اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 مايو 2022

مجلد 8. جامع البيان {تفسير الطبري}

 

مجلد 8. جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف : محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري،
[ 224 - 310 هـ ]

فقالوا : رجلان في كلّ حال. قال : وقد اجتمعت العرب على إثبات الألف في كلا الرجلين ، في الرفع والنصب والخفض ، وهما اثنان ، إلا بني كنانة ، فإنهم يقولون : رأيت كلي الرجلين ، ومررت بكلي الرجلين ، وهي قبيحة قليلة مضوا على القياس ، قال : والوجه الآخر أن تقول : وجدت الألف من هذا دعامة ، وليست بلام فعل ، فلما بنيت زدت عليها نونا ، ثم تركت الألف ثابتة على حالها لا تزول بكلّ حال ، كما قالت العرب الذي ، ثم زادوا نونا تدلّ على الجمع ، فقالوا : الذين في رفعهم ونصبهم وخفضهم ، كما تركوا هذان في رفعه ونصبه وخفضه ، قال : وكان القياس أن يقولوا : اللذون ، وقال آخر منهم : ذلك من الجزم المرسل ، ولو نصب لخرج إلى الانبساط.
وحُدثت عن أبي عُبيدة معمر بن المثنى ، قال : قال أبو عمرو وعيسى بن عمر ويونس : إن هذين لساحران في اللفظ ، وكتب هذان كما يريدون الكتاب ، واللفظ صواب ، قال : وزعم أبو الخطاب أنه سمع قوما من بني كنانة وغيرهم ، يرفعون الاثنين في موضع الجر والنصب ، قال : وقال بشر بن هلال : إن بمعنى الابتداء والإيجاب ، ألا ترى أنها تعمل فيما يليها ، ولا تعمل فيما بعد الذي بعدها ، فترفع الخبر ولا تنصبه ، كما نصبت الاسم ، فكان مجاز " إن هذان لساحران " ، مجاز كلامين ، مَخْرجه : إنه إي نعم ، ثم قلت : هذان ساحران. ألا ترى أنهم يرفعون المشترك كقول ضابئ :
فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمَدِينَةِ رَحْلُهُ... فإنّي وَقيار بِهَا لَغَرِيبُ (1)
وقوله :
__________
(1) البيت لضابئ بن الحارث البرجمي ، وهو أول أبيات قالها وهو محبوس بالمدينة ، في زمن عثمان بن عفان . وبعده ثلاثة أبيات أنشدها أبو العباس المبرد في الكامل ( خزانة الأدب للبغدادي 4 : 323 - 328 ) واستشهد به النحاة على أن قوله ( قيار ) مبتدأ حذف خبره ، والجملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها ، والتقدير : فإني وقيار كذلك ، لغريب . وإنما لم يجعل الخبر لقيار ، ويكون خبر إن محذوفا ؛ لأن اللام لا تدخل في خبر المبتدأ حتى يقدم ، نحو لقائم زيد . وهذا تخريج له خلاف مذهب سيبويه ، فإن الجملة عنده في نية التأخير ، فهي معطوفة لا معترضة ، وزعم الكسائي والفراء أن نصب إن ضعيف لأنها إنما تغير الاسم ولا تغير الخبر ، قال الزجاج : وهذا غلط ، لأن إن قد عملت عملين : الرفع والنصب ، وليس في العربية ناصب ليس معه مرفوع ، لأن كل منصوب مشبه بالمفعول ، والمفعول لا يكون بغير فاعل ، إلا فيما لم يسم فاعله . وكيف يكون نصب إن ضعيفا وهي تتخطى الظروف وتنصب ما بعدها نحو " إن فيها قوما جبارين " ، ونصب إن من أقوى المنصوبات أه .

(18/329)


إنَّ السُّيوفَ غُدُوَّها ورَوَاحَها... تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعْضَبِ (1)
قال : ويقول بعضهم : إن الله وملائكته يصلون على النبيّ ، فيرفعون على شركة الابتداء ، ولا يعملون فيه إنَّ. قال : وقد سمعت الفصحاء من المحرمين يقولون : إن الحمد والنعمةَ لك والملك ، لا شريك لك ، قال : وقرأها قوم على تخفيف نون إن وإسكانها ، قال : ويجوز لأنهم قد أدخلوا اللام في الابتداء وهي فصل ، قال :
أُمُّ الحُلَيْس لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ (2)
قال : وزعم قوم أنه لا يجوز ، لأنه إذا خفف نون " إن " فلا بدّ له من أن يدخل " إلا " فيقول : إن هذا إلا ساحران.
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا(إنّ) بتشديد نونها ،
__________
(1) البيت للأخطل ( خزانة الأدب للبغدادي 2 : 372 ) من قصيدة له ستة عشر بيتا مدح بها العباس بن محمد بن عبد الله بن العباس . والبيت شاهد عند النحاة على أنه قد يعتبر الأول في اللفظ دون الثاني ، أي يعتبر المبدل منه في اللفظ دون البدل فإن قوله " غدوها " بدل من السيوف ، قال المبرد في الكامل : هو بدل اشتمال ، وقد روعي المبدل منه في اللفظ ، بإرجاع الضمير إليه من الخبر ، ولم يراع البدل ولو روعي لقيل " تركا " بالتثنية . وهوازن : أبو قبيلة ، وهو هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر . والأعضب : الذي انكسر أحد قرنيه . وأورد المؤلف البيت شاهدا على أنهم قد يرفعون المشترك ، أي المعطوف على اسم إن ، وليس في البيت عطف على اسم إن ، وإنما هو إبدال من المنصوب كما قرره المبرد وأبو علي الفارسي في إيضاح الشعر .
(2) هذا بيت من مشطور الرجز نسبه الصاغاني في العباب إلى عنترة بن عروش بالشين في آخره ، وقيل بالسين ، مولى ثقيف . ( خزانة الأدب الكبرى للبغدادي 4 : 328 - 330 ) . وهو شاهد على أنه شذ دخول اللام على خبر المبتدأ المؤخر ، مجردا من إن . وقدر بعضهم : لهي عجوز ، لتكون في التقدير داخلة على المبتدأ . قال ابن السراج في الأصول : قال أبو عثمان : وقرأ سعيد بن جبير ( إلا أنهم لا يأكلون الطعام ) : فتح أن ، وجعل اللام زائدة كما زيدت في قوله : أم الحليس لعجوز شهربه ... ترضى من اللحم بعظم الرقبة
انتهى . وعند ابن جني غير زائدة ، لكنها في البيت ضرورة . قال في سر الصناعة : وأما الضرورة التي تدخل لها اللام في خبر إن فمن ضرورات الشعر ، ولا يقاس عليها ؛ والوجه أن يقال : لأم الحليس عجوز شهربه ، كما يقال لزيد قائم . وأورد المؤلف البيت شاهدا على أن اللام فيه " وقيار بها لغريب " هي لام ابتداء أخرجت إلى الخبر ، كما في قول الراجز : أم الحليس لعجوز ، وأصله : لأم الحليس عجوز .

(18/330)


وهذان بالألف لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأنه كذلك هو في خطّ المصحف ، ووجهه إذا قرئ كذلك مشابهته الذين إذ زادوا على الذي النون ، وأقرّ في جميع الأحوال الإعراب على حالة واحدة ، فكذلك(إنَّ هَذَانِ) زيدت على هذا نون وأقرّ في جميع أحوال الإعراب على حال واحدة ، وهي لغة الحارث بن كعب ، وخثعم ، وزبيد ، ومن وليهم من قبائل اليمن.
وقوله( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) يقول : ويغلبا على ساداتكم وأشرافكم ، يقال : هو طريقة قومه ونظورة قومه ، ونظيرتهم إذا كان سيدهم وشريفهم والمنظور إليه ، يقال ذلك للواحد والجمع ، وربما جمعوا ، فقالوا : هؤلاء طرائق قومهم ، ومنه قول الله تبارك وتعالى : ( كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ) وهؤلاء نظائر قومهم.
وأما قوله(المُثْلَى) فإنها تأنيث الأمثل ، يقال للمؤنث ، خذ المثلى منهما. وفي المذكر : خذ الأمثل منهما ، ووحدت المثلى ، وهي صفة ونعت للجماعة ، كما قيل( لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) وقد يحتمل أن يكون المُثلى أنثت لتأنيث الطريقة.
وبنحو ما قلنا في معنى قوله( بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) يقول : أمثلكم وهم بنو إسرائيل.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( ويذهبا بطريقتكم المثلى ) قال : أولي العقل والشرف والأنساب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) قال : أولي العقول والأشراف والأنساب.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتَادة ، قوله : ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) وطريقتهم المُثلى يومئذ كانت بنو إسرائيل ، وكانوا أكثر القوم عددا وأموالا وأولادا ، قال عدوّ الله : إنما يريدان

(18/331)


فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)

أن يذهبا بهم لأنفسهما.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله( بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) قال : ببني إسرائيل.
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) يقول : يذهبا بأشراف قومكم.
وقال آخرون : معنى ذلك ، ويغيرا سنتكم ودينكم الذي أنتم عليه ، من قولهم : فلان حسن الطريقة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) قال : يذهبا بالذي أنتم عليه ، يغير ما أنتم عليه ، وقرأ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ ) قال : هذا قوله : ( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) وقال : يقول طريقتكم اليوم طريقة حسنة ، فإذا غيرت ذهبت هذه الطريقة.
ورُوي عن عليّ في معنى قوله( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) ما حدثنا به القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن القاسم ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : يصرفان وجوه الناس إليهما.
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله ابن زيد في قوله( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) وإن كان قولا له وجه يحتمله الكلام ، فإن تأويل أهل التأويل خلافه ، فلا أستجيز لذلك القول به.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) }
اختلفت القراء في قراءة قوله( فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ) فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة( فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ) بهمز الألف من(فأجْمِعُوا) ، ووجِّهوا معنى ذلك إلى : فأحكموا كيدكم ، واعزموا عليه ، من قولهم : أجمع فلان الخروج ، وأجمع

(18/332)


على الخروج ، كما يقال : أزمع عليه ، ومنه قول الشاعر :
يا لَيت شِعْرِي والمُنى لا تَنْفَعُ... هَلْ أغْدُونْ يوْما وأمْرِي مُجْمعُ (1)
يعني بقوله : " مجمع " ; قد أحكم وعزم عليه ، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لمْ يُجْمَعْ عَلى الصَّوْمِ مِن اللَّيْلِ فَلا صَوْم لَهُ " .
وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل البصرة : ( فاجْمِعُوا كَيْدكُمْ) بوصل الألف ، وترك همزها ، من جمعت الشيء ، كأنه وجَّهه إلى معنى : فلا تدعَوا من كيدكم شيئا إلا جئتم به. وكان بعض قارئي هذه القراءة يعتلّ فيما ذُكر لي لقراءته ذلك كذلك بقوله( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ )..
قال أبو جعفر : والصواب في قراءة ذلك عندنا همز الألف من أجمع ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأن السحرة هم الذين كانوا به معروفين ، فلا وجه لأن يقال لهم : أجمعوا ما دعيتم له مما أنتم به عالمون ، لأن المرء إنما يجمع ما لم يكن عنده إلى ما عنده ، ولم يكن ذلك يوم تزيد في علمهم بما كانوا يعملونه من السحر ، بل كان يوم إظهاره ، أو كان متفرّقا مما هو عنده ، بعضه إلى بعض ، ولم يكن السحر متفرّقا عندهم فيجمعونه ، وأما قوله( فَجَمَعَ كَيْدَهُ ) فغير شبيه المعنى بقوله( فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ) وذلك أن فرعون كان هو الذي يجمع ويحتفل بما يغلب به موسى مما لم يكن عنده مجتمعا حاضرا ، فقيل : فتولى فرعون فجمع كيده.
__________
(1) البيت في ( اللسان : جمع ) ولم ينسبه قال وجمع أمره وأجمع عليه : عزم عليه ، كأنه جمع نفسه له ، والأمر مجمع . ويقال أيضا . أجمع أمرك ولا تدعه منتشرا وقال آخر " يا ليت شعري . . . البيت " وقوله تعالى : " فأجمعوا أمركم وشركاءكم " أي وادعوا شركاءكم قال وكذلك هي في قراءة عبد الله ؛ لأنه لا يقال أجمعت شركائي ، إنما يقال جمعت ، وقال الفراء الإجماع : الإعداد والعزيمة على الأمر قال ونصب شركائي بفعل مضمر ، كأنك قلت فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم قال أبو إسحاق الذي قاله الفراء غلط في إضماره " وادعوا شركاءكم " . لأن الكلام لا فائدة له . لأنهم كانوا يدعون شركاءهم لأن يجمعوا أمرهم . قال والمعنى فأجمعوا أمركم مع شركاءكم ، وإذا كان الدعاء لغير شيء فلا فائدة فيه قالوا والواو بمعنى مع . كقولك " لو يركب الناقة وفصيلها لرضعها " المعنى لو يركب الناقة مع فصيلها قال ومن قرأ " فأجمعوا أمركم وشركاءكم " بألف موصولة فإنه يعطف شركاءكم على أمركم قال ويجوز فأجمعوا أمركم مع شركائكم .

(18/333)


وقوله( ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ) يقول : احضروا وجيئوا صفا ، والصفّ هاهنا مصدر ، ولذلك وحد ، ومعناه : ثم ائتوا صفوفا ، وللصفّ في كلام العرب موضع آخر ، وهو قول العرب : أتيت الصفّ اليوم ، يعني به المصلى الذي يصلي فيه.
وقوله( وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ) يقول : قد ظفر بحاجته اليوم من علا على صاحبه فقهره.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه ، قال : جمع فرعون الناس لذلك الجمع ، ثم أمر السحرة فقال( ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ) أي قد أفلح من أفلج اليوم على صاحبه.

(18/334)


قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) }
يقول تعالى ذكره : فأجمعت السحرة كيدهم ، ثم أتوا صفا فقالوا لموسى( يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ) وترك ذكر ذلك من الكلام اكتفاء بدلالة الكلام عليه.
واختلف في مبلغ عدد السحرة الذين أتوا يومئذ صفا ، فقال بعضهم : كانوا سبعين ألف ساحر ، مع كل ساحر منهم حبل وعصا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن هشام الدستوائي ، قال : ثنا القاسم بن أبي بزّة ، قال : جمع فرعون سبعين ألف ساحر ، فألقوا سبعين ألف حبل ، وسبعين ألف عصا ، فألقى موسى عصاه ، فإذا هي ثعبان مبين فاغر به فاه ، فابتلع حبالهم وعصيهم( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا ) عند ذلك ، فما رفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما ،

(18/334)


فعند ذلك( قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ).
وقال آخرون : بل كانوا نيفا وثلاثين ألف رجل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ( قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ ) ألقوا ، فألقوا حبالهم وعصيهم ، وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل ليس منهم رجل إلا ومعه حبل وعصا.
وقال آخرون بل كانوا خمسة عشر ألفا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثت عن وهب بن منبه ، قال : صف خمسة عشر ألف ساحر ، مع كل ساحر حباله وعصيه.
وقال آخرون : كانوا تسع مئة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : كان السحرة ثلاث مئة من العريش ، وثلاث مئة من فيوم ، ويشكون في ثلاث مئة من الإسكندرية ، فقالوا لموسى : إما أن تلقي ما معك قبلنا ، وإما أن نلقي ما معنا قبلك ، وذلك قوله( وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ) وأن في قوله(إمَّا أنْ) في موضع نصب ، وذلك أن معنى الكلام : اختر يا موسى أحد هذين الأمرين : إما أن تلقي قبلنا ، وإما أن نكون أوّل من ألقى ، ولو قال قائل : هو رفع ، كان مذهبا ، كأنه وجَّهه إلى أنه خبر ، كقول القائل :
فَسِيرَا فإمَّا حاجَةً تَقْضِيانها... وإمَّا مَقِيل صَالِحٌ وصَدِيقُ (1)
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( مصورة الجامعة ، الورقة 198) قال : وقوله " إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى " . . أن وأن : في موضع نصب ، والمعنى : اختر إحدى هاتين ؛ ولو رفع إذ لم يظهر الفعل ، كان صوابا ، كأنه خبر ، كقول الشاعر : فسيرا . . . البيت " . ولو رفع " فإما منا بعد وإما فداء " كان أيضا صوابا . ومذهبه كمذهب قوله : " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " والنصب في قوله " إما أن تلقي " وفي قوله " فإما منا بعد وإما فداء " : أجود من الرفع ، لأنه شيء ليس بعام ، مثل ما ترى من معنى قوله " فإمساك " و " فصيام ثلاثة أيام " لما كان المعنى يعم الناس في الإمساك بالمعروف في صيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين ، كان الجزاء ، فرفع لذلك ، والاختيار إنما هي فعلة واحدة .

(18/335)


فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)

وقوله( قَالَ بَلْ أَلْقُوا ) يقول تعالى ذكره : قال موسى للسحرة : بل ألقوا أنتم ما معكم قبلي. وقوله( فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) ، وفي هذا الكلام متروك ، وهو : فألقوا ما معهم من الحبال والعصيّ ، فإذا حبالهم ، ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام الذي ذكر عليه عنه ، وذُكر أن السحرة سحروا عين موسى وأعين الناس قبل أن يلقوا حبالهم وعصيهم ، فخيل حينئذ إلى موسى أنها تسعى.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه ، قال : قالوا يا موسى ، ( إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا ) فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون ، ثم أبصار الناس بعد ، ثم ألقى كلّ رجل منهم ما في يده من العصي والحبال ، فإذا هي حيات كأمثال الحبال ، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
واختلفت القراء في قراءة قوله( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ) بالياء بمعنى : يخيل إليهم سعيها ، وإذا قرئ ذلك كذلك ، كانت " أن " في موضع رفع ، ورُوي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه : ( تُخَيَّلُ) بالتاء ، بمعنى : تخيل حبالهم وعصيهم بأنها تسعى ، ومن قرأ ذلك كذلك ، كانت " أن " في موضع نصب لتعلق تخيل بها ، وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يقرؤه : ( تُخَيَّلُ إلَيْه) بمعنى : تتخيل إليه ، وإذا قرئ ذلك كذلك أيضا ف " أن " في موضع نصب بمعنى : تتخيل بالسعي لهم.
والقراءة التي لا يجوز عندي في ذلك غيرها( يُخَيَّل ) بالياء ، لإجماع الحجة من القراء عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) }

(18/336)


يعني تعالى ذكره بقوله : فأوجس في نفسه خوفا موسى فوجده.
وقوله( قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى ) يقول تعالى ذكره : قلنا لموسى إذ أوجس في نفسه خيفة( لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى ) على هؤلاء السحرة ، وعلى فرعون وجنده ، والقاهر لهم( وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ) يقول : وألق عصاك تبتلع حبالهم وعصيهم التي سحروها حتى خيل إليك أنها تسعى.
وقوله( إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة( إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ) برفع كيد وبالألف في ساحر بمعنى : إن الذي صنعه هؤلاء السحرة كيد من ساحر. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة( إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ) برفع الكيد وبغير الألف في السحر بمعنى إن الذي صنعوه كيد سحر.
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، وذلك أن الكيد هو المكر والخدعة ، فالساحر مكره وخدعته من سحر يسحر ، ومكر السحر وخدعته : تخيله إلى المسحور ، على خلاف ما هو به في حقيقته ، فالساحر كائد بالسحر ، والسحر كائد بالتخييل ، فإلى أيهما أضفت الكيد فهو صواب ، وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأ( كَيْدَ سِحْرٍ) بنصب كيد ، ومن قرأ ذلك كذلك ، جعل إنما حرفا واحدا وأعمل صنعوا في كيد.
قال أبو جعفر : وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القرّاء على خلافها.
وقوله( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ) يقول : ولا يظفر الساحر بسحره بما طلب أين كان. وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقول : معنى ذلك : أن الساحر يُقتل حيث وُجد. وذكر بعض نحويي البصرة ، أن ذلك في حرف ابن مسعود( ولا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أيْنَ أتَى) وقال : العرب تقول : جئتك من حيث لا تعلم ، ومن أين لا تعلم ، وقال غيره من أهل العربية الأول : جزاء يقتل الساحر حيث أتى وأين أتى وقال : وأما قول العرب : جئتك من حيث لا تعلم ، ومن أين لا تعلم ، فإنما هو جواب لم يفهم ، فاستفهم كما قالوا : أين الماء والعشب.

(18/337)


فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) }
وفي هذا الكلام متروك قد استغنى بدلالة ما ترك عليه وهو : فألقى موسى عصاه ، فتلقفت ما صنعوا( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ) وذكر أن موسى لما ألقى ما في يده تحوّل ثعبانا ، فالتقم كلّ ما كانت السحرة ألقته من الحبال والعصي.
* ذكر الرواية عمن قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : لما اجتمعوا وألقوا ما في أيديهم من السحر ، ( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، قال : فتحت فما لها مثل الدحل ، ثم وضعت مشفرها على الأرض ورفعت الآخر ، ثم استوعبت كل شيء ألقوه من السحر ، ثم جاء إليها فقبض عليها ، فإذا هي عصا ، فخرّ السحرة سجدا( قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ) قال : فكان أول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف فرعون( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) قال : فكان أول من صلب في جذوع النخل فرعون.
حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ) فأوحى الله إليه( لا تَخَفْ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ) فألقى عصاه فأكلت كل حية لهم ، فلما رأوا ذلك سجدوا و( قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن

(18/338)


وهب بن منبه( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ) لما رأى ما ألقوا من الحبال والعصيّ وخيل إليه أنها تسعى ، وقال : والله إن كانت لعصيا في أيديهم ، ولقد عادت حيات ، وما تعدو عصاي هذه ، أو كما حدّث نفسه ، فأوحى الله إليه أن( وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ) وفرح موسى فألقى عصاه من يده ، فاستعرضت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم ، وهي حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى ، فجعلت تلقفها ، تبتلعها حية حية ، حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا ، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت ، ووقع السحرة سجدا ، قالوا : آمنا برب هارون وموسى ، لو كان هذا سحر ما غلبنا.
وقوله( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) يقول جلّ ثناؤه : وقال فرعون للسحرة : أصدقتم وأقررتم لموسى بما دعاكم إليه من قبل أن أطلق ذلك لكم( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ) يقول : إن موسى لعظيمكم( الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ).
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه ، قال : لما قالت السحرة( آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ) قال لهم فرعون ، وأسف ورأى الغلبة والبينة : ( آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) : أي لعظيم السحار الذي علمكم.
وقوله : ( فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ) يقول : فلأقطعن أيديكم وأرجلكم مخالفا بين قطع ذلك ، وذلك أن يقطع يمنى اليدين ويسرى الرجلين ، أو يسرى اليدين ، ويمنى الرجلين ، فيكون ذلك قطعا من خلاف ، وكان فيما ذُكر أوّل من فعل ذلك فرعون ، وقد ذكرنا الرواية بذلك. وقوله( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) يقول : ولأصلبنكم على جذوع النخل ، كما قال الشاعر :
هُمْ صَلَبُوا العَبْدِيّ فِي جِذعِ نَخْلَةٍ... فَلا عَطَسَتْ شَيْبان إلا بأجْدَعا (1)
__________
(1) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري ( اللسان : عبد ) قال : قال سيبويه : النسبة إلى عبد القيس عبدي ، وهو من القسم الذي أضيف فيه الأول ، لأنهم لو قالوا : قيسي ، لالتبس بالمضاف إلى قيس عيلان ونحوه ، قال سويد بن أبي كاهل : " وهو صلبوا . . . البيت " . قال ابن بري : قوله بأجدعا ، أي بأنف أجدع ، فحذف الموصوف ، وأقام صفته مكانه . واستشهد المؤلف بقوله : صلبوا العبدي في جذع نخلة أي على جذع نخلة ، كقول القرآن : وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ . وإنما ذلك على الاستعارة التبعية في الحرف ( في ) بتشبيه الاستعلاء بالظرفية ، بجامع التمكن في كل منهما .

(18/339)


قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)

يعني على ، جذع نخلة ، وإنما قيل : في جذوع ، لأن المصلوب على الخشبة يرفع في طولها ، ثم يصير عليها ، فيقال : صلب عليها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) لما رأى السحرة ما جاء به عرفوا أنه من الله فخروا سجدا ، وآمنوا عند ذلك ، قال عدو الله( فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ )... الآية.
حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال فرعون : ( فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) فقتلهم وقطعهم ، كما قال عبد الله بن عباس حين قالوا( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ) وقال : كانوا في أوّل النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء.
وقوله( وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ) يقول : ولتعلمنَّ أيها السحرة أينا أشدّ عذابا لكم ، وأدوم ، أنا أو موسى.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) }
يقول تعالى ذكره : قالت السحرة لفرعون لما توعدهم بما توعدهم به( لَنْ نُؤْثِرَكَ ) فنتبعك ونكذب من أجلك موسى( عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ) يعني من الحجج والأدلة على حقيقة ما دعاهم إليه موسى( وَالَّذِي فَطَرَنَا ) يقول : قالوا : لن نؤثرك على الذي جاءنا من البينات ، وعلى الذي فطرنا ، ويعني بقوله(فَطَرَنا) خلقنا ، فالذي من قوله( وَالَّذِي فَطَرَنَا ) خفض على قوله( مَا جَاءَنَا ) وقد يحتمل أن يكون قوله( وَالَّذِي فَطَرَنَا ) خفضا على القسم ، فيكون معنى الكلام : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والله ، وقوله( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ )

(18/340)


يقول : فاصنع ما أنت صانع ، واعمل بنا ما بدا لك( إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) يقول : إنما تقدر أن تعذّبنا في هذه الحياة الدنيا التي تفنى ، ونصب الحياة الدنيا على الوقت وجعلت إنما حرفا واحدا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه( لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ) أي على الله على ما جاءنا من الحجج مع بينة( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ) أي اصنع ما بدا لك( إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) أي ليس لك سلطان إلا فيها ، ثم لا سلطان لك بعده.
وقوله( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ) يقول تعالى ذكره : إنا أقررنا بتوحيد ربنا ، وصدقنا بوعده ووعيده ، وأن ما جاء به موسى حق( لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ) يقول : ليعفو لنا عن ذنوبنا فيسترها علينا( وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ) يقول : ليغفر لنا ذنوبنا ، وتعلمنا ما تعلمناه من السحر ، وعملنا به الذي أكرهتنا على تعلُّمه والعمل به ، وذُكر أن فرعون كان أخذهم بتعليم السحر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن سهل ، قال : ثنا نعيم بن حماد ، قال : ثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قول الله تبارك وتعالى : ( وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ) قال : غلمان دفعهم فرعون إلى السحرة ، تعلمهم السحر بالفَرَما.
حدثي يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ) قال : أمرهم بتعلم السحر ، قال : تركوا كتاب الله ، وأمروا قومهم بتعليم السحر.
(وما أكرهتنا عليه من السحر) قال : أمرتنا أن نتعلمه.
وقوله( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) يقول : والله خير منك يا فرعون جزاء لمن أطاعه ، وأبقى عذابا لمن عصاه وخالف أمره.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) : خير منك ثوابا ، وأبقى عذابا.

(18/341)


إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب ، ومحمد بن قيس في قول الله( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) قالا خيرا منك إن أطيع ، وأبقى منك عذابا إن عُصي.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل السحرة لفرعون( إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ ) من خلقه(مُجْرِما) يقول : مكتسبا الكفر به ، ( فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ) يقول : فإن له جهنم مأوى ومسكنا ، جزاء له على كفره( لا يَمُوتُ فِيهَا ) فتخرج نفسه( وَلا يَحْيَا ) فتستقر نفسه في مقرها فتطمئن ، ولكنها تتعلق بالحناجر منهم( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا ) موحدا لا يُشرك به( قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ ) يقول : قد عمل ما أمره به ربه ، وانتهى عما نهاه عنه( فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ) يقول : فأولئك الذين لهم درجات الجنة العلى.
القول في تأويل قوله تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) }
يقول تعالى ذكره : ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات ، فأولئك لهم الدرجات العلى. ثم بين تلك الدرجات العلى ما هي ، فقال : هن( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) يعني : جنات إقامة لا ظعن عنها ولا نفاد لها ولا فناء( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ) يقول : تجري من تحت أشجارها الأنهار( خَالِدِينَ فِيهَا ) يقول : ماكثين فيها إلى غير غاية محدودة; فالجنات من قوله( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) مرفوعة بالردّ على الدرجات.

(18/342)


كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ) قال : عدن.
وقوله( وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ) يقول : وهذه الدرجات العُلى التي هي جنات عدن على ما وصف جلّ جلاله ثواب من تزكى ، يعني : من تطهر من الذنوب ، فأطاع الله فيما أمره ، ولم يدنس نفسه بمعصيته فيما نهاه عنه.

(18/343)


وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى (77) }
يقول تعالى ذكره( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى ) نبينا(مُوسَى) إذ تابعنا له الحجج على فرعون ، فأبى أن يستجيب لأمر ربه ، وطغى وتمادى في طغيانه(أنْ أسْرِ) ليلا(بِعِبادِي) يعني بعبادي من بني إسرائيل ،
( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا ) يقول : فاتخذ لهم في البحر طريقا يابسا ، واليَبَس واليَبْس : يجمع أيباس ، تقول : وقفوا في أيباس من الأرض ، واليَبْس المخفف : يجمع يبوس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(يَبسا) قال : يابسا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن مجاهد ، مثله.
وأما قوله( لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) فإنه يعني : لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك ، ولا تخشى غرقا من بين يديك ووَحَلا.

(18/343)


وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله( لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) يقول : (لا تخافُ) من آل فرعون( دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) من البَحْرِ غرقا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) يقول : لا تخاف أن يدركك فرعون من بعدك ولا تخشى الغرق أمامك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيْج : قال أصحاب موسى : هذا فرعون قد أدركنا ، وهذا البحر قد غشينا ، فأنزل الله( لا تَخَافُ دَرَكًا ) أصحاب فرعون(ولا تَخْشَى) من البحر وحلا.
حدثني أحمد بن الوليد الرملي ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : ثنا هشيم ، عن بعض أصحابه ، في قوله( لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) قال : الوَحَل.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( لا تَخَافُ دَرَكًا ) فقرأته عامَّة قرّاء الأمصار غير الأعمش وحمزة : ( لا تَخَافُ دَرَكًا ) على الاستئناف بلا كما قال : ( وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ) فرفع ، وأكثر ما جاء في هذا الأمر الجواب مع " لا " . وقرأ ذلك الأعمش وحمزة( لا تَخَفْ دَرَكا) فجزما لا تخاف على الجزاء ، ورفعا( وَلا تَخْشَى ) على الاستئناف ، كما قال جلّ ثناؤه( يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) فاستأنف بثم ، ولو نوى بقوله : ( وَلا تَخْشَى ) الجزم ، وفيه الياء ، كان جائزا ، كما قال الراجز :
هُزّي إلَيْكِ الجِذْعَ يجْنِيكِ الجَنى
وأعجب القراءتين إليّ أن أقرأ بها(لا تخافُ) على وجه الرفع ، لأن ذلك أفصح اللغتين ، وإن كانت الأخرى جائزة ، وكان بعض نحويي البصرة يقول : معنى قوله( لا تَخَافُ دَرَكًا ) اضرب لهم طريقا لا تخاف فيه دركا ، قال : وحذف فيه ، كما تقول : زيد أكرمت ، وأنت تريد أكرمته ، وكما تقول( وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ) أي لا تجزى فيه ، وأما نحويو الكوفة فإنهم

(18/344)


فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)

ينكرون حذف فيه إلا في المواقيت ، لأنه يصلح فيها أن يقال : قمت اليوم وفي اليوم ، ولا يجيزون ذلك في الأسماء.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) }
يقول تعالى ذكره : فسرى موسى ببني إسرائيل إذ أوحينا إليه أن أسر بهم ، فأتبعهم فرعون بجنوده حين قطعوا البحر ، فغشي فرعون وجنده في اليم ما غشيهم ، فغرقوا جميعا( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ) يقول جلّ ثناؤه : وجاوز فرعون بقومه عن سواء السبيل ، وأخذ بهم على غير استقامة ، وذلك أنه سلك بهم طريق أهل النار ، بأمرهم بالكفر بالله ، وتكذيب رسله( وَمَا هَدَى ) يقول : وما سلك بهم الطريق المستقيم ، وذلك أنه نهاهم عن اتباع رسول الله موسى ، والتصديق به ، فأطاعوه ، فلم يهدهم بأمره إياهم بذلك ، ولم يهتدوا باتباعهم إياه.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ وَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي (81) }
يقول تعالى ذكره : فلما نجا موسى بقومه من البحر ، وغشي فرعون قومه من اليم ما غشيهم ، قلنا لقوم موسى( يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فِرْعَوْنَ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ وَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ) وقد ذكرنا كيف كانت مواعدة الله موسى وقومه جانب الطور الأيمن ، وقد بيَّنا المنّ والسلوى باختلاف المختلفين فيهما ، وذكرنا الشواهد على الصواب من القول في

(18/345)


ذلك فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ ) فكانت عامة قرّاء المدينة والبصرة يقرءونه( قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ ) بالنون والألف وسائر الحروف الأخرى معه كذلك ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة( قَدْ أنْجَيْتُكُمْ ) بالتاء ، وكذلك سائر الحروف الأخر ، إلى قوله( وَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ) فإنهم وافقوا الآخرين في ذلك وقرءوه بالنون والألف.
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان باتفاق المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ ذلك فمصيب.
وقوله( كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) يقول تعالى ذكره لهم : كلوا يا بني إسرائيل من شهيات رزقنا الذي رزقناكم ، وحلاله الذي طيبناه لكم( وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ) يقول : ولا تعتدوا فيه ، ولا يظلم فيه بعضكم بعضا. كما حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : ( وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ) يقول : ولا تظلموا.
وقوله( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ) يقول : فينزل عليكم عقوبتي.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة ، قوله( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ) يقول : فينزل عليكم غضبي.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ ) بكسر الحاء( وَمَنْ يَحْلِلْ ) بكسر اللام ، ووجهوا معناه إلى : فيجب عليكم غضبي ، وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة( فَيَحُلَّ عَلَيْكُم) بضم الحاء ، ووجهوا تأويله إلى ما ذكرنا عن قَتادة من أنه فيقع وينزل عليكم غضبي.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، وقد حذّر الله الذين قيل لهم هذا القول من بني إسرائيل وقوع بأسه بهم ونزوله بمعصيتهم إياه إن هم عصوه ، وخوّفهم وجوبه لهم ، فسواء قرئ ذلك بالوقوع أو بالوجوب ، لأنهم كانوا قد خوّفوا المعنيين كليهما.
" 81 "

(18/346)


كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) }
يقول تعالى ذكره : ومن يجب عليه غضبي ، فينزل به ، فقد هوى ، يقول فقد تردى فشقي. كما حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَقَدْ هَوَى ) يقول : فقد شقي.
وقوله( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) يقول : وإني لذو غفر لمن تاب من شركه ، فرجع منه إلى الإيمان لي( وآمَنَ ) يقول : وأخلص لي الألوهة ، ولم يشرك في عبادته إياي غيري.( وَعَمِلَ صَالِحًا ) يقول : وأدّى فرائضي التي افترضتها عليه ، واجتنب معاصي( ثُمَّ اهْتَدَى ) يقول : ثم لزم ذلك فاستقام ولم يضيع شيئا منه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) قال : أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) من الشرك(وآمَنَ) يقول : وحد الله( وَعَمِلَ صَالِحًا ) يقول : أدى فرائضي.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) من ذنبه(وآمَنَ) به( وَعَمِلَ صَالِحًا ) فيما بينه وبين الله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) من الشرك(وآمَنَ) يقول : وأخلص لله ، وعمل في إخلاصه.
واختلفوا في معنى قوله( ثُمَّ اهْتَدَى ) فقال بعضهم : معناه : لم يشكك في إيمانه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( ثُمَّ اهْتَدَى ) يقول : لم يشكُك.

(18/347)


وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)

وقال آخرون : معنى ذلك : ثم لزم الإيمان والعمل الصالح.
* ذكر قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ثُمَّ اهْتَدَى ) يقول : ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم استقام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس( ثُمَّ اهْتَدَى ) قال : أخذ بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون : بل معناه : أصاب العمل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) قال : أصاب العمل.
وقال آخرون : معنى ذلك : عرف أمر مُثيبه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن الكلبي( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) من الذنب(وآمَنَ) من الشرك( وَعَمِلَ صَالِحًا ) أدّى ما افترضت عليه( ثُمَّ اهْتَدَى ) عرف مثيبه إن خيرًّا فخير ، وإن شرًّا فشر.
وقال آخرون بما حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ، قال : أخبرنا عمر بن شاكر ، قال : سمعت ثابتا البناني يقول في قوله( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) قال : إلى ولاية أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر : إنما اخترنا القول الذي اخترنا في ذلك ، من أجل أن الاهتداء هو الاستقامة على هدى ، ولا معنى للاستقامة عليه إلا وقد جمعه الإيمان والعمل الصالح والتوبة ، فمن فعل ذلك وثبت عليه فلا شكّ في اهتدائه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) }

(18/348)


قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)

يقول تعالى ذكره : ( وَمَا أَعْجَلَكَ ) وأي شيء أعجلك( عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى ) فتقدمتهم وخلفتهم وراءك ، ولم تكن معهم
( قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي ) يقول : قومي على أثري يلحقون بي( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ) يقول وعجلت أنا فسبقتهم ربّ كيما ترضى عني.
وإنما قال الله تعالى ذكره لموسى : ما أعجلك عن قومك ، لأنه جلّ ثناؤه ، فيما بلغنا ، حين نجاه وبني إسرائيل من فرعون وقومه ، وقطع بهم البحر ، وعدهم جانب الطور الأيمن ، فتعجل موسى إلى ربه ، وأقام هارون في بني إسرائيل يسير بهم على أثر موسى.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وعد الله موسى حين أهلك فرعون وقومه ونجاه وقومه ، ثلاثين ليلة ، ثم أتمها بعشر ، فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة ، تلقاه فيها بما شاء ، فاستخلف موسى هارون في بني إسرائيل ، ومعه السامريّ ، يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به ، فلما كلم الله موسى ، قال له( وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ).
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ) قال : لأرضيك.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) }
يقول الله تعالى ذكره قال الله لموسى : فإنا يا موسى قد ابتلينا قومك من بعدك بعبادة العجل ، وذلك كان فتنتهم من بعد موسى.
ويعني بقوله( مِنْ بَعْدِكَ ) من بعد فراقك إياهم يقول الله تبارك وتعالى( وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ )

(18/349)


وكان إضلال السامريّ إياهم دعاءه إياهم إلى عبادة العجل.
وقوله( فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ ) يقول : فانصرف موسى إلى قومه من بني إسرائيل بعد انقضاء الأربعين ليلة( غَضْبَانَ أَسِفًا ) متغيظا على قومه ، حزينا لما أحدثوه بعده من الكفر بالله.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله( غَضْبَانَ أَسِفًا ) يقول : حزينا ، وقال في الزخرف( فَلَمَّا آسَفُونَا ) يقول : أغضبونا ، والأسف على وجهين : الغضب ، والحزن.
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( غَضْبَانَ أَسِفًا ) يقول : حزينا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ) : أي حزينا على ما صنع قومه من بعده.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(أسِفا) قال : حزينا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، وقوله( قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ) يقول : ألم يعدكم ربكم أنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ، ويعدكم جانب الطور الأيمن ، وينزل عليكم المنّ والسلوى ، فذلك وعد الله الحسن بني إسرائيل الذي قال لهم موسى : ألم يعدكموه ربكم ، وقوله( أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) يقول : أفطال عليكم العهد بي ، وبجميل نعم الله عندكم ، وأياديه لديكم ، أم أردتم أن يحلّ عليكم غضب من ربكم : يقول : أم أردتم أن يجب عليكم غضب من ربكم فتستحقوه بعبادتكم العجل ، وكفركم بالله ، فأخلفتم موعدي. وكان إخلافهم موعده ، عكوفهم على العجل ، وتركهم السير على أثر موسى للموعد الذي كان الله وعدهم ، وقولهم لهارون إذ نهاهم عن عبادة العجل ، ودعاهم إلى السير معه في أثر موسى( لَنْ

(18/350)


قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)

نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ).
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) }

(18/351)


فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) }
يقول تعالى ذكره : قال قوم موسى لموسى : ما أخلفنا موعدك ، يعنون بموعده : عهده الذي كان عهده إليهم.
كما حدثني محمد بن عمرو ، ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " وحدثنا الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(مَوْعِدِي) قال : عهدي ، وذلك العهد والموعد هو ما بيَّناه قبل.
وقوله(بِملْكِنا) يخبر جلّ ذكره عنهم أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ ، وقالوا : إنا لم نطق حمل أنفسنا على الصواب ، ولم نملك أمرنا حتى وقعنا في الذي وقعنا فيه من الفتنة.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة( بِمَلْكِنا) بفتح الميم ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة( بِمُلْكِنا(بضم الميم ، وقرأه بعض أهل البصرة( بِمِلْكِنا) بالكسر ، فأما الفتح والضمّ فهما بمعنى واحد ، وهما بقدرتنا وطاقتنا ، غير أن أحدهما مصدر ، والآخر اسم ، وأما الكسر فهو بمعنى ملك الشيء وكونه للمالك.
واختلف أيضا أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ما أخلفنا موعدك بأمرنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني

(18/351)


معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ، قوله( مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ) يقول : بأمرنا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(بِمَلْكِنا) قال : بأمرنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقال آخرون : معناه : بطاقتنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ) : أي بطاقتنا.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ) يقول : بطاقتنا.
وقال آخرون : معناه : ما أخلفنا موعدك بهوانا ، ولكنا لم نملك أنفسنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ) قال : يقول بهوانا ، قال : ولكنه جاءت ثلاثة ، قال ومعهم حلي استعاروه من آل فرعون ، وثياب.
وقال أبو جعفر : وكلّ هذه الأقوال الثلاثة في ذلك متقاربات المعنى ، لأن من لم يملك نفسه ، لغلبة هواه على ما أمر ، فإنه لا يمتنع في اللغة أن يقول : فعل فلان هذا الأمر ، وهو لا يملك نفسه وفعله ، وهو لا يضبطها وفعله وهو لا يطيق تركه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فسواء بأيّ القراءات الثلاث قرأ ذلك القارئ ، وذلك أن من كسر الميم من الملك ، فإنما يوجه معنى الكلام إلى ما أخلفنا موعدك ، ونحن نملك الوفاء به لغلبة أنفسنا إيانا على خلافه ، وجعله من قول القائل : هذا ملك فلان لما يملكه من المملوكات ، وأن من فتحها ، فإنه يوجه معنى الكلام إلى نحو ذلك ، غير أنه يجعله مصدرا من قول القائل : ملكت الشيء أملكه ملكا وملكة ، كما يقال : غلبت فلانا أغلبه غَلبا وغَلَبة ، وأن من ضمها فإنه وجَّه معناه إلى ما أخلفنا موعدك بسلطاننا وقدرتنا ، أي ونحن نقدر

(18/352)


أن نمتنع منه ، لأن كل من قهر شيئا فقد صار له السلطان عليه ، وقد أنكر بعض الناس قراءة من قرأه بالضمّ ، فقال : أيّ ملك كان يومئذ لبني إسرائيل ، وإنما كانوا بمصر مستضعفين ، فأغفل معنى القوم وذهب غير مرادهم ذهابا بعيدا ، وقارئو ذلك بالضم لم يقصدوا المعنى الذي ظنه هذا المنكر عليهم ذلك ، وإنما قصدوا إلى أن معناه : ما أخلفنا موعدك بسلطان كانت لنا على أنفسنا نقدر أن نردها عما أتت ، لأن هواها غلبنا على إخلافك الموعد.
وقوله( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ) يقول : ولكنا حملنا أثقالا وأحمالا من زينة القوم ، يعنون من حلي آل فرعون ، وذلك أن بني إسرائيل لما أراد موسى أن يسير بهم ليلا من مصر بأمر الله إياه بذلك ، أمرهم أن يستعيروا من أمتعة آل فرعون وحليهم ، وقال : إن الله مغنمكم ذلك ، ففعلوا ، واستعاروا من حليّ نسائهم وأمتعتهم ، فذلك قولهم لموسى حين قال لهم( أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ) فهو ما كان مع بني إسرائيل من حلي آل فرعون ، يقول : خطئونا بما أصبنا من حليّ عدوّنا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(أوْزَارًا) قال : أثقالا وقوله( مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ) قال : هي الحليّ التي استعاروا من آل فرعون ، فهي الأثقال.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا ) قال : أثقالا( مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ) قال : حليهم.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ) يقول : من حليّ القبط.

(18/353)


حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ) قال : الحليّ الذي استعاروه والثياب ليست من الذنوب في شيء ، لو كانت الذنوب كانت حملناها نحملها ، فليست من الذنوب في شيء.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأ عامة قرّاء المدينة وبعض المكيين(حُمِّلْنا) بضم الحاء وتشديد الميم بمعنى أن موسى يحملهم ذلك ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة وبعض المكيين( حَمَلْنا) بتخفيف الحاء والميم وفتحهما ، بمعنى أنهم حملوا ذلك من غير أن يكلفهم حمله أحد.
قال أبو جعفر : والقول عندي في تأويل ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، لأن القوم حملوا ، وأن موسى قد أمرهم بحمله ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب.
وقوله(فَقَذَفْناها) يقول : فألقينا تلك الأوزار من زينة القوم في الحفرة( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ) يقول : فكما قذفنا نحن تلك الأثقال ، فكذلك ألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله(فَقَذَفْناها) قال : فألقيناها( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ) : كذلك صنع.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد(فَقَذَفْناها) قال : فألقيناها( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ) فكذلك صنع.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(فَقَذَفْناها) : أي فنبذناها.
وقوله( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ) يقول : فأخرج لهم السامريّ مما قذفوه ومما ألقاه عجلا جسدا له خوار ، ويعني بالخوار : الصوت ، وهو صوت البقر.

(18/354)


ثم اختلف أهل العلم في كيفية إخراج السامريّ العجل ، فقال بعضهم : صاغه صياغة ، ثم ألقى من تراب حافر فرس جبرائيل في فمه فخار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ) قال : كان الله وقَّت لموسى ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر ، فلما مضت الثلاثون قال عدوّ الله السامري : إنما أصابكم الذي أصابكم عقوبة بالحلي الذي كان معكم ، فهلموا وكانت حليا تعيروها (1) من آل فرعون ، فساروا وهي معهم ، فقذفوها إليه ، فصوّرها صورة بقرة ، وكان قد صرّ في عمامته أو في ثوبه قبضة من أثر فرس جبرائيل ، فقذفها مع الحليّ والصورة( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ) فجعل يخور خوار البقر ، فقال( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما استبطأ موسى قومه قال لهم السامريّ : إنما احتبس عليكم لأجل ما عندكم من الحليّ ، وكانوا استعاروا حليا من آل فرعون فجمعوه فأعطوه السامريّ فصاغ منه عجلا ثم أخذ القبضة التي قبض من أثر الفرس ، فرس الملك ، فنبذها في جوفه ، فإذا هو عجل جسد له خوار ، قالوا : هذا إلهكم وإله موسى ، ولكن موسى نسي ربه عندكم.
وقال آخرون في ذلك بما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أخذ السامريّ من تربة الحافر ، حافر فرس جبرائيل ، فانطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل وواعدهم ثلاثين ليلة ، فأتمها الله بعشر ، قال لهم هارون : يا بني إسرائيل إن الغنيمة لا تحلّ لكم ، وإن حليّ القبط إنما هو غنيمة ، فاجمعوها جميعا ، فاحفروا لها حفرة فادفنوها ، فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها ، وإلا كان شيئا لم تأكلوه ، فجمعوا ذلك الحليّ في تلك الحفرة ، فجاء السامريّ بتلك القبضة فقذفها فأخرج الله من الحليّ عجلا جسدا له خوار ، وعدّت بنو إسرائيل موعد موسى ، فعدوا الليلة يوما ، واليوم
__________
(1) لعله : تعوروها : أي استعاروها ، كما أورده في اللسان في قصة العجل من حديث ابن عباس .

(18/355)


يوما ، فلما كان لعشرين خرج لهم العجل ، فلما رأوه قال لهم السامريّ( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) فعكفوا عليه يعبدونه ، وكان يخور ويمشي( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ) ذلك حين قال لهم هارون : احفروا لهذا الحليّ حفرة واطرحوه فيها ، فطرحوه ، فقذف السامريّ تربته ، وقوله : ( فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ) يقول : فقال قوم موسى الذين عبدوا العجل : هذا معبودكم ومعبود موسى ، وقوله(فَنَسي) يقول : فضلّ وترك.
ثم اختلف أهل التأويل في قوله(فَنَسِيَ) من قائله ومن الذي وصف به وما معناه ، فقال بعضهم : هذا من الله خبر عن السامريّ ، والسامريّ هو الموصوف به ، وقالوا : معناه : أنه ترك الدين الذي بعث الله به موسى وهو الإسلام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جُبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : يقول الله(فَنَسِيَ) : أي ترك ما كان عليه من الإسلام ، يعني السامري.
وقال آخرون : بل هذا خبر من الله عن السامريّ ، أنه قال لبني إسرائيل ، وأنه وصف موسى بأنه ذهب يطلب ربه ، فأضلّ موضعه ، وهو هذا العجل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبى ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس(فَقَذَفْناها) يعني زينة القوم حين أمرنا السامريّ لما قبض قبضة من أثر جبرائيل عليه السلام ، فألقى القبضة على حليهم فصار عجلا جسدا له خوار( فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ) الذي انطلق يطلبه(فَنَسِيَ) يعني : نسي موسى ، ضلّ عنه فلم يهتد له.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(فَنَسِيَ) يقول : طلب هذا موسى فخالفه الطريق.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة(فَنَسِيَ) يقول : قال السامريّ : موسى نسي ربه عندكم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن

(18/356)


أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)

مجاهد ، قوله(فَنَسِي) موسى ، قال : هم يقولونه : أخطأ الربّ العجل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد(فَنَسيَ) قال : نسي موسى ، أخطأ الربّ العجل ، قوم موسى يقولونه.
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ(فَنَسِيَ) يقول : ترك موسى إلهه هاهنا وذهب يطلبه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) قال : يقول : فنسي حيث وعده ربه هاهنا ، ولكنه نسي.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) يقول : نسي موسى ربه فأخطأه ، وهذا العجل إله موسى.
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن هؤلاء ، وهو أن ذلك خبر من الله عزّ ذكره عن السامريّ أنه وصف موسى بأنه نسي ربه ، وأنه ربه الذي ذهب يريده هو العجل الذي أخرجه السامري ، لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه ، وأنه عقيب ذكر موسى ، وهو أن يكون خبرا من السامري عنه بذلك أشبه من غيره.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) }
يقول تعالى ذكره موبخا عبدة العجل ، والقائلين له( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) وعابهم بذلك ، وسفه أحلامهم بما فعلوا ونالوا منه : أفلا يرون أن العجل الذي

(18/357)


قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)

زعموا أنه إلههم وإله موسى لا يكلمهم ، وإن كلَّموه لم يرد عليهم جوابا ، ولا يقدر على ضرّ ولا نفع ، فكيف يكون ما كانت هذه صفته إلها ؟ كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم. قال : ثنا عيسى " ح " وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا ) العجل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا ) قال : العجل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله( أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ ) ذلك العجل الذي اتخذوه( قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ).
وقوله( وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ ) يقول : لقد قال لعبدة العجل من بني إسرائيل هارون ، من قبل رجوع موسى إليهم ، وقيله لهم ما قال مما أخبر الله عنه( إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ ) يقول : إنما اختبر الله إيمانكم ومحافظتكم على دينكم بهذا العجل الذي أحدث فيه الخوار ، ليعلم به الصحيح الإيمان منكم من المريض القلب ، الشاكّ في دينه.
كما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال لهم هارون : ( إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ ) يقول : إنما ابتليتم به ، يقول : بالعجل.
وقوله( وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) يقول : وإن ربكم الرحمن الذي يعم جميع الخلق نعمه ، فاتَّبعوني على ما آمركم به من عبادة الله ، وترك عبادة العجل ، وأطيعوا أمري فيما آمركم به من طاعة الله ، وإخلاص العبادة له ، وقوله( قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ ) يقول : قال عبدة العجل من قوم موسى : لن نزال على العجل مقيمين نعبده ، حتى يرجع إلينا موسى.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) }

(18/358)


يقول تعالى ذكره : قال موسى لأخيه هارون لما فرغ من خطاب قومه ومراجعته إياهم على ما كان من خطأ فعلهم : يا هارون أي شيء منعك إذ رأيتهم ضلوا عن دينهم ، فكفروا بالله وعبدوا العجل ألا تتبعني.
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عذل موسى عليه أخاه من تركه اتباعه ، فقال بعضهم : عذله على تركه السير بمن أطاعه في أثره على ما كان عهد إليه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما قال القوم( لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ) أقام هارون فيمن تبعه من المسلمين ممن لم يُفتتن ، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل ، وتخوّف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى( فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) وكان له هائبا مطيعا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِي ) قال : تدعهم.
وقال آخرون : بل عذله على تركه أن يصلح ما كان من فساد القوم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله( مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِي ) قال : أمر موسى هارون أن يصلح ، ولا يتبع سبيل المفسدين ، فذلك قوله( أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) بذلك ، وقوله( قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي ) وفي هذا الكلام متروك ، ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه ، وهو : ثم أخذ موسى بلحية أخيه هارون ورأسه يجرّه إليه ، فقال هارون( يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي ).
وقوله( إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) فاختلف أهل العلم في صفة التفريق بينهم ، الذي خشيه هارون ، فقال بعضهم : كان هارون خاف أن يسير بمن أطاعه ، وأقام على دينه في أثر موسى ، ويخلف

(18/359)


قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)

عبدة العجل ، وقد(قالوا) له( لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ) فيقول له موسى( فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) بسيرك بطائفة ، وتركك منهم طائفة وراءك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد ، في قول الله تعالى( ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قَالَ خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) قال : خشيت أن يتبعني بعضهم ويتخلف بعضهم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : خشيت أن نقتتل فيقتل بعضنا بعضا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) قال : كنا نكون فرقتين فيقتل بعضنا بعضا حتى نتفانى.
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، القول الذي قاله ابن عباس من أن موسى عذل أخاه هارون على تركه اتباع أمره بمن اتبعه من أهل الإيمان ، فقال له هارون : إني خشيت أن تقول ، فرّقت بين جماعتهم ، فتركت بعضهم وراءك ، وجئت ببعضهم ، وذلك بين في قول هارون للقوم( يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) وفي جواب القوم له وقيلهم( لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ).
وقوله( وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) يقول : ولم تنظر قولي وتحفظه ، من مراقبة الرجل الشيء ، وهي مناظرته بحفظه.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس( وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) قال : لم تحفظ قولي.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) }

(18/360)


يعني تعالى ذكره بقوله( فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ ) قال موسى للسامري : فما شأنك يا سامري ، وما الذي دعاك إلى ما فعلته. كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ ) قال : ما أمرك ؟ ما شأنك ؟ ما هذا الذي أدخلك فيما دخلت فيه.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ ) قال : ما لك يا سامريّ ؟
وقوله( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ) يقول : قال السامريّ : علمت ما لم يعلموه ، وهو فعلت من البصيرة : أي صرت بما عملت بصيرا عالما.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : لما قتل فرعون الولدان قالت أمّ السامريّ : لو نحيته عني حتى لا أراه ، ولا أدري قتله ، فجعلته في غار ، فأتى جبرائيل ، فجعل كفّ نفسه في فيه ، فجعل يُرضعه العسل واللبن ، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه ، فمن ثم معرفته إياه حين قال : ( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ).
وقال آخرون : هي بمعنى : أبصرت ما لم يبصروه ، وقالوا : يقال : بصرت بالشيء وأبصرته ، كما يقال : أسرعت وسرعت ما شئت.
* ذكر من قال : هو بمعنى أبصرت : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ) يعني فرس جبرائيل عليه السلام.
وقوله( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) يقول : قبضت قبضة من أثر حافر فرس جبرائيل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما قذفت بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آل فرعون في النار ، وتكسرت ، ورأى السامري أثر فرس جبرائيل عليه السلام ، فأخذ ترابا من أثر حافره ، ثم

(18/361)


أقبل إلى النار فقذفه فيها ، وقال : كن عجلا جسدا له خوار ، فكان للبلاء والفتنة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قبض قبضة من أثر جبرائيل ، فألقى القبضة على حليهم فصار عجلا جسدا له خوار ، فقال : هذا إلهكم وإله موسى.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا ) قال : من تحت حافر فرس جبرائيل ، نبذه السامريّ على حلية بني إسرائيل ، فانسبك عجلا جسدا له خوار ، حفيف الريح فيه فهو خواره ، والعجل : ولد البقرة.
واختلف القرّاء في قراءة هذين الحرفين ، فقرأته عامَّة قرّاء المدينة والبصرة( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ) بالياء ، بمعنى : قال السامريّ بصرت بما لم يبصر به بنو إسرائيل. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بِهِ) بالتاء على وجه المخاطبة لموسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، بمعنى : قال السامريّ لموسى : بصرت بما لم تبصر به أنت وأصحابك.
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء مع صحة معنى كل واحدة منهما ، وذلك أنه جائز أن يكون السامريّ رأى جبرائيل ، فكان عنده ما كان بأن حدثته نفسه بذلك أو بغير ذلك من الأسباب ، أن تراب حافر فرسه الذي كان عليه يصلح لما حدث عنه حين نبذه في جوف العجل ، ولم يكن علم ذلك عند موسى ، ولا عند أصحابه من بني إسرائيل ، فلذلك قال لموسى( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بِهِ) أي علمت بما لم تعلموا به. وأما إذا قرئ(بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) بالياء ، فلا مؤنة فيه ، لأنه معلوم أن بني إسرائيل لم يعلموا ما الذي يصلح له ذلك التراب.
وأما قوله( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) فإن قرّاء الأمصار على قراءته بالضاد ، بمعنى : فأخذت بكفي ترابا من تراب أثر فرس الرسول.
ورُوي عن الحسن البصري وقَتادة ما حدثني أحمد بن يوسف ، قال :

(18/362)


قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)

ثنا القاسم ، قال : ثنا هشيم ، عن عباد بن عوف ، عن الحسن أنه قرأها( فَقَبَصْتُ قَبْصَةً ) بالصاد.
وحدثني أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا هشيم ، عن عباد ، عن قَتادة مثل ذلك بالصاد بمعنى : أخذت بأصابعي من تراب أثر فرس الرسول ، والقبضة عند العرب : الأخذ بالكفّ كلها ، والقبصة : الأخذ بأطراف الأصابع.
وقوله(فَنَبَذْتُها) يقول : فألقيتها( وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) يقول : وكما فعلت من إلقائي القبضة التي قبضت من أثر الفرس على الحلية التي أوقد عليها حتى انسبكت فصارت عجلا جسدا له خوار ، ( سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) يقول : زينت لي نفسي أن يكون ذلك كذلك.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) قال : كذلك حدثتني نفسي.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) }
يقول تعالى ذكره : قال موسى للسامريّ : فاذهب فإن لك في أيام حياتك أن تقول : لا مساس : أي لا أمس ، ولا أُمسُّ.. وذُكر أن موسى أمر بني إسرائيل أن لا يؤاكلوه ، ولا يخالطوه ، ولا يبايعوه ، فلذلك قال له : إن لك في الحياة أن تقول لا مساس ، فبقي ذلك فيما ذكر في قبيلته.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : كان والله السامريّ عظيما من عظماء بني إسرائيل ، من قبيلة يقال لها سامرة ، ولكن عدوّ الله نافق بعد ما قطع البحر مع بني إسرائيل ، قوله( فَاذْهَبْ فَإِنَّ

(18/363)


لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ ) فبقاياهم اليوم يقولون لا مساس.
وقوله( وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ ) اختلفت القراء في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة(لن تُخْلَفَهُ) بضم التاء وفتح اللام بمعنى : وإن لك موعدا لعذابك وعقوبتك على ما فعلت من إضلالك قومي حتى عبدوا العجل من دون الله ، لن يخلفكه الله ، ولكن يذيقكه ، وقرأ ذلك الحسن وقَتادة وأبو نهيك( وَإنَّ لَكَ مَوْعِدا لَنْ تُخْلِفَهُ) بضمّ التاء وكسر اللام ، بمعنى : وإن لك موعدا لن تخلفه أنت يا سامريّ ، وتأوّلوه بمعنى : لن تغيب عنه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد المؤمن ، قال : سمعت أبا نهيك يقرأ( لَن تُخْلِفَهُ أنْتَ) يقول : لن تغيب عنه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ ) يقول : لن تغيب عنه.
قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، لأنه لا شكّ أن الله موف وعده لخلقه بحشرهم لموقف الحساب ، وأن الخلق موافون ذلك اليوم ، فلا الله مخلفهم ذلك ، ولا هم مخلفوه بالتخلف عنه ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في ذلك.
وقوله( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ) يقول : وانظر إلى معبودك الذي ظلت عليه مقيما تعبده.
كما حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ) الذي أقمت عليه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : فقال له موسى( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ) يقول : الذي أقمت عليه. وللعرب في ظلت : لغتان : الفتح في الظاء ، وبها قرأ قرّاء الأمصار ، والكسر فيها ، وكأن الذين كسروا نقلوا حركة اللام التي هي عين الفعل من ظللت إليها ، ومن فتحها أقرّ حركتها التي كانت لها قبل أن يحذف منها شيء ، والعرب تفعل في الحروف التي فيها التضعيف ذاك ،

(18/364)


فيقولون في مَسِسْت مَست ومِسْت وفي هممت بذلك : همت به ، وهل أحست فلانا وأحسسته ، كما قال الشاعر :
خَلا أنَّ العِتاقَ مِنَ المَطايا... أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ (1)
وقوله(لَنحرّقَنَّه) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والعراق(لَنُحَرّقَنَّهُ) بضم النون وتشديد الراء ، بمعنى لنحرقنه بالنار قطعة قطعة ، ورُوي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك( لَنُحْرِقَنَّهُ) بضم النون ، وتخفيف الراء ، بمعنى : لنحرقنه بالنار إحراقة واحدة ، وقرأه أبو جعفر القارئ : ( لَنَحرُقَنَّهُ) بفتح النون وضم الراء بمعنى : لنبردنه بالمبارد من حرقته أحرقه وأحرّقه ، كما قال الشاعر :
بِذِي فِرْقَيْنِ يَوْمَ بَنُو حُبَيْبٍ... نُيُوبَهُمُ عَلَيْنا يَحْرُقُونا (2)
__________
(1) البيت لأبي زبيد الطائي ( اللسان : حسس ) . ورواية الشطر الثاني فيه : " حسين به فهن إليه شوس " . قال : حس بالشيء يحس ( كيقتل ) حسا ( بالفتح ) وحسا ( بالكسر ) وحسيسا ، وأحس به ، وأحسه : شعر به . وأما قولهم " أحست بالشيء " فعلى الحذف كراهية التقاء المثلين . قال سيبويه : وكذلك يفعل في كل بناء يبنى اللام من الفعل منه على السكون ، لا تصل إليه الحركة ، شبهوها بأقمت . الأزهري : ويقال : هل أحست : بمعنى أحسست . ويقال : حست بالشيء إذا علمته وعرفته . قال : ويقال : أحسست الخبر وأحسته وحسيت وحست : إذا عرفت منه طرفا وتقول ما أحسست بالخبر وما أحست وما حسيت وما حست : أي لم أعرف منه شيئا . . . وربما قالوا : حسيت بالخبر ، وأحسيت به ، يبدلون من السين ياء ، قال أبو زبيد : " خلا أن . . . البيت " . قال الجوهري وأبو عبيدة يروي بيت أبي زبيد ؛ " أحسن به فهو إليه شوس " . وأصله أحسن . أه . ويقال في ظل وما وما أشبهه كل مضعف مكسور العين في الماضي : ظللت أفعل كذا ، بلامين ، وظلت أفعل كذا بحذف اللام الأولى ، وبفتح الفاء . وظلت أفعل كذا ، بحذف اللام ونقل حركتها إلى الظاء .
(2) البيت أنشده المفضل الضبي ونسبه لعامر بن شقيق ( اللسان : حرق ، ومعجم ما استعجم للبكري 210 ) وذو فرقين أو ذات فريقين كما في معجم ما استعجم : هضبة ببلاد بني تميم - بين طريق البصرة والكوفة وهي إلى الكوفة أقرب . أه . وفي شرح الحماسة للتبريزي ( 2 : 67 ) نسب القصيدة لعامر بن شقيق من بني كوز بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك . وقبل البيت : فإنك لو رأيت ولم تريه ... أكف القوم تخرق بالقنينا
قال : وذو فرقين : هضبة في بلاد بني أسد ، من ناحية الفرات . وقوله " بذي فرقين " : يجوز أن يتعلق بقوله : " لو رأيت " ، ويجوز أن يتعلق بتخرق بالقنينا . وكذلك قوله " يوم بني حبيب " : ويجوز أن يكون ظرفا لكل واحد من الفعلين ، لأنهما ظرفان ، والفاعل ، تيينا+ لها . ويقال : هو يحرق أنيابه : أحدهما للزمان والآخر للمكان ، وأضاف اليوم إلى الجملة التي بعده ، لأن الأزمنة تضاف إلى الجمل ، من الابتداء والخبر ، والفعل والفاعل ، تبيينا لها. ويقال : هو يحرق أنيابه : إ ذا حك بعضها ببعض تهديدا ، ويقال : هو يحرق عليه الأرم ، أي يصف بأنيابه تغيظا . ويقال : حرقه إذا حك بعضها ببعض تهديدا ، ويقال : هو يحرق عليه الأرم ، أي يصرف بأنيابه تغيظا . ويقال : حرقه بالمبرد : إذا برده . وحكى أبو حاتم : فلان يحرق نابه على ، برفع الباء ، لأنه هو الذي يحرق . وقال أبو العلاء قوله " بذي فرقين " : أراد : ذات فرقين ، فذكر على معنى الموضع أو الجبل وهي التي ذكرها عبيد في قوله * فذات فرقين فالقليب *
قيل : هي تثنية كسنام الفالج ، فلذلك سميت ذات فرقين .

(18/365)


والصواب في ذلك عندنا من القراءة(لَنُحَرِّقَنَّهُ) بضم النون وتشديد الراء ، من الإحراق بالنار.
كما حدثني عليّ قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : (لَنُحَرقَنَّهُ) يقول : بالنار.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس(لَنُحَرّقَنَّهُ) فحرّقه ثم ذراه في اليم ، وإنما اخترت هذه القراءة لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
وأما أبو جعفر ، فإني أحسبه ذهب إلى ما حدثنا به موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط عن السديّ( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) ثم أخذه فذبحه ، ثم حرقه بالمبرد ، ثم ذراه في اليم ، فلم يبق بحر يومئذ إلا وقع فيه شيء منه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) قال : وفي بعض القراءة لنذبحنه ثم لنحرقنه ، ثم لننسفنه في اليمّ نسفا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في حرف ابن مسعود( وانْظُرْ إلى إلهِكَ الَّذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفا لَنذْبَحَنَّهُ ثُمَّ لَنُحَرّقنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ في اليَمّ نَسْفا).
وقوله( ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) يقول : ثم لنذرّينه في البحر تذرية ، يقال منه : نسف فلان الطعام بالمنسف : إذا ذراه فطير عنه قشوره وترابه باليد أو الريح.

(18/366)


وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) يقول : لنذرينه في البحر.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : ذراه في اليمّ ، واليمّ : البحر.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ذراه في اليم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في اليمّ ، قال : في البحر.
وقوله( إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) يقول : ما لكم أيها القوم معبود إلا الذي له عبادة جميع الخلق لا تصلح العبادة لغيره ، ولا تنبغي أن تكون إلا له( وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) يقول : أحاط بكل شيء علما فعلمه ، فلا يخفى عليه منه شيء ولا يضيق عليه علم جميع ذلك ، يقال منه : فلان يسع لهذا الأمر : إذا أطاقه وقوي عليه ، ولا يسع له : إذا عجز عنه فلم يطقه ولم يقو عليه.
وكان قَتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) يقول : ملأ كلّ شيء علما تبارك وتعالى.

(18/367)


كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)

القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : كما قصصنا عليك يا محمد نبأ موسى وفرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل مع موسى( كَذَلِكَ نَقُصُّ

(18/367)


خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)

عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ) يقول : كذلك نخبرك بأنباء الأشياء التي قد سبقت من قبلك ، فلم تشاهدها ولم تعاينها ، وقوله( وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ) يقول تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم : وقد آتيناك يا محمد من عندنا ذكرا يتذكر به ، ويتعظ به أهل العقل والفهم ، وهو هذا القرآن الذي أنزله الله عليه ، فجعله ذكرى للعالمين ، وقوله( مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ) يقول تعالى ذكره : من ولى عنه فأدبر فلم يصدّق به ولم يقرّ( فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ) يقول : فإنه يأتي ربه يوم القيامة يحمل حملا ثقيلا وذلك الإثم العظيم. كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ) قال : إثما.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا (103) }
يقول تعالى ذكره : خالدين في وزرهم ، فأخرج الخبر جلّ ثناؤه عن هؤلاء المعرضين عن ذكره في الدنيا أنهم خالدون في أوزارهم ، والمعنى : أنهم خالدون في النار بأوزارهم ، ولكن لما كان معلوما المراد من الكلام اكتفي بما ذكر عما لم يذكر.
وقوله( وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا ) يقول تعالى ذكره : وساء ذلك الحمل والثقل من الإثم يوم القيامة حملا وحقّ لهم أن يسوءهم ذلك ، وقد أوردهم مهلكة لا منجى منها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

(18/368)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا ) يقول : بئسما حملوا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا ) يعني بذلك : ذنوبهم.
وقوله( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) يقول تعالى ذكره : وساء لهم يوم القيامة ، يوم ينفخ في الصور ، فقوله( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) ردًّا على يوم القيامة ، وقد بيَّنا معنى النفخ في الصور ، وذكرنا اختلاف المختلفين في معنى الصور ، والصحيح في ذلك من القول عندي بشواهده المغنية عن إعادته في هذا الموضع قبل.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) بالياء وضمها على ما لم يسمّ فاعله ، بمعنى : يوم يأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور. وكان أبو عمرو بن العلاء يقرأ ذلك( يَوْمَ نَنْفُخُ فِي الصُّورِ) بالنون بمعنى : يوم ننفخ نحن في الصور ، كأن الذي دعاه إلى قراءة ذلك كذلك طلبه التوفيق بينه وبين قوله( وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ ) إذ كان لا خلاف بين القرّاء في نحشر أنها بالنون.
قال أبو جعفر : والذي أختار في ذلك من القراءة يوم ينفخ بالياء على وجه ما لم يسمّ فاعله ، لأن ذلك هو القراءة التي عليها قرّاء الأمصار وإن كان للذي قرأ أبو عمرو وجه غير فاسد.
وقوله( وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ) يقول تعالى ذكره : ونسوق أهل الكفر بالله يومئذ إلى موقف القيامة زرقا ، فقيل : عنى بالزرق في هذا الموضع : ما يظهر في أعينهم من شدة العطش الذي يكون بهم عند الحشر لرأي العين من الزرق ، وقيل : أريد بذلك أنهم يحشرون عميا ، كالذي قال الله( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا ).
وقوله( يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا ) يقول تعالى ذكره : يتهامسون بينهم ، ويسرّ بعضهم إلى بعض : إن لبثتم في الدنيا ، يعني أنهم يقول بعضهم لبعض : ما لبثتم في الدنيا إلا عشرا.

(18/369)


نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : (يتخافتون بينهم) يقول : يتسَارُّون بينهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ ) : أي يتسارُّون بينهم( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا (104) }
يقول تعالى ذكره : نحن أعلم منهم عند إسرارهم وتخافتهم بينهم بقيلهم( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا ) بما يقولون لا يخفى علينا مما يتساررونه بينهم شيء( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا ) يقول تعالى ذكره حين يقول أوفاهم عقلا وأعلمهم فيهم : إن لبثتم في الدنيا إلا يوما.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن شعبة ، في قوله : ( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً ) أوفاهم عقلا
وإنما عنى جلّ ثناؤه بالخبر عن قيلهم هذا القول يومئذ ، إعلام عباده أن أهل الكفر به ينسون من عظيم ما يعاينون من هول يوم القيامة ، وشدّة جزعهم من عظيم ما يردون عليه ما كانوا فيه في الدنيا من النعيم واللذّات ، ومبلغ ما عاشوا فيها من الأزمان ، حتى يخيل إلى أعقلهم فيهم ، وأذكرهم وأفهمهم أنهم لم يعيشوا فيها إلا يوما.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107) }

(18/370)


يقول تعالى ذكره : ويسألك يا محمد قومك عن الجبال ، فقل لهم : يذريها ربي تذرية ، ويطيرها بقلعها واستئصالها من أصولها ، ودكّ بعضها على بعض ، وتصييره إياها هباء منبثا
(فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا) يقول تعالى ذكره : فيدع أماكنها من الأرض إذا نسفها نسفا ، قاعا : يعني : أرضا ملساء ، صفصفا : يعني مستويا لا نبات فيه ، ولا نشز ، ولا ارتفاع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( قَاعًا صَفْصَفًا ) يقول : مستويا لا نبات فيه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ) قال : مستويا ، الصفصف : المستوي.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا عبد الله بن يوسف ، قال : ثنا عبد الله بن لهيعة ، قال : ثنا أبو الأسود ، عن عروة ، قال : كنا قعودا عند عبد الملك حين قال كعب : إن الصخرة موضع قدم الرحمن يوم القيامة ، فقال : كذب كعب ، إنما الصخرة جبل من الجبال ، إن الله يقول( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ) فسكت عبد الملك.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(صَفْصَفا) قال : مستويا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
قال أبو جعفر : وكان بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل الكوفة يقول : القاع : مستنقع الماء ، والصفصف : الذي لا نبات فيه.
وقوله( لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ) يقول : لا ترى في الأرض عوجا ولا أمتا.
واختلف أهل التأويل في معنى العوج والأمت ، فقال بعضهم عنى

(18/371)


بالعوج في هذا الموضع : الأودية ، وبالأمت : الروابي والنشوز.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ) يقول : واديا ، ولا أمتا : يقول : رابية.
حدثني محمد بن عبد الله المخرمي ، قال : ثنا أبو عامر العقدي ، عن عبد الواحد بن صفوان مولى عثمان ، قال : سمعت عكرمة ، قال : سئل ابن عباس ، عن قوله(لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) قال : هي الأرض البيضاء ، أو قال : الملساء التي ليس فيها لبنة مرتفعة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ) قال : ارتفاعا ، ولا انخفاضا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ) قال : لا تعادي ، الأمت : التعادي.
وقال آخرون : بل عنى بالعوج في هذا الموضع : الصدوع ، وبالأمت : الارتفاع من الآكام وأشباهها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ) قال : صدعا(ولا أمتا) يقول : ولا أكمة.
وقال آخرون : عنى بالعوج : الميل ، وبالأمت : الأثر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ) يقول : لا ترى فيها ميلا والأمت : الأثر مثل الشراك.
وقال آخرون : الأمت : المحاني والأحداب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : الأمت : الحدب.

(18/372)


يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بالعوج : الميل ، وذلك أن ذلك هو المعروف في كلام العرب.
فإن قال قائل : وهل في الأرض اليوم من عوج ، فيقال : لا ترى فيها يومئذ عوجا ، قيل : إن معنى ذلك : ليس فيها أودية وموانع تمنع الناظر أو السائر فيها عن الأخذ على الاستقامة ، كما يحتاج اليوم من أخذ في بعض سبلها إلى الأخذ أحيانا يمينا ، وأحيانا شمالا لما فيها من الجبال والأودية والبحار. وأما الأمت فإنه عند العرب : الانثناء والضعف ، مسموع منهم ، مد حبله حتى ما ترك فيه أمتا : أي انثناء ، وملأ سقاءه حتى ما ترك فيه أمتا ، ومنه قول الراجز :
ما فِي انْجِذَابِ سَيْرِهِ مِنْ أمْتِ (1)
يعني : من وهن وضعف ، فالواجب إذا كان ذلك معنى الأمت عندهم أن يكون أصوب الأقوال في تأويله : ولا ارتفاع ولا انخفاض ، لأن الانخفاض لم يكن إلا عن ارتفاع ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : لا ترى فيها ميلا عن الاستواء ، ولا ارتفاعا ، ولا انخفاضا ، ولكنها مستوية ملساء ، كما قال جلّ ثناؤه : ( قَاعًا صَفْصَفًا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (108) }
يقول تعالى ذكره : يومئذ يتبع الناس صوت داعي الله الذي يدعوهم إلى موقف القيامة ، فيحشرهم إليه( لا عِوَجَ لَهُ ) يقول : لا عوج
__________
(1) البيت من مشطور الرجز ، وهو للعجاج كما في ( اللسان : أمت ) والرواية فيه : * ما في انطلاق ركبه من أمت *
قال : وفي حديث أبي سعيد الخدري : " أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر ، فلا أمت فيها ، وأنا أنهي عن السكر والمسكر " . قال أبو منصور : معنى قول أبي سعيد عن النبيّ : أراد أنه حرمها تحريما لا هوادة فيه ولا لين ، لكنه شدد في تحريمها ؛ وهو من قولك : سرت سيرا لا أمت فيه : أي لا وهن فيه ولا ضعف . وجائز أن يكون المعنى أنه حرمها تحريمًا لا شك فيه . وأصله من الأمت بمعنى الحزر والتقدير ، لأن الشك يدخلها . قال العجاج * ما في انطلاق ركبه من أمت *
أي من فتور واسترخاء . أه .

(18/373)


لهم عنه ولا انحراف ، ولكنهم سراعا إليه ينحشرون ، وقيل : لا عوج له ، والمعنى : لا عوج لهم عنه ، لأن معنى الكلام ما ذكرنا من أنه لا يعوجون له ولا عنه ، ولكنهم يؤمونه ويأتونه ، كما يقال في الكلام : دعاني فلان دعوة لا عوج لي عنها : أي لا أعوج عنها ، وقوله( وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ ) يقول تعالى ذكره : وسكنت أصوات الخلائق للرحمن فوصف الأصوات بالخشوع ، والمعنى لأهلها إنهم خضع جميعهم لربهم ، فلا تسمع لناطق منهم منطقا إلا من أذن له الرحمن.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ ) يقول : سكنت.
وقوله( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) يقول :
إنه وطء الأقدام إلى المحشر ، وأصله : الصوت الخفيّ ، يقال همس فلان إلى فلان بحديثه إذا أسرّه إليه وأخفاه ، ومنه قول الراجز :
وَهُنَّ يَمْشِينَ بنا هَمِيسًا... إنْ يَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا (1)
يعني بالهمس : صوت أخفافِ الإبل في سيرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عليّ بن عابس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) قال : وطء الأقدام.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) يعني : همس الأقدام ، وهو الوطء.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن
__________
(1) البيت مما أنشده ابن عباس ، وقد نقله عنه السيوطي في الإتقان وكثير من المفسرين ، ومنهم المؤلف ، ونقل صاحب ( اللسان : همس ) شطره الأول . وهو * وهن يمشين بنا هميسا *
قال : وهو صوت نقل أخفاف الإبل . أ هـ . وقال في أول المادة : الهمس : الخفي من الصوت والوطء والأكل . وفي التنزيل : " فلا تسمع إلا همسا " . وفي التهذيب : يعني به والله أعلم : خفق الأقدام على الأرض . وقال الفراء : يقال إنه نقل الأقدام إلى المحشر . ويقال : الصوت الخفي . وروي عن ابن عباس تمثل فأنشده * وهن يمشين بنا هميسا *
.

(18/374)


يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)

ابن عباس( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) يقول : الصوت الخفي.
حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ ، قال : أخبرنا شريك ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عكرمة( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) قال : وطء الأقدام.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا سليمان ، قال : ثنا حماد ، عن حميد ، عن الحسن( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) قال : همس الأقدام.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) قال قتادة : كان الحسن يقول : وقع أقدام القوم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) قال : تهافتا ، وقال : تخافت الكلام.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(هَمْسا) قال : خفض الصوت.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد ، قال : خفض الصوت ، قال : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : كلام الإنسان لا تسمع تحرّك شفتيه ولسانه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قوله( فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ) يقول : لا تسمع إلا مشيا ، قال : المشي الهمس وطء الأقدام.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) }
يقول تعالى ذكره( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا ) شفاعة(من أذن له الرحمن) أن يشفع( وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا ) وأدخل في الكلام له دليلا على إضافة

(18/375)


وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)

القول إلى كناية " مَنْ " وذلك كقول القائل الآخر : رضيت لك عملك ، ورضيته منك ، وموضع مَن من قوله( إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ ) نصب لأنه خلاف الشفاعة.
وقوله( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : يعلم ربك يا محمد ما بين أيدي هؤلاء الذين يتبعون الداعي من أمر القيامة ، وما الذي يصيرون إليه من الثواب والعقاب( وَمَا خَلْفَهُمْ ) يقول : ويعلم أمر ما خلفوه وراءهم من أمر الدنيا. كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) من أمر الساعة(وما خلفهم) من أمر الدنيا.
وقوله( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) يقول تعالى ذكره : ولا يحيط خلقه به علما. ومعنى الكلام : أنه محيط بعباده علما ، ولا يحيط عباده به علما ، وقد زعم بعضهم أن معنى ذلك : أن الله يعلم ما بين أيدي ملائكته وما خلفهم ، وأن ملائكته لا يحيطون علما بما بين أيدي أنفسهم وما خلفهم ، وقال : إنما أعلم بذلك الذين كانوا يعبدون الملائكة ، أن الملائكة كذلك لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها ، موبخهم بذلك ومقرّعهم بأن من كان كذلك ، فكيف يعبد ، وأن العبادة إنما تصلح لمن لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) }
يقول تعالى ذكره : استرّت وجوه الخلق ، واستسلمت للحيّ القيوم الذي لا يموت ، القيوم على خلقه بتدبيره إياهم ، وتصريفهم لما شاءوا ، وأصل العنو الذلّ ، يقال منه : عنا وجهه لربه يعنو عنوا ، يعني خضع له وذلّ ، وكذلك قيل للأسير : عان لذلة الأسر ، فأما قولهم : أخذت الشيء عنوة ، فإنه يكون وإن كان معناه يئول إلى هذا أن يكون أخذه غلبة ، ويكون أخذه عن تسليم وطاعة ، كما قال الشاعر :

(18/376)


هَلْ أنْتَ مُطِيعي أيُّها القلب عنوة... ولم تلح نفس لم تلم في اختيالها (1)
وقال آخر :
هَلْ أخَذُوها عَنْوَةً عَنْ مَوَدَّةٍ... وَلَكِنْ بِحَدِّ المَشْرَفِي اسْتَقالَهَا (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) يقول : ذلت.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمى ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) يعني بعنت : استسلموا لي.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ ) قال : خشعت.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ،
__________
(1) لم أقف على قائل البيت . وعنوة : قال في اللسان ( عنو ) في حديث الفتح أنه دخل مكة عنوة : أي قهرا وغلبة . قال ابن الأثير : هو من عنا يعنو : إذا ذل وخضع . والعنوة : المرة منه ، كأن المأخوذ بها يخضع ويذل . وأخذت البلاد عنوة : بالقهر والإذلال . ابن الأعرابي : عنا يعنو : إذا أخذ الشيء قهرا . وعنا يعنو عنوة : إذا أخذ الشيء صلحا ، بإكرام ورفق . والعنوة أيضا المودة قال الأزهري : أخذت الشيء عنوة : يعني غلبة ، ويكون عن تسليم وطاعة مما يؤخذ منه الشيء . وأنشد الفراء لكثير : فَمَا أخَذُوها عَنْوَةً عَنْ مَوَدَّةٍ ... وَلَكِنَّ ضَرْبَ المَشْرَفِيّ اسْتَقَالَهَا
فهذا على معنى التسليم والطاعة بلا قتال . وقال الأخفش في قوله تعالى : " وعنت الوجوه " : استأسرت . قال : والعاني : الأسير . وقال أبو الهيثم : العاني الخاضع .
(2) البيت لكثير عزة ، كما في ( اللسان : عنا ) وقد تقدم القول في معناه في الشاهد السابق عليه . المشرفي : السيف منسوب إلى قرية يقال لها مشارف بالشام أو اليمن . واستقلالها : أخذها وانتزاعها .

(18/377)


عن قتادة ، قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) أي ذلَّت الوجوه للحيّ القيوم.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال : ذلت الوجوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قال طلق : إذا سجد الرجل فقد عنا وجهه ، أو قال : عنا.
حدثني أبو حُصَن عبد الله بن أحمد ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثنا حصين ، عن عمرو بن مرة عن طلق بن حبيب ، في هذه الآية( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال : هو وضع الرجل رأسه ويديه وأطراف قدميه.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن ليث ، عن عمرو بن مرّة ، عن طلق بن حبيب في قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال : وهو وضعك جبهتك وكفيك وركبتيك وأطراف قدميك في السجود.
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال ثنا محمد بن فضيل ، عن حصين ، عن عمرو بن مرّة ، عن طلق بن حبيب في قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال : وضع الجبهة والأنف على الأرض.
حدثني يعقوب : قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عمرو بن مرّه ، عن طلق بن حبيب ، في قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال : هو السجود على الجبهة والراحة والركبتين والقدمين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال : أستأسرت الوجوه للحيّ القيوم ، صاروا أسارى كلهم له ، قال : والعاني : الأسير ، وقد بيَّنا معنى الحيّ القيوم فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله( وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) يقول تعالى ذكره : ولم يظفر بحاجته وطلبته من حمل إلى موقف القيادة شركا بالله ، وكفرا به ، وعملا بمعصيته.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) قال : من حمل شركا.

(18/378)


وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) قال : من حمل شركا. الظلم هاهنا : الشرك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112) }
يقول تعالى ذكره وتقدّست أسماؤه : ومن يعمل من صالحات الأعمال ، وذلك فيما قيل أداء فرائض الله التي فرضها على عباده( وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) يقول : وهو مصدّق بالله ، وأنه مجاز أهل طاعته وأهل معاصيه على معاصيهم( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا ) يقول : فلا يخاف من الله أن يظلمه ، فيحمل عليه سيئات غيره ، فيعاقبه عليها( وَلا هَضْمًا ) يقول : لا يخاف أن يهضمه حسناته ، فينقصه ثوابها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) وإنما يقبل الله من العمل ما كان في إيمان.
حدثنا القاسم ، قال : قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، قوله( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) قال : زعموا أنها الفرائض.
* ذكر من قال ما قلنا : في معنى قوله( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ).
حدثنا أبو كريب وسليمان بن عبد الجبار ، قالا ثنا ابن عطية ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : هضما : غصبا.
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قال : ( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يظلم فيزاد عليه في سيئاته ، ولا يظلم فيهضم في حسناته.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني

(18/379)


أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) يقول : أنا قاهر لكم اليوم ، آخذكم بقوّتي وشدّتي ، وأنا قادر على قهركم وهضمكم ، فإنما بيني وبينكم العدل ، وذلك يوم القيامة.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) أما هضما فهو لا يقهر الرجل الرجل بقوّته ، يقول الله يوم القيامة : لا آخذكم بقوّتي وشدتي ، ولكن العدل بيني وبينكم ، ولا ظلم عليكم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(هَضْما) قال : انتقاص شيء من حقّ عمله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن مِسْعر ، قال : سمعت حبيب بن أبي ثابت يقول في قوله( وَلا هَضْمًا ) قال : الهضم : الانتقاص.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : ظلما أن يزاد في سيئاته ، ولا يهضم من حسناته.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : لا يخاف أن يظلم فلا يجزى بعمله ، ولا يخاف أن ينتقص من حقه فلا يوفى عمله.
حدثنا الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا سلام بن مسكين ، عن ميمون بن سياه ، عن الحسن ، في قول الله تعالى( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : لا ينتقص الله من حسناته شيئا ، ولا يحمل عليه ذنب مسيء ،
وأصل الهضم : النقص ، يقال : هضمني فلان حقي ، ومنه امرأة هضيم : أي ضامرة

(18/380)


وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)

البطن ، ومنه قولهم : قد هضم الطعام : إذا ذهب ، وهضمت لك من حقك : أي حططتك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) }
يقول تعالى ذكره : كما رغبنا أهل الإيمان في صالحات الأعمال ، بوعدناهم ما وعدناهم ، كذلك حذرنا بالوعيد أهل الكفر بالمقام على معاصينا ، وكفرهم بآياتنا فأنزلنا هذا القرآن عربيا ، إذ كانوا عَرَبا( وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ ) فبيناه : يقول : وخوّفناهم فيه بضروب من الوعيد( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) يقول : كي يتقونا ، بتصريفنا ما صرّفنا فيه من الوعيد( أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) يقول : أو يحدث لهم هذا القرآن تذكرة ، فيعتبرون ويتعظون بفعلنا بالأمم التي كذبت الرسل قبلها ، وينزجرون عما هم عليه مقيمون من الكفر بالله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ما حذروا به من أمر الله وعقابه ، ووقائعه بالأمم قبلهم(أو يحدث لهم) القرآن(ذِكْرًا) : أي جدّا وورعا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ) قال : جدا وورعا ، وقد قال بعضهم في( أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ) أن معناه : أو يحدثُ لهم شرفا ، بإيمانهم به.

(18/381)


فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) }

(18/381)


يقول تعالى ذكره : فارتفع الذي له العبادة من جميع خلقه ، الملك الذي قهر سلطانه كل ملك وجبار ، الحق عما يصفه به المشركون من خلقه( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تعجل يا محمد بالقرآن ، فتقرئه أصحابك ، أو تقرأه عليهم ، من قبل أن يوحى إليك بيان معانيه ، فعوتب على إكتابه وإملائه ما كان الله ينزله عليه من كتابه من كان يكتبه ذلك من قبل أن يبين له معانيه ، وقيل : لا تتله على أحد ، ولا تمله عليه حتى نبينه لك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) قال : لا تتله على أحد حتى نبينه لك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : يقول : لا تتله على أحد حتى نتمه لك ، هكذا قال القاسم : حتى نتمه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس. قوله( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) يعنى : لا تعجل حتى نبينه لك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) : أي بيانه.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) قال : تبيانه.
حدثنا ابن المثنى وابن بشار ، قالا ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قتادة( مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) من قبل أن يبين لك بيانه.
وقوله( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) يقول تعالى ذكره : وقل يا محمد : ربّ زدني علما إلى ما علمتني أمره بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم.

(18/382)


وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) }
يقول تعالى ذكره : وإن يضيع يا محمد هؤلاء الذين نصرّف لهم في هذا القرآن من الوعيد عهدي ، ويخالفوا أمري ، ويتركوا طاعتي ، ويتبعوا أمر عدّوهم إبليس ، ويطيعوه في خلاف أمري ، فقديما ما فعل ذلك أبوهم آدم( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ) يقول : ولقد وصينا آدم وقلنا له( إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ ) ووسوس إليه الشيطان فأطاعه ، وخالف أمري ، فحلّ به من عقوبتي ما حلّ.
وعنى جلّ ثناؤه بقوله(مِنْ قَبْلُ) هؤلاء الذين أخبر أنه صرَّف لهم الوعيد في هذا القرآن ، وقوله(فَنَسِيَ) يقول : فترك عهدي.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ) يقول : فترك.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(فَنَسِيَ) قال : ترك أمر ربه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : قال له( يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) فقرأ حتى بلغ( لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ) وقرأ حتى بلغ( وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ) قال : فنسي ما عهد إليه في ذلك ، قال : وهذا عهد الله إليه ، قال : ولو كان له عزم ما أطاع عدوّه الذي حسده ، وأبي أن يسجد له مع من سجد له إبليس ، وعصى الله الذي كرّمه وشرّفه ، وأمر ملائكته فسجدوا له.
حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا ثنا يحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن ، ومؤمل ، قالوا : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي.
وقوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) اختلف أهل التأويل في معنى العزم هاهنا ، فقال بعضهم : معناه الصبر.

(18/383)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) أي صبرا.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قتادة( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : صبرا.
حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، قال : ثنا أبو النضر ، قال : ثنا شعبة ، عن قَتادة ، مثله.
وقال آخرون : بل معناه : الحفظ ، قالوا : ومعناه : ولم نجد له حفظا لما عهدنا إليه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : حفظا لما أمرته.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هاشم بن القاسم ، عن الأشجعي ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، في قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : حفظا.
حدثنا عباد بن محمد ، قال : ثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، في قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : حفظا لما أمرته به.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) يقول : لم نجد له حفظا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : العزم : المحافظة على ما أمره الله تبارك وتعالى بحفظه والتمسك به.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) يقول : لم نجعل له عزما.
حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا الحجاج بن فضالة ، عن لقمان بن عامر ، عن أبي أمامة قال : لو أن أحلام بني آدم جمعت منذ يوم خلق

(18/384)


وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)

الله تعالى آدم إلى يوم الساعة ، ووضعت في كفة ميزان. ووضع حلم آدم في الكفة الأخرى ، لرجح حلمه بأحلامهم ، وقد قال الله تعالى( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ).
قال أبو جعفر : وأصل العزم اعتقاد القلب على الشيء ، يقال منه : عزم فلان على كذا : إذا اعتقد عليه ونواه ، ومن اعتقاد القلب : حفظ الشيء ، ومنه الصبر على الشيء ، لأنه لا يجزع جازع إلا من خور قلبه وضعفه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فلا معنى لذلك أبلغ مما بينه الله تبارك وتعالى ، وهو قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) فيكون تأويله : ولم نجد له عزم قلب ، على الوفاء لله بعهده ، ولا على حفظ ما عهد إليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) }
يقول تعالى ذكره معلما نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، ما كان من تضييع آدم عهده ، ومعرّفه بذلك أن ولده لن يعدوا أن يكونوا في ذلك على منهاجه ، إلا من عصمه الله منهم(و) اذكر يا محمد( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى ) أن يسجد له( فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ) ولذلك من شنآنه لم يسجد لك ، وخالف أمري في ذلك وعصاني ، فلا تطيعاه فيما يأمركما به ، فيخرجكما بمعصيتكما ربكما ، وطاعتكما له( مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) يقول : فيكون عيشك من كدّ يدك ، فذلك شقاؤه الذي حذّره ربه.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : أهبط إلى آدم ثور أحمر ، فكان يحرث عليه ، ويمسح العرق من جبينه ، فهو الذي قال الله تعالى ذكره( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) فكان ذلك شقاؤه ، وقال تعالى ذكره(فَتَشْقَى) ولم يقل : فتشقيا ، وقد قال : ( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا ) لأن

(18/385)


إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)

ابتداء الخطاب من الله كان لآدم عليه السلام ، فكان في إعلامه العقوبة على معصيته إياه ، فيما نهاه عنه من أكل الشجرة الكفاية من ذكر المرأة ، إذ كان معلوما أن حكمها في ذلك حكمه. كما قال( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) اجتزئ بمعرفة السامعين معناه من ذكر فعل صاحبه.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) }
يقول تعالى ذكره ، مخبرا عن قيله لآدم حين أسكنه الجنة(إنَّ لَك) يا آدم( أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ) و " أن " في قوله( أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ) في موضع نصب بإنَّ التي في قوله : (إنَّ لَك).
وقوله( وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا ) اختلفت القرّاء في قراءتها ، فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والكوفة بالكسر : وإنك ، على العطف على قوله(إنَّ لَك) ، وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة والبصرة وأنك ، بفتح ألفها عطفا بها على " أن " التي في قوله( أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ) ، ووجَّهوا تأويل ذلك إلى أن لك هذا وهذا ، فهذه القراءة أعجب القراءتين إليّ ، لأن الله تبارك وتعالى ذكره وعد ذلك آدم حين أسكنه الجنة ، فكون ذلك بأن يكون عطفا على أن لا تجوع أولى من أن يكون خبر مبتدأ ، وإن كان الآخر غير بعيد من الصواب ، وعني بقوله( لا تَظْمَأُ فِيهَا ) لا تعطش في الجنة ما دمت فيها( وَلا تَضْحَى ) ، يقول : لا تظهر للشمس فيؤذيك حرّها ، كما قال ابن أبي ربيعة :
رأتْ رَجُلا أمَّا إذا الشَّمْسُ عارَضَتْ... فَيَضْحَى وأمَّا بالعشِيّ فَيَخْصَرُ (1)
__________
(1) البيت لعمر بن أبي ربيعة القرشي المخزومي . وقد أورده صاحب اللسان في ( ضحا ) ولم ينسبه . قال : وضحا الرجل ضحوا ( على فعل ) وضحوا ( على فعول ) وضحيا : برز للشمس وضحى بكسر الحاء يضحى في اللغتين معه ضحوا وضحيا : أصابته الشمس ، قال الله تعالى : ( وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) قال : لا يؤذيك حر الشمس . وقال الفراء : لا تضحى : لا تصيبك شمس مؤذية . قال : وفي بعض التفسير : ولا تضحى : لا تعرق . قال الأزهري : والأول أشبه بالصواب ، وأنشد : " رأت رجلا . . . البيت " . أه . وقوله " يخصر " : هو من الخصر بالتحريك ، والبرد يجده الإنسان في أطرافه .

(18/386)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله( وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ) يقول : لا يصيبك فيها عطش ولا حرّ.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ) يقول : لا يصيبك حرّ ولا أذى.
حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي ، قال : ثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : ثني أبي ، عن خصيف عن سعيد بن جُبير( لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ) قال : لا تصيبك الشمس.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا تَضْحَى ) قال : لا تصيبك الشمس ، وقوله( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ) يقول : فألقى إلى آدم الشيطان وحدّثه( قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ) يقول : قال له : هل أدلك على شجرة إن أكلت منها خلدت فلم تمت ، وملكت ملكا لا ينقضي فيبلى.
كما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ) إن أكلت منها كنت مَلكا مثل الله( أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) فلا تموتان أبدا.

(18/387)


فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) }
يقول تعالى ذكره : فأكل آدم وحوّاء من الشجرة التي نُهيا عن الأكل منها ، وأطاعا أمر إبليس ، وخالفا أمر ربهما( فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ) يقول : فانكشفت لهما عوراتهما ، وكانت مستورة عن أعينهما.
كما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : إنما أراد ، يعني إبليس بقوله( هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ) ليبدي لهما ما توارى عنهما من سوآتهما ، بهتك لباسهما ، وكان قد علم أن لهما سوأة لما كان يقرأ من كتب الملائكة ، ولم يكن آدم يعلم ذلك ، وكان لباسهما الظفر ، فأبى آدم أن يأكل منها ، فتقدمت حوّاء ، فأكلت ثم قالت : يا آدم كل ، فإني قد أكلت ، فلم يضرّني ، فلما أكل آدم بدت سوآتهما.
وقوله( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) يقول : أقبلا يشدان عليهما من ورق الجنة.
كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) يقول : أقبلا يغطيان عليهما بورق التين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) يقول : يوصلان عليهما من ورق الجنة.
وقوله( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) يقول : وخالف أمر ربه ، فتعدّى إلى ما لم يكن له أن يتعدّى إليه ، من الأكل من الشجرة التي نهاه عن الأكل منها ، وقوله( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) يقول : اصطفاه ربه من بعد معصيته إياه فرزقه الرجوع إلى ما يرضى عنه ، والعمل بطاعته ، وذلك هو كانت توبته التي تابها عليه ، وقوله(وَهَدَى) يقول : وهداه للتوبة ، فوفَّقه لها.

