن أعود ، قد وضعت يديّ على فمي ، وعضضت على لساني ، وألصقت بالتراب خدّي ، ودست وجهي لصغاري ، وسكت كما أسكتتني خطيئتي ، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني.
قال الله تبارك وتعالى : يا أيوب نفذ فيك علمي ، وبحلمي صرفت عنك غضبي ، إذ خطئت فقد غفرت لك ، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ، فاغتسل بهذا الماء ، فإن فيه شفاءك ، وقرِّب عن صحابتك قُربانا ، واستغفر لهم ، فإنهم قد عصوني فيك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليمانيّ ، وغيره من أهل الكتب الأوَل ، أنه كان من حديث أيوب أنه كان رجلا من الروم ، وكان الله قد اصطفاه ونبأه ، وابتلاه
__________
(1) في الكتاب المقدس ص 831 : " بهيموث " .
(2) في الكتاب المقدس ص 381 : " لوياثان " .

(18/493)


في الغنى بكثرة الولد والمال ، وبسط عليه من الدنيا ، فوسَّع عليه في الرزق ، وكانت له البَشَنية من أرض الشأم ، أعلاها وأسفلها ، وسهلها وجبلها ، وكان له فيها من أصناف المال كله ، من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير ما لا يكون للرجل أفضل منه في العِدة والكثرة ، وكان الله قد أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء ، وكان برًّا تقيا رحيما بالمساكين ، يطعم المساكين ويحمل الأرامل ، ويكفل الأيتام ، ويكرم الضيف ، ويبلِّغ ابن السبيل ، وكان شاكرا لأنعم الله عليه ، مودّيا لحق الله في الغنى ، قد امتنع من عدوّ الله إبليس أن يصيب منه ما أصاب من أهل الغنى من العزّة والغفلة ، والسهو والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا ، وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدّقوه ، وعرفوا فضل ما أعطاه الله على من سواه ، منهم رجل من أهل اليمن يقال له : أليفز ، ورجلان من أهل بلاده يقال لأحدهما : صوفر ، وللآخر : بِلدد ، وكانوا من بلاده كهولا وكان لإبليس عدو الله منزل من السماء السابعة يقع به كلّ سنة موقعا يسأل فيه ، فصعد إلى السماء في ذلك اليوم الذي كان يصعد فيه ، فقال الله له : أو قيل له عن الله : هل قدرت من أيوب عبدي على شيء ؟ قال : أي ربّ وكيف أقدر منه على شيء ؟ أو إنما ابتليتَه بالرخاء والنعمة والسعة والعافية ، وأعطيته الأهل والمال والولد والغنى والعافية في جسده وأهله وماله ، فما له لا يشكرك ويعبدك ويطيعك وقد صنعت ذلك به ، لو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما كان عليه من شكرك ، ولترك عبادتك ، ولخرج من طاعتك إلى غيرها ، أو كما قال عدوّ الله ، فقال : قد سلطتك على أهله وماله ، وكان الله هو أعلم به ، ولم يسلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب بالذي يصيبه من البلاء ، وليجعله عبرة للصابرين ، وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ، ليتأسوا به ، وليرجوا من عاقبة الصبر في عَرَض الدنيا ثواب الآخرة وما صنع الله بأيوب ، فانحطّ عدوّ الله سريعا ، فجمع عفاريت الجنّ ومَرَدة الشياطين من جنوده ، فقال : إني قد سُلّطت على أهل أيوب وماله ، فماذا عليكم ؟ فقال قائل منهم : أكون إعصارا فيه نار ، فلا أمرّ بشيء من ماله إلا أهلكته ، قال : أنت وذاك ، فخرج حتى أتى إبله ، فأحرقها ورعاتَها جميعا ، ثم جاء عدوّ الله أيوب في صورة قيِّمه عليها هو في مصلَّى فقال : يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري ، فجئتك أخبرك بذلك ، فعرفه أيوب ، فقال : الحمد لله الذي هو أعطاها ، وهو أخذها الذي أخرجك منها كما يخرج الزُّوان من الحبّ النقيّ ، ثم انصرف عنه ، فجعل يصيب ماله مالا مالا حتى مرّ على آخره ، كلما انتهى إليه هلاك مال من ماله حمد الله وأحسن عليه الثناء ورضي بالقضاء ، ووطَّن نفسه بالصبر على البلاء ، حتى إذا لم يبق له مال أتى أهله وولده ، وهم في قصر لهم معهم حَظياتهم ، وخدّامهم ، فتمثَّل ريحا عاصفا ، فاحتمل القصر من نواحيه ، فألقاه على أهله وولده ، فشدخهم تحته ، ثم أتاه في صورة قَهْرمانه عليهم ، قد شدخ وجهه ، فقال : يا أيوب قد أتت ريح عاصف ، فاحتملت القصر من نواحيه ، ثم ألقته على أهلك وولدك فشدختهم غيري ، فجئتك أخبرك ذلك ، فلم يجزع على شيء أصابه جزعه على أهله وولده ، وأخذ ترابا فوضعه على رأسه ، ثم قال : ليت أمي لم تلدني ، ولم أك شيئا ، وسرّ بها عدوّ الله منه ، فأصعد إلى السماء جَذِلا وراجع أيوب التوبة مما قال ، فحمد الله ، فسبقت توبته عدو الله إلى الله ، فلما جاء وذكر ما صنع ، قيل له قد سبقتك توبته إلى الله ومراجعته ، قال : أي ربّ فسلطني على جسده ، قال : قد سلَّطتك على جسده إلا على لسانه وقلبه ونفسه وسمعه وبصره ، فأقبل إليه عدوّ الله وهو ساجد ، فنفخ في جسده نفخة أشعل ما بين قرنه إلى قدمه كحريق النار ، ثم خرج في جسده ثآليل كأليات الغنم ، فحكّ بأظفاره حتى ذهبت ، ثم بالفَخَّار والحجارة حتى تساقط لحمه ، فلم يبق منه إلا العروق والعصب والعظام ، عيناه تجولان في رأسه للنظر وقلبه للعقل ، ولم يخلص إلى شيء من حشو البطن ، لأنه لا بقاء للنفس إلا بها ، فهو يأكل ويشرب على التواء من حشوته ، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث.
فحدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة عن ابن إسحاق ، عن ابن دينار ، عن الحسن أنه كان يقول : مكث أيوب في ذلك البلاء سبع سنين وستة أشهر ملقى على رماد مكنسة في جانب القرية ، قال وهب بن منبه : ولم يبق من أهله إلا امرأة واحدة تقوم عليه وتكسب له ، ولا يقدر عدوّ الله منه على قليل ولا كثير مما يريد. فلما طال البلاء عليه وعليها ، وسئمها الناس ، وكانت تكسب عليه ما تطعمه وتسقيه ، قال وهب بن منبه : فحُدثت أنها التمست له يوما من الأيام تطعمه ، فما وجدت شيئا حتى جزّت قَرْنا من رأسها فباعته برغيف. فأتته به