(18/388)


قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) }
يقول تعالى ذكره : قال الله تعالى لآدم وحوّاء( اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا إِلَى الأرْضِ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) يقول : أنتما عدوّ إبليس وذرّيته ، وإبليس عدوّكما وعدوّ ذرّيتكما.
وقوله( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ) يقول : فإن يأتكم يا آدم وحواء وإبليس مني هدى : يقول : بيان لسبيلي ، وما أختاره لخلقي من دين( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ ) يقول : فمن اتبع بياني ذلك وعمل به ، ولم يزغ منه( فَلا يَضِلُّ ) يقول : فلا يزول عن محجة الحق ، ولكنه يرشد في الدنيا ويهتدي(ولا يَشْقَى) في الآخرة بعقاب الله ، لأن الله يدخله الجنة ، وينجيه من عذابه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن يزيد الطحان ، قال : ثنا أبو خالد الأحمر ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : تضمن الله لمن قرأ القرآن ، واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، ثم تلا هذه الآية( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ).
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : ثنا حكام الرازيّ ، عن أيوب بن موسى ، عن مرو ثنا الملائي عن ابن عباس أنه قال : إن الله قد ضمن.... فذكر نحوه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن أيوب بن يسار أبي عبد الرحمن ، عن عمرو بن قيس ، عن رجل عن ابن عباس ، بنحوه.
حدثنا عليّ بن سهل الرملي ، قال : ثنا أحمد بن محمد النسائي ، عن أبي سلمة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، قال : قال ابن عباس : من قرأ القرآن واتبع ما فيه عصمه الله من الضلالة ، ووقاه ، أظنه أنه قال : من هول يوم القيامة ،

(18/389)


وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)

وذلك أنه قال( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) }

(18/390)


قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) }
يقول تعالى ذكره( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ) الذي أذكره به فتولى عنه ولم يقبله ولم يستجب له ، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) يقول : فإن له معيشة ضيقة ، والضنك من المنازل والأماكن والمعايش : الشديد ، يقال : هذا منزل ضنك : إذا كان ضيقا ، وعيش ضنك : الذكر والأنثى والواحد والاثنان والجمع بلفظ واحد; ومنه قول عنترة :
وإنْ نزلُوا بضَنْك أنزل (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) يقول : الشقاء.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن
__________
(1) هذا جزء من عجز بيت لعنترة بن عمرو بن شداد العبسي ( مختار الشعر الجاهلي طبعة الحلبي ، شرح مصطفى السقا ، ص 388 ) والبيت بتمامه هو : إنْ يُلْحَقُوا أكْرُرْ وإنْ يُسْتَلْحَمُوا ... أشْدُدْ وإنْ يُلْفَوا بضَنْكٍ أنْزِل
وفي ( اللسان : ضنك ) : الضنك : الضيق من كل شيء ، الذكر والأنثى فيه سواء . ومعيشة ضنك : ضيقة . وفي التزيل : ( فإن له معيشة ضنكا) أي غير حلال .

(18/390)


مجاهد ، قوله(ضَنْكا) قال : ضيقة.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : الضنك : الضيق.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) يقول : ضيقة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي جعل الله لهؤلاء المعرضين عن ذكره العيشة الضنك ، والحال التي جعلهم فيها ، فقال بعضهم : جعل ذلك لهم في الآخرة في جهنم ، وذلك أنهم جعل طعامهم فيها الضريع والزقوم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو بن عليّ بن مقدم ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : في جهنم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) فقرأ حتى بلغ( وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ ) قال : هؤلاء أهل الكفر ، قال : ومعيشة ضنكا في النار شوك من نار وزقوم وغسلين ، والضريع : شوك من نار ، وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة ، ما المعيشة والحياة إلا في الآخرة ، وقرأ قول الله عزّ وجلّ( يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) قال : لمعيشتي ، قال : والغسلين والزقوم : شيء لا يعرفه أهل الدنيا.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : في النار.
وقال آخرون : بل عنى بذلك : فإن له معيشة في الدنيا حراما قال : ووصف الله جلّ وعزّ معيشتهم بالضنك ، لأن الحرام وإن اتسع فهو ضنك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة في قوله : ( مَعِيشَةً ضَنْكًا )

(18/391)


قال : هي المعيشة التي أوسع الله عليه من الحرام.
حدثني داود بن سليمان بن يزيد المكتب من أهل البصرة ، قال : ثنا عمرو بن جرير البجلي ، عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم في قول الله( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : رزقا في معصيته.
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا يعلى بن عبيد ، قال : ثنا أبو بسطام ، عن الضحاك( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : الكسب الخبيث.
حدثني محمد بن إسماعيل الصراري ، قال : ثنا محمد بن سوار ، قال : ثنا أبو اليقظان عمار بن محمد ، عن هارون بن محمد التيمي ، عن الضحاك ، في قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : العمل الخبيث ، والرزق السيئ.
وقال آخرون ممن قال عنى أن لهؤلاء القوم المعيشة الضنك في الدنيا ، إنما قيل لها ضنك وإن كانت واسعة ، لأنهم ينفقون ما ينفقون من أموالهم على تكذيب منهم بالخلف من الله ، وإياس من فضل الله ، وسوء ظنّ منهم بربهم ، فتشتدّ لذلك عليهم معيشتهم وتضيق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) يقول : كلّ مال أعطيته عبدا من عبادي قلّ أو كثر ، لا يتقيني فيه ، لا خير فيه ، وهو الضنك في المعيشة. ويقال : إن قوما ضُلالا أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين ، فكانت معيشتهم ضنكا ، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله عزّ وجل ليس بمخلف لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله ، والتكذيب به ، فإذا كان العبد يكذّب بالله ، ويسيء الظنّ به ، اشتدّت عليه معيشته ، فذلك الضنك.
وقال آخرون : بل عنى بذلك : أن ذلك لهم في البرزخ ، وهو عذاب القبر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يزيد بن مخلد الواسطي ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي حازم عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال في قول الله( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب

(18/392)


القبر.
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي حازم ، عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخُدري ، قال : إن المعيشة الضنك ، التي قال الله : عذاب القبر.
حدثني حوثرة بن محمد المنقري ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حازم ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخُدريّ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، قال : ثنا خالد بن زيد ، عن ابن أبي هلال ، عن أبي حازم ، عن أبي سعيد ، أنه كان يقول : المعيشة الضنك : عذاب القبر ، إنه يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنينا تنهشه وتخدش لحمه حتى يُبعث ، وكان يقال : لو أن تنينا منها نفخ الأرض لم تنبت زرعا.
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : يطبق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، وهي المعيشة الضنك التي قال الله( مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح والسديّ ، في قوله( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب القبر.
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب القبر.
حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، قال : ثنا محمد بن ربيعة ، قال : ثنا أبو عُمَيس ، عن عبد الله بن مخارق عن أبيه ، عن عبد الله ، في قوله( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب القبر.
حدثني عبد الرحيم البرقيّ ، قال : ثنا ابن أبي مَريم ، قال : ثنا محمد بن جعفر وابن أبي حازم ، قالا ثنا أبو حازم ، عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخدريّ( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب القبر.

(18/393)


قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : هو عذاب القبر الذي حدثنا به أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثنا عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن درّاج ، عن ابن حُجَيرة عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أتَدْرُونَ فِيمَ أُنزلتْ هَذِهِ الآيَة( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) أتَدْرُونَ مَا المعيشَةُ الضَّنْكُ ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : عَذَابُ الكافرِ فِي قَبْرِهِ ، والَّذِي نَفْسِي بَيَدِهِ أنَّه لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينا ، أتَدْرُونَ ما التِّنِينُ : تسْعَةٌ وَتسْعُونَ حَيَّه ، لكلّ حَيَّه سَبْعَةُ رُءُوسٍ ، يَنْفُخُونَ فِي جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ وَيخْدِشُونَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ " .
وإن الله تبارك وتعالى اتبع ذلك بقوله : ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) فكان معلوما بذلك أن المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم قبل عذاب الآخرة ، لأن ذلك لو كان في الآخرة لم يكن لقوله : ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) معنى مفهوم ، لأن ذلك إن لم يكن تقدّمه عذاب لهم قبل الآخرة ، حتى يكون الذي في الآخرة أشدّ منه ، بطل معنى قوله( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) ، فإذ كان ذلك كذلك ، فلا تخلو تلك المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم من أن تكون لهم في حياتهم الدنيا ، أو في قبورهم قبل البعث ، إذ كان لا وجه لأن تكون في الآخرة لما قد بيَّنا ، فإن كانت لهم في حياتهم الدنيا ، فقد يجب أن يكون كلّ من أعرض عن ذكر الله من الكفار ، فإن معيشته فيها ضنك ، وفي وجودنا كثيرا منهم أوسع معيشة من كثير من المقبلين على ذكر الله تبارك وتعالى ، القائلين له المؤمنين في ذلك ، ما يدلّ على أن ذلك ليس كذلك ، وإذ خلا القول في ذلك من هذين الوجهين صحّ الوجه الثالث ، وهو أن ذلك في البرزخ.
وقوله( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) اختلف أهل التأويل في صفة العمى الذي ذكر الله في هذه الآية ، أنه يبعث هؤلاء الكفار يوم القيامة به ، فقال بعضهم : ذلك عمى عن الحجة ، لا عمى عن البصر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ،

(18/394)


في قوله : ( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) قال : ليس له حجة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) قال : عن الحجة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله ، وقيل : يحشر أعمى البصر.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قال الله تعالى ذكره ، وهو أنه يحشر أعمى عن الحجة ورؤية الشيء كما أخبر جلّ ثناؤه ، فعمّ ولم يخصص.
وقوله( قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم في ذلك ، ما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرزاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى ) لا حجة لي.
وقوله( وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وقد كنت بصيرا بحجتي.
ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) قال : عالما بحجتي.
وقال آخرون. بل معناه : وقد كنت ذا بصر أبصر به الأشياء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) في الدنيا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) قال : كان بعيد البصر ، قصير النظر ، أعمى عن الحقّ.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن الله عزّ شأنه وجلّ ثناؤه ، عمّ بالخبر عنه بوصفه نفسه بالبصر ، ولم يخصص منه معنى دون

(18/395)


معنى ، فذلك على ما عمه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية ، قال : ربّ لم حشرتني أعمى عن حجتي ورؤية الأشياء ، وقد كنت في الدنيا ذا بصر بذلك كله.
فإن قال قائل : وكيف قال هذا لربه( لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى ) مع معاينته عظيم سلطانه ، أجهل في ذلك الموقف أن يكون لله أن يفعل به ما شاء ، أم ما وجه ذلك ؟ قيل : إن ذلك منه مسألة لربه يعرّفه الجرم الذي استحق به ذلك ، إذ كان قد جهله ، وظنّ أن لا جرم له ، استحق ذلك به منه ، فقال : ربّ لأيّ ذنب ولأيّ جرم حشرتني أعمى ، وقد كنت من قبل في الدنيا بصيرا وأنت لا تعاقب أحدا إلا بدون ما يستحق منك من العقاب.
وقوله( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ) يقول تعالى ذكره ، قال الله حينئذ للقائل له : ( لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) فعلت ذلك بك ، فحشرتك أعمى كما أتتك آياتي ، وهي حججه وأدلته وبيانه الذي بيَّنه في كتابه ، فنسيتها : يقول : فتركتها وأعرضت عنها ، ولم تؤمن بها ، ولم تعمل. وعنى بقوله( كَذَلِكَ أَتَتْكَ ) هكذا أتتك. وقوله : ( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) يقول : فكما نسيت آياتنا في الدنيا ، فتركتها وأعرضت عنها ، فكذلك اليوم ننساك ، فنتركك في النار.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) فقال بعضهم بمثل الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال ، ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) قال : في النار.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ) قال : فتركتها( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) وكذلك اليوم تترك في النار.
ورُوي عن قتادة في ذلك ما حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) قال : نسي من الخير ، ولم ينس من الشرّ. وهذا القول الذي قاله قَتادة قريب المعنى مما

(18/396)


وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)

قاله أبو صالح ومجاهد ، لأن تركه إياهم في النار أعظم الشرّ لهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) }
يقول تعالى ذكره : وهكذا نجزي : أي نثيب من أسرف فعصى ربه ، ولم يؤمن برسله وكتبه ، فنجعل له معيشة ضنكا في البرزخ كما قد بيَّنا قبل( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) يقول جلّ ثناؤه : ولعذاب في الآخرة أشدّ لهم مما وعدتهم في القبر من المعيشة الضنك وأبقى يقول : وأدوم منها ، لأنه إلى غير أمد ولا نهاية.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى (128) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أفلم يهد لقومك المشركين بالله ، ومعنى يهد : يبين. يقول : أفلم يبين لهم كثرة ما أهلكنا قبلهم من الأمم التي سلكت قبلها التي يمشون في مساكنهم ودورهم ، ويرون آثار عقوباتنا التي أحللناها بهم سوء مغبة ما هم عليه مقيمون من الكفر بآياتنا ، ويتعظوا بهم ، ويعتبروا ، وينيبوا إلى الإذعان ، ويؤمنوا بالله ورسوله ، خوفا أن يصيبهم بكفرهم بالله مثل ما أصابهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ) لأن قريشا كانت تتجر إلى الشأم ، فتمر بمساكن عاد وثمود ومن أشبههم ، فترى آثار وقائع الله تعالى بهم ، فلذلك قال لهم : أفلم يحذّرهم ما يرون من فعلنا بهم بكفرهم بنا نزول مثله لهم ، وهم على مثل فعلهم مقيمون ، وكان الفرّاء يقول : لا يجوز

(18/397)


وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)

في كم في هذا الموضع أن يكون إلا نصبا بأهلكنا ، وكان يقول : وهو وإن لم يكن إلا نصبا ، فإن جملة الكلام رفع بقوله( يَهْدِ لَهُمْ ) ويقول : ذلك مثل قول القائل : قد تبين لي أقام عمرو أم زيد في الاستفهام ، وكقوله( سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ) ويزعم أن فيه شيئا يرفع سواء لا يظهر مع الاستفهام ، قال : ولو قلت : سواء عليكم صمتكم ودعاؤكم تبين ذلك الرفع الذي في الجملة ، وليس الذي قال الفرّاء من ذلك ، كما قال : لأن كم وإن كانت من حروف الاستفهام فإنها لم تجعل في هذا الموضع للاستفهام ، بل هي واقعة موقع الأسماء الموصوفة ، ومعنى الكلام ما قد ذكرنا قبل وهو : أفلم يبين لهم كثرة إهلاكنا قبلهم القرون التي يمشون في مساكنهم ، أو أفلم تهدهم القرون الهالكة ، وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله( أفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ مَنْ أهْلَكْنا) فكم واقعة موقع من في قراءة عبد الله ، هي في موضع رفع بقوله( يَهْدِ لَهُمْ ) وهو أظهر وجوهه ، وأصحّ معانيه ، وإن كان الذي قاله وجه ومذهب على بعد.
وقوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى ) يقول تعالى ذكره : إن فيما يعاين هؤلاء ويرون من آثار وقائعنا بالأمم المكذّبة رسلها قبلهم ، وحلول مثلاتنا بهم لكفرهم بالله(لآيات) يقول : لدلالات وعبرا وعظات(لأولي النهى) يعني : لأهل الحجى والعقول ، ومن ينهاه عقله وفهمه ودينه عن مواقعة ما يضره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( لأولِي النُّهَى ) يقول : التقى.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى ) أهل الورع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ

(18/398)


فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)

وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) }
يقول تعالى ذكره( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) يا محمد أن كلّ من قضى له أجلا فإنه لا يخترمه قبل بلوغه أجله( وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) يقول : ووقت مسمى عند ربك سماه لهم في أمّ الكتاب وخطه فيه ، هم بالغوه ومستوفوه( لَكَانَ لِزَامًا ) يقول : للازمهم الهلاك عاجلا وهو مصدر من قول القائل : لازم فلان فلانا يلازمه ملازمة ولزاما : إذا لم يفارقه ، وقدّم قوله( لَكَانَ لِزَامًا ) قبل قوله( أَجَلٍ مُسَمًّى ) ومعنى الكلام : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما ، فاصبر على ما يقولون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) الأجل المسمى : الدنيا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) وهذه من مقاديم الكلام ، يقول : لولا كلمة سبقت من ربك إلى (1) .
أجل مسمى كان لزاما ، والأجل المسمى ، الساعة ، لأن الله تعالى يقول( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) قال : هذا مقدّم ومؤخر ، ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله( لَكَانَ لِزَامًا ) فقال بعضهم : معناه : لكان موتا.
__________
(1) لعله يريد : لولا أن الله سبقت كلمته بتأخير عذابهم إلى أجل مسمى . ويجوز أن تكون " إلى " وضعت في موضع واو العطف سهوًا من الناسخ .

(18/399)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ قال : ثني أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( لَكَانَ لِزَامًا ) يقول : موتا.
وقال آخرون : معناه لكان قتلا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( لَكَانَ لِزَامًا ) واللزوم : القتل.
وقوله( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه : فاصبر يا محمد على ما يقول هؤلاء المكذبون بآيات الله من قومك لك إنك ساحر ، وإنك مجنون وشاعر ونحو ذلك من القول( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) يقول : وصل بثنائك على ربك ، وقال : بحمد ربك ، والمعنى : بحمدك ربك ، كما تقول : أعجبني ضرب زيد ، والمعنى : ضربي زيدا ، وقوله : ( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) وذلك صلاة الصبح( وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) وهي العصر( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ ) وهي ساعات الليل ، واحدها : إنى ، على تقدير حمل ، ومنه قول المنخل السعدي :
حُلْوٌ وَمُرّ كَعطْفِ القِدْحِ مِرَّتُهُ... فِي كُلّ إني قَضَاهُ اللَّيْلُ يَنْتَعِلُ (1)
ويعني بقوله( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ ) صلاة العشاء الآخرة ، لأنها تصلى بعد مضيّ آناء من الليل. وقوله( وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ) : يعني صلاة الظهر والمغرب ، وقيل : أطراف النهار ، والمراد بذلك الصلاتان اللتان ذكرتا ، لأن صلاة الظهر في آخر طرف النهار الأول ، وفي أوّل طرف النهار الآخر ، فهي في طرفين منه ،
__________
(1) ( في اللسان : أنى ) لأني : واحد آناء الليل ، وهي ساعاته ، وفي التنزيل العزيز : ( ومن آناء الليل ) . قال أهل اللغة : منهم الزجاج : آناء الليل : ساعاته ، واحدها : إني وإني ؛ فمن قال : إني ، فهو مثل نحى وأنحاء ؛ ومن قال : إني فهو مثله معي وأمعاء ؛ قال الهذلي المتنخل : السَّالِكُ الثَّغْرَ مَخْشِيًّا مَوَارِدُهُ ... بكُلِّ إني قَضَاه اللَّيْلُ يَنْتَعِلُ
قال الأزهري : كذا رواه ابن الأنباري ، وأنشد الجوهري : " حلو ومر . . . البيت " ونسبه أيضًا المتنخل ؛ فإما أن يكون هو البيت يعنيه ، أو آخر من قصيدة أخرى .

(18/400)


والطرف الثالث : غروب الشمس ، وعند ذلك تصلى المغرب ، فلذلك قيل أطراف ، وقد يحمل أن يقال : أريد به طرفا النهار. وقيل : أطراف ، كما قيل( صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) فجمع ، والمراد : قلبان ، فيكون ذلك أول طرف النهار الآخر ، وآخر طرفه الأول (1) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن ابن أبي زيد ، عن ابن عباس(وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) قال : الصلاة المكتوبة.
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبد الله ، قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأى القمر ليلة البدر فقال : " إنَّكُمْ راَءُونَ رَبَّكُمْ كَما تَرَوْنَ هَذَا ، لا تُضَامُونَ فِي رُؤيته ، فإن اسْتَطَعْتُم أنْ لا تُغْلَبْوا عَلى صَلاةٍ قَبلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها فافْعَلُوا " ثم تلا( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) " .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) قال ابن جريج : العصر ، وأطراف النهار قال : المكتوبة.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة في قوله( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) قال : هي صلاة الفجر( وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) قال : صلاة العصر( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ ) قال : صلاة المغرب والعشاء( وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ) قال : صلاة الظهر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ) قال : من آناء الليل : العتمة ، وأطراف النهار : المغرب والصبح ، ونصب قوله( وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ) عطفا على قوله( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) لأن معنى ذلك : فسبح بحمد ربك آخر الليل ، وأطراف النهار.
__________
(1) في الأصل : الآخر ؟ وهو سهو من الكاتب . كما تبين من عبارة المؤلف .

(18/401)


وبنحو الذي قلنا في معنى( آنَاءَ اللَّيْلِ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ ) قال : المصلى من الليل كله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سمعت الحسن قرأ( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ ) قال : من أوّله ، وأوسطه ، وآخره.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ ) قال : آناء الليل : جوف الليل.
وقوله( لَعَلَّكَ تَرْضَى ) يقول : كي ترضى.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والعراق( لَعَلَّكَ تَرْضَى ) بفتح التاء. وكان عاصم والكسائي يقرآن ذلك( لَعَلَّك تُرْضَى) بضم التاء ، ورُوي ذلك عن أبي عبد الرحمن السلمي ، وكأن الذين قرءوا ذلك بالفتح ، ذهبوا إلى معنى : إن الله يعطيك ، حتى ترضى عطيَّته وثوابه إياك ، وكذلك تأوّله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لَعَلَّكَ تَرْضَى ) قال : الثواب ، ترضى بما يثيبك الله على ذلك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( لَعَلَّكَ تَرْضَى ) قال : بما تعطى ، وكأن الذين قرءوا ذلك بالضم ، وجهوا معنى الكلام إلى لعل الله يرضيك من عبادتك إياه ، وطاعتك له. والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، وهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار ، متفقتا المعنى ، غير مختلفتيه ، وذلك أن الله تعالى ذكره إذا أرضاه ، فلا شكّ أنه يرضى ، وأنه إذا رضي فقد أرضاه الله ، فكل واحدة منهما تدلّ على معنى الأخرى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب.

(18/402)


وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تنظر إلى ما جعلنا لضرباء هؤلاء المعرضين عن آيات ربهم وأشكالهم ، متعة في حياتهم الدنيا ، يتمتعون بها ، من زهرة عاجل الدنيا ونضرتها( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) يقول : لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ، ونبتليهم ، فإن ذلك فانٍ زائل ، وغُرور وخدع تضمحلّ( وَرِزْقُ رَبِّكَ ) الذي وعدك أن يرزقكه في الآخرة حتى ترضى ، وهو ثوابه إياه(خَيْرٌ) لك مما متعناهم به من زهرة الحياة الدنيا(وأبْقَى) يقول : وأدوم ، لأنه لا انقطاع له ولا نفاد ، وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهوديّ يستسلف منه طعاما ، فأبى أن يسلفه إلا برهن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي رافع ، قال : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهودي يستسلفه ، فأبى أن يعطيه إلا برهن ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد ، عن يعقوب بن يزيد ، عن أبي رافع ، قال : نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف : فأرسلني إلى يهودي بالمدينة يستسلفه ، فأتيته ، فقال : لا أسلفه إلا برهن ، فأخبرته بذلك ، فقال : إنِّي لأمِينٌ فِي أهْلِ السَّماءِ وفي أهْلِ الأرْضِ ، فاحْمِلْ دِرْعِي إليه ، فنزلت( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) وقوله(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) إلى قوله( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) ويعني بقوله : ( أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) رجالا منهم

(18/403)


أشكالا وبزهرة الحياة الدنيا : زينة الحياة الدنيا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) : أي زينة الحياة الدنيا ، ونصب زهرة الحياة الدنيا على الخروج من الهاء التي في قوله به من( مَتَّعْنَا بِهِ ) ، كما يقال : مررت به الشريف الكريم ، فنصب الشريف الكريم على فعل مررت ، وكذلك قوله( إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) تنصب على الفعل بمعنى : متعناهم به زهرة في الحياة الدنيا وزينة لهم فيها ، وذكر الفراء أن بعض بني فقعس أنشده :
أبَعْد الَّذِي بالسَّفْح سَفْحِ كُوَاكِب... رَهِينَةَ رَمْسٍ مِنْ تُرَابٍ وَجَنْدَلِ (1)
فنصب رهينة على الفعل من قوله : " أبعد الذي بالسفح " ، وهذا لا شك أنه أضعف في العمل نصبا من قوله( مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) لأن العامل في الاسم وهو رهينة ، حرف خافض لا ناصب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
__________
(1) البيت من شواهد الفراء عن بعض بني فقعس ، كما قال المؤلف. وكواكب بضم الكاف : جبل بعينه ، ورهينة الرمس الذي نزل واستقر به لا يبرحه . والرمس : القبر . أو التراب والصخور يوارى بها الميت في لحده . والجندل : الصخر والشاهد في البيت : نصب رهينة على الخروج كما قال المؤلف ، كما نصبت " زهرة الحياة الدنيا " . قال صاحب تاج العروس : والخروج عن أئمة النحو : هو النصب على المفعولية ، وهو عبارة البصريين ، لأنهم يقولون في المفعول : هو منصوب على الخروج : أي خروجه عن طرفي الإسناد وعمدته ، وهو كقولهم له ( فضلة ) . أه . أراد المؤلف أن رهينة منصوب على البدل من محل المجرور ( بالسفح ) ، لأنه محله النصب على المفعولية . وقد تبين أبو البقاء العكبري في " إعراب القرآن " وجوه نصب " زهرة الحياة " قال ( 2 : 68 ) في نصبه أوجه : ( أحدها ) : أن يكون منصوبا بفعل محذوف ، دل عليه " متعنا " أي جعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا . و ( الثاني ) : أن يكون بدلا من موضع ( به ) . و ( الثالث ) : أن يكون بدلا من أزواج . والتقدير : ذوي زهرة ؛ فحذف المضاف . ويجوز أن يكون جعل الأزواج زهرة على المبالغة . ولا يجوز على أن يكون صفة ، لأنه معرفة ، وأزواجا : نكرة . و ( الرابع ) : أن يكون على الذم ، أي أذم أو أعنى . و ( الخامس ) : أن يكون بدلا من ( ما ) . اختاره بعضهم . وقال آخرون : لا يجوز ؛ لأن قوله تعالى : ( لنفتنهم ) من صلة " متعنا " ، فيلزم منه الفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي . و ( السادس ) : أن يكون حالا من الهاء ، أو من ( ما ) ، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين ، وجر الحياة على البدل . وممن اختاره مكي ( لعله أبو الحرم مكي بن ريان الماكسيني الضرير ) ، وفيه نظر . و ( السابع ) : أنه تمييز لما ، أو للهاء في ( به ) ، حكي عن الفراء ، وهو غلط ، لأنه معرفة . أه .

(18/404)


وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) قال : لنبتليهم فيه( وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) مما متَّعنا به هؤلاء من هذه الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (وأمُرْ) يا محمد( أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ) يقول : واصطبر على القيام بها ، وأدائها بحدودها أنت( لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ) يقول : لا نسألك مالا بل نكلفك عملا ببدنك ، نؤتيك عليه أجرا عظيما وثوابا جزيلا يقول( نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) نحن نعطيك المال ونكسبكه ، ولا نسألكه ، وقوله : ( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) يقول : والعاقبة الصالحة من عمل كلّ عامل لأهل التقوى والخشية من الله دون من لا يخاف له عقابا ، ولا يرجو له ثوابا.
وبنحو الذي قلنا في قوله( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا حفص بن غياث ، عن هشام بن عروة ، قال : كان عروة إذا رأى ما عند السلاطين دخل داره ، فقال( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) ثم ينادي : الصلاة الصلاة ، يرحمكم الله.
حدثنا أبو كريب قال : ثنا عثام ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنه كان إذا رأى شيئا من الدنيا جاء إلى أهله ، فقال الصلاة( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ).
حدثنا العباس بن عبد العظيم ، قال : ثنا جعفر بن عون ، قال : أخبرنا

(18/405)


وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)

هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، قال : كان يبيت عند عمر بن الخطاب من غلمانه أنا ويرفأ ، وكانت له من الليل ساعة يصليها ، فإذا قلنا لا يقوم من الليل كان قياما (1) .
، وكان إذا صلى من الليل ثم فرغ قرأ هذه الآية( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ).... الآية.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى (133) }
يقول تعالى ذكره : قال هؤلاء المشركون الذين وصف صفتهم في الآيات قبل هلا يأتينا محمد بآية من ربه ، كما أتى قومه صالح بالناقة وعيسى بإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، يقول الله جلّ ثناؤه : أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب من أنباء الأمم من قبلهم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات فكفروا بها لما أتتهم كيف عجَّلنا لهم العذاب ، وأنزلنا بأسنا بكفرهم بها ، يقول : فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم حال أولئك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى ) قال : التوراة والإنجيل.
حدثنا القاسم : قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مثله.
__________
(1) لعله يريد : كان يقوم قياما ، أي قياما طويلا ، والضمير في كان راجع إلى " عمر " رضي الله عنه .

(18/406)


وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى ) الكتب التي خلت من الأمم التي يمشون في مساكنهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) }
يقول تعالى ذكره : ولو أنا أهلكنا هؤلاء المشركين الذين يكذبون بهذا القرآن من قبل أن ننزله عليهم ، ومن قبل أن نبعث داعيا يدعوهم إلى ما فرضنا عليهم فيه بعذاب ننزله بهم بكفرهم بالله ، لقالوا يوم القيامة ، إذ وردوا علينا ، فأردنا عقابهم : ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا يدعونا إلى طاعتك ، فنتبع آياتك : يقول : فنتبع حجتك وأدلتك وما تنزله عليه من أمرك ونهيك من قبل أن نذلّ بتعذيبك إيانا ونخزى به.
كما حدثني الفضل بن إسحاق ، قال : ثنا أبو قتيبة سلم بن قتيبة ، عن فضيل عن مرزوق ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " يَحْتَجُّ عَلى اللهِ يَوْمَ القيامَةِ ثَلاثَةٌ : الهَالِكُ فِي الفَتْرَةِ ، والمَغْلُوبُ على عَقْلِه ، والصَّبيُّ الصَّغيرُ ، فَيَقُولُ المَغْلُوبُ عَلى عَقْلِهِ : لَمْ تَجْعَلْ لي عَقْلا أنْتَفِع بِهِ ، وَيَقُولُ الهَالِكُ فِي الفتْرَةِ : لَمْ يأْتِني رَسُولٌ وَلا نَبيٌّ ، ولَوْ أتانِي لَكَ رَسُولٌ أوْ نَبيّ لكُنْتُ أطْوَعَ خَلْقِكَ لَكَ وقرأ : ( لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا ) ويَقُولُ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ : كَنْتُ صَغِيرًا لا أعْقِلُ قال : فَتُرْفَعُ لَهُمْ نارٌ وَيُقالُ لَهُمْ : رِدُوها قال : فَيرِدُها مَنْ كَانَ فِي علْمِ اللهِ أنَّه سَعيدٌ ، وَيَتَلَكَّأُ عَنْها مَنْ كانَ فِي عِلْمِ اللهِ أنَّهُ شَقِيّ ، فَيَقُولُ : إيَّايَ عَصَيْتُمْ ، فَكَيْفَ بِرُسُلي لَوْ أتَتْكُمْ ؟ " .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) }

(18/407)


يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : كلكم أيها المشركون بالله متربص يقول : منتظر لمن يكون الفلاح ، وإلى ما يئول أمري وأمركم متوقف ينتظر دوائر الزمان ، فتربصوا يقول : فترقبوا وانتظروا ، فستعلمون من أهل الطريق المستقيم المعتدل الذي لا اعوجاج فيه إذا جاء أمر الله وقامت القيامة ، أنحن أم أنتم ؟ ومن اهتدى يقول : وستعلمون حينئذ من المهتدي الذي هو على سنن الطريق القاصد غير الجائر عن قصده منا ومنكم ، وفي " مَن " من قوله( فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ ) ، والثانية من قوله(وَمَنِ اهْتَدَى) وجهان الرفع ، وترك إعمال تعلمون فيهما ، كما قال جلّ ثناؤه( لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى ) والنصب على إعمال تعلمون فيهما ، كما قال جلّ ثناؤه( وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ).

(18/408)


اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام
القول في تأويل قوله تعالى : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) }
يقول تعالى ذكره : دنا حساب الناس على أعمالهم التي عملوها في دنياهم ونعمهم التي أنعمها عليهم فيها في أبدانهم ، وأجسامهم ، ومطاعمهم ، ومشاربهم ، وملابسهم وغير ذلك من نعمه عندهم ، ومسألته إياهم ماذا عملوا فيها ؛ وهل أطاعوه فيها ، فانتهوا إلى أمره ونهيه في جميعها ، أم عصوه فخالفوا أمره فيها ؟( وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) يقول : وهم في الدنيا عما الله فاعل بهم من ذلك يوم القيامة ، وعن دنو محاسبته إياهم منهم ، واقترابه لهم في سهو وغفلة ، وقد أعرضوا عن ذلك ، فتركوا الفكر فيه ، والاستعداد له ، والتأهب ، جهلا منهم بما هم لاقوه عند ذلك من عظيم البلاء ، وشديد الأهوال.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) قال أهل التأويل ، وجاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا أبو الوليد ، قال : ثني أبو معاوية ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم( وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) قال : في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) }
يقول تعالى ذكره : ما يحدث الله من تنزيل شيء من هذا القرآن للناس ، ويذكرهم به ويعظهم إلا استمعوه ، وهم يلعبون لاهية قلوبهم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ،

(18/409)


لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)

عن قتادة قوله( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ). .. الآية ، يقول : ما ينزل عليهم من شيء من القرآن إلا استمعوه وهم يلعبون.
القول في تأويل قوله تعالى : { لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) }
يقول تعالى ذكره( لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) غافلة : يقول : ما يستمع هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم هذا القرآن إلا وهم يلعبون غافلة عنه قلوبهم ، لا يتدبرون حكمه ولا يتفكرون فيما أودعه الله من الحجج عليهم.
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) يقول : غافلة قلوبهم.
وقوله( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) يقول : وأسرّ هؤلاء الناس الذين اقتربت الساعة منهم وهم في غفلة معرضون ، لاهية قلوبهم ، النجوى بينهم ، يقول : وأظهروا المناجاة بينهم فقالوا : هل هذا الذي يزعم أنه رسول من الله أرسله إليكم ، إلا بشر مثلكم : يقولون : هل هو إلا إنسان مثلكم في صوركم وخلقكم ؟ يعنون بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم ، وقال الذين ظلموا فوصفهم بالظلم بفعلهم وقيلهم الذي أخبر به عنهم في هذه الآيات إنهم يفعلون ويقولون من الإعراض عن ذكر الله ، والتكذيب برسوله وللذين من قوله( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) في الإعراب وجهان : الخفض على أنه تابع للناس في قوله اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ) والرفع على الردّ على الأسماء الذين (1) في قوله( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ) من ذكر الناس ، كما قيل : ( ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ) وقد يحتمل أن يكون رفعا على الابتداء ، ويكون معناه : وأسرّوا النجوى ، ثم قال : هم الذين ظلموا.
وقوله( أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) يقول : وأظهروا هذا القول بينهم ، وهي النجوى التي أسرّوها بينهم ، فقال بعضهم لبعض : أتقبلون السحر وتصدّقون به وأنتم تعلمون أنه سحر ؟ يعنون بذلك القرآن.
__________
(1) لعله على الاسم الذي . . إلخ .

(18/410)


قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)

كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) قال : قال أهل الكفر لنبيهم لما جاء به من عند الله ، زعموا أنه ساحر ، وأن ما جاء به سحر ، قالوا : أتأتون السحر وأنتم تبصرون ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله( قُلْ رَبّي ) فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين( قُلْ رَبّي) على وجه الأمر ، وقرأه بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء الكوفة(قَالَ رَبِّي) على وجه الخبر.
وكأن الذين قرءوه على وجه الأمر أرادوا من تأويله : قل يا محمد للقائلين( أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) ربي يعلم قول كلّ قائل في السماء والأرض ، لا يخفى عليه منه شيء وهو السميع لذلك كله ، ولما يقولون من الكذب ، العليم بصدقي ، وحقيقة ما أدعوكم إليه ، وباطل ما تقولون وغير ذلك من الأشياء كلها. وكأن الذين قرءوا ذلك قال على وجه الخبر أرادوا ، قال محمد : ربي يعلم القول خبرا من الله عن جواب نبيه إياهم.
والقول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قَرَاءة الأمصار ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، وجاءت بهما مصاحف المسلمين متفقتا المعنى ، وذلك أن الله إذا أمر محمدا بقيل ذلك قاله ، وإذا قاله فعن أمر الله قاله ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في قراءته.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ (5) }
يقول تعالى ذكره : ما صدّقوا بحكمة هذا القرآن ، ولا أنه من عند الله ، ولا أقرّوا بأنه وحي أوْحَى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، بل قال بعضهم :

(18/411)


مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)

هو أهاويل رؤيا رآها في النوم ، وقال بعضهم : هو فرية واختلاق افتراه واختلقه من قبل نفسه ، وقال بعضهم : بل محمد شاعر ، وهذا الذي جاءكم به شعر(فَلْيَأْتِنا) به يقول : قالوا فليجئنا محمد إن كان صادقا في قوله ، إن الله بعثه رسولا إلينا وإن هذا الذي يتلوه علينا وحي من الله أوحاه إلينا ، (بآية) يقول : بحجة ودلالة على حقيقة ما يقول ويدّعي( كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ ) يقول : كما جاءت به الرسل الأوّلون من قَبْله من إحياء المَوتى ، وإبراء الأكمه والأبرص وكناقة صالح ، وما أشبه ذلك من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الله ولا يأتي بها إلا الأنبياء والرسل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) أي فعل حالم ، إنما هي رؤيا رآها( بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ) كل هذا قد كان منهم. وقوله( فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ ) يقول : كما جاء عيسى بالبيِّنات وموسى بالبينات ، والرسل.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) قال : مشتبهة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) قال أهاويلها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقال تعالى ذكره : بل قالوا : ولا جحد في الكلام ظاهر فيحقق ببل ، لأن الخبر عن أهل الجحود والتكذيب ، فاجْتُزِي بمعرفة السامعين بما دلّ عليه قوله ، بل من ذكر الخبر عنهم على ما قد بينا.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) }
يقول تعالى ذكره : ما آمن من قبل هؤلاء المكذّبين محمدا من مشركي

(18/412)


وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)

قومه الذين قالوا : فليأتنا محمد بآية كما جاءت به الرسل قبله من أهل قرية عذّبناهم بالهلاك في الدنيا ، إذ جاءهم رسولنا إليهم بآية معجزة( أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ) يقول : أفهؤلاء المكذبون محمدا السائلوه الآية يؤمنون إن جاءتهم آية ولم تؤمن قبلهمْ أسلافهم من الأمم الخالية التي أهلكناها برسلها مع مجيئها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ) يصدّقون بذلك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ) أي الرسل كانوا إذا جاءوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم يناظروا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) }
يقول تعالى ذكره لنبيه : وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولا إلى أمة من الأمم التي خلت قبل أمتك إلا رجالا مثلهم نوحي إليهم ، ما نريد أن نوحيه إليهم من أمرنا ونهينا ، لا ملائكة ، فماذا أنكروا من إرسالنا لك إليهم ، وأنت رجل كسائر الرسل الذين قبلك إلى أممهم. وقوله( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) يقول للقائلين لمحمد صلى الله عليه وسلم في تناجيهم بينهم : هل هذا إلا بشر مثلكم ، فإن أنكرتم وجهلتم أمر الرسل الذين كانوا من قبل محمد ، فلم تعلموا أيها القوم أمرهم إنسا كانوا أم ملائكة ، فاسألوا أهل الكتب من التوراة والإنجيل ما كانوا يخبروكم عنهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) يقول فاسألوا أهل التوراة

(18/413)


وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)

والإنجيل قال أبو جعفر : أراه أنا قال : يخبروكم أن الرسل كانوا رجالا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق. وقيل : أهل الذكر : أهل القرآن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن محمد الطوسيّ ، قال : ثني عبد الرحمن بن صالح ، قال : ثني موسى بن عثمان ، عن جابر الجعفيّ ، قال : لما نزلت( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال : عليّ : نحن أهل الذّكر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال : أهل القرآن ، والذكر : القرآن. وقرأ( إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) }
يقول تعالى ذكره : وما جعلنا الرسل الذين أرسلناهم من قبلك يا محمد إلى الأمم الماضية قبل أمتك ، ( جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) يقول : لم نجعلهم ملائكة لا يأكلون الطعام ، ولكن جعلناهم أجسادا مثلك يأكلون الطعام.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) يقول : ما جعلناهم جسدا إلا ليأكلوا الطعام.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) يقول : لم أجعلهم جسدا ليس فيهم أرواح لا يأكلون الطعام ، ولكن جعلناهم جسدا فيها أرواح يأكلون الطعام.
قال أبو جعفر : وقال : ( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا ) فوحَّد الجسد وجعله موحدا ، وهو من صفة الجماعة ، وإنما جاز ذلك لأن الجسد بمعنى المصدر ، كما يقال في الكلام : وما جعلناهم خَلْقا لا يأكلون.

(18/414)


ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)

وقوله( وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) يقول : ولا كانوا أربابا لا يموتون ولا يفنون ، ولكنهم كانوا بشرا أجسادا فماتوا ، وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قد أخبر الله عنهم( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا ..) إلى قوله( أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا ) قال الله تبارك وتعالى لهم : ما فعلنا ذلك بأحد قبلكم فنفعل بكم ، وإنما كنا نرسل إليهم رجالا نوحي إليهم كما أرسلنا إليكم رسولا نوحي إليه أمرنا ونهينا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) أي لا بد لهم من الموت أن يموتوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) }
يقول تعالى ذكره : ثم صدقنا رسلنا الذين كذبّهم أممهم وسألتهم الآيات ، فأتيناهم ما سألوه من ذلك ، ثم أقاموا على تكذيبهم إياها ، وأصرّوا على جحودهم نبوّتها بعد الذي أتتهم به من آيات ربها ، وعدنا الذي وعدناهم من الهلاك على إقامتهم على الكفر بربهم بعد مجيء الآية التي سألوا ، وذلك كقوله جل ثناؤه( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) وكقوله( وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ) ونحو ذلك من المواعيد التي وعد الأمم مع مجيء الآيات ، وقوله( فأنجيناهم ) يقول تعالى ذكره : فأنجينا الرسل عند إصرار أممها على تكذيبها بعد الآيات ، ( وَمَنْ نَشَاءُ ) وهم أتباعها الذين صدقوها وآمنوا بها ، وقوله( وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ) يقول تعالى ذكره : وأهلكنا الذين أسرفوا على أنفسهم بكفرهم بربهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ) والمسرفون : هم المشركون.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ

(18/415)


لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)

أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) }
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه ، لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم ، فيه حديثكم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قوله( فِيهِ ذِكْرُكُمْ ) قال : حديثكم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ) قال : حديثكم( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) قال : في قد أفلح( بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا سفيان : نزل القرآن بمكارم الأخلاق ، ألم تسمعه يقول( لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ).
وقال آخرون : بل عني بالذكر في هذا الموضع : الشرف ، وقالوا : معنى الكلام : لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه شرفكم.
قال أبو جعفر : وهذا القول الثاني أشبه بمعنى الكلمة ، وهو نحو مما قال سفيان الذي حكينا عنه ، وذلك أنه شرف لمن اتبعه وعمل بما فيه.

(18/416)


وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) }
يقول تعالى ذكره : وكثيرا قصمنا من قرية ، والقصم : أصله الكسر ، يقال منه : قصمت ظهر فلان إذا كسرته ، وانقصمت سنه : إذا انكسرت ، وهو هاهنا معني به أهلكنا ، وكذلك تأوّله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ،

(18/416)


لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)

عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَكَمْ قَصَمْنَا ) قال : أهلكنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله( وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ ) قال : أهلكناها ، قال ابن جُرَيج : قصمنا من قرية ، قال : باليمن قصمنا ، بالسيف أهلكوا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله( قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ ) قال : قصمها أهلكها.
وقوله( مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً ) أجرى الكلام على القرية ، والمراد بها أهلها لمعرفة السامعين بمعناه ، وكأن ظلمها كفرها بالله وتكذيبها رسله ، وقوله( وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) يقول تعالى ذكره : وأحدثنا بعد ما أهلكنا هؤلاء الظلمة من أهل هذه القرية التي قصمناها بظلمها قوما آخرين سواهم.
وقوله( فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا ) يقول : فلما عاينوا عذابنا قد حلّ بهم ورأوه قد وجدوا مسه ، يقال منه : قد أحسست من فلان ضعفا ، وأحسته منه( إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ) يقول : إذا هم مما أحسوا بأسنا النازل بهم يهربون سراعا عَجْلَى ، يَعْدُون منهزمين ، يقال منه : ركض فلان فرسه : إذا كَدَّه سياقته.
القول في تأويل قوله تعالى : { لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) }
يقول تعالى ذكره : لا تهربوا وارجعوا إلى ما أُترفتم فيه : يقول : إلى ما أُنعمتم فيه من عيشتكم ومساكنكم.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله( لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) يعني من نزل به العذاب في الدنيا ممن كان يعصي الله من الأمم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن

(18/417)


قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)

مجاهد ، قوله( لا تَرْكُضُوا ) لا تفرّوا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ) يقول : ارجعوا إلى دنياكم التي أترفتم فيها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور عن معمر ، عن قتادة( وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ) قال : إلى ما أترفتم فيه من دنياكم.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله( لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) فقال بعضهم : معناه : لعلكم تفقهون وتفهمون بالمسألة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله( لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) قال : تفقهون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) قال : تفقهون.
وقال آخرون : بل معناه لعلكم تسألون من دنياكم شيئا على وجه السخرية والاستهزاء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) استهزاء بهم.
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) من دنياكم شيئا ، استهزاء بهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) }
يقول تعالى ذكره : قال هؤلاء الذين أحلّ الله بهم بأسه بظلمهم لما نزل بهم بأس الله : يا ويلنا إنا كنا ظالمين بكفرنا بربنا ، فما زالت تلك دعواهم يقول فلم تزل دعواهم ، حين أتاهم بأس الله ، بظلمهم أنفسهم : ( يَاوَيْلَنَا إِنَّا

(18/418)


وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)

كُنَّا ظَالِمِينَ ) حتى قتلهم الله ، فحصدهم بالسيف كما يُحْصَد الزرع ويستأصل قطعا بالمناجل ، وقوله( خَامِدِينَ ) يقول : هالكين قد انطفأت شرارتهم ، وسكنت حركتهم ، فصاروا همودا كما تخمد النار فتطفأ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ )... الآية : فلما رأوا العذاب وعاينوه لم يكن لهم هِجِّيرَى إلا قولهم( يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) حتى دمَّر الله عليهم وأهلكهم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ) يقول : حتى هلكوا.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال ابن عباس(حَصِيدًا) الحصاد(خامدين) خمود النار إذا طفئت.
حدثنا سعيد بن الربيع ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إنهم كانوا أهل حصون ، وإن الله بعث عليهم بختنصر ، فبعث إليهم جيشا فقتلهم بالسيف ، وقتلوا نبيا لهم فحُصِدوا بالسيف ، وذلك قوله( فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ) بالسيف.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) }
يقول تعالى ذكره : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ) إلا حجة عليكم أيها الناس ، ولتعتبروا بذلك كله ، فتعلموا أن الذي دبره وخلقه لا يشبهه شيء ، وأنه لا تكون الألوهية إلا له ، ولا تصلح العبادة لشيء غيره ، ولم يَخْلق ذلك عبثا ولعبا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ) يقول : ما خلقناهما عَبَثا ولا باطلا.

(18/419)


لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) }
يقول تعالى ذكره : لو أردنا أن نتخذ زوجة وولدا لاتخذنا ذلك من عندنا ، ولكنا لا نفعل ذلك ، ولا يصلح لنا فعله ولا ينبغي ، لأنه لا ينبغي أن يكون لله ولد ولا صاحبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سليمان بن عبيد الله الغيداني ، قال : ثنا أبو قُتيبة ، قال : ثنا سلام بن مسكين ، قال : ثنا عقبة بن أبي حمزة ، قال : شهدت الحسن بمكة ، قال : وجاءه طاووس وعطاء ومجاهد ، فسألوه عن قول الله تبارك وتعالى( لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذنا ) قال الحسن : اللهو : المرأة.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : ثنا بقية بن الوليد ، عن عليّ بن هارون ، عن محمد ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا ) قال : زوجة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا )... الآية ، أي أن ذلك لا يكون ولا ينبغي. واللهو بلغة أهل اليمن : المرأة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا ) قال : اللهو في بعض لغة أهل اليمن : المرأة( لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا ).
وقوله( إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ) حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله( إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ) يقول : ما كنا فاعلين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قالوا مريم صاحبته ، وعيسى ولده ، فقال تبارك وتعالى( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا )

(18/420)


بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)

نساء وولدا( لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ) قال : من عندنا ، ولا خلقنا جنة ولا نارا ، ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا ) من عندنا ، وما خلقنا جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) }
يقول تعالى ذكره : ولكن ننزل الحق من عندنا ، وهو كتاب الله وتنزيله على الكفر به وأهله ، فيدمغه ، يقول : فيهلكه كما يدمغ الرجل الرجل بأن يشجه على رأسه شجة تبلغ الدماغ ، وإذا بلغت الشجة ذلك من المشجوج لم يكن له بعدها حياة.
وقوله( فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) يقول : فإذا هو هالك مضمحلٌ.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة( فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) قال : هالك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) قال : ذاهب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) والحقّ كتاب الله القرآن ، والباطل : إبليس ، فيدمغه فإذا هو زاهق : أي ذاهب.
وقوله( وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) يقول : ولكم الويل من وصفكم ربكم بغير صفته ، وقِيلكم إنه اتخذ زوجة وولدا ، وفِريتكم عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، إلا أن بعضهم قال : معنى تصفون تكذبون.

(18/421)


وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)

وقال آخرون : معنى ذلك : تشركون ، وذلك وإن اختلفت به الألفاظ فمتفقة معانيه ؛ لأن من وصف الله بأن له صاحبة فقد كذب في وصفه إياه بذلك ، وأشرك به ، ووصفه بغير صفته ، غير أن أولى العبارات أن يُعَبر بها عن معاني القرآن أقربها إلى فهم سامعيه.
* ذكر من قال ما قلنا في ذلك : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) أي تكذبون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) قال : تشركون وقوله( عَمَّا يَصِفُونَ ) قال : يشركون قال : وقال مجاهد( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ) قال : قولهَم الكذب في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) }
يقول تعالى ذكره : وكيف يجوز أن يتخذ الله لهوا ، وله ملك جميع من في السماوات والأرض ، والذين عنده من خلقه لا يستنكفون عن عبادتهم إياه ولا يَعْيَون من طول خدمتهم له ، وقد علمتم أنه لا يستعبد والد ولده ولا صاحبته ، وكل من في السماوات والأرض عبيده ، فأنى يكون له صاحبة وولد : يقول : أولا تتفكرون فيما تفترون من الكذب على ربكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ) لا يرجعون.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ) لا يحسرون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.

(18/422)


يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ) قال : لا يُعيون.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، قوله : ( وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ) قال : لا يعيون.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ) قال : لا يستحسرون ، لا يملُّون ذلك الاستحسار ، قال : ولا يفترون ، ولا يسأمون ، هذا كله معناه واحد والكلام مختلف ، وهو من قولهم : بعير حَسِير : إذا أعيا وقام ؛ ومنه قول علقمة بن عبدة :
بِها جِيفُ الحَسْرَى فأمَّا عِظامُها... فَبِيضٌ ، وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ (1)
القول في تأويل قوله تعالى : { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) }
يقول تعالى ذكره : يسبح هؤلاء الذين عنده من ملائكة ربهم الليل والنهار لا يفترون من تسبيحهم إياه.
كما حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا حميد ، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث ، عن أبيه أن ابن عباس سأل كعبا عن قوله : ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) و( يسبحون الليل والنهار لا يسأمون) (2) فقال : هل يئودك طرفك ؟ هل يَئُودك نَفَسُك ؟ قال : لا قال : فإنهم ألهموا التسبيح كما ألهمتم الطَّرْف والنَّفَس.
__________
(1) البيت لعلقمة بن عبدة التميمي ، من قصيدة له يمدح بها الحارث بن أبي الحارث بن أبي شمر الغساني ( مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة مصطفى البابي الحلبي ، ص 421 ، وهو البيت العشرون في القصيدة ) والحسرى : جمع حسير من الدواب ، وهو الذي كل من من المسير ، فمات إعياء . وصليب : يابس لم يدبغ . والضمير في ( بها ) راجع إلى المغارة التي سلكها ، فوجد فيها بقايا الدواب التي سارت فيها من قبل ، من عظام وجلود .
(2) التلاوة " يسبحون له بالليل والنهار وهم " . . إلخ .

(18/423)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو معاوية ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن حسان بن مخارق ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : قلت : لكعب الأحبار( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) أما يشغلهم رسالة أو عمل ؟ قال : يا بن أخي إنهم جُعل لهم التسبيح ، كما جُعل لكم النفس ، ألست تأكل وتشرب وتقوم وتقعد وتجيء وتذهب وأنت تنفَّس ؟ قلت : بلى قال : فكذلك جُعل لهم التسبيح.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن وأبو داود ، قالا ثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن عمرو البكالي ، عن عبد الله بن عمر ، قال : إن الله خلق عشرة أجزاء ، فجعل تسعة أجزاء الملائكة ، وجزءا سائر الخلق ، وجزأ الملائكة عشرة أجزاء ، فجعل تسعة أجزاء يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، وجزءا لرسالته ، وجزأ الخلق عشرة أجزاء ، فجعل تسعة أجزاء الجنّ ، وجزءا سائر بني آدم ، وجزأ بني آدم عشرة أجزاء ، فحمل يأجوج ومأجوج تسعة أجزاء وجزءا سائر بني آدم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) يقول : الملائكة الذين هم عند الرحمن لا يستكبرون عن عبادته ، ولا يسأمون فيها.
وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه ، إذ قال : " تَسْمَعُونَ ما أسْمَعُ ؟ قالوا : ما نسمع من شيء يا نبيّ الله ، قال : إنّي لأسْمَعُ أطِيطَ السَّماءِ ، وما تُلامُ أنْ تَئِطَّ ولَيْسَ فِيها مَوْضِعُ رَاحَةٍ إلا وفِيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ أوْ قائمٌ " .
وقوله( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ) يقول تعالى ذكره : أتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض هم ينشرون : يعني بقوله هم : الآلهة ، يقول : هذه الآلهة التي اتخذوها تنشر الأموات ، يقول : يحيون الأموات ، وينشرون الخلق ، فإن الله هو الذي يحيي ويميت.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى " ح " وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(يُنْشِرُونَ) يقول : يُحيون.

(18/424)


لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ) يقول : أفي آلهتهم أحد يحيي ذلك ينشرون ، وقرأ قول الله( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ )... إلى قوله( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره : لو كان في السماوات والأرض آلهة تصلح لهم العبادة سوى الله الذي هو خالق الأشياء ، وله العبادة والألوهية التي لا تصلح إلا له(لَفَسَدَتا) يقول : لفسد أهل السماوات والأرض( فسبحان الله عما يصفون ) يقول جل ثناؤه : فتنزيه لله وتبرئة له مما يفتري به عليه هؤلاء المشركون به من الكذب.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) يسبح نفسه إذ قيل عليه البهتان.
القول في تأويل قوله تعالى : { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره : لا سائل يسأل رب العرش عن الذي يفعل بخلقه من تصريفهم فيما شاء من حياة وموت وإعزاز وإذلال ، وغير ذلك من حكمه فيهم ؛ لأنهم خلقه وعبيده ، وجميعهم في ملكه وسلطانه ، والحكم حكمه ، والقضاء قضاؤه ، لا شيء فوقه يسأله عما يفعل فيقول له : لم فعلت ؟ ولمَ لم تفعل ؟( وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) يقول جلّ ثناؤه : وجميع من في السماوات والأرض من عباده مسئولون عن أفعالهم ، ومحاسبون على أعمالهم ، وهو الذي يسألهم عن ذلك ويحاسبهم عليه ، لأنه فوقهم ومالكهم ، وهم في سلطانه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ،

(18/425)


أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)

عن قتادة ، قوله( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) يقول : لا يسأل عما يفعل بعباده ، وهم يسألون عن أعمالهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قوله( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) قال : لا يسأل الخالق عن قضائه في خلقه ، وهو يسأل الخلق عن عملهم.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) قال : لا يسأل الخالق عما يقضي في خلقه ، والخلق مسئولون عن أعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) }
يقول تعالى ذكره : أتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة تنفع وتضرّ ، وتخلق وتحيي وتميت ، قل يا محمد لهم : هاتوا برهانكم ، يعني حجتكم يقول : هاتوا إن كنتم تزعمون أنكم محقون في قيلكم ذلك حجة ودليلا على صدقكم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) يقول : هاتوا بينتكم على ما تقولون.
وقوله( هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ ) يقول : هذا الذي جئتكم به من عند الله من القرآن والتنزيل ، ( ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ ) يقول : خبر من معي مما لهم من ثواب الله على إيمانهم به ، وطاعتهم إياه ، وما عليهم من عقاب الله على معصيتهم إياه وكفرهم به( وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ) يقول : وخبر من قبلي من الأمم التي سلفت قبلي ، وما فعل الله بهم في الدنيا وهو فاعل بهم في الآخرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني بِشْر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ ) يقول : هذا القرآن فيه ذكر الجلال والحرام

(18/426)


( وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ) يقول : ذكر أعمال الأمم السالفة وما صنع الله بهم إلى ما صاروا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ ) قال : حديث من معي ، وحديث من قبلي.
وقوله( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ ) يقول : بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الصواب فيما يقولون ولا فيما يأتون ويذرون ، فهم معرضون عن الحق جهلا منهم به ، وقلَّة فهم.
وكان قَتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ) عن كتاب الله.

(18/427)


وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) }
يقول تعالى ذكره : وما أرسلنا يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الأمم إلا نوحي إليه أنه لا معبود في السماوات والأرض ، تصلح العبادة له سواي فاعبدون يقول : فأخلصوا لي العبادة ، وأفردوا لي الألوهية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) قال : أرسلت الرسل بالإخلاص والتوحيد ، لا يقبل منهم " قال أبو جعفر : أظنه أنا قال " : عمل حتى يقولوه ويقرّوا به ، والشرائع مختلفة ، في التوراة شريعة ، وفي الإنجيل شريعة ، وفي القرآن شريعة ، حلال وحرام ، وهذا كله في الإخلاص لله والتوحيد له.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) }

(18/427)


يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)

يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء الكافرون بربهم : اتخذ الرحمن ولدا من ملائكته ، فقال جلّ ثناؤه استعظاما مما قالوا ، وتبريًّا مما وصفوه به سبحانه ، يقول تنزيها له عن ذلك ، ما ذلك من صفته( بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) يقول : ما الملائكة كما وصفهم به هؤلاء الكافرون من بني آدم ، ولكنهم عباد مكرمون ، يقول : أكرمهم الله.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) قال : قالت اليهود : إن الله تبارك وتعالى صاهر الجنّ ، فكانت منهم الملائكة ، قال الله تبارك وتعالى تكذيبا لهم وردّا عليهم ، ( بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) وإن الملائكة ليس كما قالوا ، إنما هم عباد أكرمهم الله بعبادته.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، وحدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ) قالت اليهود وطوائف من الناس : إن الله تبارك وتعالى خاتن إلى الجنّ والملائكة من الجنّ ، قال الله تبارك وتعالى( سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) ، وقوله : ( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ) يقول جلّ ثناؤه : لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم ، ولا يعملون عملا إلا به.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الله( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ) يثني عليهم( وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره : يعلم ما بين أيدي ملائكته ما لم يبلغوه ما هو وما هم فيه قائلون وعاملون ، وما خلفهم : يقول : وما مضى من قبل اليوم مما خلفوه وراءهم من الأزمان والدهور ما عملوا فيه ، قالوا ذلك كله محصى لهم وعليهم ، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(18/428)


وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)

* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) يقول : يعلم ما قدّموا وما أضاعوا من أعمالهم( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) يقول : ولا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) يقول : الذين ارتضى لهم شهادة أن لا إله إلا الله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) قال : لمن رضي عنه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) يوم القيامة ، ( وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال أخبرنا معمر ، عن قتادة يقول : ولا يشفعون يوم القيامة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله ، وقوله( وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) يقول : وهم من خوف الله وحذار عقابه أن يحلّ بهم مشفقون ، يقول : حذرون أن يعصوه ويخالفوا أمره ونهيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) }
يقول تعالى ذكره : ومن يقل من الملائكة : إني إله من دون الله(فَذَلَك) الذي يقول ذلك منهم( نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ) يقول : نثيبه على قيله ذلك جهنم( كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) يقول : كما نجزي من قال من الملائكة إني إله من

(18/429)


أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)

دون الله جهنم ، كذلك نجزي ذلك كل من ظلم نفسه ، فكفر بالله وعبد غيره ، وقيل : عنى بهذه الآية إبليس ، وقال قائلو ذلك : إنما قلنا ذلك ، لأنه لا أحد من الملائكة قال : إني إله من دون الله سواه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ ) قال : قال ابن جُرَيج : من يقل من الملائكة إني إله من دونه ؛ فلم يقله إلا إبليس دعا إلى عبادة نفسه ، فنزلت هذه في إبليس.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) وإنما كانت هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس لما قال ما قال ، لعنه الله وجعله رجيما ، فقال( فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ).
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة( وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ) قال : هي خاصة لإبليس.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) }
يقول تعالى ذكره : أو لم ينظر هؤلاء الذي كفروا بالله بأبصار قلوبهم ، فيروا بها ، ويعلموا أن السماوات والأرض كانتا رَتْقا : يقول : ليس فيهما ثقب ، بل كانتا ملتصقتين ، يقال منه : رتق فلان الفتق : إذا شدّه ، فهو يرتقه رتقا ورتوقا ، ومن ذلك قيل للمرأة التي فرجها ملتحم : رتقاء ، ووحد الرتق ، وهو من صفة السماء والأرض ، وقد جاء بعد قوله(كانَتا) لأنه مصدر ، مثل قول الزور والصوم والفطر.
وقوله(فَفَتَقْناهُما) يقول : فصدعناهما وفرجناهما.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله السماوات والأرض بالرتق

(18/430)


وكيف كان الرتق ، وبأيْ معنى فتق ؟ فقال بعضهم : عنى بذلك أن السماوات والأرض كانتا ملتصقتين ، ففصل الله بينهما بالهواء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا ) يقول : كانتا ملتصقتين.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما)... الآية ، يقول : كانتا ملتصقتين ، فرفع السماء ووضع الأرض.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) كان ابن عباس يقول : كانتا ملتزقتين ، ففتقهما الله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) قال : كان الحسن وقتادة يقولان : كانتا جميعا ، ففصل الله بينهما بهذا الهواء.
وقال آخرون : بل معنى ذلك أن السماوات كانت مرتتقة طبقة ، ففتقها الله فجعلها سبع سماوات وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة ، ففتقها ، فجعلها سبع أرضين
* ذكر من قال : ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى( رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) من الأرض ستّ أرضين معها فتلك سبع أرضين معها ، ومن السماء ستّ سماوات معها ، فتلك سبع سماوات معها ، قال : ولم تكن الأرض والسماء متماسَّتين.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) قال : فتقهنّ سبع سماوات ، بعضهنّ فوق بعض ، وسبع أرضين بعضهنّ تحت بعض.

(18/431)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم.
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، قال : سألت أبا صالح عن قوله( كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) قال : كانت الأرض رتقا والسماوات رتقا ، ففتق من السماء سبع سماوات ، ومن الأرض سبع أرضين.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كانت سماء واحدة ثم فتقها ، فجعلها سبع سماوات في يومين ، في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض ، فذلك حين يقول( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ يَقُولُ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ).
وقال آخرون : بل عنى بذلك أن السماوات كانت رتقا لا تمطر ، والأرض كذلك رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) قال : كانتا رتقا لا يخرج منهما شيء ، ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات. قال : وهو قوله( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ) .
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : ثنا أبي ، عن الفضيل بن مرزوق ، عن عطية ، في قوله( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) قال : كانت السماء رتقا لا تمطر ، والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر ، وفتق الأرض بالنبات ، وجعل من الماء كل شيء حيّ ، أفلا يؤمنون ؟
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) قال : كانت السماوات رتقا لا ينزل منها مطر ، وكانت الأرض رتقا لا يخرج منها نبات ، ففتقهما الله ، فأنزل مطر السماء ، وشقّ الأرض فأخرج نباتها ، وقرأ( فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ).
وقال آخرون : إنما قيل(فَفَتَقْنَاهُما) لأن الليل كان قبل النهار ، ففتق النهار.
* ذكر من قال ذلك :

(18/432)


حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : خلق الليل قبل النهار ، ثم قال : كانتا رتقا ففتقناهما.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا من المطر والنبات ، ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله : ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) على ذلك ، وأنه جلّ ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه.
فإن قال قائل : فإن كان ذلك كذلك ، فكيف قيل : أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ، والغيث إنما ينزل من السماء الدنيا ؟ قيل : إن ذلك مختلف فيه ، قد قال قوم : إنما ينزل من السماء السابعة ، وقال آخرون : من السماء الرابعة ، ولو كان ذلك أيضا كما ذكرت من أنه ينزل من السماء الدنيا ، لم يكن في قوله( أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ) دليل على خلاف ما قلنا ، لأنه لا يمتنع أن يقال السماوات ، والمراد منها واحدة فتجمع ، لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وقميص أسمال.
فإن قال قائل : وكيف قيل إن السماوات والأرض كانتا ، فالسماوات جمع ، وحكم جمع الإناث أن يقال في قليلة كنّ ، وفي كثيره كانت ؟ قيل : إنما قيل ذلك كذلك لأنهما صنفان ، فالسماوات نوع ، والأرض آخر ، وذلك نظير قول الأسود بن يعفر :
إنَّ المَنِيَّةَ والحُتُوفَ كِلاهُما... تُوفِي المَخارِمَ يَرْقُبانِ سَوَادِي (1)
فقال كلاهما ، وقد ذكر المنية والحتوف لما وصفت من أنه عنى النوعين ، وقد
__________
(1) البيت للأسود بن يعفر النهشلي التميمي ( المفضليات 101 ) والمنية : الموت ، والحتوف جمع حتف ، يريد به أنواع الأخطار التي تؤدي إلى الموت والمخارم جمع مخرم : الطريق في الغلظ ( عن السكري ) . وقيل : الطرق في الجبال وأفواه الفجاج ، وسواد الإنسان شخصه . والشاهد في البيت أن الشاعر ذكر المنية والحتوف ثم قال يرقبان بالتثنية ، لأنه جعل المنية والحتوف نوعين للهلاك ، ثم قال : يرقبان . ولو جرى على ما يقتضيه اللفظ لقال : ترقب سوادي ، لأن المنية والحتوف عدة أشياء .

(18/433)


وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)

أخبرت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، قال : أنشدني غالب النفيلي للقطامي :
ألمْ يَحْزُنْكَ أنَّ حِبالَ قَيْسٍ... وَتَغْلِبَ قَدْ تَبايَنَتا انْقِطاعَا (1)
فجعل حبال قيس وهي جمع ، وحبال تغلب وهي جمع اثنين.
وقوله( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) يقول تعالى ذكره : وأحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كلّ شيء.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) قال : كلّ شيء حيّ خُلق من الماء.
فإن قال قائل : وكيف خصّ كل شيء حيّ بأنه جعل من الماء دون سائر الأشياء غيره ، فقد علمت أنه يحيا بالماء الزروع والنبات والأشجار ، وغير ذلك مما لا حياة له ، ولا يقال له حيّ ولا ميت ؟ قيل : لأنه لا شيء من ذلك إلا وله حياة وموت ، وإن خالف معناه في ذلك معنى ذوات الأرواح في أنه لا أرواح فيهنّ وأن في ذوات الأرواح أرواحا ، فلذلك قيل( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ).
وقوله( أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) يقول : أفلا يصدّقون بذلك ، ويقرّون بألوهية من فعل ذلك ويفردونه بالعبادة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) }
يقول تعالى ذكره : أو لم ير هؤلاء الكفار أيضا من حججنا عليهم وعلى جميع خلقنا ، أنا جعلنا في الأرض جبالا راسية ؟ والرواسي : جمع راسية ، وهي الثابتة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ ) أي جبالا.
__________
(1) البيت للقطامي ، وهو الرابع من عينيته المشهورة التي مطلعها " قفي قبل التفرق يا ضباعا " ( انظر ديوانه ، طبعة ليدن سنة 1902 ، ص 27 ) . قال : تباينت تفرقت . والحبال : العلائق والعهود . والشاهد في البيت أن الشاعر قال : تباينتا بلفظ التثنية ، مع أن حبال قيس جمع ، وحبال تغلب جمع ، فكان ظاهر اللفظ يقتضي أن يقول : ( تباينت انقطاعا ) مراعاة لمعنى الجمعية في حبال قيس وتغلب .

(18/434)


وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)

وقوله( أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) يقول : أن لا تتكفأ بهم ، يقول جلّ ثناؤه : فجعلنا في هذه الأرض هذه الرواسي من الجبال ، فثبتناها لئلا تتكفأ بالناس ، وليقدروا بالثبات على ظهرها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانوا على الأرض تمور بهم لا تستقرّ ، فأصبحوا وقد جعل الله الجبال وهي الرواسي أوتادا للأرض ، وجعلنا فيها فجاجا سبلا يعني مسالك ، واحدها فجّ.
كما حدثنا بِشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا ) أي أعلاما. وقوله(سُبُلا) أي طرقا ، وهي جمع السبيل.
وكان ابن عباس فيما ذُكر عنه يقول : إنما عنى بقوله( وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا ) وجعلنا في الرواسي ، فالهاء والألف في قوله( وَجَعَلْنَا فِيهَا ) من ذكر الرواسي.
حدثنا بذلك القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، قوله( وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا ) سبلا قال : بين الجبال.
وإنما اخترنا القول الآخر في ذلك وجعلنا الهاء والألف من ذكر الأرض ، لأنها إذا كانت من ذكرها داخل في ذلك السهل والجبل ؛ وذلك أن ذلك كله من الأرض ، وقد جعل الله لخلقه في ذلك كله فجاجا سبلا ولا دلالة تدلّ على أنه عنى بذلك فجاج بعض الأرض التي جعلها لهم سبلا دون بعض ، فالعموم بها أولى.
وقوله( لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) يقول تعالى ذكره : جعلنا هذه الفجاج في الأرض ليهتدوا إلى السير فيها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) }

(18/435)


يقول تعالى ذكره : ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا ) للأرض مسموكا ، وقوله : (مَحْفُوظا) يقول : حفظناها من كلّ شيطان رجيم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( سَقْفًا مَحْفُوظًا ) قال : مرفوعا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بِشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا )... الآية : سقفا مرفوعا ، وموجا مكفوفا.
وقوله : ( وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ) يقول : وهؤلاء المشركون عن آيات السماء. ويعني بآياتها : شمسها وقمرها ونجومها.(معرضون) يقول : يعرضون عن التفكر فيها ، وتدبر ما فيها من حجج الله عليهم ، ودلالتها على وحدانية خالقها ، وأنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا لمن دبرها وسوّاها ، ولا تصلح إلا له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ) قال : الشمس والقمر والنجوم آيات السماء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
وقوله : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) يقول تعالى ذكره : والله الذي خلق لكم أيها الناس الليل والنهار ، نعمة منه عليكم وحجة ، ودلالة عظيم سلطانه ، وأن الألوهة له دون كلّ ما سواه فهما يختلفان عليكم لصلاح معايشكم وأمور دنياكم وآخرتكم ، وخلق الشمس والقمر أيضا ، ( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) يقول : كلّ ذلك في فلك

(18/436)


يسبحون.
واختلف أهل التأويل في معنى الفلك الذي ذكره الله في هذه الآية ، فقال بعضهم : هو كهيئة حديدة الرحى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال : فلك كهيئة حديدة الرحى.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : (كُلّ فِي فَلَكٍ) قال : فلك كهيئة حديدة الرحى.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثني جرير ، عن قابوس بن أبي ظَبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال : فلك السماء.
وقال آخرون : بل الفلك الذي ذكره الله في هذا الموضع سرعة جري الشمس والقمر والنجوم وغيرها.
* ذكر من قال ذلك : حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الفلك : الجري والسرعة.
وقال آخرون : الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه.
وقال آخرون : بل هو القطب الذي تدور به النجوم ، واستشهد قائل هذا القول لقوله هذا بقول الراجز :
باتَتْ تُناجِي الفَلَكَ الدَّوَّارَا... حتى الصَّباحِ تعمَل الأقْتارَا (1)
وقال آخرون في ذلك ، ما حدثنا به بِشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا
__________
(1) البيت شاهد على أن الفلك هو القطب الذي تدور به النجوم . وقال في ( اللسان : فلك ) : الفلك : مدار النجوم ، والجمع : أفلاك . وفي حديث ابن مسعود : أن رجلا أتى رجلا وهو جالس عنده فقال : " إني تركت فرسك كأنه يدور في فلك " . قال أبو عبيدة : قوله " في فلك " : فيه قولان : فأما الذي تعرفه العامة ، فإنه شبه بفلك السماء الذي تدور عليه النجوم ، وهو الذي يقال له القطب ، شبه بقطب الرحى . قال : وقال بعض العرب : الفلك هو الموج إذا ماج في البحر فاضطرب ، وجاء وذهب ، فشبه الفرس في اضطرابه بذلك .

(18/437)


سعيد ، عن قتادة ، قوله : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) : أي في فلك السماء.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال : يجري في فلك السماء كما رأيت.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال : الفلك الذي بين السماء والأرض من مجاري النجوم والشمس والقمر ، وقرأ : ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ) وقال : تلك البروج بين السماء والأرض وليست في الأرض(كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال : فيما بين السماء والأرض : النجوم والشمس والقمر.
وذُكر عن الحسن أنه كان يقول : الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : كما قال الله عزّ وجل : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وجائز أن يكون ذلك الفلك كما قال مجاهد كحديدة الرحى ، وكما ذُكر عن الحسن كطاحونة الرحى ، وجائز أن يكون موجا مكفوفا ، وأن يكون قطب السماء ، وذلك أن الفلك في كلام العرب هو كل شيء دائر ، فجمعه أفلاك ، وقد ذكرت قول الراجز :
باتَّتْ تُناجِي الفُلْكَ الدَّوَّارَا
وإذ كان كل ما دار في كلامها ، ولم يكن في كتاب الله ، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عمن يقطع بقوله العذر ، دليل يدل على أيّ ذلك هو من أيّ كان الواجب أن نقول فيه ما قال ، ونسكت عما لا علم لنا به.
فإذا كان الصواب في ذلك من القول عندنا ما ذكرنا ، فتأويل الكلام : والشمس والقمر ، كلّ ذلك في دائر يسبحون.
وأما قوله : (يُسَبِّحُونَ) فإن معناه : يَجْرُون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال : يجرون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.

(18/438)


وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (يَسْبَحُونَ) قال : يجرون.
وقيل : (كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) فأخرج الخبر عن الشمس والقمر مخرج الخبر عن بني آدم بالواو والنون ، ولم يقل : يسبحن أو تسبح ، كما قيل : (والشَّمْس والقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لي ساجِدِينَ ) لأن السجود من أفعال بني آدم ، فلما وصفت الشمس والقمر بمثل أفعالهم ، أجرى الخبر عنهما مجرى الخبر عنهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وما خلدنا أحدا من بني آدم يا محمد قبلك في الدنيا فنخلدك فيها ، ولا بد لك من أن تموت كما مات من قبلك رسلنا( أفإن مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ ) يقول : فهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون في الدنيا بعدك ، لا ما ذلك كذلك ، بل هم ميتون بكلّ حال عشت أو متّ ، فأدخلت الفاء في إن وهي جزاء ، وفي جوابه ، لأن الجزاء متصل بكلام قبله ، ودخلت أيضا في قوله فهم لأنه جواب للجزاء ، ولو لم يكن في قوله فهم الفاء جاز على وجهين : أحدهما : أن تكون محذوفة ، وهي مرادة ، والآخر أن يكون مرادا تقديمها إلى الجزاء فكأنه قال : أفهم الخالدون إن متّ.
وقوله( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) يقول تعالى ذكره : كل نفس منفوسة من خلقه ، معالجة غصص الموت ومتجرّعة كأسها.
وقوله( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) يقول تعالى ذكره : ونختبركم أيها الناس بالشر وهو الشدة نبتليكم بها ، وبالخير وهو الرخاء والسعة العافية فنفتنكم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين : قال : ثني

(18/439)


حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، قوله( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) قال : بالرخاء والشدة ، وكلاهما بلاء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) يقول : نبلوكم بالشر بلاء ، والخير فتنة ، ( وإلينا ترجعون).
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) قال : نبلوهم بما يحبون وبما يكرهون ، نختبرهم بذلك لننظر كيف شكرهم فيما يحبون ، وكيف صبرهم فيما يكرهون.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ ) يقول : نبتليكم بالشدة والرخاء ، والصحة والسقم ، والغنى والفقر ، والحلال والحرام ، والطاعة والمعصية ، والهدى والضلالة ، وقوله( وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) يقول : وإلينا يردّون فيجازون بأعمالهم ، حسنها وسيئها.

(18/440)


وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( وَإِذَا رَآكَ ) يا محمد( الَّذِينَ كَفَرُوا ) بالله ، ( إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا ) يقول : ما يتخذونك إلا سخريا يقول بعضهم لبعض( أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ) يعني بقوله : يذكر آلهتكم بسوء ويعيبها ، تعجبا منهم من ذلك ، يقول الله تعالى ذكره : فيعجبون من ذكرك يا محمد آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بسوء( وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ ) الذي خلقهم وأنعم عليهم ، ومنه نفعهم ، وبيده ضرّهم ، وإليه مرجعهم بما هو أهله منهم ؛ أن يذكروه به( كافرون ) والعرب تضع الذكر موضع المدح والذمّ ، فيقولون : سمعنا فلانا يذكر فلانا ، وهم يريدون سمعناه يذكره بقبيح ويعيبه ؛ ومن ذلك قول

(18/440)


خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)

عنترة :
لا تَذْكُرِي مُهْرِي ومَا أطْعَمْتُهُ... فَيكُونَ جِلْدُكِ مِثلَ جِلْدِ الأجْرَبِ (1)
يعني بذلك : لا تعيبي مهري. وسمعناه يُذكر بخير.
القول في تأويل قوله تعالى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) }
يقول تعالى ذكره( خَلَقَ الإنْسَانَ ) يعني آدم( مِنْ عَجَلٍ ).
واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : من عجل في بنيته وخلقته ، كان من العجلة ، وعلى العجلة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد في قوله( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) قال : لما نفخ فيه الروح في ركبتيه ذهب لينهض ، فقال الله : ( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ).
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما نفخ فيه يعني في آدم الروح ، فدخل في رأسه عطس ، فقالت الملائكة : قل الحمد لله ، فقال : الحمد لله ، فقال الله له : رحمك ربك ، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة ؛ فذلك حين يقول( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) يقول : خلق الإنسان عجولا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) قال : خلق عجولا.
__________
(1) البيت لعنترة بن عمرو بن شداد العبسي ( مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة الحلبي ، ص 396 ) يقول : لا تلوميني بذكر مهري وطعامه ، وإلا نفرت منك كما ينفر الصحيح من الأجرب . يعني لا تعيبي مهري ولا تلوميني من أجل اهتمامي به ، فهو وسيلتي للدفاع عنك وعن قومي .

(18/441)


وقال آخرون : معناه : خلق الإنسان من عجل : أي من تعجيل في خلق الله إياه ومن سرعة فيه وعلى عجل ، وقالوا : خلقه الله في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس على عجل في خلقه إياه قبل مغيبها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) قال : قول آدم حين خُلق بعد كلّ شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق : فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ، ولم تبلغ أسفله ، قال : يا رب استعجل بخلقي قبل غروب بالشمس. (1)
حدثني الحارث ، قال ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) قال آدم حين خُلق بعد كلّ شيء ثم ذكر نحوه ، غير أنه قال في حديثه : استعجلْ بخلقي فقد غربت الشمس.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) قال : على عجل آدم آخر ذلك اليوم من ذينك اليومين ، يريد يوم الجمعة ، وخلقه على عجل ، وجعله عجولا.
وقال بعض أهل العربية من أهل البصرة ممن قال نحو هذه المقالة : إنما قال : ( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) وهو يعني أنه خلقه من تعجيل من الأمر ، لأنه قال( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) قال : فهذا العجل. وقوله( فَلا تَسْتَعْجِلُونِ إِنِّي سَأُرِيكُمْ آيَاتِي ) وعلى قول صاحب هذه المقالة ، يجب أن يكون كل خلق الله خُلق على عجل ، لأن كل ذلك خلق بأن قيل له كن فكان. فإذا كان ذلك كذلك ، فما وجه خصوص الإنسان إذا بذكر أنه خُلق من عجل دون الأشياء كلها ، وكلها مخلوق من عجل ، وفي خصوص الله تعالى ذكره الإنسان بذلك الدليل الواضح ، على أن القول في ذلك غير الذي قاله صاحب هذه المقالة.
__________
(1) هذا السند تكرار للذي قبله من غير فرق .

(18/442)


وقال آخرون منهم : هذا من المقلوب ، وإنما خُلق العجل من الإنسان ، وخُلقت العجلة من الإنسان. وقالوا : ذلك مثل قوله( مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) وإنما هو لتنوء العصبة بها متثاقلة ، وقالوا : هذا وما أشبهه في كلام العرب كثير مشهور ، قالوا : وإنما كلم القوم بما يعقلون ، قالوا : وذلك مثل قولهم : عَرضتُ الناقة ، وكقولهم : إذا طلعت الشعرى واستوت العود على الحِرْباء : أي استوت الحرباء على العود ، كقول الشاعر :
وَتَرْكَبُ خَيْلا لا هَوَادَةَ بَيْنَها... وَتَشْقَى الرّماحُ بالضياطِرَة الحُمْرِ (1)
وكقول ابن مقبل :
حَسَرْتُ كَفِّي عَنِ السِّربالِ آخُذُهُ... فَرْدًا يُجَرُّ عَلى أيْدِي المُفَدّينا (2)
يريد : حسرت السربال عن كفي ، ونحو ذلك من المقلوب ، وفي إجماع أهل التأويل على خلاف هذا القول ، الكفاية المغنية عن الاستشهاد على فساده بغيره.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا الذي ذكرناه عمن قال معناه : خُلق الإنسان من عجل في خلقه : أيْ على عجل وسرعة في ذلك ، وإنما قيل ذلك كذلك ، لأنه بُودر بخلقه مغيب الشمس في آخر ساعة من نهار يوم الجمعة ، وفي ذلك الوقت نفخ فيه الروح.
وإنما قلنا أولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب ، لدلالة قوله تعالى( سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ) علي ذلك.
وأن أبا كريب ، حدثنا قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا محمد بن
__________
(1) البيت لخداش بن زهير ( اللسان : ضطر ) . الجوهري : الضيطر : الرجل الضخم الذي لا غناء عنده ؛ وكذلك الضواطر والضوطري . وفي حديث علي : من يعذرني من هؤلاء الضياطرة : هم الضخام الذين لا غناء عندهم ، الواحد ضيطار . وقول خداش : " وتركب خيلا . . . البيت " : قال ابن سيده : يجوز أن يكون عني أن الرماح تشفى بهم ، أي أنهم لا يحسنون حملها ، ولا الطعن بها ، ويجوز أن يكون على " القلب " أي تشقى الضياطرة الحمر بالرماح ؛ يعني أنهم يقتلون بها . والهوادة : المصالحة والموادعة . والبيت شاهد على القلب .
(2) البيت لتميم بن أبي مقبل ، كما قال المؤلف . وحسرت كفي عن السربال : يريد حسرت السربال عنها . والسربال : القميص والدرع . والمفدون : الذي يقولون لي فديناك من المكاره ، تعظيما لي وإكبارا لبلائي في الحرب ؛ وهو كالشاهد قبله على أن الكلام فيه مقلوب ، لأنه يريد حسرت السربال عن كفي ، لشجاعتي .

(18/443)


عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ فِي الجُمُعَةِ لَساعَةٌ يَقَلِّلُها (1)
، قال لا يُوَافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسأْلُ اللهَ فِيها خَيْرًا إلا أتاهُ اللهُ إيَّاهُ فقال عبد الله بن سلام : قد علمت أيّ ساعة هي ، هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة ، قال الله( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا المحاربي وعبدة بن سليمان وأسير بن عمرو ، عن محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو سلمة ، عن أبى هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وذكر كلام عبد الله بن سلام بنحوه.
فتأويل الكلام إذا كان الصواب في تأويل ذلك ما قلنا بما به استشهدنا( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) ولذلك يستعجل ربه بالعذاب( سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ) أيها المستعجلون ربهم بالآيات القائلون لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم : بل هو شاعر ، فليأتنا بآية كما أرسل الأوّلون آياتي ، كما أريتها من قبلكم من الأمم التي أهلكناها بتكذيبها الرسل ، إذا أتتها الآيات فلا تستعجلون ، يقول : فلا تستعجلوا ربكم ، فإنا سنأتيكم بها ونريكموها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) بضمّ الخاء على مذهب ما لم يسمّ فاعله. وقرأه حُميد الأعرج( خَلَقَ ) بفتحها ، بمعنى : خلق الله الإنسان ، والقراءة التي عليها قرّاء الأمصار ، هي القراءة التي لا أستجيز خلافها.
وقوله( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) يقول تعالى ذكره : ويقول هؤلاء المستعجلون ربهم بالآيات والعذاب لمحمد صلى الله عليه وسلم : متى هذا الوعد : يقول : متى يجيئنا هذا الذي تعدنا من العذاب إن كنتم صادقين فيما تعدوننا به من ذلك. وقيل( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) كأنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به ، و متى في موضع نصب ، لأن معناه : أي وقت هذا الوعد وأيّ يوم هو فهو نصب على الظرف لأنه وقت.
__________
(1) في ابن كثير ، رواية ابن أبي حاتم : " وقبض أصابعه يقللها " .

(18/444)


لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) }
يقول تعالى ذكره : لو يعلم هؤلاء الكفار المستعجلون عذاب ربهم ماذا لهم من البلاء حين تلفح وجوههم النار ، وهم فيها كالحون ، فلا يكفون عن وجوههم النار التي تلفحها ، ولا عن ظهورهم فيدفعونها عنها بأنفسهم( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ).
يقول : ولا لهم ناصر ينصرهم ، فيستنقذهم حينئذ من عذاب الله لما أقاموا على ما هم عليه مقيمون من الكفر بالله ، ولسارعوا إلى التوبة منه والإيمان بالله ، ولما استعجلوا لأنفسهم البلاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) }
يقول تعالى ذكره : لا تأتي هذه النار التي تلفح وجوه هؤلاء الكفار الذين وصف أمرهم في هذه السورة حين تأتيهم عن علم منهم بوقتها ، ولكنها تأتيهم مفاجأة لا يشعرون بمجيئها فتبهتهم : يقول : فتغشاهم فجأة ، وتلفح وجوههم معاينة كالرجل يبهت الرجل في وجهه بالشيء ، حتى يبقى المبهوت كالحيران منه( فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا ) يقول : فلا يطيقون حين تبغتهم فتبهتهم دفعها عن أنفسهم( وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) يقول : ولا هم وإن لم يطيقوا دفعها عن أنفسهم يؤخرون بالعذاب بها لتوبة يحدثونها ، وإنابة ينيبون ، لأنها ليست حين عمل وساعة توبة وإنابة ، بل هي ساعة مجازاة وإثابة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن يتخذك يا محمد

(18/445)


قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)

هؤلاء القائلون لك : هل هذا إلا بشر مثلكم ، أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ، إذ رأوك هُزُوا ويقولون : هذا الذي يذكر آلهتكم كفرا منهم بالله ، واجتراء عليه ، فلقد استهزئ برسل من رسلنا الذين أرسلناهم من قبلك إلى أممهم ، يقول : فوجب ونزل بالذين استهزءوا بهم ، وسخروا منهم من أممهم ما كانوا به يستهزئون : يقول جلّ ثناؤه : حلّ بهم الذي كانوا به يستهزءون من البلاء والعذاب الذي كانت رسلهم تخوّفهم نزوله بهم ، يستهزءون : يقول جلّ ثناؤه ، فلن يعدو هؤلاء المستهزءون بك من هؤلاء الكفرة أن يكونوا كأسلافهم من الأمم المكذّبة رسلها ، فينزل بهم من عذاب الله وسخطه باستهزائهم بك نظير الذي نزل بهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد بهؤلاء المستعجليك بالعذاب ، القائلين : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين من يكلؤكم أيها القوم : يقول : من يحفظكم ويحرسكم بالليل إذا نمتم ، وبالنهار إذا تصرّفتم من الرحمن ؟ يقول : من أمر الرحمن إن نزل بكم ، ومن عذابه إن حلّ بكم ، وترك ذكر الأمر ، وقيل من الرحمن اجتزاء بمعرفة السامعين لمعناه من ذكره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله( قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ) قال : يحرسكم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قتادة( قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ) قل من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن ، يقال منه : كلأت القوم : إذا حرستهم ، أكلؤهم ، كما قال ابن هَرْمة :
إنَّ سُلَيْمَى( واللهُ يَكْلَؤُها)... ضَنَّتْ بِشَيْءٍ ما كانَ يَرْزَؤُها (1)
__________
(1) البيت لإبراهيم بن هرمة ، كما قال المؤلف . وقد جاء في ( اللسان : كلأ ) غير منسوب . وفيه " بزاد " في موضع " بشيء " . قال : يقال : كلأك الله كلاءة ( بالكسر ) حفظك الله وحرسك .
وأنشد " إن سليمي ... البيت " وجملة ( والله يكلؤها ) اعتراضية للدعاء . ويرزؤها : ينقص منها ويضيرها . يريد : ضنت بشيء هين عليها لو بذلته لنا واستشهد المؤلف به على أن معنى يكلأ يحفظ ، كما قال أهل اللغة .

(18/446)


أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)

قوله( بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ) وقوله بل : تحقيق لجحد قد عرفه المخاطبون بهذا الكلام ، وإن لم يكن مذكورا في هذا الموضع ظاهرا.
ومعنى الكلام : وما لهم أن لا يعلموا أنه لا كالئ لهم من أمر الله إذا هو حلّ بهم ليلا أو نهارا ، بل هم عن ذكر مواعظ ربهم وحججه التي احتجّ بها عليهم معرضون لا يتدبرون ذلك فلا يعتبرون به ، جهلا منهم وسفها.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) }
يقول تعالى ذكره : الهؤلاء المستعجلي ربهم بالعذاب آلهة تمنعهم ، إن نحن أحللنا بهم عذابنا ، وأنزلنا بهم بأسنا من دوننا ؟ ومعناه : أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم منا ، ثم وصف جلّ ثناؤه الآلهة بالضعف والمهانة ، وما هي به من صفتها ، فقال وكيف تستطيع آلهتهم التي يدعونها من دوننا أن تمنعهم منا وهي لا تستطيع نصر أنفسها ، وقوله : ( وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) اختلف أهل التأويل في المعني بذلك ، وفي معنى يُصْحبون ، فقال بعضهم : عنى بذلك الآلهة ، وأنها لا تصحب من الله بخير.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ ) يعني الآلهة( وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) يقول : لا يصحبون من الله بخير.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا هم منا ينصرون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا أبو ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) قال : لا ينصرون.

(18/447)


بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا ) إلى قوله : (يُصْحَبُونَ) قال : ينصرون ، قال : قال مجاهد : ولا هم يُحْفظون.
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) يُجَارُون (1) .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) يقول : ولا هم منا يجارون ، وهو قوله( وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ ) يعني الصاحب ، وهو الإنسان يكون له خفير مما يخاف ، فهو قوله يصحبون.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : هذا القول الذي حكيناه عن ابن عباس ، وأن(هُمْ) من قوله(ولا هُمْ) من ذكر الكفار ، وأن قوله(يُصْحَبُونَ) بمعنى : يجارون يصحبون بالجوار ؛ لأن العرب محكي عنها أنا لك جار من فلان وصاحب ، بمعنى : أجيرك وأمنعك ، وهم إذا لم يصحبوا بالجوار ، ولم يكن لهم مانع من عذاب الله مع سخط الله عليهم ، فلم يصحبوا بخير ولم ينصروا.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) }
يقول تعالى ذكره : ما لهؤلاء المشركين من آلهة تمنعهم من دوننا ، ولا جار يجيرهم من عذابنا ، إذا نحن أردنا عذابهم ، فاتكلوا على ذلك ، وعصوا رسلنا اتكالا منهم على ذلك ، ولكنا متعناهم بهذه الحياة الدنيا وآباءهم من قبلهم حتى
__________
(1) لم يقدم قبل هذا القول الأخير خلاصته ، كعادته التي سار عليها ، قبل ذكر القائلين له . كان يقول : وقال بعضهم : بل معناه يجأرون .

(18/448)


طال عليهم العمر ، وهم على كفرهم مقيمون ، لا تأتيهم منا واعظة من عذاب ، ولا زاجرة من عقاب على كفرهم وخلافهم أمرنا ، وعبادتهم الأوثان والأصنام ، فنسوا عهدنا وجهلوا موقع نعمتنا عليهم ، ولم يعرفوا موضع الشكر ، وقوله( أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) يقول تعالى ذكره : أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله السائلو محمد صلى الله عليه وسلم الآيات المستعجلو بالعذاب ، أنا نأتي الأرض نخرّبها من نواحيها بقهرنا أهلها ، وغلبتناهم ، وإجلاؤهم عنها ، وقتلهم بالسيوف ، فيعتبروا بذلك ويتعظوا به ، ويحذروا منا أن ننزل من بأسنا بهم نحو الذي قد أنزلنا بمن فعلنا ذلك به من أهل الأطراف ، وقد تقدم ذكر القائلين بقولنا هذا ومخالفيه بالروايات عنهم في سورة الرعد ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله( أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ) يقول تبارك وتعالى : أفهؤلاء المشركون المستعجلو محمدا بالعذاب الغالبونا ، وقد رأوا قهرنا من أحللنا بساحته بأسنا في أطراف الأرضين ، ليس ذلك كذلك ، بل نحن الغالبون ، وإنما هذا تقريع من الله تعالى لهؤلاء المشركين به بجهلهم ، يقول : أفيظنون أنهم يغلبون محمدا ويقهرونه ، وقد قهر من ناوأه من أهل أطراف الأرض غيرهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ) يقول : ليسوا بغالبين ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الغالب.

(18/449)


قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء القائلين فليأتنا بآية كما أرسل الأولون : إنما أنذركم أيها القوم بتنزيل الله الذي يوحيه إلى من عنده ، وأخوّفكم به بأسه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ) أي بهذا القرآن.

(18/449)


وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)

وقوله( وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : (ولا يسمع بفتح الياء من( يَسْمَعُ) بمعنى أنه فعل للصمّ ، والصمّ حينئذ مرفوعون ، ورُوي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرأ( ولا تُسْمعُ ) بالتاء وضمها ، فالصمّ على هذه القراءة مرفوعة ، لأن قوله( لا تُسْمِعُ ) لم يسمّ فاعله ، ومعناه على هذه القراءة : ولا يسمع الله الصمّ الدعاء.
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندنا في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، ومعنى ذلك : ولا يصغي الكافر بالله بسمع قلبه إلى تذكر ما في وحي الله من المواعظ والذكر ، فيتذكر به ويعتبر ، فينزجر عما هو عليه مقيم من ضلاله إذا تُلي عليه وأُريد به ، ولكنه يعرض عن الاعتبار به والتفكر فيه ، فعل الأصمّ الذي لا يسمع ما يقال له فيعمل به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ) يقول : إن الكافر قد صمّ عن كتاب الله لا يسمعه ، ولا ينتفع به ولا يعقله ، كما يسمعه المؤمن وأهل الإيمان.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) }
يقول تعالى ذكره : ولئن مست هؤلاء المستعجلين بالعذاب يا محمد نفحة من عذاب ربك ، يعني بالنفحة النصيب والحظّ ، من قولهم : نفح فلان لفلان من عطائه : إذا أعطاه قسما أو نصيبا من المال.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ ). .. الآية ، يقول : لئن أصابتهم عقوبة.
وقوله( لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) يقول : لئن أصابتهم هذه النفحة من عقوبة ربك يا محمد بتكذيبهم بك وكفرهم ، ليعلمن حينئذ غبّ تكذيبهم بك ، وليعترفن على أنفسهم بنعمة الله وإحسانه إليهم وكفرانهم أياديه عندهم ،

(18/450)


وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)

وليقولن يا ويلنا إنا كان ظالمين في عبادتنا الآلهة والأنداد ، وتركنا عبادة الله الذي خلقنا وأنعم علينا ، ووضعنا العبادة غير موضعها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) }
يقول تعالى ذكره( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ ) العدل وهو(القِسْطَ) وجعل القسط وهو موحد من نعت الموازين ، وهو جمع لأنه في مذهب عدل ورضا ونظر. وقوله( لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) يقول : لأهل يوم القيامة ، ومن ورد على الله في ذلك اليوم من خلقه ، وقد كان بعض أهل العربية يوجه معنى ذلك إلى " في " كأن معناه عنده : ونضع الموازين القسط في يوم القيامة ، وقوله( فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ) يقول : فلا يظلم الله نفسا ممن ورد عليه منهم شيئا بأن يعاقبه بذنب لم يعمله أو يبخسه ثواب عمل عمله ، وطاعة أطاعه بها ، ولكن يجازي المحسن بإحسانه ، ولا يعاقب مسيئا إلا بإساءته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ )... إلى آخر الآية ، وهو كقوله( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ) يعني بالوزن : القسط بينهم بالحقّ في الأعمال الحسنات والسيئات ، فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه ، يقول : أذهبت حسناته سيئاته ، ومن أحاطت سيئاته بحسناته فقد خفَّت موازينه وأمه هاوية ، يقول : أذهبت سيئاته حسناته.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) قال : إنما هو مثل ، كما يجوز الوزن كذلك يجوز الحقّ ، قال الثوري : قال ليث عن مجاهد( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ ) قال : العدل.

(18/451)


وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)

وقوله( وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ) يقول : وإن كان الذي من عمل الحسنات ، أو عليه من السيئات وزن حبة من خردل أتينا بها : يقول : جئنا بها فأحضرناها إياه.
كما حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ابن زيد ، في قوله( وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ) قال : كتبناها وأحصيناها له وعليه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ) قال : يؤتي بها لك وعليك ، ثم يعفو إن شاء أو يأخذ ، ويجزي بما عمل له من طاعة ، وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ) قال : جازينا بها.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد أنه كان يقول( وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ) قال : جازينا بها ، وقال أتينا بها ، فأخرج قوله بها مخرج كناية المؤنث ، وإن كان الذي تقدم ذلك قوله مثقال حبة ، لأنه عني بقوله بها الحبة دون المثقال ، ولو عني به المثقال لقيل به ، وقد ذكر أن مجاهدا إنما تأوّل قوله( أَتَيْنَا بِهَا ) على ما ذكرنا عنه ، لأنه كان يقرأ ذلك( آتَيْنا بها) بمدّ الألف. وقوله : ( وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) يقول : وحسب من شهد ذلك الموقف بنا حاسبين ، لأنه لا أحد أعلم بأعمالهم وما سلف في الدنا من صالح أو سيئ منا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) }
يقول تعالى ذكره : ولقد آتينا موسى بن عمران وأخاه هارون الفرقان ، يعني به الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل ، وذلك هو التوراة في قول بعضهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ،

(18/452)


قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (الفُرْقان) قال : الكتاب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ) الفرقان : التوراة حلالها وحرامها ، وما فرق الله به بين الحق والباطل.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ) قال : الفرقان : الحق آتاه الله موسى وهارون ، فرق بينهما وبين فرعون ، قضى بينهم بالحق ، وقرأ( وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ) قال : يوم بدر.
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله ابن زيد في ذلك أشبه بظاهر التنزيل ، وذلك لدخول الواو في الضياء ، ولو كان الفرقان هو التوراة كما قال من قال ذلك ، لكان التنزيل : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء ، لأن الضياء الذي آتى الله موسى وهارون هو التوراة التي أضاءت لهما ولمن اتبعهما أمر دينهم فبصرّهم الحلال والحرام ، ولم يقصد بذلك في هذا الموضع ضياء الإبصار ، وفي دخول الواو في ذلك دليل على أن الفرقان غير التوراة التي هي ضياء.
فإن قال قائل : وما ينكر أن يكون الضياء من نعت الفرقان ، وإن كانت فيه واو فيكون معناه : وضياء آتيناه ذلك ، كما قال( بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا ) ؟ قيل له : إن ذلك وإن كان الكلام يحتمله ، فإن الأغلب من معانيه ما قلنا ، والواجب أن يوجه معاني كلام الله إلى الأغلب الأشهر من وجوهها المعروفة عند العرب ما لم يكن بخلاف ذلك ما يجب التسليم له من حجة خبر أو عقل.
وقوله( وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ) يقول : وتذكيرا لمن اتقى الله بطاعته وأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، ذكرّهم بما آتى موسى وهارون من التوراة.
القول في تأويل قوله تعالى

(18/453)


الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)

: { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)}
يقول تعالى ذكره : آتينا موسى وهارون الفرقان : الذكر الذي آتيناهما للمتقين الذين يخافون ربهم بالغيب ، يعني في الدنيا أن يعاقبهم في الآخرة إذا قدموا عليه بتضييعهم ما ألزمهم من فرائضه فهم من خشيته ، يحافظون على حدوده وفرائضه ، وهم من الساعة التي تقوم فيها القيامة مشفقون ، حذرون أن تقوم عليهم ، فيردوا على ربهم قد فرّطوا في الواجب عليهم لله ، فيعاقبهم من العقوبة بما لا قِبَل لهم به.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) }
يقول جلّ ثناؤه : وهذا القرآن الذي أنزلناه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ذكر لمن تذكر به ، وموعظة لمن اتعظ به( مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ ) كما أنزلنا التوراة إلى موسى وهارون ذكرا للمتقين( أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) يقول تعالى ذكره : أفأنتم أيها القوم لهذا الكتاب الذي أنزلناه إلى محمد منكرون وتقولون هو( أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ) وإنما الذي آتيناه من ذلك ذكر للمتقين ، كالذي آتينا موسى وهارون ذكرا للمتقين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ )... إلى قوله( أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) أي هذا القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) }

(18/454)


يقول تعالى ذكره( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ) موسى وهارون ، ووفَقناه للحقّ ، وأنقذناه من بين قومه وأهل بيته من عبادة الأوثان ، كما فعلنا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى إبراهيم ، فأنقذناه من قومه وعشيرته من عبادة الأوثان ، وهديناه إلى سبيل الرشاد توفيقا منا له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى " ح " وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ) قال : هديناه صغيرا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ) قال : هداه صغيرا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ) قال : هداه صغيرا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ) يقول : آتينا هداه.
وقوله( وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ) يقول : وكنا عالمين به أنه ذو يقين وإيمان بالله وتوحيد له ، لا يشرك به شيئا( إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ) يعني في وقت قيله وحين قيله لهم( مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ) يقول : قال لهم : أيّ شيء هذه الصور التي أنتم عليها مقيمون ، وكانت تلك التماثيل أصنامهم التي كانوا يعبدونها.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ) قال : الأصنام.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله. وقد بيَّنا فيما مضى من كتابنا هذا أن العاكف على الشيء المقيم عليه بشواهد ذلك ، وذكرنا الرواية عن أهل التأويل.

(18/455)


قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ (55) }
يقول تعالى ذكره : قال أبو إبراهيم وقومه لإبراهيم : وجدنا آباءنا لهذه الأوثان عابدين ، فنحن على ملة آبائنا نعبدها كما كانوا يعبدون ، (قال) إبراهيم(لَقَدْ كُنْتُم) أيها القوم( أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ) بعبادتكم إياها( فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) يقول : في ذهاب عن سبيل الحقّ ، وجور عن قصد السبيل مبين : يقول : بين لمن تأمله بعقل ، إنكم كذلك في جور عن الحقّ( قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ ) ؟ يقول : قال أبوه وقومه له : أجئتنا بالحقّ فيما تقول( أَمْ أَنْتَ ) هازل لاعب( مِنَ اللاعِبِينَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) }
يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم لهم : بل جئتكم بالحق لا اللعب ، ربكم ربّ السماوات والأرض الذي خلقهنّ ، وأنا على ذلكم من أن ربكم هو ربّ السماوات والأرض الذي فطرهنّ ، دون التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، ودون كلّ أحد سواه شاهد من الشاهدين ، يقول : فإياه فاعبدوا لا هذه التماثيل التي هي خلقه التي لا تضرّ ولا تنفع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) }

(18/456)


فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) }
ذكر أن إبراهيم صلوات الله عليه حلف بهذه اليمين في سرّ من قومه وخفاء ، وأنه لم يسمع ذلك منه إلا الذي أفشاه عليه حين قالوا. من فعل هذا بآلهتنا

(18/456)


إنه لمن الظالمين ، فقالوا : سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.
*ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ) قال : قول إبراهيم حين استتبعه قومه إلى عيد لهم فأبى وقال : إني سقيم ، فسمع منه وعيد أصنامهم رجل منهم استأخر ، وهو الذي يقول( سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ) قال : نرى أنه قال ذلك حيث لم يسمعوه بعد أن تولَّوا مدبرين.
وقوله( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا ) (1) بمعنى جمع جذيذ ، كأنهم أرادوا به جمع جذيذ وجذاذ ، كما يجمع الخفيف خفاف ، والكريم كرام.
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأه(جُذَاذا) بضمّ الجيم ، لإجماع قرّاء الأمصار عليه ، وأن ما أجمعت عليه فهو الصواب ، وهو إذا قرئ كذلك مصدر مثل الرُّفات ، والفُتات ، والدُّقاق لا واحد له ، وأما من كسر الجيم فإنه جمع للجذيذ ، والجذيذ : هو فعيل صُرِف من مجذوذ إليه ، مثل كسير وهشيم ، والمجذوذة : المكسورة قِطَعا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا ) يقول : حُطاما.
__________
(1) في العبارة هنا قصور ، ولعل بها سقطا ، وسيوضحها المؤلف في كلامه الآتي بعدها . والحاصل أن قراءة عامة القراء " جذاذا " بضم الجيم ، قيل هو مفرد كحطام ، وقيل من الجمع العزيز . وقرأ ابن وثاب وجماعة بالكسر ، وهو جذيذ ، ونظيره كريم وكرام .

(18/457)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(جُذَاذًا) كالصَّريم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا ) : أي قطعا.
وكان سبب فعل إبراهيم صلوات الله عليه بآلهة قومه ذلك ، كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط عن السديّ أن إبراهيم قال له أبوه : يا إبراهيم إن لنا عيدا لو قد خرجت معنا إليه قد أعجبك ديننا ، فلما كان يوم العيد ، فخرجوا إليه ، خرج معهم إبراهيم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال : إني سقيم ، يقول : أشتكي رجلي فتواطئوا رجليه وهو صريع ؛ فلما مضوا نادى في آخرهم ، وقد بقي ضَعْفَى الناس( وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) فسمعوها منه ، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة ، فإذا هنّ في بهو عظيم ، مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى بعض ، كل صنم يليه أصغر منه ، حتى بلغوا باب البهو ، وإذا هم قد جعلوا طعاما ، فوضعوه بين أيدي الآلهة ، قالوا : إذا كان حين نرجع رجعنا ، وقد باركت الآلهة في طعامنا فأكلنا ، فلما نظر إليهم إبراهيم ، وإلى ما بين أيديهم من الطعام( قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) فلما لم تجبه ، قال( مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ) فأخذ فأس حديد ، فنقر كلّ صنم في حافتيه ، ثم علَّق الفأس في عنق الصنم الأكبر ، ثم خرج ، فلما جاء القوم إلى طعامهم نظروا إلى آلهتهم( قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ).
وقوله( إِلا كَبِيرًا لَهُمْ ) يقول : إلا عظيما للآلهة ، فإن إبراهيم لم يكسره ، ولكنه فيما ذكر علق الفأس في عنقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني

(18/458)


قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)

حجاج ، عن ابن جُرَيج( إِلا كَبِيرًا لَهُمْ ) قال : قال ابن عباس ، إلا عظيما لهم عظيم آلهتهم ، قال ابن جُرَيْج ، وقال مجاهد : وجعل إبراهيم الفأس التي أهلك بها أصنامهم مُسْندة إلى صدر كبيرهم الذي تَرَك.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : جعل إبراهيم الفأس التي أهلك بها أصنامهم مسندة إلى صدر كبيرهم الذي ترك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أقبل عليهنّ كما قال الله تبارك وتعالى( ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ) ثم جعل يكسرهنّ بفأس في يده ، حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده ، ثم تركهنّ ، فلما رجع قومه ، رأوا ما صنع بأصنامهم ، فراعهم ذلك وأعظموه وقالوا : من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ، وقوله( لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ) يقول : فعل ذلك إبراهيم بآلهتهم ليعتبروا ويعلموا أنها إذا لم تدفع عن نفسها ما فعل بها إبراهيم ، فهي من أن تدفع عن غيرها من أرادها بسوء أبعد ، فيرجعوا عما هم عليه مقيمون من عبادتها إلى ما هو عليه من دينه وتوحيد الله ، والبراءة من الأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ) قال : كادهم بذلك لعلهم يتذكرون أو يبصرون.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) }
يقول تعالى ذكره : قال قوم إبراهيم لما رأوا آلهتهم قد جذّت ، إلا الذي ربط به الفأسَ إبراهيم : من فعل هذا بآلهتنا ؟ إن الذي فعل هذا بآلهتنا لمن

(18/459)


الظالمين! أي لمن الفاعلين بها ما لم يكن له فعله
( قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ) يقول : قال الذين سمعوه يقول( وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) سمعنا فتى يذكرهم بعيب يقال له إبراهيم.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ) قال ابن جُرَيج : يذكرهم يعيبهم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قوله( سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ) سمعناه يسبها ويعيبها ويستهزئ بها ، لم نسمع أحدا يقول ذلك غيره ، وهو الذي نظن صنع هذا بها.
وقوله( فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ) يقول تعالى ذكره : قال قوم إبراهيم بعضهم لبعض : فأتوا بالذي فعل هذا بآلهتنا الذي سمعتموه يذكرها بعيب ويسبها ويذمها على أعين الناس ؛ فقيل : معنى ذلك : على رءوس الناس. وقال بعضهم : معناه : بأعين الناس ومرأى منهم ، وقالوا : إنما أريد بذلك أظهروا الذي فعل ذلك للناس كما تقول العرب إذا ظهر الأمر وشهر : كان ذلك على أعين الناس ، يراد به كان بأيدي الناس.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله( لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ) فقال بعضهم : معناه : لعلّ الناس يشهدون عليه ، أنه الذي فعل ذلك ، فتكون شهادتهم عليه حجة لنا عليه ، وقالوا إنما فعلوا ذلك لأنهم كرهوا أن يأخذوه بغير بينة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ) عليه أنه فعل ذلك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ) قال : كرهوا أن يأخذوه بغير بيِّنة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لعلهم يشهدون ما يعاقبونه به ، فيعاينونه ويرونه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : بلغ ما فعل إبراهيم بآلهة قومه نمرود ، وأشراف قومه ، فقالوا :

(18/460)


قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)

( فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ) : أي ما يُصْنع به ، وأظهر معنى ذلك أنهم قالوا : فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون عقوبتنا إياه ، لأنه لو أريد بذلك ليشهدوا عليه بفعله كان يقال : انظروا من شهده يفعل ذلك ، ولم يقل : أحضروه بمجمع من الناس.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) }
يقول تعالى ذكره : فأتوا بإبراهيم ، فلما أتوا به قالوا له : أأنت فعلت هذا بآلهتنا من الكسر بها يا إبراهيم ؟ فأجابهم إبراهيم : بل فعله كبيرهم هذا وعظيمهم ، فاسألوا الآلهة من فعل بها ذلك وكسرها إن كانت تنطق ، أو تعبر عن نفسها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما أُتِي به واجتمع له قومه عند ملكهم نمرود( قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ) غضب من أن يعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها ، فكسرهن.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا )... الآية ، وهي هذه الخصلة التي كادهم بها.
وقد زعم بعض من لا يصدّق بالآثار ، ولا يقبل من الأخبار إلا ما استفاض به النقل من العوامّ ، أن معنى قوله( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) إنما هو : بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم ، أي إن كانت الآلهة المكسورة تنطق ، فإن كبيرهم هو الذي كسرهم ، وهذا قول خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلها في الله ، قوله( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) وقوله( إِنِّي سَقِيمٌ ) وقوله لسارة :

(18/461)


فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)

هي أختي ، وغير مستحيل أن يكون الله تعالى ذكْره أذن لخليله في ذلك ، ليقرِّع قومه به ، ويحتجّ به عليهم ، ويعرّفهم موضع خطئهم ، وسوء نظرهم لأنفسهم ، كما قال مؤذّن يوسف لإخوته( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) ولم يكونوا سرقوا شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) }
يقول تعالى ذكره : فذكروا حين قال لهم إبراهيم صلوات الله عليه( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ) في أنفسهم ، ورجعوا إلى عقولهم ، ونظر بعضهم إلى بعض ، فقالوا : إنكم معشر القوم الظالمون هذا الرجل في مسألتكم إياه وقيلكم له من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم ، وهذه آلهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرتكم فاسألوها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ) قال : أرعوَوْا ورجعوا عنه يعني عن إبراهيم ، فيما ادّعوا عليه من كسرهنّ إلى أنفسهم فيما بينهم ، فقالوا : لقد ظلمناه وما نراه إلا كما قال.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ ) قال : نظر بعضهم إلى بعض( فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ).
وقوله( ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ ) يقول جلّ ثناؤه : ثم غُلبوا في الحجة ، فاحتجوا على إبراهيم بما هو حجة لإبراهيم عليهم ، فقالوا : لقد علمت ما هؤلاء الأصنام ينطقون.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم قالوا :

(18/462)


قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)

يعني قوم إبراهيم ، وعرفوا أنها ، يعني آلهتهم لا تضرّ ولا تنفع ولا تبطش : ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ) : أي لا تتكلم فتخبرنا من صنع هذا بها ، وما تبطش بالأيدي فنصدّقك ، يقول الله( ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ ) في الحجة عليهم لإبراهيم حين جادلهم ، فقال عند ذلك إبراهيم حين ظهرت الحجة عليهم بقولهم : ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قال الله( ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ ) أدركت الناس حَيرة سَوْء.
وقال آخرون : معنى ذلك : ثم نكسوا في الفتنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ ) قال : نكسوا في الفتنة على رءوسهم ، فقالوا : لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
وقال بعض أهل العربية : معنى ذلك : ثم رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيم ، فقالوا : لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
وإنما اخترنا القول الذي قلنا في معنى ذلك ، لأن نَكَس الشيء على رأسه : قلبه على رأسه وتصيير أعلاه أسفله ؛ ومعلوم أن القوم لم يقلبوا على رءوس أنفسهم ، وأنهم إنما نُكست حجتهم ، فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم ، وإذ كان ذلك كذلك ، فنَكْس الحجة لا شك إنما هو احتجاج المحتجّ على خصمه بما هو حجة لخصمه ، وأما قول السديّ : ثم نكسوا في الفتنة ، فإنهم لم يكونوا خرجوا من الفتنة قبل ذلك فنكسوا فيها.وأما قول من قال من أهل العربية ما ذكرنا عنه ، فقول بعيد من الفهوم ، لأنهم لو كانوا رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيم ، ما احتجوا عليه بما هو حجة له ، بل كانوا يقولون له : لا تسألهم ، ولكن نسألك فأخبرنا من فعل ذلك بها ، وقد سمعنا أنك فعلت ذلك ، ولكن صدقوا القول( فقالوا لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) وليس ذلك رجوعا عما كانوا عرفوا ، بل هو إقرار به.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ

(18/463)


أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)

مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) }
يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم لقومه : أفتعبدون أيها القوم ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ، وأنتم قد علمتم أنها لم تمنع نفسها ممن أرادها بسوء ، ولا هي تقدر أن تنطق إن سئلت عمن يأتيها بسوء فتخبر به ، أفلا تستحيون من عبادة ما كان هكذا.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ )... الآية ، يقول يرحمه الله : ألا ترون أنهم لم يدفعوا عن أنفسهم الضرّ الذي أصابهم ، وأنهم لا ينطقون فيخبرونكم من صنع ذلك بهم ، فكيف ينفعونكم أو يضرّون.
وقوله( أُفٍّ لَكُمْ ) يقول : قُبحا لكم وللآلهة التي تعبدون من دون الله ، أفلا تعقلون قبح ما تفعلون من عبادتكم ما لا يضرّ ولا ينفع ، فتتركوا عبادته ، وتعبدوا الله الذي فطر السماوات والأرض ، والذي بيده النفع والضرّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ (70) }
يقول تعالى ذكره : قال بعض قوم إبراهيم لبعض : حرّقوا إبراهيم بالنار( وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ) يقول : إن كنتم ناصريها ، ولم تريدوا ترك عبادتها.
وقيل : إن الذي قال ذلك رجل من أكراد فارس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : ( حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ ) قال : قالها رجل من أعراب فارس ، يعني الأكراد.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ،

(18/464)


قال : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبئي ، قال : إن الذي قال حرّقوه " هيزن " فخسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أجمع نمرود وقومه في إبراهيم فقالوا( حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ) أي لا تنصروها منه إلا بالتحريق بالنار إن كنتم ناصريها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، قال : تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر ، فقال : أتدري يا مجاهد من الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار ؟ قال : قلت لا قال : رجل من أعراب فارس. قلت : يا أبا عبد الرحمن ، أو هل للفرس أعراب ؟ قال : نعم الكرد هم أعراب فارس ، فرجل منهم هو الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار.
وقوله( قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) في الكلام متروك اجتزئ بدلالة ما ذكر عليه منه ، وهو : فأوقدوا له نارا ليحرقوه ثم ألقوه فيها ، فقلنا للنار : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، وذُكر أنهم لما أرادوا إحراقه بنوا له بنيانا ، كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال( قالوا ابنوا له بنيانا فألقو في الجحيم ) قال : فحبسوه في بيت ، وجمعوا له حطبا ، حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول : لئن عافاني الله لأجمعنّ حطبا لإبراهيم ، فلما جمعوا له ، وأكثروا من الحطب (1) حتى إن الطير لتمرّ بها فتحترق من شدة وهجها ، فعمدوا إليه فرفعوه على رأس البنيان ، فرفع إبراهيم صلى الله عليه وسلم رأسه إلى السماء ، فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة : ربنا ، إبراهيم يحرق فيك ، فقال : أنا أعلم به ، وإن دعاكم فأغيثوه ، وقال إبراهيم حين رفع رأسه إلى السماء : اللهم أنت الواحد في السماء ، وأنا الواحد في الأرض ليس في الأرض أحد يعبدك غيري ، حسبي الله ونعم الوكيل ، فقذفوه في النار ، فناداها فقال( يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) فكان جبريل عليه السلام هو الذي ناداها.
__________
(1) سقطت من هذا الخبر عبارة ذكر نحوها الثعلبي المفسر في عرائس المجالس ، وهي : أشعلوا النار في كل ناحية بالحطب ، فاشتعلت النار ، حتى إن كان الطير ليمر بها فيحترق . . . الخ .

(18/465)


وقال ابن عباس : لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من شدّة بردها ، فلم يبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت ، ظنت أنها هي تعنى ، فلما طُفئت النار نظروا إلى إبراهيم ، فإذا هو رجل آخر معه ، وإذا رأس إبراهيم في حجره يمسح عن وجهه العرق ، وذكر أن ذلك الرجل هو ملك الظلّ ، وأنزل الله نارا فانتفع بها بنو آدم ، وأخرجوا إبراهيم ، فأدخلوه على الملك ، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه.
حدثني إبراهيم بن المقدام أبو الأشعث ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي ، قال : ثنا قتاده ، عن أبي سليمان ، عن كعب ، قال : ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) قال : ذُكر لنا أن كعبا كان يقول : ما انتفع بها يومئذ أحد من الناس ، وكان كعب يقول : ما أحرقت النار يومئذ إلا وثاقه.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن شيخ ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله( قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) قال : بردت عليه حتى كادت تقتله ، حتى قيل : وسلاما ، قال : لا تضرّيه.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن المنهال بن عمرو ، قال : قال إبراهيم خليل الله : ما كنت أياما قطّ أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : لمَّا ألقي إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم في النار ، قال الملك خازن المطر : رب خليلك إبراهيم ، رجا أن يؤذن له فيرسل المطر ، قال : فكان أمر الله أسرع من ذلك فقال( قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) فلم يبق في الأرض نار إلا طُفئت.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الحارث ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة ، قال : إن أحسن شيء قاله أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق

(18/466)


وهو في النار ، وجده يرشح جبينه ، فقال عند ذلك : نعم الربّ ربك يا إبراهيم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجَبَسِي ، قال : ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ستّ عشرة سنة ، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين ، وولدته سارة وهي ابنة تسعين سنة ، وكان مذبحه من بيت إيلياء على ميلين ، ولما علمت سارة بما أراد بإسحاق بُطِنت يومين ، وماتت اليوم الثالث ، قال ابن جُرَيج : قال كعب الأحبار : ما أحرقت النار من إبراهيم شيئا غير وثاقه الذي أوثقوه به.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا معتمر بن سليمان التيمي ، عن بعض أصحابه قال : جاء جبريل إلى إبراهيم عليهما السلام وهو يوثق أو يقمَّط ليلقى في النار ، قال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال : أمَّا إليك فلا.
قال : ثنا معتمر ، قال : ثنا ابن كعب ، عن أرقم : أن إبراهيم قال حين جعلوا يوثقونه ليلقوه في النار : لا إله إلا أنت سبحانك ربّ العالمين ، لك الحمد ، ولك الملك لا شريك لك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله( قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) قال : السلام لا يؤذيه بردها ، ولولا أنه قال : وسلاما لكان البرد أشدّ عليه من الحرّ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله(بَرْدًا) قال : بردت عليه(وَسَلاما) لا تؤذيه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) قال : قال كعب : ما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار ، ولا أحرقت النار يومئذ شيئا إلا وثاق إبراهيم.
وقال قتادة : لم تأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار ، إلا الوزغ.
وقال الزهري : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله ، وسماه فُوَيسقا.
وقوله( وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا ) يقول تعالى ذكره : وأرادوا بإبراهيم كيدا( فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ ) يعني الهالكين.

(18/467)


وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)

وقد حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ ) قال : ألقوا شيخا منهم في النار لأن يصيبوا نجاته ، كما نجي إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فاحترق.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) }
يقول تعالى ذكره : ونجينا إبراهيم ولوطا من أعدائهما نمرود وقومه من أرض العراق( إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) وهي أرض الشأم ، فارق صلوات الله عليه وقومه ودينهم وهاجر إلى الشأم.
وهذه القصة التي قص ، الله من نبأ إبراهيم وقومه تذكير منه بها قوم محمد صلى الله عليه وسلم من قريش أنهم قد سلكوا في عبادتهم الأوثان ، وأذاهم محمدا على نهيه عن عبادتها ، ودعائهم إلى عبادة الله مخلصين له الدين ، مسلك أعداء أبيهم إبراهيم ، ومخالفتهم دينه ، وأن محمدا في براءته من عبادتها وإخلاصه العبادة لله ، وفي دعائهم إلى البراءة من الأصنام ، وفي الصبر على ما يلقى منهم في ذلك سالك منهاج أبيه إبراهيم ، وأنه مخرجه من بين أظهرهم كما أخرج إبراهيم من بين أظهر قومه حين تمادوا في غيهم إلى مهاجره من أرض الشأم ، مسلٍّ بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما يلقى من قومه من المكروه والأذى ، ومعلمه أنه منجيه منهم كما نجى أباه إبراهيم من كفرة قومه.
وقد اختلف أهل التأويل في الأرض التي ذكر الله أنه نجَّى إبراهيم ولوطا إليها ، ووصفه أنه بارك فيها للعالمين ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين بن حريث المروزي أبو عمار ، قال : ثنا الفضل بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) قال : الشأم ، وما من ماء عذب إلا خرج من تلك الصخرة التي ببيت المقدس.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن فرات القزاز ، عن الحسن ، في قوله( إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) قال : الشام.

(18/468)


حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) كانا بأرض العراق ، فأنجيا إلى أرض الشأم ، وكان يقال للشأم عماد دار الهجرة ، وما نقص من الأرض زيد في الشأم ، وما نقص من الشأم زيد في فلسطين ، وكان يقال : هي أرض المحشر والمنشر ، وبها مجمع الناس ، وبها ينزل عيسى ابن مريم ، وبها يهلك الله شيخ الضلالة الكذّاب الدجال.
وحدثنا أبو قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رأيْتُ فِيما يَرَى النَّائِمُ كأنَّ الملائِكَةَ حَمَلَتْ عَمُودَ الكِتابِ فَوَضَعَتْه بالشَّأْمِ ، فأوَّلْتُه أن الفِتَنَ إذَا وَقَعَتْ فإنَّ الإيمَانَ بالشَّأْمِ " .
وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبه : " إنَّهُ كائِنٌ بالشَّأْمِ جُنْدٌ ، وبالعِراقِ جُنْدٌ ، وباليَمَنِ جُنْدٌ ، فقال رجل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم خر لي ، فقال : عَلَيْكَ بالشَّأمِ فإنَّ اللهَ قَدْ تكَفَّلَ لي بالشَّأمِ وأهْلِهِ ، فَمَنْ أبَى فَلْيَلْحَقْ بأمِنْهِ وَلْيَسْق بِقَدَرِهِ " .
وذُكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا كعب ألا تحوّل إلى المدينة فإنها مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضع قبره ، فقال له كعب : يا أمير المؤمنين ، إني أجد في كتاب الله المنزل ، أن الشام كنز الله من أرضه ، وبها كنزه من عباده.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) قال : هاجرا جميعا من كُوْثَى إلى الشام.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : انطلق إبراهيم ولوط قِبَل الشأم ، فلقي إبراهيم سارة ، وهي بنت ملك حَرّان ، وقد طعنت على قومها في دينهم ، فتزوّجها على أن لا يغيرها (1) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : خرج إبراهيم مهاجرا إلى ربه ، وخرج معه لوط مهاجرا ، وتزوج سارة ابنة عمه ، فخرج
__________
(1) في ابن كثير : على أن يفر بها .

(18/469)


بها معه يلتمس الفرار بدينه ، والأمان على عبادة ربه ، حتى نزل حرّان ، فمكث فيها ما شاء الله أن يمكث ، ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر ، ثم خرج من مصر إلى الشام ، فنزل السبع من أرض فلسطين ، وهي برّية الشام ، ونزل لوط بالمؤتفكة ، وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة ، أو أقرب من ذلك ، فبعثه الله نبيا صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) قال : نجاه من أرض العراق إلى أرض الشام.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، أنه قال في هذه الآية( بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) قال : ليس ماء عذب إلا يهبط إلى الصخرة التي ببيت المقدس ، قال : ثم يتفرّق في الأرض.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) قال : إلى الشأم.
وقال آخرون : بل يعني مكة وهي الأرض التي قال الله تعالى( الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) يعني مكة ونزول إسماعيل البيت. ألا ترى أنه يقول : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ).
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا ما اخترنا من القول في ذلك لأنه لا خلاف بين جميع أهل العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى الشام ، وبها كان مقامه أيام حياته ، وإن كان قد كان قدم مكة وبنى بها البيت وأسكنها إسماعيل ابنه مع أمه هاجر ، غير أنه لم يقم بها ، ولم يتخذها وطنا لنفسه ، ولا لوط ، والله إنما أخبر عن إبراهيم ولوط أنهما أنجاهما إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين.
القول في تأويل قوله تعالى

(18/470)


وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)

: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) }

(18/457)


وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) }
يقول تعالى ذكره : ووهبنا لإبراهيم إسحاق ولدا ويعقوب ولد ولده ، نافلة لك.
واختلف أهل التأويل في المعني بقوله(نَافِلَةً) فقال بعضهم : عنى به يعقوب خاصة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ) يقول : ووهبنا له إسحاق ولدا ، ويعقوب ابن ابن نافلة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ) والنافلة : ابن ابنه يعقوب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ) قال : سأل واحدا فقال( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فأعطاه واحدا ، وزاده يعقوب ، ويعقوب ولد ولده.
وقال آخرون : بل عنى بذلك إسحاق ويعقوب ، قالوا : وإنما معنى النافلة : العطية ، وهما جميعا من عطاء الله أعطاهما إياه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان. عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، في قوله( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ) قال : عطية.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ) قال : عطاء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.

(18/457)


وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)

قال أبو جعفر : وقد بيَّنا فيما مضى قبل ، أن النافلة الفضل من الشيء يصير إلى الرجل من أيّ شيء كان ذلك ، وكلا ولديه إسحاق ويعقوب كان فضلا من الله تفضل به على إبراهيم ، وهبة منه له ، وجائز أن يكون عنى به أنه آتاهما إياه جميعا نافلة منه له ، وأن يكون عنى أنه آتاه نافلة يعقوب ، ولا برهان يدلّ على أيّ ذلك المراد من الكلام ، فلا شيء أولى أن يقال في ذلك مما قال الله ووهب الله له لإبراهيم إسحاق ويعقوب نافلة.
وقوله( وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) يعني عاملين بطاعة الله ، مجتنبين محارمه ، وعنى بقوله : (كُلا) إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وقوله : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) يقول تعالى ذكره : وجعلنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أئمة يؤتمّ بهم في الخير في طاعة الله في اتباع أمره ونهيه ، ويقتدي بهم ، ويُتَّبَعون عليه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) جعلهم الله أئمة يُقتدى بهم في أمر الله وقوله( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) يقول : يهدون الناس بأمر الله إياهم بذلك ، ويدعونهم إلى الله وإلى عبادته ، وقوله( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) يقول تعالى ذكره : وأوحينا فيما أوحينا أن افعلوا الخيرات ، وأقيموا الصلاة بأمرنا بذلك( وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) يقول : كانوا لنا خاشعين ، لا يستكبرون عن طاعتنا وعبادتنا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) }
يقول تعالى ذكره : وآتينا لوطا حكما ، وهو فصل القضاء بين الخصوم ، وعلما : يقول : وآتيناه أيضا علما بأمر دينه ، وما يجب عليه لله من فرائضه.
وفي نصب لوط وجهان : أن ينصب لتعلق الواو بالفعل كما قلنا : وآتينا لوطا ، والآخر بمضمر بمعنى : واذكر لوطا.
وقوله( وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ ) يقول : ونجيناه من عذابنا الذي أحللناه بأهل القرية التي كانت تعمل الخبائث ، وهي قرية سَدُوم

(18/472)


وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)

التي كان لوط بعث إلى أهلها ، وكانت الخبائث التي يعملونها : إتيان الذكران في أدبارهم ، وخَذْفهم الناس ، وتضارطهم في أنديتهم ، مع أشياء أخرَ كانوا يعملونها من المنكر ، فأخرجه الله حين أراد إهلاكهم إلى الشام.
كما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أخرجهم الله ، يعني لوطا وابنتيه زيثا وزعرثا إلى الشام حين أراد إهلاك قومه.
وقوله( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ) مخالفين أمر الله ، خارجين عن طاعته وما يرضى من العمل.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) }
يقول تعالى ذكره : وأدخلنا لوطا في رحمتنا بإنجائنا إياه ما أحللنا بقومه من العذاب والبلاء وإنقاذناه منه إنه من الصالحين : يقول : إن لوطا من الذين كانوا يعملون بطاعتنا ، وينتهون إلى أمرنا ونهينا ولا يعصوننا ، وكان ابن زيد يقول في معنى قوله( وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا ) ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا ) قال : في الإسلام.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) }
يقول تعالى ذكره : واذكر يا محمد نوحا إذ نادى ربه من قبلك ، ومن قبل إبراهيم ولوط ، وسألنا أن نهلك قومه الذين كذّبوا الله فيما توعدهم به من وعيده ، وكذّبوا نوحا فيما أتاهم به من الحق من عند ربه( قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) فاستجبنا له دعاءه ، ( وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ) يعني

(18/473)


وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)

بأهله : أهل الإيمان من ولده وحلائلهم( مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) يعني بالكرب العظيم : العذاب الذي أحل بالمكذّبين من الطوفان والغرق ، والكرب : شدّة الغم ، يقال منه : قد كربني هذا الأمر فهو يكربني كربا ، وقوله : ( وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) يقول : ونصرنا نوحا على القوم الذين كذّبوا بحججنا وأدلتنا ، فأنجيناه منهم ، فأغرقناهم أجمعين ، إنهم كانوا قوم سوء ، يقول تعالى ذكره : إن قوم نوح الذين كذّبوا بآياتنا كانوا قوم سوء ، يسيئون الأعمال ، فيعصون الله ويخالفون أمره.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر داود وسليمان يا محمد إذ يحكمان في الحرث.
واختلف أهل التأويل في ذلك الحرث ما كان ؟ فقال بعضهم : كان نبتا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن إسحاق ، عن مرّة في قوله( إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ) قال : كان الحرث نبتا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قَتادة ، قال : ذكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا.
وقال آخرون : بل كان ذلك الحرث كَرْما.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا المحاربيّ ، عن أشعث ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، عن ابن مسعود ، في قوله( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ) قال : كَرْم قد أنبت عناقيده.

(18/474)


حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن مسروق ، عن شريح ، قال : كان الحرث كَرما.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قال الله تبارك وتعالى( إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ) والحرث : إنما هو حرث الأرض ، وجائز أن يكون ذلك كان زرعا ، وجائز أن يكون غَرْسا ، وغير ضائر الجهل بأيّ ذلك كان.
وقوله( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) (1) يقول : حين دخلت في هذا الحرث غنم القوم الآخرين من غير أهل الحرث ليلا فرعته أو أفسدته( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) يقول : وكنا لحكم داود وسليمان والقوم الذين حكما بينهم فيما أفسدت غنم أهل الغنم من حرث أهل الحرث ، شاهدين لا يخفى علينا منه شيء ، ولا يغيب عنا علمه وقوله(فَفهَّمْناها) يقول : ففهَّمنا القضية في ذلك(سُلَيْمانَ) دون داود ، ( وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ) يقول : وكلهم من داود وسليمان والرسل الذين ذكرهم في أوّل هذه السورة آتينا حكما وهو النبوة ، وعلما : يعني وعلما بأحكام الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصمّ قالا ثنا المحاربيّ ، عن أشعث ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، عن ابن مسعود ، في قوله( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : كرم قد أنبت عناقيده فأفسدته ، قال : فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم ، فقال سليمان غير هذا يا نبيّ الله ، قال : وما ذاك ؟ قال : يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها ، حتى إذا كان الكرم كما كان دَفعت الكرم إلى صاحبه ، ودَفعت الغنم إلى صاحبها ، فذلك قوله( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ).
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي
__________
(1) نفشت الماشية في الزرع : تفرقت فيه ليلا ترعاه وليس معها راع والفعل من ... .

(18/475)


الْحَرْثِ )... إلى قوله( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) يقول : كنا لما حكما شاهدين ، وذلك أن رجلين دخلا على داود ، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الحرث : إن هذا أرسل غنمه في حرثي ، فلم يُبق من حرثي شيئا ، فقال له داود : اذهب فإن الغنم كلها لك ، فقضى بذلك داود ، ومرّ صاحب الغنم بسليمان ، فأخبره بالذي قضى به داود ، فدخل سليمان على داود فقالا يا نبيّ الله إن القضاء سوى الذي قضيت ، فقال : كيف ؟ قال سليمان : إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه في كل عام ، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث ، فإن الغنم لها نسل في كلّ عام ، فقال داود : قد أصبت ، القضاء كما قضيت ، ففهَّمها الله سليمان.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن علي بن زيد ، قال : ثني خليفة ، عن ابن عباس قال : قضى داود بالغنم لأصحاب الحرث ، فخرج الرُّعاة معهم الكلاب ، فقال سليمان : كيف قضى بينكم ؟ فأخبروه ، فقال : لو وافيت أمركم لقضيت بغير هذا ، فأُخبر بذلك داود ، فدعاه فقال : كيف تقضي بينهم ؟ قال : أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث ، فيكون لهم أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها ، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم ، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه ، أخذ أصحاب الحرث الحرث ، وردّوا الغنم إلى أصحابها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، قال : ثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث ، وحكم سليمان بجزة الغنم وألبانها لأهل الحرث ، وعليهم رعايتها على أهل الحرث ، ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون الحرث كهيئته يوم أُكل ، ثم يدفعونه إلى أهله ويأخذون غنمهم.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثني ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج بنحوه ، إلا أنه قال : وعليهم رعيها.

(18/476)


حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن إسحاق ، عن مرّة في قوله( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : كان الحرث نبتا ، فنفشت فيه ليلا فاختصموا فيه إلى داود ، فقضى بالغنم لأصحاب الحرث. فمرّوا على سليمان ، فذكروا ذلك له ، فقال : لا تُدفع الغنم فيصيبون منها ، يعني أصحاب الحرث ويقوم هؤلاء على حرثهم ، فإذا كان كما كان ردوا عليهم. فنزلت( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ).
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن مسروق ، عن شريح ، في قوله( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : كان النفْش ليلا وكان الحرث كرما ، قال : فجعل داود الغنم لصاحب الكرم ، قال : فقال سليمان : إن صاحب الكرم قد بقي له أصل أرضه وأصل كرمه ، فاجعل له أصوافها وألبانها! قال : فهو قول الله( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ).
حدثنا ابن أبي زياد ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن عامر ، قال : جاء رجلان إلى شُرَيح ، فقال أحدهما : إن شياه هذا قطعت غَزْلا لي ، فقال شريح : نهارا أم ليلا ؟ قال : إن كان نهارا فقد برئ صاحب الشياه ، وإن كان ليلا فقد ضمن ، ثم قرأ( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : كان النفش ليلا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن عامر ، عن شريح بنحوه.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي ، عن شريح ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ )... الآية ، النفْش بالليل ، والهَمَل بالنهار.
وذُكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا فُرفع ذلك إلى داود ، فقضى بالغنم لأصحاب الزرع ، فقال سليمان : ليس كذلك ، ولكن له نسلها ورَسْلها وعوارضها وجُزازها ، حتى إذا كان من العام المقبل كهيئه يوم أكل ، دفعت الغنم إلى ربها وقبض صاحب الزرع زرعه ، فقال الله( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ).

(18/477)


حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتَادة والزهري( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : نفشت غنم في حرث قوم ، قال الزهري : والنفش لا يكون إلا ليلا فقضى داود أن يأخذ الغنم ، ففهمها الله سليمان ، قال : فلما أخبر بقضاء داود ، قال : لا ولكن خذوا الغنم ، ولكم ما خرج من رسلها وأولادها وأصوافها إلى الحول.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : في حرث قوم ، قال معمر : قال الزهري : النفش لا يكون إلا بالليل ، والهمل بالنهار ، قال قَتادة : فقضى أن يأخذوا الغنم ، ففهمها الله سليمان ، ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث عبد الأعلى.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ )... الآيتين ، قال : انفلت غنم رجل على حرث رجل فأكلته ، فجاء إلى داود ، فقضى فيها بالغنم لصاحب الحرث بما أكلت ، وكأنه رأى أنه وجه ذلك ، فمرّوا بسليمان ، فقال : ما قضى بينكم نبيّ الله ؟ فأخبروه ، فقال : ألا أقضي بينكما عسى أن ترضيا به ؟ فقالا نعم. فقال : أما أنت يا صاحب الحرث ، فخذ غنم هذا الرجل فكن فيها كما كان صاحبها ، أصب من لبنها وعارضتها وكذا وكذا ما كان يصيب ، وأحرث أنت يا صاحب الغنم حرث هذا الرجل ، حتى إذا كان حرثه مثله ليلة نفشت فيه غنمك ، فأعطه حرثه ، وخذ غنمك ، فذلك قول الله تبارك وتعالى( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) وقرأ حتى بلغ قوله( وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، في قوله( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال : رعت.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : النفش : الرعية تحت الليل.
قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن حرام بن محيصة

(18/478)


بن مسعود ، قال : " دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطا لبعض الأنصار فأفسدته ، فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال( إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) فقضى على البراء بما أفسدته الناقة ، وقال عَلى أصحَابِ المَاشِيةِ حِفْظُ المَاشِيَةِ باللَّيْلِ ، وَعَلى أصحَابِ الحَوَائِطِ حِفْظُ حِيطانِهِمْ بالنَّهارِ " .
قال الزهري : وكان قضاء داود وسليمان في ذلك أن رجلا دخلت ماشيته زرعا لرجل فأفسدته ، ولا يكون النفوش إلا بالليل ، فارتفعا إلى داود ، فقضى بغنم صاحب الغنم لصاحب الزرع ، فانصرفا فمرا بسليمان ، فقال : بماذا قضى بينكما نبيّ الله ؟ فقالا قضى بالغنم لصاحب الزرع ، فقال : إن الحكم لعلى غير هذا ، انصرفا معي! فأتى أباه داود ، فقال : يا نبيّ الله ، قضيت على هذا بغنمه لصاحب الزرع ؟ قال نعم. قال : يا نبيّ الله ، إن الحكم لعلى غير هذا ، قال : وكيف يا بنيّ ؟ قال : تدفع الغنم إلى صاحب الزرع ، فيصيب من ألبانها وسمونها وأصوافها ، وتدفع الزرع إلى صاحب الغنم يقوم عليه ، فإذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم عليها ، ردّت الغنم على صاحب الغنم ، وردّ الزرع إلى صاحب الزرع ، فقال داود : لا يقطع الله فمك ، فقضى بما قضى سليمان ، قال الزهري : فذلك قوله( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ )... إلى قوله( حُكْمًا وَعِلْمًا ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، وعليّ بن مجاهد ، عن محمد بن إسحاق ، قال : فحدثني من سمع الحسن يقول : كان الحكم بما قضى به سليمان ، ولم يعنف الله داود في حكمه.
وقوله( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ) يقول تعالى ذكره : وسخرنا مع داود الجبال ، والطير يسبحن معه إذا سبح.
وكان قَتادة يقول في معنى قوله( يُسَبِّحْنَ ) في هذا الموضع ما حدثنا به بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ) : أي يصلين مع داود إذا صلى.
وقوله( وَكُنَّا فَاعِلِينَ ) يقول : وكنا قد قضينا أنا فاعلو ذلك ، ومسخرو الجبال والطير في أمّ الكتاب مع داود عليه الصلاة والسلام.

(18/479)


وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) }
يقول تعالى ذكره : وعلمنا داود صنعة لبوس لكم ، واللبوس عند العرب : السلاح كله ، درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا ، يدلّ على ذلك قول الهُذليّ :
وَمَعِي لَبُوسٌ لِلَّبِيسِ كأنَّهُ... رَوقٌ بِجَبْهَةِ ذِي نِعاجٍ مُجْفِلِ (1)
وإنما يصف بذلك رمحا ، وأما في هذا الموضع فإن أهل التأويل قالوا : عنى الدروع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ )... الآية ، قال : كانت قبل داود صفائح ، قال : وكان أوّل من صنع هذا الحلق وسرد داود.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ) قال : كانت صفائح ، فأوّل من سَرَدَها وحَلَّقها داود عليه السلام.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله(لِتُحْصِنَكُمْ) فقرأ ذلك أكثر قرّاء الأمصار( لِيُحْصِنَكُمْ ) بالياء ، بمعنى : ليحصنكم اللَّبوس من بأسكم ، ذَكَّروه لتذكير اللَّبوس ، وقرأ ذلك أبو جعفر يزيد بن القعقاع(لِتُحْصِنَكُمْ) بالتاء ، بمعنى : لتحصنكم الصنعة ، فأنث لتأنيث الصنعة ، وقرأ شيبة بن نصاح وعاصم بن أبي النَّجود( لِنُحْصِنَكُمْ) بالنون ، بمعنى : لنحصنكم نحن من بأسكم.
قال أبو جعفر : وأولى القراءات في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه
__________
(1) البيت في ( اللسان : لبس ) . واللبوس : ما يلبس ، واللبوس : الثياب والسلاح ، مذكر ، فإن ذهبت به إلى الدرع أنثت وقال الله تعالى : ( وعلمناه صنعة لبوس لكم ) : قالوا : هي الدرع تلبس في الحروب .
واستشهد المؤلف بالبيت على أن اللبوس عام في السلاح كله : الدرع والسيف والرمح والجوشن . والتشبيه في البيت يعطي ما قاله المؤلف ، لأن الشاعر يشبه رمحا بروق الثور المجفل ، يدافع عن نعاجه ، وهي بقر الوحش .

(18/480)


وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)

بالياء ، لأنها القراءة التي عليها الحجة من قرّاء الأمصار ، وإن كانت القراءات الثلاث التي ذكرناها متقاربات المعاني ، وذلك أن الصنعة هي اللبوس ، واللَّبوس هي الصنعة ، والله هو المحصن به من البأس ، وهو المحصن بتصيير الله إياه كذلك ، ومعنى قوله : (لِيُحْصِنَكُمْ) ليحرزكم ، وهو من قوله : قد أحصن فلان جاريته ، وقد بيَّنا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل ، والبأس : القتال ، وعلَّمنا داود صنعة سلاح لكم ليحرزكم إذا لبستموه ، ولقيتم فيه أعداءكم من القتل.
وقوله( فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ) يقول : فهل أنتم أيها الناس شاكرو الله على نعمته عليكم بما علَّمكم من صنعة اللبوس المحصن في الحرب وغير ذلك من نعمه عليكم ، يقول : فاشكروني على ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) }
يقول تعالى ذكره(وَ) سخرنا(لِسُلَيْمانَ) بن داود( الرِّيحَ عَاصِفَةً ) وعصوفُها : شدة هبوبها ؛ ( تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) يقول : تجري الريح بأمر سليمان إلى الأرض التي باركنا فيها ، يعني : إلى الشام ، وذلك أنها كانت تجري بسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان ، ثم تعود به إلى منزله بالشام ، فلذلك قيل : ( إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ).
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير ، وقام له الجنّ والإنس حتى يجلس إلى سريره ، وكان امرءا غزّاء ، قلما يقعد عن الغزو ، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله ، وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو ، أمر بعسكره فضَرب له بخشب ، ثم نصب له على الخشب ، ثم حمل عليه الناس والدوابّ وآلة الحرب كلها ، حتى إذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح ، فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته ، حتى إذا استقلت أمر الرخاء ، فمدّته شهرا في روحته ، وشهرا في غدوته إلى حيث أراد ، يقول الله عزّ وجل( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ قال

(18/481)


وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ) قال : فذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتاب كتبه بعض صحابة سليمان ، إما من الجنّ وإما من الإنس ، نحن نزلناه وما بنيناه ، ومبنيا وجدناه ، غدونا من إصطخر فقلناه ، ونحن راحلون منه إن شاء الله قائلون الشام.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً )... إلى قوله( وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ) قال : ورث الله سليمان داود ، فورثه نبوّته وملكه وزاده على ذلك أن سخر له الريح والشياطين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ) قال : عاصفة شديدة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها ، قال : الشام.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار بالنصب على المعنى الذي ذكرناه ، وقرأ ذلك عبد الرحمن الأعرج( الرِّيحُ) رفعا بالكلام في سليمان على ابتداء الخبر عن أن لسليمان الريح.
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله( وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) يقول : وكنا عالمين بأن فعلنا ما فعلنا لسليمان من تسخيرنا له ، وإعطائنا ما أعطيناه من الملك وصلاح الخلق ، فعلى علم منا بموضع ما فعلنا به من ذلك فعلنا ، ونحن عالمون بكل شيء لا يخفى علينا منه شيء.

(18/482)


وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) }
يقول تعالى ذكره : وسخرنا أيضا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في البحر ، ويعملون عملا دون ذلك من البنيان والتماثيل والمحاريب( وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ) ، يقول : وكنا لأعمالهم ولأعدادهم حافظين ، لا يئودنا حفظ ذلك كله.

(18/482)


وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر أيوب يا محمد ، إذ نادى ربه وقد مسه الضرّ والبلاء( رب أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له ) يقول تعالى ذكره : فاستجبنا لأيوب دعاءه إذ نادانا ، فكشفنا ما كان به من ضرّ وبلاء وجهد ، وكان الضر الذي أصابه والبلاء الذي نزل به امتحانًا من الله له واختبارًا .
وكان سبب ذلك كما حدثني محمد بن سهل بن عسكر البخاري ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن هشام ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل (1) ، قال : سمعت وهب بن منبه يقول : كان بدء أمر أيوب الصديق صلوات الله عليه ، أنه كان صابرا نعم العبد ، قال وهب : إن لجبريل بين يدي الله مقاما ليس لأحد من الملائكة في القربة من الله والفضيلة عنده ، وإن جبريل هو الذي يتلقى الكلام ، فإذا ذكر الله عبدا بخير تلقاه جبرائيل منه ، ثم تلقاه ميكائيل ، وحَوْله الملائكة المقرّبون حافين من حول العرش ، وشاع ذلك في الملائكة المقرّبين ، صارت الصلاة على ذلك العبد من أهل السماوات ، فإذا صلت عليه ملائكة السماوات ، هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض ، وكان إبليس لا يُحْجَب بشيء من السماوات ، وكان يقف فيهن حيث شاء ما أرادوا. ومن
__________
(1) عبد الصمد بن معقل ، بكسر القاف اليماني ؛ يروى عن عمه وهب بن منبه وعنه ابن أخيه إسماعيل بن عبد الكريم وثقه أحمد . مات سنة ثلاث وثمانين ومئة . ( عن الخلاصة ) . وهذا الحديث من أحاديث أهل الكتاب ، رواه وهب وكعب وغيرهما من أهل الكتاب ، كما قال الثعلبي في عرائس المجالس ( ص 153 - 163 ) طبعة شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة . وأصله في الكتاب المقدس سفر أيوب ( 793 - 833 ) .

(18/483)


هنالك وصل إلى آدم حين أخرجه من الجنة ، فلم يزل على ذلك يصعد في السماوات ، حتى رفع الله عيسى ابن مريم ، فحُجِب من أربع ، وكان يصعد في ثلاث ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم حُجِب من الثلاث الباقية ، فهو محجوب هو وجميع جنوده من جميع السماوات إلى يوم القيامة( إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ) ولذلك أنكرت الجنّ ما كانت تعرف حين قالت : ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا )... إلى قوله( شِهَابًا رَصَدًا ) .
قال وهب : فلم يَرُعْ إبليس إلا تجاوبُ ملائكتها بالصلاة على أيوب ، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه ، فلما سمع إبليس صلاة الملائكة ، أدركه البغي والحسد ، وصعد سريعا حتى وقف من الله مكانا كان يقفه ، فقال : يا إلهي ، نظرت في أمر عبدك أيوب ، فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك ، وعافيته فحمدك ، ثم لم تجرّبه بشدة ولم تجرّبه ببلاء ، وأنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرنّ بك ولينسينك وليعبدنّ غيرك ، قال الله تبارك وتعالى له : انطلق ، فقد سلطتك على ماله ، فإنه الأمر الذي تزعم أنه من أجله يشكرني ، ليس لك سلطان على جسده ، ولا على عقله ، فانقض عدوّ الله ، حتى وقع على الأرض ، ثم جمع عفاريت الشياطين وعظماءهم ، وكان لأيوب البَشَنِية من الشام كلها بما فيها من شرقها وغربها ، وكان له بها ألف شاة برعاتها وخمس مئة فدان يتبعها خمس مئة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ومال ، وحمل آلة كل فدان أتان ، لكل أتان ولد من اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك ، فلما جمع إبليس الشياطين ، قال لهم : ماذا عندكم من القوّة والمعرفة ؟ فإني قد سُلطت على مال أيوب ، فهي المصيبة الفادحة ، والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال ، قال عفريت من الشياطين : أعطيت من القوّة ما إذا شئت تحوّلت إعصارا من نار فأحرقت كل شيء آتي عليه ، فقال له إبليس : فأت الإبل ورُعاتَها ، فانطلق يؤمّ الإبل ، وذلك حين وضعت رؤوسها وثبتت في مراعيها ، فلم تشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار تنفخ منها أرواح السموم ، لا يدنو منها أحد إلا احترق فلم يزل يُحْرقها ورعاتَها حتى أتى على آخرها ، فلما فرغ منها تمثل إبليس على قَعود منها

(18/484)


براعيها ، ثم انطلق يؤمّ أيوب حتى وجده قائما يصلي ، فقال : يا أيوب ، قال : لبيك ، قال : هل تدري ما الذي صنع ربك ؟ الذي اخترت وعبدت ووحدت بإبلك ورعاتها ، قال أيوب : إنها ماله أعارنيه ، وهو أولى به إذا شاء نزعه ، وقديما ما وطَّنْت نفسي ومالي على الفناء ، قال إبليس : وإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت ورعاتُها ، حتى أتى على آخر شيء منها ومن رعاتها ، فتركت الناس مبهوتين ، وهم وقوف عليها يتعجبون ، منهم من يقول : ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور ، ومنهم من يقول : لو كان إله أيوب يقدر على أن يمنع من ذلك شيئا لمنع وليه ، ومنهم من يقول : بل هو فعل الذي فعل ليُشمت به عدوه ، وليفجع به صديقه ، قال أيوب : الحمد لله حين أعطاني ، وحين نزع مني ، عُرْيانا خرجت من بطن أمي ، وعريانا أعود في التراب ، وعريانا أحشر إلى الله ، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك الله وتجزع حين قبض عاريته ، الله أولى بك ، وبما أعطاك ، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع ملك الأرواح ، فآجرني فيك وصرت شهيدا ، ولكنه علم منك شرّا فأخرك من أجله ، فعرّاك الله من المصيبة ، وخلصك من البلاء كما يخلص الزُّوان من القمح الخلاص.
ثم رجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا فقال لهم : ماذا عندكم من القوّة ، فإني لم أكلم قلبه ؟ قال عفريت من عظمائهم عندي من القوّة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه ، قال له إبليس : فأت الغنم ورعاتَها ، فانطلق يؤمّ الغنم ورعاتها ، حتى إذا وَسَطها صاح صوتا جثمت أمواتا من عند آخرها ورعاءَها ، ثم خرج إبليس متمثلا بقَهْرمان الرّعاء (1) ، حتى إذا جاء أيوب وجده وهو قائم يصلي ، فقال له القول الأوّل ، وردّ عليه أيوب الرّد الأوّل ، ثم إن إبليس رجع إلى أصحابه ، فقال لهم : ماذا عندكم من القوّة ، فإني لم أكلم قلب أيوب ؟ فقال عفريت من عظمائهم : عندي من القوّة إذا شئت تحوّلت ريحا عاصفا تنسف كل شيء تأتي عليه ، حتى لا أبقي شيئا ، قال له
__________
(1) المراد بقهرمان الرعاء : وكيل صاحب المال ، المختص بتدبير أمر الدعاء .

(18/485)


إبليس : فأت الفدادين والحرث ، فانطلق يؤمهم ، وذلك حين قَربوا الفَدَادين وأنشئوا في الحرث ، والأتن وأولادها رُتوع ، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف تنسف كل شيء من ذلك ، حتى كأنه لم يكن ، ثم خرج إبليس متمثلا بقهْرمان الحَرْث ، حتى جاء أيوب وهو قائم يصلي ، فقال له مثل قوله الأوّل ، ورد عليه أيوب مثل ردّه الأوّل.
فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ، ولم ينجح منه ، صعد سريعا ، حتى وقف من الله الموقف الذي كان يقفه ، فقال : يا إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بنفسه وولده (1) ، فأنت معطيه المال ، فهل أنت مسلطي على ولده ؟ فإنها الفتنة المضلة ، والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال ، ولا يقوى عليها صبرهم ، فقال الله تعالى له : انطلق ، فقد سلَّطتك على ولده ، ولا سلطان لك على قلبه ولا جسده ، ولا على عقله ، فانقضّ عدو الله جوادا ، حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم ، فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده ، ثم جعل يناطح الجُدُر بعضها ببعض ، ويرميهم بالخشب والجندل ، حتى إذا مَثَّل بهم كل مُثْلة ، رفع بهم القصر ، حتى إذا أقلَّه بهم فصاروا فيه منكَّسين ، انطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلِّم الذي كان يعلمهم الحكمة ، وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه ، متغيرا لا يكاد يُعرف من شدّة التغير ، والمُثْلة التي جاء متمثلا فيها ، فلما نظر إليه أيوب هاله ، وحزن ودمعت عيناه ، وقال له : يا أيوب ، لو رأيت كيف أفلتّ من حيث أفلت ، والذي رمانا به من فوقنا ومن تحتنا ، ولو رأيت بنيك كيف عُذّبوا ، وكيف مُثِّل بهم ، وكيف قُلِبوا فكانوا منكَّسين على رءوسهم ، تسيل دماؤهم ودماغهم من أنوفهم وأجوافهم ، وتقطر من أشفارهم ، ولو رأيت كيف شُقَّتْ بطونهم ، فتناثرت أمعاؤهم ، ولو رأيت كيف قُذِفوا بالخشب والجندل يشدخ دماغهم ، وكيف دقّ الخشب عظامهم ، وخرق جلودهم ، وقطع عصبهم ، ولو رأيت العصب عريانا ، ولو رأيت العظام متهشمة في الأجواف ، ولو رأيت الوجوه مشدوخة ، ولو رأيت الجُدُر تَناطَحُ عليهم ، ولو رأيت ما رأيت ، قطع قلبك ، فلم يزل يقول هذا ونحوه ، ولم يزل يرقّقه حتى رقّ أيوب فبكى ، وقبض قبضة
__________
(1) انظر عبارة الثعلبي المفسر في هذا المقام في عرائس المجالس ، ص 155 فإنها أوضح وأدق .

(18/486)


من تراب ، فوضعها على رأسه ، فاغتنم إبليس(الفرصة منه ) (1) عند ذلك ، فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به ، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر ، فاستغفر ، وصَعَد قرناؤه من الملائكة بتوبة منه ، فبدروا إبليس إلى الله ، فوجدوه قد علم بالذي رُفع إليه من توبة أيوب ، فوقف إبليس خازيا ذليلا فقال : يا إلهي ، إنما هوّن على أيوب خَطَر المال والولد ، أنه يرى أنك ما متعته بنفسه ، فأنت تعيد له المال والولد ، فهل أنت مسلِّطي على جسده ؟ فأنا لك زعيم لئن ابتليته في جسده لينسينك ، وليكفرنّ بك ، وليَجْحَدنَّكَ نعمتك ، قال الله : انطلق فقد سلطتك على جسده ، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ، ولا على عقله.
فانقضّ عدوّ الله جوادا ، فوجد أيوب ساجدا ، فعجَّل قبل أن يرفع رأسه ، فأتاه من قِبَل الأرض في موضع وجهه ، فنفخ في منخره نفخه اشتعل منها جسده ، فترهل ، ونبتت(به) : ثآليل مثل أليات الغنم ، ووقعت فيه حكة لا يملكها ، فحكّ بأظفاره حتى سقطت كلها ، ثم حكّ بالعظام ، وحكّ بالحجارة الخشنة ، وبقطع المُسوح الخشنة ، فلم يزل يحكه حتى نَفِد لحمه وتقطع ، ولما نَغِلَ جلد أيوب وتغير وأنتن ، أخرجه أهل القرية ، فجعلوه على تلّ وجعلوا له عريشا ، ورفضه خلق الله غير امرأته ، فكانت تختلف إليه بما يُصلحه ويلزمه ، وكان ثلاثة من أصحابه اتبعوه على دينه ، فلما رأوا ما ابتلاه الله به رفضوه من غير أن يتركوا دينه واتهموه ، يُقال لأحدهم بلدد ، وأليفز ، وصافر (2) ، قال : فانطلق إليه الثلاثة ، وهو في بلائه ، فبكتوه : فلما سمع منهم أقبل على ربه ، فقال أيوب صلى الله عليه وسلم : ربّ لأيّ شيء خلقتني ؟ لو كنتَ إذْ كرهتني في الخير تركتني فلم تخلقني ، يا ليتني كنت حَيْضة ألقتني أمي ، ويا ليتني مِتّ في بطنها ، فلم أعرف شيئا ولم تعرفني ، ما الذنب الذي أذنبت لم يذنبه أحد غيري ، وما العمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني ، لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي ، فالموت كان أجمل بي ، فأسوة لي بالسلاطين الذي صُفَّت من دونهم الجيوش ،
__________
(1) انظر عرائس المجالس للثعلبي المفسر ص 155 .
(2) وردت أسماء أصحاب أيوب الثلاثة في الكتاب المقدس ص 795 وهو : أليفاز التيماني ، وبلدد الشوحي ، وصوفر النعمائي .

(18/487)


يضربون عنهم بالسيوف بخلا بهم عن الموت ، وحرصا على بقائهم ، أصبحوا في القبور جاثمين ، حتى ظنوا أنهم سيخلَّدون ، وأسوة لي بالملوك الذين كنزوا الكنوز ، وطَمروا المطامير ، وجمعوا الجموع ، وظنوا أنهم سيخلدون ، وأسوة لي بالجبارين الذين بنوا المدائن والحصون ، وعاشوا فيها المئين من السنين ، ثم أصبحت خرابا ، مأوى للوحوش ، ومثنى للشياطين.
قال أليفز التيماني : قد أعيانا أمرك يا أيوب ، إن كلَّمناك فما نرج للحديث منك موضعا ، وإن نسكت عنك مع الذي نرى فيك من البلاء ، فذلك علينا ، قد كنا نرى من أعمالك أعمالا كنا نرجو لك عليها من الثواب غير ما رأينا ، فإنما يحصد امرؤ ما زرع ، ويجزى بما عمل ، أشهد على الله الذي لا يقدر قدر عظمته ، ولا يحصى عدد نعمه ، الذي ينزل الماء من السماء فيحيي به الميت ، ويرفع به الخافض ، ويقوّي به الضعيف : الذي تضلّ حكمة الحكماء عند حكمته ، وعلم العلماء عند علمه ، حتى تراهم من العيّ في ظلمة يموجون ، أن من رجا معونة الله هو القويّ ، وإن من توكل عليه هو المكفيّ ، هو الذي يكسر ويجبر ويجرح ويداوي.
قال أيوب : لذلك سكتّ فَعضِضْت على لساني ، ووضعت لسوء الخدمة رأسي ، لأني علمت أن عقوبته غيرت نور وجهي ، وأن قوته نزعت قوّة جسدي ، فأنا عبده ، ما قضى عليّ أصابني ، ولا قوّة لي إلا ما حمل عليّ ، لو كانت عظامي من حديد ، وجسدي من نُحاس ، وقلبي من حجارة ، لم أطق هذا الأمر ، ولكن هو ابتلاني ، وهو يحمله عني ، أتيتموني غِضابا ، رهبتم قبل أن تسترهبوا ، وبكيتم من قبل أن تُضربوا ، كيف بي لو قلت لكم : تصدّقوا عني بأموالكم ، لعلّ الله أن يخلصني ، أو قرّبوا عني قربانا لعلّ الله أن يتقبله مني ويرضى عني ، إذا استيقظت تمنَّيت النوم رجاء أن أستريح ، فإذا نمت كادت تجود نفسي ، تقطَّعت أصابعي ، فإني لأرفع اللقمة من الطعام بيديّ جميعا فما تبلغان فمي إلا على الجهد مني ، تساقطت لَهَواتي ونخر رأسي ، فما بين أذنيّ من سداد ، حتى إن إحداهما لترى من الأخرى ، وإن دماغي ليسيل من فمي ، تساقط شعري عني ، فكأنما حُرِّق بالنار وجهي ، وحدقتاي هما متدليتان على

(18/488)


خدي ، ورم لساني حتى ملأ فمي ، فما أُدخل فيه طعاما إلا غصني ، وورمت شفتاي حتى غطَّت العليا أنفي ، والسفلى ذقني ، تقطَّعت أمعائي في بطني ، فإني لأدخل الطعام فيخرج كما دخل ، ما أحسه ولا ينفعني ، ذهبت قوة رجليّ ، فكأنهما قربتا ماء مُلئتا ، لا أطيق حملهما ، أحمل لحافي بيديّ وأسناني ، فما أطيق حمله حتى يحمله معي غيري ، ذهب المال فصرت أسأل بكفي ، فيطعمني من كنت أعوله اللقمةَ الواحدة ، فيمنُّها عليّ ويعيِّرني ، هلك بَنيّ وبناتي ، ولو بقي منهم أحد أعانني على بلائي ونفعني ، وليس العذاب بعذاب الدنيا ، إنه يزول عن أهلها ، ويموتون عنه ، ولكن طوبى لمن كانت له راحة في الدار التي لا يموت أهلها ، ولا يتحوّلون عن منازلهم ، السعيد من سعد هنالك والشقي من شقي فيها.
قال بِلدد : كيف يقوم لسانك بهذا القول ، وكيف تفصح به ، أتقول إن العدل يجور ، أم تقول إن القويّ يضعف ؟ ابك على خطيئتك وتضرّع إلى ربك عسى أن يرحمك ، ويتجاوز عن ذنبك ، وعسى إن كنت بريئا أن يجعل هذا لك ذخرا في آخرتك ، وإن كان قلبك قد قسا فإن قولنا لن ينفعك ، ولن يأخذ فيك ، هيهات أن تنبت الآجام في المفاوز ، وهيهات أن ينبت البَرْديّ في الفلاة ، من توكل على الضعيف كيف يرجو أن يمنعه ، ومن جحد الحقّ كيف يرجو أن يوفّي حقه ؟.
قال أيوب : إني لأعلم أن هذا هو الحقّ ، لن يَفْلُج العبد على ربه ، ولا يطيق أن يخاصمه ، فأيّ كلام لي معه ، وإن كان إليّ القوّة هو الذي سمك السماء فأقامها وحده ، وهو الذي يكشطها إذا شاء فتنطوي له ، وهو الذي سطح الأرض فدحاها وحده ، ونصب فيها الجبال الراسيات ، ثم هو الذي يزلزلها من أصولها حتى تعود أسافلها أعاليها ، وإن كان فيّ الكلام ، فأيّ كلام لي معه ، من خلق العرش العظيم بكلمة واحدة ، فحشاه السماوات والأرض وما فيهما من الخلق ، فوسعه وهو في سعة واسعة ، وهو الذي كلَّم البحار ففهمت قوله ، وأمرها ، فلم تعْد أمره ، وهو الذي يفقه الحِيتان والطير وكل دابَّة ، وهو الذي يكلم الموتى فيحييهم قوله ، ويكلم الحجارة فتفهم قوله ويأمرها فتطيعه.
قال أليفز : عظيم ما تقول يا أيوب ، إن الجلود لتقشعرّ من ذكر ما تقول ،

(18/489)


إنما أصابك ما أصابك بغير ذنب أذنبته ، مثل هذه الحدّة ، وهذا القول أنزلك هذه المنزلة ، عظُمت خطيئتك ، وكثر طلابك ، وَغَصَبْت أهل الأموال على أموالهم ، فلبست وهم عراة ، وأكلت وهم جياع ، وحبست عن الضعيف بابك ، وعن الجائع طعامك ، وعن المحتاج معروفك ، وأسررت ذلك وأخفيته في بيتك ، وأظهرت أعمالا كنا نراك تعملها ، فظننت أن الله لا يجزيك إلا على ما ظهر منك ، وظننت أن الله لا يطلع على ما غيبت في بيتك ، وكيف لا يطَّلع على ذلك وهو يعلم ما غيَّبت الأرضون وما تحت الظلمات والهواء ؟.
قال أيوب صلى الله عليه وسلم : إن تكلمت لم ينفعني الكلام ، وإن سكت لم تعذروني ، قد وقع عليّ كَيْدي ، وأسخطت ربي بخطيئتي ، وأشمتّ أعدائي ، وأمكنتهم من عنقي ، وجعلتني للبلاء غَرَضا ، وجعلتني للفتنة نُصبا ، لم تنفسني مع ذلك ، ولكن أتبعني ببلاء على إثر بلاء ، ألم أكن للغريب دارا ، وللمسكين قرارا ، ولليتيم وليًّا ، وللأرملة قَيِّما ؟ ما رأيت غريبا إلا كنت له دارا مكان داره وقرارا مكان قراره ، ولا رأيت مسكينا إلا كنت له مالا مكان ماله وأهلا مكان أهله ، وما رأيت يتيما إلا كنت له أبا مكان أبيه ، وما رأيت أيِّما إلا كنت لها قيِّما ترضّى قيامه ، وأنا عبد ذليل ، إن أحسنت لم يكن لي كلام بإحسان ، لأن المنّ لربي وليس لي ، وإن أسأت فبيده عقوبتي ، وقد وقع عليّ بلاء لو سلَّطته على جبل ضعف عن حمله ، فكيف يحمله ضعفي ؟.
قال أليفز : أتحاجّ الله يا أيوب في أمره ، أم تريد أن تناصفه وأنت خاطئ ، أو تبرئها وأنت غير بريء ؟ خلق السماوات والأرض بالحقّ ، وأحصى ما فيهما من الخلق ، فكيف لا يعلم ما أسررت ، وكيف لا يعلم ما عملت فيجزيَك به ؟ وضع الله ملائكة صفوفا حول عرشه وعلى أرجاء سماواته ، ثم احتجب بالنور ، فأبصارهم عنه كليلة ، وقوّتهم عنه ضعيفة ، وعزيزهم عنه ذليل ، وأنت تزعم أن لو خاصمك ، وأدلى إلى الحكم معك ، وهل تراه فتناصفه ، أم هل تسمعه فتحاوره ؟ قد عرفنا فيك قضاءه ، إنه من أراد أن يرتفع وضعه ، ومن اتضع له رفعه.
قال أيوب صلى الله عليه وسلم : إن أهلكني فمن ذا الذي يعرض له في عبده ويسأله عن أمره ، لا يردّ غضبه شيء إلا رحمته ، ولا ينفع عبده إلا التضرّع

(18/490)


له ، قال : ربّ أقبل عليّ برحمتك ، وأعلمني ما ذنبي الذي أذنبت ؟ أو لأيّ شيء صرفت وجهك الكريم عني ، وجعلتني لك مثل العدوّ ، وقد كنت تكرمني ، ليس يغيب عنك شيء تُحصي قَطْر الأمطار ، وورق الأشجار ، وذرّ التراب ، أصبح جلدي كالثوب العفن ، بأيه أمسكت سقط في يدي ، فهب لي قُربانا من عندك ، وفرجا من بلائي ، بالقدرة التي تبعث موتى العباد ، وتنشر بها ميت البلاد ، ولا تهلكني بغير أن تعلمني ما ذنبي ، ولا تُفسد عمل يديك ، وإن كنت غنيا عني ، ليس ينبغي في حكمك ظلم ، ولا في نقمتك عَجَل ، وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف ، وإنما يعجل من يخاف الفوت ، ولا تذكرني خطئي وذنوبي ، اذكر كيف خلقتني من طين ، فجُعِلت مضغة ، ثم خلقت المضغة عظاما ، وكسوت العظام لحما وجلدا ، وجعلت العصب والعروق لذلك قَواما وشدة ، وربَّيتني صغيرا ، ورزقتني كبيرا ، ثم حفظت عهدك وفعلت أمرك ، فإن أخطأت فبين لي ، ولا تهلكني غمًّا ، وأعلمني ذنبي ، فإن لم أرضك فأنا أهل أن تعذّبني ، وإن كنت من بين خلقك تحصي عليّ عملي ، وأستغفرك فلا تغفر لي ، إن أحسنت لم أرفع رأسي ، وإن أسأت لم تبلعني ريقي ، ولم تُقِلني عثرتي ، وقد ترى ضعفي تحتك ، وتضرّعي لك ، فلم خلقتني ، أو لم أخرجتني من بطن أمي ، لو كنت كمن لم يكن لكان خيرا لي ، فليست الدنيا عندي بخطر لغضبك ، وليس جسدي يقوم بعذابك ، فارحمني وأذقني طعم العافية من قبل أن أصير إلى ضيق القبر وظلمة الأرض ، وغمّ الموت.
قال صافر : قد تكلمت يا أيوب ، وما يطيق أحد أن يحبس فمك ، تزعم أنك بريء ، فهل ينفعك إن كنت بريئا وعليك من يحصي عملك ، وتزعم أنك تعلم أن الله يغفر لك ذنوبك ، هل تعلم سَمْك السماء كم بُعده ؟ أم هل تعلم عمق الهواء كم بعده ؟ أم هل تعلم أيّ الأرض أعرضها ؟ أم عندك لها من مقدار تقدرها به ؟ أم هل تعلم أيّ البحر أعمقه ؟ أم هل تعلم بأيّ شيء تحبسه ؟ فإن كنت تعلم هذا العلم وإن كنت لا تعلمه ، فإن الله خلقه وهو يحصيه ، لو تركت كثرة الحديث ، وطلبت إلى ربك رجوتَ أن يرحمك ، فبذلك تستخرج رحمته ، وإن كنت تقيم على خطيئتك وترفع إلى الله يديك عند الحاجة وأنت مُصِرّ على ذنبك إصرار الماء الجاري في صَبَب لا يستطاع إحباسه ، فعند طلب الحاجات

(18/491)


إلى الرحمن تسودّ وجوه الأشرار ، وتظلم عيونهم ، وعند ذلك يسرّ بنجاح حوائجهم الذين تركوا الشهوات تزينا بذلك عند ربهم ، وتقدّموا في التضرّع ، ليستحقوا بذلك الرحمة حين يحتاجون إليها ، وهم الذين كابدوا الليل ، واعتزلوا الفرش ، وانتظروا الأسحار.
قال أيوب : أنتم قوم قد أعجبتكم أنفسكم ، وقد كنت فيما خلا والرجال يُوَقِّرونني ، وأنا معروف حقي منتصف من خصمي ، قاهر لمن هو اليوم يقهرني ، يسألني عن علم غيب الله لا أعلمه ويسألني ، فلعمري ما نصح الأخ لأخيه حين نزل به البلاء كذلك ، ولكنه يبكي معه ، وإن كنت جادًّا فإن عقلي يقصر عن الذي تسألني عنه ، فسل طير السماء هل تخبرك ، وسل وحوش الأرض هل تَرْجِع إليك ؟ وسل سباع البرية هل تجيبك ؟ وسل حيتان البحر هل تصف لك كل ما عددت ؟ تعلم أن صنع هذا بحكمته ، وهيأه بلطفه. أما يعلم ابن آدم من الكلام ما سمع بأذنيه ، وما طعم بفيه ، وما شمّ بأنفه ، وأن العلم الذي سألت عنه لا يعلمه إلا الله الذي خلقه ، له الحكمة والجبروت ، وله العظمة واللطف ، وله الجلال والقدرة ، إن أفسد فمن ذا الذي يصلح ؟ وإن أعجم فمن ذا الذي يُفْصح ؟ إن نظر إلى البحار يبست من خوفه ، وإن أذن لها ابتلعت الأرض ، فإنما يحملها بقدرته هو الذي تبْهَت الملوك عند ملكه ، وتطيش العلماء عند علمه ، وتعيا الحكماء عند حكمته ، ويخسأ المبطلون عند سلطانه ، هو الذي يذكر المنسي ، وينسى المذكور ، ويجري الظلمات والنور ، هذا علمي ، وخلقه أعظم من أن يحصيه عقلي ، وعظمته أعظم من أن يقدرها مثلي.
قال بلدد : إن المنافق يجزى بما أسرّ من نفاقه ، وتضلّ عنه العلانية التي خادع بها ، وتوكل على الجزاء بها الذي عملها ، ويهلك ذكره من الدنيا ويظلم نوره في الآخرة ، ويوحش سبيله ، وتوقعه في الأحبولة سريرته ، وينقطع اسمه من الأرض ، فلا ذكر فيها ولا عمران ، لا يرثه ولد مصلحون من بعده ، ولا يبقى له أصل يعرف به ، ويبهت من يراه ، وتقف الأشعار عند ذكره.
قال أيوب : إن أكن غويا فعليّ غواي ، وإن أكن بريا فأيّ منعة عندي ، إن صرخت فمن ذا الذي يصرخني ، وإن سكتُّ فمن ذا الذي يَعْذرني ، ذهب رجائي وانقضت أحلامي ، وتنكرت لي معارفي ؛ دعوت غلامي ، فلم يجبني ،

(18/492)


وتضرّعت لأمتي فلم ترحمني ، وقع عليّ البلاء فرفضوني ، أنتم كنتم أشدّ عليّ من مصيبتي ، انظروا وابهتوا من العجائب التي في جسدي ، أما سمعتم بما أصابني ، وما شغلكم عني ما رأيتم بي ، لو كان عبد يخاصم ربه رجوت أن أتغلب عند الحكم ، ولكن لي ربا جبارا تعالى فوق سماواته ، وألقاني هاهنا ، وهنت عليه ، لا هو عذرني بعذري ، ولا هو أدناني فأخاصم عن نفسي يسمعني ولا أسمعه ، ويراني ولا أراه ، وهو محيط بي ، ولو تجلى لي لذابت كليتاي ، وصعق روحي ، ولو نفسني فأتكلم بملء فمي ، ونزع الهيبة مني ، علمت بأيّ ذنب عذّبني ، نودي فقيل : يا أيوب ، قال : لبيك ، قال : أنا هذا قد دنوت منك ، فقم فاشدد إزارك ، وقم مقام جبار ، فإنه لا ينبغي لي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ، ولا ينبغي أن يخاصمني إلا من يجعل الزنار في فم الأسد ، والسِّخال في فم العنقاء ، واللحم في فم التنين ، ويكيل مكيالا من النور ، ويزن مثقالا من الريح ، ويُصر صُرَّة من الشمس ، ويردّ أمس لغد ، لقد منَّتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوّتك ، ولو كنت إذ منتك نفسك ذلك ودعتك إليه تذكرت أيّ مرام رام بك ، أردت أن تخاصمني بغيَّك ؟ أم أردت أن تحاجيني بخطئك ، أم أردت أن تكاثرني بضعفك ، أين كنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها ، هل علمت بأيّ مقدار قدرتها ؟ أم كنت معي تمرّ بأطرافها ؟ أم تعلم ما بُعد زواياها ؟ أم على أيّ شيء وضعت أكنافها ؟ أبطاعتك حمل ماء الأرض ؟ أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء ، أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا بعلائق ثبتت من فوقها ، ولا يحملها دعائم من تحتها ، هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها ، أو تسير نجومها ، أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها ، أين كنت مني يوم سجرت البحار وأنبعت الأنهار ؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها ؟ أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها ؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ، ونصبت شوامخ الجبال ، هل لك من ذراع تطيق حملها ، أم هل تدري كم مثقال فيها ، أم أين الماء الذي أنزل من السماء ؟ هل تدري أمّ تلده أو أب يولده ؟ أحكمتك أحصت القطر وقسمت الأرزاق ، أم قدرتك تثير السحاب ، وتغشيه الماء ؟ هل تدري ما أصوات الرعود ؟ أم من أي شيء لهب البروق ؟ هل رأيت عمق البحور ؟ أم هل تدري ما بُعد الهواء ، أم هل خزنت أرواح الأموات ؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج ، أو أين خزائن البرد ، أم أين جبال البرد ؟ أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار ، وأين خزانة النهار بالليل ؟ وأين طريق النور ؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار ؟ وأين خزانة الريح ، كيف تحبسه الأغلاق ؟ ومن جعل العقول في أجواف الرجال ؟ ومن شق الأسماع والأبصار ، ومن ذلَّت الملائكة لملكه ، وقهر الجبارين بجبروته ، وقسم أرزاق الدوابّ بحكمته ، ومن قسم للأسد أرزاقها وعرف الطير معايشها ، وعطَّفها على أفراخها ، من أعتق الوحش من الخدمة ، وجعل مساكنها البرية لا تستأنس بالأصوات ، ولا تهاب المسلطين ، أمن حكمتك تفرّعت أفراخ الطير ، وأولاد الدّوابّ لأمهاتها ؟ أم من حكمتك عطفت أمهاتها عليها ، حتى أخرجت لها الطعام من بطونها ، وآثرتها بالعيش على نفوسها ؟ أم من حكمتك يبصر العُقاب ، فأصبح في أماكن القتلى أين أنت مني يوم خلقت بهموت (1) مكانه في منقطع التراب ، والوتينان (2) يحملان الجبال والقرى والعمران ، آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال رؤوسهما ، كأنها آكام الحبال ، وعروق أفخاذهما كأنها أوتاد الحديد ، وكأن جلودهما فِلَق الصخور ، وعظامهما كأنها عَمَد النحاس ، هما رأسا خلقي الذين خلقت للقتال ، أأنت ملأت جلودهما لحما ؟ أم أنت ملأت رؤوسهما دماغا ؟ أم هل لك في خلقهما من شِرك ؟ أم لك بالقوة التي عملتهما يدان ؟ أو هل يبلغ من قوّتك أن تخطم على أنوفهما أو تضع يدك على رؤوسهما ، أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما ، أو تصدّهما عن قوتهما ؟ أين أنت يوم خلقت التّنين ورزقه في البحر ، ومسكنه في السحاب ، عيناه تَوَقَّدان نارا ، ومنخراه يثوران دخانا ، أذناه مثل قوس السحاب ، يثور منهما لهب كأنه إعصار العجاج ، جوفه يحترق ونَفَسه يلتهب ، وزبده كأمثال الصخور ، وكأن صريف أسنانه صوت الصواعق ، وكأن نظر عينيه لهب البرق ، أسراره لا تدخله الهموم ، تمرّ به الجيوش وهو متكئ ، لا يفزعه شيء ليس فيه مفصل [ زُبَر] الحديد عنده مثل التين ، والنحاس عنده مثل الخيوط ، لا يفزع من النُّشاب ، ولا يحسّ وقع الصخور على جسده ، ويضحك من النيازك ، ويسير في الهواء كأنه عصفور ، ويهلك كلّ شيء يمرُّ به ملك الوحوش ، وإياه آثرت بالقوّة على خلقي ، هل أنت آخذه بأحبولتك فرابطه بلسانه ، أو واضع اللجام في شدقه ، أتظنه يوفي بعهدك ، أو يسبح من خوفك ؟ هل تحصي عمره ، أم هل تدري أجله ، أو تفوّت رزقه ؟ أم هل تدري ماذا خرب من الأرض ؟ أم ماذا يخرّب فيما بقي من عمره ؟ أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك ؟ تبارك الله وتعالى ؟
قال أيوب صلى الله عليه وسلم : قَصُرْت عن هذا الأمر الذي تعرض لي ، ليت الأرض انشقت بي ، فذهبت في بلائي ولم أتكلم بشيء يسخط ربي ، اجتمع عليّ البلاء ، إلهي حملتني لك مثل العدوّ ، وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي ، وقد علمت أن الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك ، وأعظم من هذا ما شئت عملت ، لا يعجزك شيء ولا يخفى عليك خافية ، ولا تغيب عنك غائبة ، مَنْ هذا الذي يظن أن يُسِرّ عنك سرّا ، وأنت تعلم ما يخطر على القلوب ؟ وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم ، وخفت حين بلوت أمرك أكثر مما كنت أخاف ، إنما كنت أسمع بسطوتك سمعا ، فأمَّا الآن فهو بصر العين ، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني ، وسكتّ حين سكتّ لترحمني ، كلمة زلت فلن أعود ، قد وضعت يديّ على فمي ، وعضضت على لساني ، وألصقت بالتراب خدّي ، ودست وجهي لصغاري ، وسكت كما أسكتتني خطيئتي ، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني.
قال الله تبارك وتعالى : يا أيوب نفذ فيك علمي ، وبحلمي صرفت عنك غضبي ، إذ خطئت فقد غفرت لك ، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ، فاغتسل بهذا الماء ، فإن فيه شفاءك ، وقرِّب عن صحابتك قُربانا ، واستغفر لهم ، فإنهم قد عصوني فيك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليمانيّ ، وغيره من أهل الكتب الأوَل ، أنه كان من حديث أيوب أنه كان رجلا من الروم ، وكان الله قد اصطفاه ونبأه ، وابتلاه
__________
(1) في الكتاب المقدس ص 831 : " بهيموث " .
(2) في الكتاب المقدس ص 381 : " لوياثان " .

(18/493)


في الغنى بكثرة الولد والمال ، وبسط عليه من الدنيا ، فوسَّع عليه في الرزق ، وكانت له البَشَنية من أرض الشأم ، أعلاها وأسفلها ، وسهلها وجبلها ، وكان له فيها من أصناف المال كله ، من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير ما لا يكون للرجل أفضل منه في العِدة والكثرة ، وكان الله قد أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء ، وكان برًّا تقيا رحيما بالمساكين ، يطعم المساكين ويحمل الأرامل ، ويكفل الأيتام ، ويكرم الضيف ، ويبلِّغ ابن السبيل ، وكان شاكرا لأنعم الله عليه ، مودّيا لحق الله في الغنى ، قد امتنع من عدوّ الله إبليس أن يصيب منه ما أصاب من أهل الغنى من العزّة والغفلة ، والسهو والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا ، وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدّقوه ، وعرفوا فضل ما أعطاه الله على من سواه ، منهم رجل من أهل اليمن يقال له : أليفز ، ورجلان من أهل بلاده يقال لأحدهما : صوفر ، وللآخر : بِلدد ، وكانوا من بلاده كهولا وكان لإبليس عدو الله منزل من السماء السابعة يقع به كلّ سنة موقعا يسأل فيه ، فصعد إلى السماء في ذلك اليوم الذي كان يصعد فيه ، فقال الله له : أو قيل له عن الله : هل قدرت من أيوب عبدي على شيء ؟ قال : أي ربّ وكيف أقدر منه على شيء ؟ أو إنما ابتليتَه بالرخاء والنعمة والسعة والعافية ، وأعطيته الأهل والمال والولد والغنى والعافية في جسده وأهله وماله ، فما له لا يشكرك ويعبدك ويطيعك وقد صنعت ذلك به ، لو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما كان عليه من شكرك ، ولترك عبادتك ، ولخرج من طاعتك إلى غيرها ، أو كما قال عدوّ الله ، فقال : قد سلطتك على أهله وماله ، وكان الله هو أعلم به ، ولم يسلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب بالذي يصيبه من البلاء ، وليجعله عبرة للصابرين ، وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ، ليتأسوا به ، وليرجوا من عاقبة الصبر في عَرَض الدنيا ثواب الآخرة وما صنع الله بأيوب ، فانحطّ عدوّ الله سريعا ، فجمع عفاريت الجنّ ومَرَدة الشياطين من جنوده ، فقال : إني قد سُلّطت على أهل أيوب وماله ، فماذا عليكم ؟ فقال قائل منهم : أكون إعصارا فيه نار ، فلا أمرّ بشيء من ماله إلا أهلكته ، قال : أنت وذاك ، فخرج حتى أتى إبله ، فأحرقها ورعاتَها جميعا ، ثم جاء عدوّ الله أيوب في صورة قيِّمه عليها هو في مصلَّى فقال : يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري ، فجئتك أخبرك بذلك ، فعرفه أيوب ، فقال : الحمد لله الذي هو أعطاها ، وهو أخذها الذي أخرجك منها كما يخرج الزُّوان من الحبّ النقيّ ، ثم انصرف عنه ، فجعل يصيب ماله مالا مالا حتى مرّ على آخره ، كلما انتهى إليه هلاك مال من ماله حمد الله وأحسن عليه الثناء ورضي بالقضاء ، ووطَّن نفسه بالصبر على البلاء ، حتى إذا لم يبق له مال أتى أهله وولده ، وهم في قصر لهم معهم حَظياتهم ، وخدّامهم ، فتمثَّل ريحا عاصفا ، فاحتمل القصر من نواحيه ، فألقاه على أهله وولده ، فشدخهم تحته ، ثم أتاه في صورة قَهْرمانه عليهم ، قد شدخ وجهه ، فقال : يا أيوب قد أتت ريح عاصف ، فاحتملت القصر من نواحيه ، ثم ألقته على أهلك وولدك فشدختهم غيري ، فجئتك أخبرك ذلك ، فلم يجزع على شيء أصابه جزعه على أهله وولده ، وأخذ ترابا فوضعه على رأسه ، ثم قال : ليت أمي لم تلدني ، ولم أك شيئا ، وسرّ بها عدوّ الله منه ، فأصعد إلى السماء جَذِلا وراجع أيوب التوبة مما قال ، فحمد الله ، فسبقت توبته عدو الله إلى الله ، فلما جاء وذكر ما صنع ، قيل له قد سبقتك توبته إلى الله ومراجعته ، قال : أي ربّ فسلطني على جسده ، قال : قد سلَّطتك على جسده إلا على لسانه وقلبه ونفسه وسمعه وبصره ، فأقبل إليه عدوّ الله وهو ساجد ، فنفخ في جسده نفخة أشعل ما بين قرنه إلى قدمه كحريق النار ، ثم خرج في جسده ثآليل كأليات الغنم ، فحكّ بأظفاره حتى ذهبت ، ثم بالفَخَّار والحجارة حتى تساقط لحمه ، فلم يبق منه إلا العروق والعصب والعظام ، عيناه تجولان في رأسه للنظر وقلبه للعقل ، ولم يخلص إلى شيء من حشو البطن ، لأنه لا بقاء للنفس إلا بها ، فهو يأكل ويشرب على التواء من حشوته ، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث.
فحدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة عن ابن إسحاق ، عن ابن دينار ، عن الحسن أنه كان يقول : مكث أيوب في ذلك البلاء سبع سنين وستة أشهر ملقى على رماد مكنسة في جانب القرية ، قال وهب بن منبه : ولم يبق من أهله إلا امرأة واحدة تقوم عليه وتكسب له ، ولا يقدر عدوّ الله منه على قليل ولا كثير مما يريد. فلما طال البلاء عليه وعليها ، وسئمها الناس ، وكانت تكسب عليه ما تطعمه وتسقيه ، قال وهب بن منبه : فحُدثت أنها التمست له يوما من الأيام تطعمه ، فما وجدت شيئا حتى جزّت قَرْنا من رأسها فباعته برغيف. فأتته به

(18/469)


فعشته إياه ، فلبث في ذلك البلاء تلك السنين ، حتى إن كان المارّ ليمرّ فيقول : لو كان لهذا عند الله خير لأراحه مما هو فيه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمه ، قال : فحدثني محمد بن إسحاق ، قال : وكان وهب بن منبه يقول : لبث في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما واحدا ، فلما غلبه أيوب فلم يستطع منه شيئا ، اعترض لامرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والطول على مركب ليس من مراكب الناس ، له عظم وبهاء وجمال ليس لها ، فقال لها : أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى ؟ قالت نعم ، قال : هل تعرفينني ؟ قالت لا قال : فأنا إله الأرض ، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت ، وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كلّ ما كان لكما من مال وولد ، فإنه عندي ، ثم أراها إياهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه ، قال : وقد سمعت أنه إنما قال : لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسمّ عليه لعوفي مما به من البلاء ، والله أعلم ، وأراد عدوّ الله أن يأتيه من قِبَلها ، فرجعت إلى أيوب ، فأخبرته بما قال لها وما أراها ، قال : أو قد آتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك ؟ ثم أقسم إن الله عافاه ليضربنها مئة ضربة ، فلما طال عليه البلاء ، جاءه أولئك النفر الذين كانوا معه قد آمنوا به وصدّقوه معهم فتى حديث السنّ ، قد كان آمن به وصدّقه ، فجلسوا إلى أيوب ونظروا إلى ما به من البلاء ، فأعظموا ذلك وفَظِعوا به ، وبلغ من أيوب صلوات الله عليه مجهوده ، وذلك حين أراد الله أن يفرِّج عنه ما به ، فلما رأى أيوب ما أعظموا مما أصابه ، قال : أي ربّ لأيّ شيء خلقتني ولو كنت إذ قضيت عليّ البلاء تركتني فلم تخلقني ليتني كنت دما ألقتني أمي ، ثم ذكر نحو حديث ابن عسكر ، عن إسماعيل بن عبد الكريم ، إلى : وكابدوا الليل ، واعتزلوا الفراش ، وانتظروا الأسحار ، ثم زاد فيه : أولئك الآمنون الذي لا يخافون ، ولا يهتمون ولا يحزنون ، فأين عاقبة أمرك يا أيوب من عواقبهم ؟
قال فتى حضرهم وسمع قولهم ، ولم يفطنوا له ولم يأبهوا لمجلسه ، وإنما قيَّضه الله لهم لما كان من جورهم في المنطق وشططهم ، فأراد الله أن يصغر به

(18/498)


إليهم أنفسهم وأن يسفِّه بصغره لهم أحلامهم ، فلما تكلم تمادى في الكلام ، فلم يزدد إلا حكما ، وكان القوم من شأنهم الاستماع والخشوع إذا وُعظوا أو ذُكِّروا ، فقال : إنكم تكلمتم قبلي أيها الكهول ، وكنتم أحقّ بالكلام وأولى به مني لحقّ أسنانكم ، ولأنكم جرّبتم قبلي ، ورأيتم وعلمتم ما لم أعلم ، وعرفتم ما لم أعرف ، ومع ذلك قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم ، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم ، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم ، ومن الموعظة أحكم من الذي وصفتم ، وقد كان لأيوب عليكم من الحقّ والذِّمام أفضلُ من الذي وصفتم ، هل تدرون أيها الكهول حقّ من انتقصتم ، وحرمة من انتهكتم ، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ، ولم تعلموا أيها الكهول أن أيوب نبيّ الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض ، يومكم هذا اختاره الله لوحيه ، واصطفاه لنفسه وأتمنه على نبوّته ، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه سخط شيئا من أمره مذ أتاه ما آتاه إلى يومكم هذا ، ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه بها مذ آتاه ما آتاه إلى يومكم هذا ، ولا أن أيوب غَيَّر الحقّ في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا ، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ، ووضعه في أنفسكم ، فقد علمتم أن الله يبتلي النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين ، ثم ليس بلاؤه لأولئك بدليل سخطه عليهم ولا لهوانه لهم ولكنها كرامة وخِيْرة لهم ، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة ولا في النبوّة ولا في الأثرة ولا في الفضيلة ولا في الكرامة ، إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحابة ، لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذُل أخاه عند البلاء ، ولا يعيره بالمصيبة بما لا يعلم وهو مكروب حزين ، ولكن يرحمه ويبكي ، معه ويستغفر له ، ويحزن لحزنه ، ويدله على مراشد أمره ، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا ، فالله الله أيّها الكهول في أنفسكم.
قال : ثم أقبل على أيوب صلى الله عليه وسلم فقال : وقد كان في عظمة الله وجلاله ، وذكر الموت ما يقطع لسانك ، ويكسر قلبك ، وينسيك حججك ، ألم تعلم يا أيوب أن لله عبادا أسكتتهم خشيته من غير عيّ ولا بَكَم ؟ وإنهم لهم الفصحاء النطقاء النبلاء الألباء العالمون بالله وبآياته ، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم ، واقشعرّت جلودهم ، وانكسرت قلوبهم ، وطاشت عقولهم إعظاما لله ، وإعزازا وإجلالا فإذا استفاقوا من ذلك استَبَقوا إلى الله

(18/499)


بالأعمال الزاكية ، يَعُدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين ، وإنهم لأنزاه برآء ، ومع المقصِّرين والمفرِّطين ، وإنهم لأكياس أقوياء ، ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير ، ولا يرضون لله بالقليل ، ولا يُدِلُّون عليه بالأعمال فهم مروّعون مفزعون مغتمون خاشعون وجلون مستكينون معترفون ، متى ما رأيتهم يا أيوب.
قال أيوب : إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير ، فمتى نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان ، وليست تكون الحكمة من قبل السنّ ، ولا الشبيبة ولا طول التجربة ، وإذا جعل الله العبد حكيما في الصيام لم يسقط منزله عند الحكماء ، وهم يرون عليه من الله نور الكرامة ، ولكنكم قد أعجبتكم أنفسكم ، وظننتم أنكم عوفيتم بإحسانكم ، فهنالك بغيتم وتعزّزتم ، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ، ثم صدقتم أنفسكم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية التي ألبسكم ، ولكني قد أصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم ، قد كنت فيما خلا مسموعا كلامي ، معروفا حقي ، منتصفا من خصمي ، قاهرا لمن هو اليوم يقهرني ، مهيبا مكاني ، والرجال مع ذلك ينصتون لي ويوقروني ، فأصبحت اليوم قد انقطع رجائي ، ورفع حذري ، وملَّني أهلي ، وعقني أرحامي ، وتنكرت لي معارفي ، ورغب عني صديقي ، وقطعني أصحابي ، وكفرني أهل بيتي ، وجُحِدَتْ حقوقي ، ونُسِيت صنائعي ، أصرخ فلا يُصْرِخونني ، وأعتذر فلا يعذرونني ، وإن قضاءه هو الذي أذلني ، وأقمأني وأخسأني ، وأن سُلطانه ، هو الذي أسقمني وأنحل جسمي ، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري ، وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي ، ثم كان ينبغي للعبد يحاجَّ عن نفسه ، لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي ، ولكنه ألقاني وتعالى عني ، فهو يراني ، ولا أراه ، ويسمعني ولا أسمعه لا نظر إليّ فرحمني ، ولا دنا مني ولا أدناني ، فأدلي بعذري ، وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.
لما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده ، أظله غمام حتى ظنّ أصحابه أنه عذاب ، ثم نودي منه ، ثم قيل له : يا أيوب ، إن الله يقول : ها أنا ذا قد دنوت منك ، ولم أزل منك قريبا ، فقم فأدل بعذرك الذي زعمت ، وتكلم ببراءتك ، وخاصم عن نفسك ، واشدد إزارك ، ثم ذكر نحو حديث ابن عسكر ، عن إسماعيل ، إلى آخره ، وزاد فيه : ورحمتي سبقت غضبي ، فاركُض برجلك هذا

(18/500)


مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك ، وقد وهبت لك أهلك ومثلهم معهم ، ومالك ومثله معه وزعموا : ومثله معه لتكون لمن خلفك آية ، ولتكون عبرة لأهل البلاء ، وعزاء للصابرين ، فركض برجله ، فانفجرت له عين ، فدخل فيها فاغتسل ، فأذهب الله عنه ، كلّ ما كان به من البلاء ، ثم خرج فجلس ، وأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه ، فلم تجده ، فقامت كالوالهة متلدّدة ، ثم قالت : يا عبد الله ، هل لك علم بالرجل المبتلي الذي كان هاهنا ؟ قال : لا ثم تبسّم ، فعرفته بمضحكه ، فاعتنقته.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : فحدثت عبد الله بن عباس حديثه ، واعتناقها إياه ، فقال عبد الله : فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مرّ بها كلّ مال لهما وولد.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وقد سمعت بعض من يذكر الحديث عنه أنه دعاها حين سألت عنه ، فقال لها : وهل تعرفينه إذا رأيته ؟ قالت : نعم ، ومالي لا أعرفه ؟ فتبسّم ، ثم قال : ها أنا هو ، وقد فرج الله عني ما كنت فيه ، فعند ذلك اعتنقته ، قال وهب : فأوحى الله في قسمه ليضربها في الذي كلمته ، أن( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) أي قد برّت يمينك ، يقول الله تعالى( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) يقول الله( وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ).
حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : ثنا فضيل بن عياض ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : لقد مكث أيوب مطروحا على كناسة سبع سنين وأشهرا ما يسأل الله أن يكشف ما به ، قال : وما على وجه الأرض خلق أكرم على الله من أيوب ، فيزعمون أن بعض الناس قال : لو كان لربّ هذا فيه حاجة ما صنع به هذا ، فعند ذلك دعا.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : بقي أيوب على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف عليه الدواب.
حدثني محمد بن إسحاق ، قال : ثنا يحيى بن معين ، قال : ثنا ابن عيينة ،

(18/501)


عن عمرو ، عن وهب بن منبه ، قال : لم يكن بأيوب أكلة ، إنما كان يخرج به مثل ثدي النساء ثم ينقفه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا مخلد بن حسين ، عن هشام ، عن الحسن ، وحجاج عن مبارك ، عن الحسن : زاد أحدهما على الآخر قال : إن أيوب آتاه الله مالا وأوسع عليه ، وله من النساء والبقر والغنم والإبل ، وإن عدوّ الله إبليس قيل له : هل تقدر أن تفتن أيوب ؟ قال : ربّ إن أيوب أصبح في دنيا من مال وولد ، ولا يستطيع أن لا يشكرك ، ولكن سلطني على ماله وولده ، فسترى كيف يطيعني ويعصيك! قال : فسلطه على ماله وولده ، قال : فكان يأتي بالماشية من ماله من الغنم فيحرقها بالنيران ، ثم يأتي أيوب وهو يصلي متشبها براعي الغنم ، فيقول : يا أيوب تصلي لربك ، ما ترك الله لك من ماشيتك شيئا من الغنم إلا أحرقها بالنيران ، وكنت ناحية فجئت لأخبرك ، قال : فيقول أيوب : اللهمّ أنت أعطيت ، وأنت أخذت ، مهما تبقي نفسي أحمدك على حُسن بلائك ، فلا يقدر منه على شيء مما يريد ، ثم يأتي ماشيته من البقر فيحرقها بالنيران ، ثم يأتي أيوب فيقول له ذلك ، ويردّ عليه أيوب مثل ذلك ، قال : وكذلك فعل بالإبل حتى ما ترك له من ماشية حتى هدم البيت على ولده ، فقال : يا أيوب أرسل الله على ولدك من هدم عليهم البيوت ، حتى هلكوا ، فيقول أيوب مثل ذلك ، قال : ربّ هذا حين أحسنت إليّ الإحسان كله ، قد كنت قبل اليوم يشغلني حبّ المال بالنهار ، ويشغلني حب الولد بالليل شفقة عليهم ، فالآن أفرغ سمعي وبصري وليلي ونهاري بالذكر والحمد ، والتقديس والتهليل ، فينصرف عدوّ الله من عنده لم يصب منه شيئا ما يريد.
قال : ثم إن الله تبارك وتعالى قال : كيف رأيت أيوب ؟ قال إبليس : أيوب قد علم أنك ستردّ عليه ماله وولده ولكن سلطني على جسده ، فإن أصابه الضرّ فيه أطاعني وعصاك ، قال : فسلط على جسده ، فأتاه فنفخ فيه نفخة قرّح من لدن قرنه إلى قدمه ، قال : فأصابه البلاء بعد البلاء ، حتى حمل فوضع على مِزبلة كُناسة لبني إسرائيل ، فلم يبق له مال ولا ولد ولا صديق ، ولا أحد يقربه غير زوجته ، صبرت معه بصدق ، وكانت تأتيه بطعام ، وتحمد الله معه إذا حمد ، وأيوب على ذلك لا يفتر من ذكر الله ، والتحميد والثناء على الله والصبر على

(18/502)


ما ابتلاه الله ، قال الحسن : فصرخ إبليس عدوّ الله صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض جزعا من صبر أيوب ، فاجتمعوا إليه وقالوا له : جمعتنا ، ما خبرك ؟ ما أعياك ؟ قال : أعياني هذا العبد الذي سألت ربي أن يسلطني على ماله وولده فلم أدع له مالا ولا ولدا ، فلم يزدد بذلك إلا صبرا وثناء على الله وتحميدا له ، ثم سُلِّطت على جسده فتركته قُرْحة ملقاة على كُناسة بني إسرائيل ، لا يقربه إلا امرأته ، فقد افتضحت بربي ، فاستعنت بكم ، فأعينوني عليه ، قال : فقالوا له : أين مكرك ؟ أين علمك الذي أهلكت به من مضى ، قال : بطل ذلك كله في أيوب ، فأشيروا عليّ ، قالوا : نشير عليك ، أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة ، من أين أتيته ؟ قال : من قِبَل امرأته ، قالوا : فشأنك بأيوب من قبَل امرأته ، فإنه لا يستطيع أن يعصيها ، وليس أحد يقربه غيرها ، قال : أصبتم ، فانطلق حتى أتى امرأته وهي تَصَدَّق ، فتمثل لها في صورة رجل ، فقال : أين بعلك يا أمة الله ؟ قالت : هو ذاك يحك قروحه ، ويتردّد الدوابّ في جسده ، فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع ، فوقع في صدرها ، فوسوس إليها ، فذكَّرها ما كانت فيه من النِّعم والمال والدوابّ ، وذكَّرها جمال أيوب وشبابه ، وما هو فيه من الضرّ ، وأن ذلك لا ينقطع عنهم أبدا ، قال الحسن : فصرخت ، فلما صرخت علم أن قد صرخت وجزعت ، أتاها بسُخْلة ، فقال : ليذبح هذا إليّ أيوب ويبرأ ، قال : فجاءت تصرخ يا أيوب ، يا أيوب ، حتى متى يعذبك ربك ، ألا يرحمك ؟ أين الماشية ؟ أين المال ، أين الولد ؟ أين الصديق ، أين لونك الحسن ؟ قد تغير ، وصار مثل الرماد ؟ أين جسمك الحسن الذي قد بلي وتردد فيه الدوابّ ؟ اذبح هذه السَّخْلة واسترح ، قال أيوب : أتاك عدوّ الله ، فنفخ فيك ، فوجد فيك رفقا ، وأجبته! ويلك أرأيت ما تبكين عليه مما تذكرين ما كنا فيه من المال والولد والصحة والشباب ؟ من أعطانيه ؟ قالت : الله ، قال : فكم متَّعنا به ؟ قالت : ثمانين سنة ، قال : فمذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء الذي ابتلانا به ؟ قالت : منذ سبع سنين وأشهر ، قال : ويلك! والله ما عدلت ، ولا أنصفت ربك ، ألا صبرت حتى نكون في هذا البلاء الذي ابتلانا ربنا به ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة ؟ والله لئن شفاني الله لأجلدنَّك مئة جلدة ، هيه أمرتيني أن أذبح لغير الله ، طعامك وشرابك الذي تأتيني به عليّ حرام ، وأن أذوق ما تأتيني به بعد ، إذ قلت لي هذا فاغرُبي عني فلا أراك ، فطردها ، فذهبت ، فقال الشيطان : هذا قد وطَّن نفسه ثمانين سنة على هذا البلاء الذي هو فيه ، فباء بالغلبة ورفضه ، ونظر أيوب إلى امرأته وقد طردها ، وليس عنده طعام ولا شراب ، ولا صديق. قال الحسن : ومرّ به رجلان وهو على تلك الحال ، ولا والله ما على ظهر الأرض يومئذ أكرم على الله من أيوب ، فقال أحد الرجلين لصاحبه : لو كان لله في هذا حاجة ، ما بلغ به هذا ، فلم يسمع أيوب شيئا كان أشدّ عليه من هذه الكلمة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن جرير بن حازم ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : كان لأيوب أخوان ، فأتياه ، فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من ريحه ، فقال أحدهما لصاحبه : لو كان الله علم في أيوب خيرا ما ابتلاه بما أرى ، قال : فما جزع أيوب من شيء أصابه جزعه من كلمة الرجل ، فقال أيوب : اللهمّ إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني ، فصُدِّق وهما يسمعان ، ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أتخذ قميصين قطّ وأنا أعلم مكان عار فصدقنيُ فصُدِّق وهما يسمعان ، قال : ثم خرّ ساجدا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : فحدثني مخلد بن الحسين ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : فقال : ( رب أني مسني الضر ) ثم ردّ ذلك إلى ربه فقال( وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن جرير ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : فقيل له : ارفع رأسك فقد استجيب لك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن ومخلد ، عن هشام ، عن الحسن ، دخل حديث أحدهما في الآخر ، قالا فقيل له : ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ) فركض برجله فنبعت عين ، فاغتسل منها ، فلم يبق عليه من دائه شيء ظاهر إلا سقط ، فأذهب الله

(18/503)


كل ألم وكل سقم ، وعاد إليه شبابه وجماله ، أحسن ما كان وأفضل ما كان ، ثم ضرب برجله ، فنبعت عين أخرى فشرب منها ، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج ، فقام صحيحا ، وكُسِي حُلة ، قال : فجعل يتلفت ولا يرى شيئا ما كان له من أهل ومال إلا وقد أضعفه الله له ، حتى والله ذُكر لنا أن الماء الذي اغتسل به ، تطاير على صدره جرادا من ذهب ، قال : فجعل يضمه بيده ، فأوحى الله إليه : يا أيوب ألم أغنك ؟ قال : بلى ، ولكنها بركتك ، فمن يشبع منها ، قال : فخرج حتى جلس على مكان مشرف ، ثم إن امرأته قالت : أرأيت إن كان طردني إلى من أكله ؟ أدعه يموت جوعا أو يضيع فتأكله السباع ؟ لأرجعنّ إليه فرجعت ، فلا كُناسة ترى ، ولا من تلك الحال التي كانت ، وإذا الأمور قد تغيرت ، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي ، وذلك بعين أيوب ، قالت : وهابت صاحب الحُلة أن تأتيه فتسأل عنه ، فأرسل إليها أيوب فدعاها ، فقال : ما تريدين يا أمة الله ؟ فبكت وقالت : أردت ذلك المبتَلى الذي كان منبوذا على الكُناسة ، لا أدري أضاع أم ما فعل ؟ قال لها أيوب : ما كان منك ؟ فبكت وقالت : بعلي ، فهل رأيته ؟ وهي تبكي إنه قد كان هاهنا ؟ قال : وهل تعرفينه إذا رأيتيه ؟ قالت : وهل يخفى على أحد رآه ؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه ، ثم قالت : أما إنه كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا ، قال : فإني أنا أيوب الذي أمرتيني أن أذبح للشيطان ، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ، فدعوت الله فردّ علي ما ترين ، قال الحسن : ثم إن الله رحمها بصبرها معه على البلاء أن أمره تخفيفا عنها أن يأخذ جماعة من الشجر فيضربها ضربة واحدة تخفيفا عنها بصبرها معه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ )... إلى آخر الآيتين ، فإنه لما مسه الشيطان بنصب وعذاب ، أنساه الله الدعاء أن يدعوه فيكشف ما به من ضرّ ، غير أنه كان يذكر الله كثيرا ، ولا يزيده البلاء في الله إلا رغبة وحسن إيمان ، فلما انتهى الأجل ، وقضى الله أنه كاشف ما به من ضرّ أذن له في الدعاء ، ويسرَّه له ، وكان قبل ذلك يقول تبارك وتعالى : لا ينبغي لعبدي أيوب أن يدعوني ، ثم لا أستجيب له ، فلما دعا

(18/505)


استجاب له ، وأبدله بكل شيء ذهب له ضعفين ، ردّ إليه أهله ومثلهم معهم ، وأثنى عليه فقال : ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ).
واختلف أهل التأويل في الأهل الذي ذكر الله في قوله( وآتيناه أهله ومثلهم معهم ) أهم أهله الذين أوتيهم في الدنيا ، أم ذلك وعد وعده الله أيوب أن يفعل به في الآخرة ؟ فقال بعضهم : إنما آتى الله أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا ، فإنهم لم يُرَدّوا عليه في الدنيا ، وإنما وعد الله أيوب أن يؤتيه إياهم في الآخرة.
حدثني أبو السائب سلم بن جنادة ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ليث ، قال : أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن قول الله لأيوب( وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) فقال : قيل له : إن أهلك لك في الآخرة ، فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا ، وإن شئت كانوا لك في الآخرة ، وآتيناك مثلهم في الدنيا ، فقال : يكونون لي في الآخرة ، وأُوتي مثلهم في الدنيا ، قال : فرجع إلى مجاهد فقال : أصاب.
وقال آخرون : بل ردّهم إليه بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام بن سلم ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك ، عن ابن مسعود( وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) قال : أهله بأعيانهم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : لما دعا أيوب استجاب الله له ، وأبدله بكل شيء ذهب له ضعفين ، ردّ إليه أهله ومثلهم معهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد( وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) قال : أحياهم بأعيانهم ، وردّ إليه مثلهم (1) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله( وهبنا له أهله ومثلهم معهم ) قال : قيل له : إن شئت أحييناهم لك ، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وتعطى مثلهم في الدنيا ، فاختار أن يكونوا في الآخرة
__________
(1) هذا يناسب الاستشهاد على عدم ردهم بأعيانهم . فلعله مؤخر من تقديم .