(18/469)


فعشته إياه ، فلبث في ذلك البلاء تلك السنين ، حتى إن كان المارّ ليمرّ فيقول : لو كان لهذا عند الله خير لأراحه مما هو فيه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمه ، قال : فحدثني محمد بن إسحاق ، قال : وكان وهب بن منبه يقول : لبث في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما واحدا ، فلما غلبه أيوب فلم يستطع منه شيئا ، اعترض لامرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والطول على مركب ليس من مراكب الناس ، له عظم وبهاء وجمال ليس لها ، فقال لها : أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى ؟ قالت نعم ، قال : هل تعرفينني ؟ قالت لا قال : فأنا إله الأرض ، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت ، وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كلّ ما كان لكما من مال وولد ، فإنه عندي ، ثم أراها إياهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه ، قال : وقد سمعت أنه إنما قال : لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسمّ عليه لعوفي مما به من البلاء ، والله أعلم ، وأراد عدوّ الله أن يأتيه من قِبَلها ، فرجعت إلى أيوب ، فأخبرته بما قال لها وما أراها ، قال : أو قد آتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك ؟ ثم أقسم إن الله عافاه ليضربنها مئة ضربة ، فلما طال عليه البلاء ، جاءه أولئك النفر الذين كانوا معه قد آمنوا به وصدّقوه معهم فتى حديث السنّ ، قد كان آمن به وصدّقه ، فجلسوا إلى أيوب ونظروا إلى ما به من البلاء ، فأعظموا ذلك وفَظِعوا به ، وبلغ من أيوب صلوات الله عليه مجهوده ، وذلك حين أراد الله أن يفرِّج عنه ما به ، فلما رأى أيوب ما أعظموا مما أصابه ، قال : أي ربّ لأيّ شيء خلقتني ولو كنت إذ قضيت عليّ البلاء تركتني فلم تخلقني ليتني كنت دما ألقتني أمي ، ثم ذكر نحو حديث ابن عسكر ، عن إسماعيل بن عبد الكريم ، إلى : وكابدوا الليل ، واعتزلوا الفراش ، وانتظروا الأسحار ، ثم زاد فيه : أولئك الآمنون الذي لا يخافون ، ولا يهتمون ولا يحزنون ، فأين عاقبة أمرك يا أيوب من عواقبهم ؟
قال فتى حضرهم وسمع قولهم ، ولم يفطنوا له ولم يأبهوا لمجلسه ، وإنما قيَّضه الله لهم لما كان من جورهم في المنطق وشططهم ، فأراد الله أن يصغر به

(18/498)