(18/506)


وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)

ومثلهم في الدنيا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) قال الحسن وقتادة : أحيا الله أهله بأعيانهم ، وزاده إليهم مثلهم.
وقال آخرون : بل آتاه المثل من نسل ماله الذي ردّه عليه وأهله ، فأما الأهل والمال فإنه ردّهما عليه.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن رجل ، عن الحسن( وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) قال : من نسلهم.
وقوله( رَحْمَةَ ) نصبت بمعنى : فعلنا بهم ذلك رحمة منا له.
وقوله( وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) يقول : وتذكرة للعابدين ربهم فعلنا ذلك به ليعتبروا به ، ويعلموا أن الله قد يبتلي أولياءه ومن أحبّ من عباده في الدنيا بضروب من البلاء في نفسه وأهله وماله ، من غير هوان به عليه ، ولكن اختبارا منه له ليبلغ بصبره عليه واحتسابه إياه وحسن يقينه منزلته التي أعدها له تبارك وتعالى من الكرامة عنده ،
وقد : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، في قوله رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ وقوله رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ) قال : أيما مؤمن أصابه بلاء فذكر ما أصاب أيوب فليقل : قد أصاب من هو خير منا نبيا من الأنبياء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) }
يعني تعالى ذكره بإسماعيل : إسماعيل بن إبراهيم صادق الوعد ، وبإدريس : أخنوخ ، وبذي الكفل : رجلا تكفل من بعض الناس ، إما من نبيّ وإما من ملك من صالحي الملوك بعمل من الأعمال ، فقام به من بعده ، فأثنى الله عليه حسن وفائه بما تكفل به ، وجعله من المعدودين في عباده ، مع من حمد صبره على طاعة الله ، وبالذي قلنا في أمره جاءت الأخبار عن سلف العلماء.

(18/507)


*ذكر الرواية بذلك عنهم : حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث : أن نبيا من الأنبياء ، قال : من تكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ، ولا يغضب ، فقام شاب فقال : أنا ، فقال : اجلس : ثم عاد فقال : من تكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ، ولا يغضب ؟ فقام ذلك الشاب فقال : أنا ، فقال : اجلس ، ثم عاد فقال : من تكفل لي أن يقوم الليل ، ويصوم النهار ، ولا يغضب ؟ فقام ذلك الشاب فقال : أنا ، فقال : تقوم الليل ، وتصوم النهار ، ولا تغضب فمات ذلك النبيّ ، فجلس ذلك الشاب مكانه يقضي بين الناس ، فكان لا يغضب ، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليُغضبه وهو صائم يريد أن يقيل ، فضرب الباب ضربا شديدا ، فقال : من هذا ؟ فقال : رجل له حاجة ، فأرسل معه رجلا فقال : لا أرضى بهذا الرجل ، فأرسل معه آخر ، فقال : لا أرضى بهذا ، فخرج إليه فأخذ بيده ، فانطلق معه ، حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب ، فسمي ذا الكفل.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عفان بن مسلم ، قال : ثنا وهيب ، قال : ثنا داود ، عن مجاهد ، قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت على الناس رجلا يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل ، قال : فجمع الناس ، فقال : من يتقبل لي بثلاث أستخلفه : يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب ، قال : فقام رجل تزدريه العين ، فقال : أنا ، فقال : أنت تصوم النهار ، وتقوم الليل ولا تغضب ؟ قال : نعم ، قال : فردّهم ذلك اليوم ، وقال مثلها اليوم الآخر ، فسكت الناس وقام ذلك الرجل ، فقال : أنا ، فاستخلفه ، قال : فجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان ، فأعياهم ، فقال : دعوني وإياه ، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير ، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ، وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة ، فدقّ الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : شيخ كبير مظلوم ، قال : فقام ففتح الباب ، فجعل يقص عليه ، فقال : إن بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا ، فجعل يطوّل عليه ، حتى حضر الرواح ، وذهبت القائلة ، وقال : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك ، فانطلق وراح ، فكان في مجلسه ، فجعل ينظر هل يرى الشيخ ، فلم يره ، فجعل يبتغيه فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس

(18/508)


وينتظره فلا يراه ، فلما رجع إلى القائلة ، فأخذ مضجعه ، أتاه فدقّ الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : الشيخ الكبير المظلوم ، ففتح له ، فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني ، فقال : إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد ، قالوا نحن نعطيك حقك ، وإذا قمت جحدوني ، قال : فانطلق فإذا رحت فأتني ، قال : ففاتته القائلة ، فراح فجعل ينظر فلا يراه ، فشقّ عليه النعاس ، فقال لبعض أهله : لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام ، فإني قد شقّ عليّ النوم ، فلما كان تلك الساعة جاء ، فقال له الرجل وراءك ، فقال : إني قد أتيته أمس فذكرت له أمري ، قال : والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه ، فلما أعياه نظر فرأى كوّة في البيت ، فتسوّر منها ، فإذا هو في البيت ، وإذا هو يدقّ الباب ، قال : واستيقظ الرجل فقال : يا فلان ، ألم آمرك ؟ قال : أما من قِبلي والله فلم تؤت ، فانظر من أين أتيت ، قال : فقام إلى الباب ، فإذا هو مغلق كما أغلقه ، وإذا هو معه في البيت ، فعرفه فقال : أعدوّ الله ؟ قال : نعم أعييتني في كل شيء ، ففعلت ما ترى لأغضبك ، فسماه ذا الكفل ، لأنه تكفل بأمر فوفى به.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله( وَذَا الْكِفْلِ ) قال رجل صالح غير نبيّ ، تكفل لنبيّ قومه أن يكفيه أمر قومه ، ويقيمه لهم ، ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ذلك ، فسمي ذا الكفل.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال : ويقضي بينهم بالحق.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس قال : كان في بني إسرائيل ملك صالح ، فكبر ، فجمع قومه فقال : أيكم يكفل لي بملكي هذا ، على أن يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ويحكم بين بني إسرائيل بما أنزل الله ، ولا يغضب ؟ قال : فلم يقم أحد إلا فتى شاب ، فازدراه لحداثة سنه فقال : أيكم يكفل لي بملكي هذا على أن يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب ، ويحكم بين بني إسرائيل بما أنزل الله ؟ فلم يقم إلا ذلك الفتى ، قال : فازدراه ، فلما كانت الثالثة قال مثل

(18/509)


ذلك ، فلم يقم إلا ذلك الفتى ، فقال : تعال ، فخلى بينه وبين ملكه ، فقام الفتى ليلة ، فلما أصبح جعل يحكم بين بني إسرائيل ، فلما انتصف النهار دخل ليقيل ، فأتاه الشيطان في صورة رجل من بني آدم ، فجذب ثوبه ، فقال : أتنام والخصوم ببابك ؟ قال : إذا كان العشية فأتني ، قال : فانتظره بالعشيّ فلم يأته ، فلما انتصف النهار دخل ليقيل ، جذب ثوبه ، وقال : أتنام والخصوم على بابك ؟ قال : قلت لك : ائتني العشيّ فلم تأتني ، ائتني بالعشي ، فلما كان بالعشيّ انتظره فلم يأت ، فلما دخل ليقيل جذب ثوبه ، فقال : أتنام والخصوم ببابك ؟ قال : أخبرني من أنت ، لو كنت من الإنس سمعت ما قلت ، قال : هو الشيطان ، جئت لأفتنك فعصمك الله مني ، فقضى بين بني إسرائيل بما أنزل الله زمانا طويلا وهو ذو الكفل ، سمي ذا الكفل لأنه تكفل بالملك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي موسى الأشعري ، قال وهو يخطب الناس : إن ذا الكفل لم يكن نبيا ولكن كان عبدا صالحا ، تكفل بعمل رجل صالح عند موته ، كان يصلي لله كل يوم مائة صلاة ، فأحسن الله عليه الثناء في كفالته إياه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم ، قال : ثنا عمرو ، قال : أما ذو الكفل فإنه كان على بني إسرائيل ملك ، فلما حضره الموت ، قال : من يكفل لي أن يكفيني بني إسرائيل ، ولا يغضب ، ويصلي كل يوم مائة صلاة ، فقال ذو الكفل : أنا ، فجعل ذو الكفل يقضي بين الناس ، فإذا فرغ صلى مائة صلاة ، فكاده الشيطان ، فأمهله حتى إذا قضى بين الناس ، وفرغ من صلاته وأخذ مضجعه فنام ، أتى الشيطان بابه فجعل يدقه ، فخرج إليه ، فقال : ظُلمت وصُنع بي ، فأعطاه خاتمه وقال : اذهب فأتني بصاحبك ، وانتظره ، فأبطأ عليه الآخر ، حتى إذا عرف أنه قد نام وأخذ مضجعه ، أتى الباب أيضا كي يغضبه ، فجعل يدقه ، وخدش وجه نفسه فسالت الدماء ، فخرج إليه فقال : ما لك ؟ فقال : لم يتبعني ، وضُربت وفعل ، فأخذه ذو الكفل ، وأنكر أمره ، فقال : أخبرني من أنت ؟ وأخذه أخذا شديدا ، قال : فأخبره من هو.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( وَذَا الْكِفْلِ ) قال : قال أبو موسى الأشعري : لم يكن ذو الكفل

(18/510)


وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)

نبيا ، ولكنه كفل بصلاة رجل كان يصلي كل يوم مائة صلاة ، فوفى ، فكفل بصلاته ، فلذلك سمي ذا الكفل ، ونصب إسماعيل وإدريس وذا الكفل ، عطفا على أيوب ، ثم استؤنف بقوله( كُلّ ) فقال( كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ) ومعنى الكلام : كلهم من أهل الصبر فيما نابهم في الله.
وقوله( وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) يقول تعالى ذكره : وأدخلنا إسماعيل وإدريس وذا الكفل ، والهاء والميم عائدتان عليهم(في رحمتنا إنهم من الصالحين ) يقول : إنهم ممن صلح ، فأطاع الله ، وعمل بما أمره
القول في تأويل قوله تعالى : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) }
يقول تعالى ذكره : واذكر يا محمد ذا النون ، يعني صاحب النون ، والنون : الحوت ، وإنما عنى بذي النون ، يونس بن متى ، وقد ذكرنا قصته في سورة يونس بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع ، وقوله( إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا ) يقول : حين ذهب مغاضبا.
واختلف أهل التأويل في معنى ذهابه مغاضبا ، وعمن كان ذهابه ، وعلى من كان غضبه ، فقال بعضهم : كان ذهابه عن قومه وإياهم غاضب.
*ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا ) يقول : غضب على قومه.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا ) أما غضبه فكان على قومه.
وقال آخرون : ذهب عن قومه مغاضبا لربه ، إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه.
*ذكر من قال ذلك : وذكر سبب مغاضبته ربه في قولهم :
حدثنا ابن

(18/511)


حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : بعثه الله ، يعني يونس إلى أهل قريته ، فردّوا عليه ما جاءهم به وامتنعوا منه ، فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليه : إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا ، فاخرج من بين أظهرهم ، فأعلم قومه الذي وعده الله من عذابه إياهم ، فقالوا : ارمقوه ، فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم ، فلما كانت الليلة التي وُعدوا بالعذاب في صبحها أدلج ورآه القوم ، فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم ، وفرّقوا بين كل دابة وولدها ، ثم عجوا إلى الله ، فاستقالوه ، فأقالهم ، وتنظّر يونس الخبر عن القرية وأهلها ، حتى مر به مار ، فقال : ما فعل أهل القرية ؟ فقال : فعلوا أن نبيهم خرج من بين أظهرهم ، عرفوا أنه صدقهم ما وعدهم من العذاب ، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض ، ثم فرقوا بين كل ذات ولد وولدها ، وعجُّوا إلى الله وتابوا إليه ، فقبل منهم ، وأخَّر عنهم العذاب ، قال : فقال يونس عند ذلك وغضب : والله لا أرجع إليهم كذّابا أبدا ، وعدتهم العذاب في يوم ثم رُدّ عنهم ، ومضى على وجهه مغاضبا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا عوف ، عن سعيد بن أبي الحسن ، قال : بلغني أن يونس لما أصاب الذنب ، انطلق مغاضبا لربه ، واستزله الشيطان ،
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن مجالد بن سعيد ، عن الشعبي ، في قوله( إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا ) قال : مغاضبا لربه.
حدثنا الحارث ، قال : ثنا عبد العزيز ، قال : ثنا سفيان ، عن إسماعيل بن عبد الملك ، عن سعيد بن جبير ، فذكر نحو حديث ابن حميد ، عن سلمة ، وزاد فيه : قال : فخرج يونس ينظر العذاب ، فلم ير شيئا ، قال : جرّبوا عليّ كذبا ، فذهب مغاضبا لربه حتى أتى البحر.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن وهب بن منبه اليماني ، قال : سمعته يقول : إن يونس بن

(18/512)


متى كان عبدا صالحا ، وكان في خلقه ضيق ، فلما حملت عليه أثقال النبوّة ، ولها أثقال لا يحملها إلا قليل ، تفسخ تحتها تفسخ الربع (1) تحت الحمل ، فقذفها بين يديه ، وخرج هاربا منها ، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ ) : أي لا تلق أمري كما ألقاه ، وهذا القول ، أعني قول من قال : ذهب عن قومه مغاضبا لربه ، أشبه بتأويل الآية ، وذلك لدلالة قوله( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) على ذلك ، على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه ، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبيّ من الأنبياء ربه ، واستعظاما له ، وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم ما أنكروا ، وذلك أن الذين قالوا : ذهب مغاضبا لربه اختلفوا في سبب ذهابه كذلك ، فقال بعضهم : إنما فعل ما فعل من ذلك كراهة أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم ، واستحيا منهم ، ولم يعلم السبب الذي دفع به عنهم البلاء ، وقال بعض من قال هذا القول : كان من أخلاق قومه الذين فارقهم قتل من جرّبوا عليه الكذب ، عسى أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب ، فلم ينزل بهم ما وعدهم من ذلك ، وقد ذكرنا الرواية بذلك في سوره يونس ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
وقال آخرون : بل إنما غاضب ربه من أجل أنه أمر بالمصير إلى قوم لينذرهم بأسه ، ويدعوهم إليه ، فسأل ربه أن ينظره ، ليتأهب للشخوص إليهم ، فقيل له : الأمر أسرع من ذلك ، ولم ينظر حتى شاء أن ينظر إلى أن يأخذ نعلا ليلبسها ، فقيل له نحو القول الأول ، وكان رجلا في خلقه ضيق ، فقال : أعجلني ربي أن آخذ نعلا فذهب مغاضبا.
*وممن ذُكر هذا القول عنه : الحسن البصري ، حدثني بذلك الحارث ، قال : ثنا الحسن بن موسى ، عن أبي هلال ، عن شهر بن حوشب ، عنه.
قال أبو جعفر : وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبيّ الله يونس صلوات الله عليه شيء إلا وهو دون ما وصفه بما وصفه الذين قالوا : ذهب
__________
(1) الربع : ولد الناقة أول ما يحمل عليه .

(18/513)


مغاضبا لقومه ، لأن ذهابه عن قومه مغاضبا لهم ، وقد أمره الله تعالى بالمقام بين أظهرهم ، ليبلغهم رسالته ، ويحذّرهم بأسه ، وعقوبته على تركهم الإيمان به ، والعمل بطاعتك لا شك أن فيه ما فيه ، ولولا أنه قد كان صلى الله عليه وسلم أتى ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة ، لم يكن الله تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه ، ويصفه بالصفة التي وصفه بها ، فيقول لنبيه صلى الله عليه وسلم( وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) وَيَقُولُ(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) .
وقوله( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : فظنّ أن لن نعاقبه بالتضييق عليه من قولهم قدرت على فلان : إذا ضيقت عليه ، كما قال الله جلّ ثناؤه( وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ) .
*ذكر من قال ذلك : حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) يقول : ظنّ أن لن يأخذه العذاب الذي أصابه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) يقول : ظنّ أن لن نقضي عليه عقوبة ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه إذ غضب عليهم ، وفراره وعقوبته أخذ النون إياه.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، أنه قال في هذه الآية( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) قال : فظنّ أن لن نعاقبه بذنبه.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا زيد بن حباب ، قال : ثني شعبة ، عن مجاهد ، ولم يذكر فيه الحكم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) قال : يقول : ظنّ أن لن نعاقبه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن

(18/514)


قتادة والكلبي( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) قالا ظنّ أن لن نقضي عليه العقوبة.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ ) يقول : ظنّ أن الله لن يقضي عليه عقوبة ولا بلاء في غضبه الذي غضب على قومه ، وفراقه إياهم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن ابن عباس ، في قوله( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) قال : البلاء الذي أصابه.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا عوف ، عن سعيد بن أبي الحسن ، قال : بلغني أن يونس لما أصاب الذنب ، انطلق مغاضبا لربه ، واستزلَّه الشيطان ، حتى ظن أن لن نقدر عليه ، قال : وكان له سلف وعبادة وتسبيح ، فأبى الله أن يدعه للشيطان ، فأخذه فقذفه في بطن الحوت ، فمكث في بطن الحوت أربعين من بين ليلة ويوم ، فأمسك الله نفسه فلم يقتله هناك ، فتاب إلى ربه في بطن الحوت ، وراجع نفسه ، قال : فقال( سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) قال : فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته ، بما كان سلف من العبادة والتسبيح ، فجعله من الصالحين ، قال عوف : وبلغني أنه قال في دعائه : وبنيت لك مسجدا في مكان لم يبنه أحد قبلي.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) وكان له سلف من عبادة وتسبيح ، فتداركه الله بها فلم يدعه للشيطان.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن إياس بن معاوية المدني ، أنه كان إذا ذكر عنده يونس ، وقوله( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) يقول إياس : فلِم فرّ ؟
وقال آخرون : بل ذلك بمعنى الاستفهام ، وإنما تأويله : أفظنّ أن لن نقدر عليه ؟
ذكر من قال ذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) قال : هذا استفهام ، وفي قوله

(18/515)


( فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ) قال : استفهام أيضا.
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : عَنَى به : فظنّ يونس أن لن نحبسه ونضيق عليه ، عقوبة له على مغاضبته ربه.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الكلمة ، لأنه لا يجوز أن ينسب إلى الكفر وقد اختاره لنبوته ، ووصفه بأن ظنّ أن ربه يعجز عما أراد به ولا يقدر عليه ، ووصف له بأنه جهل قدرة الله ، وذلك وصف له بالكفر ، وغير جائز لأحد وصفه بذلك ، وأما ما قاله ابن زيد ، فإنه قول لو كان في الكلام دليل على أنه استفهام حسن ، ولكنه لا دلالة فيه على أن ذلك كذلك ، والعرب لا تحذف من الكلام شيئا لهم إليه حاجة إلا وقد أبقت دليلا على أنه مراد في الكلام ، فإذا لم يكن في قوله( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) دلالة على أن المراد به الاستفهام كما قال ابن زيد ، كان معلوما أنه ليس به وإذا فسد هذان الوجهان ، صح الثالث وهو ما قلنا.
وقوله( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ) اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الظلمات ، فقال بعضهم : عني بها ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ) قال : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل ، وكذلك قال أيضا ابن جريج.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نادى في الظلمات : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت( لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) .
حدثني محمد بن إبراهيم السلمي ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا محمد بن رفاعة ، قال : سمعت محمد بن كعب يقول في هذه الآية( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ) قال : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت.

(18/516)


حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ) قال : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ) قال : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل.
وقال آخرون : إنما عنى بذلك أنه نادى في ظلمة جوف حوت في جوف حوت آخر في البحر ، قالوا : فذلك هو الظلمات.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ) قال : أوحى الله إلى الحوت أن لا تضرّ له لحما ولا عظما ، ثم ابتلع الحوت حوت آخر ، قال( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ) قال : ظلمة الحوت ، ثم حوت ، ثم ظلمة البحر.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أخبر عن يونس أنه ناداه في الظلمات( أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) ولا شك أنه قد عنى بإحدى الظلمات : بطن الحوت ، وبالأخرى : ظلمة البحر ، وفي الثالثة اختلاف ، وجائز أن تكون تلك الثالثة : ظلمة الليل ، وجائز أن تكون كون الحوت في جوف حوت آخر ، ولا دليل يدلّ على أيّ ذلك من أيّ ، فلا قول في ذلك أولى بالحقّ من التسليم لظاهر التنزيل.
وقوله( لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ ) يقول : نادى يونس بهذا القول معترفا بذنبه تائبا من خطيئته( إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) في معصيتي إياك .
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) معترفا بذنبه ، تائبا من خطيئته.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال ، أبو معشر : قال محمد بن قيس : قوله( لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ ) ما صنعتُ من

(18/517)


فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)

شيء فلم أعبد غيرك ، (إني كنت من الظالمين ) حين عصيتك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا جعفر بن سليمان ، عن عوف الأعرابي ، قال : لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات ، ثم حرّك رجله ، فلما تحركت سجد مكانه ، ثم نادى : يا ربّ اتخذت لك مسجدا في موضع ما اتخذه أحد.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق عمن حدثه ، عن عبد الله بن رافع ، مولى أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَمَّا أَرَادَ اللهُ حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ الحُوتِ ، أَوْحَى اللهُ إِلَى الحُوتِ : أَنْ خُذْهُ وَلا تَخْدِشْ لَهُ لَحْما وَلا تَكْسِرْ عَظْما ، فَأَخَذهُ ، ثُمّ هَوَى بِهِ إلى مسْكَنِهِ مِنَ البَحْرِ ، فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إلى أَسْفَلِ البَحْرِ ، سَمِعَ يُونُسُ حِسًّا ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ : مَا هَذَا ؟ قالَ : فَأَوْحَى اللهُ إِليْهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ : إِنَّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ البَحْرِ ، قَالَ : فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ ، فَسَمِعَتِ المَلائِكَةُ تَسْبِيحَهُ ، فَقَالُوا : يَا ربَنّا إِنَّا نَسْمَعُ صَوْتا ضَعِيفا بِأَرْضِ غَرِيبَهٍ ؟ قَالَ : ذَاكَ عَبْدِي يُونُسُ ، عَصَانِي فَحَبَسْتُه فِي بَطْنِ الحُوتِ فِي البَحْرِ ، قَالُوا : العَبْد الصَالِحُ الَّذِي كانَ يَصْعَدُ إِلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ ؟ قَالَ : نَعَم ْ ، قَالَ : فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ ذَلكَ ، فَأَمَرَ الحُوتَ فَقَذَفَه فِي السَّاحِلِ ، كما قالَ اللهُ تَبَارَك َ وَتَعالى : وَهُوَ سَقِيمٌ " .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) }
يقول تعالى ذكره( فَاسْتَجَنْاَ ) ليونس دعاءه إيانا ، إذ دعانا في بطن الحوت ، ونجيناه من الغمّ الذي كان فيه بحبْسناه في بطن الحوت وغمه بخطيئته وذنبه( وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) ، يقول جلّ ثناؤه : وكما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت في البحر إذ دعانا ، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر.

(18/518)


*ذكر من قال ذلك : حدثنا عمران بن بكار الكُلاعيّ ، قال : ثنا يحيى بن عبد الرحمن ، قال : ثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن ، قال : ثني بشر بن منصور ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : سمعت سعد بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اسْمُ اللهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ، دَعْوَة يُونُسَ بْنِ مَتَّى ، قال : فقلت : يا رسول الله ، هي ليونس بن متى خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال : هِيَ لِيُونُسَ بْنِ مَتَّى خَاصَّةً ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّة إِذَا دَعَوْا بِهَا ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى( فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ) " فهو شرط الله لمن دعاه بها.
واختلفت القراء في قراءة قوله( نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) فقرأت ذلك قراء الأمصار ، سوى عاصم ، بنونين الثانية منهما ساكنة ، من أنجيناه ، فنحن ننجيه ، وإنما قرءوا ذلك كذلك وكتابته في المصاحف بنون واحدة ، لأنه لو قرئ بنون واحدة وتشديد الجيم ، بمعنى ما لم يسم فاعله ، كان " المؤمنون " رفعا ، وهم في المصاحف منصوبون ، ولو قرئ بنون واحدة وتخفيف الجيم ، كان الفعل للمؤمنين وكانوا رفعا ، ووجب مع ذلك أن يكون قوله " نجى " مكتوبا بالألف ، لأنه من ذوات الواو ، وهو في المصاحف بالياء.
فإن قال قائل : فكيف كتب ذلك بنون واحد ، وقد علمت أن حكم ذلك إذا قرئ( نُنَجِّي ) أن يُكتب بنونين ؟ قيل : لأن النون الثانية لما سكنت وكان الساكن غير ظاهر على اللسان حذفت كما فعلوا ذلك ب " إلا " لا فحذفوا النون من " إنْ " لخفائها ، إذ كانت مندغمة في اللام من " لا " ، وقرأ ذلك عاصم(نُجِّي المُؤْمِنِينَ) بنون واحدة ، وتثقيل الجيم ، وتسكين الياء ، فإن يكن عاصم وجه قراءته ذلك إلى قول العرب : ضرب الضرب زيدا ، فكنى عن المصدر الذي هو النجاء ، وجعل الخبر ، أعني خبر ما لم يسمّ فاعله المؤمنين ، كأنه أراد : وكذلك نَجَّى المؤمنين ، فكنى عن النجاء ، فهو وجه ، وإن كان غيره أصواب ، وإلا فإن الذي قرأ من ذلك على ما قرأه لحن ، لأن المؤمنين اسم على القراءة التي قرأها ما لم يسم فاعله ، والعرب ترفع ما كان من الأسماء كذلك ، وإنما حمل عاصما على هذه القراءة أنه وجد المصاحف بنون واحدة وكان في قراءته إياه

(18/519)


وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)

على ما عليه قراءة القرّاء إلحاق نون أخرى ليست في المصحف ، فظنَّ أن ذلك زيادة ما ليس في المصحف ، ولم يعرف لحذفها وجها يصرفه إليه.
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة التي لا استجيز غيرها في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، من قراءته بنونين وتخفيف الجيم ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها وتخطئتها خلافه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :
واذكر يا محمد زكريا حين نادى ربه( رَبِّ لا تَذَرْنِي ) وحيدا(فَرْدًا ) لا ولد لي ولا عقب( وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) يقول : فارزقني وارثا من آل يعقوب يرثني ، ثم ردّ الأمر إلى الله فقال وأنت خير الوارثين ، يقول الله جلّ ثناؤه : فاستجبنا لزكريا دعاءه ، ووهبنا له يحيى ولدا ووارثا يرثه ، وأصلحنا له زوجه.
واختلف أهل التأويل في معنى الصلاح الذي عناه الله جلّ ثناؤه بقوله( وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ) فقال بعضهم : كانت عقيما فأصلحها بأن جعلها وَلُودا.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثنا حاتم بن إسماعيل ، عن حميد بن صخر ، عن عمار ، عن سعيد ، في قوله( وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ) قال : كانت لا تلد.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله( واصلحنا له زوجه ) قال : وهبنا له ولدها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله

(18/520)


( وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ) كانت عاقرا ، فجعلها الله ولودا ، ووهب له منها يحيى.
وقال آخرون : كانت سيئة الخلق ، فأصلحها الله له بأن رزقها حُسن الخُلُق.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أصلح لزكريا زوجه ، كما أخبر تعالى ذكره بأن جعلها ولودا حسنة الخُلُق ، لأن كل ذلك من معاني إصلاحه إياها ، ولم يخصُصِ الله جلّ ثناؤه بذلك بعضا دون بعض في كتابه ، ولا على لسان رسوله ، ولا وضع ، على خصوص ذلك دلالة ، فهو على العموم ما لم يأت ما يجب التسليم له بأن ذلك مراد به بعض دون بعض.
وقوله( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ) يقول الله : إن الذين سميناهم ، يعني زكريا وزوجه ويحيى ، كانوا يسارعون في الخيرات في طاعتنا ، والعمل بما يقرّبهم إلينا ، وقوله( وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ) يقول تعالى ذكره : وكانوا يعبدوننا رغبا ورهبا ، وعنى بالدعاء في هذا الموضع : العبادة ، كما قال( وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا ) ويعنى بقوله( رَغَبا ) أنهم كانوا يعبدونه رغبة منهم فيما يرجون منه من رحمته وفضله(وَرَهَبا ) يعني رهبة منهم من عذابه وعقابه ، بتركهم عبادته وركوبهم معصيته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ) قال : رغبا في رحمة الله ، ورهبا من عذاب الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ) قال : خوفا وطمعا ، قال : وليس ينبغي لأحدهما أن يفارق الآخر.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار( رَغَبًا وَرَهَبًا ) بفتح الغين والهاء من الرغَب والرهَب ، واختلف عن الأعمش في ذلك ، فرُويت عنه الموافقة في ذلك للقرّاء ، ورُوي عنه أنه قرأها رُغْبا ورُهْبا بضم الراء في الحرفين وتسكين الغين والهاء.

(18/521)


والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار ، وذلك الفتح في الحرفين كليهما.
وقوله( وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) يقول : وكانوا لنا متواضعين متذللين ، ولا يستكبرون عن عبادتنا ودعائنا.

(18/522)


وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر التي أحصنت فرجها ، يعني مريم بنت عمران.
ويعني بقوله( أَحْصَنَتْ ) : حفظت فرجها ومنعت فرجها مما حرم الله عليها إباحته فيه.
واختلف في الفرج الذي عنى الله جلّ ثناؤه أنها أحصنته ، فقال بعضهم : عنى بذلك فرج نفسها أنها حفظته من الفاحشة.
وقال آخرون : عنى بذلك جيب درعها أنها منعت جبرائيل منه قبل أن تعلم أنه رسول ربها ، وقبل أن تثبته معرفة ، قالوا : والذي يدلّ على ذلك قوله( فَنَفَخْنَا فِيهَا ) ويعقب ذلك قوله( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ) قالوا : وكان معلوما بذلك أن معنى الكلام : والتي أحصنت جيبها( فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ) .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى القولين عندنا بتأويل ذلك قول من قال : أحصنت فرجها من الفاحشة ، لأن ذلك هو الأغلب من معنييه عليه ، والأظهر في ظاهر الكلام ، ( فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ) يقول : فنفخنا في جيب درعها من روحنا ، وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في معنى قوله( فَنَفَخْنَا فِيهَا ) في غير هذا الموضع ، والأولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله( وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) يقول : وجعلنا مريم وابنها عبرة لعالمي زمانهما يعتبرون بهما ويتفكرون في أمرهما ، فيعلمون عظيم سلطاننا وقدرتنا على ما نشاء : وقيل آية ولم يقل آيتين وقد ذكر آيتين ، لأن معنى الكلام : جعلناهما عَلَما لنا وحجة ، فكل واحدة منهما في معنى الدلالة على الله ،

(18/522)


إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)

وعلى عظيم قدرته يقوم مقام الآخر إذا كان أمرهما في الدلالة على الله واحدا.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) }
يقول تعالى ذكره : إن هذه ملتكم ملة واحدة ، وأنا ربكم أيها الناس فاعبدون دون الآلهة والأوثان وسائر ما تعبدون من دوني.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله( أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) يقول : دينكم دين واحد.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد ، في قوله( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) قال : دينكم دين واحد ، ونصبت الأمة الثانية على القطع ، وبالنصب قرأه جماعة قرّاء الأمصار ، وهو الصواب عندنا ، لأن الأمة الثانية نكرة ، والأولى معرفة .
وإذ كان ذلك كذلك ، وكان الخبر قبل مجيء النكرة مستغنيا عنها كان وجه الكلام النصب ، هذا مع إجماع الحجة من القراء عليه ، وقد ذكر عن عبد الله بن أبي إسحاق رفع ذلك أنه قرأه(أُمَّة وَاحِدَةٌ) بنية تكرير الكلام ، كأنه أراد : إن هذه أمتكم هذه أمة واحدة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) }
يقول تعالى ذكره : وتفرّق الناس في دينهم الذي أمرهم الله به ودعاهم إليه ، فصاروا فيه أحزابا ، فَهَودت اليهود ، وتنصَّرت النصارى وعُبدت الأوثان ، ثم أخبر جلّ ثناؤه عما هم إليه صائرون ، وأن مرجع جميع أهل الأديان إليه ، متوعدا بذلك أهل الزيغ منهم والضلال ، ومعلمهم أنه لهم بالمرصاد ، وأنه مجاز جميعهم

(18/523)


فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)

جزاء المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) قال : تقطَّعوا : اختلفوا ، في الدين.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) }
يقول تعالى ذكره : فمن عمل من هؤلاء الذين تفرقوا في دينهم بما أمره الله به من العمل الصالح ، وأطاعه في أمره ونهيه ، وهو مقرّ بوحدانية الله ؛ مصدّق بوعده ووعيده متبرّئ من الأنداد والآلهة( فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ) يقول : فإن الله يشكر عمله الذي عمل له مطيعا له ، وهو به مؤمن ، فيثيبه في الآخرة ثوابه الذي وعد أهل طاعته أن يثيبهموه ، ولا يكفر ذلك له فيجحده ، ويحرمه ثوابه على عمله الصالح( وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ) يقول : ونحن نكتب أعماله الصالحة كلها ، فلا نترك منها شيئا لنجزيه على صغير ذلك وكبيره وقليله وكثيره .
قال أبو جعفر : والكفران مصدر من قول القائل : كفرت فلانا نعمته فأنا أكفُره كُفْرا وكُفْرانا ومنه قوله الشاعر :
مِنَ النَّاسِ ناسٌ ما تَنامُ خُدُودهُم... وخَدّي وَلا كُفْرَانَ لله نائِمُ (1)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) }
__________
(1) البيت شاهد على أن الكفران في قوله تعالى : ( فلا كفران لسعيه ) مصدر من قول القائل : كفرت فلانا نعمته ، فأنا أكفره كفرا وكفرانا . قال في ( اللسان : كفر ) : وتقول : كفر نعمة الله ، وبنعمة الله ، كفرا وكفرانا وكفورا .

(18/524)


اختلفت القرّاء في قراءة قوله( وَحَرَامٌ ) فقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة(وَحِرْمٌ) بكسر الحاء ، وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة( وَحَرَامٌ ) بفتح الحاء والألف.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متفقتا المعنى غير مختلفتيه ، وذلك أن الحِرْم هو الحرام ، والحرام هو الحِرْم ، كما الحلّ هو الحلال والحلال هو الحل ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وكان ابن عباس يقرؤه : (وَحِرم) بتأويل : وعزم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا بن علية ، عن أبي المعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، كان يقرؤها(وَحِرْمَ على قرية) قال : فقلت ، لسعيد : أيّ شيء حرم ؟ قال : عزم.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي المعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، كان يقرؤها(وحِرْمٌ عَلى قَرْيةٍ) قلت لأبي المعلى : ما الحرم ؟ قال : عزم عليها.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه كان يقرأ هذه الآية( وَحِرْمٌ عَلى قَرْيَة أهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) فلا يرجع منهم راجع ، ولا يتوب منهم تائب.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود عن عكرمة ، قال( وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) قال : لم يكن ليرجع منهم راجع ، حرام عليهم ذلك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا عيسى بن فرقد ، قال : ثنا جابر الجعفي ، قال : سألت أبا جعفر عن الرجعة ، فقرأ هذه الآية( وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) .
فكأن أبا جعفر وجه تأويل ذلك إلى أنه : وحرام على أهل قرية أمتناهم أن يرجعوا إلى الدنيا ، والقول الذي قاله عكرمة في ذلك أولى عندي بالصواب ، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن تفريق الناس دينهم الذي بُعث به إليهم الرسل ، ثم أخبر عن صنيعه بمن عم بما دعته إليه رسله من الإيمان به والعمل بطاعته ، ثم أتبع ذلك قوله( وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) فلأن يكون ذلك خبرا عن صنيعه بمن أبى إجابة رسله وعمل بمعصيته ، وكفر به ،

(18/525)


حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)

أحرى ، ليكون بيانا عن حال القرية الأخرى التي لم تعمل الصالحات وكفرت به.
فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : حرام على أهل قرية أهلكناهم بطبعنا على قلوبهم وختمنا على أسماعهم وأبصارهم ، إذ صدّوا عن سبيلنا وكفروا بآياتنا ، أن يتوبوا ويراجعوا الإيمان بنا واتباع أمرنا والعمل بطاعتنا ، وإذ كان ذلك تأويل قوله الله(وَحِرْمٌ) وعزم ، على ما قال سعيد ، لم تكن " لا " في قوله( أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) صلة ، بل تكون بمعنى النفي ، ويكون معنى الكلام : وعزم منا على قرية أهلكناها أن لا يرجعوا عن كفرهم ، وكذلك إذا كان معنى قوله(وَحَرَمٌ. نوجبه ، وقد زعم بعضهم أنها في هذا الموضع صلة ، فإن معنى الكلام : وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا ، وأهل التأويل الذين ذكرناهم كانوا أعلم بمعنى ذلك منه.
القول في تأويل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) }
يقول تعالى ذكره : حتى إذا فُتح عن يأجوج ومأجوج ، وهما أمَّتان من الأمم ردُمهما .
كما حدثني عصام بن داود بن الجراح ، قال : ثني أبي ، قال : ثنا سفيان بن سعيد الثوري ، قال : ثنا منصور بن المعتمر ، عن رِبْعِيّ بن حِرَاش ، قال : سمعت حُذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَوَّلُ الآياتِ : الدَّجاَّلُ ، وَنزولُ عِيسَى ، وَنارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنِ أَبْيَنَ ، تَسُوقُ النَّاسَ إِلى المَحْشَرِ ، تُقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا ، وَالدُّخانُ ، والدَّابَّةُ ، ثُمّ يَأْجُوجُ وَمأْجُوجُ. قال حُذيفة : قلت : يا رسول الله ، وما يأجوج ومأجوج ؟ قال : يَأْجُوجُ وَمأْجُوجُ أُمَمٌ كُلُّ أُمَّةِ أَرْبَعَ مِائَةِ أَلْفٍ ، لا يَمُوتُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ حتى يَرَى أَلْفَ عَيْنٍ تَطْرِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ صُلْبِهِ ، وَهُمْ وَلَدُ آدَمَ ، فَيَسِيرُونَ إِلَى خَرَابِ الدُّنْيَا ، يَكُونُ مُقَدِّمَتُهُمْ بِالشَّامِ وَسَاقَتُهُمْ بِالعِرَاقِ ، فَيَمُرُّونَ بِأَنْهَارِ الدُّنْيا ، فَيَشْرَبونَ الفُراتَ والدَّجْلَةَ وَبُحَيْرَةَ الطَّبَرِيَّةِ حَتَّى يَأْتُوا بَيْتَ المَقْدِسِ ، فَيَقُولُونَ قَدْ قَتَلْنَا أَهْلَ الدُّنْيَا

(18/526)


فَقَاتِلُوا مَنْ فِي السَّماءِ ، فَيَرْمُونَ بالنَّشابِ إلى السَّماءِ ، فَتَرْجِعُ نُشَابُهُمْ مُخَضَّبَةً بِالدَّمِ ، فَيَقُولُونَ قَدْ قَتَلْنَا مَنْ فِي السَّماءِ ، وَعِيسَى وَالمُسْلِمُونَ بِجَبَلِ طُورِ سِينِينَ ، فَيُوحِي اللهُ جَلَّ جَلالُهُ إِلَى عِيسَى : أَنْ أَحْرِزْ عِبَادِي بِالطُّورِ وَمَا يَلِي أَيْلَةَ ، ثُمّ إِنَّ عِيسَى يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّماءِ وَيَؤَمِّنُ المَسْلِمُونَ ، فَيَبْعَثُ اللهُ عَلَيْهِمْ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا النَّغَفُ ، تَدْخُلُ مِنْ مَنَاخِرِهِمْ فَيُصْبِحُونَ مَوْتَى مِنْ حاقِ الشَّامِ إلى حاقِ العِرَاقِ ، حتى تَنْتِنَ الأرْضُ مِنْ جِيَفِهِمْ ، وَيَأْمُرُ الله السَّماءَ فَتُمْطِرُ كأفْواهِ القِرَبِ ، فَتَغْسِلُ الأرْضَ مِنْ جِيَفِهِمْ وَنَتَنْهِمْ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طُلُوع الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : إن يأجوج ومأجوج يزيدون على سائر الإنس الضِّعف ، وإن الجنّ يزيدون على الإنس الضعف ، وإن يأجوج ومأجوج رجلان اسمهما يأجوج ومأجوج.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت وهب بن جابر يحدث ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : إن يأجوج ومأجوج يمر أولهم بنهر مثل دجلة ، ويمرّ آخرهم فيقول : قد كان في هذا مرّة ماء ، لا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا ، وقال : مِن بعدهم ثلاثُ أمم لا يعلم عددهم إلا الله : تأويل ، وتاريس ، وناسك أو منسك ، شكّ شعبة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن وهب بن جابر الخيواني ، قال : سألت عبد الله بن عمرو ، عن يأجوج ومأجوج ، أمن بني آدم هم ؟ قال : نعم ، ومن بعدهم ثلاث أمم لا يعلم عددهم إلا الله ، تاريس ، وتأويل ، ومنسك.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا سهل بن حماد أبو عتاب ، قال : ثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم ، قالا سمعت نافع بن جبير بن مطعم يقول : قال عبد الله بن عمرو : يأجوج ومأجوج لهم أنهار يَلْقَمون ما شاءوا ، ونساء يجامعون ما شاءوا ، وشجر يلقمون ما شاءوا ، ولا يموت رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا.

(18/527)


حدثنا محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبد الله بن موسى ، قال : أخبرنا زكريا ، عن عامر ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن سلام ، قال : ما مات أحد من يأجوج ومأجوج إلا ترك ألف ذرء فصاعدا.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن عطية ، قال : قال أبو سعيد : يخرج يأجوج ومأجوج فلا يتركون أحدا إلا قتلوه ، إلا أهل الحصون ، فيمرّون على البحيرة فيشربونها ، فيمرّ المارُّ فيقول : كأنه كان ههنا ماء ، قال : فبعث الله عليهم النغف حتى يكسر أعناقهم فيصيروا خبالا فتقول أهل الحصون : لقد هلك أعداء الله ، فيدلون رجلا لينظر ، ويشترط عليهم إن وجدهم أحياء أن يرفعوه ، فيجدهم قد هلكوا ، قال : فينزل الله ماء من السماء فيقذفهم في البحر ، فتطهر الأرض منهم ، ويغرس الناس بعدهم الشجر والنخل ، وتخرج الأرض ثمرتها كما كانت تخرج في زمن يأجوج ومأجوج.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : رأى ابن عباس صبيانا ينزو بعضهم على بعض يلعبون ، فقال ابن عباس : هكذا يخرج يأجوج ومأجوج.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم ، قال : ثنا عمرو بن قيس ، قال : بلغنا أن ملكا دون الردم يبعث خيلا كل يوم يحرسون الردم لا يأمن يأجوج ومأجوج أن تخرج عليهم ، قال : فيسمعون جلبة وأمرا شديدا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، أن عبد الله بن عمرو ، قال : ما يموت الرجل من يأجوج ومأجوج حتى يولد له من صلبه ألف ، وإن من ورائهم لثلاث أمم ما يعلم عددهم إلا الله : منسك ، وتأويل ، وتاريس.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، عن عمرو البكالي ، قال : إن الله جزأ الملائكة والإنس والجنّ عشرة أجزاء فتسعة منهم الكروبيون وهم الملائكة الذي يحملون العرش ، ثم هم أيضا الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، قال : ومن بقي من الملائكة لأمر الله ووحيه ورسالته ، ثم جزّأ الإنس والجنّ عشرة أجزاء ، فتسعة منهم الجن ، لا يولد من

(18/528)


الإنس ولد إلا ولد من الجن تسعة ، ثم جزأ الإنس على عشرة أجزاء ، فتسعة منهم يأجوج ومأجوج ، وسائر الإنس جزء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ) قال : أمَّتانِ من وراء ردم ذي القرنين.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن غير واحد ، عن حميد بن هلال ، عن أبي الصيف ، قال : قال كعب : إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فئوسهم ، فإذا كان الليل قالوا : نجيء غدا فنخرج ، فيعيدها الله كما كانت ، فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان ، فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فئوسهم ، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول : نجيء غدا فنخرج إن شاء الله ، فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه ، فيحفرون ثم يخرجون ، فتمرّ الزمرة الأولى بالبحيرة فيشربون ماءها ، ثم تمرّ الزمرة الثانية فيلحسون طينها ، ثم تمرّ الزمرة الثالثة فيقولون : قد كان ههنا مرّة ماء - وتفرّ الناس منهم ، فلا يقوم لهم شيء ، يرمون بسهامهم إلى السماء ، فترجع مخضبة بالدماء ، فيقولون : غلبْنا أهل الأرض وأهل السماء ، فيدعو عليهم عيسى ابن مريم ، فيقول : اللهمّ لا طاقة ولا يدين لنا بهم ، فاكفناهم بما شئت ، فيسلط الله عليهم دودا يقال له النغفُ ، فتفرس رقابهم ، ويبعث الله عليهم طيرا فتأخذهم بمناقرها فتلقيهم في البحر ، ويبعث الله عينا يقال لها الحياة تطهر الأرض منهم وتنبتها ، حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن ، قيل : وما السكن يا كعب ؟ قال : أهل البيت ، قال : فبينا الناس كذلك ، إذ أتاهم الصريخ أن ذا السويقتين يريده ، فيبعث عيسى طليعة سبع مائة ، أو بين السبع مائة والثمان مائة ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ريحا يمانية طيبة ، فيقبض الله فيها روح كل مؤمن ، ثم يبقى عجاج من الناس يتسافدون كما تتسافد البهائم ، فمثَل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه ينتظرها متى تضع ، فمن تكلف بعد قولي هذا شيئا أو على هذا شيئا فهو المتلكف.
حدثنا العباس بن الوليد البيروتي ، قال : أخبرني أبي ، قال : سمعت ابن جابر ، قال : ثني محمد بن جابر الطائي ، ثم الحمصي ، ثني عبد الرحمن بن جبير

(18/529)


بن نفير الحضرمي ، قال : ثني أبي أنه سمع النّواس بن سمعان الكلابي يقول : " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ، وذكر أمره ، وأن عيسى ابن مريم يقتله ، ثم قال : فبينا هو كذلك ، أوحى الله إليه : يا عيسى ، إني قد أخرجت عبادا لي لا يَد لأحد بقتالهم ، فحرّز عبادي إلى الطور ، فيبعث الله يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون ، فيمرّ أحدهم على بحيرة طبرية ، فيشربون ما فيها ، ثم ينزل آخرهم ، ثم يقول : لقد كان بهذه ماء مرّة ، فيحاصر نبيّ الله عيسى وأصحابه ، حتى يكون رأس الثور يومئذ خيرا لأحدهم من مائة دينار لأحدكم ، فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم ، فيصبحون فرسى موت نفس واحدة ، فيهبط نبيّ الله عيسى وأصحابه ، فلا يجدون موضعا إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم ودماؤهم ، فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل عليهم طيرا كأعناق البُخت ، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر ، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة.
وأما قوله( وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به ، فقال بعضهم : عني بذلك بنو آدم أنهم يخرجون من كل موضع كانوا دفنوا فيه من الأرض ، وإنما عني بذلك الحشر إلى موقف الناس يوم القيامة.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) قال : جمع الناس من كل مكان جاءوا منه يوم القيامة ، فهو حدب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جُرَيح( وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) ، قال ابن جُرَيج : قال مجاهد : جمع الناس من كلّ حدب من مكان جاءوا منه يوم القيامة فهو حدب.
وقال آخرون : بل عني بذلك يأجوج ، ومأجوج وقوله : وهم كناية أسمائهم .
ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ،

(18/530)


قال : ثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، قال : ثنا أبو الزعراء ، عن عبد الله أنه قال : يخرج يأجوج ومأجوج فيمرحون في الأرض ، فيُفسدون فيها ، ثم قرأ عبد الله( وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) قال : ثم يبعث الله عليهم دابّة مثل النغف ، فتلج في أسماعهم ومناخرهم فيموتون منها فتنتن الأرض منهم ، فيرسل الله عز وجل ماء فيطهر الأرض منهم.
والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا : عني بذلك يأجوج ومأجوج ، وأن قوله( وَهُمْ) كناية عن أسمائهم ، للخبر الذي حدثنا به ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر ، عن قتادة الأنصاري ، ثم الظفري ، عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل ، عن أبي سعيد الخدريّ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يُفْتَحُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ يَخْرجُونَ عَلَى النَّاسِ كَما قَالَ الله( مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) فَيُغّشُّونَ الأرْضَ " .
حدثني أحمد بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم بن بشير ، قال : أخبرنا العوّام بن حوشب ، عن جبلة بن سحيم ، عن مؤثر ، وهو ابن عفازة العبدي ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يُذكر عن عيسى ابن مريم ، قال : قال عيسى : عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي أَنَّ الدَّجَّالَ خَارِجٌ ، وَأَنَّهُ مُهْبِطِي إِلَيْهِ ، فَذَكَرَ أَنَّ مَعَهُ قَضِيبَيْنِ ، فَإِذَا رَآنِي أَهْلَكَهُ اللهُ ، قَالَ : فَيَذُوبُ الرُّصاصُ ، حتى إنَّ الشَّجَرَ والحَجَر لَيَقُولُ : يَا مُسْلِم هَذَا كَافِرٌ فاقْتُلْهُ ، فَيُهْلِكُهُمُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعالى ، وَيَرْجِعُ النَّاسُ إلى بِلادِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ ، فَيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنْ كُلّ حَدْبٍ يَنْسِلُونَ ، لا يَأْتُونَ عَلَى شَيْءٍ إِلا أَهْلَكُوهُ ، وَلا يَمُرُّونَ عَلَى مَاءٍ إِلا شَرِبُوهُ.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : ثنا المحاربي ، عن أصبغ بن زيد ، عن العوام بن حوشب ، عن جبلة بن سحيم ، عن موثر بن عفازة ، عن عبد الله بن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وأما قوله( مِنْ كُلِّ حَدَبٍ ) فإنه يعني من كل شرف ونشَز وأكمة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(18/531)


وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)

ذكر من قال ذلك : حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) يقول : من كلّ شرف يُقبلون.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر عن قتادة( مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) قال : من كلّ أكمة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) قال : الحدب : الشيء المشرف ، وقال الشاعر :
عَلى الحِدَابِ تَمُورُ (1)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) قال : هذا مبتدأ يوم القيامة.
وأما قوله( يَنْسِلُونَ ) فإنه يعنى : أنهم يخرجون مشاة مسرعين في مشيهم كنسلان الذئب ، كما قال الشاعر :
عَسَلانَ الذئْبِ أمْسَى قارِبا... بَرَدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسَلْ (2)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) }
__________
(1) هذا جزء من بيت لم ينسبه المؤلف عند قوله تعالى : ( وهم من كل حدب ينسلون ) قال في ( اللسان : حدب ) يريد يظهرون من غليظ الأرض ومرتفعها . وقال الفراء : " من كل حدب ينسلون " : من كل أكمة ومن كل موضع مرتفع والجمع أحداب وحداب والحدب : الغلظ من الأرض في ارتفاع ، والجمع الحداب . والحدبة : ما أشرف من الأرض وغلظ وارتفع . ولا تكون الحدبة إلا في قف أو غلظ أرض . وتمور : من مار الشيء يمور مورا : تحرك وجاء وذهب ، كا تتكفأ النخلة لعيدانة .
(2) البيت للبيد أو للنابغة الجعدي ( اللسان : عسل ، ونسل ) . وعسل الذئب والثعلب يعسل عسلا وعسلانا : مضى مسرعا ، واضطرب في عدوه ، وهز رأسه . والقارب : الذي يطلب الماء ليلا ، يسير إليه مسرعا . ونسل الماشي ينسل ( كيضرب ويقتل ) نسلا ( بالتسكين والتحريك ) ونسلانا : أسرع . وأصل النسلان للذئب ، ثم استعمل في غيره .

(18/532)


يقول تعالى ذكره : حتى إذا فُتحت يأجوج ومأجوج ، اقترب الوعد الحقّ ، وذلك وعد الله الذي وعد عباده أنه يبعثهم من قبورهم للجزاء والثواب والعقاب ، وهو لا شك حق كما قال جلّ ثناؤه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو ، يعني ابن قيس ، قال : ثنا حذيفة : لو أن رجلا افتلى فَلوّا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم القيامة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ) قال : اقترب يوم القيامة منهم ، والواو في قوله( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ) مقحمة ، ومعنى الكلام : حتى إذا فُتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحقّ ، وذلك نظير قوله( فلما أسلما وتله للجبين وناديناه ) معناه : نادينا ، بغير واو ، كما قال امرؤ القيس :
فَلَمَّا أجَزْنا ساحَة الحَيّ وَانْتَحَى... بِنا بَطْنُ خَبْتٍ ذي حِقافٍ عَقَنْقَلِ (1)
يريد : فلما أجزنا ساحة الحي انتحى بنا.
وقوله( فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ففي هي التي في قوله فإذا هي وجهان : أحدهما أن تكون كناية عن الأبصار ، وتكون الأبصار الظاهرة بيانا عنها ، كما قال الشاعر :
لَعَمْرو أَبِيهَا لا تَقُولُ ظَعِينَتي... ألا فَرّ عَنِّي مالكُ بن أبي كَعْبِ (2)
__________
(1) البيت من معلقة امرئ القيس بن حجر الكندي ( مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة مصطفى البابي الحلبي ص 27 ) قال : أجزنا : قطعنا . والساحة : الفناء . والخبت : أرض مطمئنة . والحقف من الرمل : المعوج ، والجمع حقاف ، ويروى " ركام " أي بعضه فوق بعض . وعقنقل : متعقد متداخل بعضه في بعض . والبيت شاهد على أن الواو في قوله : " وانتحى " : مقحمة ، يريد : فلما أجزنا ساحة الحي انتحى . وهي نظير الواو في قوله تعالى : ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق ) . الواو في " واقترب " : مقحمة . والفعل جواب للشرط " حتى إذا فتحت " . قال الفراء في معاني القرآن ( الورقة 306 من مصورة الجامعة رقم 24059 ) : وقوله ( واقترب الوعد الحق ) معناه والله أعلم ، حتى إذا فتحت اقترب ، ودخول الواو في الجواب في " حتى إذا " بمنزلة قوله : " حتى إذا جاءوها وفتحت " . وفي قراءة عبد الله " فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية " . وفي قراءتنا بغير واو . ومثله في الصفات " فلما أسلما وتله للجنين وناديناه " معناها : ناديناه . وقال امرؤ القيس : " فلما أجزنا . . . البيت " يريد انتحى .
(2) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 307 من مصورة الجامعة ) عند قوله تعالى : ( فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ) قال : تكون هي عمادا يصلح في موضعها هو ، فتكون كقوله " إنه أنا الله العزيز " . ومثله قوله : " فإنها لا تعمي الأبصار " فجاء التأنيث لأن الأبصار مؤنثة ، والتذكير للعماد . . . وإن شئت جعلت هي للأبصار ، كنيت عنها ثم أظهرت الأبصار لتفسرها ، كما قال الشاعر : لعمر أبيها . . . البيت " اه .
وعلى كلام الفراء يكون الضمير " في أبيها " مفسرًا بقوله ظعينتي . ومثله الضمير " هي " في الآية " فإذا هي " مفسر بقوله " أبصار " . وقال أبو البقاء العكبري في إعراب القرآن وهو كالوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما الفراء : إذا للمفاجأة ، وهي مكان . والعامل فيها شاخصة . و " هي " : ضمير القصة . و " أبصار الذين " مبتدأ وشاخصة خبره . وقال الشوكاني في فتح القدير ( 3 : 413 ) مبنيا للوجهين : الضمير في فإذا هي للقصة ، أو مبهم يفسره ما بعده . وإذا للمفاجأة .

(18/533)


فكنى عن الظعينة في : لعمرو أبيها ، ثم أظهرها ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : فإذا الأبصار شاخصة أبصار الذين كفروا.
والثاني : أن تكون عمادا كما قال جلّ ثناؤه( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ ) وكقول الشاعر :
فَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ بِما هَهُنا رأْسْ (1)
وقوله( يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ) يقول تعالى ذكره : فإذا أبصار الذين كفروا قد شخصت عند مجيء الوعد الحقّ بأهواله وقيام الساعة بحقائقها ، وهم يقولون : يا ويلنا قد كنا قبل هذا الوقت في الدنيا في غفلة من هذا الذي نرى ونعاين ونزل بنا من عظيم البلاء ، وفي الكلام متروك تُرِك ذكره استغناء بدلالة ما ذُكر عليه عنه ، وذلك يقولون من قوله( فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ
__________
(1) هذا شطر بيت من أبيات ثلاثة وردت في الجزء الأول من هذا التفسير ص 401 عند قوله تعالى : " وهو محرم عليكم إخراجهم " . وقد بين أن الضمير " هو " فيه وجهان من التأويل ، كما قال في قوله تعالى : " فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا " ومثل قول الشاعر : فأَبْلِغْ أبا يَحْيَى إذَا ما لَقِيتَهُ ... على العِيسِ في آباطِها عَرَقٌ يَبْس
بأنَّ السُّلامِيَّ الَّذِي بِضَرِيَّةٍ ... أمِيرَ الحِمَى قدْ باعَ حَقي بني عَبْس
بِثَوْبٍ ودِينارٍ وشاةٍ ودِرْهَمٍ ... فَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ بِمَا هاهُنا رَأْس
والأبيات : من شواهد الفراء في آية البقرة ولم يورد هنا إلا الشطر الثاني من البيت الثالث .

(18/534)


إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)

أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) يقولون يا ويلنا ، وقوله( بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ) يقول مخبرا عن قيل الذين كفروا بالله يومئذ : ما كنا نعمل لهذا اليوم ما ينجينا من شدائده ، بل كنا ظالمين بمعصيتنا ربنا وطاعتنا إبليس وجنده في عبادة غير الله عزّ وجلّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) }
يقول تعالى ذكره : إنكم أيها المشركون بالله ، العابدون من دونه الأوثان والأصنام ، وما تعبدون من دون الله من الآلهة .
كما حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) يعني الآلهة ومن يعبدها ، (حصب جهنم ) وأما حصب جهنم ، فقال بعضهم : معناه : وقود جهنم وشجرها.
*ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( حَصَبُ جَهَنَّمَ ) : شجر جهنم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبى ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) يقول : وقودها.
وقال آخرون : بل معناه : حطب جهنم.
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( حَصَبُ جَهَنَّمَ ) قال : حطبها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، (مثله)! وزاد فيه : وفى بعض القراءة(حَطَبُ جَهَنَّمَ) يعني في قراءة عائشة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( حَصَبُ جَهَنَّمَ ) قال : حطب جهنم يقذفون فيها.

(18/535)


لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن الحر ، عن عكرمة ، قوله( حَصَبُ جَهَنَّمَ ) قال : حطب جهنم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنهم يرمى بهم في جهنم.
ذكر من قال ذلك : حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( حَصَبُ جَهَنَّمَ ) يقول : إن جهنم إنما تحصب بهم ، وهو الرمي ، يقول : يرمي بهم فيها.
واختلف في قراءة ذلك ، فقرأته قراء الأمصار( حَصَبُ جَهَنَّمَ ) بالصاد ، وكذلك القراءة عندنا لإجماع الحجة عليه.
ورُوي عن عليّ وعائشة أنهما كانا يقرآن ذلك( حَطَبُ جَهَنَّمَ) بالطاء.
ورُوي عن ابن عباس أنه قرأه( حَضَبُ) بالضاد.
حدثنا بذلك أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا إبراهيم بن محمد ، عن عثمان بن عبد الله ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه قرأها كذلك.
وكأن ابن عباس إن كان قرأ ذلك كذلك ، أراد أنهم الذين تسجر بهم جهنم ، ويوقد بهم فيها النار ، وذلك أن كل ما هيجت به النار وأوقدت به ، فهو عند العرب حضب لها . فإذا كان الصواب من القراءة في ذلك ما ذكرنا ، وكان المعروف من معنى الحصب عند العرب : الرمي ، من قولهم : حصبت الرجل : إذا رميته ، كما قال جلّ ثناؤه( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا ) كان الأولى بتأويل ذلك قول من قال : معناه أنهم تقذف جهنم بهم ويرمى بهم فيها ، وقد ذكر أن الحصب في لغة أهل اليمين : الحطب ، فإن يكن ذلك كذلك فهو أيضا وجه صحيح ، وأما ما قلنا من أن معناه الرمي فإنه في لغة أهل نجد. وأما قوله( أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) فإن معناه : أنتم عليها أيها الناس أو إليها واردون ، يقول : داخلون ، وقد بينت معنى الورود فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) }

(18/536)


لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)

يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم أنهم ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون ، وهم مشركو قريش : أنتم أيها المشركون ، وما تعبدون من دون الله واردو جهنم ، ولو كان ما تعبدون من دون الله آلهة ما وردوها ، بل كانت تمنع من أراد أن يوردكموها إذ كنتم لها في الدنيا عابدين ، ولكنها إذ كانت لا نفع عندها لأنفسها ولا عندها دفع ضر عنها ، فهي من أن يكون ذلك عندها لغيرها أبعد ، ومن كان كذلك كان بينا بعده من الألوهة ، وأن الإله هو الذي يقدر على ما يشاء ولا يقدر عليه شيء ، فأما من كان مقدورا عليه فغير جائز أن يكون إلها. وقوله( وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ) يعني الآلهة ومن عبدها أنهم ماكثون في النار أبدا بغير نهاية ، وإنما معنى الكلام : كلكم فيها خالدون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ) قال : الآلهة التي عبد القوم ، قال : العابد والمعبود.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) }
يعني تعالى ذكره بقوله( لَهُمْ ) المشركين وآلهتهم ، والهاء ، والميم في قوله(لَهُمْ ) من ذكر كل التي في قوله( وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، يقول تعالى ذكره : لكلهم في جهنم زفير ، ( وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ) يقول : وهم في النار لا يسمعون.
وكان ابن مسعود يتأوّل في قوله( وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ) ما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن المسعودي ، عن يونس بن خباب ، قال : قرأ ابن مسعود هذه الآية( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ) قال : إذا ألقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار ، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى ، ثم جعلت التوابيت في توابيت أخرى

(18/537)


فيها مسامير من نار ، فلا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذّب غيره ، ثم قرأ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ) .
وأما قوله( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به ، فقال بعضهم : عني به كل من سبقت له من الله السعادة من خلقه أنه عن النار مُبعد.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن يوسف بن سعد وليس بابن ماهَك عن محمد بن حاطب ، قال : سمعت عليا يخطب فقرأ هذه الآية( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) ، قال : عثمان رضي الله عنه منهم.
وقال آخرون : بل عني : منْ عبد مِن دون الله ، وهو لله طائع ولعبادة من يَعبد كاره.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) قال : عيسى ، وعزير ، والملائكة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيح ، عن مجاهد ، مثله.
قال ابن جريج : قوله( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ثم استثنى فقال( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، والحسن البصري قالا قال في سورة الأنبياء( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ) ثم استثنى فقال( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) فقد عُبدت الملائكة من دون الله ، وعُزَيرٌ وعيسى من دون الله.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن

(18/538)


سعيد( أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) قال : عيسى.
حدثني إسماعيل بن سيف ، قال : ثنا علي بن مسهر ، قال : ثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ) قال : عيسى ، وأمه ، وعُزَير ، والملائكة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرض له النضر بن الحارث ، وكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ) . . . إلى قوله( وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ) ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عبد الله بن الزّبَعْرى بن قيس بن عديّ السهمي حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزّبَعْرى : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد ، وقد زعم أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ، فقال عبد الله بن الزبعري : أما والله لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمدا : أكلّ من عبد من دون الله في جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عُزَيرا ، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم ، فعجب الوليد بن المغيرة ومن كان في المجلس من قول عبد الله بن الزّبَعْرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول ابن الزّبَعْرى ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبد ، إنما يعبدون الشياطين ومن أمرهم بعبادته " ، فأنزل الله عليه( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) . . . . إلى( خالِدُونَ ) " أي عيسى ابن مريم ، وعُزير ، ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذي مضوا على طاعة الله ، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله ، فأنزل الله فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) . . . إلى قوله( نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال :

(18/539)


سمعت الضحاك ، قال : يقول ناس من الناس(إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) يعني من الناس أجمعين ، فليس كذلك ، إنما يعني من يعبد الآلهة وهو لله مطيع مثل عيسى وأمه وعُزَير والملائكة ، واستثنى الله هؤلاء الآلهة المعبودة التي هي ومن يعبدها في النار.
حدثنا ابن سنان القزاز ، قال : ثنا الحسن بن الحسين الأشقر ، قال : ثنا أبو كدينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) قال المشركون : فإن عيسى يُعبد وعُزَير والشمس والقمر يُعبدون ، فأنزل الله( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) لعيسى وغيره.
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال : عني بقوله( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) ما كان من معبود ، كان المشركون يعبدونه والمعبود لله مطيع وعابدوه بعبادتهم إياه بالله كفّار ، لأن قوله تعالى ذكره( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ) ابتداء كلام محقق لأمر كان ينكره قوم ، على نحو الذي ذكرنا في الخبر عن ابن عباس ، فكأن المشركين قالوا لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم إذ قال لهم( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) : ما الأمر كما تقول ، لأنا نعبد الملائكة ، ويعبد آخرون المسيح وعُزَيرا ، فقال عزّ وجلّ ردا عليهم قولهم : بل ذلك كذلك ، وليس الذي سبقت لهم منا الحسنى هم عنها مبعدون ، لأنهم غير معنيين بقولنا( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) ، فأما قول الذين قالوا ذلك استثناء من قوله( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) فقول لا معنى له ، لأن الاستثناء إنما هو إخراج المستثنى من المستثنى منه ، ولا شك أن الذين سبقت لهم منا الحسنى إنما هم إما ملائكة وإما إنس أو جانٌ ، وكلّ هؤلاء إذا ذكرتها العرب فإن أكثر ما تذكرها بمن ، لا بما ، والله تعالى ذكره إنما ذكر المعبودين الذين أخبر أنهم حَصَب جهنم بما ، قال( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) إنما أريد به ما كانوا يعبدونه من الأصنام والآلهة من الحجارة والخشب ، لا من كان من الملائكة والإنس ، فإذا كان ذلك كذلك لما وصفنا ، فقوله( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ) جواب من الله للقائلين ما ذكرنا من المشركين مبتدأ ، وأما الحُسنى فإنها الفُعلى

(18/540)


من الحسن ، وإنما عني بها السعادة السابقة من الله لهم .
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ) قال : الحسنى : السعادة ، وقال : سبقت السعادة لأهلها من الله ، وسبق الشقاء لأهله من الله.

(18/541)


لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)

القول في تأويل قوله تعالى : { لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) }
يقول تعالى ذكره : لا يسمع هؤلاء الذين سبقت لهم منا الحسنى حَسيس النار ، ويعني بالحسيس : الصوت والحسّ.
فإن قال قائل : فكيف لا يسمعون حسيسها ، وقد علمت ما روي من أن جهنم يؤتى بها يوم القيامة فتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلا جثا على ركبتيه خوفا منها ؟ قيل : إن الحال التي لا يسمعون فيها حسيسها هي غير تلك الحال ، بل هي الحال التي حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثنى عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) يقول : لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزلوا منزلهم من الجنة.
وقوله( وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) يقول : وهم فيما تشتهيه نفوسهم من نعيمها ولذاتها ماكثون فيها ، لا يخافون زوالا عنها ولا انتقالا عنها.
القول في تأويل قوله تعالى : { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) }
اختلف أهل التأويل في الفزع الأكبر أي الفزع هو ؟ فقال بعضهم : ذلك النار إذا أطبقت على أهلها.
ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، قال : ثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ

(18/541)


يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)

الأكْبَرُ ) قال : النار إذا أطبقت على أهلها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ ) قال : حين يطبق جهنم ، وقال : حين ذبح الموت.
وقال آخرون : بل ذلك النفخة الآخرة.
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ ) يعني النفخة الآخرة.
وقال آخرون : بل ذلك حين يؤمر بالعبد إلى النار.
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن رجل ، عن الحسن( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ ) قال : انصراف العبد حين يُؤْمر به إلى النار.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : ذلك عند النفخة الآخرة ، وذلك أن من لم يحزنه ذلك الفزع الأكبر وآمن منه ، فهو مما بعدَه أحرى أن لا يفزَع ، وأن من أفزعه ذلك فغير مأمون عليه الفزع مما بعده.
وقوله( وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) يقول : وتستقبلهم الملائكة يهنئونهم يقولون( هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) فيه الكرامة من الله والحِباء والجزيل من الثواب على ما كنتم تنصَبون في الدنيا لله في طاعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن زيد.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) قال : هذا قبل أن يدخلوا الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) }
يقول تعالى ذكره : لا يحزنهم الفزع الأكبر ، يوم نطوي السماء ، فيوم صلة من يحزنهم.

(18/542)


واختلف أهل التأويل في معنى السجلّ الذي ذكره الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هو اسم ملك من الملائكة.
ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، قال : ثنا أبو الوفاء الأشجعيّ ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، في قوله( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) قال : السجِلّ : مَلَك ، فإذا صعد بالاستغفار قال : اكتبها نورا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، قال : سمع السديّ يقول ، في قوله( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ ) قال : السجلّ : ملك.
وقال آخرون : السجلّ : رجل كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك : حدثنا نصر بن علي ، قال : ثنا نوح بن قيس ، قال : ثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس في هذه الآية( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) قال : كان ابن عباس يقول : هو الرجل.
قال : ثنا نوح بن قيس ، قال : ثنا يزيد بن كعب ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، قال : السجل : كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون : بل هو الصحيفة التي يكتب فيها.
ذكر من قال ذلك : حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله( كطي السجل للكتاب ) يقول : كطي الصحيفة على الكتاب.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قالا ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب ) يقول : كطيّ الصحف.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن

(18/543)


مجاهد ، قال : السِّجلّ : الصحيفة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب ) قال : السجل : الصحيفة.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : السجل في هذا الموضع الصحيفة ، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب ، ولا يعرف لنبينا صلى الله عليه وسلم كاتب كان اسمه السجلّ ، ولا في الملائكة ملك ذلك اسمه.
فإن قال قائل : وكيف نطوي الصحيفة بالكتاب إن كان السجل صحيفة ؟ قيل : ليس المعنى كذلك ، وإنما معناه : يوم نطوي السماء كطيّ السجل على ما فيه من الكتاب ، ثم جعل نطوي مصدرا ، فقيل( كطي السجل للكتاب ) واللام في قوله للكتاب بمعنى على.
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار ، سوى أبي جعفر القارئ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ ) بالنون ، وقرأ ذلك أبو جعفر( يَوْم تُطْوَى السَّماءُ ) بالتاء وضمها ، على وجه ما لم يُسمّ فاعله.
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار ، بالنون ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه وشذوذ ما خالفه . وأما السِّجلّ فإنه في قراءة جميعهم بتشديد اللام ، وأما الكتاب ، فإن قرّاء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة قرءوه بالتوحيد ، كطي السجل للكتاب ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة( للْكُتُبِ ) على الجماع.
وأولى القراءتين عندنا في ذلك بالصواب : قراءة من قرأه على التوحيد للكتاب ، لما ذكرنا من معناه ، فإن المراد منه : كطيّ السجلّ على ما فيه مكتوب ، فلا وجه إذ كان ذلك معناه لجميع الكتب إلا وجه نتبعه من معروف كلام العرب ، وعند قوله( كَطَيِّ السِّجِلِّ ) انقضاء الخبر عن صلة قوله( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ ) ، ثم ابتدأ الخبر عما الله فاعل بخلقه يومئذ فقال تعالى ذكره( كما بدأنا أول خلق نعيده.
فالكاف التي في قوله(كَما) من صلة نعيد ، تقدّمت قبلها ، ومعنى الكلام : نعيد الخلق عُراة حفاة غُرْلا يوم القيامة ، كما بدأناهم أوّل مرّة في حال خلقناهم في بطون أمَّهاتهم ، على اختلاف من أهل التأويل

(18/544)


في تأويل ذلك.
وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل ، وبه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلذلك اخترت القول به على غيره.
ذكر من قال ذلك والأثر الذي جاء فيه : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى - وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) قال : حُفاة عُراة غُرْلا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله( أول خلق نعيد ) قال : حفاة غلفا ، قال ابن جريج أخبرني إبراهيم بن ميسرة ، أنه سمع مجاهدا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحدى نسائه : " يَأْتُونَهُ حُفاةً عُرَاةً غُلْفا ، فاسْتَتَرتْ بِكُمِّ دِرْعِها ، وقالَتْ وَا سَوأتاهُ " قال ابن جريج : أخبرت أنها عائشة قالت : يا نبيّ الله ، لا يحتشمُ الناس بعضهم بعضا ؟ قال : " لكُلّ امْرئٍ يَوْمَئذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه " .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثني المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " يُحْشَرُ النَّاسُ حُفاةً عُرَاةً غُزْلا فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهيمُ " ثم قرأ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا إسحاق بن يوسف ، قال : ثنا سفيان ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : " وقام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة ، فذكره نحوه " .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن المغيرة بن النعمان النخَعيّ ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره نحوه.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن شعبة ، قال : ثنا المغيرة بن النعمان النخَعيّ ، عن سعيد بن جُبير ، عن أبن عباس ، نحوه.
حدثنا عيسى بن يوسف بن الطباع أبو يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن

(18/545)


عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : " إنكم مُلاقُو اللهِ مُشاةً غُرْلا " .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن عائشة ، قالت : " دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي عجوز من بني عامر ، فقال : مَنْ هَذه العَجُوزُ يا عائِشةُ ؟ فقلت : إحدى خالاتي ، فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال : إنّ الجَنَّةَ لا يَدْخُلُها العَجَزةُ ، قالت : فأخذَ العجوز ما أخذها ، فقال : إنّ اللهَ يُنْشِئُهُنَّ خَلْقا غيرَ خَلْقِهِنَّ ، ثم قال : يُحْشَرُونَ حُفاةً عُرَاةً غُلْفا ، فقالت : حاش لله من ذلك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بَلى إنّ الله قال : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا ) ... إلى آخر الآية ، فأوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الله " .
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا عبيد الله ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عطاء ، عن عقبة بن عامر الجهني ، قال : يجمع الناس في صعيد واحد ينفذهم البصر ، ويسمعهم الداعي ، حفاة عراة ، كما خلقوا أول يوم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني عباد بن العوام ، عن هلال بن حبان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يحشر الناس يوم القيامة حُفاة عراة مشاة غرلا قلت : يا أبا عبد الله ما الغرل ؟ قال : الغلف ، فقال بعض أزواجه : يا رسول الله ، أينظر بعضنا إلى بعض إلى عورته ؟ فقال لِكُلّ امْرئٍ يَوْمَئذٍ ما يَشْغَلُهُ عَن النَّظَر إلى عَوْرَة أَخِيهِ " ، قال هلال : قال سعيد بن جبير( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) قال : كيوم ولدته أمه ، يردّ عليه كل شيء انتقص منه مثل يوم وُلد.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كما كنا ولا شيء غيرنا قبل أن نخلق شيئا ، كذلك نهلك الأشياء فنعيدها فانية ، حتى لا يكون شيء سوانا.
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) . . . الآية ، قال : نهلك كل شيء كما كان أوّل مرّة. وقوله( وَعْدًا عَلَيْنَا )

(18/546)


وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)

يقول : وعدناكم ذلك وعدا حقا علينا أن نوفي بما وعدنا ، إنا كنا فاعلي ما وعدناكم من ذلك أيها الناس ، لأنه قد سبق في حكمنا وقضائنا أن نفعله ، على يقين بأن ذلك كائن ، واستعدوا وتأهبوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) }
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالزَّبور والذكر في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عُني بالزَّبور : كتب الأنبياء كلها التي أنزلها الله عليهم ، وعُني بالذكر : أمّ الكتاب التي عنده في السماء.
ذكر من قال ذلك : حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرمليّ ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، قال : سألت سعيدا ، عن قول الله( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) قال : الذكر : الذي في السماء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، في قوله( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ ) قال : قرأها الأعمش : (الزُّبُرِ) قال : الزبور ، والتوراة ، والإنجيل ، والقرآن ، ( مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) قال : الذكر الذي في السماء.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( الزَّبُورِ ) قال : الكتاب ، ( مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) قال : أم الكتاب عند الله.
* حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله( الزبور ) قال : الكتاب ، (بعد الذكر ) قال : أم الكتاب عند الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ ) قال : الزبور : الكتب التي أُنزلت على الأنبياء ، والذكر : أمّ الكتاب الذي تكتب فيه الأشياء قبل ذلك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد ، في قوله

(18/547)


( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) قال : كتبنا في القرآن من بعد التوراة.
وقال آخرون : بل عني بالزبور : الكتب التي أنزلها الله على مَنْ بعد موسى من الأنبياء ، وبالذكر : التوراة.
*ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) ... الآية ، قال : الذكر : التوراة ، والزبور : الكتب.
حدثنا عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) . . . الآية ، قال : الذكر : التوراة ، ويعني بالزبور من بعد التوراة : الكتب.
وقال آخرون : بل عني بالزَّبور زَبور داود ، وبالذكر تَوراة موسى صلى الله عليهما.
ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن عامر أنه قال في هذه الآية( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) قال : زبور داود ، من بعد الذكر : ذكر موسى التوراة.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن الشعبيّ ، أنه قال في هذه الآية( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) قال : في زبور داود ، من بعد ذكر موسى.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في ذلك ما قاله سعيد بن جبير ومجاهد ومن قال بقولهما في ذلك ، من أن معناه : ولقد كتبنا في الكتب من بعد أمّ الكتاب الذي كتب الله كل ما هو كائن فيه قبل خلق السماوات والأرض ، وذلك أن الزبور هو الكتاب ، يقال منه : زبرت الكتاب وذَبرته (1) : إذا كتبته ، وأن كلّ كتاب أنزله الله إلى نبيّ من أنبيائه ، فهو ذِكْر . فإذ كان ذلك كذلك ، فإن في إدخاله الألف واللام في الذكر ، الدلالة البينَة أنه معنيّ به ذكر بعينه معلوم عند المخاطبين بالآية ، ولو كان ذلك غير أم الكتاب التي ذكرنا لم تكن التوراة
__________
(1) ( في اللسان : ذبر ) : الذبر : الكتابة ، مثل الزبر . ذبر الكتاب يذبره ( كنصره ) ويذبره ( كيضربه ) ذبرا ، وذبره ( بالتضعيف ) كلاهما : كتبه ، نقطه . وقيل : قرأه قراءة خفيفة ، بلغة هذيل .

(18/548)


بأولى من أن تكون المعنية بذلك من صحف إبراهيم ، فقد كان قبل زَبور داود.
فتأويل الكلام إذن ، إذ كان ذلك كما وصفنا : ولقد قضينا ، فأثبتنا قضاءنا في الكتب من بعد أمّ الكتاب ، أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، يعني بذلك : أن أرض الجنة يرثها عبادي العاملون بطاعته ، المنتهون إلى أمره ونهيه من عباده ، دون العاملين بمعصيته منهم المؤثرين طاعة الشيطان على طاعته.
ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى القَتَّات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قوله( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال : أرض الجنة.
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال : أخبر سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض ، أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ، ويُدخلهم الجنة ، وهم الصالحون.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير في قوله( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال : كتبنا في القرآن بعد التوراة ، والأرض أرض الجنة.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال : الأرض : الجنة.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرمليّ ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، قال : سألت سعيدا عن قول الله( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال : أرض الجنة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( أَنَّ الأرْضَ ) قال : الجنة ، ( يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ،

(18/549)


إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)

عن مجاهد ، مثله.
حدثني يونس ، قال : اخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال : الجنة ، وقرأ قول الله جلّ ثناؤه( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) قال : فالجنة مبتدؤها في الأرض ثم تذهب درجات علوا ، والنار مبتدؤها في الأرض ، وبينهما حجاب سور ما يدري أحد ما ذاك السور ، وقرأ( بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) قال : ودرجها تذهب سفالا في الأرض ، ودرج الجنة تذهب علوا في السماوات.
حدثنا محمد بن عوف ، قال : ثنا أبو المغيرة ، قال : ثنا صفوان ، سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان : هل لأنفس المؤمنين مجتمع (1) ؟ قال : فقال : إن الأرض التي يقول الله( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال : هي الأرض التي تجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث.
وقال آخرون : هي الأرض يورثها الله المؤمنين في الدنيا.
وقال آخرون : عني بذلك بنو إسرائيل ، وذلك أن الله وعدهم ذلك فوفى لهم به.
واستشهد لقوله ذلك بقول الله( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) وقد ذكرنا قول من قال( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) أنها أرض الأمم الكافرة ، ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قول ابن عباس الذي روى عنه عليّ بن أبي طلحة.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) }
يقول تعالى ذكره : إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لبلاغا لمن عبد الله بما فيه من الفرائض التي فرضها الله إلى رضوانه ، وإدراك الطَّلِبة عنده
__________
(1) الأصل : هل لأنفس المؤمنين بمجتمع ؟ والصواب : ما أثبتناه .

(18/550)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن الجريري ، عن أبي الورد بن ثمامة ، عن أبي محمد الحضرمي ، قال : ثنا كعب في هذا المسجد ، قال : والذي نفس كعب بيده ، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ، إنهم لأهل ، أو أصحاب الصلوات الخمس ، سماهم الله عابدين.
حدثنا الحسين بن يزيد الطحان ، قال : ثنا ابن علية ، عن سعيد بن إياس الجريري ، عن أبي الورد عن كعب ، في قوله( إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ) قال : صوم شهر رمضان ، وصلاة الخمس ، قال : هي ملء اليدين والبحر عبادة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا محمد بن الحسين ، عن الجريري ، قال : قال كعب الأحبار( إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ) : لأمة محمد.
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله( إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ) يقول : عاملين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( إن في هذا بلاغا لقوم عابدين ) قال : يقولون في هذه السورة لبلاغا.
ويقول آخرون : في القرآن تنزيل لفرائض الصلوات الخمس ، من أداها كان بلاغا لقوم عابدين ، قال : عاملين.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ) قال : إن في هذا لمنفعة وعلما لقوم عابدين ، ذاك البلاغ.
وقوله( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك يا محمد إلى خلقنا إلا رحمة لمن أرسلناك إليه من خلقي.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية ، أجميع العالم الذي أرسل إليهم محمد أريد بها مؤمنهم وكافرهم ؟ أم أريد بها أهل الإيمان خاصة دون أهل الكفر ؟

(18/551)


قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)

فقال بعضهم : عني بها جميع العالم المؤمن والكافر.
ذكر من قال ذلك : حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن المسعودي ، عن رجل يقال له سعيد ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، في قول الله في كتابه( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) قال : من آمن بالله واليوم الآخر كُتب له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله ، عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن المسعودي ، عن أبي سعيد ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، في قوله( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) قال : تمت الرحمة لمن به في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن به عوفي مما أصاب الأمم قبل.
وقال آخرون : بل أريد بها أهل الإيمان دون أهل الكفر.
*ذكر من قال ذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) قال : العالمون : من آمن به وصدّقه ، قال( وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ) قال : فهو لهؤلاء فتنة ولهؤلاء رحمة ، وقد جاء الأمر مجملا رحمة للعالمين ، والعالمون ههنا : من آمن به وصدّقه وأطاعه.
وأولى القولين في ذلك بالصواب .القول الذي رُوي عن ابن عباس ، وهو أن الله أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالم ، مؤمنهم وكافرهم . فأما مؤمنهم فإن الله هداه به ، وأدخله بالإيمان به ، وبالعمل بما جاء من عند الله الجنة. وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذّبة رسلها من قبله.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : ما يوحي إلي ربي إلا أنَّه لا إله لكم يجوز أن يُعبد إلا إله واحد ، لا تصلح العبادة إلا له ،

(18/552)


فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)

ولا ينبغي ذلك لغيره.
يقول : فهل أنتم مذعنون له أيها المشركون العابدون الأوثان والأصنام بالخضوع لذلك ، ومتبرّئون من عبادة ما دونه من آلهتكم ؟.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) }
يقول تعالى ذكره : فإن أدبر هؤلاء المشركون يا محمد عن الإقرار بالإيمان ، بأن لا إله لهم إلا إله واحد ، فأعرضوا عنه ، وأبوا الإجابة إليه ، فقل لهم( قد آذنتكم على سواء ) يقول : أعلمهم أنك وهم على علم من أن بعضكم لبعض حرب ، لا صلح بينكم ولا سلم.
وإنما عني بذلك قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من قُريش.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ ) فإن تولوا ، يعنى قريشا.
وقوله( وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه : قل وما أدري متى الوقت الذي يحلّ بكم عقاب الله الذي وعدكم ، فينتقم به منكم ، أقريب نزوله بكم أم بعيد ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج( وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ) قال : الأجل.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين ،

(18/553)


قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)

إن الله يعلم الجهر الذي يجهرون به من القول ، ويعلم ما تخفونه فلا تجهرون به ، سواء عنده خفيه وظاهره وسره وعلانيته ، إنه لا يخفى عليه منه شيء ، فإن أخر عنكم عقابه على ما تخفون من الشرك به أو تجهرون به ، فما أدري ما السبب الذي من أجله يؤخر ذلك عنكم ؟ لعلّ تأخيره ذلك عنكم مع وعده إياكم لفتنة يريدها بكم ، ولتتمتعوا بحياتكم إلى أجل قد جعله لكم تبلغونه ، ثم ينزل بكم حينئذ نقمته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) يقول : لعل ما أقرب لكم من العذاب والساعة ، أن يؤخر عنكم لمدتكم ، ومتاع إلى حين ، فيصير قولي ذلك لكم فتنة.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) }
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد : يا رب افصل بيني وبين من كذّبني من مشركي قومي وكفر بك ، وعبد غيرك ، بإحلال عذابك ونقمتك بهم ، وذلك هو الحقّ الذي أمر الله تعالى نبيه أن يسأل ربه الحكم به ، وهو نظير قوله جلّ ثناؤه( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ )
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس( قال رب احكم بالحقّ ) قال : لا يحكم بالحقّ إلا الله ، ولكن إنما استعجل بذلك في الدنيا ، يسأل ربه على قومه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كان إذا شهد قتالا قال( رب احكم بالحق ).
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار( قُلْ رَبّ احْكُمْ ) بكسر الباء ، ووصل الألف ألف احكم ، على وجه الدعاء والمسألة ،

(18/554)


سوى أبي جعفر ، فإنه ضم الباء من الربّ ، على وجه نداء المفرد ، وغير الضحاك بن مزاحم ، فإنه روي عنه أنه كان يقرأ ذلك : (رَبّي أَحْكَمُ) على وجه الخبر بأن الله أحكم بالحقّ من كل حاكم ، فيثبت الياء في الربّ ، ويهمز الألف من أحكم ، ويرفع أحكم على أنه خبر للربُ تبارك وتعالى :
والصواب من القراءة عندنا في ذلك : وصل الباء من الرب وكسرها باحكم ، وترك قطع الألف من احكم ، على ما عليه قراء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه وشذوذ ما خالفه . وأما الضحاك فإن في القراءة التي ذكرت عنه زيادة حرف على خط المصاحف ، ولا ينبغي أن يزاد ذلك فيها ، مع صحة معنى القراءة بترك زيادته ، وقد زعم بعضهم أن معنى قوله( رب احكم بالحق ) قل : ربّ احكم بحكمك الحقّ ، ثم حذف الحكم الذي الحقّ نعت له ، وأقيم الحقّ مقامه ، ولذلك وجه ، غير أن الذي قلناه أوضح وأشبه بما قاله أهل التأويل ، فلذلك اخترناه.
وقوله( وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) يقول جلّ ثناؤه : وقل يا محمد : وربنا الذي يرحم عباده ويعمهم بنعمته ، الذي أستعينه عليكم فيما تقولون وتصفون من قولكم لي فيما أتيتكم به من عند الله( هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) وقولكم(بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ) وفي كذبكم على الله جلّ ثناؤه وقيلكم( اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ) فإنه هين عليه تغيير ذلك ، وفصل ما بيني وبينكم بتعجيل العقوبة لكم على ما تصفون من ذلك .
آخر تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام

(18/555)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)

تفسير سورة الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يا أيها الناس احذروا عقاب ربكم بطاعته فأطيعوه ولا تعصوه ، فإن عقابه لمن عاقبه يوم القيامة شديد.
ثم وصف جلّ ثناؤه هول أشراط ذلك اليوم وبدوه ، فقال : ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ).
واختلف أهل العلم في وقت كون الزلزلة التي وصفها جلّ ثناؤه بالشدة ، فقال بعضهم : هي كائنة في الدنيا قبل يوم القيامة.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، في قوله( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) قال : قبل الساعة.
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن الصلت ، قال : ثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن عامر( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) قال : هذا في الدنيا قبل يوم القيامة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج في قوله( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ ) فقال : زلزلتها : أشراطها. الآيات( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) .

(18/557)


حدثنا ابن حميد : ثنا جرير ، عن عطاء ، عن عامر( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) قال : هذا في الدنيا من آيات الساعة.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما قال هؤلاء خبر في إسناده نظر (1) ، وذلك ما : حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع المدني ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَمَّا فَرَغَ اللهُ مِنَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، خَلَقَ الصُّورَ فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ ، شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى العَرْشِ ، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ. قال أبو هريرة : يا رسول الله ، وما الصور ؟ قال : قَرْنٌ. قال : وكيف هو ؟ قال : قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفْخاتٍ : الأولى : نَفْخَةُ الفَزَعِ ، والثَّانِيَةُ : نَفْخَةُ الصَّعْقِ ، وَالثَّالِثَةُ : نَفْخَةُ القِيامِ لِرَبّ العَالَمِينَ. يَأْمُرُ اللهُ عَزّ وَجَلَّ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الأُولَى ، فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ ، وَيَأْمُرُه اللهُ فَيُدِيمُها ويُطوِّلُها ، فَلا يَفْتَر ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللُه( وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) فَيُسَيِّرُ اللهُ الجِبَالَ فَتَكُونُ سَرَابًا ، وَتُرَجُّ الأَرْضُ بِأَهْلِهَا رَجًّا ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللهُ( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ) فَتَكُونُ الأَرْضُ كَالسَّفِينَةِ المُوبِقَةِ فِي البَحْرِ تَضْرِبُهَا الأَمْوَاجُ تُكْفَأُ بِأَهْلِهَا ، أَوْ كَالْقَنْدِيلِ المُعَلَّقِ بِالعَرْشِ تَرُجِّحُهُ الأَرْوَاحُ فَتَمِيُد النَّاسُ عَلى ظُهُرِها ، فَتَذْهَلُ المَرَاضِعُ ، وتَضَعُ الحَوَامِلُ ، وَتَشِيبُ الوِلْدَان ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً حتى تَأْتي الأقْطار ، فَتَلَقَّاهَا المَلائِكَةُ فَتَضْرِبُ وُجُوهَهَا ، فَتَرْجِعُ وَيُوَلّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللهُ( يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلى ذلكَ ، إِذْ تَصَدَّعَت الأَرْضُ مِنْ قُطْرٍ إلى قُطْرٍ ، فَرَأوْا أمْرًا عظيمًا ، وَأَخَذَهُم لِذَلِكَ مِنَ الكَرْبِ ما اللهُ أَعْلَمُ بِهِ ، ثُمَّ نَظَرُوا إلى السَّمَاءِ فَإِذَا هِيَ كَالمُهْلِ ، ثُمَّ خُسِفَ شَمْسُهَا وَخُسِفَ قَمَرُها وَانْتَثَرَتْ
__________
(1) لعل المراد بأن في إسناده نظرا : أن فيه رجلين مجهولين من الأنصار .

(18/558)


نُجُومُها ، ثُمَّ كُشِطَتْ عَنْهُمْ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والأَمْوَاتُ لا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذلكَ ، فقال أبو هريرة : فمن استثنى الله حين يقول( فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) قال : أُولَئِكَ الشُّهَداءُ ، وَإِنَّمَا يَصِلُ الفَزَعُ إلى الأَحْيَاءُ ، أُولَئِكَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، وَقَاهُمُ اللهُ فَزَعَ ذلكَ اليَوْمِ وَآمَنَهُمْ ، وَهُوَ عَذَابُ اللهِ يَبْعَثُهُ عَلَى شِرَارِ خَلْقِهِ ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) ... إلى قوله( وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) " .
وهذا القول الذي ذكرناه عن علقمة والشعبيّ ومن ذكرنا ذلك عنه ، قولٌ لولا مجيء الصحاح من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمعاني وحي الله وتنزيله.
والصواب من القول في ذلك ما صح به الخبر عنه.
*ذكر الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا : حدثني أحمد بن المقدام ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي يحدّث عن قتادة ، عن صاحب له حدثه ، عن عمران بن حُصين ، قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه وقد فاوت السَّير بأصحابه ، إذ نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) " . قال : فحثُّوا المطيّ ، حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " هَلْ تَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ ذَلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : ذلكَ يَوْمَ يُنَادَى آدَمُ ، يُنَادِيهِ رَبُّهُ : ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ ، مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إلى النَّارِ ، قال : فأبلس القوم ، فما وضح منهم ضاحك ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ألا اعْمَلُوا وَأبْشِرُوا ، فَإِنّ مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْنِ ما كَانَتَا فِي قَوْمٍ إلا كَثَّرتاهُ ، فَمَنْ هَلَكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ، وَمَنْ هَلَكَ مِنْ بَنِي إِبْلِيسَ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ. قال : أَبْشِرُوا ، مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ البَعِيرِ ، أو كالرّقمة في جَناحِ الدَّابَّةِ " .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، قال : ثنا هشام بن أبي

(18/559)


عبد الله ، عن قَتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وحدثنا ابن بشار ، قال : ثنا معاذ بن هشام ، قال : ثنا أبي ، وحدثنا ابن أبي عدي ، عن هشام جميعا ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا محمد بن بشر ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن العلاء بن زياد عن عمران ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، قال : " بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العُسْرة ، ومعه أصحابه ، بعد ما شارف المدينة ، قرأ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا ) ... الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَتَدْرُونَ أَيّ يَوْمٍ ذَاكُمْ ؟ قيل : الله ورسوله أعلم. فذكر نحوه ، إلا أنه زاد : وَإنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولانِ إلا كَانَ بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ مِنَ الجَاهِلِيّةِ ، فَهُمْ أَهْلُ النَّارِ وَإِنَّكُمْ بَيْنَ ظَهْرَانيْ خَلِيقَتَينِ لا يعادّهما أحدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ إِلا كَثَّرُوهْم ، وَهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجًوجُ ، وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ ، وَتَكْمُلُ العِدَّةُ مِنَ المُنَافِقِينَ " .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي سعيد ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : يُقَالُ لآدَمَ : أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ ، قالَ : فَيَقُولُ : وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ فَيَقُولُ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَعِنْدَ ذلكَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ ، وَتَضَعُ الحَامِلُ حَمْلْهَاَ ، وَتَرى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ . قال : قُلْنَا فَأين الناجي يا رسول الله ؟ قال : أَبْشِرُوا ، فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ وَأَلْفا مِنْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ . ثُمَّ قالَ : إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الجَنةِ ، فَكَبَّرْنَا وَحَمَدْنَا اللهَ. ثم قال : " إنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنةِ ، فَكَبَّرْنَا وَحَمِدْنَا اللهَ. ثم قال : إنّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنّة ، إنَّمَا مَثَلُكُمْ فِي النَّاسِ كَمَثَلِ الشَّعْرَةِ البَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ ، أَوْ كَمَثَلِ الشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَبْيَضِ " .

(18/560)


حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخُدْريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يَقُول اللهُ لآدَمَ يَوْمَ القِيامَةِ " ثم ذكر نحوه.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي سعيد ، قال : " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحشر ، قال : يقولُ اللهُ يومَ القِيامَةِ يا آدَمُ ، فَيَقُولُ : لَبَّيكَ وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ بِيَدَيْكَ فَيَقُولُ : ابْعَثْ بَعْثا إلى النَّارِ " . ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، عن أنس قال : " نزلت( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) ... حتى إلى( عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) ... الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في مسير ، فرجَّع بها صوته ، حتى ثاب إليه أصحابه ، فقال : " أتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا ؟ هَذَا يَوْمَ يَقُولُ اللهُ لآدَمَ : يا آدَمُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ! " فكبر ذلك على المسلمين ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " سَدّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا ، فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما أنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ البَعِيرِ ، أو كالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ ، وِإنَّ مَعَكُمْ لَخَلِيقَتَيْنِ ما كَانَتَا فِي شِيْءٍ قَطْ إِلا كَثَّرَتَاهُ : يَأجُوجُ وَمَأْجُوجُ ، وَمَنْ هَلَكَ مِنْ كَفَرَةِ الجِنِّ وَالإنْسِ " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال ابن ثور ، عن معمر ، عن إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، قال : دخلت على ابن مسعود بيت المال ، فقال : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : " أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الجَنَّةِ ؟ قلنا نعم ، قال : أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ ؟ قلنا : نعم قال : فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذلكَ ، إنَّه لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ ، وإنَّ قِلَّةَ المُسْلِمِينَ فِي الكُفَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَبْيَضِ ، أو كالشَّعْرَةِ البَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله

(18/561)


( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) قال : هذا يوم القيامة.
والزلزلة مصدر من قول القائل : زلزلتُ بفلان الأرض أزلزلها زلزلة وزِلزالا بكسر الزاي من الزلزال ، كما قال الله( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ) وكذلك المصدر من كل سليم من الأفعال إذا جاءت على فِعلان فبكسر أوّله ، مثل وسوس وسوسة ووِسواسا ، فإذا كان اسما كان بفتح أوّله الزَّلزال والوَسواس ، وهو ما وسوس إلى الإنسان ، كما قال الشاعر :
يَعْرِف الجاهِلُ المُضَلَّلُ أَنَّ الدَّ... هْرَ فِيهِ النَّكْرَاءُ والزَّلْزَالُ (1)
وقوله تعالى( يَوْمَ تَرَوْنَهَا ) يقول جلّ ثناؤه : يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة تذهل من عظمها كل مرضعة مولود عما أرضعت ، ويعني بقوله ، (تَذْهَلُ) تنسى وتترك من شدّة كربها ، يقال : ذَهَلْت عن كذا أذْهَلُ عنه ذُهُولا وذَهِلْت أيضا ، وهي قليلة ، والفصيح : الفتح في الهاء ، فأما في المستقبل فالهاء مفتوحة في اللغتين ، لم يسمع غير ذلك ، ومنه قول الشاعر :
صَحَا قَلْبُهُ يا عَزَّ أوْ كادَ يَذْهَل (2)
__________
(1) البيت شاهد على أن المصدر الرباعي المضعف إذا جاء على " فعلا " فهو بكسر الفاء ، فإذا فتحت الفاء فهو اسم للمصدر ، وليس بمصدر ، كما في البيت . قال في ( اللسان : زلل ) : والزلزلة والزلزال ( بالفتح ) : تحريك الشيء ، وقد زلزله زلزلة وزلزالا ( بكسر الزاي في الثاني ) وقد قالوا : إن الفعلال ( بالفتح ) والزلزال ( بالكسر ) مطرد في جميع مصادر المضاعف . والاسم الزلزال ( بالفتح ) . وليس في الكلام فعلال ، بفتح الفاء إلا في المضعف نحو الصلصال والزلزال . وقال أبو إسحاق والزلزال بالكسر : المصدر ، والزلزال ، بالفتح : الاسم ، وكذلك الوسواس : المصدر ، والوسواس الاسم . أه .
(2) هذا مطلع قصيدة لكثير بن عبد الرحمن الخزاعي المشهور ( بكثير عزة ) في مدح عبد الملك بن مروان ، ومصراعه الثاني * وأضحى يريد الصرم أو يتبدل *
( ديوانه طبع الجزائر 2 : 28 ) قال شارحه : قوله " صحا قلبه " : قال في الاقتضاب : قال ابن قتيبة : وأصحت السماء العاذلة وصحا من السكر . أما السماء فلا يقال فيها إلا أصحت بالألف وأما السكر فلا يقال فيه إلا صحا بغير ألف وأما الإفاقة من الحب فلم أسمع فيه إلا صحا بغير الألف ، كالسكر . وهو شاهد على الفعل تذهل في ماضيه لغتان فتح الهاء وكسرها ، والأولى أفصح اللغتين . وقال في ( اللسان : ذهل ) : وفي التنزيل العزيز : " يوم تذهل كل مرضعة " أي تسلو عن ولدها . ابن سيدة : ذهل الشيء وذهل عنه وذهله وذهل الكسر يذهل فيهما ذهلا وذهولا : تركه على عمد أو غفل عنه أو نسيه لشغل . وقيل : الذهل : السلو والطيب النفس عن الإلف . وقد أذهله الأمر ، وذهله عنه . أه .

(18/562)


فأما إذا أريد أن الهول أنساه وسلاه ، قلت : أذهله هذا الأمر عن كذا يُذهله إذهالا. وفي إثبات الهاء في قوله( كُلُّ مُرْضِعَةٍ ) اختلاف بين أهل العربية وكان بعض نحويي الكوفيين يقول : إذا أثبتت الهاء في المرضعة فإنما يراد أم الصبي المرضع ، وإذا أسقطت فإنه يراد المرأة التي معها صبيّ ترضعه ، لأنه أريد الفعل بها. قالوا : ولو أريد بها الصفة فيما يرى لقال مُرْضع. قال : وكذلك كل مُفْعِل أو فاعل يكون للأنثى ولا يكون للذكر ، فهو بغير هاء ، نحو : مُقْرب ، ومُوقِر ، ومُشْدن ، وحامل ، وحائض. (1)
قال أبو جعفر : وهذا القول عندي أولى بالصواب في ذلك ، لأن العرب من شأنها إسقاط هاء التأنيث من كل فاعل ومفعل إذا وصفوا المؤنث به ، ولو لم يكن للمذكر فيه حظ ، فإذا أرادوا الخبر عنها أنها ستفعله ولم تفعله ، أثبتوا هاء التأنيث ليفرقوا بين الصفة والفعل. منه قول الأعشى فيما هو واقع ولم يكن وقع قبل :
أيا جارَتا بِينِي فإنَّك طالِقهْ... كَذَاكَ أُمُورُ الناسِ غادٍ وطارِقَهْ (2)
وأما فيما هو صفة ، نحو قول امرئ القيس :
__________
(1) يتأمل في هذا المقام ويراجع اللسان فإنه أبسط .
(2) البيت لأعشى بن قيس بن ثعلبة ، من قصيدة له قالها لامرأته الهزانية ( ديوانه طبع القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ، ص 263 ) والرواية فيه : يا جارتي . قال شارحه : الجارة هنا : زوجته . بيني : أي فارقي . غاد وطارقة : ذكر ( غاد ) على إرادة الجمع ، وأنث ( طارقة ) على إرادة الجماعة . والغادي : الذي يأتي عدوه في الصباح . والطارق الذي يطرق ، أي يأتي ليلا . وأنشده صاحب ( اللسان : طلق ) قال ابن الأعرابي : طلقت ( بضم اللام ) من الطلاق : أجود ، وطلقت بفتح اللام - جائز . وكلهم يقول : امرأة طالق ، بغير هاء . وأما قول الأعشى * أيا جارتا بيينى فإنك طالقه *
فإن الليث قال : أراد : طالقة غدا . قال غيره قال طالقة على الفعل ، لأنها يقال ها قد طلقت ، فبنى النعت على الفعل ، وطلاق المرأة : بينونتها عن زوجها . وامرأة طالق من نسوة طلق ، وطالقة من نسوة طوالق وأنشد قول الأعشى : * أجارتنا بيني فإنك طالقه *
. . . البيت .

(18/563)


فمثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٌ... فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمائِمَ مُحْوِل (1)
وربما أثبتوا الهاء في الحالتين وربما أسقطوهما فيهما ، غير أن الفصيح من كلامهم ما وصفت.
فتأويل الكلام إذن : يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة ، تنسى وتترك كل والدة مولود ترضع ولدها عما أرضعت.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) قال : تترك ولدها للكرب الذي نزل بها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن الحسن( تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) قال : ذهلت عن أولادها بغير فطام( وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) قال : ألقت الحوامل ما في بطونها لغير تمام ، ( وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) يقول : وتسقط كل حامل من شدة كرب ذلك حملها.
وقوله( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ) قرأت قرّاء الأمصار( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى على وجه الخطاب للواحد ، كأنه قال : وترى يا محمد الناس حينئذ سُكارى وما هم بسُكارى. وقد رُوي عن أبي زُرْعة بن عمرو بن جرير
__________
(1) البيت من معلقة امرئ القيس بن حجر الكندي ( مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ، ص 25 ) قال شارحه : طرقت : أتيت . والتمائم : عوذ تعلق على الطفل . ومحول : أي تم له حول ، يقال : أحول الصبي فهو محول ، ويروى : مغيل . وهو الذي ترضعه أمه وهي حلبي ؛ يقال : أغالت المرأة ولدها ، فهي مغيل ( بكسر الغين ) ، وأغليته فهي مغيل ، ( بسكون الغين وكسر الياء ) ؛ سقته الغيل ، وهو لبن الحبلى ، والولد : مغال ومغيل . والشاهد في البيت أن " مرضع " بدون هاء . هو من الأوصاف الخاصة بالنساء دون الرجال ، وهو لذلك مستعين عن الهاء التي تدخل في الصفات للتفرقة بين الذكر والمؤنث فأما قوله تعالى : " يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت " بالهاء في مرضعة ، فإنما يراد به المرأة التي معها صبي ترضعه ، فهي متلبسة بالفعل ، فالفعل مراد هنا ، والصفة حينئذ تجري على الفعل في التذكير والتأنيث ، يقال أرضعت أو ترضع الأم وليدها ، فهي مرضعة له . فأما الأنثى التي من شأنها أن تكون مرضعا ولم تتلبس بالفعل ، فإنما يقال لها مرضع بلا هاء تأنيث ، لأن هذا وصف خاص بالإناث فلا حاجة فيه إلى الهاء للفرق .

(18/564)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)

(وَتُرَى النَّاسَ) بضم التاء ونصب الناس ، من قول القائل : أرِيْت تُرى ، التي تطلب الاسم والفعل (1) ، كظنّ وأخواتها.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء.
واختلف القرّاء في قراءة قوله( سُكارَى ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة( سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) . وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة( وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى ومَا هُمْ بِسَكْرَى) .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان مستفيضتان في قَرأة الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب ، ومعنى الكلام : وترى الناس يا محمد من عظيم ما نزل بهم من الكرب وشدّته سُكارى من الفزع وما هم بسكارى من شرب الخمر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك : قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن الحسن( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ) من الخوف( وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) من الشراب.
قال ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله( وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) قال : ما هُم بسكارى من الشراب ، ( وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) قال : ما شربوا خمرا يقول تعالى ذكره : ( وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) يقول تعالى ذكره : ولكنهم صاروا سكارى من خوف عذاب الله عند معاينتهم ما عاينوا من كرب ذلك وعظيم هوله ، مع علمهم بشدة عذاب الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) }
__________
(1) لعل الصواب : الاسم والخبر . لأن ظن ورأى وأعلم تدخل على الجملة الاسمية من المبتدأ والخبر .

(18/565)


كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)

ذكر أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث.
حدثنا القاسم ، فال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) قال : النضر بن الحارث (1) . ويعني بقوله( مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) من يخاصم في الله ، فيزعم أن الله غير قادر على إحياء من قد بلي وصار ترابا ، بغير علم يعلمه ، بل بجهل منه بما يقول.(وَيَتَّبِعُ ) في قيله ذلك وجداله في الله بغير علم( كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) }
يقول تعالى ذكره : قضي على الشيطان ، فمعنى(كُتِبَ) ههنا قُضِي ، والهاء التي في قوله عليه من ذكر الشيطان.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ ) قال : كُتب على الشيطان ، أنه من اتبع الشيطان من خلق الله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ ) قال : الشيطان اتبعه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ ) ، قال : اتبعه.
وقوله( فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ) يقول : فإن الشيطان يضله ، يعني : يضل من تولاه. والهاء التي في " يضله عائدة على " من " التي في قوله( مَنْ تَوَلاهُ ) وتأويل الكلام : قُضى على الشيطان أنه يضلّ أتباعه ولا يهديهم إلى الحق.
وقوله( وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ) يقول : ويَسُوقُ مَنِ اتَّبَعَهُ إلى عذاب جهنم الموقدة ، وسياقه إياه إليه بدعائه إلى طاعته ومعصية
__________
(1) كان النضر بن الحارث بن كلدة قد أخذ الطب والفلسفة مع أبيه في الحيرة .

(18/566)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)

الرحمن ، فذلك هدايته من تبعه إلى عذاب جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ }
وهذا احتجاج من الله على الذي أخبر عنه من الناس أنه يجادل في الله بغير علم ، اتباعا منه للشيطان المريد ، وتنبيه له على موضع خطأ قيله ، وإنكاره ما أنكر من قدرة ربه. قال : يا أيها الناس إن كنتم في شكّ من قدرتنا على بعثكم من قبوركم بعد مماتكم وبلاكم استعظاما منكم لذلك ، فإن في ابتدائنا خلق أبيكم آدم صلى الله عليه وسلم من تراب ثم إنشائناكم من نطفة آدم ، ثم تصريفناكم أحوالا حالا بعد حال ، من نطفة إلى علقة ، ثم من علقة إلى مضغة ، لكم معتبرا ومتعظا تعتبرون به ، فتعلمون أن من قدر على ذلك فغير متعذّر عليه إعادتكم بعد فنائكم كما كنتم أحياء قبل الفناء.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله مخلقة وغير مخلّقة ، فقال بعضهم : هي من صفة النطفة. قال : ومعنى ذلك : فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة مخلَّقة وغير مخلقة قالوا : فأما المخلقة فما كان خلقا سَوِيّا وأما غير مخلقة ، فما دفعته الأرحام ، من النطف ، وألقته قبل أن يكون خلقا.
ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : إذا وقعت النطفة في الرحم ، بعث الله ملَكا فقال : يا ربّ مخلقة ، أو غير مخلقة ؟ فإن قال : غير مخلَّقة ، مجّتها الأرحام دما ، وإن قال : مخلقة ، قال : يا ربّ فما صفة هذه النطفة ، أذكر أم أنثى ؟ ما رزقها ما أجلها ؟ أشقيّ أو سعيد ؟ قال : فيقال له :

(18/567)


انطلق إلى أمّ الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة! قال : فينطلق الملك فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها.
وقال آخرون : معنى ذلك : تامة وغير تامة.
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا سليمان ، قال : ثنا أبو هلال ، عن قتادة في قول الله( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) قال : تامة وغير تامة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن قتادة( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) فذكر مثله.
وقال آخرون : معنى ذلك المضغة مصوّرة إنسانا وغير مصوّرة ، فإذا صورت فهي مخلقة وإذا لم تصوّر فهي غير مخلقة.
ذكر من قال ذلك : ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله( مُخَلَّقَةٍ ) قال : السِّقط ، ( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) قال : السقط ، مخلوق وغير مخلوق.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عامر أنه قال في النطفة والمضغة إذا نكست في الخلق الرابع ، كانت نسمة مخلقة ، وإذا قذفتها قبل ذلك فهي غير مخلقة.
قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن حماد بن أبي سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) قال : السقط.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : المخلقة المصورة خلقا تاما ، وغير مخلقة : السِّقط قبل تمام خلقه ، لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة ، لم يبق لها حتى تصير خلقا سويا إلا

(18/568)


التصوير ، وذلك هو المراد بقوله( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) خلقا سويا ، وغير مخلقة بأن تلقيه الأم مضغة ولا تصوّر ولا ينفخ فيها الروح.
وقوله( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ) يقول تعالى ذكره : جعلنا المضغة منها المخلقة التامة ومنها السقط غير التام ، لنبين لكم قدرتنا على ما نشاء ونعرفكم ابتداءنا خلقكم.
وقوله( وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) يقول تعالى ذكره : من كنا كتبنا له بقاء وحياة إلى أمد وغاية ، فإنا نقرّه في رحم أمه إلى وقته الذي جعلنا له أن يمكث في رحمها ، فلا تسقطه ، ولا يخرج منها حتى يبلغ أجله ، فإذا بلغ وقت خروجه من رحمها أذنا له بالخروج منها ، فيخرج.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) قال : التمام.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) قال : الأجل المسمى : إقامته في الرحم حتى يخرج.
وقوله( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ) يقول تعالى ذكره : ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم إذا بلغتم الأجل الذي قدرته لخروجكم منها طفلا صغارا ووحد الطفل ، وهو صفة للجميع ، لأنه مصدر مثل عدل وزور.
وقوله( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) يقول : ثم لتبلغوا كمال عقولكم ونهاية قواكم بعمركم.
وقد ذكرت اختلاف المختلفين في الأشد ، والصواب من القول فيه عندنا بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
" 5 "

(18/569)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }
يقول تعالى ذكره : ومنكم أيها الناس من يتوفى قبل أن يبلغ أشدّه فيموت ، ومنكم من يُنْسَأ في أجله فيعمر حتى يهرم ، فيردّ من بعد انتهاء شبابه وبلوغه غاية أشده ، إلى أرذل عمره ، وذلك الهرم ، حتى يعود كهيئته في حال صباه لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا.
ومعنى الكلام : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر بعد بلوغه أشده( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ ) كان يعلمه(شَيْئًا ) .
وقوله( وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً ) يقول تعالى ذكره : وترى الأرض يا محمد يابسة دارسة الآثار من النبات والزرع ، وأصل الهمود : الدروس والدثور ، ويقال منه : همدت الأرض تهمد هُمودا ؛ ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس :
قالَتْ قُتَيْلَةُ ما لِجِسِمَك شاحِبا... وأرَى ثِيابكَ بالِياتٍ هُمَّدَا (1)
والهُمَّد : جمع هامد ، كما الركع جمع راكع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله( وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً ) قال : لا نبات فيها.
__________
(1) البيت لأعشى بن قيس بن ثعلبة ( ديوانه طبع القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ، ص 227 ) . وهو من قصيدة قالها لكسرى حين أراد منهم رهائن ، لما أغار الحارث بن وعلة على بعض السواد . والرواية فيه " سايئا " في موضع " شاحبا " . قال في تفسيره : سايئ : يسوء من رآه . وهمد الثوب تقطع من طول الطي ينظر إليه الناظر فيحسبه صحيحا ، فإذا مسه تناثر من البلى ، ومثله في ( اللسان : همد ) : ( وترى الأرض هامدة ) : أي جافة ذات تراب . وأرض هامدة : مقشعرة ، لا نبات فيها إلا اليابس المتحطم ، وقد أهمدها القحط . أه .

(18/570)


وقوله( فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ ) يقول تعالى ذكره : فإذا نحن أنزلنا على هذه الأرض الهامدة التي لا نبات فيها ، المطر من السماء اهتزّت يقول : تحركت بالنبات ، (وَرَبَتْ) يقول : وأضعفت النبات بمجيء الغيث.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة( اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ) قال : عُرِف الغيث في ربوها.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة( اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ) قال : حسنت ، وعرف الغيث في ربوها.
وكان بعضهم يقول : معنى ذلك : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت ، ويوجه المعنى إلى الزرع ، وإن كان الكلام مخرجه على الخبر عن الأرض ، وقرأت قراء الأمصار( وَرَبَتْ ) بمعنى : الربو ، الذي هو النماء والزيادة.
وكان أبو جعفر القارئ يقرأ ذلك(وَرَبَأَتْ) بالهمز.
حُدثت عن الفراء ، عن أبي عبد الله التميمي عنه ، وذلك غلط ، لأنه لا وجه للرب ههنا ، وإنما يقال : ربأ بالهمز بمعنى حرس من الربيئة ، ولا معنى للحراسة في هذا الموضع ، والصحيح من القراءة ما عليه قراء الأمصار.
وقوله( وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) يقول جلّ ثناؤه : وأنبتت هذه الأرض الهامدة بذلك الغيث من كل نوع بهيج ، يعني بالبهيج ، البهج ، وهو الحسن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة( وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) قال : حسن.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله.

(18/571)


ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)

القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) }
يعني تعالى ذكره بقوله : ذلك هذا الذي ذكرت لكم أيها الناس من بدئنا خلقكم في بطون أمهاتكم ، ووصفنا أحوالكم قبل الميلاد وبعده ، طفلا وكهلا وشيخا هرما وتنبيهناكم على فعلنا بالأرض الهامدة بما ننزل عليها من الغيث ، لتؤمنوا وتصدّقوا بأن ذلك الذي فعل ذلك الله الذي هو الحقّ لا شك فيه ، وأن من سواه مما تعبدون من الأوثان والأصنام باطل لأنها لا تقدر على فعل شيء من ذلك ، وتعلموا أن القدرة التي جعل بها هذه الأشياء العجيبة لا يتعذّر عليها أن يحيي بها الموتى بعد فنائها ودروسها في التراب ، وأن فاعل ذلك على كلّ ما أراد وشاء من شيء قادر لا يمتنع عليه شيء أراده ، ولتوقنوا بذلك أن الساعة التي وعدتكم أن أبعث فيها الموتى من قبورهم جاثية لا محالة( لا رَيْبَ فِيهَا ) يقول : لا شك في مجيئها وحدوثها ، ( وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) حينئذ من فيها من الأموات أحياء إلى موقف الحساب ، فلا تشكوا في ذلك ، ولا تمترُوا فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) }
يقول تعالى ذكره : ومن الناس من يخاصم في توحيد الله وإفراده بالألوهة بغير علم منه بما يخاصم به( وَلا هُدًى ) يقول : وبغير بيان معه لما يقول ولا برهان.
( وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ) يقول : وبغير كتاب من الله أتاه لصحة ما يقول.
(منير ) يقول ينير عن حجته. وإنما يقول ما يقول من الجهل ظنا منه وحسبانا ،

(18/572)


ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)

وذكر أن عني بهذه الآية والتي بعدها النضر بن الحارث من بني عبد الدار.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (10) }
يقول تعالى ذكره : يجادل هذا الذي يجادل في الله بغير علم( ثَانِيَ عِطْفِهِ ) .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله وصف بأنه يثني عطفه ، وما المراد من وصفه إياه بذلك ، فقال بعضهم : وصفه بذلك لتكبره وتبختره ، وذكر عن العرب أنها تقول : جاءني فلان ثاني عطفه : إذا جاء متبخترا من الكبر.
ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله( ثَانِيَ عِطْفِهِ ) يقول : مستكبرا في نفسه.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لاوٍ رقبته.
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( ثَانِيَ عِطْفِهِ ) قال : رقبته.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة( ثَانِيَ عِطْفِهِ ) قال : لاوٍ عنقه.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، مثله.
وقال آخرون : معنى ذلك أنه يعرض عما يدعى إليه فلا يسمع له.
ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال :

(18/573)


ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( ثَانِيَ عِطْفِهِ ) يقول : يعرض عن ذكري.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) قال : لاويا رأسه ، معرضا موليا ، لا يريد أن يسمع ما قيل له ، وقرأ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله( ثَانِيَ عِطْفِهِ ) قال : يعرض عن الحق.
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال الثلاثة متقاربات المعنى ، وذلك أن من كان ذا استكبار فمن شأنه الإعراض عما هو مستكبر عنه ولّي عنقه عنه والإعراض.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله وصف هذا المخاصم في الله بغير علم أنه من كبره إذا دُعي إلى الله ، أعرض عن داعيه ، لوى عنقه عنه ولم يسمع ما يقال له استكبارا.
وقوله( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره : يجادل هذا المشرك في الله بغير علم معرضا عن الحق استكبارا ، ليصدّ المؤمنين بالله عن دينهم الذي هداهم له ويستزلهم عنه ، ( لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ) يقول جلّ ثناؤه : لهذا المجادل في الله بغير علم في الدنيا خزي ، وهو القتل والذل والمهانة بأيدي المؤمنين ، فقتله الله بأيديهم يوم بدر.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله( فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ) قال : قتل يوم بدر.
وقوله( وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ) يقول تعالى ذكره : ونحرقه يوم القيامة بالنار. وقوله( ذلك بما قدمت يداك ) يقول جلّ ثناؤه : ويقال له إذا أذيق عذاب النار يوم القيامة : هذا العذاب الذي نذيقكه اليوم بما قدمت يداك في الدنيا من الذنوب والآثام ، واكتسبته فيها من الإجرام( وأن الله ليس بظلام للعبيد ) يقول : وفعلنا ذلك لأن الله ليس بظلام للعبيد ، فيعاقب بعض

(18/574)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)

عبيده على جُرْم ، وهو يغفر (1) مثله من آخر غيره ، أو يحمل ذنب مذنب على غير مذنب ، فيعاقبه به ويعفو عن صاحب الذنب ، ولكنه لا يعاقب أحدا إلا على جرمه ، ولا يعذب أحدا على ذنب يغفر مثله لآخر إلا بسبب استحق به منه مغفرته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) }
يعني جلّ ذكره بقوله( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) أعرابا كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مهاجرين من باديتهم ، فإن نالوا رخاء من عيش بعد الهجرة والدخول في الإسلام أقاموا على الإسلام ، وإلا ارتدّوا على أعقابهم ، فقال الله( ومن الناس من يعبد الله ) على شك ، ( فإن أصابه خير اطمأن به ) وهو السعة من العيش وما يشبهه من أسباب الدنيا اطمأنّ به يقول : استقرّ بالإسلام وثبت عليه( وإن أصابته فتنة ) وهو الضيق بالعيش وما يشبهه من أسباب الدنيا( انقلب على وجهه ) يقول : ارتدّ فانقلب على وجهه الذي كان عليه من الكفر بالله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) ... إلى قوله( انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ) قال : الفتنة البلاء ، كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة ، فإن صحّ بها جسمه ، ونُتِجت فرسه مُهرا حسنا ، وولدت امرأته غلاما رضي به واطمأنّ إليه وقال : ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيرا ، وإن أصابه وجع المدينة ، وولدت امرأته
__________
(1) في الأصل يعفو : وفي العبارة ارتباك ، توضيحه في آخر كلامه .

(18/575)


جارية وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شرّا ، وذلك الفتنة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عنبسة ، عن أبي بكر ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن القاسم بن أبي بَزَّة ، عن مجاهد في قول الله( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ) قال : على شكّ.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( عَلَى حَرْفٍ ) قال : على شك(فإن أصابه خير ) رخاء وعافية( اطمأن به اسْتَقَرَّ وأن أصابته فتنة ) عذاب ومصيبة(انْقَلَبَ ) ارتد( على وجهه ) كافرا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه.
قال ابن جُرَيج : كان ناس من قبائل العرب ومن حولهم من أهل القرى يقولون : نأتي محمدا صلى الله عليه وسلم ، فإن صادفنا خيرا من معيشة الرزق ثبتنا معه ، وإلا لحقنا بأهلنا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة( من يعبد الله على حرف ) قال : شك.( فإن أصابه خير ) يقول : أكثر ماله وكثرت ماشيته اطمأنّ وقال : لم يصبني في ديني هذا منذ دخلته إلا خير( وإن إصابته فتنة ) يقول : وإن ذهب ماله ، وذهبت ماشيته( انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ) .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، نحوه.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) الآية ، كان ناس من قبائل العرب ومن حول المدينة من القرى كانوا يقولون : نأتي محمدا صلى الله عليه وسلم فننظر في شأنه ، فإن صادفنا خيرا ثبتنا معه ، وإلا لحقنا بمنازلنا وأهلينا. وكانوا يأتونه فيقولون : نحن على دينك! فإن أصابوا معيشة ونَتَجُوا

(18/576)


يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)

خيلهم وولدت نساؤهم الغلمان ، اطمأنوا وقالوا : هذا دين صدق ، وإن تأخر عنهم الرزق ، وأزلقت خيولهم ، وولدت نساؤهم البنات ، قالوا : هذا دين سَوْء ، فانقلبوا على وجوههم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ) قال : هذا المنافق ، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة ، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب ، ولا يقيم على العبادة إلا لما صَلَح من دنياه. وإذا أصابته شدّة أو فتنة أو اختبار أو ضيق ، ترك دينه ورجع إلى الكفر.
وقوله( خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ) يقوله : غَبِن هذا الذي وصف جلّ ثناؤه صفته دنياه ، لأنه لم يظفر بحاجته منها بما كان من عبادته الله على الشك ، ووضع في تجارته فلم يربح والآخرة : يقول : وخسر الآخرة ، فإنه معذّب فيها بنار الله الموقدة. وقوله( ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) يقول : وخسارته الدنيا والآخرة هي الخسران : يعني الهلاك المبين : يقول : يبين لمن فكّر فيه وتدبره أنه قد خسر الدنيا والآخرة .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته قراء الأمصار جميعا غير حميد الأعرج( خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ) على وجه المضيّ. وقرأه حميد الأعرج( خاسِرًا) نصبا على الحال على مثال فاعل.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) }
يقول تعالى ذكره : وإن أصابت هذا الذي يعبد الله على حرف فتنة ، ارتدّ عن دين الله ، يدعو من دون الله آلهة لا تضرّه إن لم يعبدها في الدنيا ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها( ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) يقول : ارتداده ذلك داعيا من دون الله هذه الآلهة هو الأخذ على غير استقامة ، والذهاب عن دين الله ذهابا بعيدا.

(18/577)


يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ) يكفر بعد إيمانه( ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) }
يقول تعالى ذكره : يدعو هذا المنقلب على وجهه من أن أصابته فتنة آلهة لضرّها في الآخرة له ، أقرب وأسرع إليه من نفعها. وذكر أن ابن مسعود كان يقرؤه يدعو مَنْ ضَرّه أقرب من نفعه.
واختلف أهل العربية في موضع " من " ، فكان بعض نحويِّي البصرة يقول : موضعه نصب بيدعو ، ويقول : معناه : يدعو لآلهة ضرّها أقرب من نفعها ، ويقول : هو شاذٌّ لأنه لم يوجد في الكلام : يدعو لزيدا. وكان بعض نحويِّي الكوفة يقول : اللام من صلة " ما " بعد " مَنْ " ، كأن معنى الكلام عنده : يدعو من لَضَرّه أقرب من نفعه. وحُكي عن العرب سماعا منها عندي لَمَا غيرُه خير منه ، بمعنى : عندي ما لغيره خير منه ، وأعطيتك لما غيره خير منه ، بمعنى : ما لغيره خير منه. وقال : جائز في كلّ ما لم يتبين فيه الإعراب الاعتراض باللام دون الاسم.
وقال آخرون منهم : جائز أن يكون معنى ذلك : هو الضلال البعيد يدعو ، فيكون يدعو صلة الضلال البعيد ، وتضمر في يدعو الهاء ثم تستأنف الكلام باللام ، فتقول لمن ضرّه أقرب من نفعه : لبئس المولى ، كقولك في الكلام في مذهب الجزاء : لَمَا فَعَلْتَ لَهُو خَيْر لك. فعلى هذا القول " من " في موضع رفع بالهاء في قوله ، ضَرّه ، ، لأن مَنْ إذا كانت جزاء فإنما يعربها ما بعدها ، واللام الثانية في لبئس المولى جواب اللام الأولى ، وهذا القول الآخر على مذهب العربية أصحّ ، والأوّل إلى مذهب أهل التأويل أقرب.
وقوله( لَبِئْسَ الْمَوْلَى ) ، يقول : لبئس ابن العم هذا الذي يعبد الله على

(18/578)


إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)

حرف.
( وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) يقول : ولبئس الخليط المعاشر والصاحب : هو كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، فال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) قال : العشير : هو المعاشر الصاحب.
وقد قيل : عني بالمولى في هذا الموضع : الولي الناصر.
وكان مجاهد يقول : عني بقوله( لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) الوثن.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) قال : الوثن.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) }
يقول تعالى ذكره : إن الله يدخل الذين صدقوا الله ورسوله ، وعملوا بما أمرهم الله في الدنيا ، وانتهوا عما نهاهم عنه فيها جنات يعني بساتين( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) يقول : تجري الأنهار من تحت أشجارها( إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) فيعطي ما شاء من كرامته أهل طاعته ، وما شاء من الهوان أهل معصيته.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) }

(18/579)


وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)

القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ 15 وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) }
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالهاء التي في قوله : ( أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ ) .

(18/579)


فقال بعضهم : عُنِي بها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فتأويله على قول بعض قائلي ذلك : من كان من الناس يحسب أن لن ينصر الله محمدا في الدنيا والآخرة ، فليمدد بحبل ، وهو السبب إلى السماء : يعني سماء البيت ، وهو سقفه ، ثم ليقطع السبب بعد الاختناق به ، فلينظر هل يذهبن اختناقه ذلك ، وقطعه السبب بعد الاختناق ما يغيظ ، يقول : هل يذهبن ذلك ما يجد في صدره من الغيظ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : ثني أبي ، قال : ثني خالد بن قيس ، عن قَتادة : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ولا دينه ولا كتابه ، ( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ ) يقول : بحبل إلى سماء البيت فليختنق به( فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) قال : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، ( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ ) يقول : بحبل إلى سماء البيت ، ( ثُمَّ لِيَقْطَعْ ) يقول : ثم ليختنق ثم لينظر هل يذهبنّ كيده ما يغيظ.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، بنحوه.
وقال آخرون ممن قال : الهاء في ينصره من ذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم السماء التي ذكرت في هذا الموضع ، هي السماء المعروفة.
قالوا : معنى الكلام ما حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) فقرأ حتى بلغ( هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ) قال : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، ويكابد هذا الأمر ليقطعه عنه ومنه : فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه ، فإن أصله في السماء ، فليمدد بسبب إلى السماء ، ثم ليقطع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتيه من الله ، فإنه لا يكايده حتى يقطع أصله عنه ، فكايد ذلك حتى قطع أصله عنه.( فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ) ما دخلهم من ذلك ، وغاظهم الله به من نصرة النبي

(18/580)


صلى الله عليه وسلم ، وما ينزل عليه. وقال آخرون ممن قال " الهاء " التي في قوله : ( يَنْصُرَهُ) من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم; معنى النصر هاهنا الرزق ، فعلى قول هؤلاء تأويل الكلام : من كان يظنّ أن لن يرزق الله محمدا في الدنيا ، ولن يعطيه. وذكروا سماعا من العرب : من ينصرني نصره الله ، بمعنى : من يعطيني أعطاه الله ، وحكوا أيضا سماعا منهم : نصر المطر أرض كذا : إذا جادها وأحياها.
واستشهد لذلك ببيت الفقعسيّ :
وإنَّكَ لا تُعْطِي امْرأً فَوْقَ حَظِّهِ... ولا تَمْلِكُ الشَّقَّ الَّذِي الغَيْثُ ناصِرُهُ (1)
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، قال : قلت لابن عباس : أرأيت قوله( مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ) قال : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا ، فليربط حبلا في سقف ثم ليختنق به حتى يموت.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام عن عنبسة ، عن أبي إسحاق الهمدانيّ ، عن التميمي ، قال : سألت ابن عباس ، عن قوله : ( مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ ) قال : أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة ، ( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ) والسبب : الحَبْل ، والسماء : سقف البيت ، فليعلق حبلا في سماء البيت ثم ليختنق( فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ) هذا الذي صنع ما يجد من الغيظ.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو بن مطرف ، عن أبي
__________
(1) البيت للفقعسي ، كما قال المؤلف . والشاهد فيه قوله " الغيث ناصره " . قال في ( اللسان : نصر ) قال أبو حنيفة الدينوري الناصر والناصرة : ما جاء من مكان بعيد إلى الوادي ، فنصر السيول . ونصر البلاد ينصرها أتاها . عن ابن الأعرابي ، ونصرت أرض بني فلان أي أتيتها ، ونصر الغيث الأرض نصرا : أغاثها وسقاها وأنبتها . قال : من كان أخطأه الربيع فإنما ... نصر الحجاز بغيث عبد الواحد
ونصر الغيث البلد : إذا أعانه على الخصب والنبات . وقال أبو عبيدة : نصرت البلاد : إذا مطرت فهي منصورة : أي ممطورة . ونصر القوم : إذا أغيثوا . وفي الحديث . " إن هذه السحابة تنصر أرض بني كعب " أي تمطرهم .

(18/581)


إسحاق ، عن رجل من بني تميم ، عن ابن عباس ، مثله.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن التميميّ ، عن ابن عباس : ( مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ) قال : سماء البيت.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت التميميّ ، يقول : سألت ابن عباس ، فذكر مثله.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبى ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) ... إلى قوله : ( مَا يَغِيظُ ) قال : السماء التي أمر الله أن يمد إليها بسبب سقف البيت أمر أن يمد إليه بحبل فيختنق به ، قال : فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ إذا اختنق إن خشي أن لا ينصره الله!
وقال آخرون : الهاء في ينصره من ذكر " مَنْ " . وقالوا : معنى الكلام : من كان يظنّ أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة ، فليمدد بسبب إلى سماء البيت ثم ليختنق ، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ ، أنه لا يرزق!
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث (1) ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ ) قال : يرزقه الله.( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ ) قال : بحبل( إِلَى السَّمَاءِ ) سماء ما فوقك( ثُمَّ لِيَقْطَعْ ) ليختنق ، هل يذهبن كيده ذلك خنقه أن لا يرزق.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله( مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ ) يرزقه الله( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ) قال : بحبل إلى السماء.
قال ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس ، قال : ( إِلَى السَّمَاءِ ) إلى سماء البيت. قال ابن جُرَيج : وقال مجاهد : ( ثُمَّ لِيَقْطَعْ ) قال : ليختنق ، وذلك كيده( مَا يَغِيظُ ) قال : ذلك خنقه أن لا يرزقه الله.
__________
(1) في السند اختصار لعله من الناسخ .

(18/582)


حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ ) يعني : بحبل( إِلَى السَّمَاءِ ) يعني : سماء البيت.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عطية ، قال : أخبرنا أبو رجاء ، قال : سُئل عكرِمة عن قوله : ( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ) قال : سماء البيت.( ثُمَّ لِيَقْطَعْ ) قال : يختنق.
وأولى ذلك بالصواب عندي في تأويل ذلك قول من قال : الهاء من ذكر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ودينه وذلك أن الله تعالى ذكره ، ذكر قومًا يعبدونه على حرف وأنهم يطمئنون بالدين إن أصابوا خيرا في عبادتهم إياه ، وأنهم يرتدّون عن دينهم لشدّة تصيبهم فيها ، ثم أتبع ذلك هذه الآية ، فمعلوم أنه إنما أتبعه إياها توبيخا لهم على ارتدادهم عن الدين ، أو على شكهم فيه نفاقهم ، استبطاء منهم السعة في العيش ، أو السبوغ في الرزق. وإذا كان الواجب أن يكون ذلك عقيب الخبر عن نفاقهم ، فمعنى الكلام إذن ، إذ كان كذلك : من كان يحسب أن لن يرزق الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته في الدنيا ، فيوسع عليهم من فضله فيها ، ويرزقهم في الآخرة من سَني عطاياه وكرامته ، استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم ، فليمدد بحبل إلى سماء فوقه : إما سقف بيت ، أو غيره مما يعلق به السبب من فوقه ، ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله ، فاستعجل انكشاف ذلك عنه ، فلينظر هل يذهبنّ كيده اختناقه كذلك ما يغيظ ، فإن لم يذهب ذلك غيظه ؛ حتى يأتي الله بالفرج من عنده فيذهبه ، فكذلك استعجاله نصر الله محمدا ودينه لن يُؤَخِّر ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته ، ولا يعجَّل قبل حينه ، وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان ، تباطئوا عن الإسلام ، وقالوا : نخاف أن لا ينصر محمد صلى الله عليه وسلم ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا ولا يُرَوُّوننا ، فقال الله تبارك وتعالى لهم : من استعجل من الله نصر محمد ، فليمدد بسبب إلى السماء فليختنق فلينظر استعجاله بذلك في نفسه ، هل هو مُذْهِبٌ غيظه ؟ فكذلك استعجاله من الله نصر محمد غير مقدّم نصره قبل حينه.

(18/583)


إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)

واختلف أهل العربية في " ما " التي في قوله : ( مَا يَغِيظُ ) فقال بعض نحوييِّ البصرة هي بمعنى الذي ، وقال : معنى الكلام : هل يذهبنّ كيده الذي يغيظه ، قال : وحذفت الهاء لأنها صلة الذي ، لأنه إذا صارا جميعا اسما واحدا كان الحذف أخفّ. وقال غيره : بل هو مصدر لا حاجة به إلى الهاء ، هل يذهبنّ كيده غيظه.
وقوله : ( وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) يقول تعالى ذكره : وكما بيَّنت لكم حُججي على من جحد قدرتي على إحياء من مات من الخلق بعد فنائه ، فأوضحتها أيها الناس ، كذلك أنزلنا إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذا القرآن آيات بيِّنات ، يعني دلالات واضحات ، يهدين من أراد الله هدايته إلى الحقّ( وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ) يقول جلّ ثناؤه : ولأن الله يوفق للصواب ولسبيل الحقّ من أراد ، أنزل هذا القرآن آيات بيِّنات ، فأن في موضع نصب.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) }
يقول تعالى ذكره : إن الفصل بين هؤلاء المنافقين الذين يعبدون الله على حرف ، والذين أشركوا بالله فعبدوا الأوثان والأصنام ، والذين هادوا ، وهم اليهود والصابئين والنصارى والمجوس الذي عظموا النيران وخدموها ، وبين الذين آمنوا بالله ورسله إلى الله ، وسيفصل بينهم يوم القيامة بعدل من القضاء وفصله بينهم إدخاله النار الأحزاب كلهم والجنة المؤمنين به وبرسله ، فذلك هو الفصل من الله بينهم.
وكان قَتادة يقول في ذلك ما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) قال : الصابئون : قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون للقبلة ، ويقرءون الزبور. والمجوس : يعبدون الشمس والقمر

(18/584)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)

والنيران. والذين أشركوا : يعبدون الأوثان. والأديان ستة : خمسة للشيطان ، وواحد للرحمن. وأدخلت " إن " في خبر " إن " الأولى لما ذكرت من المعنى ، وأن الكلام بمعنى الجزاء ، كأنه قيل : من كان على دين من هذه الأديان ، ففصل ما بينه وبين من خالفه على الله والعرب تدخل أحيانا في خبر " إن " " إن " إذا كان خبر الاسم الأوّل في اسم مضاف إلى ذكره ، فتقول : إن عبد الله إن الخير عنده لكثير ، كما قال الشاعر.
إنَّ الخَلِيفَةَ إن اللهَ سَرْبَلَهُ... سِرْبالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الخَوَاتِيمُ (1)
وكان الفرّاء يقول : من قال هذا لم يقل : إنك إنك قائم ، ولا إن إياك إنه قائم ، لأن الاسمين قد اختلفا ، فحسن رفض الأوّل ، وجعل الثاني كأنه هو المبتدأ ، فحسن للاختلاف وقبح للاتفاق.
وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) يقول : إن الله على كل شيء من أعمال هؤلاء الأصناف الذين ذكرهم الله جلّ ثناؤه ، وغير ذلك من الأشياء كلها شهيد لا يخفى عنه شيء من ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ }
__________
(1) البيت لجرير ( ديوانه طبعة الصاوي ، ص 527 ) وهو من قصيدة يمدح بها بعض بني مروان وفي روايته : " يكفي " في موضع " إن " الأولى . وتزجى ، في موضع ترجى . قال شارح شواهد الكشاف : خاتم الشيء : عاقبته . وتزجى أي تساق خواتيم الإمارة ، والخاتم بفتح التاء وكسرها ، يقال أزجيت الإبل أي سقتها . والبيت شاهد عند قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين . . . . . إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ) أدخلت إن على كل واحد من جزأي الجملة ، لزيادة التأكيد . وحسن دخول إن الثانية على الجملة الواقعة خبرا ، طول الفصل بينهما بالمعاطيف . والمؤلف ساق البيت شاهدا على أنه نظير ما في الآية من دخول إن الثانية على جملة الخبر إذا كان فيه ضمير . ويجوز في البيت وجه آخر ، وهو أن تكون جملة إن الله سربله سربال ملك ، جملة معترضة بين اسم إن وخبرها ، ولا يجوز ذلك في الآية ، قاله أبو حيان ، ونقله عن شارح شواهد الكشاف . أه . والسربال : القميص والدرع . والمراد هنا الأول .

(18/585)


يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :
ألم تر يا محمد بقلبك ، فتعلم أن الله يسجد له من في السماوات من الملائكة ، ومن في الأرض من الخلق من الجنّ وغيرهم ، والشمس والقمر والنجوم في السماء ، والجبال ، والشجر ، والدوابّ في الأرض ، وسجود ذلك ظلاله حين تطلع عليه الشمس ، وحين تزول ، إذا تحولّ ظلّ كل شيء فهو سجوده.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ) قال : ظلال هذا كله.
وأما سجود الشمس والقمر والنجوم ، فإنه كما حدثنا به ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ومحمد بن جعفر ، قالا ثنا عوف ، قال : سمعت أبا العالية الرياحي يقول : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر ، إلا يقع لله ساجدا حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، فيأخذ ذات اليمين ، وزاد محمد : حتى يرجع إلى مطلعه.
وقوله : ( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) يقول : ويسجد كثير من بني آدم ، وهم المؤمنون بالله.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) قال : المؤمنون. وقوله : ( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) يقول تعالى ذكره : وكثير من بني آدم حقّ عليه عذاب الله ، فوجب عليه بكفره به ، وهو مع ذلك يسجد لله ظله.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) وهو يسجد مع ظله ، فعلى هذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد ، وقع قوله( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) بالعطف على قوله( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) ويكون داخلا في عداد من وصفه الله بالسجود له ، ويكون قوله( حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) من صلة كثير ، ولو كان " الكثير الثاني من لم يدخل في عداد من وصف بالسجود كان مرفوعا بالعائد من ذكره في قوله : ( حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) وكان معنى الكلام حينئذ : وكثير أبى السجود ، لأن

(18/586)


قوله( حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) يدلّ على معصية الله وإبائه السجود ، فاستحقّ بذلك العذاب.
" 18 "
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (17) }
يقول تعالى ذكره : ومن يهنه الله من خلقه فَيُشْقِه ، ( فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ) بالسعادة يسعده بها ، لأن الأمور كلها بيد الله ، يوفِّق من يشاء لطاعته ، ويخذل من يشاء ، ويُشقي من أراد ، ويسعد من أحبّ.
وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ) يقول تعالى ذكره : إن الله يفعل في خلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته ، وإكرام من أراد كرامته ، لأن الخلق خلقه والأمر أمره ، ( لا يسئل عما يفعل وهم يسألون ) . وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأه( فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرَمٍ ) بمعنى : فما له من إكرام ، وذلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه.
القول في تأويل قوله تعالى : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) }
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذين الخصمين اللذين ذكرهما الله ، فقال بعضهم : أحد الفريقين : أهل الإيمان ، والفريق الآخر : عبدة الأوثان من مشركي قريش الذين تبارزوا يوم بدر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا

(18/587)


أبو هاشم عن أبي مجلز ، عن قيس بن عبادة قال : سمعت أبا ذر يُقْسم قَسَما أن هذه الآية( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) نزلت في الذين بارزوا يوم بدر : حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة ، قال : وقال علىّ : إني لأوّل ، أو من أوّل من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله تبارك وتعالى.
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد ، قال : سمعت أبا ذرّ يقسم بالله قسما : لنزلت هذه الآية في ستة من قريش حمزة بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب ، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) . .. إلى آخر الآية( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ... إلى آخر الآية.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد ، قال : سمعت أبا ذرّ يقسم ، ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن محبب ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور بن المعتمر ، عن هلال بن يساف ، قال : نزلت هذه الآية في الذين تبارزوا يوم بدر( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت هؤلاء الآيات : ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) في الذين تبارزوا يوم بدر : حمزة ، وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة. إلى قوله( وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) .
قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي هاشم ، عن أبي مُجَلِّز ، عن قيس بن عباد ، قال : والله لأنزلت هذه الآية : ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) في الذين خرج بعضهم إلى بعض يوم بدر : حمزة ، وعليّ ، وعبيدة رحمة الله عليهم ، وشيبة ، وعتبة ، والوليد بن عتبة.
وقال آخرون : ممن قال أحد الفرقين فريق الإيمان ، بل الفريق الآخر أهل

(18/588)


الكتاب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال : هم أهل الكتاب ، قالوا للمؤمنين : نحن أولى بالله ، وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحقّ بالله ، آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وآمنا بنبيكم ، وبما أنزل الله من كتاب ، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا. وكان ذلك خصومتهم في ربهم.
وقال آخرون منهم : بل الفريق الآخر الكفار كلهم من أيّ ملة كانوا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : ثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعطاء بن أبي رَباح ، وأبي قزعة ، عن الحسين ، قال : هم الكافرون والمؤمنون اختصموا في ربهم.
قال ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : مثل الكافر والمؤمن. قال ابن جُرَيج : خصومتهم التي اختصموا في ربهم ، خصومتهم في الدنيا من أهل كل دين ، يرون أنهم أولى بالله من غيرهم.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو بكر بن عياش ، قال : كان عاصم والكلبي يقولان جميعا في( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال : أهل الشرك والإسلام حين اختصموا أيهم أفضل ، قال : جعل الشرك ملة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال : مثل المؤمن والكافر اختصامهما في البعث.
وقال آخرون : الخصمان اللذان ذكرهما الله في هذه الآية : الجنة والنار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة في( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال : هما الجنة والنار اختصمتا ، فقالت النار : خلقني الله لعقوبته وقالت الجنة :

(18/589)


خلقني الله لرحمته ، فقد قصّ الله عليك من خبرهما ما تسمع.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال : عني بالخصمين جميع الكفار من أيّ أصناف الكفر كانوا وجميع المؤمنين ، وإنما قلت ذلك أولى بالصواب ، لأنه تعالى ذكره ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه : أحدهما أهل طاعة له بالسجود له ، والآخر : أهل معصية له ، قد حقّ عليه العذاب ، فقال : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) ثم قال : ( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) ، ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما وما هو فاعل بهما ، فقال : ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ) وقال الله( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) ; فكان بيِّنا بذلك أن ما بين ذلك خبر عنهما.
فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما رُوي عن أبي ذرّ إنَّ ذَلكَ نزل في الذين بارزوا يوم بدر ؟ قيل : ذلك إن شاء الله كما روي عنه ، ولكن الآية قد تنزل بسبب من الأسباب ، ثم تكون عامة في كل ما كان نظير ذلك السبب ، وهذه من تلك ، وذلك أن الذين تبارزوا إنما كان أحد الفريقين أهل شرك وكفر بالله ، والآخر أهل إيمان بالله وطاعة له ، فكل كافر في حكم فريق الشرك منهما في أنه لأهل الإيمان خصم ، وكذلك كل مؤمن في حكم فريق الإيمان منهما في أنه لأهل الشرك خصم.
فتأويل الكلام : هذان خصمان اختصموا في دين ربهم ، واختصامهم في ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الآخر ومحاربته إياه على دينه.
وقوله : ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ) يقول تعالى ذكره : فأما الكافر بالله منهما فانه يقطع له قميص من نحاس من نار.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ) قال : الكافر قطعت له ثياب من نار ، والمؤمن يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله :

(18/590)


( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ) قال : ثياب من نحاس ، وليس شيء من الآنية أحمى وأشد حرّا منه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الكفار قطعت لهم ثياب من نار ، والمؤمن يدخل جنات تجري من تحتها الأنهار. وقوله : ( يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ) يقول : يصبّ على رءوسهم ماء مُغْلًى.
كما حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا إبراهيم بن إسحاق الطَّالقانيّ ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن سعيد بن زيد ، عن أبي السَّمْح ، عن ابن جُحيرة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال :

(18/591)


" إنَّ الحَمِيمَ لَيُصَبُّ على رُءوسِهمْ ، فَيَنْفُذُ الجُمْجمَةَ حتى يَخْلُص إلى جَوْفِهِ ، فَيَسْلُت ما في جَوْفِهِ حتى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ ، وَهِيَ الصَّهْرُ ، ثُمَّ يُعادُ كَما كان " .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا يعمر بن بشر ، قال : ثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا سعيد بن زيد ، عن أبي السمح ، عن ابن جحيرة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ، إلا أنه قال : " فَيَنْفُذُ الجُمْجُمَةَ حتى يَخْلُص إلى جَوفِهِ فَيَسْلت (1) مَا في جَوْفِهِ " .
وكان بعضهم يزعم أن قوله( وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ) من المؤخَّر الذي معناه التقديم ، ويقول : وجه الكلام : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، ولهم مقامع من حديد يصبّ من فوق رءوسهم الحميم ويقول : إنما وجب أن يكون ذلك كذلك ، لأن الملك يضربه بالمقمع من الحديد حتى يثقب رأسه ، ثم يصبّ فيه الحميم الذي انتهى حرّه فيقطع بطنه. والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا ، يدلّ على خلاف ما قال هذا القائل ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الحميم إذا صبّ على رءوسهم نفذ الجمجمة حتى يخلص إلى أجوافهم ، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل ، ولو كانت المقامع قد تثقب رءوسهم قبل صبّ الحميم عليها ، لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الحَمِيمَ يَنْفُذُ الجُمْجُمَة " معنى : ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما قال هذا القائل.
وقوله : ( يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ) يقول : يذاب بالحميم الذي يصبّ من فوق رءوسهم ما في بطونهم من الشحوم ، وتشوى جلودهم منه فتتساقط ، والصهر : هو الإذابة ، يقال منه : صهرت الألية بالنار : إذا أذبتها أصهرها صهرا ؛ ومنه قول الشاعر.
تَرْوِي لَقًى أُلْقِي في صَفْصَفٍ... تَصْهَرُهُ الشَّمْسُ وَلا يَنْصَهِر (2)
ومنه قول الراجز :
شَكَّ السَّفافِيدِ الشَّوَاءَ المُصْطَهَرْ (3)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( يُصْهَرُ بِهِ ) قال : يُذاب إذابة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله. قال ابن جُرَيج( يُصْهَرُ بِهِ ) قال : ما قطع لهم من العذاب.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ( يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ ) قال : يُذاب به ما في بطونهم.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
__________
(1) يسلت في جوفه من باب نصر : أي يقطعه ويستأصله .
(2) البيت لابن أحمر يصف فرخ قطاة ( اللسان : صهر ) قال : وصهرته الشمس تصهره صهرا ، وصهرته : اشتد وقعها عليه وحرها حتى آلم دماغه ، وانصهر هو ، قال ابن أحمر يصف فرخ قطاة . . . البيت ؛ أي تذيبه الشمس ، فيصبر على ذلك . وتروى تسوق إليه الماء ، أي تصير له كالرواية ؛ يقال : رويت أهلي وعليهم ريا : أتيتهم بالماء . والصهر : إذابة الشحم ، صهر الشحم يصهره صهرا : أذابه . وفي التنزيل : يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ أي يذاب . واصطهره : أذابه وأكله . أه . واللقي : كل شيء مطروح متروك كاللقطة . والصفصف : أرض ملساء مستوية ، كما في اللسان . أه .
(3) البيت للعجاج بن رؤبة الراجز المشهور ( اللسان : صهر ) قال الأزهري : الصهر إذابة الشحم ، والصهارة : ما ذاب منه وكذلك الاصطهار في إذابة ، أو أكل صهارته . وقال العجاج : ( شك السفافيد . . . . البيت ) . والبيت شاهد مثل الذي قبله على أن الصهر معناه الإذابة .

(18/592)


حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ) . .. إلى قوله : ( يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ) يقول : يسقون ما إذا دخل بطونهم أذابها والجلود مع البطون.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر وهارون بن عنترة ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال هارون : إذا عام أهل النار ، وقال جعفر : إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم ، فيأكلون منها ، فاختلست جلود وجوههم ، فلو أن مارّا مرّ بهم يعرفهم ، يعرف جلود وجوههم فيها ، ثم يصبّ عليهم العطش ، فيستغيثوا ، فيُغاثوا بماء كالمُهل ، وهو الذي قد انتهى حرّه ، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حرّه لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود و( يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ ) يعني أمعاءهم ، وتساقط جلودهم ، ثم يضربون بمقامع من حديد ، فيسقط كل عضو على حاله ، يدعون بالويل والثبور. وقوله : ( وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ) تضرب رءوسهم بها الخزنة إذا أرادوا الخروج من النار حتى ترجعهم إليها. وقوله : ( كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا ) يقول : كلما أراد هؤلاء الكفار الذين وصف الله صفتهم الخروج من النار مما نالهم من الغم والكرب ، ردّوا إليها.
كما حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا جعفر بن عون ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن أبي ظبيان ، قال : النار سوداء مظلمة ، لا يضيء لهبها ولا جمرها ، ثم قرأ : ( كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا ) وقد ذكر أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش جهنم فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها ، فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان فيها بالمقامع ، ويقولون لهم إذا ضربوهم بالمقامع : ( ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) . وعني بقوله : ( وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) ويقال لهم ذوقوا عذاب النار ، وقيل عذاب الحريق والمعنى : المحرق ، كما قيل : العذاب الأليم ، بمعنى : المؤلم.

(18/593)


إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) }

(18/594)


وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) }
يقول تعالى ذكره : وأما الذين آمنوا بالله ورسوله فأطاعوهما بما أمرهم الله به من صالح الأعمال ، فإن الله يُدخلهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ، فيحليهم فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( وَلُؤْلُؤًا ) فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة نصبا مع التي في الملائكة ، بمعنى : يحلون فيها أساور من ذهب ولؤلؤا ، عطفا باللؤلؤ على موضع الأساور ، لأن الأساور وإن كانت مخفوضة من أجل دخول من فيها ، فإنها بمعنى النصب ، قالوا : وهي تعدّ في خط المصحف بالألف ، فذلك دليل على صحة القراءة بالنصب فيه. وقرأت ذلك عامة قرّاء العراق والمصرين : ( وَلُؤْلُؤٍ ) خفضا عطفا على إعراب الأساور الظاهر.
واختلف الذي قرءوا ذلك في وجه إثبات الألف فيه ، فكان أبو عمرو بن العلاء فيما ذكر لي عنه يقول : أثبتت فيه كما أثبتت في قالوا : و كالوا. وكان الكسائي يقول : أثبتوها فيه للهمزة ، لأن الهمزة حرف من الحروف.
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، متفقتا المعنى ، صحيحتا المخرج في العربية ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله : ( وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ) يقول : ولبوسهم التي تلي أبشارهم فيها ثياب حرير. قوله : ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) يقول تعالى ذكره : وهداهم ربهم في الدنيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ابن زيد ، في قوله : ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) قال : هدوا إلى الكلام الطيب : لا إله

(18/594)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)

إلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله ؛ قال الله : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) قال : ألهموا. وقوله : ( وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) يقول جلّ ثناؤه : وهداهم ربهم في الدنيا إلى طريق الربّ الحميد ، وطريقه : دينه دين الإسلام الذي شرعه لخلقه وأمرهم أن يسلكوه ؛ والحميد : فعيل ، صرّف من مفعول إليه ، ومعناه : أنه محمود عند أوليائه من خلقه ، ثم صرّف من محمود إلى حميد.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين جحدوا توحيد الله ، وكذّبوا رسله وأنكروا ما جاءهم به من عند ربهم( وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) يقول : ويمنعون الناس عن دين الله أن يدخلوا فيه ، وعن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس الذين آمنوا به كافة لم يخصص منها بعضا دون بعض;( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) يقول : معتدل في الواجب عليه من تعظيم حرمة المسجد الحرام ، وقضاء نسكه به ، والنزول فيه حيث شاء العاكف فيه ، وهو المقيم به; والباد : وهو المنتاب إليه من غيره.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : سواء العاكف فيه وهو المقيم فيه ؛ والباد ، في أنه ليس أحدهما بأحقّ بالمنزل فيه من الآخر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن ابن سابط ، قال : كان الحجاج إذا قدموا مكة

(18/595)


لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم ، وكان الرجل إذا وجد سعة نزل. ففشا فيهم السرق ، وكل إنسان يسرق من ناحيته ، فاصطنع رجل بابا ، فأرسل إليه عمر : أتخذت بابا من حجاج بيت الله ؟ فقال : لا إنما جعلته ليحرز متاعهم ، وهو قوله : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) قال : الباد فيه كالمقيم ، ليس أحد أحقّ بمنزله من أحد إلا أن يكون أحد سبق إلى منزل.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، قال : قلت لسعيد بن جُبير : أعتكف بمكة ، قال : أنت عاكف. وقرأ : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام عن عنبسة ، عمن ذكره ، عن أبي صالح : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) العاكف : أهله ، والباد : المنتاب في المنزل سواء.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) يقول : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) قال : العاكف فيه : المقيم بمكة ؛ والباد : الذي يأتيه هم فيه سواء في البيوت.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) سواء فيه أهله وغير أهله.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
حدثنا ابن حميد ، قال ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) قال : أهل مكة وغيرهم في المنازل سواء.
وقال آخرون في ذلك نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ،

(18/596)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ ) قال : الساكن ، ( والباد ) الجانب سواء حقّ الله عليهما فيه.
* حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ ) قال : الساكن( والباد) الجانب.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعطاء : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ ) قالا من أهله ، ( والباد ) الذي يأتونه من غير أهله هما في حرمته سواء.
وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في ذلك ، لأن الله تعالى ذكره ، ذكر في أول الآية صدّ من كفر به من أراد من المؤمنين قضاء نسكه في الحرم عن المسجد الحرام ، فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ثم ذكر جلّ ثناؤه صفة المسجد الحرام ، فقال : ( الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ ) فأخبر جلّ ثناؤه أنه جعله للناس كلهم ، فالكافرون به يمنعون من أراده من المؤمنين به عنه ، ثم قال : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) فكان معلوما أن خبره عن استواء العاكف فيه والباد ، إنما هو في المعنى الذي ابتدأ الله الخبر عن الكفار أنهم صدّوا عنه المؤمنين به ، وذلك لا شك طوافهم وقضاء مناسكهم به والمقام ، لا الخبر عن ملكهم إياه وغير ملكهم. وقيل : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) فعطف بيصدون وهو مستقبل على كفروا ، وهو ماض ، لأن الصدّ بمعنى الصفة لهم والدوام. وإذا كان ذلك معنى الكلام ، لم يكن إلا بلفظ الاسم أو الاستقبال ، ولا يكون بلفظ الماضي. وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : إن الذين كفروا من صفتهم الصدّ عن سبيل الله ، وذلك نظير قول الله : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ) . وأما قوله : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ ) فإن قرّاء الأمصار على رفع " سواءٌ بالعاكف ، والعاكف به ، وإعمال جعلناه في الهاء المتصلة به ، واللام التي في قوله للناس ، ثم استأنف الكلام بسواء ، وكذلك تفعل العرب بسواء إذا جاءت بعد حرف قد تمّ الكلام به ، فتقول : مررت برجل سواء عنده الخير والشر ، وقد يجوز في ذلك الخفض ، وإنما يختار الرفع في ذلك لأن سواء في مذهب واحد عندهم ، فكأنهم قالوا : مررت برجل واحد عنده الخير والشرّ. وأما من خفضه فإنه يوجهه إلى معتدلٍ عنده الخير والشرّ ، ومن قال ذلك في

(18/597)


سواء فاستأنف به ، ورفع لم يقله في معتدل ، لأن معتدل فعل مصرّح ، وسواء مصدر فإخراجهم إياه إلى الفعل كإخراجهم حسب في قولهم : مررت برجل حسبك من رجل إلى الفعل. وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه قرأه نصبا على إعمال جعلناه فيه ، وذلك وإن كان له وجه في العربية ، فقراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه.
وقوله : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) يقول تعالى ذكره : ومن يرد فيه إلحادا بظلم نذقه من عذاب أليم ، وهو أن يميل في البيت الحرام بظلم ، وأدخلت الباء في قوله بإلحاد ، والمعنى فيه ما قلت ، كما أدخلت في قوله : ( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ) والمعنى : تنبت الدهن ، كما قال الشاعر :
بِوَادِ يَمَانٍ ينبت الشَّثَّ صَدْرُهُ... وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهانِ (1)
والمعنى : وأسفله ينبت المرخ والشبهان ؛ وكما قال أعشى بني ثعلبة :
ضَمِنَتْ بِرزْقِ عِيالِنا أرْماحُنا... بينَ المَرَاجِلِ والصَّرِيحِ الأجْرَدِ (2)
__________
(1) البيت للأحول اليشكري ، واسمه يعلى قاله في ( اللسان : شبه ) نقله عن أبي عبيدة . وقد مر هذا الشاهد على مثل ما استشهد به المؤلف هنا ، عند قوله تعالى : " وهزي إليك بجذع النخلة " ( 16 : 72 ) ووفينا الكلام في رواياته وتخريجه ، فراجعه ثمة .
(2) هذا البيت ينسب لأعشى بني قيس بن ثعلبة ، ولم أجد في ديوانه قصيدة دالية مكسورة من بحر الكامل ، ووجدت البيت في دالية منصوبة باختلاف في رواية وهذا هو البيت مع البيتين قبله : جَعَلَ الإلَهُ طَعامَنا في مالِنا ... رِزْقا تَضَمَّنَهُ لَنا لَنْ يَنْفَدا
مِثْلَ الهِضَابِ جَزَارَةً لسُيُوفنا ... فإذَا تُراعُ فِإنَّهَا لَنْ تُطْرَدَا
ضَمنَتْ لَنا أعْجَازُهُنَّ قُدُورَنا ... وَضُرُوعُهُنَّ لَنا الصَّرِيحَ الأجْرَدَا
ومعنى الأبيات : جعل الله طعامنا في الإبل ، نرحلها حيث نشاء رزقا لا ينفد . وهي ضخمة كالهضاب نعقرها بسيوفنا للضيفان ، لا يطردها مروع أو مغير ، وقد ضمنت أعجازها لنا قدورنا أن تفرغ ، لسمنها وكثرة لحمها ، وضمنت ضروعها لنا اللبن خالصا صافيا . ( انظر الديوان ، طبع القاهرة ، ص 230 بشرح الدكتور محمد حسين ) . وفي اللسان رواية أخرى للبيت ، مع نسبته للأعشى ( في : جرد ) قال : ألبن وجرد لا رغوة قال الأعشى : ضَمِنَتْ لَنا أعْجَازَهُ أرْماحُنا ... مِلْءَ المَرَاجِلِ والصَّرِيحَ الأجْرَدَا
وعلى هاتين الروايتين لا شاهد في البيت ؛ لأن المؤلف إنما ساقه شاهدا على زيادة الباء في قوله " برزق " ولا باء زائدة في هاتين الروايتين . وقد جعل الباء في قوله ( برزق ) نظير الباء التي في الآية : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ أي على تقدير ومن يرد فيه إلحادا بظلم .

(18/598)


بمعنى : ضمنت رزق عيالنا أرماحنا في قول بعض نحويي البصريين. وأما بعض نحويي الكوفيين فإنه كان يقول : أدخلت الياء فيه ، لأن تأويله : ومن يرد بأن يلحد فيه بظلم. وكان يقول : دخول الباء في أن أسهل منه في " إلحاد " وما أشبهه ، لأن أن تضمر الخوافض معها كثيرا ، وتكون كالشرط ، فاحتملت دخول الخافض وخروجه ، لأن الإعراب لا يتبين فيها ، وقال في المصادر : يتبين الرفع والخفض فيها ، قال : وأنشدني أبو الجَرَّاح :
فَلَمَّا رَجَتْ بالشُّرْبِ هَزَّ لَها العَصَا... شَحَيحٌ لهُ عِنْدَ الأدَاءِ نَهِيمُ (1)
وقال امرؤ القيس :
ألا هَلْ أتاها والحَوَادِثُ جَمَّةٌ... بأنَّ أمرأ القَيْسِ بنَ تَمْلِكَ بَيْقَرَا (2)
قال : فأدخل الباء على أن وهي في موضع رفع كما أدخلها على إلحاد ، وهو في موضع نصب ، قال : وقد أدخلوا الباء على ما إذا أرادوا بها المصدر ، كما قال الشاعر :
__________
(1) هذا البيت من شواهد الفراء تلميذ الكسائي وهما زعيما نحاة أهل الكوفة وهو مما أنشده إباه أبو الجراح أحد الأعراب الذين كان يأخذ عنهم اللغة ( انظره في معاني القرآن للفراء ، الورقة 10 من مصورة الجامعة ) . والنهيم كما في ( اللسان : نهم ) : صوت كأنه زحير . وقيل صوت فوق الزئير . والنهيم صوت وتوعد وزجر . والضمير في لها : لعله راجع إلى الإبل التي أرادت الشرب ، حتى إذا كادت تبلغ الماء ، هز لها العصا ، وردها عنه ، رجل له صوت شديد منكر . والشاهد في البيت أن الباء الزائدة في قوله ( بالشرب ) داخلة على مصدر صريح ، وأن الفراء يرى أن دخولها على المصدر المؤول بأن أو بما والفعل ، أحسن من دخولها على المصدر الصريح . وقال الفراء : قوله " ومن يرد فيه بإلحاد بظم " دخلت الباء في الإلحاد ، لأن تأويله : ومن يرد بأن يلحد فيه بظلم ، ودخول الباء في " أن " أسهل منه في الإلحاد ، وما أشبه ، لأن " أن " تضمر الخفوض معها كثيرا ( يريد حروف الخفض ) فاحتملت دخول الخافض وخروجه ، لأن الإعراب لا يتبين فيها ، وقل في المصادر ( أي الصريحة ) لتبين الخفض والرفع فيها ؛ أنشدني أبو الجراح : " فلما رجت بالشرب هز لها العصا " . . . . البيت .
(2) البيت لامرئ القيس بن حجر ( العقد الثمين لألولاد ص 130 ) وليس في رواية الأعلم الشنتمري لديوان امرئ القيس . والبيت شاهد كالذي قبله على أن الباء في قوله ( بأن ) زائدة في المصدر المؤول المرفوع وهي أحسن منها في المصدر الصريح لخفاء الإعراب معها . وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن ، ساقه مع الشاهد الذي قبله ( انظر معاني القرآن للفراء ، الورقة 310 ) قال : أدخل الباء على ( أن ) وهي في موضع رفع كما أدخلها على الإلحاد بظلم ، وهو في موضع نصب .

(18/599)


ألَمْ يَأْتِيكَ والأنْباءُ تَنْمي... بِمَا لاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيادِ (1)
وقال : وهو في " ما " أقل منه في " أن " ، لأن " أن " أقلّ شبها بالأسماء من " ما " . قال : وسمعت أعرابيا من ربيعه ، وسألته عن شيء ، فقال : أرجو بذاك : يريد أرجو ذاك.
واختلف أهل التأويل في معنى الظلم الذي من أراد الإلحاد به في المسجد الحرام ، أذاقه الله من العذاب الأليم ، فقال بعضهم : ذلك هو الشرك بالله وعبادة غيره به : أي بالبيت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) يقول : بشرك.
حدثنا عليّ ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزَّة ، عن مجاهد ، قي قوله : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) هو أن يعبد فيه غير الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال : هو الشرك ، من أشرك في بيت الله عذّبه الله.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة ، مثله.
وقال آخرون : هو استحلال الحرام فيه أو ركوبه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ
__________
(1) البيت لقيس بن زهير العبسي كما في ( النوادر لأبي زيد الأنصاري ، ص 203 ) ولم تحذف الياء في قوله ( يأتيك ) للجازم ، للضرورة . والبيت من شواهد الفراء في ( معاني القرآن ، ص 310 ) على أنهم قد يدخلون الحرف الزائد على المصدر المؤول بما وما بعدها . قال : وقد أدخلوها على ( ما ) إذا أرادوا ( أن ) أقل شبها بالأسماء من ( ما ) . وسمعت أعرابيا من ربيعة وسألته عن شيء ، فقال : أرجو بذلك ، يريد : أرجو ذاك .

(18/600)


بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) يعني أن تستحلّ من الحرام ما حرّم الله عليك من لسان أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك ، وتقتل من لا يقتلك ، فإذا فعل ذلك فقد وجب له عذاب أليم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال : يعمل فيه عملا سيئا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد مثله.
حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ قالا ثنا المحاربيّ ، عن سفيان عن السُّديّ ، عن مرّة عن عن عبد الله ، قال : ما من رجل يهمّ بسيئة فتكتب عليه ، ولو أن رجلا بعد أن بين همّ أن يقتل رجلا بهذا البيت ، لأذاقه الله من العذاب الأليم.
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا شعبة ، عن السديّ ، عن مرّة ، عن عبد الله ، قال مجاهد ، قال يزيد ، قال لنا شعبة ، رفعه ، وأنا لا أرفعه لك في قول الله : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) قال : لو أن رجلا همّ فيه بسيئة وهو بعد أن أبين ، لأذاقه الله عذابا أليما.
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : ثنا محمد بن فضيل ، عن أبيه ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال : إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها ، فتكتب عليه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) قال : الإلحاد : الظلم في الحرم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك الظلم : استحلال الحرم متعمدا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : ( بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال : الذي يريد استحلاله متعمدا ، ويقال الشرك.

(18/601)


وقال آخرون : بل ذلك احتكار الطعام بمكة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني هارون بن إدريس الأصمّ ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن أشعث ، عن حبيب بن أبي ثابت في قوله : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) قال : هم المحتكرون الطعام بمكة.
وقال آخرون : بل ذلك كل ما كان منهيا عنه من الفعل ، حتى قول القائل : لا والله ، وبلى والله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كان له فسطاطان : أحدهما في الحلّ ، والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحلّ ، فسئل عن ذلك ، فقال : كنا نحدّث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل : كلا والله ، وبلى والله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن أبي ربعي ، عن الأعمش ، قال : كان عبد الله بن عمرو يقول : لا والله وبلى والله من الإلحاد فيه.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عباس ، من أنه معنيّ بالظلم في هذا الموضع كلّ معصية لله ، وذلك أن الله عم بقوله( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) ولم يخصص به ظلم دون ظلم في خبر ولا عقل ، فهو على عمومه. فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم ، فيعصي الله فيه ، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له. وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ ذلك(وَمَنْ يَرِدْ فِيه ) بفتح الياء بمعنى : ومن يرده بإلحاد من وَرَدْت المكان أرِدْه. وذلك قراءة لا تجوز القراءة عندي بها لخلافها ما عليه الحجة من القرّاء مجمعة مع بعدها من فصيح كلام العرب ، وذلك أنَّ يَرِدْ فعل واقع ، يقال منه : وهو يَرِد مكان كذا أو بلدة كذا ، ولا يقال : يَرِد في مكان كذا. وقد زعم بعض أهل المعرفة بكلام العرب ، أن طَيِّئا تقول : رغبت فيك ، تريد : رغبت بك ، وذكر أن بعضهم أنشده بيتا :

(18/602)


وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)

وأرْغَبُ فِيها عَنْ لَقِيطٍ وَرَهْطِهِ... وَلَكِنَّنِي عَنْ سِنْبِس لَسْتُ أرْغَبُ (1)
بمعنى : وأرغب بها. فإن كان ذلك صحيحا كما ذكرنا ، فإنه يجوز في الكلام ، فأما القراءة به فغير جائزة لما وصفت.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، مُعْلِمَه عظيم ما ركب من قومه قريش خاصة دون غيرهم من سائر خلقه بعبادتهم في حرمه ، والبيت الذي أمر إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم ببنائه وتطهيره من الآفات والرِّيَب والشرك : واذكر يا محمد كيف ابتدأنا هذا البيت الذي يعبد قومك فيه غيري ، إذ بوأنا لخليلنا إبراهيم ، يعني بقوله : بوأنا : وطأنا له مكان البيت.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور عن معمر ، عن قتادة ، قوله : ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ) قال : وضع الله البيت مع آدم صلى الله عليه وسلم حين أهبط آدم إلى الأرض وكان مهبطه بأرض الهند ، وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، فكانت الملائكة تهابه فنقص إلى ستين ذراعا ، وإن آدم لمَّا فَقَد أصوات الملائكة وتسبيحهم ، شكا ذلك إلى الله ، فقال الله : يا آدم إني قد أهبطت لك بيتا يُطاف به كما يطاف حول عرشي ، ويُصلَّى عنده كما يصلى حول عرشي ، فانطلق إليه! فخرج إليه ، ومدّ له في خطوه ، فكان بين كل خطوتين مفازة ، فلم تزل تلك المفاوز على ذلك حتى أتى آدم البيت ، فطاف به ومن بعده من الأنبياء.
__________
(1) البيت سبق الاستشهاد به على مثل ما استشهد به المؤلف هنا ، في ( 13 : 189 ) وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن ، الورقة 161 ، والورقة 310 من مصورة الجامعة ( على أن من العرب من يجعل ) ( في ) في موضع الباء ، فيقول أدخلك الله بالجنة ، يريد : في الجنة . قال الفراء في ( ص 310 ) : وقد يجوز في لغة الطائيين : لأنهم يقولون : رغبت فيك ، يريدون : رغبت بك . أنشدني بعضهم : " وأرغب فيها عن لقيط " . . . . البيت . يعني بنته . أه .

(18/603)


حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين ، انطلق إبراهيم حتى أتى مكة ، فقام هو وإسماعيل ، وأخذا المعاول ، لا يدريان أين البيت ، فبعث الله ريحا يقال لها ريح الخَجُوج ، لها جناحان ورأس في صورة حية ، فكنست لها ما حول الكعبة عن أساس البيت الأوّل ، واتبعاها بالمعاول يحفران ، حتى وضعا الأساس ، فذلك حين يقول : ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ) .
ويعني بالبيت : الكعبة ، ( أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا ) في عبادتك إياي( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ) الذي بنيته من عبادة الأوثان.
كما حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي عن سفيان عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ) قال : من الشرك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، قال : من الآفات والريب.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ( طَهِّرَا بَيْتِيَ ) قال : من الشرك وعبادة الأوثان.
وقوله : ( لِلطَّائِفِينَ ) يعني للطائفين ، والقائمين بمعنى المصلين الذين هم قيام في صلاتهم.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عطاء في قوله( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ ) قال : القائمون في الصلاة.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة : ( وَالْقَائِمِينَ ) قال : القائمون المصلون.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) قال : القائم والراكع والساجد هو المصلي ، والطائف هو الذي يطوف به. وقوله : ( وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) يقول : والركع السجود في صلاتهم حول البيت.

(18/604)


وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : عهدنا إليه أيضا أن أذّن في الناس بالحجّ : يعني بقوله : (وأذّنْ) أعلم وناد في الناس أن حجوا أيها الناس بيت الله الحرام( يَأْتُوكَ رَجالا ) يقول : فإن الناس يأتون البيت الذي تأمرهم بحجه مشاة على أرجلهم( وَعَلى كُلّ ضَامِر ) يقول : وركباناً على كلّ ضامر ، وهي الإبل المهازيل( يَأْتِينَ مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيق ) يقول : تأتي هذه الضوامر من كل فجّ عميق : يقول : من كلّ طريق ومكان ومسلك بعيد. وقيل : يأتين. فجمع لأنه أريد بكل ضامر : النوق. ومعنى الكلّ : الجمع ، فلذلك قيل : يأتين. وقد زعم الفراء أنه قليل في كلام العرب : مررت على كلّ رجل قائمين. قال : وهو صواب ، وقول الله " وَعَلى ضَامِرٍ يَأْتينَ " ينبىء على صحة جوازه. وذُكر أن إبراهيم صلوات الله عليه لما أمره الله بالتأذين بالحجّ ، قام على مقامه فنادى : يا أيها الناس أن الله كتب عليكم الحج فحجوا بيته العتيق.
وقد اختُلف في صفة تأذين إبراهيم بذلك. فقال بعضهم : نادى بذلك كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له : ( أذّنْ فِي النَّاسِ بالحَجّ ) قال : ربّ ومَا يبلغ صوتي ؟ قال : أذّن وعليّ البلاغ فنادى إبراهيم : أيها الناس كُتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فحجوا - قال : فسمعه ما بين السماء والأرض ، أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون.

(18/605)


حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا محمد بن فضيل بن غزوان الضمي ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : لما بنى إبراهيم البيت أوحى الله إليه ، أن أذّن في الناس بالحجّ ، قال : فقال إبراهيم : ألا إن ربكم قد اتخذ بيتا ، وأمركم أن تحجوه ، فاستجاب له ما سمعه من شيء من حجر وشجر وأكمة أو تراب أو شيء : لبَّيك اللهم لبَّيك.
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا ابن واقد ، عن أبي الزبير ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : قوله : ( وأذّنْ فِي النَّاسِ بالحَجّ )قال : قام إبراهيم خليل الله على الحجر ، فنادى : يا أيها الناس كُتب عليكم الحجّ ، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فأجابه من آمن من سبق في علم الله أن يحج إلى يوم القيامة : لبَّيك اللهمّ لبَّيك.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير : ( وأذّنْ فِي النَّاسِ بالحَجّ يَأْتُوكَ رِجالا ) قال : وقرت في قلب كلّ ذكر وأنثى.
حدثني ابن حميد ، قال : ثنا حكام عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت ، أوحى الله إليه ، أن أذّن في الناس بالحجّ ، قال : فخرج فنادى في الناس : يا أيها الناس أن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه ، فلم يسمعه يومئذ من إنس ، ولا جنّ ، ولا شجر ، ولا أكمة ، ولا تراب ، ولا جبل ، ولا ماء ، ولا شيء إلا قال : لبَّيك اللهم لبَّيك.
قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قام إبراهيم على المقام حين أمر أن يؤذّن في الناس بالحجّ.
حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله : ( وأذّنْ في النَّاسِ بالحَجّ ) قال : قام إبراهيم على مقامه ، فقال : يا أيها الناس أجيبوا ربكم ، فقالوا : لبَّيك اللهمّ لبَّيك ، فمن حَجّ اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن عكرمة بن خالد المخزومي ، قال : لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت ، قام على المقام ، فنادى نداء سمعه أهل الأرض : إن ربكم قد بنى لكم بيتا فحجوه ، قال داود :

(18/606)


فأرجو من حجّ اليوم من إجابة إبراهيم عليه السلام. (1)
حدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا حماد ، عن أبي عاصم الغَنَويّ ، عن أبي الطفيل ، قال : قال ابن عباس : هل تدري كيف كانت التلبية ؟ قلت : وكيف كانت التلبية ؟ قال : إن إبراهيم لما أمر أن يؤذّن في الناس بالحجّ ، خفضت له الجبال رءوسها ، ورُفِعَت القرى ، فأذّن في الناس.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله : ( وأذّنْ في النَّاسِ بالحَجّ ) قال إبراهيم : كيف أقول يا ربّ ؟ قال : قل : يا أيها الناس استجيبوا لربكم ، قال : وقَرَّت في قلب كلّ مؤمن.
وقال آخرون فى ذلك ، ما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سلمة ، عن مجاهد ، قال : قيل لإبراهيم : أذّن في الناس بالحجّ ، قال : يا ربّ كيف أقول ؟ قال : قل لبَّيك اللهمّ لبَّيك. قال : فكانت أوّل التلبية.
وكان ابن عباس يقول : عني بالناس في هذا الموضع : أهل القبلة.
*ذكر الرواية بذلك : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وأذّنْ في النَّاسِ بالحَجّ ) يعني بالناس : أهل القبلة ، ألم تسمع أنه قال : ( إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ لَلَّذِي بِمكَةَ مُبارَكا ... [إلى قوله : ( وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا [يقول : ومن دخله من الناس الذين أمر أن يؤذن فيهم ، وكتب عليهم الحجّ ، فإنه آمن ، فعظَّموا حرمات الله تعالى ، فإنها من تقوى القلوب.
وأما قوله : ( يَأْتُوكَ رِجالا وَعَلى كُلّ ضَامِرٍ ) فإن أهل التأويل قالوا فيه نحو قولنا.
*حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : ( يَأْتُوكَ رِجالا ) قال : مشاة.
__________
(1) كذا وردت هذه العبارة الأخيرة في الأصل ، ولعل أصلها : فأرجو أن كل من حج اليوم ، فحجه من إجابة إبراهيم .

(18/607)


قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو معاوية عن الحجاج بن أرطأة ، قال : قال ابن عباس : ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا ، سمعت الله يقول : ( يَأْتُوكَ رِجالا ).
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : حجّ إبراهيم وإسماعيل ماشيين.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن ابن عباس : ( يَأْتُوكَ رِجالا ) قال : على أرجلهم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَعَلى كُلّ ضَامِرٍ ) قال : الإبل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( وَعَلى كُلّ ضَامِرٍ ) قال : الإبل.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : ثنا المحاربي ، عن عمر بن ذرّ ، قال : قال مجاهد : كانوا لا يركبون ، فأنزل الله : ( يَأْتُوكَ رِجالا وَعَلى كُلّ ضَامِرٍ ) قال : فأمرهم بالزاد ، ورخص لهم في الركوب والمتجر.
وقوله( مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيق ) حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيق ) يعني : من مكان بعيد.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيق ) قال : بعيد.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( فَجّ عَمِيق ) قال : مكان بعيد.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة مثله.
وقوله : ( لِيَشْهُدوا مَنافِعَ لَهُمْ ) اختلف أهل التأويل في معنى المنافع التي ذكرها الله في هذا الموضع فقال بعضهم : هي التجارة ومنافع الدنيا.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا

(18/608)


عمرو بن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس : ( لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ) قال : هي الأسواق.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر بن الحكم ، عن مجاهد عن ابن عباس ، قال : تجارة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي رزين ، في قوله : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لهُمْ ) قال : أسواقهم.
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن واقد ، عن سعيد بن جُبير : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) قال : التجارة.
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق عن سفيان ، عن واقد ، عن سعيد بن جبير ، مثله.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن واقد ، عن سعيد ، مثله.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا سنان ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي رزين : ( لِيَشْهَدُوا مَنافِعُ لَهُمْ ) قال : الأسواق.
وقال آخرون : هي الأجْر في الآخرة ، والتجارة في الدنيا.
*ذكر من قال ذلك : - حدثنا ابن بشار ، وسوار بن عبد الله ، قالا ثنا يحيى بن سعيد ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ) قال : التجارة ، وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة.
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : ثنا إسحاق ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : ثنا سفيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن أبي بشر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ) قال : الأجر في الآخرة ، والتجارة في الدنيا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، مثله.

(18/609)


وقال آخرون : بل هي العفو والمغفرة.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر : ( لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ) قال : العفو.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، قال : قال محمد بن عليّ : مغفرة.
وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : عنى بذلك : ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتجارة ، وذلك أن الله عمّ لهم منافع جميع ما يَشْهَد له الموسم ، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة ، ولم يخصص من ذلك شيئا من منافعهم بخبر ولا عقل ، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت.
وقوله : ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنَ بَهِيمَةِ الأنْعامِ ) يقول تعالى ذكره : وكي يذكروا اسم الله على ما رزقهم من الهدايا والبُدْن التي أهدوها من الإبل والبقر والغنم ، في أيام معلومات ، وهنّ أيام التشريق في قول بعض أهل التأويل. وفي قول بعضهم أيام العَشْر. وفي قول بعضهم : يوم النحر وأيام التشريق.
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في ذلك بالروايات ، وبيِّنا الأولى بالصواب منها في سورة البقرة ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع ، غير أني أذكر بعض ذلك أيضا في هذا الموضع.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ ) يعني أيام التشريق.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : ( أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ ) يعني أيام التشريق ، ( عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعام) يعني البدن.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ( فِي أيَّامٍ مَعْلُوماتٍ ) قال : أيام العشر ، والمعدودات : أيام التشريق.

(18/610)


وقوله : ( فَكُلُوا مِنْها ) يقول : كلوا من بهائم الأنعام التي ذكرتم اسم الله عليها أيها الناس هنالك. وهذا الأمر من الله جلّ ثناؤه أمر إباحة لا أمر إيجاب ، وذلك أنه لا خلاف بين جميع الحُجة أن ذابح هديه أو بدنته هنالك ، إن لم يأكل من هديه أو بدنته ، أنه لم يضيع له فرضا كان واحبا عليه ، فكان معلوما بذلك أنه غير واجب.
*ذكر الرواية عن بعض من قال ذلك من أهل العلم : - حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، قوله : ( فَكُلُوا مِنْها وأطْعِمُوا البائِسَ الفَقيرَ ) قال : كان لا يرى الأكلّ منها واجبا.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن مجاهد ، أنه قال : هي رخصة : إن شاء أكل ، وإن شاء لم يأكل ، وهي كقوله : ( وَإذَا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا )( فإذَا قُضِيَت الصَّلاة فانْتَشرُوا فِي الأرْضِ ) يعني قوله : (فَكُلُوا مِنْها وأطْمِعُوا القانِعَ والمُعْتَرّ ).
قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : ( فَكُلُوا مِنْها ) قال : هي رخصة ، فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل.
قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء في قوله : ( فَكُلُوا مِنْها ) قال : هي رخصة ، فإن شاء لم وإن شاء لم يأكل.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا زيد ، قال : ثنا سفيان ، عن حصين ، عن مجاهد ، في قوله : ( فَكُلُوا مِنْها ) قال : إنما هي رخصة.
وقوله : ( وأطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ ) يقول :
وأطعموا مما تذبحون أو تنحرون هنالك من بهيمة الأنعام من هديكم وبُدنكم البائس ، وهو الذي به ضرّ الجوع والزمانة والحاجة ، والفقير : الذي لا شيء له.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَكُلُوا مِنْها وأطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ ) يعني : الزَّمِن الفقير.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن رجل ،

(18/611)


عن مجاهد : ( البائِسَ الفَقِيرَ ) الذي يمد إليك يديه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( البائِسَ الفَقِيرَ ) قال : هو القانع.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني عمر بن عطاء ، عن عكرمة ، قال : البائس : المضطر الذي عليه البؤس - والفقير : المتعفِّف.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : (البائِسَ) الذي يبسط يديه. وقوله : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) يقول : تعالى ذكره : ثم ليقضوا ما عليهم من مناسك حجهم : من حلق شعر ، وأخذ شارب ، ورمي جمرة ، وطواف بالبيت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثني يزيد ، قال : أخبرنا الأشعث بن سوار ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه قال : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) قال : ما هم عليه في الحجّ.
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثني الأشعث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : التفث : المناسك كلها.
قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أنه قال ، في قوله : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) قال : التفث : حلق الرأس ، وأخذ من الشاربين ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وقصّ الأظفار ، والأخذ من العارضين ، ورمي الجمار ، والموقف بعرفة والمزدلفة.
حدثنا حميد ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا خالد ، عن عكرمة ، قال : التفث : الشعر والظفر.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي ، أنه كان يقول في هذه الآية : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) رمي الجمار ، وذبح الذبيحة ، وأخذ من الشاربين واللحية والأظفار ، والطواف

(18/612)


بالبيت وبالصفا والمروة.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) قال : هو حلق الرأس ، وذكر أشياء من الحجّ قال شعبة : لا أحفظها.
قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد بن عمرو ؛ قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) قال : حلق الرأس ، وحلق العانة ، وقصر الأظفار ، وقصّ الشارب ، ورمي الجمار ، وقص اللحية.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله. إلا أنه لم يقل في حديثه : وقصّ اللحية.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : ثنا المحاربي ، قال : سمعت رجلا يسأل ابن جُرَيج ، عن قوله : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) قال : الأخذ من اللحية ، ومن الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، ورمي الجمار.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا منصور ، عن الحسن ، وأخبرنا جويبر ، عن الضحاك أنهما قالا حلق الرأس.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) يعني : حلق الرأس.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : التفث : حلق الرأس ، وتقليم الظفر.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) يقول : نسكهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) قال : التفث : حرمهم.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) قال : يعني بالتفث : وضع إحرامهم من حلق الرأس ، ولبس الثياب ، وقصّ الأظفار ونحو ذلك.

(18/613)


حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، قال : التفث : حلق الشعر ، وقصّ الأظفار والأخذ من الشارب ، وحلق العانة ، وأمر الحجّ كله.
وقوله : ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) يقول : وليوفوا الله بما نذروا من هَدي وبدنة وغير ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) نحر ما نذروا من البدن.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى - وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) نذر الحجّ والهَدي ، وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحجّ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) قال : نذر الحجّ والهدي ، وما نذر الإنسان على نفسه من شيء يكون في الحجّ.
وقوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العَتيقِ) يقول : وليطوّفوا ببيت الله الحرام.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : (العَتِيق) في هذا الموضع ، فقال بعضهم : قيل ذلك لبيت الله الحرام ، لأن الله أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه وهدمه.
*ذكر من قال ذلك : - حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، أن ابن الزبير ، قال : إنما سمي البيت العتيق ، لأن الله أعتقه من الجبابرة.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن الزبير ، مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إنما سمي العتيق ، لأنه أعتق من الجبابرة.