إليهم أنفسهم وأن يسفِّه بصغره لهم أحلامهم ، فلما تكلم تمادى في الكلام ، فلم يزدد إلا حكما ، وكان القوم من شأنهم الاستماع والخشوع إذا وُعظوا أو ذُكِّروا ، فقال : إنكم تكلمتم قبلي أيها الكهول ، وكنتم أحقّ بالكلام وأولى به مني لحقّ أسنانكم ، ولأنكم جرّبتم قبلي ، ورأيتم وعلمتم ما لم أعلم ، وعرفتم ما لم أعرف ، ومع ذلك قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم ، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم ، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم ، ومن الموعظة أحكم من الذي وصفتم ، وقد كان لأيوب عليكم من الحقّ والذِّمام أفضلُ من الذي وصفتم ، هل تدرون أيها الكهول حقّ من انتقصتم ، وحرمة من انتهكتم ، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ، ولم تعلموا أيها الكهول أن أيوب نبيّ الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض ، يومكم هذا اختاره الله لوحيه ، واصطفاه لنفسه وأتمنه على نبوّته ، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه سخط شيئا من أمره مذ أتاه ما آتاه إلى يومكم هذا ، ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه بها مذ آتاه ما آتاه إلى يومكم هذا ، ولا أن أيوب غَيَّر الحقّ في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا ، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ، ووضعه في أنفسكم ، فقد علمتم أن الله يبتلي النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين ، ثم ليس بلاؤه لأولئك بدليل سخطه عليهم ولا لهوانه لهم ولكنها كرامة وخِيْرة لهم ، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة ولا في النبوّة ولا في الأثرة ولا في الفضيلة ولا في الكرامة ، إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحابة ، لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذُل أخاه عند البلاء ، ولا يعيره بالمصيبة بما لا يعلم وهو مكروب حزين ، ولكن يرحمه ويبكي ، معه ويستغفر له ، ويحزن لحزنه ، ويدله على مراشد أمره ، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا ، فالله الله أيّها الكهول في أنفسكم.
قال : ثم أقبل على أيوب صلى الله عليه وسلم فقال : وقد كان في عظمة الله وجلاله ، وذكر الموت ما يقطع لسانك ، ويكسر قلبك ، وينسيك حججك ، ألم تعلم يا أيوب أن لله عبادا أسكتتهم خشيته من غير عيّ ولا بَكَم ؟ وإنهم لهم الفصحاء النطقاء النبلاء الألباء العالمون بالله وبآياته ، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم ، واقشعرّت جلودهم ، وانكسرت قلوبهم ، وطاشت عقولهم إعظاما لله ، وإعزازا وإجلالا فإذا استفاقوا من ذلك استَبَقوا إلى الله

(18/499)


بالأعمال الزاكية ، يَعُدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين ، وإنهم لأنزاه برآء ، ومع المقصِّرين والمفرِّطين ، وإنهم لأكياس أقوياء ، ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير ، ولا يرضون لله بالقليل ، ولا يُدِلُّون عليه بالأعمال فهم مروّعون مفزعون مغتمون خاشعون وجلون مستكينون معترفون ، متى ما رأيتهم يا أيوب.
قال أيوب : إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير ، فمتى نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان ، وليست تكون الحكمة من قبل السنّ ، ولا الشبيبة ولا طول التجربة ، وإذا جعل الله العبد حكيما في الصيام لم يسقط منزله عند الحكماء ، وهم يرون عليه من الله نور الكرامة ، ولكنكم قد أعجبتكم أنفسكم ، وظننتم أنكم عوفيتم بإحسانكم ، فهنالك بغيتم وتعزّزتم ، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ، ثم صدقتم أنفسكم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية التي ألبسكم ، ولكني قد أصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم ، قد كنت فيما خلا مسموعا كلامي ، معروفا حقي ، منتصفا من خصمي ، قاهرا لمن هو اليوم يقهرني ، مهيبا مكاني ، والرجال مع ذلك ينصتون لي ويوقروني ، فأصبحت اليوم قد انقطع رجائي ، ورفع حذري ، وملَّني أهلي ، وعقني أرحامي ، وتنكرت لي معارفي ، ورغب عني صديقي ، وقطعني أصحابي ، وكفرني أهل بيتي ، وجُحِدَتْ حقوقي ، ونُسِيت صنائعي ، أصرخ فلا يُصْرِخونني ، وأعتذر فلا يعذرونني ، وإن قضاءه هو الذي أذلني ، وأقمأني وأخسأني ، وأن سُلطانه ، هو الذي أسقمني وأنحل جسمي ، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري ، وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي ، ثم كان ينبغي للعبد يحاجَّ عن نفسه ، لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي ، ولكنه ألقاني وتعالى عني ، فهو يراني ، ولا أراه ، ويسمعني ولا أسمعه لا نظر إليّ فرحمني ، ولا دنا مني ولا أدناني ، فأدلي بعذري ، وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.
لما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده ، أظله غمام حتى ظنّ أصحابه أنه عذاب ،