(18/614)


قال : ثنا سفيان ، قال : ثنا أبو هلال ، عن قتادة : ( وَلْيَطَّوفوا بالْبَيتِ العَتِيق ) قال : أُعْتِق من الجبابرة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( البَيْتِ العَتِيق ) قال : أعتقه الله من الجبابرة ، يعني الكعبة.
وقال آخرون : قيل له عتيق ، لأنه لم يملكه أحد من الناس.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن عبيد ، عن مجاهد ، قال : إنما سمي البيت العتيق لأنه ليس لأحد فيه شيء.
وقال آخرون : سمي بذلك لقِدمه.
*ذكر من قال ذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( البَيْتِ العَتِيق )قال : العتيق : القديم ، لأنه قديم ، كما يقال : السيف العتيق ، لأنه أوّل بيت وُضع للناس بناه آدم ، وهو أوّل من بناه ، ثم بوّأ الله موضعه لإبراهيم بعد الغرق ، فبناه إبراهيم وإسماعيل.
قال أبو جعفر : ولكل هذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في قوله : ( البَيْتِ العَتِيق ) وجه صحيح ، غير أن الذي قاله ابن زيد أغلب معانيه عليه في الظاهر. غير أن الذي رُوي عن ابن الزبير أولى بالصحة ، إن كان ما : حدثني به محمد بن سهل البخاري ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : أخبرني الليث ، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، عن الزهريّ ، عن محمد بن عروة ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّمَا سُمّيَ البَيْتُ العَتِيقُ لأنَّ اللهُ أعْتَقَهُ مِنَ الجَبابِرَةِ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ قَطٌّ صَحِيحا " .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال الزهريّ : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّمَا سُمّيَ البَيْتُ العَتِقُ لأنَّ الله أعْتَقَهُ " ثم ذكر مثله.
وعني بالطواف الذي أمر جلّ ثناؤه حاجٌ بيته العتيق به في هذه الآية طواف الإفاضة الذي يُطاف به بعد التعريف ، إما يوم النحر وإما بعده ، لا خلاف

(18/615)


بين أهل التأويل في ذلك.
*ذكر الرواية عن بعض من قال ذلك : حدثنا عمرو بن سعيد القرشي ، قال : ثنا الأنصاري ، عن أشعث ، عن الحسن : ( وَلْيَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العتِيقِ ) قال : طواف الزيارة.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا خالد ، قال : ثنا الأشعث ، أن الحسن قال في قوله : ( وَلْيَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العتِيقِ ) قال : الطواف الواجب.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلْيَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العتِيقِ ) يعني : زيارة البيت.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، عن حجاج وعبد الملك ، عن عطاء ، في قوله : ( وَلْيَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العتِيقِ ) قال : طواف يوم النحر.
حدثني أبو عبد الرحمن البرقي ، قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سألت زُهَيرا عن قول الله : ( وَلْيَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العتِيقِ ) قال : طواف الوداع.
واختلف القرّاء في قراءة هذه الحروف ، فقرأ ذلك عامة قراء الكوفة " ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا " بتسكين اللام في كل ذلك طلب التخفيف ، كما فعلوا في هو إذا كانت قبله واو ، فقالوا " وَهْوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ " فسكَّنوا الهاء ، وكذلك يفعلون في لام الأمر إذا كان قبلها حرف من حروف النسق كالواو والفاء وثم. وكذلك قرأت عامة قرّاء أهل البصرة ، غير أن أبا عمرو بن العلاء كان يكسر اللام من قوله : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا) خاصة من أجل أن الوقوف على ثم دون ليقضوا حسن ، وغير جائز الوقوف على الواو والفاء ، وهذا الذي اعتلّ به أبو عمرو لقراءته علة حسنة من جهة القياس ، غير أن أكثر القرّاء على تسكينها.
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي ، أن التسكين في لام " ليقضوا " والكسر قراءتان مشهورتان ، ولغتان سائرتان ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب. غير أن الكسر فيها خاصة أقيس ، لما ذكرنا لأبي عمرو من العلة ، لأن من قرأ " وَهْوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ " فهو بتسكين الهاء مع الواو والفاء ، ويحركها في قوله : ( ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُحْضَرينَ ) فذلك الواجب عليه أن يفعل

(18/616)


ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)

في قوله : " ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ " فيحرّك اللام إلى الكسر مع " ثم " وإن سكَّنها في قوله : ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ). وقد ذكر عن أبي عبد الرحمن السُّلميّ والحسن البصري تحريكها مع " ثم " والواو ، وهي لغة مشهورة ، غير أن أكثر القرّاء مع الواو والفاء على تسكينها ، وهي أشهر اللغتين في العرب وأفصحها ، فالقراءة بها أعجب إليّ من كسرها.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) }
يقول تعالى ذكره بقوله(ذلِكَ) هذا الذي أمر به من قضاء التفث والوفاء بالنذور ، والطواف بالبيت العتيق ، هو الفرض الواجب عليكم يا أيها الناس في حجكم( وَمَنْ يُعَظَّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) يقول : ومن يجتنب ما أمره الله باجتنابه في حال إحرامه تعظيما منه لحدود الله أن يواقعها وحُرمَه أن يستحلها ، فهو خير له عند ربه في الآخرة.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد ، في قوله : ( ذلكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ ) قال : الحُرْمة : مكة والحجّ والعُمرة ، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ ) قال : الحرمات : المَشْعَر الحرام ، والبيت الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام ، هؤلاء الحرمات.
وقوله : ( وأُحِلَّتْ لَكُمْ الأنْعامُ ) يقول جل ثناؤه : وأحلّ الله لكم أيها الناس الأنعام أن تأكلوها إذا ذكَّيتموها ، فلم يحرّم عليكم منها بحيرة ، ولا سائبة ،

(18/617)


ولا وَصِيلة ، ولا حاما ، ولا ما جعلتموه منها لآلهتكم( إلا ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) يقول : إلا ما يتلى عليكم في كتاب الله ، وذلك : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهلّ لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردّية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، وما ذُبح على النُّصب ، فإن ذلك كله رجس.
كما : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( إلا ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) قال : إلا الميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله.
وقوله : ( فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأوْثانِ ) يقول : فاتقوا عبادة الأوثان ، وطاعة الشيطان في عبادتها فإنها رجس.
وبنحو الذي قلنا فى تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأوْثانِ ) يقول تعالى ذكره : فاجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج في قوله : ( الرّجْسَ مِنَ الأوْثانِ ) قال : عبادة الأوثان.
وقوله : ( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) يقول تعالى ذكره : واتقوا قول الكذب والفرية على الله بقولكم في الآلهة : ( ما نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرّبُونا إلى اللهِ زُلْفَى) وقولكم للملائكة : هي بنات الله ، ونحو ذلك من القول ، فإن ذلك كذب وزور وشرك بالله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال : أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : قول الزور قال : الكذب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد مثله.

(18/618)


حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلهِ غيرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ) يعني : الافتراء على الله والتكذيب.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن وائل بن ربيعة ، عن عبد الله ، قال : تعدل شهادة الزور بالشرك. وقرأ : ( فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو بكر ، عن عاصم ، عن وائل بن ربيعة ، قال : عُدِلت شهادة الزور الشرك. ثم قرأ هذه الآية : ( فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ).
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو أسامة ، قال : ثنا سفيان العصفري ، عن أبيه ، عن خُرَيم بن فاتك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عُدِلَتْ شَهادَةُ الزُّورِ بالشِّرِك باللهِ " ثم قرأ : ( فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن سفيان العُصفريّ ، عن فاتك بن فضالة ، عن أيمن بن خريم ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فقال : " أيُّها النَّاسُ عُدِلَتْ شَهادَةُ الزُّورِ بالشِّركِ باللهِ " مرّتين. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ).
ويجوز أن يكون مرادا به : اجتنبوا أن ترجسوا أنتم أيها الناس من الأوثان بعبادتكم إياها.
فإن قائل قائل : وهل من الأوثان ما ليس برجس حتى قيل : فاجتنبوا الرجس منها ؟ قيل : كلها رجس. وليس المعنى ما ذهبت إليه في ذلك ، وإنما معنى الكلام : فاجتنبوا الرجس الذي يكون من الأوثان أي عبادتها ، فالذي أمر جل ثناؤه بقوله : ( فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ ) منها اتقاء عبادتها ، وتلك العبادة هي الرجس ، على ما قاله ابن عباس ومن ذكرنا قوله قبل.

(18/619)


حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)

القول في تأويل قوله تعالى : { حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) }
يقول تعالى ذكره : اجتنبوا أيها الناس عبادة الأوثان ، وقول الشرك ، مستقيمين لله على إخلاص التوحيد له ، وإفراد الطاعة والعبادة له خالصا دون الأوثان والأصنام ، غير مشركين به شيئا من دونه ، فإنه من يُشرك بالله شيئا من دونه ، فمثله في بعده من الهدى وإصابة الحقّ وهلاكه وذهابه عن ربه ، مَثل من خرّ من السماء فتخطفه الطير فهلك ، أو هوت به الريح في مكان سحيق ، يعني من بعيد ، من قولهم : أبعده الله وأسحقه ، وفيه لغتان : أسحقته الريح وسحقته ، ومنه قيل للنخلة الطويلة : نخلة سحوق; ومنه قول الشاعر :
كانَتْ لنَا جارَةٌ فَأزْعَجَها... قاذْورَةٌ تَسْحَقُ النَّوَى قُدُمَا (1)
ويُروى : تسحق : يقول : فهكذا مثَل المشرك بالله في بُعده من ربه ومن إصابه الحقّ ، كبُعد هذا الواقع من السماء إلى الأرض ، أو كهلاك من اختطفته الطير منهم في الهواء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ( فَكأنَّما خَرَّ منَ السَّماءِ ) قال : هذا مثَل ضربه الله لمن أشرك بالله في بعده من الهُدى وهلاكه( فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ
__________
(1) البيت مما أنشده الأزهري في تهذيبه ، ونقله عن صاحبه ( اللسان : سحق ) قال : السحق في العدو فوق المشي ودون الحضر ، وأنشده الأزهري : " كانت لنا جارة . . . البيت " . والقاذورة من الإبل : التي تبرك ناحية منها وتستبعد وتنافرها عند الحلب . وتسحق : تجد في سيرها . والنوى : التحول من مكان إلى مكان ، أو الوجه الذي ينوبه المسافر من قرب أو من بعد . وقدما : لا تعرج ولا تنثني . يريد أن جارته نأت عنه بناقة تجد في سيرها ، ولا تعرج على شيء . والبيت شاهد على أن السحق معناه السير الجاد فوق المشي ودون العدو .

(18/620)


ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)

الرّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيق ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( فِي مَكانٍ سَحِيق ) قال : بعيد.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
وقيل : ( فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ) وقد قيل قبله : ( فكأنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّماءِ ) وخرّ فعل ماض ، وتخطفه مستقبل ، فعطف بالمستقبل على الماضي ، كما فعل ذلك في قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) وقد بيَّنت ذلك هناك.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) }
يقول تعالى ذكره : هذا الذي ذكرت لكم أيها الناس وأمرتكم به من اجتناب الرجس من الأوثان واجتناب قول الزور ، حنفاء لله ، وتعظيم شعائر الله ، وهو استحسان البُدن واستسمانها وأداء مناسك الحجّ على ما أمر الله جلّ ثناؤه ، من تقوى قلوبكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : ثنا محمد بن زياد ، عن محمد بن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فإنَّها مِنْ تَقْوَى القُلوبِ ) قال : استعظامها ، واستحسانها ، واستسمانها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزَّة عن مجاهد ، في قوله : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) قال : الاستسمان والاستعظام.

(18/621)


وبه عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : والاستحسان.
حدثنا عبد الحميد بن بيان الواسطي ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن أبي بشر ، وحدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ ) قال : استعظام البدن ، واستسمانها ، واستحسانها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : الوقوف بعرفة من شعائر الله ، وبجمع (1) من شعائر الله ، ورمي الجمار من شعائر الله ، والبُدْن من شعائر الله ، ومن يعظمها فإنها من شعائر الله في قوله : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ ) فمن يعظمها فإنها من تقوى القلوب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ ) قال : الشعائر : الجمار ، والصفا والمروة من شعائر الله ، والمَشْعَر الحرام والمزدلفة ، قال : والشعائر تدخل في الحرم ، هي شعائر ، وهي حرم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن تعظيم شعائره ، وهي ما حمله أعلاما لخلقه فيما تعبدهم به من مناسك حجهم ، من الأماكن التي أمرهم بأداء ما افترض عليهم منها عندها والأعمال التي ألزمهم عملها في حجهم : من تقوى قلوبهم; لم يخصص من ذلك شيئا ، فتعظيم كلّ ذلك من تقوى القلوب ، كما قال جلّ ثناؤه; وحق على عباده المؤمنين به تعظيم جميع ذلك. وقال : ( فإِنَّها مِنْ تَقْوَى القُلُوب ) وأنَّث ولم يقل : فإنه ، لأنه أريد بذلك : فإن تلك التعظيمة مع اجتناب الرجس من الأوثان من تقوى القلوب ، كما قال جلّ ثناؤه : ( إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفورٌ رحِيمٌ ). وعنى بقوله : ( فإِنَّها مِنْ
__________
(1) جمع : هي المزدلفة .

(18/622)


لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)

تَقْوَى القُلُوب ) فإنها من وجل القلوب من خشية الله ، وحقيقة معرفتها بعظمته وإخلاص توحيده.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) }
اختلف أهل التأويل في معنى المنافع التي ذكر الله في هذه الآية وأخبر عباده أنها إلى أجل مسمى ، على نحو اختلافهم في معنى الشعائر التي ذكرها جل ثناؤه في قوله : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فإِنَّها مِنْ تَقْوَى القُلُوب ) فقال الذين قالوا عنى بالشعائر البدن. معنى ذلك : لكم أيها الناس في البدن منافع. ثم اختلف أيضا الذين قالوا هذه المقالة في الحال التي لهم فيها منافع ، وفي الأجل الذي قال عزّ ذكره : ( إلى أجَل مُسَمَّى ) فقال بعضهم : الحال التي أخبر الله جلّ ثناؤه أن لهم فيها منافع ، هي الحال التي لم يوجبها صاحبها ولم يسمها بدنة ولم يقلدها. قالوا : ومنافعها فى هذه الحال : شرب ألبانها ، وركوب طهورها ، وما يرزقهم الله من نتاجها وأولادها. قالوا : والأجل المسمى الذي أخبر جلّ ثناؤه أن ذلك لعباده المؤمنين منها إليه ، هو إلى إيجابهم إياها ، فإذا أوجبوها بطل ذلك ولم يكن لهم من ذلك شيء.
ذكر من قال ذلك :
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس في : ( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمَّى ) قال : ما لم يسمّ بدنا.
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمَّى ) قال : الركوب واللبن والولد ، فإذا سميت بدنة أو هديا ذهب كله.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في هذه الآية : ( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمَّى ) قال : لكم في ظهورها وألبانها وأوبارها ، حتى تصير بُدْنا.
قال : ثنا ابن عديّ ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، بمثله.

(18/623)


حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، وليث عن مجاهد : ( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمَّى ) قال : في أشعارها وأوبارها وألبانها قبل أن تسميها بدنة.
قال : ثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمَّى ) قال : في البدن لحومها وألبانها وأشعارها وأوبارها وأصوافها قبل أن تسمى هديا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله ، وزاد فيه : وهي الأجل المسمى.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء أنه قال في قوله : ( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمَّى ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْت العَتِيق ) قال : منافع في ألبانها وظهورها وأوبارها(إلى أجَلٍ مُسَمَّى) إلى أن تقلد.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثل ذلك.
حدثني يعقوب ، قال : قال ابن علية : سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله : ( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمَّى ) قال : إلى أن تُوجِبها بَدنَة.
قال : ثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن قتادة : ( لَكُمْ فِيها مَنافعُ إلى أجَلٍ مُسَمَّى ) يقول : في ظهورها وألبانها ، فإذا قلدت فمحلها إلى البيت العتيق.
وقال آخرون ممن قال الشعائر البدن في قوله : ( وَمَنْ يَعَظِّمْ شَعِائِرَ الله فإنَّها مِنْ تَقْوَى القُلُوب ) والهاء في قوله : ( لَكْمْ فِيها ) من ذكر الشعائر ، ومعنى قوله : ( لَكُمْ فِيها مَنافُع ) لكم في الشعائر التي تعظمونها لله منافع بعد اتخاذكموها لله بدنا أو هدايا ، بأن تركبوا ظهورها إذا احتجتم إلى ذلك ، وتشربوا ألبانها إن اضطررتم إليها.قالوا : والأجل المسمى الذي قال جلّ ثناؤه : ( إلى أجَل مُسَمَّى ) إلى أن تنحر.
*ذكر من قال ذلك : - حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ،

(18/624)


عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء : ( لَكُمْ فِيها مَنافعُ إلى أجَلٍ مُسَمَّى ) قال : هو ركوب البدن ، وشرب لبنها إن احتاج.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح في قوله : ( لَكُمْ فِيها مَنافعُ إلى أجَلٍ مُسَمَّى ) قال : إلى أن تنحر ، قال : له أن يحملها عليها المعني والمنقطع به من الضرورة ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركب عند منهوكه. قلت لعطاء : ما ؟ قال : الرجل الراجل ، والمنقطع به ، والمتبع وأن نتجت ، أن يحمل عليها ولدها ، ولا يشرب من لبنها إلا فضلا عن ولدها ، فإن كان في لبنها فضل فليشرب من أهداها ومن لم يهدها.وأما الذين قالوا : معنى الشعائر في قوله : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ الله ). شعائر الحجّ ، وهي الأماكن التي يُنْسك عندها لله ، فإنهم اختلفوا أيضا في معنى المنافع التي قال الله : ( لكُمْ فِيها مَنافِعُ ) فقال بعضهم : معنى ذلك : لكم في هذه الشعائر التي تعظمونها منافع بتجارتكم عندها وبيعكم وشرائكم بحضرتها وتسوقكم. والأجل المسمى : الخروج من الشعائر إلى غيرها ومن المواضع التي ينسك عندها إلى ما سواها في قول بعضهم.
حدثني الحسن بن عليّ الصُّدائَي ، قال : ثنا أبو أسامة عن سليمان الضبي ، عن عاصم بن أبي النَّجود ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ، في قوله : ( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ ) قال : أسواقهم ، فإنه لم يذكر منافع إلا للدنيا.
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى ، قوله : ( لَكُمْ فِيها مَنافعُ إلى أجَلٍ مُسَمَّى ) قال : والأجل المسمى : الخروج منه إلى غيره.
وقال آخرون منهم : المنافع التي ذكرها الله في هذا الموضع : العمل لله بما أمر من مناسك الحجّ. قالوا : والأجل المسمَّى : هو انقضاء أيام الحجّ التي يُنْسَك لله فيهنّ.
*ذكر من قال ذلك : - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمَّى ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْت العَتِيق ) فقرأ قول الله : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ الله فإنَّها مِنْ تَقْوَى القُلُوب ) لكم

(18/625)


في تلك الشعائر منافع إلى أجل مسمى ، إذا ذهبت تلك الأيام لم تر أحدا يأتي عرفة يقف فيها يبتغي الأجر ، ولا المزدلفة ، ولا رمي الجمار ، وقد ضربوا من البلدان لهذه الأيام التي فيها المنافع ، وإنما منافعها إلى تلك الأيام ، وهي الأجل المسمى ، ثم محلها حين تنقضي تلك الأيام إلى البيت العتيق.
قال أبو جعفر : وقد دللنا قبل على أن قول الله تعالى ذكره : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ ) معنّي به : كلّ ما كان من عمل أو مكان جعله الله علما لمناسك حج خلقه ، إذ لم يخصص من ذلك جلّ ثناؤه شيئا في خبر ولا عقل.وإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن معنى قوله : ( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمَّى ) في هذه الشعائر منافع إلى أجل مسمى ، فما كان من هذه الشعائر بدنا وهديا ، فمنافعها لكم من حين تملكون إلى أن أوجبتموها هدايا وبدنا ، وما كان منها أماكن ينسك لله عندها ، فمنافعها التجارة لله عندها والعمل بما أمر به إلى الشخوص عنها ، وما كان منها أوقاتا بأن يُطاع الله فيها بعمل أعمال الحجّ وبطلب المعاش فيها بالتجارة ، إلى أن يطاف بالبيت في بعض ، أو يوافي الحرم في بعض ويخرج عن الحرم في بعض.
وقال اختلف الذين ذكرنا اختلافهم في تأويل قوله : ( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمَّى ) في تأويل قوله : ( ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيق ) فقال الذين قالوا عني بالشعائر في هذا الموضع : البُدْن معنى ذلك ثم محل البدن إلى أن تبلغ مكة ، وهي التي بها البيت العتيق.
*ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء : ( ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيق ) إلى مكة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيق ) يعني محل البدن حين تسمى إلى البيت العتيق.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ( ثُمَّ مَحِلُّها ) حين تسمى هديا( إلى البيْتِ العتِيق ) ، قال :

(18/626)


وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)

الكعبة أعتقها من الجبابرة.فوجه هؤلاء تأويل ذلك إلى سمي منحر البدن والهدايا التي أوجبتموها إلى أرض الحرم ، وقالوا : عنى بالبيت العتيق أرض الحرم كلها. وقالوا : وذلك قوله : ( فَلا يَقْربُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ ) والمراد : الحرم كله.
وقال آخرون : معنى ذلك : ثم محلكم أيها الناس من مناسك حجكم إلى البيت العتيق أن تطوفوا به يوم النحر بعد قضائكم ما أوجبه الله عليكم في حجكم.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى : ( ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيق ) قال : محلّ هذه الشعائر كلها الطواف بالبيت.
وقال آخرون : معنى ذلك : ثم محلّ منافع أيام الحجّ إلى البيت العتيق بانقضائها.
*ذكر من قال ذلك : - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيق ) حين تنقضي تلك الأيام ، أيام الحجّ إلى البيت العتيق.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ثم محلّ الشعائر التي لكم فيها منافع إلى أجل مسمى إلى البيت العتيق ، فما كان من ذلك هديا أو بدنا فبموافاته الحرم في الحرم ، وما كان من نسك فالطواف بالبيت.
وقد بيَّنا الصواب في ذلك من القول عندنا في معنى الشعائر.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلِكُلّ أُمَّةٍ ) ولكلّ جماعة سلف فيكم من أهل الإيمان بالله أيها الناس ، جعلنا ذبحا يُهَرِيقون دمه( لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ

(18/527)


بَهِيمَةِ الأنْعام ) بذلك لأن من البهائم ما ليس من الأنعام ، كالخيل والبغال والحمير. وقيل : إنما قيل للبهائم بهائم لأنها لا تتكلم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : ( جَعَلْنا مَنْسَكا ) قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال. حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكا ) قال : إهراق الدماء( لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال. ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
وقوله : ( فَإِلَهُكُمْ إلَهُ وَاحِدٌ ) يقول تعالى ذكره : فاجتنبوا الرجس من الأوثان ، واجتنبوا قول الزور ، فإلهكم إله واحد لا شريك له ، فإياه فاعبدوا وله أخلصوا الألوهة.وقوله : ( فَلَهُ أسْلِمُوا ) يقول : فلإلهكم فاخضعوا بالطاعة ، وله فذلوا بالإقرار بالعبودية.وقوله : ( وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ ) يقول تعالى ذكره : وبشر يا محمد الخاضعين لله بالطاعة ، المذعنين له بالعبودية ، المنيبين إليه بالتوبة. وقد بيَّنا معنى الإخبات بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا.
وقد اختلف أهل التأويل في المراد به في هذا الموضع ، فقال بعضهم : أريد به : وبشِّر المطمئنين إلى الله.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ ) قال : المطمئنين.
حدثني أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ ) المطمئنين إلى الله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى. وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ ) قال : المطمئنين.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : ( وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ ) قال : المتواضعين.

(18/628)


الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)

وقال آخرون في ذلك بما : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا محمد بن مسلم ، عن عثمان بن عبد الله بن أوس ، عن عمرو بن أوس ، قال : المخبتون : الذين لا يظلمون ، وإذا ظلموا لم ينتصروا.
حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، قال : ثنا حفص ، بن عمر ، قال : ثنا محمد بن مسلم الطائفي ، قال : ثني عثمان بن عبد الله بن أوس ، عن عمرو بن أوس مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) }
فهذا من نعت المخبتين; يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وبشّر يا محمد المخبتين الذين تخشع قلوبهم لذكر الله وتخضع من خشيته وجلا من عقابه وخوفا من سخطه.
كما : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) قال : لا تقسو قلوبهم.( والصَّابِرينَ عَلى ما أصَابَهُمْ ) من شدّة في أمر الله ، ونالهم من مكروه في جنبه( والمُقِيمي الصَّلاةِ ) المفروضة( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ ) من الأموال(يُنْفِقُونَ) في الواجب عليهم إنفاقها فيه ، في زكاه ونفقة عيال ومن وجبت عليه نفقته وفي سبيل الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) }

(18/629)


يقول تعالى ذكره : والبُدن وهي جمع بدنة ، وقد يقال لواحدها : بدن ، وإذا قيل بدن احتمل أن يكون جمعا وواحدا ، يدلّ على أنه قد يقال ذلك للواحد قول الراجز :
عَليَّ حِينَ نَمْلِكُ الأمُورَا... صَوْمَ شُهُورٍ وَجَبَتْ نُذُورا وَحَلْقَ راسِي وَافِيا مَضْفُورَا... وَبَدَنا مُدَرَّعا مُوْفُورَا (1)
والبدن : هو الضخم من كلّ شيء ، ولذلك قيل لامرئ القيس بن النعمان صاحب الخورنق ، والسدير البَدَن : لضخمه واسترخاء لحمه ، فإنه يقال : قد بَدَّن تبدينا. فمعنى الكلام. والإبل العظام الأجسام الضخام ، جعلناها لكم أيها الناس من شعائر الله : يقول : من أعلام أمر الله الذي أمركم به في مناسك حجكم إذا قلدتموها وجللتموها وأشعرتموها ، علم بذلك وشعر أنكم فعلتم ذلك من الإبل والبقر.
كما : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال عطاء : ( والبُدْنَ جَعَلنْاها لَكُمْ مِن شَعائِرِ اللهِ ) قال : البقرة والبعير.
__________
(1) هذه أربعة أبيات من مشطور الرجز رواها المؤلف عن الفراء في معاني القرآن في هذا الوضع من التفسير ، وأنشدها قبل ذلك ثلاثة منها في ( 7 : 120 ) عند تفسير قوله تعالى : ( فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان ) في سورة المائدة . مع اختلاف في بعض الألفاظ عن روايته لها هنا ، وهي : عَلَيَّ حينَ تمْلِكُ الأمُورَا ... صَوْمَ شُهُورٍ وَجَبَتْ نُدُورَا
وَبادِنا مُقَلَّدًا مَنْحُورا
ولفظة ( بادنا ) على هذه الرواية ، قد تكون صحيحة ، يريد جملا سمينا جسيما . كما في ( اللسان : بدن ) ، يقال : رجل بادن ، والأنثى بادن وبادنة والجمع : بدن ( بضم فسكون ) ، وبدن ( بالضم وتشديد الدال المفتوحة ) . وقد تكون ( بادنا ) محرفة عن بدن ( بالتحريك ) ، بدليل تخريج المؤلف له بقوله " والبدن " ( بضم فسكون ) جمع بدنة ( بالتحريك ) ، وقد يقال لواحدها : بدن ( بالتحريك ) ، يدل عليه قول الراجز . " وبدنا مدرعا موفورا " . أه .
ويؤيده أيضًا قول أبي البقاء العكبري في إعراب القرآن : البدن ( بضم فسكون ) : وجمع بدن ، ( بالتحريك ) وواحدته : بدنة مثل خشب ( بضم فسكون ) وخشب ( بالتحريك ) ويقال هو جمع بدنة ، مثل ثمرة وثمر ( الأخير بضم فسكون ) ، ويقرأ بضم الدال . والبدنة كما في ( اللسان : بدن ) بالهاء : لعظمها وسمنها . أه . يقول الراجز : أوجبت على نفسي إذا ملكت الأمور بتاء المخاطب أن أصوم شهورا ، وأن أحلق رأسي ، وأن أنحر بدنا أي جملا ضخما .

(18/630)


وقوله : ( لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ) يقول : لكم في البدن خير ، وذلك الخير هو الأجر في الآخرة بنحرها والصدقة بها ، وفي الدنيا : الركوب إذا احتاج إلى ركوبها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى - وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ) قال : أجر ومنافع في البدن.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال. حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : ( لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ) قال : اللبن والركوب إذا احتاج.
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن منصور ، عن إبراهيم : ( لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ) قال : إذا اضطررت إلى بدنتك ركبتها وشربت لبنها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : ( لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ) من احتاج إلى ظهر البدنة ركب ، ومن احتاج إلى لبنها شرب.
وقوله : ( فاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوَافَّ ) يقول تعالى ذكره : فاذكروا اسم الله على البدن عند نحركم إياها صوافّ.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار( فاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوَافَّ ) بمعنى مصطفة ، واحدها : صافة ، وقد صفت بين أيديها. ورُوي عن الحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وجماعة أُخر معهم ، أنهم قرءوا ذلك. " صَوَافِيَ " بالياء منصوبة ، بمعنى : خالصة لله لا شريك له فيها صافية له.
وقرأ بعضهم ذلك : " صَوَاف " بإسقاط الياء وتنوين الحرف ، على مثال : عوار وعواد. وروي عن ابن مسعود أنه قرأه : " صَوَافِنّ " بمعنى : معقلة.
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأه بتشديد الفاء

(18/631)


ونصبها ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه بالمعنى الذي ذكرناه لمن قرأه كذلك.
*ذكر من تأوّله بتأويل من قرأه بتشديد الفاء ونصبها : - حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، في قوله : ( فاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوَافَّ ) قال : الله أكبر الله أكبر ، اللهمّ منك ولك. صوافّ : قياما على ثلاث أرجل. فقيل لابن عباس : ما نصنع بجلودها ؟ قال : تصدّقوا بها ، واستمتعوا بها.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا أيوب بن سويد ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، في قوله : (صَوَافَّ) قال : قائمة ، قال : يقول : الله أكبر ، لا إله إلا الله ، اللهمّ منك ولك.
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس : ( فاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوَافَّ ) قال : قياما على ثلاث قوائم معقولة باسم الله ، اللهم أكبر ، اللهمّ منك ولك.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : (صَوَافَّ) قال : معقولة إحدى يديها ، قال : قائمة على ثلاث قوائم.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( فاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوَافَّ ) يقول : قياما.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ) والصواف : أن تعقل قائمة واحدة ، وتصفها على ثلاث فتنحرها كذلك.
حدثنا يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا يعلى بن عطاء ، قال : أخبرنا بجير بن سالم ، قال : رأيت ابن عمر وهو ينحر بدنته ، قال : فقال : (صَوَافَّ) كما قال الله ، قال : فنحرها وهي قائمة معقولة إحدى يديها.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا ليث ، عن مجاهد ، قال : الصَّوافّ : إذا عقلت رجلها وقامت على ثلاث.

(18/632)


قال : ثنا ليث ، عن مجاهد ، في قوْله : ( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ) قال : صوافّ بين أوظافها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى - وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (صَوَافّ) قال : قيام صواف على ثلاث قوائم.
- حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ) قال : بين وظائفها قياما.
حدثنا ابن البرقي ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، عن خالد بن يزيد ، عن ابن أبي هلال ، عن نافع ، عن عبد الله : أنه كان ينحر البُدن وهي قائمة مستقبلة البيت تصفّ أيديها بالقيود ، قال : هي التي ذكر الله : ( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثني جرير ، عن منصور ، عن رجل ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : قلت له : قول الله( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ) قال : إذا أردت أن تنحر البدنة فانحرها ، وقل : الله أكبر ، لا إله إلا الله ، اللهم منك ولك ، ثم سم ثم انحرها. قلت : فأقول ذلك للأضحية ، قال : وللأضحية.
*ذكر من تأوّله بتأويل من قرأه : " صَوَافِيَ " بالياء : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن الحسن أنه قال : " فاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوَافِيَ " قال : مخلصين.
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن : " صَوَافِيَ " : خالصة.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن : " صَوَافِيَ " : خالصة لله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن شقيق الضبي : " فاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوَافِيَ " قال : خالصة.
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا أيمن بن نابل ، قال : سألت طاوسا عن قوله : " فاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوَافِيَ " قال : خالصا.

(18/633)


حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " فاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوَافِيَ " قال : خالصة ليس فيها شريك كما كان المشركون يفعلون ، يجعلون لله ولآلهتهم صوافي صافية لله تعالى.
*ذكر من تأوّله بتأويل من قرأه " صَوَافِنَ " : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : في حرف ابن مسعود : " فاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوَافِنَ " : أي معقلة قياما.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : في حرف ابن مسعود : " فاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوَافِنَ " قال : أي معقلة قياما.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : من قرأها " صَوَافِنَ " قال : معقولة. قال : ومن قرأها : (صَوَافَّ) قال : تصفُّ بين يديها.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " فاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوَافَّ " يعني صوافن ، والبدنة إذا نحرت عقلت يد واحدة ، فكانت على ثلاث ، وكذلك تنحر.
قال أبو جعفر : وقد تقدم بيان أولى هذه الأقوال بتأويل قوله : (صَوَافَّ) وهي المصطفة بين أيديها المعقولة إحدى قوائمها.
وقوله : ( فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ) يقول : فإذا سقطت فوقعت جنوبها إلى الأرض بعد النحر ، ( فَكُلُوا مِنْهَا ) وهو من قولهم : قد وجبت الشمس : إذا غابت فسقطت للتغيب ، ومنه قول أوس بن حجر :
ألَمْ تُكْسَفِ الشَّمْسُ والبَدْرُ... والْكَواكِبُ للْجَبَلِ الوِّاجِبِ (1)
__________
(1) البيت لأوس بن حجر كما قال المؤلف . والجبل هنا : يريد به رجلا عظيما ، والواجب الذي مات . قال في ( اللسان / وجب ) ووجب الرجل وجبا : مات ، قال قيس بن الخطيم يصف حربا وقعت بين الأوس والخزرج في يوم بعاث وأن مقدم بني عوف وأميرهم لج في المحاربة ، ونهى بني عوف عن السلم حتى كان أول قتيل : أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب
وبيت أوس بن حجر شاهد على أن قوله تعالى : ( فإذا وجبت جنوبها ) معناه : فإذا سقطت فوقعت جنوبها على الأرض بعد النحر ، فكلوا منها . أه .

(18/634)


يعني بالواجب : الواقع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : - حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ) سقطت إلى الأرض.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، في قوله : ( فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ) قال : إذا فرغت ونُحِرت.
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : ( فَإِذَا وَجَبَتْ ) نحرت.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ) قال : إذا نحرت.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ) قال : فإذا ماتت.
وقوله : ( فَكُلُوا مِنْهَا ) وهذا مخرجه مخرج الأمر ومعناه الإباحة والإطلاق; يقول الله : فإذا نحرت فسقطت ميتة بعد النحر فقد حل لكم أكلها ، وليس بأمر إيجاب.
وكان إبراهيم النخعي يقول في ذلك ما : - حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : المشركون كانوا لا يأكلون من ذبائحهم ، فرخص للمسلمين ، فأكلوا منها ، فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن حصين ، عن مجاهد ، قال : إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل ، فهي بمنزلة : ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) .

(18/635)


حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) يقول : يأكل منها ويطعم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن. وأخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، وأخبرنا حجاج ، عن عطاء. وأخبرنا حصين ، عن مجاهد ، في قوله : ( فَكُلُوا مِنْهَا ) قال : إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل ، قال مجاهد : هي رخصة ، هي كقوله : ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ ) ومثل قوله : ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) ، وقوله : ( وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) يقول : فأطعموا منها القانع.
واختلف أهل التأويل في المعنّي بالقانع والمعترّ ، فقال بعضهم : القانع الذي يقنع بما أعطي أو بما عنده ولا يسأل ، والمعترّ : الذي يتعرّض لك أن تطعمه من اللحم ولا يسأل.
ذكر من قال ذلك : - حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) قال : القانع : المستغني بما أعطيته وهو في بيته ، والمعترّ : الذي يتعرّض لك ويلمّ بك أن تطعمه من اللحم ولا يسأل. وهؤلاء الذين أمر أن يطعموا من البُدن.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : القانع : جارك الذي يقنع بما أعطيته ، والمعترّ : الذي يتعرض لك ولا يسألك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن القرظي أنه كان يقول في هذه الآية : ( وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) القانع : الذي يقنع بالشيء اليسير يرضى به ، والمعترّ : الذي يمرّ بجانبك لا يسأل شيئا; فذلك المعترّ.
وقال آخرون : القانع : الذي يقنع بما عنده ولا يسأل; والمعترّ : الذي يعتريك فيسألك.
ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني

(18/636)


معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : ( الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) يقول : القانع المتعفف;(والمعترّ) يقول : السائل.
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثنا عبد الواحد ، قال : ثنا خصيف ، قال : سمعت مجاهدا يقول : القانع : أهل مكة; والمعترّ : الذي يعتريك فيسألك.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا عطاء ، عن خصيف ، عن مجاهد مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : ثني كعب بن فروخ ، قال : سمعت قَتادة يحدث ، عن عكرمة ، في قوله : ( الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) قال : القانع : الذي يقعد في بيته ، والمعترّ : الذي يسأل.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : القانع : المتعفف الجالس في بيته; والمعترّ : الذي يعتريك فيسألك.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : القانع : والمعترّ ، قال : القانع : الطامع بما قِبلك ولا يسألك; والمعترّ : الذي يعتريك ويسألك.
حدثني نصر بن عبد الرحمن ، قال : ثنا المحاربي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وإبراهيم قالا القانع : الجالس في بيته; والمعترّ : الذي يسألك.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة في القانع والمعترّ ، قال : القانع : الذي يقنع بما في يديه; والمعترّ : الذي يعتريك ، ولكليهما عليك حقّ يا ابن آدم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) قال : القانع الذي يجلس في بيته. والمعترّ : الذي يعتريك.
وقال آخرون : القانع : هو السائل ، والمعترّ : هو الذي يعتريك ولا يسأل.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا يونس ، عن الحسن ، قال : القانع : الذي يقنع إليك ويسألك; والمعترّ :

(18/637)


الذي يتعرّض لك ولا يسألك.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن ، في هذه الآية : ( وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) قال : القانع : الذي يقنع ، والمعترّ : الذي يعتريك. قال : وقال الكلبي : القانع : الذي يسألك; والمعترّ : الذي يعتريك ، يتعرّض ولا يسألك.
حدثني نصر عبد الرحمن الأودي ، قال : ثنا المحاربي ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : ( وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) قال : القانع : الذي يسألك ، والمعترّ : الذي يتعرّض لك.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، قال : قال سعيد بن جُبير : القانع : السائل.
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثني غالب ، قال : ثني شريك ، عن فرات القزاز ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : (القانِعَ) قال هو السائل ، ثم قال. أما سمعت قول الشماخ.
لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فيُغْني... مَفاقرَهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوع (1)
قال : من السؤال.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن ، أنه قال في قوله : ( وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) قال : القانع : الذي يقنع إليك يسألك ، والمعترّ : الذي يريك نفسه ويتعرّض لك ولا يسألك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشام ، قال : أخبرنا منصور
__________
(1) البيت للشماخ بن ضرار ( لسان العرب : قنع ) قال : وفي التنزيل : وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ، فالقانع الذي يسأل والمعتر : الذي يتعرض ولا يسأل . قال الشماخ : " لمال المرء . . . . البيت " يعني من مسألة الناس . وقال ابن السكيت ومن العرب : من يجيز القنوع : بمعنى القناعة ، وكلام العرب الجيد : هو الأول . ويروى : " من الكنوع " والكنوع : التقبض والتصاغر . وقيل القانع : السائل ، وقيل : المتعفف وكل يصلح ، والرجل : قانع وقنيع . وقال الفراء : هو الذي يسألك فما أعطيته قبله . وقيل : القنوع : الطمع . والفعل : قنع بالفتح يقنع قنوعا : ذل السؤال . وقيل : سأل . ومفاقرة : وجوه فقره ، وقيل : جمع فقر على غير قياس كالمشابه والملامح . ويجوز أن تكون جمع مفقرة مصدر أفقره ، أو جمع مفقر ( اسم فاعل ) .

(18/638)


ويونس ، عن الحسن. قال : القانع : السائل ، والمعترّ : الذي يتعرض ولا يسأل.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم : القانع : الذي يسأل الناس.
وقال آخرون : القانع : الجار ، والمعترّ : الذي يعتريك من الناس.
*ذكر من قال ذلك : - حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبنا إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، قال : القانع : جارك وإن كان غنيا ، والمعترّ : الذي يعتريك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، قال : قال مجاهد ، في قوله : ( وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) قال : القانع : جارك الغنيّ ، والمعترّ : من اعتراك من الناس.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : ( وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) أنه قال : أحدهما السائل ، والآخر الجار.
وقال آخرون : القانع : الطوّاف ، والمعترّ : الصديق الزائر.
*ذكر من قال ذلك : - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثني أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، عن خالد بن يزيد ، عن ابن أبي هلال ، قال : قال زيد بن أسلم ، في قول الله تعالى : ( الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) فالقانع : المسكين الذي يطوف ، والمعترّ : الصديق والضعيف الذي يزور.
وقال آخرون : القانع : الطامع ، والمعترّ : الذي يعترّ بالبدن.
*ذكر من قال ذلك : - حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى - وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (القانِعَ) قال : الطامع; والمعترّ : من يعترّ بالبدن من غنيّ أو فقير.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني عمر بن عطاء ، عن عكرمة ، قال : القانع : الطامع.

(18/639)


وقال آخرون : القانع : هو المسكين ، والمعتر : الذي يتعرّض للحم.
*ذكر من قال ذلك : - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) قال : القانع : المسكين ، والمعترّ : الذي يعتر القوم للحمهم وليس بمسكين ، ولا تكون له ذبيحة ، يجيء إلى القوم من أجل لحمهم ، والبائس الفقير : هو القانع.
وقال آخرون بما : - حدثنا به ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن فرات ، عن سعيد بن جُبير ، قال : القانع : الذي يقنع ، والمعترّ : الذي يعتريك.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن يونس ، عن الحسن بمثله.
قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ومجاهد : ( الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) القانع : الجالس في بيته ، والمعترّ : الذي يتعرّض لك.
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : عني بالقانع : السائل; لأنه لو كان المعنيّ بالقانع في هذا الموضع ، المكتفي بما عنده والمستغني به لقيل : وأطعموا القانع والسائل ، ولم يقل : وأطعموا القانع والمعترّ. وفي إتباع ذلك قوله : والمعترّ ، الدليل الواضح على أن القانع معنيّ به السائل ، من قولهم : قنع فلان إلى فلان ، بمعنى سأله وخضع إليه ، فهو يقنع قنوعا; ومنه قول لبيد :
وأعْطانِي المَوْلى عَلى حِينَ فَقْرِهِ... إذَا قالَ أبْصِرْ خَلَّتِي وَقُنُوعي (1)
وأما القانع الذي هو بمعنى المكتفي ، فإنه من قنِعت بكسر النون أقنع قناعة وقنعا وقنعانا. وأما المعترّ : فإنه الذي يأتيك معترّا بك لتعطيه وتطعمه.
وقوله : ( كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ ) يقول هكذا سخرنا البدن لكم أيها الناس. يقول : لتشكروني على تسخيرها لكم.
__________
(1) البيت للبيد كما قال المؤلف ، ولم أجده في ديوانه طبعة ليدن سنة 1891 . والخلة بالفتح : الحاجة والفقر . وقال اللحياني : خلة به شديدة : أي خصاصة . والقنوع : السؤال ، وقد شرحناه وبيناه في الشاهد الذي قبله .

(18/640)


لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) }
يقول تعالى ذكره : [لم يصل إلى الله لحوم بدنكم ولا دماؤها ، ولكن يناله اتقاؤكم إياه أن اتقيتموه فيها فأردتم بها وجهه ، وعملتم فيها بما ندبكم إليه وأمركم به في أمرها وعظمتم بها حرماته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : - حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قول الله : ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ) قال : ما أريد به وجه الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ) قال : إن اتقيت الله في هذه البُدن ، وعملت فيها لله ، وطلبت ما قال الله تعظيما لشعائر الله ولحرمات الله ، فإنه قال : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) قال( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) قال : وجعلته طيبا ، فذلك الذي يتقبل الله. فأما اللحوم والدماء ، فمن أين تنال الله ؟ وقوله : ( كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ ) يقول : هكذا سخر لكم البُدن.يقول : ( لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ) يقول : كي تعظموا الله على ما هداكم ، يعني على توفيقه إياكم لدينه وللنسك في حجكم.
كما : - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ) قال : على ذبحها في تلك الأيام( وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ) : يقول : وبشِّر يا محمد الذين أطاعوا الله فأحسنوا في طاعتهم إياه في الدنيا بالجنة في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) }

(18/641)


يقول تعالى ذكره : إن الله يدفع غائلة المشركين عن الذين آمنوا بالله وبرسوله ، إن الله لا يحبّ كل خوّان يخون الله فيخالف أمره ونهيه ويعصيه ويطيع الشيطان(كَفُورٍ) يقول : جَحود لنعمه عنده ، لا يعرف لمنعمها حقه فيشكره عليها. وقيل : إنه عنى بذلك دفع الله كفار قريش عمن كان بين أظهرهم من المؤمنين قبل هجرتهم.

(18/642)


أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)

القول في تأويل قوله تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) }
يقول تعالى ذكره : أذن الله للمؤمنين الذين يقاتلون المشركين في سبيله بأن المشركين ظلموهم بقتالهم.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة : (أُذِنَ) بضم الألف ، (يُقاتَلُونَ) بفتح التاء بترك تسمية الفاعل في أُذِنَ ويُقاتَلُون جميعًا. وقرأ ذلك بعض الكوفيين وعامة قرّاء البصرة : (أُذِنَ) بترك تسمية الفاعل ، و " يُقاتِلُونَ " بكسر التاء ، بمعنى يقاتل المأذون لهم في القتال المشركين. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين وبعض المكيين : " أَذِنَ " بفتح الألف ، بمعنى : أذن الله ، و " يُقاتِلُونَ " بكسر التاء ، بمعنى : إن الذين أذن الله لهم بالقتال يقاتلون المشركين. وهذه القراءات الثلاث متقاربات المعنى; لأن الذين قرءوا أُذِنَ على وجه ما لم يسمّ فاعله يرجع معناه في التأويل إلى معنى قراءة من قرأه على وجه ما سمي فاعله - وإن من قرأ يُقاتِلونَ ، ويُقاتَلُون بالكسر أو الفتح ، فقريب معنى أحدهما من معنى الآخر - وذلك أن من قاتل إنسانا فالذي قاتله له مقاتل ، وكل واحد منهما مقاتل. فإذ كان ذلك كذلك فبأية هذه القراءات قرأ القارئ فمصيب الصواب.
غير أن أحبّ ذلك إليّ أن أقرأ به : أَذِنَ بفتح الألف ، بمعنى : أذن الله ، لقرب ذلك من قوله : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) أذن الله في الذين لا يحبهم للذين يقاتلونهم بقتالهم ، فيردُ أذنَ على قوله : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ )

(18/642)


وكذلك أحب القراءات إليّ في يُقاتِلُون كسر التاء ، بمعنى : الذين يقاتلون من قد أخبر الله عنهم أنه لا يحبهم ، فيكون الكلام متصلا معنى بعضه ببعض.
وقد اختُلف في الذين عُنوا بالإذن لهم بهذه الآية في القتال ، فقال بعضهم : عني به : نبيّ الله وأصحابه.
*ذكر من قال ذلك : - حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) يعني محمدا وأصحابه إذا أخرجوا من مكة إلى المدينة; يقول الله : ( وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) وقد فعل.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جُبير ، قال : لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة ، قال رجل : أخرجوا نبيهم ، فنزلت : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) الآية(الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق) النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
حدثنا يحيى بن داود الواسطي ، قال : ثنا إسحاق بن يوسف ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن

(18/643)


عباس ، قال : لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، ليهلكنّ - قال ابن عباس : فأنزل الله : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) قال أبو بكر : فعرفت أنه سيكون قتال. وهي أوّل آية نزلت.قال ابن داود : قال ابن إسحاق : كانوا يقرءون : (أُذِنَ) ونحن نقرأ : " أَذِنَ " .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا إسحاق ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : فقال أبو بكر : قد علمت أنه يكون قتال. وإلى هذا الموضع انتهى حديثه ، ولم يزد عليه.
حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : ثنا محمد بن يوسف ، قال : ثنا قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، قال أبو بكر : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ليهلكنّ جميعا! فلما نزلت : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا )إلى قوله : ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ) عرف أبو بكر أنه سيكون قتال.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في

(18/644)


الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)

قوله : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) قال : أذن لهم في قتالهم بعد ما عفا عنهم عشر سنين. وقرأ : ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ) وقال : هؤلاء المؤمنون.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ). (1)
وقال آخرون : بل عني بهذه الآية قوم بأعيانهم كانوا خرجوا من دار الحرب يريدون الهجرة ، فمنعوا من ذلك.
*ذكر من قال ذلك : - حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى - وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) قال : أناس مؤمنون خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة ، فكانوا يمنعون ، فأذن الله للمؤمنين بقتال الكفار ، فقاتلوهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) قال : ناس من المؤمنين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة ، وكانوا يمنعون ، فأدركهم الكفار ، فأذن للمؤمنين بقتال الكفار فقاتلوهم. قال ابن جُرَيج : يقول : أوّل قتال أذن الله به للمؤمنين.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : في حرف ابن مسعود : " أُذِنَ للَّذِينَ يُقاتَلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ " قال قَتادة : وهي أوّل آية نزلت في القتال ، فأذن لهم أن يقاتلوا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) قال : هي أوّل آية أنزلت في القتال ، فأذن لهم أن يقاتلوا. وقد كان بعضهم يزعم أن الله إنما قال : أذن للذين يقاتلون بالقتال من أجل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل الكفار إذا آذوهم واشتدّوا عليهم بمكة قبل الهجرة غيلة سرّا; فأنزل الله في ذلك : (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) فَلَمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ، أطلق لهم قتلهم وقتالهم ، فقال : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ). وهذا قول ذُكر عن الضحاك بن مزاحم من وجه غير ثبت.
وقوله : ( وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) يقول جل ثناؤه : وإن الله على نصر المؤمنين الذين يقاتلون في سبيل الله لقادر ، وقد نصرهم فأعزّهم ورفعهم وأهلك عدوّهم وأذلهم بأيديهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) }
يقول تعالى ذكره : أذن للذين يقاتلون( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ) فالذين الثانية ردّ على الذين الأولى. وعنى بالمخرجين من دورهم : المؤمنين الذين أخرجهم كفار قريش من مكة. وكان إخراجهم إياهم من دورهم وتعذيبهم بعضهم على الإيمان بالله ورسوله ، وسبهم بعضهم بألسنتهم ووعيدهم إياهم ، حتى اضطرّوهم إلى الخروج عنهم. وكان فعلهم ذلك بهم بغير حقّ ، لأنهم كانوا على باطل والمؤمنون على الحقّ ، فلذلك قال جل ثناؤه : ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
__________
(1) لعله اختصره إن لم يكن سقط منه شيء من الناسخ ، والأصل : هم والنبي وأصحابه ، أو نحو ذلك .

(18/645)


دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ).
وقوله : ( إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) يقول تعالى ذكره : لم يخرجوا من ديارهم إلا بقولهم : ربنا الله وحده لا شريك له! فأن في موضع خفض ردّا على الباء في قوله : ( بِغَيْرِ حَقٍّ ) ، وقد يجوز أن تكون في موضع نصب على وجه الاستثناء.
وقوله : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ولولا دفع الله المشركين بالمسلمين.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) دفع المشركين بالمسلمين.
وقال آخرون : معنى ذلك : ولولا القتال والجهاد في سبيل الله.
*ذكر من قال ذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) قال لولا القتال والجهاد.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولولا دفع الله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن بعدهم من التابعين.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا إبراهيم بن سعيد ، قال : ثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن سيف بن عمرو ، عن أبي روق ، عن ثابت بن عوسجة الحضرميّ ، قال : حدثني سبعة وعشرون من أصحاب عليّ وعبد الله منهم لاحق بن الأقمر ، والعيزار بن جرول ، وعطية القرظي ، أن عليا رضي الله عنه قال : إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) لولا دفاع الله بأصحاب محمد عن التابعين( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ ).
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لولا أن الله يدفع بمن أوجب قبول شهادته في الحقوق تكون لبعض الناس على بعض عمن لا يجوز شهادته وغيره ، فأحيا بذلك مال هذا ويوقي بسبب هذا إراقة دم هذا ، وتركوا المظالم من أجله ، لتظالم الناس فهدمت صوامع.

(18/646)


*ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) يقول : دفع بعضهم بعضا في الشهادة ، وفي الحقّ ، وفيما يكون من قبل هذا. يقول : لولاهم لأهلكت هذه الصوامع وما ذكر معها.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لولا دفاعه الناس بعضهم ببعض ، لهُدم ما ذكر ، من دفعه تعالى ذكره بعضهم ببعض ، وكفِّه المشركين بالمسلمين عن ذلك; ومنه كفه ببعضهم التظالم ، كالسلطان الذي كفّ به رعيته عن التظالم بينهم; ومنه كفُّه لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق ، ونحو ذلك. وكلّ ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض ، لولا ذلك لتظالموا ، فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيَعهم وما سمّى جل ثناؤه. ولم يضع الله تعالى دلالة في عقل على أنه عنى من ذلك بعضا دون بعض ، ولا جاء بأن ذلك كذلك خبر يجب التسليم له ، فذلك على الظاهر والعموم على ما قد بيَّنته قبل لعموم ظاهر ذلك جميع ما ذكرنا.
وقوله : ( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالصوامع ، فقال بعضهم : عني بها صوامع الرهبان.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن رفيع في هذه الآية : ( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) قال : صوامع الرهبان.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) قال : صوامع الرهبان.
- حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) قال : صوامع الرهبان.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) قال : صوامع الرهبان.

(18/647)


حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله : ( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) وهي صوامع الصغار يبنونها (1) وقال آخرون : بل هي صوامع الصابئين.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (صَوَامِعُ) قال : هي للصابئين.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : (لَهُدّمَتْ). فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة : " لَهُدِمَتْ " . خفيفة. وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة والبصرة : (لَهُدّمَتْ) بالتشديد بمعنى تكرير الهدم فيها مرّة بعد مرّة. والتشديد في ذلك أعجب القراءتين إليّ. لأن ذلك من أفعال أهل الكفر بذلك.
وأما قوله(وَبِيَعٌ) فإنه يعني بها : بيع النصارى.
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم مثل الذي قلنا في ذلك.
*ذكر من قال ذلك : - حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن رفيع : (وَبِيَعٌ) قال : بيع النصارى.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : (وَبِيَعٌ) للنصارى.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : البِيَع : بيع النصارى.
وقال آخرون : عني بالبيع في هذا الموضع : كنائس اليهود.
__________
(1) لعله وهي الصوامع الصغار : أي المعابد الصغار . . الخ .

(18/648)


*ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث. قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : (وَبِيَعٌ) قال : وكنائس.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وَبِيَعٌ) قال : البيع للكنائس.
قوله : (وَصَلَوَاتٌ) اختلف أهل التأويل في معناه ، فقال بعضهم : عني بالصلوات الكنائس.
*ذكر من قال ذلك : - حدثنا محمد سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : (وَصَلَوَاتٌ) قال : يعني بالصلوات الكنائس.
حُدثت عن الحسن ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (وَصَلَوَاتٌ) كنائس اليهود ، ويسمون الكنيسة صلوتا.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : (وَصَلَوَاتٌ) كنائس اليهود.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله.
وقال آخرون : عنى بالصلوات مساجد الصابئين.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، قال : سألت أبا العالية عن الصلوات. قال : هي مساجد الصابئين.
قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن رفيع ، نحوه.
وقال آخرون : هي مساجد للمسلمين ولأهل الكتاب بالطرق.
*ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ،

(18/649)


عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَصَلَوَاتٌ ) قال : مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وَصَلَوَاتٌ) قال : الصلوات صلوات أهل الإسلام ، تنقطع إذا دخل العدو عليهم ، انقطعت العبادة ، والمساجد تهدم ، كما صنع بختنصر.
وقوله : ( وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ) اختلف في المساجد التي أريدت بهذا القول ، فقال بعضهم : أريد بذلك مساجد المسلمين.
*ذكر من قال ذلك : - حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن رفيع ، قوله : (وَمَساجِدُ) قال : مساجد المسلمين.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، قال : ثنا معمر ، عن قتادة : ( وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ) قال : المساجد : مساجد المسلمين يذكر فيها اسم الله كثيرا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتاده ، نحوه.
وقال آخرون : عني بقوله : (وَمَساجِدُ) الصوامع والبيع والصلوات.
* ذكر من قال ذلك : - حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : (وَمَساجِدُ) يقول في كل هذا يذكر اسم الله كثيرا ، ولم يخصّ المساجد.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : الصلوات لا تهدم ، ولكن حمله على فعل آخر ، كأنه قال : وتركت صلوات. وقال بعضهم : إنما يعني : مواضع الصلوات. وقال بعضهم : إنما هي صلوات ، وهي كنائس اليهود ، تدعى بالعِبرانية : صلوتا.
وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : لهدِّمت صوامع الرهبان وبِيَع النصارى ، وصلوات اليهود ، وهي كنائسهم ، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا.

(18/650)


الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

وإنما قلنا هذا القول أولى بتأويل ذلك; لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب المستفيض فيهم ، وما خالفه من القول وإن كان له وجه فغير مستعمل فيما وجهه إليه من وجهه إليه.
وقوله : ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) يقول تعالى ذكره : وليعيننّ الله من يقاتل في سبيله ، لتكون كلمته العليا على عدوّه; فنصْر الله عبده : معونته إياه ، ونصر العبد ربه : جهاده في سبيله ، لتكون كلمته العليا.
وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) يقول تعالى ذكره : إن الله لقويّ على نصر من جاهد في سبيله من أهل ولايته وطاعته ، عزيز في مُلكه ، يقول : منيع في سلطانه ، لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ (41) }
يقول تعالى ذكره : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة. والذين ههنا ردّ على الذين يقاتلون.
ويعني بقوله : ( إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ ) إن وطنا لهم في البلاد ، فقهروا المشركين وغلبوهم عليها ، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول : إن نصرناهم على أعدائهم وقهروا مشركي مكة ، أطاعوا الله ، فأقاموا الصلاة بحدودها ، وآتوا الزكاة : يقول : وأعطوا زكاة أموالهم من جعلها الله له( وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ) يقول : ودعوا الناس إلى توحيد الله والعمل بطاعته وما يعرفه أهل الإيمان بالله( وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) يقول : ونهوا عن الشرك بالله ، والعمل بمعاصيه ، الذي ينكره أهل الحقّ والإيمان بالله( وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ) يقول : ولله آخر أمور الخلق ، يعني : أن إليه مصيرها في الثواب عليها ، والعقاب في الدار الآخرة.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

(18/651)


وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)

*ذكر من قال ذلك : حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسين الأشيب ، قال : ثنا أبو جعفر عيسى بن ماهان ، الذي يقال له الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) قال : كان أمرهم بالمعروف أنهم دعوا إلى الإخلاص لله وحده لا شريك له; ونهيهم عن المنكر أنهم نهوا عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان. قال : فمن دعا إلى الله من الناس كلهم فقد أمر بالمعروف ، ومن نهى عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان فقد نهى عن المنكر.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) }
يقول تعالى ذكره مسليا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما يناله من أذى المشركين بالله ، وحاضا له على الصبر على ما يلحقه منهم من السبّ والتكذيب : وإن يكذّبك يا محمد هؤلاء المشركون بالله على ما آتيتَهم به من الحق والبرهان ، وما تعدهم من العذاب على كفرهم بالله ، فذلك سنة إخوانهم من الأمم الخالية المكذّبة رسل الله المشركة بالله ومنهاجهم من قبلهم ، فلا يصدنك ذلك ، فإن العذاب المهين من ورائهم ونصري إياك وأتباعك عليهم آتيهم من وراء ذلك ، كما أتى عذابي على أسلافهم من الأمم الذين من قبلهم بعد الإمهال إلى بلوغ الآجال. فقد كذبت قبلهم يعني مشركي قريش; قوم نوح ، وقوم عاد وثمود ، وقوم إبراهيم ، وقوم لوط ، وأصحاب مدين ، وهم قوم شعيب. يقول : كذب كلّ هؤلاء رسلهم. وكذب موسى ، فقيل : وكذب موسى ، ولم يقل : وقوم موسى ، لأن قوم موسى بنو إسرائيل ، وكانت قد استجابت له ولم تكذّبه ، وإنما كذّبه فرعون وقومه من القبط.
وقد قيل : إنما قيل ذلك كذلك لأنه ولد فيهم كما ولد في أهل مكة.
وقوله : ( فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ) يقول : فأمهلت لأهل الكفر بالله من هذه الأمم ، فلم أعاجلهم بالنقمة والعذاب( ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ) يقول : ثم أحللت بهم العقاب بعد الإملاء( فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ )
يقول : فانظر يا محمد كيف كان تغييري ما كان بهم من نعمة وتنكري لهم عما كنت عليه من الإحسان إليهم ، ألم أبدلهم بالكثرة قلة وبالحياة موتا وهلاكا وبالعمارة خرابا ؟ يقول : فكذلك فعلي بمكذّبيك من قريش ، وإن أمليت لهم إلى آجالهم ، فإني منجزك وعدي فيهم كما أنجزت غيرك من رسلي وعدي في أممهم ، فأهلكناهم وأنجيتهم من بين أظهرهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) }
يقول تعالى ذكره : وكم يا محمد من قرية أهلكت أهلها وهم ظالمون; يقول : وهم يعبدون غير من ينبغي أن يُعبد ، ويعصون من لا ينبغي لهم أن يعصوه.وقوله : ( فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ) يقول : فباد أهلها وخلت ، وخوت من سكانها ، فخربت وتداعت ، وتساقطت على عروشها; يعني على بنائها وسقوفها.
كما : حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ) قال : خواؤها : خرابها ، وعروشها : سقوفها.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (خاويَةٌ) قال : خربة ليس فيها أحد.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة. مثله.
وقوله : ( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) يقول تعالى : فكأين من قرية أهلكناها ، ومن بئر عطلناها ، بإفناء أهلها وهلاك وارديها ، فاندفنت وتعطلت ، فلا واردة لها ولا

(18/652)


شاربة منها(وَ) من( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) رفيع بالصخور والجصّ ، قد خلا من سكانه ، بما أذقنا أهله من عذابنا بسوء فعالهم ، فبادوا وبقي قصورهم المشيدة خالية منهم. والبئر والقصر مخفوضان بالعطف على القرية. كان بعض نحويي الكوفة يقول : هما معطوفان على العروش بالعطف عليها خفضا ، وإن لم يحسن فيهما ، على أن العروش أعالي البيوت ، والبئر في الأرض ، وكذلك القصر ، لأن القرية لم تخو على القصر ، ولكنه أتبع بعضه بعضا كما قال : ( وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ ) فمعنى الكلام على ما قال هذا الذي ذكرنا قوله في ذلك : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة ، فهي خاوية على عروشها ، ولها بئر معطلة وقصر مشيد ؛ ولكن لما لم يكن مع البئر رافع ولا عامل فيها ، أتبعها في الإعراب العروش ، والمعنى ما وصفت.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : ( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) قال : التي قد تُرِكت.وقال غيره : لا أهل لها.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) قال : عطلها أهلها ، تركوها.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) قال : لا أهل لها.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) فقال بعضهم : معناه : وقصر مجصص.
*ذكر من قال ذلك : - حدثني مطر بن محمد الضبي ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا سفيان ، عن هلال بن خباب عن عكرمة ، في قوله : ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال : مجصص.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن هلال بن

(18/654)


خباب ، عن عكرمة ، مثله.
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثني غالب بن فائد ، قال : ثنا سفيان ، عن هلال بن خباب عن عكرمة ، مثله.
حدثني الحسين بن محمد العنقزي ، قال : ثني أبي ، عن أسباط ، عن السديّ ، عن عكرمة ، في قوله : ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال : مجصص.
حدثني مطر بن محمد ، قال : ثنا كثير بن هشام. قال. حدثنا جعفر بن برقان ، قال : كنت أمشي مع عكرمة ، فرأى حائط آجرّ مصهرج ، فوضع يده عليه وقال : هذا المشيد الذي قال الله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عباد بن العوامّ ، عن هلال بن خباب ، عن عكرمة : ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال : المجصص. قال عكرِمة : والجصّ بالمدينة يسمى الشيد.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال : بالقصة أو الفضة.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال : بالقصة يعني بالجصّ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جُرَيج ، عن عطاء ، في قوله : ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال : مجصص.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن هلال بن خباب ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال : مجصص ، هكذا هو في كتابي عن سعيد بن جبير.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقصر رفيع طويل.

(18/655)


*ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال : كان أهله شيَّدوه وحصَّنوه ، فهلكوا وتركوه.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عُبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) يقول : طويل.
وأولى القولين في ذلك بالصواب : قول من قال : عني بالمشيد المجصص ، وذلك أن الشيد في كلام العرب هو الجصّ بعينه; ومنه قول الراجز :
كَحَبَّةِ المَاءِ بينَ الطَّيّ والشِّيدِ (1)
فالمشيد : إنما هو مفعول من الشِّيد; ومنه قول امرئ القيس :
وتَيْماءَ لَمْ يَتْرُكْ بِها جِذْعَ نَخْلَةٍ... وَلا أُطُما إلا مَشيدًا بِجَنْدَلِ (2)
__________
(1) هذا عجز بيت من البسيط ، وليس من الرجز . وقال في اللسان : وحبب الماء بالكسر ، وحببه وحبابه بالفتح : طرائقه والطي : الحجارة تبنى بها جدار البئر . والشيد ، بكسر الشين : كل ما طلي به الحائط من جص أو بلاط ، وبالفتح : المصدر تقول شاده يشيده شيدا : جصصه ، وبناء مشيد : معمول بالشيد .
(2) البيت لامرئ القيس يصف السيل في معلقته المشهورة ( مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة الحلبي ، ص 33 ) قال شارحه : تيماء : مدينة . والأطم : البيت المسطح ، ويروى " ولا أجما " ، وهو بمعنى الأطم . يقول : لم يدع السيل بيتا مبينا بحصى وحجارة إلا هدمه إلا المشيد بجندل فإنه سلم لقوته .
وفي ( اللسان : شيد ) : وبناء مشيد : معمول بالشيد . وكل ما أحكم من البناء فقد شيد ، وتشييد البناء إحكامه ورفعه ، والمشيد : المبني بالشيد وأنشد : " شاده مرمرا . . . البيت " . قال أبو عبيدة : البناء : المشيد ( بالتشديد ) : المطول . والمفهوم من نصوص اللغويين من بيت امرئ القيس ومن بيت عدي بن زيد الآتي بعد هذا ، أن البناء المشيد بالتخفيف : هو المطول الذاهب في السماء ، أو هو المحكم القوي . فيكون للمشيد إذن معنيان : الأول هو المطلي بالجص ونحوه لتزيينه . والثاني هو المبني بالجص ونحوه مع الصخور أو المرمر ...الخ .

(18/656)


أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)

يعني بذلك : إلا بالبناء بالشيد والجندل. وقد يجوز أن يكون معنيا بالمشيد : المرفوع بناؤه بالشيد ، فيكون الذين قالوا : عني بالمشيد الطويل نحْوا بذلك إلى هذا التأويل; ومنه قول عديّ بن زيد :
شادَهُ مَرْمَرًا وَجَلَّلَهُ كِلْ... سا فللطْيَر فِي ذُرَاهُ وُكُورُ (1)
وقد تأوّله بعض أهل العلم بلغات العرب بمعنى المزين بالشيد من شدته أشيده. إذا زيَّنته به ، وذلك شبيه بمعنى من قال : مجصص.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) }
يقول تعالى ذكره : أفلم يسيروا هؤلاء المكذّبون بآيات الله والجاحدون قدرته في البلاد ، فينظروا إلى مصارع ضربائهم من مكذّبي رسل الله الذين خلوْا من قبلهم ، كعاد وثمود وقوم لوط وشعيب ، وأوطانهم ومساكنهم ، فيتفكَّروا فيها ويعتبروا بها ويعلموا بتدبرهم أمرها وأمر أهلها ، سنة الله فيمن كفر وعبد غيره وكذّب رسله ، فينيبوا من عتوّهم وكفرهم ، ويكون لهم إذا تدبروا ذلك واعتبروا به وأنابوا إلى الحقّ( قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ) حجج الله على خلقه وقدرته على ما بيَّنا( أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ) يقول : أو آذان تصغي لسماع الحقّ فتعي
__________
(1) البيت لعدي بن زيد العبادي . وقد أنشده في ( اللسان : شيد ) ولم ينسبه وقال المشيد : المبني بالتشيد . أه . يريد أنه أحكم بناؤه وأحكم بالتشيد مع المرمر ، وهو نوع من الرخام صلب . والكلس قال في ( اللسان : كلس ) : مثل الصاروج يبنى به . وقيل الكلس : ما طلي به حائط أو باطن قصر ، شبه الجص من غير آجر ؛ قال عدي بن يزيد العبادي ( وذكر أربعة أبيات منها بيت الشاهد ، وهو آخرها ) ثم قال : والتكليس التمليس ، فإذا طلى ثخينا فهو المقرمد . والشاهد في بيت عدي هذا كما بيناه في بيت امرئ القيس قبله أن قوله " شاده مرمرا " يفهم منه الإحكام والتقوية ورفع البناء ، ولا يفهم منه الطلاء الخارجي بالشيد . وهو ما قاله المؤلف . والذرا بضم الذال : جمع ذروة ، وهي أعلى الشيء . والوكور : جمع وكر وهو عش الطائر ، أي أن صاحب ذلك القصر المعروف بالحضر ، رفع بناءه بالشيد والمرمر ، ثم كلسه وملسه بالجص أو بالكلس ، وإن الطير قد اتخذت وكورها في أعلاه .

(18/657)


ذلك وتميز بينه وبين الباطل.وقوله : ( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ ) يقول : فإنها لا تعمى أبصارهم أن يبصروا بها الأشخاص ويروها ، بل يبصرون ذلك بأبصارهم; ولكن تعمى قلوبهم التي في صدورهم عن أنصار الحق ومعرفته.
والهاء في قوله : ( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى ) هاء عماد ، كقول القائل : إنه عبد الله قائم.
وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " فإنَّهُ لا تَعْمَى الأبْصَارُ " .وقيل : ( وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) والقلوب لا تكون إلا في الصدور ، توكيدا للكلام ، كما قيل : ( يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ).

(18/658)


وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) }
يقول تعالى ذكره : ويستعجلونك يا محمد مشركو قومك بما تعدهم من عذاب الله على شركهم به وتكذيبهم إياك فيما أتيتهم به من عند الله في الدنيا ، ولن يخلف الله وعده الذي وعدك فيهم من إحلال عذابه ونقمته بهم في عاجل الدنيا. ففعل ذلك ، ووفى لهم بما وعدهم ، فقتلهم يوم بدر.
واختلف أهل التأويل في اليوم الذي قال جلّ ثناؤه : ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) أي يوم هو ؟ فقال بعضهم : هو من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) قال : من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ )... الآية ، قال : هي مثل قوله في " الم تنزيل " سواء ، هو هو الآية.
وقال آخرون : بل هو من أيام الآخرة.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن سماك ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : مقدار الحساب يوم القيامة ألف

(18/658)


سنة
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا سعيد الجريري ، عن أبي نضرة عن سمير بن نهار ، قال : قال أبو هريرة : يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم. قلت : وما نصف يوم ؟ قال : أو ما تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى. قال : ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثني عبد الرحمن ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد : ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ ) قال : من أيام الآخرة.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة ، أنه قال في هذه الآية : ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) قال : هذه أيام الآخرة. وفي قوله : ( ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) قال : يوم القيامة ، وقرأ : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا ).
وقد اختلف في وجه صرف الكلام من الخبر عن استعجال الذين استعجلوا العذاب إلى الخبر عن طول اليوم عند الله ، فقال بعضهم : إن القوم استعجلوا العذاب في الدنيا ، فأنزل الله : ( وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ) في أن ينزل ما وعدهم من العذاب في الدنيا. وإن يوما عند ربك من عذابهم في الدنيا والآخرة كألف سنة مما تعدّون في الدنيا.
وقال آخرون : قيل ذلك كذلك إعلاما من الله مستعجليه العذاب أنه لا يعجل ، ولكنه يمهل إلى أجل أجَّله ، وأن البطيء عندهم قريب عنده ، فقال لهم : مقدار اليوم عندي ألف سنة مما تعدّون أنتم أيها القوم من أيامكم ، وهو عندكم بطئ وهو عندي قريب.
وقال آخرون : معنى ذلك : وإن يوما من الثقل وما يخاف كألف سنة.
والقول الثاني عندي أشبه بالحقّ في ذلك; وذلك إن الله تعالى ذكره أخبر عن استعجال المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب ، ثم أخبر عن مبلغ قدر اليوم عنده ، ثم أتبع ذلك قوله : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ) فأخبر عن إملائه أهل القرية الظالمة ، تركه معاجلتهم بالعذاب ، فبين بذلك أنه عنى بقوله : ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) نفي العجلة عن نفسه ،

(18/659)


وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)

ووصفها بالأناة والانتظار ، وإذ كان ذلك كذلك ، كان تأويل الكلام : وإن يوما من الأيام التي عند الله يوم القيامة ، يوم واحد كألف سنة من عددكم ، وليس ذلك عنده ببعيد ، وهو عندكم بعيد ، فلذلك لا يعجل بعقوبة من أراد عقوبته حتى يبلغ غاية مدّته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) }
يقول تعالى ذكره : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا ) يقول : أمهلتهم وأخَّرت عذابهم ، وهم بالله مشركون ، ولأمره مخالفون ، وذلك كان ظلمهم الذي وصفهم الله به جلّ ثناؤه ، فلم أعجل بعذابهم ، ( ثُمَّ أَخَذْتُهَا ) يقول : ثم أخذتها بالعذاب ، فعذّبتها في الدنيا بإحلال عقوبتنا بهم ، ( وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ) يقول : وإليّ مصيرهم أيضا بعد هلاكهم ، فيلقون من العذاب حينئذ ما لا انقطاع له; يقول تعالى ذكره : فكذلك حال مستعجليك بالعذاب من مشركي قومك ، وإن أمليت لهم إلى آجالهم التي أجلتها لهم ، فإني آخذهم بالعذاب ، فقاتلهم بالسيف ، ثم إليّ مصيرهم بعد ذلك فموجعهم إذن عقوبة على ما قدّموا من آثامهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لمشركي قومك الذين يجادلونك في الله بغير علم ، اتباعا منهم لكل شيطان مريد : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) أنذركم عقاب الله أن ينزل بكم في الدنيا ، وعذابه

(18/660)


في الآخرة أن تصلوه مبين : يقول : أبين لكم إنذاري ذلك وأظهره ، لتنيبوا من شرككم وتحذروا ما أنذركم من ذلك ، لا أملك لكم غير ذلك ، فأما تعجيل العقاب وتأخيره الذي تستعجلونني به ، فإلى الله ليس ذلك إليّ ، ولا أقدر عليه ؛ ثم وصف نذارته وبشارته ، ولم يجر للبشارة ذكر ، ولما ذكرت النذارة على عمل علم أن البشارة على خلافه ، فقال : والذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات منكم أيها الناس ومن غيركم( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) يقول : لهم من الله ستر ذنوبهم التي سلفت منهم في الدنيا عليهم في الآخرة( وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) يقول : ورزق حسن في الجنة.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قوله : ( فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) قال : الجنة.
وقوله : ( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ) يقول : والذين عملوا في حججنا فصدّوا عن اتباع رسولنا ، والإقرار بكتابنا الذي أنزلناه ، وقال في آياتنا فأدخلت فيه في كما يقال : سعى فلان في أمر فلان.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (مُعاجِزينَ) فقال بعضهم : معناه : مشاقين.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن عثمان بن عطاء ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، أنه قرأها : (معاجزين) في كل القرآن ، يعني بألف ، وقال : مشاقين.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهم ظنوا أنهم يعجزون الله فلا يقدر عليهم.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ( فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ) قال : كذبوا بآيات الله فظنوا أنهم يعجزون الله ، ولن يعجزوه.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله.
وهذان الوجهان من التأويل في ذلك على قراءة من قرأه : ( فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ) بالألف ، وهي قراءة عامة قرّاء المدينة والكوفة. وأما بعض قرّاء أهل

(18/661)


وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)

مكة والبصرة ، فإنه قرأه : " مُعَجِّزِينَ " بتشديد الجيم بغير ألف ، بمعنى أنهم عجزوا الناس وثبطوهم عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والإيمان بالقرآن.
*ذكر من قال ذلك كذلك من قراءته : حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : " مُعَجِّزِينَ " قال : مبطِّئين يبطِّئون الناس عن اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، متقاربتا المعنى; وذلك أن من عجز عن آيات الله ، فقد عاجز الله ، ومن معاجزة الله التعجيز عن آيات الله ، والعمل بمعاصيه وخلاف أمره ، وكان من صفة القوم الذين أنزل الله هذه الآيات فيهم أنهم كانوا يبطِّئون الناس عن الإيمان بالله ، واتباع رسوله ، ويغالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحسبون أنهم يعجزونه ويغلبونه ، وقد ضمن الله له نصره عليهم ، فكان ذلك معاجزتهم الله. فإذ كان ذلك كذلك ، فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب الصواب في ذلك.
وأما المعاجزة فإنها المفاعلة من العجز ، ومعناه : مغالبة اثنين ، أحدهما صاحبه أيهما يعجزه فيغلبه الآخر ويقهره.
وأما التعجيز : فإنه التضعيف وهو التفعيل من العجز.وقوله : ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) يقول : هؤلاء الذين هذه صفتهم هم سكان جهنم يوم القيامة وأهلها الذين هم أهلها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) }

(18/662)


قيل : إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الشيطان كان ألقي على لسانه في بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن ما لم ينزله الله عليه ، فاشتدّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم واغتمَّ به ، فسلاه الله مما به من ذلك بهذه الآيات.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس قالا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناد من أندية قريش كثير أهله ، فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا بلغ : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) ألقى عليه الشيطان كلمتين : تلك الغرانقة العلى ، وإن شفاعتهنّ لترجى ، فتكلم بها. ثم مضى فقرأ السورة كلها. فسجد في آخر السورة ، وسجد القوم جميعا معه ، ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته فسجد عليه ، وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود. فرضوا بما تكلم به وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ، وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، إذ جعلت لها نصيبا ، فنحن معك ، قالا فلما أمسى أتاه جبرائيل عليه السلام ، فعرض عليه السورة; فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال : ما جئتك بهاتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : افْتَرَيْتُ عَلى الله ، وَقُلْتُ عَلى الله ما لَمْ يَقُلْ ، فأوحى الله إليه : ( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ) ... إلى قوله : ( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ). فما زال مغموما مهموما حتى نزلت عليه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ). قال : فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا : هم أحبّ إلينا ، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد المدني ، عن محمد بن كعب القرظي قال : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(18/663)


تولي قَومه عنه ، وشقّ عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من عند الله ، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب به بينه وبين قومه. وكان يسرّه ، مع حبه وحرصه عليهم ، أن يلين له بعض ما غلظ عليه من أمرهم ، حين حدّث بذلك نفسه ، وتمنى وأحبه ، فأنزل الله : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) فلما انتهى إلى قول الله : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) ألقى الشيطان على لسانه ، لما كان يحدّث به نفسه ويتمنى أن يأتي به قومه ، تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن ترتضى ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا وسرّهم ، وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم ، فأصاخوا له ، والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم ، ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل ؛ فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها ، فسجد المسلمون بسجود نبيهم تصديقا لما جاء به واتباعا لأمره ، وسجد من في المسجد من المشركين ، من قريش وغيرهم لما سمعوا من ذكر آلهتهم ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة ، فإنه كان شيخا كبيرا فلم يستطع ، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها. ثم تفرّق الناس من المسجد ، وخرجت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ، يقولون : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، وقد زعم فيما يتلو أنها الغرانيق العلى ، وأن شفاعتهنّ ترتضى ، وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : أسلمت قريش. فنهضت منهم رجال ، وتخلَّف آخرون. وأتى جبرائيل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ماذا صنعت ؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، وقلت ما لم يُقل لك ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ، وخاف من الله خوفا كبيرا فأنزل الله تبارك وتعالى عليه(وكانَ بِهِ رَحِيما) يعزّيه ويخفض عليه الأمر ، ويخبره أنه لم يكن قبله رسول ولا نبيّ تمنى كما تمنى ولا حبّ كما أحبّ إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته ، كما ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم ، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته ، أي فأنت كبعض الأنبياء والرسل ، فأنزل الله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )... الآية ، فأذهب الله عن نبيه الحزن ، وأمنه من الذي كان يخاف ، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم ، أنها الغرانيق العلى ، وأن شفاعتهنّ ترتضى. يقول الله حين ذكر اللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى ، إلى قوله : ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) ، أي فكيف تمنع شفاعة آلهتكم عنده ؛ فلما جاءه من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه ، قالت قريش : ندم محمد على ما كان من منزلة آلهتكم عند الله ، فغير ذلك وجاء بغيره ، وكان ذلك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسوله قد وقعا في فم كل مشرك ، فازدادوا شرّا إلى ما كانوا عليه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت داود ، عن أبي العالية ، قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما جلساؤك عبد بني فلان ومولى بني فلان ، فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك ، فإنه يأتيك أشراف العرب فإذا رأوا جلساءك أشراف قومك كان أرغب لهم فيك ، قال : فألقى الشيطان في أمنيته ، فنزلت هذه الآية : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) قال : فأجرى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى ، وشفاعتهن ترجى ، مثلهن لا يُنسى ؛ قال : فسجد النبيّ حين قرأها ، وسجد معه المسلمون والمشركون ؛ فلما علم الذي أجرى على لسانه ، كبر ذلك عليه ، فأنزل الله( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )... إلى قوله : ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ).
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو الوليد ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية قال : قالت قريش : يا محمد إنما يجالسك الفقراء والمساكين وضعفاء الناس ، فلو ذكرت آلهتنا بخير لجالسناك فإن الناس يأتونك من الآفاق ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم; فلما انتهى على هذه الآية( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) فألقى الشيطان على لسانه : وهي الغرانقة العلى ، وشفاعتهن ترتجى ؛ فلما فرغ منها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم و والمسلمون والمشركون ، إلا أبا أحيحة سعيد بن العاص ، أخذ كفا من تراب وسجد عليه; وقال : قد أن لابن أبي كبشة أن يذكر آلهتنا بخير حتى بلغ الذين بالحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن قريشا قد أسلمت ، فاشتدّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ألقى الشيطان على لسانه ، فأنزل الله( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )... إلى آخر

(18/664)


الآية.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، قال : لما نزلت هذه الآية : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ) قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى. فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال المشركون : أنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير ، فسجد المشركون معه ، فأنزل الله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )... إلى قوله : ( عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ).
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنى عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جُبير قال : لما نزلت : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ) ثم ذكر نحوه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) إلى قوله : ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) وذلك أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يصلي ، إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب ، فجعل يتلوها; فسمعه المشركون فقالوا : إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير ، فدنوا منه ، فبينما هو يتلوها وهو يقول : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) ألقى الشيطان : إن تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى. فجعل يتلوها ، فنزل جبرائيل عليه السلام فنسخها ، ثم قال له : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) إلى قوله : ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ).
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي )... الآية; أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ، أنزل الله عليه في آلهة العرب ، فجعل يتلو اللات والعزّى ويكثر ترديدها. فسمع أهل مكة نبيّ الله يذكر آلهتهم ، ففرحوا بذلك ، ودنوا يستمعون ، فألقى الشيطان في تلاوة النبيّ صلى الله عليه وسلم : تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى ، فقرأها النبيّ

(18/666)


صلى الله عليه وسلم كذلك ، فأنزل الله عليه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَى وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ).
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أنه سئل عن قوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ )... الآية ، قال ابن شهاب : ثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ عليهم : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) ، فلما بلغ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) قال : إن شفاعتهن ترتجى. وسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض ، فسلموا عليه ، وفرحوا بذلك ، فقال لهم : إنما ذلك من الشيطان. فأنزل الله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ )... حتى بلغ : ( فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ).
فتأويل الكلام : ولم يرسل يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الأمم ، ولا نبيّ محدث ليس بمرسل ، إلا إذا تمنى.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله تمنى في هذا الموضع ، وقد ذكرت قول جماعة ممن قال : ذلك التمني من النبيّ صلى الله عليه وسلم ما حدثته نفسه من محبته ، مقاربة قومه في ذكر آلهتهم ببعض ما يحبون ، ومن قال ذلك محبة منه في بعض الأحوال أن لا تذكر بسوء.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا قرأ وتلا أو حدّث.
*ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) يقول : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( إِذَا تَمَنَّى ) قال : إذا قال.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.

(18/667)


لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( إِلا إِذَا تَمَنَّى ) يعني بالتمني : التلاوة والقراءة.
وهذا القول أشبه بتأويل الكلام ، بدلالة قوله : ( فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ) على ذلك; لأن الآيات التي أخبر الله جلّ ثناؤه أنه يحكمها ، لا شك أنها آيات تنزيله ، فمعلوم أن الذي ألقى فيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالى ذكره أنه نسخ ذلك منه وأبطله ، ثم أحكمه بنسخه ذلك منه.
فتأويل الكلام إذن : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا تلا كتاب الله ، وقرأ ، أو حدّث وتكلم ، ألقى الشيطان في كتاب الله الذي تلاه وقرأه ، أو في حديثه الذي حدث وتكلم( فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) يقول تعالى : فيذهب الله ما يلقي الشيطان من ذلك على لسان نبيه ويبطله.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ( فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) فيبطل الله ما ألقى الشيطان.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحكم الله آياته.
وقوله : ( ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ) يقول :
ثم يخلص الله آيات كتابه من الباطل الذي ألقى الشيطان على لسان نبيه( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) بما يحدث في خلقه من حدث ، لا يخفى عليه منه شيء(حَكِيمٌ) في تدبيره إياهم وصرفه لهم فيما شاء وأحَبّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) }
يقول تعالى ذكره : فينسخ الله ما يلقي الشيطان ، ثُم يُحكم الله آياته ، كي يجعل ما يلقي الشيطان في أمنية نبيه من الباطل ، كقول النبيّ صلى الله عليه

(18/668)


وسلم : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى فتنة يقول : اختبارا يختبر به الذين في قلوبهم مرض من النفاق ، وذلك الشكّ في صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقيقة ما يخبرهم به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتمنى أن لا يعيب الله آلهة المشركين ، فألقى الشيطان في أمنيته ، فقال : إن الآلهة التي تدعي أن شفاعتها لترتجى وإنها للغرانيق العلى. فنسخ الله ذلك ، وأحكم الله آياته : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى )حتى بلغ( مِنْ سُلْطَانٍ ) قال قتادة : لما ألقى الشيطان ما ألقى ، قال المشركون : قد ذكر الله آلهتهم بخير ، ففرحوا بذلك ، فذكر قوله : ( لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، بنحوه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : ( لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) يقول : وللذين قست (1) قلوبهم عن الإيمان بالله ، فلا تلين ولا ترعوي ، وهم المشركون بالله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ) قال : المشركون.
وقوله : ( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) يقول تعالى ذكره : وإن مشركي قومك يا محمد لفي خلاف الله في أمره ، بعيد من الحق.
__________
(1) قوله : " وللذين قست " : عطف على مفهوم من السياق ، أي للذين في قلوبهم مرض ، والذين قست قلوبهم .

(18/669)


وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) }
يقول تعالى ذكره : وكي يعلم أهل العلم بالله أن الذي أنزله الله من آياته التي أحكمها لرسوله ، ونسخ ما ألقى الشيطان فيه ، أنه الحق من عند ربك يا محمد. يقول : فيصدّقوا به.يقول : فتخضع للقرآن قلوبهم ، وتذعن بالتصديق به والإقرار بما فيه.
وإن الله لمرشد الذين آمنوا بالله ورسوله إلى الحقّ القاصد والحقِّ الواضح ، بنسخ ما ألقى الشيطان في أمنية رسوله ، فلا يضرّهم كيد الشيطان ، وإلقاؤه الباطل على لسان نبيهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : - حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) قال : يعني القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) }
يقول تعالى ذكره : ولا يزال الذين كفرا بالله في شكّ.
ثم اختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله : منه من ذكر ما هي ؟ فقال بعضهم : هي من ذكر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير : ( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ منه)

(18/670)


من قوله : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن ترتجى.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ) قال : مما جاء به إبليس لا يخرج من قلوبهم زادهم ضلالة.
وقال آخرون : بل هي من ذكر سجود النبيّ صلى الله عليه وسلم في النجم.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير : ( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ) قال : في مرية من سجودك.
وقال آخرون : بل هي من ذكر القرآن.
*ذكر من قال ذلك : - حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : ( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ) قال : من القرآن.
وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : هي كناية من ذكر القرآن الذي أحكم الله آياته وذلك أن ذلك من ذكر قوله : ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) أقرب منه من ذكر قوله : ( فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) والهاء من قوله " أنه " من ذكر القرآن ، فإلحاق الهاء في قوله : ( ففِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ) بالهاء من قوله : ( أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) أولى من إلحاقها بما التي في قوله( مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) مع بُعد ما بينهما.
وقوله : ( حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ ) يقول : لا يزال هؤلاء الكفار في شك من أمر هذا القرآن إلى أن تأتيهم الساعة(بَغْتَةً) وهي ساعة حشر الناس لموقف الحساب بغتة ، يقول : فجأة.
واختلف أهل التأويل في هذا اليوم أيّ يوم هو ؟ فقال بعضهم : هو يوم القيامة.
*ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : ثنا شيخ من أهل خراسان من الأزد يكنى أبا ساسان ، قال : سألت الضحاك ، عن قوله : ( عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ) قال : عذاب يوم لا ليلة بعده.

(18/671)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة. أن يوم القيامة لا ليلة له.
وقال آخرون : بل عني به يوم بدر. وقالوا : إنما قيل له يوم عقيم ، أنهم لم ينظروا إلى الليل ، فكان لهم عقيما.
*ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : ( عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ) يوم بدر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : ( أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ) قال ابن جريج : يوم ليس فيه ليلة ، لم يناظروا إلى الليل. قال مجاهد : عذاب يوم عظيم.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، قال : قال مجاهد : يوم بدر.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو إدريس ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن رجل ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : ( عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ) قال : يوم بدر.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله : ( عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ) قال : هو يوم بدر. ذكره عن أبي بن كعب.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ) قال : هو يوم بدر. عن أبيّ بن كعب.
وهذا القول الثاني أولى بتأويل الآية ، لأنه لا وجه لأن يقال : لا يزالون في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة ، أو تأتيهم الساعة; وذلك أن الساعة هي يوم القيامة ، فإن كان اليوم العقيم أيضا هو يوم القيامة فإنما معناه ما قلنا من تكرير ذكر الساعة مرّتين باختلاف الألفاظ ، وذلك ما لا معنى له. فإذ كان ذلك كذلك ، فأولى التأويلين به أصحهما معنى وأشبههما بالمعروف في الخطاب ، وهو ما ذكرنا. في معناه.
فتأويل الكلام إذن : ولا يزال الذين كفروا في مرية منه ، حتى تأتيهم الساعة بغتة فيصيروا إلى العذاب العقيم ، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم له ، فلا

(18/672)


ينظرون فيه إلى الليل ولا يؤخروا فيه إلى المساء ، لكنهم يقتلون قبل المساء.

(18/673)


الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)

القول في تأويل قوله تعالى : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) }
يقول تعالى ذكره : السلطان والمُلك إذا جاءت الساعة لله وحده لا شريك له ولا ينازعه يومئذ منازع ، وقد كان في الدنيا ملوك يُدعون بهذا الاسم ولا أحد يومئذ يدعي ملكا سواه( يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ) يقول : يفصل بين خلقه المشركين به والمؤمنين ؛ فالذين آمنوا بهذا القرآن ، وبمن أنزله ، ومن جاء به ، وعملوا بما فيه من حلاله وحرامه وحدوده وفرائضه في جنات النعيم يومئذ ، والذين كفروا بالله ورسوله ، وكذبوا بآيات كتابه وتنزيله ، وقالوا : ليس ذلك من عند الله ، إنما هو إفك افتراه محمد وأعانه عليه قوم آخرون ، ( فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) يقول : فالذين هذه صفتهم لهم عند الله يوم القيامة عذاب مهين ، يعني عذاب مذلّ في جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) }
يقول تعالى ذكره : والذين فارقوا أوطانهم وعشائرهم فتركوا ذلك في رضا الله وطاعته وجهاد أعدائه ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك ، ليرزقنهم الله يوم القيامة في جناته رزقا حسنا. يعني بالحسن : الكريم وإنما يعني بالرزق الحسن : الثواب الجزيل( وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) يقول : وإن الله لهو خير من بسط فضله على أهل طاعته وأكرمهم. وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في حكم من مات في سبيل الله ، فقال

(18/673)


لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)

بعضهم : سواء المقتول منهم والميت.
وقال آخرون : المقتول أفضل. فأنزل الله هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم ، يعلمهم استواء أمر الميت في سبيله والمقتول فيها في الثواب عنده.
وقد : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن شريح ، عن سلامان بن عامر قال : كان فضالة برودس أميرا على الأرباع ، فخرج بجنازتي رجلين ، أحدهما قتيل والآخر متوفى; فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته ، فقال : أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل وتفضلونه على أخيه المتوفى ؟ فقالوا : هذا القتيل في سبيل الله. فقال فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بُعثت! اقرءوا قول الله تعالى : ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا )... إلى قوله : ( وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) }
يقول تعالى ذكره : ليدخلنّ الله المقتول في سبيله من المهاجرين والميت منهم( مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ ) وذلك المُدخل هو الجنة(وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ ) بمن يهاجر في سبيله ممن يخرج من داره طلب الغنيمة أو عرض من عروض الدنيا.
(حَلِيمٌ) عن عصاة خلقه ، بتركه معاجلتهم بالعقوبة والعذاب.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) }
يعني تعالى ذكره بقوله : (ذلكَ) لهذا لهؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله ، ثم قُتلوا أو ماتوا ، ولهم مع ذلك أيضا أن الله يعدهم النصر على المشركين الذين بغوا عليهم فأخرجوهم من ديارهم.
كما : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ) قال : هم المشركون بغَوْا على النبي صلى

(18/674)


ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)

الله عليه وسلم ، فوعده الله أن ينصره ، وقال في القصاص أيضا. وكان بعضهم يزعم أن هذه الآية نزلت في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم ، وكان المسلمون يكرهون القتال يومئذ في الأشهر الحرم ، فسأل المسلمون المشركين أن يكفوا عن قتالهم من أجل حرمة الشهر ، فأبى المشركون ذلك ، وقاتلوهم فبغَوْا عليهم ، وثبت المسلمون لهم فنُصروا عليهم ، فأنزل الله هذه الآية : ( ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ ) بأن بدئ بالقتال وهو له كاره ، ( لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ).
وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) يقول تعالى ذكره : إن الله لذو عفو وصفح لمن انتصر ممن ظلمه من بعد ما ظلمه الظالم بحقّ ، غفور لما فعل ببادئه بالظلم مثل الذي فعل به غير معاقبه عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) }
يعني تعالى ذكره بقوله : (ذلكَ) هذا النصر الذي أنصره على من بغى عليه على الباغي ، لأني القادر على ما أشاء. فمن قُدرته أن الله يولج الليل في النهار يقول : يدخل ما ينقص من ساعات الليل في ساعات النهار ، فما نقص من هذا زاد في هذا.( وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) ويدخل ما انتقص من ساعات النهار في ساعات الليل ، فما نقص من طول هذا زاد في طول هذا ، وبالقُدرة التي تفعل ذلك ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الذين بغوا عليهم فأخرجوهم من ديارهم وأموالهم( وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) يقول : وفعل ذلك أيضا بأنه ذو سمع لما يقولون من قول; لا يخفى عليه منه شيء ، بصير بما يعملون ، لا يغيب عنه منه شيء ، كل ذلك معه بمرأى ومسمع ، وهو الحافظ لكل ذلك ، حتى يجازى جميعهم على ما قالوا وعملوا من قول وعمل جزاءه.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) }

(18/675)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)

يعني تعالى ذكره بقوله(ذلكَ) هذا الفعل الذي فعلت من إيلاجي الليل في النهار ، وإيلاجي النهار في الليل ، لأني أنا الحقّ الذي لا مثل لي ولا شريك ولا ندّ ، وأن الذي يدعوه هؤلاء المشركون إلها من دونه هو الباطل الذي لا يقدر على صنعة شيء ، بل هو المصنوع ، يقول لهم تعالى ذكره : أفتتركون أيها الجهال عبادة من منه النفع وبيده الضر وهو القادر على كل شيء وكلّ شيء دونه ، وتعبدون الباطل الذي لا تنفعكم عبادته. وقوله : ( وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) يعني بقوله : (العَلِي) ذو العلو على كل شيء ، هو فوق كل شيء وكل شيء دونه.(الكَبِيرُ) يعني العظيم ، الذي كل شيء دونه ولا شيء أعظم منه.
وكان ابن جُرَيج يقول في قوله : ( وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ) ما : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، في قوله : ( وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ) قال : الشيطان.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) فقرأته عامة قرّاء العراق والحجاز : " تَدْعُون " بالتاء على وجه الخطاب; وقرأته عامة قرّاء العراق غير عاصم بالياء على وجه الخبر ، والياء أعجب القراءتين إليّ ، لأن ابتداء الخبر على وجه الخطاب.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) }
يقول تعالى ذكره : ( أَلَمْ تَرَ ) يا محمد( أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) يعني مطرا( فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً ) بما ينبت فيها من النبات( إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ ) باستخراج النبات من الأرض بذلك الماء وغير ذلك من ابتداع ما شاء أن يبتدعه(خَبِيرٌ) بما يحدث عن ذلك النبت من الحبّ ، وبه قال : ( فَتُصْبِحُ الأرْضُ ) فرفع ، وقد تقدمه قوله : ( أَلَمْ تَرَ ) وإنما قيل ذلك كذلك لأن معنى الكلام الخبر ، كأنه قيل : اعلم يا محمد أن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض;

(18/676)


لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)

ونظير ذلك قول الشاعر :
أَلَمْ تَسْأَلِ الرّبْعَ القَدِيمَ فيَنْطِقُ... وهلْ تُخْبِرَنْكَ اليوْمَ بَيْداءُ سَمْلَقُ (1)
لأن معناه : قد سألته فنطق.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) }
يقول تعالى ذكره : له مُلك ما في السموات وما في الأرض من شيء هم عبيده ومماليكه وخلقه ، لا شريك له في ذلك ، ولا في شيء منه ، وإن الله هو الغنيّ عن كل ما في السموات وما في الأرض من خلقه وهم المحتاجون إليه ، الحميد عند عباده في إفضاله عليهم وأياديه عندهم.
__________
(1) البيت مطلع قصيدة لجميل بن معمر العذري ( خزانة الأدب الكبرى للبغدادي 3 : 602 ) وهو شاهد عند النحاة ، على أن ما بعد الفاء قد يبقى على رفعه قليلا ، وهو مستأنف . قال : وأنشد سيبويه هذا البيت وقال : لم يجعل الأول سبب الآخر ، ولكنه جعله ينطلق على كل حال ، كأنه قال : وهو مما ينطق . وقال أبو جعفر النحاس : عن أبي إسحاق ، قال : إنه تقرير ، معناه إنك سألته ، فيقبح النصب . قلت : أي لأن الاستفهام قبله ليس محضا ، وإنما هو للتقرير ، فيشبه الخبر ، وهو نحو ما قال المؤلف : معناه : قد سألته فنطق . ورواية البيت في الخزانة : " القواء " في موضع القديم ، وهو الذي خلا ممن يسكنه . ورفع الفعل ينطق نظير الفعل تصبح في قوله تعالى : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ) .

(18/677)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) }
يقول تعالى ذكره : ألم تر أن الله سخر لكم أيها الناس ما في الأرض من الدّوابّ والبهائم ، فذلك كله لكم تصرفونه فيما أردتم من حوائجكم( وَالْفُلْكَ

(18/677)


وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)

تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) يقول : وسخر لكم السفن تجري في البحر بأمره ، يعني بقُدرته ، وتذليله إياها لكم كذلك.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( وَالْفُلْكَ تَجْرِي ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار : (والفُلْكَ) نصبا ، بمعنى سخر لكم ما في الأرض ، والفلك عطفا على " ما " ، وعلى تكرير " أن " وأن الفلك تجري. ورُوي عن الأعرج أنه قرا ذلك رفعا على الابتداء والنصب هو القراءة عندنا في ذلك لإجماع الحجة من القرّاء عليه( وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ ) يقول : ويمسك السماء بقدرته كي لا تقع على الأرض إلا بإذنه. ومعنى قوله : ( أَنْ تَقَعَ ) أن لا تقع.
( إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) بمعنى : أنه بهم لذو رأفة ورحمة ، فمن رأفته بهم ورحمته لهم أمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، وسخر لكم ما وصف في هذه الآية تفضلا منه عليكم بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) }
يقول تعالى ذكره : والله الذي أنعم عليكم هذه النعم ، هو الذي جعل لكم أجساما أحياء بحياة أحدثها فيكم ، ولم تكونوا شيئا ، ثم هو يميتكم من بعد حياتكم فيفنيكم عند مجيء آجالكم ، ثم يحييكم بعد مماتكم عند بعثكم لقيام الساعة( إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ ) يقول : إن ابن آدم لجحود لنعم الله التي أنعم بها عليه من حُسن خلقه إياه ، وتسخيره له ما سخر مما في الأرض والبرّ والبحر ، وتركه إهلاكه بإمساكه السماء أن تقع على الأرض بعبادته غيره من الآلهة والأنداد ، وتركه إفراده بالعبادة وإخلاص التوحيد له.
وقوله : ( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا ) يقول : لكل جماعة قوم هي خلت من

(18/678)


قبلك ، جعلنا مألفا يألفونه ومكانا يعتادونه لعبادتي فيه ، وقضاء فرائضي ، وعملا يلزمونه. وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شرّ; يقال : إن لفلان منسكا يعتاده : يراد مكانا يغشاه ويألفه لخير أو شر . وإنما سميت مناسك الحجّ بذلك ، لتردّد الناس إلى الأماكن التي تعمل فيها أعمال الحجّ والعُمرة. وفيه لغتان : " مَنْسِك " بكسر السين وفتح الميم ، وذلك من لغة أهل الحجاز ، و " مَنْسَك " بفتح الميم والسين جميعا ، وذلك من لغة أسد. وقد قرئ باللغتين جميعا.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : ( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا ) أيّ المناسك عنى به ؟ فقال بعضهم : عنى به : عيدهم الذي يعتادونه.
*ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ) يقول : عيدا.
وقال آخرون : عنى به : ذبح يذبحونه ، ودم يهريقونه.
*ذكر من قال ذلك : حدثني أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، قال : ثنا ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله : ( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ) قال : إراقة الدم بمكة.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( هُمْ نَاسِكُوهُ ) قال : إهراق دماء الهدي.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : (مَنْسَكا) قال : ذبحا وحجا.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : عني بذلك إراقة الدم أيام النحر بمِنى ، لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إراقة الدم في هذه الأيام ، على أنهم قد كانوا جادلوه في إراقة الدماء التي هي دماء ذبائح الأنعام بما قد أخبر الله عنهم في سورة الأنعام. غير أن تلك لم تكن مناسك ، فأما التي هي مناسك فإنما هي هدايا أو ضحايا. ولذلك

(18/679)


وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)

قلنا : عنى بالمنسك في هذا الموضع الذبح الذي هو بالصفة التي وصفنا.
وقوله : ( فلا ينازعنك في الأمر) يقول تعالى ذكره : فلا ينازعنك هؤلاء المشركون بالله يا محمد في ذبحك ومنسكك بقولهم : أتقولون ما قتلتم ، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله ؟ فأنك أولى بالحقّ منهم ، لأنك محقّ وهم مبطلون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيح ، عن مجاهد : ( فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ ) قال : الذبح.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ ) فلا تتحام لحمك.
وقوله : ( وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ) يقول تعالى ذكره : وادع يا محمد منازعيك من المشركين بالله في نسكك وذبحك إلى اتباع أمر ربك في ذلك بأن لا يأكلوا إلا ما ذبحوه بعد اتباعك وبعد التصديق بما جئْتهم به من عند الله ، وتجنبوا الذبح للآلهة والأوثان وتبرّءوا منها ، إنك لعلى طريق مستقيم غير زائل عن محجة الحقّ والصواب في نسكك الذي جعله لك ولأمتك ربك ، وهم الضلال على قصد السبيل ، لمخالفتهم أمر الله في ذبائحهم وعبادتهم الآلهة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإن جادلك يا محمد هؤلاء المشركون بالله في نسكك ، فقل : الله أعلم بما تعملون ونعمل.
كما : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( وَإِنْ جَادَلُوكَ ) قال : قول أهل الشرك : أما ما ذبح الله بيمينه( فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ) لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ،

(18/680)


أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)

وقوله : ( اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) يقول تعالى ذكره : والله يقضي بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه من أمر دينكم تختلفون ، فتعلمون حينئذ أيها المشركون المحقّ من المبطل.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) }
يقول تعالى ذكره : ألم تعلم يا محمد أن الله يعلم كلّ ما في السموات السبع والأرضين السبع ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، وهو حاكم بين خلقه يوم القيامة ، على علم منه بجميع ما عملوه في الدنيا ، فمجازي المحسن منهم بإحسانه والمسيء بإساءته( إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ ) يقول تعالى ذكره : إن علمه بذلك في كتاب ، وهو أم الكتاب الذي كتب فيه ربنا جلّ ثناؤه قبل أن يخلق خلقه ما هو كائن إلى يوم القيامة( إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ).
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ميسر بن إسماعيل الحلبي ، عن الأوزاعي ، عن عبدة بن أبي لبابة ، قال : علم الله ما هو خالق وما الخلق عاملون ، ثم كتبه ، ثم قال لنبيه : ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني ميسر ، عن أرطأة بن المنذر ، قال : سمعت ضمرة بن حبيب يقول : إن الله كان على عرشه على الماء ، وخلق السموات والأرض بالحقّ ، وخلق القلم فكتب به ما هو كائن من خلقه ، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومجده ألف عام ، قبل أن يبدأ شيئا من الخلق.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن سيار ، عن ابن عباس ، أنه سأل كعب الأحبار عن أمّ الكتاب ، فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون ، فقال لعلمه : كن كتابا.
وكان ابن جُرَيج يقول في قوله : ( إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ ) قال : قوله : ( اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ).

(18/681)


وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)

وإنما اخترنا القول الذي قلنا في ذلك ، لأن قوله : (إنَّ ذلك) إلى قوله : ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) أقرب منه إلى قوله : ( اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) فكان إلحاق ذلك بما هو أقرب إليه أولى منه بما بعد.
وقوله : ( إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) اختلف في ذلك ، فقال بعضهم : معناه : إن الحكم بين المختلفين في الدنيا يوم القيامة على الله يسير.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : ( إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) قال : حكمه يوم القيامة ، ثم قال بين ذلك : ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ ).
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن كتاب القلم الذي أمره الله أن يكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن على الله يسير يعني هين. وهذا القول الثاني أولى بتأويل ذلك ، وذلك أن قوله : ( إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )... إلى قوله : ( إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ ) أقرب وهو له مجاور ، ومن قوله : ( اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) متباعد مع دخول قوله : ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) بينهما ، فإلحاقه بما هو أقرب أولى ما وجد للكلام ، وهو كذلك مخرج في التأويل صحيح.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) }
يقول تعالى ذكره : ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه ما لم ينزل به جلّ ثناؤه لهم حجة من السماء في كتاب من كتبه التي أنزلها إلى رسله ، بأنها آلهة تصلح عبادتها ، فيعبدوها بأن الله أذن لهم في عبادتها ، وما ليس لهم به علم أنها آلهة

(18/682)


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)

( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ) يقول : وما للكافرين بالله الذين يعبدون هذه الأوثان من ناصر ينصرهم يوم القيامة ، فينقذهم من عذاب الله ويدفع عنهم عقابه إذا أراد عقابهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) }
يقول تعالى ذكره : وإذا تُتلى على مشركي قريش العابدين من دون الله ما لم ينزل به سلطانا(آياتُنا) يعني : آيات القرآن(بَيِّناتٍ) يقول : واضحات حججها وأدلتها فيما أنزلت فيه( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ ) يقول : تتبين في وجوههم ما ينكره أهل الإيمان بالله من تغيرها ، لسماعهم بالقرآن.
وقوله : ( يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ) يقول : يكادون يبطشون بالذين يتلون عليهم آيات كتاب الله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، لشدّة تكرّههم أن يسمعوا القرآن ويتلى عليهم.
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله(يَسْطُونَ) قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( يَكَادُونَ يَسْطُونَ ) يقول : يبطشون.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( يَكَادُونَ يَسْطُونَ ) يقول : يقعون بمن ذكرهم.
حدثنا محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : ( يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا )

(18/683)


قال : يكادون يقعون بهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( يَكَادُونَ يَسْطُونَ ) قال : يبطشون كفار قريش.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ) يقول : يكادون يأخذونهم بأيديهم أخذا. وقوله : ( قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ ) يقول : أفأنبئكم أيها المشركون بأكره إليكم من هؤلاء الذين تتكرّهون قراءتهم القرآن عليكم ، هي(النَّارُ) وعدها الله الذين كفروا. وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يقول : إن المشركين قالوا : والله إن محمدا وأصحابه لشرّ خلق الله! فقال الله لهم : قل أفأنبئكم أيها القائلون هذا القول بشر من محمد صلى الله عليه وسلم ، أنتم أيها المشركون الذين وعدهم الله النار. ورفعت النار على الابتداء ، ولأنها معرفة لا تصلح أن ينعت بها الشر وهو نكرة ، كما يقال : مررت برجلين : أخوك وأبوك ، ولو كانت مخفوضة كان جائزا; وكذلك لو كان نصبا للعائد من ذكرها في وعدها وأنت تنوي بها الاتصال بما قبلها ، يقول تعالى ذكره : فهؤلاء هم أشرار الخلق لا محمد وأصحابه.
وقوله : ( وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) يقول : وبئس المكان الذي يصير إليه هؤلاء المشركون بالله يوم القيامة.

(18/684)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ

(18/684)


الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) }
يقول تعالى ذكره : يا أيها الناس جعل لله مثل وذكر. ومعنى ضرب في هذا الموضع : جعل من قولهم : ضرب السلطان على الناس البعث ، بمعنى : جعل عليهم. وضرب الجزية على النصارى ، بمعنى جعل ذلك عليهم; والمَثَل : الشَّبَه ، يقول جلّ ثناؤه : جعل لي شبه أيها الناس ، يعني بالشَّبَه والمَثَل : الآلهة ، يقول : جعل لي المشركون والأصنام شبها ، فعبدوها معي ، وأشركوها في عبادتي. فاستمعوا له : يقول : فاستمعوا حال ما مثلوه وجعلوه لي في عبادتهم إياه شبها وصفته( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا ) يقول : إن جميع ما تعبدون من دون الله من الآلهة والأصنام لو جمعت لم يخلقوا ذبابا في صغره وقلته ، لأنها لا تقدر على ذلك ولا تطيقه ، ولو اجتمع لخلقه جميعها.والذباب واحد ، وجمعه في القلة أذبة وفي الكثير ذِبَّان غُراب ، يجمع في القلة أَغْربة ، وفي الكثرة غِرْبان.
وقوله : ( وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا ) يقول : وإن يسلب الآلهة والأوثان الذبابُ شيئا مما عليها من طيب وما أشبهه من شيء لا يستنقذوه منه : يقول : لا تقدر الآلهة أن تستنقذ ذلك منه.
واختلف في معنى قوله : ( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) فقال بعضهم : عني بالطالب : الآلهة ، وبالمطلوب : الذباب.
*ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال ابن عباس ، في قوله : ( ضَعُفَ الطَّالِبُ ) قال : آلهتهم(والمَطْلُوبُ) : الذباب.
وكان بعضهم يقول : معنى ذلك : ( ضَعُفَ الطَّالِبُ ) من بني آدم إلى الصنم حاجته ، (والمَطْلُوبُ) إليه الصنم أن يعطي سائله من بني آدم ما سأله ، يقول : ضعف عن ذلك وعجز.
والصواب من القول في ذلك عندنا ما ذكرته عن ابن عباس من أن معناه :

(18/685)


وعجز الطالب وهو الآلهة أن تستنقذ من الذباب ما سلبها إياه ، وهو الطيب وما أشبهه; والمطلوب : الذباب.
وإنما قلت هذا القول أولى بتأويل ذلك ، لأن ذلك في سياق الخبر عن الآلهة والذباب ، فأن يكون ذلك خبرا عما هو به متصل أشبه من أن يكون خبرا ، عما هو عنه منقطع ، وإنما أخبر جلّ ثناؤه عن الآلهة بما أخبر به عنها في هذه الآية من ضعفها ومهانتها ، تقريعا منه بذلك عَبَدتها من مشركي قريش ، يقول تعالى ذكره : كيف يجعل مثل في العبادة ويشرك فيها معي ما لا قدرة له على خلق ذباب ، وإن أخذ له الذباب فسلبه شيئا عليه لم يقدر أن يمتنع منه ولا ينتصر ، وأنا الخالق ما في السماوات والأرض ومالكٌ جميع ذلك والمحيي من أردت ، والمميت ما أردت ومن أردت ، إن فاعل ذلك لا شك أنه في غاية الجهل.
وقوله( مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) يقول : ما عظم هؤلاء الذين جعلوا الآلهة لله شريكا في العبادة حق عظمته حين أشركوا به غيره ، فلم يخلصوا له العبادة ولا عرفوه حق معرفته من قولهم : ما عرفت لفلان قدره إذا خاطبوا بذلك من قَصَّر بحقه ، وهم يريدون تعظيمه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا )... إلى آخر الآية ، قال : هذا مثل ضربه الله لآلهتهم ، وقرأ( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) حين يعبدون مع الله ما لا ينتصف من الذباب ولا يمتنع منه.
وقوله( إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ ) يقول : إن الله لقويّ على خلق ما يشاء من صغير ما يشاء من خلقه وكبيره عزيز : يقول : منيع في مُلكه لا يقدر شيء دونه أن يسلبه من مُلكه شيئا ، وليس كآلهتكم أيها المشركون الذين تدعون من دونه الذين لا يقدرون على خلق ذباب ، ولا على الامتناع من الذباب ، إذا استلبها شيئا ضعفا ومهانة.

(18/686)


اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)

القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) }
يقول تعالى ذكره : الله يختار من الملائكة رسلا كجبرئيل وميكائيل اللذين كانا يرسلهما إلى أنبيائه ، ومن شاء من عباده ومن الناس ، كأنبيائه الذين أرسلهم إلى عباده من بني آدم. ومعنى الكلام : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس أيضا رسلا وقد قيل : إنما أنزلت هذه الآية لما قال المشركون : أنزل عليه الذكر من بيننا ، فقال الله لهم : ذلك إلي وبيدي دون خلقي ، أختار من شئت منهم للرسالة.
وقوله( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) يقول : إن الله سميع لما يقول المشركون في محمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من عند ربه ، بصير بمن يختاره لرسالته من خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76) }
يقول تعالى ذكره : الله يعلم ما كان بين أيدي ملائكته ورسله ، من قبل أن يخلقهم وما خلفهم ، يقول : ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم( وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ )
يقول : إلى الله في الآخرة تصير إليه أمور الدنيا ، وإليه تعود كما كان منه البدء.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) }
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله(ارْكَعُوا) لله في

(18/687)


وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)

صلاتكم(واسْجُدُوا) له فيها( وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ) يقول : وذلوا لربكم ، واخضعوا له بالطاعة ، الذي أمركم ربكم بفعله( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) يقول : لتفلحوا بذلك ، فتدركوا به طَلباتكم عند ربكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) فقال بعضهم : معناه. وجاهدوا المشركين في سبيل الله حق جهاده.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد ، عن عبد الله بن عباس ، في قوله( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) كما جاهدتم أوّل مرّة ، فقال عمر من أمر بالجهاد ، قال : قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس ، فقال عمر ، صدقت.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تخافوا في الله لومة لائم ، قالوا : وذلك هو حقّ الجهاد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) لا تخافوا في الله لومة لائم.
وقال آخرون : معنى ذلك : اعملوا بالحقّ ، حقّ عمله ، وهذا قول ذكره عن الضحاك بعض من في روايته نظر.
والصواب من القول في ذلك ، قول من قال : عُني به الجهاد في سبيل الله ، لأن المعروف من الجهاد ذلك ، وهو الأغلب على قول القائل : جاهدت

(18/688)


في الله ، وحقّ الجهاد : هو استفراغ الطاقة فيه. قوله(هُوَ اجْتَباكُمْ) يقول : هو اختاركم لدينه ، واصطفاكم لحرب أعدائه والجهاد في سبيله.
وقال ابن زيد في ذلك ، ما حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله(هُوَ اجْتَباكُمْ) قال : هو هداكم.
وقوله( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) يقول تعالى ذكره : وما جعل عليكم ربكم في الدين الذي تعبَّدكم به من ضيق ، لا مخرج لكم مما ابتليتم به فيه ، بل وسَّع عليكم ، فجعل التوبة من بعض مخرجا ، والكفَّارة من بعض ، والقصاص من بعض ، فلا ذنب يذنب المؤمن إلا وله منه في دين الإسلام مخرج.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن زيد ، عن ابن شهاب ، قال : سأل عبد الملك بن مروان عليّ بن عبد الله بن عباس عن هذه الآية( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) فقال عليّ بن عبد الله : الحرج : الضيق ، فجعل الله الكفارات مخرجا من ذلك ، سمعت ابن عباس يقول ذلك.
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني سفيان بن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس يسأل عن( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) قال : ما هاهنا من هذيل أحد فقال رجل : نعم قال : ما تعدّون الحرجة فيكم ؟ قال : الشيء الضيق ، قال ابن عباس ، فهو كذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس ، وذكر نحوه ، إلا أنه قال : فقال ابن عباس : أهاهنا أحد من هذيل فقال رجل : أنا ، فقال أيضا : ما تعدّون الحرج ، وسائر الحديث مثله.
حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، قال : ثنا يحيى بن صالح ، قال : ثنا يحيى بن حمزة ، عن الحكم بن عبد الله ، قال : سمعت القاسم بن محمد يحدّث ، عن عائشة ، قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية( وَمَا

(18/689)


جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) قال هُوَ الضيق.
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا أبو خلدة ، قال : قال لي أبو العالية : أتدري ما الحرج ؟ قلت : لا أدري ، قال : الضيق ، وقرأ هذه الآية( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ).
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا حماد بن سعدة ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) قال : من ضيق.
حدثنا عمرو بن بندق ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن أبي خلدة ، قال : قال لي أبو العالية : هل تدري ما الحرج ؟ قلت : لا قال : الضيق ، إن الله لم يضيق عليكم ، لم يجعل عليكم في الدين من حرج.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن القاسم أنه تلا هذه الآية( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) قال : تدرون ما الحرج ؟ قال : الضيق.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر ، فإن الشعر عربيّ ، ثم دعا ابن عباس أعرابيا ، فقال : ما الحَرَج ؟ قال : الضيق. قال : صدقت.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) قال : من ضيق.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله.
وقال آخرون : معنى ذلك( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) من ضيق في أوقات فروضكم إذا التبست عليكم ، ولكنه قد وسع عليكم حتى تَيَقَّنوا محلها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عثمان بن بشار ، عن ابن عباس ، في قوله( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) قال : هذا في هلال شهر رمضان إذا شكّ فيه الناس ، وفي الحجّ إذا

(18/690)


شكوا في الهلال ، وفي الفطر والأضحى إذا التبس عليهم وأشباهه.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما جعل في الإسلام من ضيق ، بل وسعه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) يقول : ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق ، هو واسع ، وهو مثل قوله في الأنعام(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ) يقول : من أراد أن يضله يضيق عليه صدره حتى يجعل عليه الإسلام ضيقا ، والإسلام واسع.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) يقول : من ضيق ، يقول : جعل الدين واسعا ولم يجعله ضيقا. وقوله( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) نصب ملة بمعنى : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، بل وسعه ، كملَّة أبيكم ، فلما لم يجعل فيها الكاف اتصلت بالفعل الذي قبلها فنصبت ، وقد يحتمل نصبها أن تكون على وجه الأمر بها ، لأن الكلام قبله أمر ، فكأنه قيل : اركعوا واسجدوا والزموا ملة أبيكم إبراهيم. وقوله(هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ) يقول تعالى ذكره : سماكم يا معشر من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم المسلمين من قبل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ) يقول الله سماكم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني عطاء بن ابن أبي رباح ، أنه سمع ابن عباس يقول : الله سماكم المسلمين من قبل.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، وحدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق جميعا ؛ عن معمر ، عن قَتادة( هُوَ

(18/691)


سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ) قال : الله سماكم المسلمين من قبل.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ) قال : الله سماكم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) يقول : الله سماكم المسلمين.
وقال آخرون : بل معنا : إبراهيم سماكم المسلمين; وقالوا هو كناية من ذكر إبراهيم صلى الله عليه وسلم :
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ) قال : ألا ترى قول إبراهيم( وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ) قال : هذا قول إبراهيم( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ) ولم يذكر الله بالإسلام والإيمان غير هذه الأمة ، ذُكرت بالإيمان والإسلام جميعا ، ولم نسمع بأمة ذكرت إلا بالإيمان ، ولا وجه لما قال ابن زيد من ذلك ، لأنه معلوم أن إبراهيم لم يسمّ أمة محمد مسلمين في القرآن ، لأن القرآن أنزل من بعده بدهر طويل ، وقد قال الله تعالى ذكره( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ) ولكن الذي سمانا مسلمين من قبل نزول القرآن ، وفي القرآن ، الله الذي لم يزل ولا يزال. وأما قوله(مِنْ قَبْلُ) فإن معناه : من قبل نزول هذا القرآن في الكتب التي نزلت قبله ، وفي هذا يقول : وفي هذا الكتاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال. ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) وفي هذا

(18/692)


القرآن.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قال مجاهد(مِنْ قَبْلُ) قال : في الكتب كلها والذكر(وفي هَذَا) يعني القرآن ، وقوله(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) يقول تعالى ذكره اجتباكم الله وسماكم أيها المؤمنون بالله وآياته من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مسلمين ، ليكون محمد رسول الله شهيدا عليكم يوم القيامة ، بأنه قد بلَّغكم ما أرسل به إليكم ، وتكونوا أنتم شهداء حينئذ على الرسل أجمعين ، أنهم قد بلَّغوا أممهم ما أرسلوا به إليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) قال : الله سماكم المسلمين من قبل( وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ ) بأنه بلَّغكم( وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) أن رسلهم قد بلغتهم. وبه عن قَتادة ، قال : أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبيّ ، كان يقال للنبي : اذهب فليس عليك حرج ، وقال الله( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) وكان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أنت شهيد على قومك ، وقال الله( لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) وكان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : سل تعطه ، وقال الله( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبيّ ، كان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : اذهب فليس عليك حرج ، فقال الله( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) قال : وكان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أنت شهيد على قومك ، وقال الله( لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) وكان يقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : سل تعطه ، وقال الله( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) }

(18/693)


يعني تعالى ذكره بقوله( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) يقول : فأدّوا الصلاة المفروضة لله عليكم بحدودها ، وآتوا الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم( وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ) يقول : وثقوا بالله ، وتوكلوا عليه في أموركم( فَنِعْمَ المَوْلَى ) يقول : نعم الوليّ الله لمن فعل ذلك منكم ، فأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وجاهد في سبيل الله حقّ جهاده ، واعتصم به( وَنِعْمَ النَّصِيرُ) يقول : ونعم الناصر هو له على من بغاه بسوء.

(18/694)


قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)

تفسير سورة المؤمنون
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) }
قال أبو جعفر : يعني جلّ ثناؤه بقوله : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) قد أدرك الذين صدّقوا الله ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وأقرّوا بما جاءهم به من عند الله ، وعملوا بما دعاهم إليه مما سمى في هذه الآيات ، الخلود في جنَّات ربهم وفازوا بطلبتهم لديه.
كما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) ثم قال : قال كعب : لم يخلق الله بيده إلا ثلاثة : خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس جنة عدن بيده ، ثم قال لها : تكلمي! فقالت : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) لما علمت فيها من الكرامة.
حدثنا سهل بن موسى الرازيّ ، قال : ثنا يحيى بن الضريس ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن مجاهد ، قال : لما غرس الله تبارك وتعالى الجنة ، نظر إليها فقال : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ).
قال : ثنا حفص بن عمر ، عن أبي خلدة ، عن أبي العالية ، قال : لما خلق الله الجنة قال : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) فأنزل به قرآنا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جبير ، عن عطاء ، عن ميسرة ، قال : " لم يخلق الله شيئا بيده غير أربعة أشياء : خلق آدم بيده ، وكتب الألواح بيده ، والتوراة بيده ، وغرس عدنًا بيده ، ثم قال : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) " .
وقوله : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) يقول تعالى ذكره : الذين هم في صَلاتهم إذا قاموا فيها خاشعون ، وخشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته ، وقيامهم فيها بما أمرهم بالقيام به فيها. وقيل إنها نزلت من أجل أن القوم كانوا يرفعون أبصارهم فيها إلى السماء قبل نزولها ، فنُهُوا بهذه الآية عن ذلك.

(19/694)


*ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت خالدًا ، عن محمد بن سيرين ، قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى نظر إلى السماء ، فأنزلت هذه الآية : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال : فجعل بعد ذلك وجهه حيث يسجد " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هارون بن المغيرة عن أبي جعفر ، عن الحجاج الصّواف ، عن ابن سيرين ، قال : " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء ، حتى نزلت : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) فقالوا : بعد ذلك برءوسهم هكذا " .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن محمد ، قال : " نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء ، فنزلت آية ، إن لم تكن( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) فلا أدري أية آية هي ، قال : فطأطأ. قال : وقال محمد : وكانوا يقولون : لا يجاوز بصره مصلاه ، فإن كان قد استعاد النظر فليغْمِض.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، عن ابن عون ، عن محمد نحوه.
واختلف أهل التأويل في الذي عنى به في هذا الموضع من الخشوع ، فقال بعضهم : عنى به سكون الأطراف في الصلاة.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال : السكون فيها.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال : سكون المرء في صلاته.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، مثله.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن أبي سفيان الشيباني ، عن رجل ، عن عليّ ، قال : سئل عن قوله : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال : لا تلتفت في صلاتك.
حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي ، قال : قال ضمرة بن ربيعة ، عن أبي شَوْذب ، عن الحسن ، في قوله : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال : كان خشوعهم في قلوبهم ،

(19/8)


فغضوا بذلك البصر وخفضوا به الجناح.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : ( خَاشِعُونَ ) قال : الخشوع في القلب ، وقال : ساكنون.
قال : ثنا الحسن ، قال : ثني خالد بن عبد الله ، عن المسعوديّ ، عن أبي سنان ، عن رجل من قومه ، عن عليّ رضي الله عنه قال : الخشوع في القلب ، وأن تُلِينَ للمرء المسلم كَنَفَك ، ولا تلتفت.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح ، في قوله : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال : التخشع في الصلاة. وقال لي غير عطاء : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة نظر عن يمينه ويساره ووُجاهه ، حتى نزلت : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) فما رُئي بعد ذلك ينظر إلا إلى الأرض.
وقال آخرون : عنى به الخوف في هذا الموضع.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال : خائفون.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، في قوله : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال الحسن : خائفون. وقال قتادة : الخشوع في القلب.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) يقول : خائفون ساكنون.
وقد بينا فيما مضى قبل من كتابنا أن الخشوع التذلل والخضوع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإذ كان ذلك كذلك ، ولم يكن الله تعالى ذكره دلّ على أن مراده من ذلك معنى دون معنى في عقل ولا خبر ، كان معلوما أن معنى مراده من ذلك العموم. وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام ما وصفت من قبل ، من أنه : والذين هم في صلاتهم متذللون لله بإدامة ما ألزمهم من فرضه وعبادته ، وإذا تذلل لله فيها العبد رُؤيت ذلة خضوعه في سكون أطرافه وشغله بفرضه وتركه ما أُمر بتركه فيها.
وقوله : ( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) يقول تعالى ذكره : والذين هم عن

(19/9)


وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)

الباطل وما يكرهه الله من خلقه معرضون.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) يقول : الباطل.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : ( عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) قال : عن المعاصي.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) قال : النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن معه من صحابته ، ممن آمن به واتبعه وصدقه كانوا " عن اللغو معرضون " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) }
يقول تعالى ذكره : والذين هم لزكاة أموالهم التي فرضها الله عليهم فيها مؤدّون ، وفعلهم الذي وصفوا به هو أداؤهموها. وقوله : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ ) يقول : والذين هم لفروج أنفسهم وعنى بالفروج في هذا الموضع : فروج الرجال ، وذلك أقبالهم.( حافظون ) يحفظونها من أعمالها في شيء من الفروج.( إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ ) يقول : إلا من أزواجهم اللاتي أحلهنّ الله للرجال بالنكاح.( أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) يعني بذلك : إماءهم. و " ما " التي في قوله : ( أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) محل خفض ، عطفا على الأزواج.( فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) يقول : فإن من لم يحفظ فرجه عن زوجه ، وملك يمينه ، وحفظه عن غيره من الخلق ، فإنه غير مُوَبَّخٍ على ذلك ، ولا مذمومٍ ، ولا هو بفعله ذلك راكب ذنبا يلام عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

(19/10)


وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)

*ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) يقول : رضي الله لهم إتيانهم أزواجهم ، وما ملكت أيمانهم.
وقوله : ( فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ ) يقول : فمن التمس لفرجه مَنكَحًا سوى زوجته ، وملك يمينه ، ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) يقول : فهم العادون حدود الله ، المجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حَرّم عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : نهاهم الله نهيا شديدا ، فقال : ( فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) فسمى الزاني من العادين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) قال : الذين يتعدّون الحلال إلى الحرام.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي عبد الرحمن ، في قوله : ( فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) قال : من زنى فهو عاد.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) }
يقول تعالى ذكره : ( وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ ) التي ائتمنوا عليها( وَعَهْدِهِمْ ) وهو عقودهم التي عاقدوا الناس( رَاعُونَ ) يقول : حافظون لا يضيعون ، ولكنهم يوفون بذلك كله.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار إلا ابن كثير : ( وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ ) على الجمع. وقرأ ذلك ابن كثير : " لأمانَتِهِم " على الواحدة.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : ( لأمَانَاتِهِمْ ) لإجماع الحجة من القراء عليها.
وقوله : ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) يقول : والذين هم على أوقات صلاتهم

(19/11)


يحافظون ، فلا يضيعونها ولا يشتغلون عنها حتى تفوتهم ، ولكنهم يراعونها حتى يؤدوها فيها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق : ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) قال : على وقتها.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) على ميقاتها.
حدثنا ابن عبد الرحمن البرقي ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، قال : أخبرنا ابن زَحر ، عن الأعمش ، عن مسلم بن صبيح. قال : ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) قال : أقام الصلاة لوقتها.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : على صلواتهم دائمون.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : ( عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) قال : دائمون ، قال : يعني بها المكتوبة.
وقوله : ( أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه صفتهم في الدنيا ، هم الوارثون يوم القيامة منازل أهل النار من الجنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، روي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتأوله أهل التأويل.
*ذكر الرواية بذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش. عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلا وَلَهُ مَنزلانِ : مَنزل فِي الجَنَّةِ ، ومَنزلٌ فِي النَّارِ ، وَإنْ ماتَ وَدَخَل النَّارَ وَرِثَ أهْلُ الجَنَّةِ مَنزلَهُ " فذلك قوله : ( أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ).
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : ثنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، في قوله ، ( أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) قال : يرثون مساكنهم ، ومساكن إخوانهم التي أعدّت لهم لو أطاعوا الله.

(19/12)


الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)

حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر. عن الأعمش ، عن أبي هريرة ، ( أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) قال : يرثون مساكنهم ، ومساكن إخوانهم الذين أعدت لهم لو أطاعوا الله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : الوارثون الجنة أورثتموها ، والجنة التي نورث من عبادنا هن سواء ، قال ابن جريج : قال مجاهد : يرث الذي من أهل الجنة أهله وأهل غيره ، ومنزل الذين من أهل النار ، هم يرثون أهل النار ، فلهم منزلان في الجنة وأهلان ، وذلك أنه منزل في الجنة ، ومنزل في النار ، فأما المؤمن فَيَبْنِي منزله الذي في الجنة ، ويهدم منزله في النار. وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة. ويبني منزله الذي في النار. قال ابن جريج : عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، أنه قال مثل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره : ( الَّذِينَ يَرِثُونَ ) البستان ذا الكرم ، وهو الفردوس عند العرب. وكان مجاهد يقول : هو بالرومية. حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله : ( الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ) قال : الفردوس : بستان بالرومية.
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : عدن حديقة في الجنة ، قصرها فيها عدنها ، خلقها بيده ، تفتح كل فجر فينظر فيها ، ثم يقول : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) ، قال : هي الفردوس أيضا تلك الحديقة ، قال مجاهد : غرسها الله بيده ، فلما بلغت قال : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) ثم أمر بها تغلق ، فلا ينظر فيها خلق ولا ملك مقرب ، ثم تفتح كل سحر ، فينظر فيها فيقول : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) ثم تغلق إلى مثلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قتل حارثة بن سُراقة يوم بدر ، فقالت أمه : يا رسول الله ، إن كان ابني من أهل الجنة ؛ لم أبك عليه ، وإن كان من أهل النار ؛ بالغت في البكاء. قال : " يا أُمَّ حارِثَةَ ، إنَّها جَنَّتان في جَنَّةٍ ، وإنَّ ابْنَكِ قَدْ أصابَ الْفِردوْس الأعلى من الجَنَّةِ " .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، عن كعب قال : خلق الله بيده جنة الفردوس ، غرسها بيده. ثم قال : تكلمي ، قالت : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ).

(19/13)


وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)

قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن حسام بن مصك ، عن قتادة أيضا ، مثله. غير أنه قال : تكلمي ، قالت : طوبى للمتَّقين.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي داود نفيع ، قال : لما خلقها الله ، قال لها : تزيني ؛ فتزينت ، ثم قال لها : تكلمي ؛ فقالت : طوبى لمن رضيتَ عنه.
وقوله : ( هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) يعني ماكثون فيها ، يقول : هؤلاء الذين يرثون الفردوس خالدون ، يعني ماكثون فيها أبدًا ، لا يتحوّلون عنها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) أسللناه منه ، فالسلالة : هي المستلة من كلّ تربة ، ولذلك كان آدم خلق من تربة أخذت من أديم الأرض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في المعني بالإنسان في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عنى به آدم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتَادة : ( مِنْ طِينٍ ) قال : استلّ آدم من الطين.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) قال : استلّ آدم من طين ، وخُلقت ذرّيته من ماء مهين.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولقد خلقنا ولد آدم ، وهو الإنسان الذي ذكر في هذا الموضع ، من سلالة ، وهي النطفة التي استلَّت من ظهر الفحل من طين ، وهو آدم الذي خُلق من طين.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن أبي يحيى ، عن ابن عباس : ( مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) قال : صفوة الماء.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( مِنْ

(19/14)


سُلالَةٍ ) من منيّ آدم.
حدثنا القاسم. قال : ثنا الحسين. قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : ولقد خلقنا ابن آدم من سُلالة آدم ، وهي صفة مائه ، وآدم هو الطين ؛ لأنه خُلق منه.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية ؛ لدلالة قوله : ( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ) على أن ذلك كذلك ؛ لأنه معلوم أنه لم يصر في قرار مكين إلا بعد خلقه في صلب الفحل ، ومن بعد تحوّله من صلبه صار في قرار مكين ؛ والعرب تسمي ولد الرجل ونطفته : سليله وسلالته. لأنهما مسلولان منه ، ومن السُّلالة قول بعضهم :
حَمَلتْ بِهِ عَضْبَ الأدِيمِ غَضَنفرًا... سُلالَةَ فَرجٍ كان غيرَ حَصِين (1)
وقول الآخر :
وَهَلْ كُنْتُ إلا مُهْرَةً عَرَبِيَّةً... سُلالَةَ أفْراسٍ تجَللها بَغْلُ (2)
فمن قال : سلالة جمعها سلالات ، وربما جمعوها سلائل ، وليس بالكثير. لأن السلائل جمع للسليل ، ومنه قول بعضهم :
إذا أُنْتِجَتْ مِنْها المَهارَى تَشابَهَتْ... عَلى القَوْد إلا بالأنُوفِ سَلائلُهْ (3)
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت (اللسان : سلل) وفيه : فجاءت في موضع حملت. وهو شاهد على أن السلالة بمعنى نطفة الإنسان ، وسلالة الشيء : ما استل من. واستشهد به المؤلف على أن العرب تسمي ولد الرجل ونطفته : سلالة. وفي اللسان : وقال الفراء : السلالة الذي سل من كل تربة. وقال أبو الهيثم : السلالة : ما سل من صلب الرجل وترائب المرأة ، كما يسل الشيء سلا. والسليل : الولد حين يخرج من بطن أمه ، لأنه خلق من السلالة. وعن عكرمة أنه قال في السلالة : إنه الماء يسل من الظهر سلا. وعضب الأديم : غليظ الجلد ، ولعله يريد وصفه بالشدة والقسوة. ولم أجد هذا التعبير في معاجم اللغة ، ووجدته في حاشية جانبية على نسخة مصورة من مجاز القران محفوظة بمكتبة جامعة القاهرة ، رقمها26059 عند تفسير قوله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين }.
(2) البيت لهند بنت النعمان (اللسان : سلل ). وروايته : " وما هند إلا مهرة " . وهو شاهد على أن السليل الولد ، والأنثى سليلة ، قال أبو عمرو : السليلة بنت الرجل من صلبه. وتجللها : علاها. والمراد بالبغل هنا : الرجل الشبيه بالبغل والبغل مذموم عند العرب. وفي اللسان : سلل : قال ابن بري : وذكر بعضهم أنها تصحيف ، وأن صوابه " نغل " بالنون ، وهو الخسيس من الناس والدواب ، لأن البغل لا ينسل. وقال ابن شميل : يقال للإنسان أول ما تضعه أمه : سليل. والسليل والسليلة : المهر والمهرة.
(3) لم أجد هذا البيت في معاني القرآن للفراء ولا في مجاز القرآن لأبي عبيدة ، ولا في شواهد معاجم اللغة. وهو شاهد على أن السلائل جمع سلالة ، وقد شرحنا معناها في الشاهدين السابقين بما أغنى عن تكراره هنا.

(19/15)


ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)

وقول الراجز :
يَقْذِفْنَ فِي أسْلابِها بالسَّلائِلِ (1)
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) }
يعني تعالى ذكره بقوله : ( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ) ثم جعلنا الإنسان الذي جعلناه من سلالة من طين نطفة في قرار مكين ، وهو حيث استقرّت فيه نطفة الرجل من رحم المرأة ، ووصفه بأنه مكين ؛ لأنه مكن لذلك ، وهيأ له ليستقرّ فيه إلى بلوغ أمره الذي جعله له قرارا. وقوله : ( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ) يقول : ثم صيرنا النطفة التي جعلناها في قرار مكين علقة ، وهي القطعة من الدم ، ( فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ) يقول : فجعلنا ذلك الدم مضغة ، وهي القطعة من اللحم.
وقوله : ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا ) يقول : فجعلنا تلك المضغة اللحم عظاما. وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق سوى عاصم : ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا ) على الجمع ، وكان عاصم وعبد الله يقرآن ذلك : ( عَظْما ) في الحرفين على التوحيد جميعا.
__________
(1) كذا ورد هذا الشطر في الأصول محرفًا وحسبه المؤلف من الرجز ، ويلوح لي أن هذا جزء من بيت للنابغة الذبياني نسخه بعض النساخ في بعض الكتب ، ولم يفطن له المؤلف. وبيت النابغة من البحر الطويل ، وهو من قصيدة له يصف الخيل في وقعة عمرو بن الحارث الأصغر الغساني ببني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان ، قال فيها : وَقَدْ خِفْتُ حتى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي ... عَلى وَعِلٍ فِي ذِي المَطَارَةِ عَاقِلِ
مَخَافَةَ عَمْرٍو أَنْ تَكُونَ جِيَادُهُ ... يُقَدْنَ إِلَيْنَا بَيْنَ حَافٍ وَنَاعِلِ
إِذَا اسْتَعْجَلُوهَا عَنْ سَجِيَّةِ مَشْيِهَا ... تَتَلَّعُ فِي أَعْنَاقِهَا بِالجَحَافِلِ
وَيَقْذِفْنَ بِالأَوْلادِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ ... تَشَحَّطُ فِي أسْلائِهَا كَالْوَصَائِلِ
وهذا البيت الأخير هو محل الشاهد في بحثنا وليس فيه شاهد للمؤلف على السلائل جمع السلالة ، لأنها لم تذكر في البيت ولا في القصيدة كلها. وأصل تشحط : تتشحط ، أي تضطرب يريد أولاد الخيل. والسلى : الجلدة التي يكون فيها الولد من الإنسان أو الحيوان إذا ولد. الوصائل الثياب الحمر المخططة. والمراد أن الأسلاب كانت موشحة بالدم ، وانظر البيت في (اللسان : شحط) وفي المخصص. لابن سيده ( 1 : 17) ومختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا (طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة ص 211).

(19/16)


والقراءة التي نختار في ذلك الجمع ؛ لإجماع الحجة من القراء عليه.
وقوله : ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ) يقول : فألبسنا العظام لحما. وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : ( ثُمَّ خَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عَظْما ) وعصبا ، فكسوناه لحما. وقوله : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) يقول : ثم أنشأنا هذا الإنسان خلقا آخر. وهذه الهاء التي في : ( أَنْشَأْنَاهُ ) عائدة على الإنسان في قوله : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ ) قد يجوز أن تكون من ذكر العظم والنطفة والمضغة ، جعل ذلك كله كالشيء الواحد. فقيل : ثم أنشأنا ذلك خلقا آخر.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) فقال بعضهم : إنشاؤه إياه خلقا آخر : نفخه الروح فيه ؛ فيصير حينئذ إنسانا ، وكان قبل ذلك صورة.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال : نفخ فيه الروح .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا هشيم عن الحجاج بن أرطأة ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، بمثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال : الروح.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عكرمة ، في قوله : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال : نفخ فيه الروح .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال : نفخ فيه الروح.
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، بمثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال : نفخ فيه الروح ، فهو الخلق الآخر الذي ذكر.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا ) يعني الروح تنفخ فيه بعد الخلق.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ

(19/17)


خَلْقًا آخَرَ ) قال : الروح الذي جعله فيه. وقال آخرون : إنشاؤه خلقا آخر ، تصريفه إياه في الأحوال بعد الولادة في الطفولة والكهولة ، والاغتذاء ، ونبات الشعر والسنّ ، ونحو ذلك من أحوال الأحياء في الدنيا.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) يقول : خرج من بطن أمه بعد ما خلق ، فكان من بدء خلقه الآخر أن استهل ، ثم كان من خلقه أن دُلّ على ثدي أمه ، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه إلى أن قعد ، إلى أن حبا ، إلى أن قام على رجليه ، إلى أن مشى ، إلى أن فطم ، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام ، إلى أن بلغ الحلم ، إلى أن بلغ أن يتقلب في البلاد.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال : يقول بعضهم : هو نبات الشعر ، وبعضهم يقول : هو نفخ الروح.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال : يقال الخلق الآخر بعد خروجه من بطن أمه بسنه وشعره.
وقال آخرون : بل عنى بإنشائه خلقا آخر : سوَّى شبابه.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال : حين استوى شبابه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد : حين استوى به الشباب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بذلك نفخ الروح فيه ، وذلك أنه بنفخ الروح فيه يتحول خلقا آخر إنسانا ، وكان قبل ذلك بالأحوال التي وصفه الله أنه كان بها ، من نطفة وعلقة ومضغة وعظم وبنفخ الروح فيه ، يتحوّل عن تلك المعاني كلها إلى معنى الإنسانية ، كما تحوّل أبوه آدم بنفخ الروح في الطينة التي خلق منها إنسانا ، وخلقا آخر غير الطين الذي خلق منه.
وقوله : ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال

(19/18)


ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)

بعضهم : معناه فتبارك الله أحسن الصانعين.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد : ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) قال : يصنعون ويصنع الله ، والله خير الصانعين.
وقال آخرون : إنما قيل : ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) لأن عيسى ابن مريم كان يخلق ، فأخبر جل ثناؤه عن نفسه أنه يخلق أحسن مما كان يخلق.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، في قوله : ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) قال : عيسى ابن مريم يخلق.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد ؛ لأن العرب تسمي كل صانع خالقا ، ومنه قول زهير :
وَلأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْ... ضُ القَوْمِ يخْلُقُ ثمَّ لا يَفْرِي (1)
ويروى :
ولأنْت تخْلُقُ ما فَريت وَبَعْ... ضُ القَوْمِ يخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) }
يقول تعالى ذكره : ثم إنكم أيها الناس من بعد إنشائكم خلقا آخر وتصييرناكم إنسانا سويا ميتون وعائدون ترابا كما كنتم ، ثم إنكم بعد موتكم وعودكم رفاتا باليا ، مبعوثون من التراب خلقا جديدا ، كما بدأناكم أوّل مرّة. وإنما قيل : ( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ) ؛ لأنه خبر عن حال لهم يحدث لم يكن. وكذلك تقول العرب لمن لم يمت : هو مائت وميت عن قليل ، ولا يقولون لمن قد مات مائت ، وكذلك هو طمع فيما عندك إذا وصف
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى يمدح رجلا (اللسان : خلق) يقول : أنت إذا قدرت أمرا قطعته وأمضيته ، وغيرك يقدر ما لا يقطعه ، لأنه ليس بماض العزم وأنت مضاء على ما عزمت عليه. والخلق : التقدير ، يقال : خلق الأديم يخلقه خلقًا : قدره لما يريد قبل القطع ، وقاسه ليقطع منه مزادة أو قربة أو خفا. ولذلك سمت العرب كل صانع كالنجار والخياط ونحوهما خالقًا ، لأنه يقيس الخشب ويقدره على ما يريده له. والفري : القطع بعد التقدير ، وقد يكون قبله ، بأن يقطع قطعة من جلد أو ثوب قطعًا مقاربًا ، ثم يصلحها ويسويها بالحساب والتقدير ، على ما يريده ولذلك جاءت رواية أخرى في البيت : ولأنت تخلق ما فريت... إلخ.

(19/19)


وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)

بالطمع ، فإذا أخبر عنه أنه سيفعل ولم يفعل قيل : هو طامع فيما عندك غدا ، وكذلك ذلك في كلّ ما كان نظيرا لما ذكرناه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) }
يقول تعالى ذكره : ولقد خلقنا فوقكم أيها الناس سبع سموات ، بعضهن فوق بعض ، والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة. وإنما قيل للسموات السبع سبع طرائق ؛ لأن بعضهنّ فوق بعض ، فكلّ سماء منهنّ طريقة.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ ) قال : الطرائق : السموات.
وقوله : ( وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ) يقول : وما كنا في خلقنا السموات السبع فوقكم ، عن خلقنا الذي تحتها غافلين ، بل كنا لهم حافظين من أن تسقط عليهم فتهلكهم.

(19/20)


وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) }
يقول تعالى ذكره : وأنزلنا من السماء ما في الأرض من ماء فأسكناه فيها.
كما : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ ) ماء هو من السماء.
وقوله : ( وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ) يقول جل ثناؤه : وإنا على الماء الذي أسكناه في الأرض لقادرون أن نذهب به ، فتهلكوا أيها الناس عطشا ، وتخرب أرضوكم ، فلا تنبت زرعا ولا غرسا ، وتهلك مواشيكم ، يقول : فمن نعمتي عليكم تركي ذلك لكم في الأرض جاريا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) }
يقول تعالى ذكره : فأحدثنا لكم بالماء الذي أنزلناه من السماء بساتين من نخيل وأعناب

(19/20)


وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20)

( لَكُمْ فِيهَا ) يقول : لكم في الجنات فواكه كثيرة.( وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) يقول : ومن الفواكه تأكلون ، وقد يجوز أن تكون الهاء والألف من ذكر الجنات ، ويحتمل أن تكون من ذكر النخيل والأعناب. وخصّ جل ثناؤه الجنات التي ذكرها في هذا الموضع ، فوصفها بأنها من نخيل وأعناب ، دون وصفها بسائر ثمار الأرض; لأن هذين النوعين من الثمار كانا هما أعظم ثمار الحجاز وما قرب منها ، فكانت النخيل لأهل المدينة ، والأعناب لأهل الطائف ، فذكَّر القوم بما يعرفون من نعمة الله عليهم ، بما أنعم به عليهم من ثمارها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ (20) }
يقول تعالى ذكره : وأنشأنا لكم أيضا شجرة تخرج من طور سيناء وشجرة منصوبة عطفا على الجنات ويعني بها : شجرة الزيتون.
وقوله : ( تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ) يقول : تخرج من جبل ينبت الأشجار.
وقد بيَّنت معنى الطور فيما مضى بشواهده ، واختلاف المختلفين بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله : ( سَيْنَاءَ ) فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : ( سِيناء ) بكسر السين. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : ( سَيْنَاءَ ) بفتح السين ، وهما جميعا مجمعون على مدّها.
والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار ، بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : المبارك ، كأن معنى الكلام عنده : وشجرة تخرج من جبل مبارك.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( طُورِ سَيْنَاءَ ) قال : المبارك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.

(19/21)


حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ) قال : هو جبل بالشام مبارك.
وقال آخرون : معناه : حسن.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( طُورِ سَيْنَاءَ ) قال : هو جبل حسن.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ) الطور : الجبل بالنبطية ، وسيناء ، حسنة بالنبطية.
وقال آخرون : هو اسم جبل معروف.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، في قوله : ( مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ) قال : الجبل الذي نودي منه موسى صلى الله عليه وسلم.
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( طُورِ سَيْنَاءَ ) قال : هو جبل الطور الذي بالشام ، جبل ببيت المقدس ، قال : ممدود ، هو بين مصر وبين أيلة.
وقال آخرون : معناه : أنه جبل ذو شجر.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عمن قاله.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن سيناء اسم أضيف إليه الطور يعرف به ، كما قيل : جبلا طيئ ، فأضيفا إلى طيئ ، ولو كان القول في ذلك كما قال من قال : معناه : جبل مبارك ، أو كما قال من قال : معناه حسن ، لكان الطور منوّنا ، وكان قوله سيناء من نعته ، على أن سيناء بمعنى : مبارك وحسن ، غير معروف في كلام العرب ، فيجعل ذلك من نعت الجبل ، ولكن القول في ذلك إن شاء الله كما قال ابن عباس ، من أنه جبل عرف بذلك ، وأنه الحبل الذي نودي منه موسى صلى الله عليه وسلم ، وهو مع ذلك مبارك ، لا أن معنى سيناء : معنى مبارك.

(19/22)


وقوله : ( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( تُنْبِتُ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار : ( تَنْبُت ) بفتح التاء ، بمعنى : تنبت هذه الشجرة بثمر الدهن ، وقرأه بعض قرّاء البصرة : ( تُنْبِت ) بضم التاء ، بمعنى تنبت الدهن ، تخرجه. وذكر أنها في قراءة عبد الله : ( تُخْرجُ الدُّهْن ) وقالوا : الباء في هذا الموضع زائدة كما قيل : أخذت ثوبه ، وأخذت بثوبه ، وكما قال الراجز :
نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أرْبابُ الفَلَجْ... نَضْرِبُ بِالبيضِ وَنَرْجُو بالفَرَج (1)
بمعنى : ونرجو الفرج. والقول عندي في ذلك أنهما لغتان : نبت ، وأنبت; ومن أنبت قول زهير :
رأيْتَ ذوي الحاجاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ... قَطِينا لَهُمْ حتى إذا أنْبَتَ البَقْلُ (2)
ويروى : نبت ، وهو كقوله : ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ) و " فاسر " ، غير أن ذلك وإن كان
__________
(1) البيت لنابغة بني جعدة ( خزانة الأدب للبغدادي 4 : 160) والفلج في الأصل النهر الصغير ، والماء الجاري. والمراد في البيت : موضع في أعلى بلاد قيس . ويروى (نضرب بالسيف ) . والبيض : جمع أبيض ، وهو السيف . والبيت شاهد على زيادة الباء في قوله بالفرج ، أي ونرجو الفرج . وهي زائدة في المفعول به سماعًا . قال ابن عصفور في الضرائر : زيادة الباء هنا : ضرورة . وقال ابن السيد في شرح أدب الكاتب لابن قتيبة : إنما عدى الرجاء بالباء ، لأنه بمعنى الطمع يتعدى بالباء ، كقولك : طمعت بكذا . قال الشاعر : طَمِعْتُ بِلَيْلَى أنْ تجُودَ وَإِنَّمَا ... تُقَطِّعُ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ المَطَامِعُ
وبنو جعدة يروى بالرفع على أنه خبر نحن ، وبالنصب على الاختصاص ، والخبر : أرباب . ا ه.
(2) البيت في (اللسان نبت ) قال : ونبت البقل وأنبت بمعنى ، وأنشد لزهير بن أبي سلمى : إذَا السَّنَةُ الشَّهْبَاءُ بِالنَّاسِ أجْحَفَتْ ... وَنَالَ كِرَامَ النَّاسِ فِي الحَجْرةِ الأَكلُ
ثم قال : يعني بالشهباء البيضاء من الجدب ، لأنها تبيض بالثلج أو عدم النبت . والحجرة السنة الشديدة التي تحجر الناس في بيوتهم ، فينحروا كرائم إبلهم ليأكلوها . والقطين : الحشم ، وسكان الدار. وأجحفت أضرت بهم ، وأهلكت أموالهم . قال : ونبت وأنبت : مثل قولهم مطرت السماء وأمطرت . وقال في قوله تعالى : {تنبت بالدهن} قرأ ابن كثير وأبو عمرو الحضرمي : {تنبت} بضم في التاء ، وكسر الباء . وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وابن عامر : بفتح التاء . وقال الفراء : هما لغتان : نبتت الأرض وأنبتت ، قال ابن سيده : أما تنبت ( بضم التاء) فذهب كثير من الناس إلى أن معناه : تنبت الدهن ، أي شجر الدهن ، أو حب الدهن ، وأن الباء فيه زائدة ، وكذلك قول عنترة " شربت بماء الدحرضين ... البيت " قالوا : أراد شربت ماء الدحرضين. قال : وهذا عند حذاق أصحابنا على غير وجه الزيادة ، وإنما تأويله والله أعلم : تنبت ما تنبته والدهن فيها ، كما تقول : خرج زيد بثيابه عليه ؛ وركب الأمير بسيفه ، أي وسيفه معه . ا هـ .

(19/23)


وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)

كذلك ، فإن القراءة التي لا أختار غيرها في ذلك قراءة من قرأ : ( تَنْبُت ) بفتح التاء ؛ لإجماع الحجة من القرّاء عليها. ومعنى ذلك : تَنْبُت هذه الشجرة بثمر الدهن.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ) قال : بثمره.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد ، مثله.
والدهن الذي هو من ثمره الزيت ، كما حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ) يقول : هو الزيت يوكل ، ويدهن به.
وقوله : ( وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ ) يقول : تنبت بالدهن وبصبغ للآكلين ، يصطبغ بالزيت الذين يأكلونه.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ ) قال : هذا الزيتون صبغ للآكلين ، يأتدمون به ، ويصطبغون به.
قال أبو جعفر : فالصبغ عطف على الدهن.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) }
يقول تعالى ذكره : ( وَإِنَّ لَكُمْ ) أيها الناس( فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً ) تعتبرون بها ، فتعرفون بها أيادي الله عندكم ، وقدرته على ما يشاء ، وأنه الذي لا يمتنع عليه شيء أراده ولا يعجزه شيء شاءه( نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا ) من اللبن الخارج من بين الفرث والدم ، ( وَلَكُمْ ) مع ذلك
( فِيهَا ) يعني في الأنعام( مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ ) وذلك كالإبل التي يُحمل عليها ، ويُركب ظهرها ، ويُشرب درّها ، ( وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) يعني من لحومها تأكلون. وقوله : ( وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ) يقول : وعلى الأنعام ، وعلى السفن تحملون على هذه في البر ، وعلى هذه في البحر.

(19/24)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ) داعيهم إلى طاعتنا وتوحيدنا ، والبراءة من كل معبود سوانا ، ( فَقَالَ ) لهم نوح( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) يقول : قال لهم : ذلوا يا قوم لله بالطاعة( مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) يقول : ما لكم من معبود يجوز لكم أن تعبدوه غيره ، ( أَفَلا تَتَّقُونَ ) يقول : أفلا تخشون بعبادتكم غيره عقابه أن يحلّ بكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ (24) }
يقول تعالى ذكره : فقالت جماعة أشراف قوم نوح ، الذين جحدوا توحيد الله ، وكذبوه لقومهم : ما نوح أيها القوم إلا بشر مثلكم ، إنما هو إنسان مثلكم وكبعضكم( يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) يقول : يريد أن يصير له الفضل عليكم ، فيكون متبوعا وأنتم له تبع( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً ) يقول : ولو شاء الله أن لا نعبد شيئًا سواه ؛ لأنزل ملائكة ، يقول : لأرسل بالدعاء إلى ما يدعوكم إليه نوح ملائكة تؤدّي إليكم رسالته. وقوله : ( مَا سَمِعْنَا بِهَذَا ) الذي يدعونا إليه نوح ، من أنه لا إله لنا غير الله في القرون الماضية ، وهي آباؤهم الأولون.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) }
يعني تعالى ذكره مخبرا عن قيل الملأ الذين كفروا من قوم نوح : ( إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ

(19/25)


بِهِ جِنَّةٌ ) ما نوح إلا رجل به جنون. وقد يقال أيضا للجنّ : جنة ، فيتفق الاسم والمصدر ، وهو من قوله : ( إِنْ هُوَ ) كناية اسم نوح. وقوله : ( فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ) يقول : فتلبثوا به ، وتنظروا به حتى حين ، يقول : إلى وقت مَّا ، ولم يَعْنُوا بذلك وقتا معلوما ، إنما هو كقول القائل : دعه إلى يوم مَّا ، أو إلى وقت مَّا ، وقوله : ( قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ) يقول : قال نوح داعيا ربه ، مستنصرا به على قومه ؛ لما طال أمره وأمرهم ، وتمادوا في غيهم : ( رَبِّ انْصُرْنِي ) على قومي( بِمَا كَذَّبُونِ ) يعني بتكذيبهم إياي ، فيما بلَّغتُهم من رسالتك ، ودعوتهم إليه من توحيدك. وقوله : ( فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنِا وَوَحْيِنَا) يقول : فقلنا له حين استنصرنَا على كَفَرة قومه : اصنع الفلك ، وهي السفينة ؛ بأعيننا ، يقول : بمرأى منا ، ومنظر ، ووحينا ، يقول : وبتعليمنا إياك صنعتها ، ( فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا ) يقول : فإذا جاء قضاؤنا في قومك ، بعذابهم وهلاكهم( وَفَارَ التَّنُّورُ ) .
وقد ذكرنا فيما مضى اختلاف المختلفين في صفة فور التنور. والصواب عندنا من القول فيه بشواهده ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
( فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) يقول : فادخل في الفلك واحمل. والهاء والألف في قوله : ( فِيهَا ) من ذكر الفلك( مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ )يقال : سلكته في كذا ، وأسلكته فيه ، ومن سلكته قول الشاعر :
وكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَرّدْ... وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبِ (1)
وبعضهم يقول : أسلكت بالألف ، ومنه قول الهُذَلي.
حتى إذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتائِدَةٍ... شَلا كمَا تَطْرُدُ الجَمَّالَةُ الشُّردَا (2)
__________
(1) البيت لعدي بن زيد العبادي (انظر شرحنا له في ص 82 من الجزء الثاني عشر من هذا التفسير ، وقد استشهد به المؤلف هناك عند قوله تعالى { وقال هذا يوم عصيب) أي شديد واستشهد به هنا على أنه يقال : سلكته في كذا بمعنى أدخلته فيه وأسلكته فيه ، والبيت شاهد على الأول . قال في اللسان ( اللسان : سلك) والسلك ، بالفتح : مصدر سلكت الشيء في الشيء ، فانسلك أي أدخلته فيه فدخل . قال عدي بن زيد : " وكنت لزاز ..... " كما استشهد به المؤلف مرة أخرى في ( 14 : 9) من هذه الطبعة عند قوله تعالى : {كذلك نسلكه في قلوب المجرمين} فراجعه ثمة.
(2) البيت لعبد مناف بن ربع الهذلي ( اللسان : سلك) . قال : وسلك المكان يسلكه سلكًا وسلوكًا ، وسلكه غيره ( بنصب غير ) وفيه ، وأسلكه إياه ، وفيه ، وعليه ( بمعنى أدخله فيه ) قال عبد مناف بن ربع الهذلي : " حتى إذا أسلكوهم ... البيت " . وقد سبق استشهاد المؤلف بالبيت في ص 9 من الجزء الرابع عشر من هذه الطبعة ) عند قوله تعالى : { كذلك نسلكه في قلوب المجرمين } فراجعه ثمة .

(19/26)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) يقول لنوح : اجعل في السفينة من كل زوجين اثنين( وَأَهْلَكَ ) وهم ولده ونساؤهم( إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) من الله بأنه هالك ، فيمن يهلك من قومك ، فلا تحمله معك ، وهو يام الذي غرق.
ويعني بقوله : ( مِنْهُمْ ) من أهلك ، والهاء والميم في قوله( منهم ) من ذكر الأهل.
وقوله : ( وَلا تُخَاطِبْنِي ) الآية ، يقول : ولا تسألني في الذين كفروا بالله أن أنجيهم.
( إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) يقول : فإني قد حتمت عليهم أن أغرق جميعهم.

(19/27)


فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) }
يعني تعالى ذكره بقوله : ( فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ ) فإذا اعتدلت في السفينة أنت ومن معك ، ممن حملته معك من أهلك ، راكبا فيها عاليا فوقها( فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) يعني من المشركين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) }
يقول تعالى ذكره لنبيه نوح عليه السلام : وقل إذا سلمك الله ، وأخرجك من الفلك ، فنزلت عنها : ( رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا ) من الأرض( مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ ) من أنزل عباده المنازل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( مُنزلا مُبَارَكًا ) قال : لنوح حين نزل من السفينة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين. قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن

(19/27)


ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)

مجاهد ، مثله.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : ( رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا ) بضم الميم وفتح الزاي ، بمعنى : أنزلني إنزالا مباركا. وقرأه عاصم( مَنزلا ) بفتح الميم وكسر الزاي. بمعنى : أنزلني مكانًا مباركًا وموضعا.
وقوله : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ) يقول تعالى ذكره : إن فيما فعلنا بقوم نوح يا محمد ، من إهلاكناهم إذ كذبوا رسلنا ، وجحدوا وحدانيتنا وعبدوا الآلهة والأصنام - لعبرا لقومك من مشركي قريش ، وعظات وحُجَجا لنا ، يستدلون بها على سنتنا في أمثالهم ، فينزجروا عن كفرهم ، ويرتدعوا عن تكذيبك ، حذرا أن يصيبهم مثل الذي أصابهم من العذاب.
وقوله : ( وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ) يقول تعالى ذكره : وكنا مختبريهم بتذكيرنا إياهم بآياتنا ، لننظر ما هم عاملون قبل نزول عقوبتنا بهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) }
يقول تعالى ذكره : ثم أحدثنا من بعد مَهْلِك قوم نوح ، قرنا آخرين ، فأوجدناهم( فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ ) داعيا لهم ، ( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) يا قوم ، وأطيعوه دون الآلهة والأصنام ، فإن العبادة لا تنبغي إلا له( مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) يقول : ما لكم من معبود يصلح أن تعبدوا سواه( أَفَلا تَتَّقُونَ ) أفلا تخافون عقاب الله بعبادتكم شيئا دونه ، وهو الإله الذي لا إله لكم سواه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) }
يقول تعالى ذكره : وقالت الأشراف من قوم الرسول الذي أرسلنا بعد نوح ، وعَنَى بالرسول في هذا الموضع : صالحًا ، وبقومه : ثمود.( الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ ) يقول : الذين جحدوا توحيد الله ، وكذبوا بلقاء الآخرة ، يعني ، كذّبوا بلقاء الله في الآخرة. وقوله : ( وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يقول : ونعَّمناهم في حياتهم الدنيا بما وسَّعنا عليهم

(19/28)


وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)

من المعاش ، وبسطنا لهم من الرزق ، حتى بَطِرُوا وعَتوْا على ربهم ، وكفروا ، ومنه قول الراجز :
وَقَدْ أُرَانِي بِالدِّيَارِ مُتْرَفا (1)
وقوله : ( مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) يقول : قالوا : بعث الله صالحا إلينا رسولا من بيننا ، وخصه بالرسالة دوننا ، وهو إنسان مثلنا ، يأكل مما نأكل منه من الطعام ، ويشرب مما نشرب ، وكيف لم يرسل ملكا من عنده يبلغنا رسالته ، قال : ( وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ) معناه : مما تشربون منه ، فحذف من الكلام " منه " ؛ لأن معنى الكلام : ويشرب من شرابكم ، وذلك أن العرب تقول : شربت من شرابك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) }
يقول تعالى ذكره ، مخبرا عن قيل الملأ من قوم صالح لقومهم : ( وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ ) فاتبعتموه ، وقبلتم ما يقول وصدّقتموه.( إِنَّكُمْ ) أيها القوم( إِذًا لَخَاسِرُونَ ) يقول : قالوا : إنكم إذن لمغبونون حظوظكم من الشرف والرفعة في الدنيا ، باتباعكم إياه.
قوله : ( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا ) الآية ، يقول تعالى ذكره : قالوا لهم : أيعدكم صالح أنكم إذا متم وكنتم ترابًا في قبوركم ، وعظاما قد ذهبت لحوم أجسادكم ، وبقيت عظامها - أنكم مخرجون من قبوركم أحياء ، كما كنتم قبل مماتكم ؟ وأعيدت( أنكم ) مرّتين ، والمعنى : أيعدكم أنكم إذا متم ، وكنتم ترابًا وعظامًا - مخرجون مرة واحدة ، لما فرق بين( أنكم ) الأولى ، وبين خبرها بإذا ، وكذلك تفعل العرب بكل اسم أوقعت عليه الظنّ وأخواته ، ثم اعترضت بالجزاء دون خبره ، فتكرّر اسمه مرّة وتحذفه أخرى ، فتقول : أظن أنك إن جالستنا أنك محسن ، فإن حذفت أنك الأولى أو الثانية صلح ، وإن أثبتهما صلح ، وإن لم تعترض بينهما بشيء لم يجز خطأ أن يقال : أظنّ أنك أنك جالس ، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : ( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا مُخْرَجُونَ ).
__________
(1) البيت للعجاج ( أراجيز العرب للسيد محمد توفيق البكري ص 19 ) قال في شرحه له : وقد أراني أي قد كنت أرني . والمترف من الترف ، وهو النعيم والرفه . وفي (اللسان : ترف) : والمترف : المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهوتها . ورجل مترف ، ومترف كمعظم : موسع عليه . وترف الرجل وأترفه : دلّله وملكه . وقوله تعالى { إلا قال مترفوها } : أي أولوا الترف وأراد رؤساءها وقادة الشر منها .

(19/29)


هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)

القول في تأويل قوله تعالى : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) }
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن قول الملأ من ثمود أنهم قالوا : هيهات هيهات : أي بعيد ما توعدون أيه القوم ، من أنكم بعد موتكم ومصيركم ترابا وعظاما مخرجون أحياءً من قبوركم ، يقولون : ذلك غير كائن.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ) يقول : بعيد بعيد.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : ( هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ) قال : يعني البعث. والعرب تُدخل اللام مع هيهات في الاسم الذي يصحبها وتنزعها منه ، تقول : هيهات لك هيهات ، وهيهاتَ ما تبتغي هيهات; وإذا أسقطت اللام رفعت الاسم بمعنى هيهات ، كأنه قال : بعيد ما ينبغي لك; كما قال جرير :
فَهَيْهَاتَ هَيْهَات العَقِيقُ وَمَنْ بِهِ... وهَيْهَاتَ خِلٌّ بالْعَقِيقِ نُواصِلُهْ (1)
كأنه قال : العقيق وأهله ، وإنما أدخلت اللام مع هيهات في الاسم ، لأنهم قالوا : هيهات أداة غير مأخوذة من فعل ، فأدخلوا معها في الاسم اللام ، كما أدخلوها مع هلمّ
__________
(1) البيت لجرير بن عطية الخطفي ( لسان العرب : هيه) . والرواية فيه : " العقيق وأهله " وفي الديوان (طبعة الصاوي ص479) . فأيهاتَ أيهاتَ العَقِيقُ وَمَنْ بِهِ ... وأيهاتَ وَصْلٍّ بالعَقِيقِ نُوَاصِلُهْ
وهو من قصيدة يجيب بها الفرزدق . والعقيق : واد لبنى كلاب ، نقله البكري في معجم ما استعجم ، عن عمارة بن عقيل ، وهيهات وأيهات : كلمة معناها البعد ، وقيل هيهات كلمة تبعيد قال جرير : " فهيهات ... " البيت . والتاء مفتوحة مثل كيف ، وأصلها هاء ، وناس يكسرونها على كل حال ، قال حميد الأرقط يصف إبلا قطعت بلادًا حتى صارت في القفار : هَيْهاتَ مَنْ مُصْبَحُهَا هيهات ... هَيْهَات حَجْرٌ مِنْ صُنَيْبِعَاتِ
وقال الفراء : نصب هيهات بمنزلة نصب ربة وثمة ، وأنشد : مَاوِيَّ يا رُبَّتَما غَارَةٍ ... شَعْوَاءَ كاللَّذْعَةِ بِالمِيسَمِ

(19/30)


لك ، إذ لم تكن مأخوذة من فعل ، فإذا قالوا : أقبل ، لم يقولوا لك ، لاحتمال الفعل ضمير الاسم.
واختلف أهل العربية في كيفية الوقف على هيهات ، فكان الكسائي يختار الوقوف فيها بالهاء ؛ لأنها منصوبة ، وكان الفرّاء يختار الوقوف عليها بالتاء ، ويقول : من العرب من يخفض التاء ، فدلّ على أنها ليست بهاء التأنيث ، فصارت بمنزلة دراك ونظار ، وأما نصب التاء فيهما ؛ فلأنهما أداتان ، فصارتا بمنزلة خمسة عشر ، وكان الفرّاء يقول : إن قيل : إن كل واحدة مستغنية بنفسها ، يجوز الوقوف عليها ، وإن نصبها كنصب قوله : ثمت جلست; وبمنزلة قوله الشاعر.
ماوِيَّ يا رُبَّتَما غارَةٍ... شَعْوَاءَ كاللَّذْعَة بالمِيسمِ (1)
قال : فنصب هيهات بمنزلة هذه الهاء التي في " ربت " لأنها دخلت على حرف ، على ربّ وعلى ثم ، وكانا أداتين ، فلم تغيرهما عن أداتهما فنصبا.
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته قرّاء الأمصار غير أبي جعفر : ( هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ) بفتح التاء فيهما. وقرأ ذلك أبو جعفر : ( هيهات هيهات ) بكسر التاء فيهما. والفتح فيهما هو القراءة عندنا ؛ لإجماع الحجة من القراء عليه.
وقوله : ( إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ) يقول : ما حياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها( نَمُوتُ وَنَحْيَا ) يقول : تموت الأحياء منا فلا تحيا ، ويحدث آخرون منا فيولدون أحياء( وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) يقول : قالوا : وما نحن بمبعوثين بعد الممات.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) قال : يقول ليس آخرة ولا بعث ، يكفرون بالبعث ، يقولون : إنما هي حياتنا هذه ثم نموت ولا نحيا ، يموت هؤلاء ويحيا
__________
(1) البيت في ( اللسان : هيه ، رب ) قال في الثاني : الفرق بين ربما ورب أن رب لا يليها غير الاسم ، وأما ربما فإنه زيدت (ما) مع (رب) ليليها الفعل ، تقول رب رجل جاءني ، وربما جاءني زيد ، وكذلك ربتما ، وأنشد ابن الأعرابي " ماوي... " إلخ وقال الكسائي : أظنهم امتنعوا من جزم الباء ( أي تسكين باء رب ) لكثرة دخول التاء فيها في قولهم : ربت رجل . يريد أن تاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلا مفتوحًا أو في نية الفتح ، فلما كانت تاء التأنيث تدخلها كثيرًا امتنعوا من إسكان ما قبل هاء التأنيث ، وآثروا النصب ( يعني بالنصب الفتح) . ا هـ . وقال في شعا : أشعى القوم الغارة إشعاء أشعلوها ، وغارة شعواء . فاشية متفرقة وأنشد ابن الأعرابي : " ماوي .... البيت : والميسم : المكواة . أو الشيء الذي يوسم به الدواب ، والجمع : مواسم ومياسم

(19/31)


إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)

هؤلاء ، يقولون : إنما الناس كالزرع يحصد هذا ، وينبت هذا ، يقولون : يموت هؤلاء ، ويأتي آخرون ، وقرأ : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) وقرأ : ( لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) }
يقول تعالى ذكره : قالوا ما صالح إلا رجل اختلق على الله كذبا في قوله : ( مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) وفي وعده إياكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مُخرجون. وقوله : ( هُوَ ) من ذكر الرسول ، وهو صالح.( وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ) يقول : وما نحن له بمصدقين فيما يقول : إنه لا إله لنا غير الله ، وفيما يعدنا من البعث بعد الممات. وقوله : ( قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ) يقول : قال صالح لما أيس من إيمان قومه بالله ، ومن تصديقهم إياه بقولهم : ( وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ) ربّ انصرني على هؤلاء بما كذّبون يقول : بتكذيبهم إياي فيما دعوتهم إليه من الحقِّ ، فاستغاث صلوات الله عليه بربه من أذاهم إياه ، وتكذيبهم له ، فقال الله له مجيبًا في مسألته إياه ما سأله : عن قليل يا صالح ليصبحن مكذبوك من قومك على تكذيبهم إياك نادمين ، وذلك حين تَنزل بهم فتنتنا فلا ينفعهم الندم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) }
يقول تعالى ذكره : فانتقمنا منهم ، فأرسلنا عليهم الصيحة ، فأخذتهم بالحقّ ، وذلك أن الله عاقبهم باستحقاقهم العقاب منه بكفرهم به ، وتكذيبهم رسوله( فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً ) يقول : فصيرناهم بمنزلة الغثاء ، وهو ما ارتفع على السيل ونحوه ، كما لا ينتفع به في شيء فإنما هذا مثل ، والمعنى : فأهلكناهم فجعلناهم كالشيء الذي لا منفعة فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) يقول : جعلوا كالشيء

(19/32)


ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42)

الميت البالي من الشجر.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( غُثَاءً ) كالرميم الهامد ، الذي يحتمل السيل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً ) قال : كالرميم الهامد الذي يحتمل السيل.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً ) قال : هو الشيء البالي.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر. عن قتادة ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً ) قال : هذا مثل ضربه الله.
وقوله : ( فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) يقول : فأبعد الله القوم الكافرين بهلاكهم ؛ إذ كفروا بربهم ، وعصوا رسله ، وظلموا أنفسهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : أولئك ثمود ، يعني قوله : ( فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) }

(19/33)


مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)

القول في تأويل قوله تعالى : { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) }
يقول تعالى ذكره : ثم أحدثنا من بعد هلاك ثمود قوما آخرين. وقوله : ( مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا ) يقول : ما يتقدم هلاك أمة من تلك الأمم التي أنشأناها بعد ثمود قبل الأجل الذي أجلنا لهلاكها ، ولا يستأخر هلاكها عن الأجل الذي أجلنا لهلاكها ، والوقت الذي وقتنا لفنائها ، ولكنها تهلك لمجيئه. وهذا وعيد من الله لمشركي قوم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وإعلام منه لهم أن تأخيره في آجالهم ، مع كفرهم به وتكذيبهم رسوله ، ليبلغوا الأجل الذي أجل لهم ، فيحلّ بهم نقمته ، كسنته فيمن قبلهم من الأمم السالفة.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا

(19/33)


ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)

لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) }
يقول تعالى ذكره : ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا ) إلى الأمم التي أنشأنا بعد ثمود( رُسُلَنَا تَتْرَى ) يعني : يتبع بعضها بعضا ، وبعضها في أثر بعض ، وهي من المواترة ، وهي اسم لجمع مثل شيء ، لا يقال : جاءني فلان تترى ، كما لا يقال : جاءني فلان مواترة ، وهي تنوّن ولا تنوّن ، وفيها الياء ، فمن لم ينوّنها( فَعْلَى ) من وترت ومن قال : " تترا " يوهم أن الياء أصلية ، كما قيل : مِعْزًى بالياء ، ومَعْزًا ، وبهمى بهما ، ونحو ذلك ، فأجْرِيت أحيانًا وتُرِك إجراؤها أحيانا ، فمن جعلها( فعلى ) وقف عليها أشار إلى الكسر ، ومن جعلها ألف إعراب لم يشر ؛ لأن ألف الإعراب لا تكسر ، لا يقال : رأيت زيدًا ، فيشار فيه إلى الكسر.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ) يقول : يَتْبُع بعضها بعضا.
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ) يقول : بعضها على أثر بعض.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( تَتْرَى ) قال : اتباع بعضها بعضا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ) قال : يتبع بعضها بعضا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ) قال : بعضهم على أثر بعض ، يتبع بعضهم بعضا.
واختلفت قرّاء الأمصار في قراءة ذلك ، فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة ، وبعض أهل المدينة ، وبعض أهل البصرة( تَتْرًا ) بالتنوين. وكان بعض أهل مكة ، وبعض أهل المدينة ، وعامة قرّاء الكوفة يقرءونه : ( تَتْرَى ) بإرسال الياء على مثال( فَعْلَى ) ، والقول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان ، ولغتان معروفتان في كلام العرب ، بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، غير أني مع ذلك أختار القراءة بغير تنوين ؛ لأنه أفصح

(19/34)


ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)

اللغتين وأشهرهما.
وقوله : ( كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ ) يقول : كلما جاء أمة من تلك الأمم ، التي أنشأناها بعد ثمود ، رسولُها الذي نرسله إليهم ، كذّبوه فيما جاءهم به من الحق من عندنا. وقوله : ( فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا ) يقول : فأتبعنا بعض تلك الأمم بعضا بالهلاك ، فأهلكنا بعضهم في إثر بعض. وقوله : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ) للناس ، ومثلا يتحدّث بهم في الناس ، والأحاديث في هذا الموضع جمع أحدوثة ، لأن المعنى ما وصفت من أنهم جعلوا للناس مثلا يتحدث بهم ، وقد يجوز أن يكون جمع حديث ، وإنما قيل : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ) لأنهم جعلوا حديثا ، ومثلا يتمثَّل بهم في الشرِّ ، ولا يقال في الخير : جعلته حديثا ، ولا أُحْدوثة. وقوله : ( فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) يقول : فأبعد الله قوما لا يؤمنون بالله ، ولا يصدّقون برسوله.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) }
يقول تعالى ذكره : ثم أرسلنا بعد الرسل الذين وصف صفتهم قبل هذه الآية ، موسى وأخاه هارون إلى فرعون وأشراف قومه من القبط( بِآيَاتِنَا ) يقول : بحججنا( فَاسْتَكْبَرُوا ) عن اتباعها ، والإيمان بما جاءهم به من عند الله( وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ) يقول : وكانوا قوما عالين على أهل ناحيتهم ، ومن في بلادهم من بنى إسرائيل وغيرهم بالظلم ، قاهرين لهم.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وقوله : ( وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ) قال : عَلَوا على رُسُلهم ، وعصَوا ربهم ، ذلك علوّهم ، وقرأ : ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ ) الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) }
يقول تعالى ذكره : فقال فرعون وملؤه : ( أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ) فنتبعهما( وَقَوْمُهُمَا ) من بني إسرائيل( لَنَا عَابِدُونَ ) يعنون : أنهم لهم مطيعون متذللون ، يأتمرون

(19/35)


وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)

لأمرهم ، ويدينون لهم ، والعرب تسمي كل من دان لملك : عابدا له. ومن ذلك قيل لأهل الحيرة : العباد ؛ لأنهم كانوا أهل طاعة لملوك العجم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قال فرعون : ( أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ). .. الآية ، نذهب نرفعهم فوقنا ونكون تحتهم ، ونحن اليوم فوقهم وهم تحتنا ، كيف نصنع ذلك ، وذلك حين أتوهم بالرسالة ، وقرأ : ( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ) قال : العلوّ في الأرض.
وقوله : ( فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ) يقول : فكذّب فرعون وملؤه موسى وهارون ، فكانوا ممن أهلَكَهم الله كما أهلك من قبلهم من الأمم بتكذيبها رسلها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) }
يقول تعالى ذكره : ولقد آتينا موسى التوراة ليهتدي بها قومه من بني إسرائيل ، ويعملوا بما فيها ، ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ) يقول : وجعلنا ابن مريم وأمه حجة لنا على من كان بينهم ، وعلى قدرتنا على إنشاء الأجسام من غير أصل ، كما أنشأنا خلق عيسى من غير أب.
كما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرازق ، قال : أخبرنا مَعْمر ، عن قَتادة ، في قوله : ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ) قال : ولدته من غير أب هو له ، ولذلك وحدت الآية ، وقد ذكر مريم وابنها.
وقوله( وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ) يقول : وضممناهما وصيرناهما إلى ربوة ، يقال : أوى فلان إلى موضع كذا ، فهو يأوي إليه ، إذا صار إليه; وعلى مثال أفعلته فهو يُؤْويه. وقوله( إِلَى رَبْوَةٍ ) يعني : إلى مكان مرتفع من الأرض على ما حوله ، ولذلك قيل للرجل ، يكون في رفعة من قومه ، وعزّ وشرف وعدد : هو في ربوة من قومه ، وفيها لغتان : ضمّ الراء وكسرها إذا أريد بها الاسم ، وإذا أريد بها الفعلة من المصدر قيل :

(19/36)


رَبَا رَبْوة.
واختلف أهل التأويل في المكان الذي وصفه الله بهذه الصفة ، وآوَى إليه مريم وابنها ، فقال بعضهم : هو الرَّمْلة من فلسطين.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا صفوان بن عيسى ، قال : ثنا بشر بن رافع ، قال : ثني ابن عمّ لأبي هريرة ، يقال له : أبو عبد الله ، قال : قال لنا أبو هريرة : الزموا هذه الرملة من فلسطين ، فإنها الربوة التي قال الله : ( وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ).
حدثني عصام بن رَوّاد بن الجراح ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا عباد أبو عتبة الخوّاص ، قال : ثنا يحيى بن أبي عمرو الشيباني ، عن ابن وَعْلة ، عن كريب قال : ما أدري ما حدثنا مُرَّة البَهزيّ ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر أن الربوة : هي الرملة.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن بشر بن رافع ، عن أبي عبد الله ابن عمّ أبي هريرة ، قال : سمعت أبا هريرة يقول في قول الله : ( إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) قال : هي الرملة من فلسطين.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا صفوان ، قال : ثنا بشر بن رافع ، قال : ثني أبو عبد الله ابن عمّ أبي هريرة ، قال : قال لنا أبو هريرة : الزموا هذه الرملة التي بفلسطين ، فإنها الربوة التي قال الله : ( وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ).
وقال آخرون : هي دمشق.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن الوليد القرشي ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أنه قال في هذه الآية : ( وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) قال : زعموا أنها دمشق.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : بلغني ، عن ابن المسيب أنه قال : دمشق.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، مثله.

(19/37)


حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي ، قال : ثنا ابن بكير ، قال : ثنا الليث بن سعد ، قال : ثني عبد الله بن لهيعة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في قوله : ( وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) قال : إلى ربوة من رُبا مصر قال : وليس الرُّبَا إلا في مصر ، والماء حين يُرسَل تكون الربا عليها القرى ، لولا الربَا لغرقت تلك القرى.
وقال آخرون : هي بيت المقدس.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : هو بيت المقدس.
قال ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : كان كعب يقول : بيت المقدس أقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن كعب ، مثله.
وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك : أنها مكان مرتفع ذو استواء ، وماء ظاهر ، وليس كذلك صفة الرملة ؛ لأن الرملة لا ماء بها مَعِين ، والله تعالى ذِكْره وصف هذه الربوة بأنها ذات قرار ومَعِين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ) قال : الربوة : المستوية.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( إِلَى رَبْوَةٍ ) قال : مستوية.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
وقوله : ( ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) يقول تعالى ذكره : من صفة الربوة التي آوينا إليها مريم وابنها عيسى ، أنها أرض منبسطة وساحة ، وذات ماء ظاهر ، لغير الباطن ، جار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن

(19/38)


أبيه ، عن ابن عباس : ( وَمَعِينٍ ) قال : المعين : الماء الجاري ، وهو النهر الذي قال الله : ( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ).
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، في قوله : ( ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) قال : المعين : الماء.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : معين ، قال : ماء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن الصَّلْت ، قال : ثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد ، في قوله : ( ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) قال : المكان المستوي ، والمَعِين : الماء الظاهر.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَمَعِينٍ ) : هو الماء الظاهر.
وقال آخرون : عنى بالقرار الثمار.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ( ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) هي ذات ثمار ، وهي بيت المقدس.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله قتادة في معنى : ( ذَاتِ قَرَارٍ ) وإن لم يكن أراد بقوله : إنها إنما وصفت بأنها ذات قرار لما فيها من الثمار ، ومن أجل ذلك ، يستقرّ فيها ساكنوها ، فلا وجه له نعرفه. وأما( مَعِينٍ ) فإنه مفعول من عِنْته فأنا أعينه ، وهو مُعين ، وقد يجوز أن يكون فعيلا من مَعَن يمعن فهو معين من الماعون ، ومنه قول عَبيد بن الأبرص :
وَاهيَةٌ أوْ مَعِينٌ مُمْعِنٌ... أوْ هَضْبَةٌ دُونَها لُهُوبُ (1)
__________
(1) البيت لعبيد بن الأبرص من قصيدته البائية المطولة ( اللسان : معن) واستشهد به المؤلف ، عند قوله تعالى : { وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } . وقال في اللسان : قال الفراء : ذات قرار : أرض منبسطة . ومعين الماء : الظاهر الجاري . قال : ولك أن تجعل المعين مفعولا من العيون ، ( واختاره المؤلف ) ، ولك أن تجعله فعيلا من الماعون ، يكون أصله المعن . والمعين : الماء السائل ، وقيل الجاري على وجه الأرض ، وقيل العذب الغزير ، وكل ذلك من السهولة. والمعن : الماء الظاهر . واللهوب : جمع لهب ( بكسر اللام) الفرجة والهواء بين الجبلين . وفي المحكم : مهراة ما بين كل جبلين . وقيل : هو الصدع في الجبل ، عن اللحياني . وقيل : هو الشعب الصغير في الجبل . وقيل : وجه من الجبل كالحائط لا يستطاع ارتقاؤه . ا هـ .

(19/39)


يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) }
يقول تعالى ذكره : وقلنا لعيسى : يا أيها الرسل كلوا من الحلال الذي طيبه الله لكم دون الحرام ، ( وَاعْمَلُوا صَالِحًا ) تقول في الكلام للرجل الواحد : أيها القوم كفوا عنَّا أذاكم ، وكما قال : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ) ، وهو رجل واحد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثني عبيد بن إسحاق الضبيّ العطار ، عن حفص بن عمر الفزاريّ ، عن أبي إسحاق السبيعيّ ، عن عمرو بن شرحبيل : ( يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ) قال : كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه.
وقوله : ( إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) يقول : إني بأعمالكم ذو علم ، لا يخفى عليّ منها شيء ، وأنا مجازيكم بجميعها ، وموفِّيكم أجوركم وثوابكم عليها ، فخذوا في صالحات الأعمال واجتهدوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ، فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة( وأنَّ ) بالفتح ، بمعنى : إني بما تعملون عليم ، وأن هذه أمتكم أمة واحدة ، فعلى هذا التأويل(أن) في موضع خفض ، عطف بها على(ما) من قوله : ( بِمَا تَعْمَلُونَ ) ، وقد يحتمل أن تكون في موضع نصب إذا قرئ ذلك كذلك. ويكون

(19/40)


فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)

معنى الكلام حينئذ : واعلموا أن هذه ، ويكون نصبها بفعل مضمر. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين بالكسر : ( وَإِنْ ) هذه على الاستئناف ، والكسر في ذلك عندي على الابتداء هو الصواب ؛ لأن الخبر من الله عن قيله لعيسى : ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ ) مبتدأ ، فقوله : ( وَإِنَّ هَذِهِ ) مردود عليه عطفا به عليه ، فكان معنى الكلام : وقلنا لعيسى : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ، وقلنا : وإن هذه أمتكم أمة واحدة. وقيل : إن الأمة الذي في هذا الموضع : الدِّين والملة.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) قال : الملة والدين.
وقوله : ( وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ )يقول : وأنا مولاكم فاتقون بطاعتي تأمنوا عقابي ، ونصبت أمة واحدة على الحال. وذُكر عن بعضهم أنه قرأ ذلك رفعا. وكان بعض نحويِّي البصرة يقول : رَفْع ذلك إذا رفع على الخبر ، ويجعل أمتكم نصبا على البدل من هذه. وأما نحويو الكوفة فيأبون ذلك إلا في ضرورة شعر ، وقالوا : لا يقال : مررت بهذا غلامكم; لأن هذا لا تتبعه إلا الألف واللام والأجناس ، لأن " هذا " إشارة إلى عدد ، فالحاجة في ذلك إلى تبيين المراد من المشار إليه أيّ الأجناس هو ، وقالوا : وإذا قيل : هذه أمتكم أمة واحدة ، والأمة غائبة ، وهذه حاضرة ، قالوا : فغير جائز أن يبين عن الحاضر بالغائب ، قالوا : فلذلك لم يجز : إن هذا زيد قائم ، من أجل أن هذا محتاج إلى الجنس لا إلى المعرفة.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( زُبُرًا ) فقرأته عامة قرّاء المدينة والعراق : ( زُبُرًا ) بمعنى جمع الزبور. فتأويل الكلام على قراءة هؤلاء : فتفرّق القوم الذين أمرهم الله من أمة الرسول عيسى بالاجتماع على الدين الواحد والملة الواحدة ، دينهم الذي أمرهم الله بلزومه( زُبُرًا ) كتبا ، فدان كل فريق منهم بكتاب غير الكتاب الذين دان به الفريق الآخر ، كاليهود الذين زعموا أنهم دانوا بحكم التوراة ، وكذّبوا بحكم الإنجيل والقرآن ، وكالنصارى الذين دانوا بالإنجيل بزعمهم ، وكذبوا بحكم الفرقان.

(19/41)


* ذكر من تأول ذلك كذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( زُبُرًا ) قال : كتبا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( بَيْنَهُمْ زُبُرًا ) قال : كتب الله فرقوها قطعا.
* - حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا ) قال مجاهد : كتبهم فرقوها قطعا.
وقال آخرون من أهل هذه القراءة : إنما معنى الكلام : فتفرقوا دينهم بينهم كتبا أحدثوها يحتجون فيها لمذهبهم.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) قال : هذا ما اختلفوا فيه من الأديان والكتب ، كلّ معجبون برأيهم ، ليس أهل هواء إلا وهم معجبون برأيهم وهواهم وصاحبهم الذي اخترق ذلك لهم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الشام( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبَرًا ) بضم الزاي وفتح الباء ، بمعنى : فتفرّقوا أمرهم بينهم قِطَعا كزُبَر الحديد ، وذلك القطع منها واحدتها زبرة ، من قول الله : ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) فصار بعضهم يهودا ، ويعضهم نصارى.
والقراءة التي نختار في ذلك قراءة من قرأه بضم الزاي والباء ؛ لإجماع أهل التأويل في تأويل ذلك على أنه مراد به الكتب ، فذلك يبين عن صحة ما اخترنا في ذلك ؛ لأن الزبُر هي الكتب ، يقال منه : زبرت الكتاب : إذ كتبته.
فتأويل الكلام : فتفرّق الذين أمرهم الله بلزوم دينه من الأمم دينهم بينهم كتبًا كما بيَّنا قبل.
وقوله : ( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) يقول : كل فريق من تلك الأمم ، بما اختاروه لأنفسهم من الدين والكتب ، فرحون معجبون به ، لا يرون أن الحقّ سواه.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني

(19/42)


فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)

الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) : قطعة وهؤلاء هم أهل الكتاب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( كُلُّ حِزْبٍ ) قطعة أهل الكتاب.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ (56) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فدع يا محمد هؤلاء الذين تقطَّعوا أمرهم بينهم زبرا ، ( فِي غَمْرَتِهِمْ ) في ضلالتهم وغيهم( حَتَّى حِينٍ ) ، يعني : إلى أجل سيأتيهم عند مجيئه عذابي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ) قال : في ضلالهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ) قال : الغَمْرة : الغَمْر.
وقوله : ( أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ) يقول تعالى ذكره : أيحسب هؤلاء الأحزاب الذين فرقوا دينهم زبرا ، أن الذي نعطيهم في عاجل الدنيا من مال وبنين( نُسَارِعُ لَهُمْ ) يقول : نسابق لهم في خيرات الآخرة ، ونبادر لهم فيها. و " ما " من قوله : ( أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ ) نصب ؛ لأنها بمعنى الذي( بَل لا يَشْعُرُونَ ) يقول تعالى ذِكْره تكذيبا لهم : ما ذلك كذلك ، بل لا يعلمون أن إمدادي إياهم بما أمدّهم به من ذلك إنما هو إملاء واستدراج لهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،

(19/43)


إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)

قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ) قال : نعطيهم ، ( نسارع لهم ) ، قال : نزيدهم في الخير ، نملي لهم ، قال : هذا لقريش.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد بن عمر بن عليّ ، قال : ثني أشعث بن عبد الله ، قال : ثنا شعبة ، عن خالد الحذّاء ، قال : قلت لعبد الرحمن بن أبي بكرة قول الله : ( نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ) قال : يسارع لهم في الخيرات ، وكأن عبد الرحمن بن أبي بكرة وجه بقراءته ذلك ، إلى أن تأويله : يسارع لهم إمدادنا إياهم بالمال والبنين في الخيرات.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) }
يعني تعالى ذكره : ( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) إن الذين هم من خشيتهم وخوفهم من عذاب الله مشفقون ، فهم من خشيتهم من ذلك دائبون في طاعته جادّون في طلب مرضاته( والذين هم بآيات ربهم يؤمنون ) يقول : والذين هم بآيات كتابه وحججه مصدقون( وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ) يقول : والذين يخلصون لربهم عبادتهم ، فلا يجعلون له فيها لغيره شركا لوثَن ، ولا لصنم ، ولا يُراءون بها أحدا من خلقه ، ولكنهم يجعلون أعمالهم لوجهه خالصا ، وإياه يقصدون بالطاعة والعبادة دون كل شيء سواه.

(19/44)


وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) }
يعني تعالى ذكره بقوله : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا ) والذين يعطون أهل سُهْمان الصدقة ما فرض الله لهم في أموالهم.( مَا آتَوْا ) يعني : ما أعطوهم إياه من صدقة ، ويؤدّون حقوق الله عليهم في أموالهم إلى أهلها( وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) يقول : خائفة من أنهم إلى ربهم راجعون ، فلا ينجيهم ما فعلوا من ذلك من عذاب الله ، فهم خائفون من المرجع إلى الله

(19/44)


لذلك ، كما قال الحسن : إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبجر ، عن رجل ، عن ابن عمر : ( يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) قال : الزكاة.
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : ( وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) قال : المؤمن ينفق ماله وقلبه وَجِل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن ، قال : ( يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) قال : يعملون ما عملوا من أعمال البر ، وهم يخافون ألا ينجيهم ذلك من عذاب ربهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : ( يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) قال : المؤمن ينفق ماله ويتصدق ، وقلبه وجل أنه إلى ربه راجع.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلَيَّة ، عن يونس ، عن الحسن أنه كان يقول : إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة ، وإن المنافق جمع إساءة وأمنا ، ثم تلا الحسن : ( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إِلَى وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) وقال المنافق : إنما أوتيته على علم عندي.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة : ( يُؤْتُونَ مَا آتَوْا ) قال : يُعْطون ما أعطوا.( وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) يقول : خائفة.
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : ثنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا إسرائيل ، قال : أخبرنا سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) قال : يفعلون ما يفعلون وهم يعلمون أنهم صائرون إلى الموت ، وهي من المبشرات.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ( يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) قال : يعطون ما أعطَوا ويعملون ما عملوا من خير ، وقلوبهم وجلة خائفة.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله.

(19/45)


حدثنا عليّ ، قال : ثني معاوية ، عن ابن عباس ، قوله : ( والذين يأتون ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) يقول : يعملون خائفِين.
قال : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبى ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) قال : يعطون ما أعطوا ؛ فرقا من الله ووجلا من الله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( يُؤْتُونَ مَا آتَوْا ) ينفقون ما أنفقوا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) قال : يعطون ما أعطوا وينفقون ما أنفقوا ويتصدقون بما تصدقوا وقلوبهم وجلة ؛ اتقاء لسخط الله والنار. وعلى هذه القراءة ، أعني على( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا ) قرأة الأمصار ، وبه رسوم مصاحفهم وبه نقرأ ؛ لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، ووفاقه خطّ مصاحف المسلمين.
وروي عن عائشة رضي الله عنها في ذلك ، ما حدثناه أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا عليّ بن ثابت. عن طلحة بن عمرو ، عن أبي خلف ، قال : دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة ، فسألها عبيد ، كيف نقرأ هذا الحرف( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا ) ؟ فقالت : ( يَأْتُونَ مَا أَتَوْا ). وكأنها تأولت في ذلك : والذين يفعلون ما يفعلون من الخيرات وهم وجلون من الله.
كالذي حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمر بن قيس ، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قالت عائشة : " يا رسول الله( وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) هو الذي يذنب الذنب وهو وجل منه ؟ فقال : لا وَلَكِنْ مَنْ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ وَجِلٌ " .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن مالك بن مِغْول ، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب ، أن عائشة قالت : " قلت : يا رسول الله( الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) أهم الذين يُذنبون وهم مُشْفِقُون (1) ! ويصومون وهم مشفقون " ؟
__________
(1) لعل فيه سقطًا ، والأصل : قال : " لا " ولكن الذين يصلون وهم مشفقون ، ويصومون .... " إلخ ، كما يتضح من حديث عائشة الآتي بعد .

(19/46)


حدثنا أبو كريب ، قال ، ثنا ابن إدريس ، قال : ثنا ليث ، عن مغيث ، عن رجل من أهل مكة ، عن عائشة ، قالت : قلت : يا رسول الله( الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) قال : فذكر مثل هذا.
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال ، ثنا أبي ، عن مالك بن مغول ، عن عبد الرحمن بن سعيد ، عن عائشة أنها قالت : " يا رسول الله( الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ؟ قال : لا يابْنَة أبي بَكْرٍ ، أو يابْنَةَ الصّدِيق ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُل يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيخافُ أنْ لا يُقْبَل مِنْهُ " .
حدثنا القاسم ، قال ، ثنا الحسين ، قال : ثني جرير ، عن ليث بن أبي سليم ، وهشيم عن العوّام بن حَوْشب ، جميعا عن عائشة أنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يابْنَةَ أبي بَكْر ، أو يابْنَةَ الصِّدِّيق ، هُمُ الَّذِينَ يُصَلونَ ، وَيَفْرَقُونَ أنْ لا يُتَقَبَّلَ مِنْهم " . و أن من قوله : ( أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) في موضع نصب ؛ لأن معنى الكلام : ( وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) من أنهم ، فلما حذفت(منْ) اتصل الكلام قبلها فنصبت ، وكان بعضهم يقول : هو في موضع خفض ، وإن لم يكن الخافض ظاهرا.
وقوله : ( أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ) يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه الصفات صفاتهم ، يبادرون في الأعمال الصالحة ، ويطلبون الزلفة عند الله بطاعته.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ).
قال : والخيرات : المخافة والوجل والإيمان ، والكفّ عن الشرك بالله ، فذلك المسابقة إلى هذه الخيرات ،
قوله : ( وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ) كان بعضهم يقول : معناه سبقت لهم من الله السعادة ، فذلك سبوقهم الخيرات التي يعملونها.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال ، ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ) يقول : سبقت لهم السعادة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وهم لها سَابِقُونَ ) ، فتلك الخيرات.
وكان بعضهم يتأوّل ذلك بمعنى : وهم إليها سابقون. وتأوّله آخرون : وهم من أجلها سابقون.

(19/47)


وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب القول الذي قاله ابن عباس ، من أنه سبقت لهم من الله السعادة قبل مسارعتهم في الخيرات ، ولما سبق لهم من ذلك سارعوا فيها.
وإنما قلت ذلك أولى التأويلين بالكلام; لأن ذلك أظهر معنييه ، وأنه لا حاجة بنا إذا وجهنا تأويل الكلام إلى ذلك ، إلى تحويل معنى " اللام " التي في قوله : ( لَهَا سَابِقُونَ ) إلى غير معناها الأغلب عليها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) }
يقول تعالى ذكره : ولا نكلف نفسا إلا ما يسعَها ويصلح لها من العبادة; ولذلك كلَّفناها ما كلفناها من معرفة وحدانية الله ، وشرعنا لها ما شرعنا من الشرائع.
( وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ ) يقول : وعندنا كتاب أعمال الخلق بما عملوا من خير وشرّ ، ينطق بالحقّ( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يقول : يبين بالصدق عما عملوا من عمل في الدنيا ، لا زيادة عليه ولا نقصان ، ونحن موفو جميعهم أجورهم ، المحسن منهم بإحسانه والمسيء بإساءته( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يقول : وهم لا يظلمون ، بأن يزاد على سيئات المسيء منهم ما لم يعمله فيعاقب على غير جُرْمه ، وينقص المحسن عما عمل من إحسانه فينقص عَمَّا له من الثواب.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) }
يقول تعالى ذكره : ما الأمر كما يحسب هؤلاء المشركون ، من أن إمدادناهم بما نمدّهم به من مال وبنين ، بخير نسوقه بذلك إليهم والرضا منا عنهم ، ولكن قلوبهم في غمرة عمى عن هذا القرآن. وعنى بالغمرة : ما غمر قلوبهم فغطاها عن فهم ما أودع الله كتابه من المواعظ والعبر والحجج. وعنى بقوله : ( مِنْ هَذَا ) من القرآن.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( فِي غَمْرَةٍ

(19/48)


مِنْ هَذَا ) قال : في عمى من هذا القرآن.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : ( فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا ) قال : من القرآن.
وقوله : ( وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ) يقول تعالى ذكره : ولهؤلاء الكفار أعمال لا يرضاها الله من المعاصي.( مِنْ دُونِ ذَلِكَ ) يقول : من دون أعمال أهل الإيمان بالله ، وأهل التقوى والخشية له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : ( وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ) قال : الخطايا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ ) قال : الحق.
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : 0 ثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ ) قال : خطايا من دون ذلك الحقّ.
قال ثنا حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : ( وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ ). .. الآية ، قال : أعمال دُون الحق.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، قال : ذكر الله الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ، ثم قال للكفار : ( بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ) قال : من دون الأعمال التي منها قوله : ( مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) والذين ، والذين.
حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد ، قال : أعمال لا بد لهم من أن يعملوها.
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، قال : سألت الحسن عن قول الله : ( وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ) قال : أعمال لم يعملوها سيعملونها.

(19/49)


حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ) قال : لم يكن له بد من أن يستوفي بقية عمله ، ويصلي به.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ) قال : أعمال لا بدّ لهم من أن يعملوها.
حدثنا عمرو ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد ، في قول الله تبارك وتعالى : ( وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ ) قال : أعمال لا بدّ لهم من أن يعملوها.
القول في تأويل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) }
يقول تعالى ذكره : ولهؤلاء الكفار من قريش أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ، إلى أن يؤخذ أهل النَّعمة والبطر منهم بالعذاب. كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ ) ، قال : المُتْرَفُون : العظماء.( إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ) يقول : فإذا أخذناهم به جأروا ، يقول : ضجُّوا واستغاثوا مما حلّ بهم من عذابنا ، ولعلّ الجُؤار : رفع الصوت ، كما يجأر الثور; ومنه قول الأعشى :
يرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِي... كِ طَوْرًا سجُودًا وَطَوْرًا جؤارا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ( إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ) يقول : يستغيثون.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، عن علقمة بن قردد ، عن مجاهد ، في قوله : ( حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ) قال : بالسيوف يوم بدر.
__________
(1) البيت للأعشى ( ديوانه طبع القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ص 53) وهو من قصيدة يمدح بها الأعشى قيس بن معد يكرب . ويراوح بين العلمين : يتداول هذا مرة ، وهذا مرة . والجؤار : مصدر جأر إلى الله . إذا تضرع ورفع صوته . يقول : إن ممدوح مع ما وصف به من كرم وقوة ووفاء ، تقيٌّ يراقب ربه ، ويتضرع إليه ويجأر في صلواته . واستشهد به المؤلف على أن الجؤار : رفع الصوت كما يجأر الثور .

(19/50)


قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : ( إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ) قال : يجزعون.
قال : ثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ ) قال : عذاب يوم بدر.( إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ) قال : الذين بمكة.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ ) يعني أهل بدر ، أخذهم الله بالعذاب يوم بدر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : ( إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ) قال : يجزعون.
وقوله : ( لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ) يقول : لا تضجوا وتستغيثوا اليوم وقد نزل بكم العذاب الذي لا يدفع عن الذين ظلموا أنفسهم ، فإن ضجيجكم غير نافعكم ولا دافع عنكم شيئا مما قد نزل بكم من سخط الله.( إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ ) يقول : إنكم من عذابنا الذي قد حل بكم لا تستنقذون ، ولا يخلصكم منه شيء.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس : ( لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ) لا تجزعوا اليوم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا الربيع بن أنس : ( لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ) لا تجزعوا الآن حين نزل بكم العذاب ، إنه لا ينفعكم ، فلو كان هذا الجزع قبلُ نفعكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش : لا تضجوا اليوم وقد نزل بكم سخط الله وعذابه ، بما كسبت أيديكم واستوجبتموه بكفركم بآيات ربكم.( قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ) يعني : آيات كتاب الله ، يقول : كانت آيات كتابي تقرأ عليكم

(19/51)


فتكذّبون بها وترجعون مولين عنها إذا سمعتموها ، كراهية منكم لسماعها. وكذلك يقال لكل من رجع من حيث جاء : نكص فلان على عقبه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ) قال : تستأخرون.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ) يقول : تدبرون.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ) يعني أهل مكة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن. قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( تَنْكِصُونَ ) قال : تستأخرون.
وقوله : ( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ) يقول : مستكبرين بحرم الله ، يقولون : لا يظهر علينا فيه أحد ، لأنا أهل الحرم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ) يقول : مستكبرين بحرم البيت أنه لا يظهر علينا فيه أحد.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ) قال : بمكة البلد.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، نحوه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن : ( مُسْتَكْبِرِينَ

(19/52)


بِهِ ) قال : مستكبرين بحرمي.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن حصين ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ) بالحرم.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ) قال : مستكبرين بالحرم.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ) قال : بالحرم.
وقوله : ( سَامِرًا ) يقول : تَسْمُرون بالليل. ووحد قوله : ( سَامِرًا ) وهو بمعنى السُّمَّار ؛ لأنه وضع موضع الوقت. ومعنى الكلام : وتهجرون ليلا فوضع السامر موضع الليل ، فوحد لذلك. وقد كان بعض البصريين يقول : وحد ومعناه الجمع ، كما قيل : طفل في موضع أطفال. ومما يبين عن صحة ما قلنا في أنه وضع موضع الوقت فوحد لذلك ، قول الشاعر.
مِنْ دُونِهِم إن جِئْتَهُم سَمَرًا... عَزْفُ القِيانِ وَمَجْلِسٌ غَمْرُ (1)
فقال : سمرا ؛ لأن معناه : إن جئتهم ليلا وهم يسمُرون ، وكذلك قوله : ( سَامِرًا ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( سَامِرًا ) يقول : يَسْمُرون حول البيت.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( سَامِرًا ) قال : مجلسًا بالليل.
__________
(1) البيت لابن أحمر الباهلي : ( اللسان : سمر ) قال : قال ابن أحمر - وجعل السمر ليلا - : " من دونهم ... " البيت أراد جئتهم ليلا ، وبهذا المعنى أورده المؤلف . والشطر الثاني من البيت في رواية اللسان مختلف عنه في رواية المؤلف ، ففي اللسان " حي حلال لملم عكر " . والحي الحلال : يريد الجماعة النازلين على الماء أو نحوه . ولملم : كثير مجتمع . وكذلك العكر . والمجلس الغمر : الجماعة الكثيرة يجتمعون للحديث والسمر .

(19/53)


حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( سَامِرًا ) قال : مجالس.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن حصين ، عن سعيد بن جُبير : ( سَامِرًا ) قال : تَسْمُرون بالليل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( سَامِرًا ) قال : كانوا يسمرون ليلتهم ويلعبون : يتكلمون بالشعر والكهانة وبما لا يدرون.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( سَامِرًا ) قال : يعني سَمَر الليل.
وقال بعضهم في ذلك ما حدثنا به ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( سَامِرًا ) يقول : سامرا من أهل الحرم آمنا لا يخاف ، كانوا يقولون : نحن أهل الحرم ، لا يخافون.
حدثنا الحسن ، قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة : ( سَامِرًا ) يقول : سامرًا من أهل مكة آمنا لا يخاف ، قال : كانوا يقولون : نحن أهل الحرم لا نخاف.
وقوله : ( تَهْجُرُونَ ) اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : ( تَهْجُرُونَ ) بفتح التاء وضم الجيم. ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان من المعنى : أحدهما أن يكون عنى أنه وصفهم بالإعراض عن القرآن أو البيت ، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفضه. والآخر : أن يكون عنى أنهم يقولون شيئا من القول كما يهجر الرجل في منامه ، وذلك إذا هذى; فكأنه وصفهم بأنهم يقولون في القرآن ما لا معنى له من القول ، وذلك أن يقولوا فيه باطلا من القول الذي لا يضره. وقد جاء بكلا القولين التأويل من أهل التأويل.
ذكر من قال : كانوا يعرضون عن ذكر الله والحق ويهجرونه :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( تَهْجُرُونَ ) قال : يهجرون ذكر الله والحق.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، عن السدي ، عن أبي صالح ، في قوله : ( سَامِرًا تَهْجُرُونَ ) قال : السبّ.
ذكر من قال : كانوا يقولون الباطل والسيئ من القول في القرآن.

(19/54)


حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن حصين ، عن سعيد بن جُبير : ( تَهْجُرُونَ ) قال : يهجرون في الباطل.
قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن حصين ، عن سعيد بن حبير : ( سَامِرًا تَهْجُرُونَ ) قال : يسمرون بالليل يخوضون في الباطل.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( تَهْجُرُونَ ) قال : بالقول السيئ في القرآن.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( تَهْجُرُونَ ) قال : الهَذَيَان; الذي يتكلم بما لا يريد ، ولا يعقل كالمريض الذي يتكلم بما لا يدري. قال : كان أُبيّ يقرؤها : ( سَامِرًا تَهْجُرُونَ ).وقرأ ذلك آخرون : ( سَامِرًا تُهْجِرُونَ ) بضم التاء وكسر الجيم. وممن قرأ ذلك كذلك من قرّاء الأمصار : نافع بن أبي نعيم ، بمعنى : يفحشون في المنطق ، ويقولون الخنا ، من قولهم : أهجر الرجل : إذا أفحش في القول. وذكر أنهم كانوا يسُبُّون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ( تُهْجِرُونَ ) قال : تقولون هجرا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد المؤمن ، عن أبي نهيك ، عن عكرِمة ، أنه قرأ : ( سَامِرًا تَهْجُرُونَ ) : أي تسبون.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عون ، عن الحسن ، في قوله : ( سَامِرًا تُهْجِرُونَ ) رسولي.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال الحسن : ( تُهْجِرُونَ ) رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : ( تُهْجِرُونَ ) يقول : يقولون سوءا.

(19/55)


أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن : ( تُهْجِرُونَ ) كتاب الله ورسوله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( تُهْجِرُونَ ) يقول : يقولون المنكر والخنا من القول ، كذلك هجر القول.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا القراءة التي عليها قرّاء الأمصار ، وهي فتح التاء وضم الجيم ، لإجماع الحجة من القرّاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) }
يقول تعالى ذكره : أفلم يتدبر هؤلاء المشركون تنزيل الله وكلامه ، فيعلموا ما فيه من العبر ، ويعرفوا حجج الله التي احتج بها عليه فيه ؟( أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأوَّلِينَ ) ؟ يقول : أم جاءهم أمر ما لم يأت من قبلهم من أسلافهم ، فاستكبروا ذلك وأعرضوا ، فقد جاءت الرسل من قبلهم ، وأنزلت معهم الكتب. وقد يحتمل أن تكون " أم " في هذا الموضع بمعنى : بل ، فيكون تأويل الكلام : أفلم يدبروا القول ؟ بل جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ، فتركوا لذلك التدبر وأعرضوا عنه ، إذ لم يكن فيمن سلف من آباءهم ذلك ، وقد ذُكر عن ابن عباس في نحو هذا القول.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : ( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأوَّلِينَ ) قال : لعمري لقد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوّلين ، ولكن أو لم يأتهم ما لم يأت آباءهم الأوّلين.
وقوله : ( أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ ) يقول تعالى ذكره : أم لم يعرف هؤلاء المكذّبون محمدًا ، وأنه من أهل الصدق والأمانة فهم له منكرون ، يقول : فينكروا قوله ، أو لم يعرفوه بالصدق ، ويحتجوا بأنهم لا يعرفونه. يقول جلّ ثناؤه : فكيف يكذّبونه وهم يعرفونه فيهم بالصدق والأمانة ؟!( أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ) يقول : أيقولون بمحمد جنون ،

(19/56)


وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)

فهو يتكلم بما لا معنى له ولا يفهم ولا يدري ما يقول ؟!( بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ )
يقول تعالى ذكره : فإن يقولوا ذلك فكذبهم في قيلهم ذلك واضح بَيّن ، وذلك أن المجنون يهذي فيأتي من الكلام بما لا معنى له ، ولا يعقل ولا يفهم ، والذي جاءهم به محمد هو الحكمة التي لا أحكم منها والحقّ الذي لا تخفى صحته على ذي فطرة صحيحة ، فكيف يجوز أن يقال : هو كلام مجنون ؟
وقوله : ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) يقول تعالى ذكره : ما بهؤلاء الكفرة أنهم لم يعرفوا محمدا بالصدق ولا أن محمدا عندهم مجنون ، بل قد علموه صادقا محقا فيما يقول وفيما يدعوهم إليه ، ولكن أكثرهم للإذعان للحقّ كارهون ولأتباع محمد ساخطون ؛ حسدا منهم له وبغيا عليه واستكبارا في الأرض.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) }
يقول تعالى ذكره : ولو عمل الربّ تعالى ذكره بما يهوى هؤلاء المشركون وأجرى التدبير على مشيئتهم وإرادتهم وترك الحق الذي هم له كارهون ، لفسدت السموات والأرض ومن فيهن; وذلك أنهم لا يعرفون عواقب الأمور والصحيح من التدبير والفاسد ، فلو كانت الأمور جارية على مشيئتهم وأهوائهم مع إيثار أكثرهم الباطل على الحقّ ، لم تقرّ السموات والأرض ومن فيهنّ من خلق الله ، لأن ذلك قام بالحق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا السديّ ، عن أبي صالح : ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ ) قال : الله.
قال : ثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح : ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ ) قال : الحقّ : هو الله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ ) قال : الحق : الله.
وقوله : ( بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ) اختلف أهل التأويل

(19/57)


أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)

في تأويل الذكر في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هو بيان الحقّ لهم بما أنزل على رجل منهم من هذا القرآن.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ ) يقول : بيَّنا لهم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : بل أتيناهم بشرفهم; وذلك أن هذا القرآن كان شرفا لهم ، لأنه نزل على رجل منهم ، فأعرضوا عنه وكفروا به. وقالوا : ذلك نظير قوله( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) وهذان القولان متقاربا المعنى ؛ وذلك أن الله جل ثناؤه أنزل هذا القرآن بيانا بين فيه ما لخلقه إليه الحاجة من أمر دينهم ، وهو مع ذلك ذكر لرسوله صلى الله عليه وسلم وقومه وشرف لهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) }
يقول تعالى ذكره : أم تسأل هؤلاء المشركين يا محمد من قومك خراجا ، يعني أجرا على ما جئتهم به من عند الله من النصيحة والحقّ;( فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ) فأجر ربك على نفاذك لأمره ، وابتغاء مرضاته خير لك من ذلك ، ولم يسألهم صلى الله عليه وسلم على ما أتاهم به من عند الله أجرا ، قال لهم كما قال الله له ، وأمره بقيله لهم : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) وإنما معنى الكلام : أم تسألهم على ما جئتهم به أجرا ، فنكصوا على أعقابهم إذا تلوته عليهم ، مستكبرين بالحرم ، فخراج ربك خير.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ) قال : أجرا.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن الحسن ، مثله.
وأصل الخراج والخرج : مصدران لا يجمعان.
وقوله : ( وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) يقول : والله خير من أعطى عوضا على عمل

(19/58)


وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)

ورزق رزقا.
وقوله : ( وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول تعالى ذكره : وإنك يا محمد لتدعو هؤلاء المشركين من قومك إلى دين الإسلام ، وهو الطريق القاصد والصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) }

(19/59)


وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) }
يقول تعالى ذكره : والذين لا يصدّقون بالبعث بعد الممات ، وقيام الساعة ، ومجازاة الله عباده في الدار الآخرة;( عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ) يقول : عن محجة الحق وقصد السبيل ، وذلك دين الله الذي ارتضاه لعباده العادلون. يقال منه : قد نكب فلان عن كذا : إذا عدل عنه ، ونكب عنه : أي عدل عنه.
وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس في قوله : ( عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ) قال : العادلون.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ) يقول : عن الحقّ عادلون.
وقوله : ( وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ ) يقول تعالى : ولو رحمنا هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ورفعنا عنهم ما بهم من القحط والجدب وضرّ الجوع والهزال;( لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ ) يعني في عتوّهم وجرأتهم على ربهم.( يَعْمَهُونَ ) يعني : يتردّدون.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : ( وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ ) قال : الجوع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) }

(19/59)


حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)

يقول تعالى ذكره : ولقد أخذنا هؤلاء المشركين بعذابنا ، وأنزلنا بهم بأسنا ، وسخطنا وضيقنا عليهم معايشهم ، وأجدبنا بلادهم ، وقتلنا سراتهم بالسيف.( فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ ) يقول : فما خضعوا لربهم فينقادوا لأمره ونهيه ، وينيبوا إلى طاعته( وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ) يقول : وما يتذللون له.
وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ الله قريشا بسني الجدب ، إذ دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الخبر في ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن الحسن ، عن يزيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : جاء أبو سفيان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، أنشدك الله والرحم ، فقد أكلنا العلهز! يعني الوبر والدم ، فأنزل الله : ( ولقد أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد المؤمن ، عن علباء بن أحمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن ابن أثال الحنفي ، لما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو أسير ، فخلى سبيله ، فلحق بمكة ، فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة ، حتى أكلت قريش العِلْهِز ، فجاء أبو سفيان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : أليس تزعم بأنك بُعثت رحمة للعالمين ؟ فقال : " بلى! " فقال : قد قتلتَ الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ! فأنزل الله : ( وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ... ) الآية.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : قال الحسن : إذا أصاب الناس من قِبَل الشيطان بلاء ، فإنما هي نقمة ، فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية ، ولكن استقبلوها بالاستغفار ، وتضرعوا إلى الله ، وقرأ هذه الآية : ( وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ ) قال : الجوع والجدب.( فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ) فَصَبَرُوا(وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) }

(19/60)


وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم : معناه : حتى إذا فتحنا عليهم باب القتال ، فقتلوا يوم بدر.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في قوله : ( حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ ) قد مضى ، كان يوم بدر.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( حتى إذا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ ) قال : يوم بدر.
وقال آخرون : معناه : حتى إذا فتحنا عليهم باب المجاعة والضر ، وهو الباب ذو العذاب الشديد.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ ) قال : لكفار قريش الجوع ، وما قبلها من القصة لهم أيضا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بنحوه ، إلا أنه قال : وما قبلها أيضا.
وهذا القول الذي قاله مجاهد : أولى بتأويل الآية ، لصحة الخبر الذي ذكرناه قبل عن ابن عباس ، أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة المجاعة التي أصابت قريشا ؛ بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ، وأمر ثمامة بن أثال ، وذلك لا شك أنه كان بعد وقعة بدر.
وقوله : ( إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) يقول : إذا هؤلاء المشركون فيما فتحنا عليهم من العذاب حزنى نادمون على ما سلف منهم ، في تكذيبهم بآيات الله ، في حين لا ينفعهم الندم والحزن.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ

(19/61)


وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (78) }
يقول تعالى ذكره : والله الذي أحدث لكم أيها المكذّبون بالبعث بعد الممات السمعَ الذي تسمعون به ، والأبصَارَ التي تبصرون بها ، والأفئدة التي تفقهون بها ، فكيف يتعذّر على من أنشأ ذلك ابتداء إعادته بعد عدمه وفقده ، وهو الذي يوجد ذلك كله إذا شاء ويفنيه إذا أراد(قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ) يقول : تشكرون أيها المكذّبون خير الله من عطائكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) }
يقول تعالى ذكره : والله الذي خلقكم في الأرض وإليه تُحْشَرونَ من بعد مماتكم ، ثم تبعثون من قبوركم إلى موقف الحساب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) }
يقول تعالى ذكره : والله الذي يحيي خلقه يقول : يجعلهم أحياء بعد أن كانوا نطفا أمواتا ، بنفخ الروح فيها بعد التارات التي تأتي عليها ، ( وَيُمِيتُ ) يقول : ويميتهم بعد أن أحياهم( وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) يقول : وهو الذي جعل الليل والنهار مختلفين ، كما يقال في الكلام : لك المنّ والفضل ، بمعنى : إنك تمنّ وتفضل. وقوله : ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) يقول : أفلا تعقلون أيها الناس ، أن الذي فعل هذه الأفعال ابتداء من غير أصل ، لا يمتنع عليه إحياء الأموات بعد فنائهم ، وإنشاء ما شاء إعدامه بعد إنشائه.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) }
يقول تعالى ذكره : ما اعتبر هؤلاء المشركون بآيات الله ، و لا تدبروا ما احتجّ عليهم من الحجج والدلالة على قدرته ، على فعل كلّ ما يشاء ، ولكن قالوا مثل ما قال أسلافهم من الأمم المكذّبة رسلها قبلهم : ( قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا ) يقول : أئذا متنا وعدنا ترابا قد بليت أجسامنا ، وبرأت عظامنا من لحومنا( أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)

(19/62)


لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)

يقول : إنا لمبعوثون من قبورنا أحياء ، كهيئتنا قبل الممات ؟ إن هذا لشيء غير كائن.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (83) }
يقول تعالى ذكره : قالوا : لقد وعدنا هذا الوعد الذي تعدنا يا محمد ، وَوَعَد آباءنا من قبلنا قومٌ ذكروا أنهم لله رسل من قبلك ، فلم نره حقيقة(إِنْ هَذَا) يقول : ما هذا الذي تعدنا من البعث بعد الممات( إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) يقول : ما سطره الأولون في كتبهم من الأحاديث والأخبار ، التي لا صحة لها و لا حقيقة.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المكذّبين بالآخرة من قومك : لمن ملك الأرض ومن فيها من الخلق ، إن كنتم تعلمون من مالكها ؟ ثم أعلمه أنهم سيقرّون بأنها لله ملكا ، دون سائر الأشياء غيره( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) يقول : فقل لهم إذا أجابوك بذلك كذلك أفلا تذكرون ، فتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء فهو قادر على إحيائهم بعد مماتهم وإعادتهم خلقا سويا بعد فنائهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد : من ربّ السماوات السبع ، وربّ العرش المحيط بذلك ؟ سيقولون : ذلك كله لله ، وهو ربه ، فقل لهم : أفلا تتقون عقابه على كفركم به وتكذيبكم خبره وخبر رسوله ؟
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق والشام : ( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) سوى أبي عمرو ، فإنه خالفهم فقرأه : " سَيَقُولُونَ الله " في هذا الموضع ، وفي الآخر الذي بعده إتباعا لخط المصحف ، فإن ذلك كذلك في مصاحف الأمصار ، إلا في مصحف أهل البصرة ، فإنه في الموضعين بالألف ، فقرءوا

(19/63)


قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)

بالألف كلها اتباعا لخط مصحفهم ، فأما الذين قرءوه بالألف فلا مؤنة في قراءتهم ذلك كذلك ؛ لأنهم أجروا الجواب على الابتداء ، وردّوا مرفوعا على مرفوع ، وذلك أن معنى الكلام على قراءتهم : قل من رب السماوات السبع ، ورب العرش العظيم ، سيقولون ربّ ذلك الله ، فلا مؤنة في قراءة ذلك كذلك. وأما الذين قرءوا ذلك في هذا ، والذي يليه بغير ألف ، فإنهم قالوا : معنى قوله : قل من رب السماوات : لمن السماوات ؟ لمن ملك ذلك ؟ فجعل الجواب على المعنى ، فقيل : لله; لأن المسألة عن ملك ذلك لمن هو ؟ قالوا : وذلك نظير قول قائل لرجل : مَنْ مولاك ؟ فيجيب المجيب عن معنى ما سئل ، فيقول : أنا لفلان; لأنه مفهوم لذلك من الجواب ما هو مفهوم بقوله : مولاي فلان. وكان بعضهم يذكر أن بعض بني عامر أنشده :
وأعْلَمُ أنَّنِي سأكُونُ رَمْسًا... إذَا سَارَ النَّوَاجِعُ لا يَسِيرُ فقال السائلون لمن حفرتم?... فقال المخبرون لهم وزيرُ (1)
فأجاب المخفوض بمرفوع ؛ لأن معنى الكلام : فقال السائلون : من الميت ؟ فقال المخبرون : الميت وزير. فأجابوا عن المعنى دون اللفظ.
والصواب من القراءة في ذلك أنهما قراءتان قد قرأ بهما علماء من القرّاء ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، غير أني مع ذلك أختار قراءة جميع ذلك بغير ألف ؛ لإجماع خطوط مصاحف الأمصار على ذلك ، سوى خط مصحف أهل البصرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ
__________
(1) البيتان مما أنشده الفراء عن بعض بني عامر ، في كتابه ( معاني القرآن ) الورقة 216 من مصورة الجامعة رقم 24059 قال الفراء : وقوله { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله } هذه مسألة فيها ؛ لأنه قد استفهم بلام ، فرجعت في خبر المستفهم . وأما الأخريان ، فإن أهل المدينة وعامة أهل الكوفة يقرءونها كقراءة أبي كذلك : لله ، لله ، لله ، ثلاثتهنَّ . وأهل البصرة يقرءون الأخريين : الله ، الله ، وهو في العربية أبين ، لأنه مردود مرفوع ؛ ألا ترى أن قوله : { قل من رب السماوات } مرفوع ، لا خفض فيه ، فجرى جوابه على مبتدأ به ، وكذلك هي في قراءة عبد الله . والعلة في إدخال اللام في الأخريين في قول أبي وأصحابه : أنك لو قلت لرجل : من مولاك ؟ فقال : أنا لفلان ، كفاك من أن يقول : مولاي فلان ، فلما كان المعنيان واحدًا ، جرى ذلك في كلامهم ؛ أنشدني بعض بني عامر " وأعلم أنني سأكون رمسا .. . " البيتين . فرفع ، أراد : الميت وزير . و النواجع : جمع ناجعة ، وهي الجماعة تترك منازلها في طلب الكلأ

(19/64)


وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : من بيده خزائن كلّ شيء ؟
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله( مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) قال : خزائن كل شيء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن مجاهد ، في قول الله : ( قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) قال : خزائن كل شيء.
وقوله( وَهُوَ يُجِيرُ ) من أراد ممن قصده بسوء ، ( وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ ) يقول : ولا أحد يمتنع ممن أراده هو بسوء ، فيدفع عنه عذابه وعقابه( إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) من ذلك صفته ، فإنهم يقولون : إن ملكوت كلّ شيء والقدرة على الأشياء كلها لله ، فقل لهم يا محمد : ( فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ) يقولون : فمن أيّ وجه تصرفون عن التصديق بآيات الله ، والإقرار بأخباره وأخبار رسوله ، والإيمان بأن الله القادر على كل ما يشاء ، وعلى بعثكم أحياء بعد مماتكم ، مع علمكم بما تقولون من عظيم سلطانه وقدرته ؟!
وكان ابن عباس فيما ذكر عنه يقول في معنى قوله( تُسْحَرُونَ ) ما حدثني به عليّ ، قال : ثنا عبد الله قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( فأنى تُسْحَرُونَ ) يقول : تكذبون.
وقد بيَّنت فيما مضى السِّحْر : أنه تخييل الشيء إلى الناظر أنه على خلاف ما هو به من هيئته ، فذلك معنى قوله : ( فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ) إنما معناه : فمن أيّ وجه يخيل إليكم الكذب حقا : والفاسد صحيحا ، فتصرفون عن الإقرار بالحقّ الذي يدعوكم إليه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.

(19/65)


بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)

القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) }

(19/65)


يقول : ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون بالله ، من أن الملائكة بنات الله ، وأن الآلهة والأصنام ألهة دون الله( بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ ) اليقين ، وهو الدين الذي ابتعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ، وذلك الإسلام ، ولا يُعْبَد شيء سوى الله ؛ لأنه لا إله غيره( وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) يقول : وإن المشركين لكاذبون فيما يضيفون إلى الله ، وينْحَلُونه من الولد والشريك ، وقوله : ( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ ) يقول تعالى ذكره : ما لله من ولد ، ولا كان معه في القديم ، ولا حين ابتدع الأشياء من تصلح عبادته ، ولو كان معه في القديم أو عند خلقه الأشياء من تصلح عبادته( مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ ) يقول : إذن لاعتزل كل إله منهم( بِمَا خَلَقَ ) من شيء ، فانفرد به ، ولتغالبوا ، فلعلا بعضهم على بعض ، وغلب القويّ منهم الضعيف ؛ لأن القويّ لا يرضى أن يعلوه ضعيف ، والضعيف لا يصلح أن يكون إلها ، فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها ، لمن عقل وتدبر. وقوله : ( إِذًا لَذَهَبَ ) جواب لمحذوف ، وهو : لو كان معه إله ، إذن لذهب كل إله بما خلق ، اجتزئ بدلالة ما ذكر عليه عنه. وقوله : ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) يقول تعالى ذكره ؛ تنزيها لله عما يصفه به هؤلاء المشركون من أن له ولدا ، وعما قالوه من أن له شريكا ، أو أن معه في القِدم إلها يُعبد تبارك وتعالى.
وقوله : ( عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) يقول تعالى ذكره : هو عالم ما غاب عن خلقه من الأشياء ، فلم يَرَوْه ولم يشاهدوه ، وما رأوه وشاهدوه ، إنما هذا من الله خبر عن هؤلاء الذين قالوا من المشركين : اتخذ الله ولدا وعبدوا من دونه آلهة ، أنهم فيما يقولون ويفعلون مبطلون مخطئون ، فإنهم يقولون ما يقولون من قول في ذلك عن غير علم ، بل عن جهل منهم به ، وإن العالم بقديم الأمور وبحديثها ، وشاهدها وغائبها عنهم الله الذي لا يخفى عليه شيء ، فخبره هو الحق دون خبرهم وقال : ( عَالِم الْغَيْبِ ) فرفع على الابتداء ، بمعنى : هو عالم الغيب ، ولذلك دخلت الفاء في قوله : ( فَتَعَالَى ) كما يقال : مررت بأخيك المحسن فأحسنت إليه ، فترفع المحسن إذا جعلت فأحسنت إليه بالفاء ؛ لأن معنى الكلام إذا كان كذلك : مررت بأخيك هو المحسن ، فأحسنت إليه. ولو جعل الكلام بالواو فقيل : وأحسنت إليه ، لم يكن وجه الكلام في المحسن إلا الخفض على النعت للأخ ، ولذلك لو جاء( فَتَعَالَى ) بالواو كان وجه الكلام في( عَالِمِ الْغَيْبِ ) الخفض على الاتباع لإعراب اسم الله ، وكان يكون معنى الكلام : سبحان الله عالم الغيب والشهادة

(19/66)


قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)

وتعالى! فيكون قوله( وَتَعَالى ) حينئذ معطوفا على سبحان الله ، وقد يجوز الخفض مع الفاء ؛ لأن العرب قد تبدأ الكلام بالفاء ، كابتدائها بالواو ، وبالخفض كأن يقرأ : ( عَالِمِ الْغَيْبِ ) في هذا الموضع أبو عمرو ، وعلى خلافه في ذلك قراءة الأمصار.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا الرفع لمعنيين : أحدهما : إجماع الحجة من القراء عليه ، والثاني : صحته في العربية.
وقوله : ( فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يقول تعالى ذكره : فارتفع الله وعلا عن شرك هؤلاء المشركين ، ووصفهم إياه بما يصفون.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : ربّ إنْ تُرَينّي في هؤلاء المشركين ما تعدهم من عذابك ، فلا تهلكني بما تهلكهم به ، ونجِّني من عذابك وسخطك ، فلا تجعلني في القوم المشركين ، ولكن اجعلني ممن رضيت عنه من أوليائك.
وقوله : ( فَلا تَجْعَلْنِي ) جواب لقوله : ( إِمَّا تُرِيَنِّي ) اعترض بينهما بالنداء ، ولو لم يكن قبله جزاء لم يجز ذلك في الكلام ، لا يقال : يا زيد فقم ، ولا يا رب فاغفر ؛ لأن النداء مستأنف ، وكذلك الأمر بعده مستأنف ، لا تدخله الفاء والواو ، إلا أن يكون جوابا لكلام قبله.
وقوله : ( وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ) يقول تعالى ذكره : وإنا يا محمد على أن نريك في هؤلاء المشركين ما نعدهم من تعجيل العذاب لهم ، لقادرون ، فلا يحْزُنَنَّك تكذيبهم إياك بما نعدهم به ، وإنما نؤخر ذلك ليبلغ الكتاب أجله.
القول في تأويل قوله تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) }
يقول تعالى ذكره لنبيه : ادفع يا محمد بالخلة التي هي أحسن ، وذلك الإغضاء والصفح عن جهلة المشركين والصبر على أذاهم ، وذلك أمره إياه قبل أمره بحربهم ،

(19/67)


وعنى بالسيئة : أذى المشركين إياه وتكذيبهم له فيما أتاهم به من عند الله ، يقول له تعالى ذكره : اصبر على ما تلقى منهم في ذات الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) قال : أعرض عن أذاهم إياك.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجَزَري ، عن مجاهد : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) قال : هو السلام ، تُسَلِّمُ عليه إذا لقيته.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) قال : والله لا يصيبها صاحبها حتى يكظم غيظا ، ويصفح عما يكره.
وقوله : ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ) يقول تعالى ذكره : نحن أعلم بما يصفون الله به ، وينحَلُونه من الأكاذيب والفِرية عليه ، وبما يقولون فيك من السوء ، ونحن مجازوهم على جميع ذلك ، فلا يحزنك ما تسمع منهم من قبيح القول.
وقوله : ( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد : ربّ أستجير بك من خنق (1) الشياطين وهمزاتها ، والهَمْزُ : هو الغَمْز ، ومن ذلك قيل للهمز في الكلام : هَمْزة ، والهَمَزَاتُ جمع همزة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ) قال : همزات الشياطين : خَنْقهم الناس ، فذلك هَمَزاتهم.
__________
(1) في غريب القرآن للراغب الأصفهاني : ( همز ) : " الهمز كالعصر " وهو مناسب لقول المؤلف : خنق الشياطين ؛ لأن الخنق هو عصر الرقبة وضغطها لينقطع النفس

(19/68)


حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

وقوله : ( وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) يقول : وقل أستجير بك ربِّ أن يحضرون في أموري.
كالذي حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) في شيء من أمري.
القول في تأويل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) }
يقول تعالى ذكره : حتى إذا جاء أحدَ هؤلاء المشركين الموتُ ، وعاين نزول أمر الله به ، قال : - لعظيم ما يعاين مما يَقْدم عليه من عذاب الله تندّما على ما فات ، وتلهُّفا على ما فرط فيه قبل ذلك ، من طاعة الله ومسألته للإقالة - : ( رَبِّ ارْجِعُونِ ) إلى الدنيا فردّوني إليها ، ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا ) يقول : كي أعمل صالحا فيما تركت قبل اليوم من العمل فضيعته ، وفرّطت فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، قال : كان محمد بن كعب القرظي يقرأ علينا : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) قال محمد : إلى أيّ شيء يريد ؟ إلى أيّ شيء يرغب ؟ أجمع المال ، أو غَرْس الغِراس ، أو بَنْي بُنيان ، أو شق أنهار ؟ : ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ) يقول الجبار : كلا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( رَبِّ ارْجِعُونِ ) قال : هذه في الحياة الدنيا ، ألا تراه يقول : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) قال : حين تنقطع الدنيا ، ويعاين الآخرة ، قبل أن يذوق الموت.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : " إذَا عايَنَ المُؤْمِنُ المَلائِكَةَ قالُوا : نُرْجِعُكَ إلى الدُّنْيَا ؟ فَيَقُولُ : إلى دار الهُمُومِ والأحْزَان ؟ فَيَقُولُ : بَلْ قَدّمَانِي إلى الله ، وأمَّا الكافِرُ فَيُقال : نُرْجِعُكَ ؟ فَيَقُولُ : ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ )... " الآية.

(19/69)


حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) يعني أهل الشرك ، وقيل : ربّ ارجعون ، فابتدأ الكلام بخطاب الله تعالى ، ثم قيل : ارجعون فصار إلى خطاب الجماعة ، والله تعالى ذكره واحد. وإنما فعل ذلك كذلك ؛ لأن مسألة القوم الرد إلى الدنيا إنما كانت منهم للملائكة الذين يقبضون روحهم ، كما ذكر ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله. وإنما ابتدئ الكلام بخطاب الله جل ثناؤه ، لأنهم استغاثوا به ، ثم رجعوا إلى مسألة الملائكة الرجوع والرد إلى الدنيا.
وكان بعض نحويي الكوفة يقول : قيل ذلك كذلك ؛ لأنه مما جرى على وصف الله نفسه من قوله : ( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) في غير مكان من القرآن ، فجرى هذا على ذلك.
قوله : ( كَلا ) يقول تعالى ذكره : ليس الأمر على ما قال هذا المشرك ، لن يُرْجع إلى الدنيا ، ولن يعاد إليها( كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) يقول : هذه الكلمة ، وهو قوله : ( رَبِّ ارْجِعُونِ ) كلمة هو قائلها يقول : هذا المشرك هو قائلها.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) لا بد له أن يقولها يقول( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ) يقول : ومن أمامهم حاجز يحجز بينهم وبين الرجوع ، يعني : إلى يوم يبعثون من قبورهم ، وذلك يوم القيامة ، والبرزخ والحاجز والمُهْلة متقاربات في المعنى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول : أجل إلى حين.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ) قال : ما بعد الموت.
حدثني أبو حميد الحِمْصي أحمد بن المغيرة ، قال : ثنا أبو حَيْوة شريح بن يزيد ، قال : ثنا أرطأة ، عن أبي يوسف قال : خرجت مع أبي أمامة في جنازة ، فلما وُضِعت في لحدها ، قال أبو أمامة : هذا برزخ إلى يوم يُبعثون.

(19/70)


فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا مطر ، عن مجاهد ، قوله : ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال : ما بين الموت إلى البعث.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال : حجاب بين الميت والرجوع إلى الدنيا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال : برزخ بقية الدنيا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادَة ، مثله.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ومن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال : البرزخ ما بين الموت إلى البعث.
حُدِّثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عُبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : البرزخ : ما بين الدنيا والآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ (101) }
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ ) من النفختين أيّتُهما عُنِيَ بِها ، فقال بعضهم : عُنِي بها النفخة الأولى.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام بن سلم ، قال : ثنا عمرو بن مطرف ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبير ، أن رجلا أتى ابن عباس فقال : سمعت الله يقول : ( فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ). .. الآية ، وقال في آية أخرى : ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) فقال : أما قوله : ( فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) فذلك في النفخة الأولى ، فلا يبقى على الأرض شيء( فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) وأما قوله : ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) فإنهم لما دخلوا الجنة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.

(19/71)


حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن السدي ، في قوله : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) قال : في النفخة الأولى.
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) فذلك حين ينفخ في الصور ، فلا حي يبقى إلا الله( وأقبل بعضهم على بعض يَتَسَاءَلُونَ )فذلك إذا بُعثوا في النفخة الثانية.
قال أبو جعفر : فمعنى ذلك على هذا التأويل : فإذا نفخ في الصور ، فصَعِق مَنْ في السماوات وَمَن في الأرض إلا مَنْ شاء الله ، فلا أنساب بينهم يومئذ يتواصلون بها ، ولا يتساءلون ، ولا يتزاورون ، فيتساءلون عن أحوالهم وأنسابهم.
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك النفخة الثانية.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن هارون بن أبي وكيع ، قال : سمعت زاذان يقول : أتيت ابن مسعود ، وقد اجتمع الناس إليه في داره ، فلم أقدر على مجلس ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن ، من أجل أني رجل من العجم تَحْقِرُني ؟ قال : ادْنُ! قال : فدنوت ، فلم يكن بيني وبينه جليس ، فقال : يؤخَذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة على رءوس الأوّلين والآخرين ، قال : وينادي مناد : ألا إن هذا فلان ابن فلان ، فمن كان له حق قبله فليأت إلى حقه ، قال : فتفرح المرأة يومئذ أن يكون لها حقّ على ابنها ، أو على أبيها ، أو على أخيها ، أو على زوجها( فلا أنساب بينهم يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن هارون بن عنترة ، عن زاذان ، قال : سمعت ابن مسعود يقول : يؤخذ العبد أو الأمة يوم القيامة ، فينصب على رءوس الأولين والآخرين ، ثم ينادي مناد ، ثم ذكر نحوه ، وزاد فيه : فيقول الربّ تبارك وتعالى للعبد : أعط هؤلاء حقوقهم ، فيقول : أي ربّ ، فَنِيت الدنيا ، فمن أين أعطيهم ؟ فيقول للملائكة : خذوا من أعماله الصالحة وأعطوا لكل إنسان بقدر طلبته ، فإن كان له فضلُ مثقال حبة من خردل ضاعفها الله له حتى يدخله بها الجنة ، ثم تلا ابن مسعود( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا )وإن كان عبدا شقيا ، قالت الملائكة : ربنا ، فنيت حسناتُه وبقي طالبون كثير ، فيقول : خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته ، وصُكُّوا له صَكًّا إلى النار.

(19/72)


فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)

قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) قال : لا يسأل أحد يومئذ بنسب شيئا ، ولا يتساءلون ، ولا يمتُّ إليه برحم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني محمد بن كثير ، عن حفص بن المغيرة ، عن قتادة ، قال : ليس شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعافه ، مخافة أن يذوب له عليه شيء ، ثم قرأ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) .
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا الحكم بن سنان ، عن سدُوس صاحب السائريّ ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةِ ، وأهْلُ النَّار النَّارَ ، نادى مُنادٍ منْ أهْلِ العَرْشِ : يا أهْلَ التَّظالُمِ تَدَارَكُوا مَظالمكُمْ ، وادْخُلوا الجنَّةَ. " .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) }
يقول تعالى ذكره : ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) موازين حسناته ، وخفت موازين سيئاته( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) يعني : الخالدون في جنات النعيم( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) يقول ومن خفَّت موازين حسناته فرجَحَت بها موازين سيئاته( فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) يقول : غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله( فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) يقول : هم في نار جهنم.
وقوله : ( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) يقول : تَسْفَع وُجوهَهم النارُ.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) قال : تنفح( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ) والكلوح : أن تتقلص الشفتان عن الأسنان ، حتى تبدو الأسنان ، كما قال الأعشى :
وَلَهُ المُقْدَمُ لا مِثْلَ لَه... ساعة الشِّدْق عَنِ النَّابِ كَلَحْ (1)
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة ( ديوانه ص 241 بشرح الدكتور محمد حسين ، طبع القاهرة ) . والرماية فيه في الحرب " إذا " في موضع " لا مثل له " . والمقدم بضم الميم مصدر بمعنى الإقدام . وكلح الشدق : كشر عن الأنياب في عبوس .
يمدح إياس بن قبيصة الطائي ، بأن من صفاته الإقدام في الحرب حين تكره الأبطال النزال ، وتكشر أشداقهم عن أنيابهم ، كرها للحرب ، واستشهد به المؤلف هنا على أن معنى الكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان حتى تبدو الأسنان

(19/73)


فتأويل الكلام : يَسْفَع وجوههم لهبُ النار فتحْرقها ، وهم فيها متقلصو الشفاه عن الأسنان ؛ من إحراق النار وجوههم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ) يقول : عابسون.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، في قوله : ( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ) قال : ألم تر إلى الرأس المشيط قد بدت أسنانه ، وقَلَصت شفتاه .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عن عبد الله ، قرأ هذه الآية( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ). .. الآية ، قال : ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار ، وقد قلصت شفتاه وبدت أسنانه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ) قال : ألم تر إلى الغنم إذا مست النار وجوهها كيف هي ؟ .

(19/47)


أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) }
يقول تعالى ذكره : يقال لهم( أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ) يعني آيات القرآن تتلى عليكم في الدنيا( فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) وترك ذكر يقال ؛ لدلالة الكلام عليه( قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ) .
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : ( غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ) بكسر الشين ، وبغير ألف ، وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة :

(19/47)


" شَقاوَتُنا " بفتح الشين والألف.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان ، وقرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وتأويل الكلام : قالوا : ربنا غلبت علينا ما سبق لنا في سابق علمك وخطّ لنا في أمّ الكتاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزَّة ، عن مجاهد ، قوله : ( غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ) قال : التي كتبت علينا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ) التي كتبت علينا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
وقال ، قال ابن جريج : بلغنا أن أهل النار نادوا خَزَنة جهنم : أنْ( ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ) فلم يجيبوهم ما شاء الله فلما أجابوهم بعد حين قالوا : ( فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ) قال : ثم نادوا مالكا( يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) فسكت عنهم مالك خازن جهنم ، أربعين سنة ثم أجابهم فقال : ( إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ) ثم نادى الأشقياء ربهم ، فقالوا : ( رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ) فسكت عنهم مثل مقدار الدنيا ، ثم أجابهم بعد ذلك تبارك وتعالى( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ .
قال (1) ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : ينادي أهلُ النار أهلَ الجنة فلا يجيبونهم ما شاء الله ، ثم يقال : أجيبوهم ، وقد قطع الرَّحم والرحمة ، فيقول أهل الجنة : يا أهل النار ، عليكم غضب الله ، يا أهل النار ، عليكم لعنة الله ، يا أهل النار ، لا لبَّيْكم ولا سَعْدَيْكُم ، ماذا تقولون ؟ فيقولون : ألم نك في الدنيا آباءكم وأبناءكم وإخوانكم وعشيرتكم ، فيقولون : بلى ، فيقولون : ( أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ
__________
(1) لعل القائل هنا أيضًا : هو القاسم ، راوي الحديث بالإسناد السابق على هذا

(19/75)


أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ).
قال (1) ثني حجاج عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القُرظِي ، قال : ثني عَبْدة المروزِيّ ، عن عبد الله بن المبارك ، عن عمرو بن أبي ليلى ، قال : سمعت محمد بن كعب ، زاد أحدهما على صاحبه : قال محمد بن كعب : بلغني ، أو ذُكر لي ، أن أهل النار استغاثوا بالخزنة ، ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب ، فردّوا عليهم ما قال الله ، فلما أيسوا نادَوا : يا مالك ، وهو عليهم ، وله مجلس في وسطها ، وجسور تمرّ عليها ملائكة العذاب ، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها ، فقالوا : يا مالك ، ليقض علينا ربك ، سألوا الموت ، فمكث لا يجيبهم ثمانين ألفَ سنة من سني الآخرة ، أو كما قال ، ثم انحط إليهم ، فقال : ( إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ) فلما سمعوا ذلك قالوا : فاصبروا ، فلعلّ الصبر ينفعنا ، كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله ، قال : فصبروا ، فطال صبرهم ، فنادوا( سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ) أي مَنْجى. فقام إبليس عند ذلك فخطبهم ، فقال : ( إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ فلما سمعوا مقالته ، مَقَتُوا أنفسهم ، قال : فنُودوا( لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا ) الآية ، قال : فيجيبهم الله( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) قال : فيقولون : ما أيسنا بعد ؛ قال : ثم دعوا مرّة أخرى ، فيقولون : ( رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ) قال : فيقول الرب تبارك وتعالى : ( وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ) يقول الرب : لو شئت لهديت الناس جميعا ، فلم يختلف منهم أحد( وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ) يقول : بما تركتم أن تعملوا ليومكم هذا( إِنَّا نَسِينَاكُمْ ) أي تركناكم( وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال : فيقولون : ما أيسنا بعد ، قال : فيدعون مرّة أخرى : ( رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ )قال : فيقال لهم : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)... الآية ، قال : فيقولون : ما أيسنا بعد ثم قالوا مرّة أخرى : ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) قال : فيقول : ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ
__________
(1) لعل القائل هنا أيضًا : هو القاسم ، راوي الحديث بالإسناد السابق على هذا

(19/76)


رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)

النَّذِيرُ ) إلى : ( نَصِير ) ، ثم مكث عنهم ما شاء الله ، ثم ناداهم : ( أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) فلما سمعوا ذلك قالوا : الآن يرحمنا ، فقالوا عند ذلك : ( رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ) أي : الكتاب الذي كتب علينا( وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ) الآية ، فقال عند ذلك : ( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) قال : فلا يتكلمون فيها أبدا ، فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء منهم. وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض ، فأطبقت عليهم. قال عبد الله بن المبارك في حديثه : فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه قال : فذلك قوله : ( هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ . )
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، أنه قال : فوالذي أنزل القرآن على محمد ، والتوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى ، ما تكلم أهل النار كلمة بعدها إلا الشهيق والزَّعيق في الخلد أبدا ، ليس له نفاد.
قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، قال : كنا في جنازة ومعنا أبو جعفر القارئ ، فجلسنا ، فتنحى أبو جعفر ، فبكى ، فقيل له : ما يبكيك يا أبا جعفر ؟ قال : أخبرني زيد بن أسلم أن أهل النار لا يتنفسون.
وقوله : ( وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ) يقول : كنا قوما ضَلَلْنا عن سبيل الرشاد ، وقصد الحقّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (108) }
يقول تعالى ذكره ، مخبرا عن قيل الذين خفَّت موازين صالح أعمالهم يوم القيامة في جهنم : ربنا أخرجنا من النار ، فإن عدنا لما تكره منا من عمل ، فإنا ظالمون.
وقوله : ( قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا ) يقول تعالى ذكره : قال الربّ لهم جلّ ثناؤه مجيبا( اخْسَئُوا فِيهَا ) أي : اقعدوا في النار ، يقال منه : خَسَأتْ فلانا أخْسَؤُه خَسْأً وخُسُوءا ، وخَسيء هو يخسَأ ، وما كان خاسئا ، ولقد خَسِيء ، ( ولا تُكَلِّمُونِ ) فعند ذلك أيس المساكين من الفرج ، ولقد كانوا طامعين فيه.
كما حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مَهْديّ ، قال : ثنا سفيان ، عن سَلمة بن كُهَيل ، قال : ثني أبو الزعراء ، عن عبد الله ، في قصة ذكرها في الشفاعة ، قال : فإذا أراد الله ألا يُخْرج منها ، يعني من النارأحدا ، غير وجوههم وألوانها ، فيجيء الرجل

(19/77)


من المؤمنين فيشفع فيهم ، فيقول : يا ربّ ، فيقول : من عرف أحدا فليخرجه ؛ قال : فيجيء الرجل فينظر فلا يعرف أحدا ، فيقول : يا فلان يا فلان ، فيقول : ما أعرفك. فعند ذلك يقولون : ( ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فَيَقُولُ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) فإذا قالوا ذلك ؛ انطبقت عليهم جهنم فلا يخرج منها بشر.
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرّة ، عن شَهر بن حَوْشب ، عن معدي كرب ، عن أبي الدَّرْداء ، قال : يرسل أو يصبّ على أهل النار الجوع ، فيعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون ، فيغاثون بالضريع ، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، فلا يغني ذلك عنهم شيئا فيستغيثون ، فيغاثون بطعام ذي غُصّة ، فإذا أكلوه نَشِب في حلوقهم ، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يحدرون الغصة بالماء ، فيستغيثون ، فيرفع إليهم الحميم في كلاليب الحديد ، فإذا انتهى إلى وجوههم شوى وجوههم ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم ، قال : فينادون مالكا : لِيَقْضِ علينا ربك ، قال : فيتركهم ألف سنة ، ثم يجيبهم : إنكم ماكثون ، قال : فينادون خزنة جهنم : ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب ، قالوا : أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ؟ قالوا : بلي ، قالوا : فادعوا ، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ، قال : فيقولون ما نجد أحدا خيرا لنا من ربنا ، فينادون ربهم( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ) قال : فيقول الله : ( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) قال : فعند ذلك يئسوا من كل خير ، فيدعون بالويل والشَّهيق والثُّبور.
حدثني محمد بن عُمارة الأسديّ ، قال : ثنا عاصم بن يوسف اليربوعي ، قال : ثنا قُطْبة بن عبد العزيز الأسديّ ، عن الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن شهر بن حوشب ، عن أمّ الدرداء ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يُلْقَى على أهْلِ النَّارِ الجُوع... " ثم ذكر نحوًا منه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن هارون بن عنترة ، عن عمرو بن مرّة ، قال : يرى أهل النار في كل سبعين عاما ساق مالك ، خازن النار ، فيقولون : ( يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) فيجيبهم بكلمة ، ثم لا يرونه سبعين عاما فيستغيثون بالخَزَنة ، فيقولون لهم : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ) فيجيبونهم( أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ...)الآية. فيقولون : ادعوا ربكم ، فليس أحد أرحم

(19/78)


إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)

من ربكم ، فيقولون : ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ) قال : فيجيبهم ، : ( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) فعند ذلك ييأسُون من كلّ خير ، ويأخذون في الشهيق والوَيْل والثُّبور.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) قال : بلغني أنهم ينادُون مالكا فيقولون( : لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) فيسكت عنهم قدر أربعين سنة ، ثم يقول : ( إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ) قال : ثم ينادون ربهم ، فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ، ثم يقول : ( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) قال : فييأس القوم فلا يتكلمون بعدها كلمة ، وكان إنما هو الزفير والشهيق ، قال قتادة : صوت الكافر في النار مثل صوت الحمار ، أوّله زفير ، وآخره شهيق.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الله بن عيسى ، قال : أخبرني زياد الخراسانيّ ، قال : أسنده إلى بعض أهل العلم ، فنسيته ، في قوله : ( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) قال : فيسكتون ، قال : فلا يسمع فيها حس إلا كطنين الطَّسْت.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ) هذا قول الرحمن عزّ وجلّ ، حين انقطع كلامهم منه.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) }
يقول تعالى ذكره : ( إِنَّهُ ) وهذه الهاء في قوله " إنه " هي الهاء التي يسميها أهل العربية المجهولة ، وقد بينت معناها فيما مضى قبلُ. ومعنى دخولها في الكلام ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع( كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي ) يقول : كانت جماعة من عبادي ، وهم أهل الإيمان بالله ، يقولون في الدنيا : ( رَبَّنَا آمَنَّا ) بك وبرسلك ، وما جاءوا به من عندك( فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ) وأنت خير من رحم أهل البلاء ، فلا تعذبنا بعذابك.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ

(19/79)


إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)

الْفَائِزُونَ (111) }
يقول تعالى ذكره : فاتخذتم أيها القائلون لربكم( رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ) في الدنيا ، القائلين فيها : ( رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) سُخْريا. والهاء والميم في قوله : ( فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ ) من ذكر الفريق.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( سُخْرِيًّا ) فقرأه بعض قرّاء الحجاز وبعض أهل البصرة والكوفة( فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ) بكسر السين ، ويتأوّلون في كسرها أن معنى ذلك الهزء ، ويقولون : إنها إذا ضُمت فمعنى الكلمة : السُّخْرة والاستعباد. فمعنى الكلام على مذهب هؤلاء : فاتخذتم أهل الإيمان بي في الدنيا هُزُؤًا ولعبا ، تهزءون بهم ، حتى أنسوكم ذكري. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة : ( فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سُخْرِيًّا ) بضم السين ، وقالوا : معنى الكلمة في الضمّ والكسر واحد. وحكى بعضهم عن العرب سماعا لِجِّيّ ولُجِّي ، ودِرِيّ ، ودُرِيّ ، منسوب إلى الدرّ ، وكذلك كِرسيّ وكُرسيّ ؛ وقالوا ذلك من قيلهم كذلك ، نظير قولهم في جمع العصا : العِصِيّ بكسر العين ، والعُصِيّ بضمها; قالوا : وإنما اخترنا الضم في السِّخري ؛ لأنه أفصح اللغتين.
والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان مشهورتان ، ولغتان معروفتان بمعنى واحد ، قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارئ ذلك فمصيب ، وليس يُعْرف من فرق بين معنى ذلك إذا كسرت السين وإذا ضمت ؛ لما ذكرت من الرواية عمن سمع من العرب ما حَكَيت عنه.
ذكر الرواية به عن بعض من فَرَّق في ذلك بين معناه مكسورة سينه ومضمومة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ) قال : هما مختلفتان : سِخريا ، وسُخريا ، يقول الله : ( وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سِخْرِيًّا ) قال : هذا سِخريّا : يُسَخِّرونهم ، والآخرون : الذين يستهزئون بهم هم سُخريًّا ، فتلك سِخريًّا يُسَخرونهم عندك ، فسخَّرك رفعك فوقه ، والآخرون : استهزءوا بأهل الإسلام هي : سُخريّا يَسْخَرون منهم. فهما مختلفتان. وقرأ قول الله : ( وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) وقال : يسخرون منهم كما سخر قوم نوح بنوح ، اتخذوهم سُخريًّا : اتخذوهم هُزُؤًا ، لم يزالوا يستهزئون بهم.

(19/80)


وقوله : ( حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ) يقول : لم يزل استهزاؤكم بهم ، أنساكم ذلك من فعلكم بهم ذكري ، فألْهَاكم عنه( وكنتم منهم تضحكون ) .
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ) قال : أنسى هؤلاء الله استهزاؤُهم بهم ، وضحكهم بهم ، وقرأ : ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ) حتى بلغ : ( إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ ). وقوله : ( إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا ) يقول تعالى ذكره : إني أيُّها المشركون بالله المخلَّدون في النار ، جَزَيْت الذين اتخذتموهم في الدنيا سخريا من أهل الإيمان بي ، وكنتم منهم تضحكون اليوم ، بما صبروا على ما كانوا يلقَون بينكم من أذى سخريتكم وضحككم منهم في الدنيا( أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ).
اختلفت القرّاء في قراءة : " إنَّهُمْ " فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ، وبعض أهل الكوفة : ( " أنَّهُمْ " بفتح الألف من " أنهم " بمعنى : جزيتهم هذا ، فأن في قراءة هؤلاء في موضع نصب ، بوقوع قوله جزيتهم عليها ؛ لأن معنى الكلام عندهم : إني جزيتهم اليوم الفوز بالجنة ؛ وقد يحتمل النصب من وجه آخر ، وهو أن يكون موجَّها معناه : إلى أني جزيتهم اليوم بما صبروا ؛ لأنهم هم الفائزون بما صبروا في الدنيا ، على ما لَقُوا في ذات الله ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : " إنّي " بكسر الألف منها ، بمعنى الابتداء ، وقالوا : ذلك ابتداء من الله مدحهم.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بكسر الألف ؛ لأن قوله : " جَزَيْتُهُم " ، قد عمل في الهاء والميم ، والجزاء إنما يعمل في منصوبين ، وإذا عمل في الهاء والميم لم يكن له العمل في " أن " فيصير عاملا في ثلاثة إلا أن ينوي به التكرير ، فيكون نصب " أنّ " حينئذ بفعل مضمر ، لا بقوله : جزيتهم ، وإن هي نصبت بإضمار لام ، لم يكن له أيضا كبير معنى; لأن جزاء الله عباده المؤمنين بالجنة ، إنما هو على ما سَلَف من صالح أعمالهم في الدنيا ، وجزاؤه إياهم ، وذلك في الآخرة هو الفوز ، فلا معنى لأن يَشْرُط لهم الفوز بالأعمال ثم يخبر أنهم إنما فازوا ، لأنهم هم الفائزون.
فتأويل الكلام إذ كان الصواب من القراءة ما ذكرنا : إني جزيتهم اليوم الجنة بما صبروا في الدنيا على أذاكم بها في أنهم اليوم هم الفائزون بالنعيم الدائم والكرامة الباقية أبدا ؛ بما عملوا من صالحات الأعمال في الدنيا ، ولقوا في طلب رضاي من المكاره فيها.

(19/81)


قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ) وفي قوله : ( لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة على وجه الخبر : ( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ ) ، وكذلك قوله : ( قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ ). ووجه هؤلاء تأويل الكلام إلى أن الله قال لهؤلاء الأشقياء من أهل النار وهم في النار : ( كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ) ؟ وأنهم أجابوا الله فقالوا : ( لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) ، فنسِي الأشقياء ؛ لعظيم ما هم فيه من البلاء والعذاب مدة مكثهم التي كانت في الدنيا ، وقَصُرَ عندهم أمد مكثهم الذي كان فيها ؛ لما حلّ بهم من نقمة الله ، حتى حسبوا أنهم لم يكونوا مكثوا فيها إلا يوما أو بعض يوم. ولعلّ بعضهم كان قد مكث فيها الزمان الطويل ، والسنين الكثيرة.
وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة على وجه الأمر لهم بالقول ، كأنه قال لهم : قولوا كم لبثتم في الأرض ؟ وأخرج الكلام مخْرج الأمر للواحد ، والمعنيُّ به الجماعة ، إذ كان مفهوما معناه ، وإنما اختار هذه القراءة من اختارها من أهل الكوفة ؛ لأن ذلك في مصاحفهم : " قُلْ " بغير ألف ، وفي غير مصاحفهم بالألف.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ ذلك : ( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ ) على وجه الخبر ، لأن وجه الكلام لو كان ذلك أمرا ، أن يكون قولوا على وجه الخطاب للجمع; لأن الخطاب فيما قبل ذلك وبعده ، جرى لجماعة أهل النار ، فالذي هو أولى أن يكون كذلك قوله قولوا لو كان الكلام جاء على وجه الأمر ، وإن كان الآخر جائزا ، أعني التوحيد ، لما بيَّنت من العلة لقارئ ذلك كذلك ، وجاء الكلام بالتوحيد في قراءة جميع القراء ، كان معلوما أن قراءة ذلك على وجه الخبر عن الواحد أشبه ، إذ كان ذلك هو الفصيح المعروف من كلام العرب ، فإذا كان ذلك ذلك ، فتأويل الكلام : قال الله كم لبثتم في الدنيا من عدد سنين ؟ قالوا مجيبين له : لبثنا فيها يوما أو بعض يوم ، فاسأل العادّين ، لأنا لا ندري ، قد نسينا ذلك.
واختلف أهل التأويل في المعني بالعادين ، فقال بعضهم : هم الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ، ويُحْصُون عليهم ساعاتهم.

(19/82)


قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)

*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ) قال : الملائكة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقال آخرون : بل هم الحُسّاب.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ( فاسأل الْعَادِّينَ ) قال : فاسأل الحُسّاب.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة : ( فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ) قال : فاسأل أهل الحساب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه : ( فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ) وهم الذين يَعُدّون عدد الشهور والسنين وغير ذلك ، وجائز أن يكونوا الملائكة ، وجائز أن يكونوا بني آدم وغيرهم ، ولا حجة بأيّ ذلك من أيّ ثبتت صحتها ، فغير جائز توجيه معنى ذلك إلى بعض العادّين دون بعض.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا ) اختلافهم في قراءة قوله : ( قال كم لبثتم ) والقول عندنا في ذلك في هذا الموضع ، نحو القول الذي بيَّناه قبل في قوله : ( كَمْ لَبِثْتُمْ ) وتأويل الكلام على قراءتنا : قال الله لهم : ما لبثتم في الأرض إلا قليلا يسيرا ، لو أنكم كنتم تعلمون قدر لبثكم فيها.
وقوله : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ) يقول تعالى ذكره : أفحسبتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم إذ خلقناكم ، لعبا وباطلا وأنكم إلى ربكم بعد مماتكم لا تصيرون أحياء ، فتجزون بما كنتم في الدنيا تعملون ؟ .

(19/83)


فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)

وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قرّاء المدينة والبصرة والكوفة : ( لا تُرْجَعُونَ ) بضَمّ التاء : لا تُردّون ، وقالوا : إنما هو من مَرْجِع الآخرة ، لا من الرجوع إلى الدنيا ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة " لا تَرْجِعُونَ " وقالوا : سواء في ذلك مرجع الآخرة ، والرجوع إلى الدنيا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إنهما قراءتان متقاربتا المعنى; لأن من ردّه الله إلى الآخرة من الدنيا بعد فنائه ، فقد رَجَع إليها ، وأن من رجع إليها ، فبردّ الله إياه إليها رجع. وهما مع ذلك قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ) قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ) قال : باطلا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) }
يقول تعالى ذكره : فتعالى الله الملك الحق عما يصفه به هؤلاء المشركون ، من أن له شريكا ، وعما يضيفون إليه من اتخاذ البنات( لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) يقول : لا معبود تنبغي له العبودة إلا الله الملك الحقّ( رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) والربُّ : مرفوع بالردّ على الحقّ ، ومعنى الكلام : فتعالى الله الملك الحقّ ، ربّ العرش الكريم ، لا إله إلا هو.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) }
يقول تعالى ذكره : ومن يدع مع المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له معبودا آخر ، لا حجة له بما يقول ، ويعمل من ذلك ولا بينة.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ) قال : بينة.

(19/84)


وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ) قال : حُجة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزَّة ، عن مجاهد ، في قوله : ( لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ) قال : لا حجة.
وقوله : ( فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) يقول : فإنما حساب عمله السَّيِّئ عند ربه وهو مُوَفِّيه جزاءه إذا قدم عليه( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) يقول : إنه لا ينجح أهل الكفر بالله عنده ولا يدركون الخلود والبقاء في النعيم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد : ربّ استر عليّ ذنوبي بعفوك عنها ، وارحمني بقبول توبتك ، وتركك عقابي على ما اجترمت( وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) يقول : وقل : أنت يا ربّ خير من رحم ذا ذنب ، فقبل توبته ، ولم يعاقبه على ذنبه.
آخر تفسير سورة المؤمنون

(19/85)


سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)

تفسير سورة النور
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : ( سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا ) وهذه السورة أنزلناها. وإنما قلنا معنى ذلك كذلك ؛ لأن العرب لا تكاد تبتدئ بالنكرات قبل أخبارها إذا لم تكن جوابا ، لأنها توصل كما يوصل الذي ، ثم يخبر عنها بخبر سوى الصلة ، فيستقبح الابتداء بها قبل الخبر إذا لم تكن موصولة ، إذ كان يصير خبرها إذا ابتدئ بها كالصلة لها ، ويصير السامع خبرها كالمتوقع خبرها ، بعد إذ كان الخبر عنها بعدها ، كالصلة لها ، وإذا ابتدئ بالخبر عنها قبلها ، لم يدخل الشك على سامع الكلام في مراد المتكلم. وقد بيَّنا فيما مضى قبل ، أن السورة وصف لما ارتفع بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله : ( وَفَرَضْنَاهَا ) فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأه بعض قرّاء الحجاز والبصرة : " وفَرَضْناهَا " ويتأولونه : وفصَّلناها ونزلنا فيها فرائض مختلفة. وكذلك كان مجاهد يقرؤه ويتأوّله.
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا ابن مهدي ، عن عبد الوارث بن سعيد ، عن حميد ، عن مجاهد ، أنه كان يقرؤها : " وَفَرَّضْناهَا " يعني بالتشديد.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " وَفَرَّضْنَاها " قال : الأمر بالحلال ، والنهي عن الحرام.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله. وقد يحتمل ذلك إذا قرئ بالتشديد وجها غير الذي ذكرنا عن مجاهد ،

(19/86)


الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)

وهو أن يوجه إلى أن معناه : وفرضناها عليكم وعلى من بعدكم من الناس إلى قيام الساعة. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والشأم( وَفَرَضْنَاهَا ) بتخفيف الراء ، بمعنى : أوجبنا ما فيها من الأحكام عليكم ، وألزمناكموه وبيَّنا ذلك لكم.
والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذلك أن الله قد فصلها ، وأنزل فيها ضروبًا من الأحكام ، وأمر فيها ونهى ، وفرض على عباده فيها فرائض ، ففيها المعنيان كلاهما : التفريض ، والفرض ، فلذلك قلنا بأية القراءتين قرأ القارئ فمصيب الصواب.
*ذكر من تأوّل ذلك بمعنى الفرض ، والبيان من أهل التأويل.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَفَرَضْنَاهَا ) يقول : بيَّناها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ) قال : فرضناها لهذا الذي يتلوها مما فرض فيها ، وقرأ فيها : ( آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ).
وقوله : ( وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) يقول تعالى ذكره : وأنزلنا في هذه السورة علامات ودلالات على الحقّ بينات ، يعني واضحات لمن تأمَّلَها وفكَّر فيها بعقل أنها من عند الله ، فإنها الحقّ المبين ، وإنها تهدي إلى الصراط المستقيم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) قال : الحلال والحرام والحدود( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) يقول : لتتذكروا بهذه الآيات البينات التي أنزلناها.
القول في تأويل قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) }
يقول تعالى ذكره : من زنى من الرجال أو زنت من النساء ، وهو حرّ بكر غير محصن بزوج ، فاجلدوه ضربا مئة جلدة ، عقوبة لما صنع وأتى من معصية الله.( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره : لا تأخذكم بالزاني والزانية أيها المؤمنون رأفة ،

(19/90)


وهي رقة الرحمة في دين الله ، يعني في طاعة الله فيما أمركم به من إقامة الحد عليهما على ما ألزمكم به.
واختلف أهل التأويل في المنهيّ عنه المؤمنون من أخذ الرأفة بهما ، فقال بعضهم : هو ترك إقامة حدّ الله عليهما ، فأما إذا أقيم عليهما الحد فلم تأخذهم بهما رأفة في دين الله.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، قال : جلد ابنُ عمر جاريةً له أحدثت ، فجلد رجليها ، قال نافع : وحسبت أنه قال : وظهرها ، فقلت : ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) فقال : وأخذتني بها رأفة ؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عبد الله بن أبي مليكة يقول : ثني عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، أن عبد الله بن عمر حدّ جارية له ، فقال للجالد ، وأشار إلى رجلها ، وإلى أسفلها ، قلت : فأين قول الله : ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال : أفأقتلها ؟ .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) فقال : أن تقيم الحدّ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال : لا تضيعوا حدود الله.
قال ابن جُرَيج : وقال مجاهد : ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ) : لا تضيعوا الحدود في أن تقيموها ، وقالها عطاء بن أبي رباح.
حدثنا أبو هشام ، قال : ثنا عبد الملك وحجاج ، عن عطاء( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال : يقام حد الله ولا يعطل ، وليس بالقتل.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني محمد بن فضيل ، عن داود ، عن سعيد بن جبير ، قال : الجلد.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : ثنا محمد بن فضيل ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال : الضرب.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت عمران ، قال : قلت

(19/91)


لأبي مجلز : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا )... إلى قوله : ( وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل حدًّا ، أو تقطع يده قال : إنما ذاك أنه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم الحدّ.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال : لا تقام الحدود.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ) فتدعوهما من حدود الله التي أمر بها وافترضها عليهما.
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، أنه سأل سليمان بن يسار ، عن قول الله : ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) أي في الحدود أو في العقوبة ؟ قال : ذلك فيهما جميعا.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : ثنا يحيى بن زكريا ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء في قوله : ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال : أن يقام حد الله ولا يعطَّل ، وليس بالقتل.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء ، عن عامر في قوله : ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال : الضرب الشديد.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ) فتخفِّفوا الضرب عنهما ، ولكن أوجعوهما ضربا.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن أبي بكر ، قال : ثنا أبو جعفر ، عن قتادة ، عن الحسن وسعيد بن المسيب : ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) قال : الجلد الشديد.
قال : ثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن حماد ، قال : يحدّ القاذف والشارب وعليهما ثيابهما. وأما الزاني فتخلع ثيابه. وتلا هذه الآية : ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) فقلت لحماد : أهذا في الحكم ؟ قال : في الحكم والجلد.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، قال : يجتهد في حدّ الزاني والفرية ، ويخفف في حدّ الشرب. وقال قَتادة : يخفف في

(19/92)


الشراب ، ويجتهد في الزاني.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ولا تأخذكم بهما رأفة في إقامة حدّ الله عليهما الذي افترض عليكم إقامته عليهما.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب ، لدلالة قول الله بعده : " في دين الله " ، يعني في طاعة الله التي أمركم بها. ومعلوم أن دين الله الذي أمر به في الزانيين : إقامة الحد عليهما ، على ما أمر من جلد كل واحد منهما مئة جلدة ، مع أن الشدّة في الضرب لا حدّ لها يوقف عليه ، وكل ضرب أوجع فهو شديد ، وليس للذي يوجع في الشدة حدّ لا زيادة فيه فيؤمر به. وغير جائز وصفه جلّ ثناؤه بأنه أمر بما لا سبيل للمأمور به إلى معرفته ، وإذا كان ذلك كذلك ، فالذي للمأمورين إلى معرفته السبيل ، هو عدد الجلد على ما أمر به ، وذلك هو إقامة الحد على ما قلنا. وللعرب في الرأفة لغتان : الرأفة بتسكين الهمزة ، والرآفة بمدها ، كالسأمة والسآمة ، والكأبة والكآبة. وكأن الرأفة المرّة الواحدة ، والرآفة المصدر ، كما قيل : ضؤل ضآلة مثل فعل فعالة ، وقبح قباحة.
وقوله : ( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) يقول : إن كنتم تصدّقون بالله ربكم وباليوم الآخر ، وأنكم فيه مبعوثون لحشر القيامة ، وللثواب والعقاب ، فإن من كان بذلك مصدّقا ، فإنه لا يخالف الله في أمره ونهيه ؛ خوف عقابه على معاصيه. وقوله : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول تعالى ذكره : وليحضر جلد الزانيين البكرين وحدّهما إذا أقيم عليهما طائفة من المؤمنين. والعرب تسمي الواحد فما زاد : طائفة.( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول : من أهل الإيمان بالله ورسوله.
وقد اختلف أهل التأويل في مبلغ عدد الطائفة الذي أمر الله بشهود عذاب الزانيين البكرين ، فقال بعضهم : أقله واحد.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الطائفة : رجل.
حدثنا علي بن سهل بن موسى بن إسحاق الكنانيّ وابن القوّاس ، قالا ثنا يحيى بن عيسى ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال : الطائفة رجل. قال عليّ : فما فوق ذلك; وقال ابن القواس :

(19/93)


فأكثر من ذلك.
حدثنا عليّ ، قال : ثنا زيد ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الطائفة : رجل.
حدثنا يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : قال ابن أبي نجيح : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال مجاهد : أقله رجل.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال : الطائفة : الواحد إلى الألف.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد في هذه الآية : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال : الطائفة واحد إلى الألف .( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني وهب بن جرير ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، قال : الطائفة : الرجل الواحد إلى الألف ، قال : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) إنما كانا رجلين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : سمعت عيسى بن يونس ، يقول : ثنا النعمان بن ثابت ، عن حماد وإبراهيم قالا الطائفة : رجل.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال : الطائفة : رجل واحد فما فوقه.
وقال آخرون : أقله في هذا الموضع رجلان.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا ابن أبي نجيح ، في قوله : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال : قال عطاء : أقله رجلان.
حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني عمر بن عطاء ، عن عكرمة قال : ليحضر رجلان فصاعدا.
وقال آخرون : أقلّ ذلك ثلاثة فصاعدا.

(19/94)


*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، قال : الطائفة : الثلاثة فصاعدا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال : نفر من المسلمين.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا حفص بن غياث ، قال : ثنا أشعث ، عن أبيه ، قال : أتيت أبا برزة الأسلمي في حاجة ، وقد أخرج جارية إلى باب الدار ، وقد زنت ، فدعا رجلا فقال : اضربها خمسين! فدعا جماعة ، ثم قرأ : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ).
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا يحيى ، عن أشعث ، عن أبيه ، أن أبا برزة أمر ابنه أن يضرب جارية له ولدت من الزنا ضربا غير مبرح ، قال : فألقى عليها ثوبا وعنده قوم ، وقرأ : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا )... الآية.
وقال آخرون : بل أقلّ ذلك أربعة.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال : فقال : الطائفة التي يجب بها الحدّ أربعة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : أقل ما ينبغي حضور ذلك من عدد المسلمين : الواحد فصاعدًا ؛ وذلك أن الله عمّ بقوله : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ ) والطائفة : قد تقع عند العرب على الواحد فصاعدا.
فإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن الله تعالى ذكره وضع دلالة على أن مراده من ذلك خاص من العدد ، كان معلوما أن حضور ما وقع عليه أدنى اسم الطائفة ذلك المحضر مخرج مقيم الحدّ مما ، أمره الله به بقوله : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) غير أني وإن كان الأمر على ما وصفت ، أستحب أن لا يقصر بعدد من يحضر ذلك الموضع عن أربعة أنفس عدد من تقبل شهادته على الزنا; لأن ذلك إذا كان كذلك ، فلا خلاف بين الجمع أنه قد أدّى المقيم الحدّ ما عليه في ذلك ، وهم فيما دون ذلك مختلفون.

(19/95)


الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

القول في تأويل قوله تعالى : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : نزلت هذه الآية في بعض من استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح نسوة كنّ معروفات بالزنا من أهل الشرك ، وكن أصحاب رايات ، يكرين أنفسهنّ ، فأنزل الله تحريمهن على المؤمنين ، فقال : الزاني من المؤمنين لا يتزوج إلا زانية أو مشركة ، لأنهن كذلك; والزانية من أولئك البغايا لا ينكحها إلا زان من المؤمنين أو المشركين أو مشرك مثلها ، لأنهن كن مشركات.
( وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) فحرم الله نكاحهن في قول أهل هذه المقالة بهذه الآية.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : ثني الحضرمي ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو : أن رجلا من المسلمين استأذن نبي الله في امرأة يقال لها أم مهزول ، كانت تسافح الرجل وتشترط له أن تنفق عليه ، وأنه استأذن فيها نبي الله صلى الله عليه وسلم وذكر له أمرها ، قال : فقرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم : ( وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) أو قال : فأنزلت( الزَّانِيَةُ ).
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثني هشيم ، عن التيمي ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو في قوله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال : كنّ نساء معلومات ، قال : فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوج المرأة منهن لتنفق عليه ، فنهاهم الله عن ذلك.
قال : أخبرنا سليمان التيمي ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كنّ نساء موارد بالمدينة.
حدثنا أحمد بن المقدام ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي ، قال : ثنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية : ( وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال : نزلت في نساء موارد كنّ بالمدينة.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عاصم الكلابي ، قال : ثنا معتمر ، عن أبيه ، عن قتادة ، عن سعيد ، بنحوه.

(19/96)


حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن رجل ، عن عمرو بن سعيد قال : كان لمرثد صديقة في الجاهلية يقال لها عناق ، وكان رجلا شديدا ، وكان يقال له دلدل ، وكان يأتي مكة فيحمل ضعفة المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقي صديقته ، فدعته إلى نفسها ، فقال : إن الله قد حرّم الزنا ، فقالت : أنَّى تبرز ، فخشي أن تشيع عليه ، فرجع إلى المدينة ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، كانت لي صديقة في الجاهلية ، فهل ترى لي نكاحها ؟ قال : فأنزل الله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال : كنّ نساء معلومات يدعون : القيلقيات. (1)
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن إبراهيم بن مهاجر ، قال : سمعت مجاهدا يقول في هذه الآية : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال : كن بغايا في الجاهلية.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عمن أخبره ، عن مجاهد ، نحوا من حديث ابن المثنى ، إلا أنه قال : كانت امرأة منهنّ يقال لها : أمّ مهزول; يعني في قوله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال : فكنّ نساء معلومات ، قال : فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوّج المرأة منهن لتنفق عليه ، فنهاهم الله عن ذلك. هذا في حديث التيمي.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً ) قال : رجال كانوا يريدون الزنا بنساء زوانٍ بغايا متعالمات ، كنّ في الجاهلية ، فقيل لهم هذا حرام ، فأرادوا نكاحهن ، فحرّم الله عليهم نكاحهن.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بنحوه ، إلا أنه قال : بغايا معلنات ، كنّ كذلك في الجاهلية.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه وإسماعيل بن
__________
(1) كذا جاءت هذه الكلمة في الأصول . ولعل أصلها : القلقيات ، نسبة إلى القلق ، وهو ضرب من القلائد المنظومة باللؤلؤ ، كن يلبسنه يستهوين به الرجال . أو نسبة إلى القلق ، لكثرة اضطرابهن وتحركهن . ( انظر التاج : قلق )

(19/97)


أبي خالد ، عن الشعبي وابن أبي ذئب ، عن شعبة ، عن ابن عباس ، قال : كنّ بغايا في الجاهلية ، على أبوابهنّ رايات مثل رايات البيطار يعرفن بها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، قال : نساء بغايا متعالمات ، حرّم الله نكاحهن ، لا ينكحهنّ إلا زان من المؤمنين ، أو مشرك من المشركين.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) قال : كانت بيوت تسمى المَواخير في الجاهلية ، وكانوا يؤاجرون فيها فتياتهن ، وكانت بيوتا معلومة للزنا ، لا يدخل عليهنّ ولا يأتيهنّ إلا زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان ، فحرّم الله ذلك على المؤمنين.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، في قوله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال : بغايا متعالمات كن في الجاهلية ، بغيّ آل فلان وبغيّ آل فلان ، فأنزل الله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) فحكم الله بذلك من أمر الجاهلية على الإسلام. فقال له سليمان بن موسى : أبلغك ذلك عن ابن عباس ؟ فقال : نعم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عطاء بن أبي رباح يقول في ذلك : كن بغايا متعالمات ، بغيّ آل فلان وبغيّ آل فلان ، وكنّ زواني مشركات ، فقال : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) قال : أحكم الله من أمر الجاهلية بهذا. قيل له : أبلغك هذا عن ابن عباس ؟ قال : نعم.
قال ابن جريج : وقال عكرمة : إنه كان يسمِّي تسعا بعد صواحب الرايات ، وكنّ أكثر من ذلك ، ولكن هؤلاء أصحاب الرايات : أمّ مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي ، وأم عُلِيط جارية صفوان بن أمية ، وحنة القبطية جارية العاصي بن وائل ، ومَرِية جارية مالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار ، وحلالة جارية سهيل بن عمرو ، وأمّ سويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي ، وسريفة جارية زمعة بن الأسود ، وفرسة

(19/98)


جارية هشام بن ربيعة بن حبيب بن حذيفة بن جبل بن مالك بن عامر بن لُؤَيّ ، وقريبا جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر بن غالب بن فهر.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وقال الزهري وقتادة ، قالوا : كان في الجاهلية بغايا معلوم ذلك منهنّ ، فأراد ناس من المسلمين نكاحهنّ ، فأنزل الله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ )... الآية.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وقاله الزهريّ وقَتادة ، قالوا : كانوا في الجاهلية بغايا ، ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن القاسم بن أبي بَزّة : كان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية التي قد علم ذلك منها يتخذها مأكلة ، فأراد ناس من المسلمين نكاحهنّ على تلك الجهة ، فنهوا عن ذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، قال : قال القاسم بن أبي بزّة ، فذكر نحوه.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا سليمان التيميّ ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كنّ نساء مَواردَ بالمدينة.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سعيد بن جُبير : أن نساء في الجاهلية كنّ يؤاجرن أنفسهنّ ، وكان الرجل إنما ينكح إحداهنّ يريد أن يصيب منها عَرَضا ، فنهوا عن ذلك ، ونزل : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) ومنهنّ امرأة يقال لها : أمّ مهزول.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل ، عن الشعبيّ ، في قوله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال : كنّ نساء يكْرِين أنفسهن في الجاهلية.
وقال آخرون : معنى ذلك : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة ، والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك. قالوا : ومعنى النكاح في هذا الموضع : الجماع.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن حُصَين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ،

(19/99)


في قول الله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال : لا يزني إلا بزانية أو مشركة.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن يَعْلَى بن مسلم ، عن سعيد بن جُبير أنه قال في هذه الآية : ( وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال : لا يزني الزاني إلا بزانية مثله أو مشركة.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن شُبْرُمة ، عن سعيد بن جُبير وعكرمة في قوله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قالا هو الوطء.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد ، عن معمر ، قال : قال سعيد بن جُبير ومجاهد : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قالا هو الوطء.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم وشعبة ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، قوله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قالا لا يزني الزاني حين يزني إلا بزانية مثله أو مشركة ، ولا تزني مشركة إلا بمثلها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال : هؤلاء بغايا كنّ في الجاهلية ، والنكاح في كتاب الله الإصابة ، لا يصيبها إلا زان أو مشرك ، لا يحرم الزنا ، ولا تصيب هي إلا مثلها.
قال : وكان ابن عباس يقول : بغايا كنّ في الجاهلية.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد ، عن سعيد بن جبير ، قال : إذا زنى بها فهو زان.
حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال : الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا بزانية مثله أو مشركة ، قال : والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزان مثلها من أهل القبلة أو مشرك من غير أهل القبلة. ثم قال : ( وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ).
وقال آخرون : كان هذا حكم الله في كلّ زان وزانية ، حتى نسخه بقوله : ( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ ) ، فأحل نكاح كلّ مسلمة وإنكاح كل مسلم.

(19/100)


*ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، في قوله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) قال : يرون الآية التي بعدها نسختها : ( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ ) قال : فهن من أيامى المسلمين.
حدثنا القاسم ، قال ثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) قال : نسختها التي بعدها : ( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ ) وقال : إنهن من أيامى المسلمين.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : وذكر عن يحيى ، عن ابن المسيب ، قال : نسختها : ( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ ) .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : نسختها قوله : ( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا أنس بن عياض ، عن يحيى ، قال : ذكر عند سعيد بن المسيب : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال : فسمعته يقول : إنها قد نسختها التي بعدها ، ثم قرأها سعيد ، قال : يقول الله : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) ثم يقول الله : ( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ ) فهنّ من أيامى المسلمين.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : عنى بالنكاح في هذا الموضع الوطء ، وأن الآية نزلت في البغايا المشركات ذوات الرايات; وذلك لقيام الحجة على أن الزانية من المسلمات حرام على كل مشرك ، وأن الزاني من المسلمين حرام عليه كل مشركة من عبدة الأوثان ، فمعلوم إذ كان ذلك كذلك ، أنه لم يُعْن بالآية أن الزاني من المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات ، ولا ينكح إلا بزانية أو مشركة ، وإذ كان ذلك كذلك ، فبين أن معنى الآية : الزاني لا يزني إلا بزانية لا تستحلّ الزنا أو بمشركة تستحله.
وقوله : ( وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) يقول : وحرّم الزنا على المؤمنين بالله ورسوله ، وذلك هو النكاح الذي قال جلّ ثناؤه : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً )

(19/101)


وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) }
يقول تعالى ذكره : والذين يَشْتمون العفائف من حرائر المسلمين ، فيرمونهنّ بالزنا ، ثم لم يأتوا على ما رمَوْهن به من ذلك بأربعة شهداء عدول يشهدون ، عليهنّ أنهنّ رأوهن يفعلن ذلك ، فاجلدوا الذين رموهن بذلك ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ، وأولئك هم الذين خالفوا أمر الله وخرجوا من طاعته ففسقوا عنها.
وذُكر أن هذه الآية إنما نزلت في الذين رموا عائشة ، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم بما رموها به من الإفك.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب وإبراهيم بن سعيد ، قالا ثنا ابن فضيل ، عن خصيف ، قال : قلت لسعيد بن جُبير : الزنا أشدّ ، أو قذف المحصنة ؟ قال : لا بل الزنا. قلت : إن الله يقول : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ) قال : إنما هذا في حديث عائشة خاصة.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ )... الآية في نساء المسلمين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) قال : الكاذبون.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
اختلف أهل التأويل في الذي استثني منه قوله : ( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ) فقال بعضهم : استثني من قوله : ( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) وقالوا : إذا تاب القاذف قُبلت شهادته وزال عنه اسم الفسق ، حُدّ فيه أو لم يحدّ.

(19/102)


*ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن حماد الدّولابي ، قال : ثني سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد إن شاء الله ، أن عمر قال لأبي بكرة : إن تبت قبلت شهادتك ، أو رَدَّيْت شهادتك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب ضرب أبا بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كَلَدة حَدّهم. وقال لهم : من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل ، ومن لم يفعل لم أجز شهادته ، فأكذب شبل نفسه ونافع ، وأبَى أبو بكرة أن يفعل. قال الزهريّ : هو والله سنة ، فاحفظوه.
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثنا يزيد بن زُرَيع ، قال : ثنا داود ، عن الشعبيّ ، قال : إذا تاب ، يعني : القاذف ، ولم يعلم منه إلا خير ، جازت شهادته.
حدثنا عمران بن موسى ، قال : ثنا عبد الوارث ، قال : ثنا داود ، عن الشعبي ، قال : على الإمام أن يستتيب القاذف بعد الجَلْد ، فإن تاب وأونس منه خير جازت شهادته ، وإن لم يتب فهو خليع لا تجوز شهادته.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الوارث ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، أنه قال في القاذف : إذا تاب وعلم منه خير ، إن شهادته جائزة ، وإن لم يتب فهو خليع لا تجوز شهادته ، وتوبته إكذابه نفسه.
قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن الشعبيّ ، نحوه.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، قال في القاذف : إذا تاب وأكذب نفسه ، قُبلت شهادته ، وإلا كان خليعا لا شهادة له; لأن الله يقول : ( لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ )... إلى آخر الآية.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ أنه كان يقول في شهادة القاذف : إذا رجع عن قوله حين يُضرب ، أو أكذب نفسه ، قُبلت شهادته.
قال : ثنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي أنه كان يقول : يقبل الله توبته ، وتردّون شهادته ؛ وكان يقبل شهادته إذا تاب.
قال : أخبرنا إسماعيل عن الشعبيّ أنه كان يقول في القاذف : إذا شهد قبل أن يُضرب

(19/103)


الحدّ ، قُبلت شهادته.
قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبيدة ، عن إبراهيم وإسماعيل بن سالم ، عن الشعبي ، أنهما قالا في القاذف : إذا شهد قبل أن يُجلد فشهادته جائزة.
حدثني يعقوب ، قال : قال أبو بشر ، يعني ابن عُلَية ، سمعت ابن أبي نجيح يقول : القاذف إذا تاب تجوز شهادته ، وقال : كنا نقوله. فقيل له : من ؟ قال : قال عطاء وطاووس ومجاهد.
حدثنا ابن بشار ، وابن المثنى ، قالا ثنا محمد بن خالد بن عثمة ، قال : ثنا سعيد بن بشير ، عن قَتادة ، عن عمر بن طلحة ، عن عبد الله ، قال : إذا تاب القاذف جلد ، وجازت شهادته. قال أبو موسى : هكذا قال ابن أبي عَثْمة.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا ابن أبي عَثْمة ، قال : ثنا سعيد بن بشير ، عن قَتَادة ، عن سليمان بن يسار والشعبي قالا إذا تاب القاذف عند الجلد جازت شهادته.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة أن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة جلد رجلا في قذف ، فقال : أكذب نفسك حتى تجوز شهادتك.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، قال : سمعت إبراهيم والشعبيّ يتذاكران شهادة القاذف ، فقال الشعبيّ لإبراهيم : لم لا تقبل شهادته ؟ فقال : لأني لا أدري تاب أم لا.
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، عن مجالد ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، قال : تُقبل شهادته إذا تاب.
قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، عن يعقوب بن القعقاع ، عن محمد بن زيد ، عن سعيد بن جبير ، مثله.
قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، عن ابن جُرَيج ، عن عمران بن موسى ، قال : شهدت عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة القاذف ومعه رجل.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : قال الشعبيّ : إذا تاب جازت شهادته ، قال ابن المثنى. قال : عندي ، يعني في القذف.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا مسعر ، عن عمران بن عمير : أن عبد الله بن عتبة كان يجيز شهادة القاذف إذا تاب.

(19/104)


حدثني يعقوب ، قال : ثني هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : إذا تاب وأصلح قبلت شهادته ، يعني القاذف.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، عن ابن المسيب ، قال : تقبل شهادة القاذف إذا تاب.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن ابن المسيب ، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد ، عن معمر ، قال : قال الزُّهريّ : إذا حدّ القاذف ، فإنه ينبغي للإمام أن يستتيبه ، فإن تاب قبلت شهادته ، وإلا لم تقبل ، قال : كذلك فعل عمر بن الخطاب بالذين شهدوا على المغيرة بن شعبة ، فتابوا إلا أبا بكرة ، فكان لا تقبل شهادته.
وقال آخرون : الاستثناء في ذلك من قوله : ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ).
وأما قوله : ( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ) فقد وصل بالأبد ولا يجوز قبولها أبدا.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا أشعث بن سوّار ، قال : ثني الشعبي ، قال : كان شريح يجيز شهادة صاحب كلّ عمل إذا تاب إلا القاذف ، فإن توبته فيما بينه وبين ربه ، ولا نجيز شهادته.
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا أشعث بن سوار ، قال : ثنا الشعبيّ ، عن شريح بنحوه ، غير أنه قال : صاحب كلّ حدّ إذا كان عدلا يوم شهد.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية عن الأعمش. عن إبراهيم ، عن شريح ، قال : كان لا يجيز شهادة القاذف ، ويقول : توبته فيما بينه وبين ربه.
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا ثنا ابن إدريس ، عن مُطَرّف ، عن أبي عثمان ، عن شريح في القاذف : يقبل الله توبته ، ولا أقبل شهادته.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا أشعث ، عن الشعبيّ ، قال : أتاه خصمان ، فجاء أحدهما بشاهد أقطع ، فقال الخصم : ألا ترى ما به ؟ قال : قد أراه. قال : فسأل القوم ، فأثنوا عليه خيرا ، فقال شريح : نجيز شهادة كل صاحب حدّ ، إذا كان يوم شهد عدلا إلا القاذف ، فإن توبته فيما بينه وبين ربه.

(19/105)


حدثنا أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا أشعث ، عن الشعبيّ ، قال : جاء خصمان إلى شُرَيح ، فجاء أحدهما ببينة ، فجاء بشاهد أقطع ، فقال الخصم : ألا ترى إلى ما به ؟ فقال شريح : قد رأيناه ، وقد سألنا القوم فأثنوا خيرا ، ثم ذكر سائر الحديث ، نحو حديث أبي كريب.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا الشيبانيّ ، عن الشعبيّ ، عن شريح أنه كان يقول : لا تُقبل له شهادة أبدا ، توبته فيما بينه وبين ربه ، يعني القاذف.
قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا الأشعث ، عن الشعبيّ ، بأن ربابا قطع رجلا في قطع الطريق ، قال : فقطع يده ورجله. قال : ثم تاب وأصلح ، فشهد عند شريح ، فأجاز شهادته ، قال : فقال المشهود عليه : أتجيز شهادته عليّ وهو أقطع ؟ قال : فقال شريح : كل صاحب حدّ إذا أقيم عليه ثم تاب وأصلح ؛ فشهادته جائزة إلا القاذف.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو الوليد ، قال : ثنا شعبة ، قال : أخبرني المغيرة : ، قال : سمعت إبراهيم يحدّث عن شريح ، قال : قضاء من الله لا تقبل شهادته أبدا ، توبته فيما بينه وبين ربه ، قال أبو موسى : يعني القاذف.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : قال شريح : لا يقبل الله شهادته أبدا.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو الوليد ، قال : ثنا حماد ، عن قَتادة ، عن سعيد ابن المسيب ، قال : لا تجوز شهادة القاذف ، توبته فيما بينه وبين الله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتَادة ، عن الحسن ، أنه قال : القاذف توبته فيما بينه وبين الله ، وشهادته لا تُقبل.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو الوليد ، قال : ثنا حماد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : لا تجوز شهادة القاذف ، توبته فيما بينه وبين الله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، عن الحسن ، أنه قال : القاذف توبته فيما بينه وبين الله ، وشهادته لا تُقبل.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم أنه قال في الرجل يجلد الحدّ ، قال : لا تجوز شهادته أبدا.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان لا يقبل

(19/106)


له شهادة أبدا ، وتوبته فيما بينه وبين الله ، يعني القاذف.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا معتمر بن سليمان ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " لا تجُوزُ شَهادَةُ مَحْدُودٍ فِي الإسْلامِ " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : ( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ) قال : كان يقول : لا تقبل شهادة القاذف أبدا ، إنما توبته فيما بينه وبين الله. وكان شريح يقول : لا تقبل شهادته.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ) ثم قال : فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل.
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الاستثناء من المعنيين جميعا ، أعني من قوله : ( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ) ومن قوله : ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن ذلك كذلك ، إذا لم يحدّ في القذف حتى تاب ، إما بأن يرفع إلى السلطان بعفو المقذوفة عنه ، وإما بأن ماتت قبل المطالبة بحدّها ، ولم يكن لها طالب يطلب بحدّها ، فإذ كان ذلك كذلك وحدثت منه توبة صحت له بها العدالة.
فإذ كان من الجميع إجماعا ، ولم يكن الله تعالى ذكره شرط في كتابه أن لا تقبل شهادته أبدا بعد الحدّ في رميه ، بل نهى عن قبول شهادته في الحال التي أوجب عليه فيها الحدّ ، وسماه فيها فاسقا ، كان معلوما بذلك أنّ إقامة الحدّ عليه في رميه ، لا تحدث في شهادته مع التوبة من ذنبه ، ما لم يكن حادثا فيها قبل إقامته عليه ، بل توبته بعد إقامة الحدّ عليه من ذنبه أحرى أن تكون شهادته معها أجوز منها قبل إقامته عليه; لأن الحدّ يزيد المحدود عليه تطهيرًا من جرمه الذي استحقّ عليه الحدّ.
فإن قال قائل : فهل يجوز أن يكون الاستثناء من قوله : ( فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ) فتكون التوبة مسقطة عنه الحد ، كما كانت لشهادته عندك قبل الحد وبعده مجيزة ، ولاسم الفسق عنه مزيلة ؟ قيل : ذلك غير جائز عندنا ، وذلك أن الحدّ حقّ عندنا للمقذوفة ، كالقصاص الذي يجب لها من جناية يجنيها عليها مما فيه القصاص ، ولا خلاف بين الجميع أن توبته من ذلك لا تضع عنه الواجب لها من القصاص منه ، فكذلك توبته من القذف لا تضع عنه الواجب لها من الحدّ ، لأن ذلك حقّ لها ، إن شاءت عفته ،

(19/107)


وإن شاءت طالبت به ، فتوبة العبد من ذنبه إنما تضع عن العبد الأسماء الذميمة ، والصفات القبيحة ، فأما حقوق الآدميين التي أوجبها الله لبعضهم على بعض في كل الأحوال فلا تزول بها ولا تبطل.
واختلف أهل العلم في صفة توبة القاذف التي تقبل معها شهادته ، فقال بعضهم : هو إكذابه نفسه فيه. وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى قبل ، ونحن نذكر بعض ما حضرنا ذكره مما لم نذكره قبل.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا حفص ، عن ليث ، عن طاووس ، قال : توبة القاذف أن يكذّب نفسه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، قال : رأيت رجلا ضُرب حدّا في قذف بالمدينة ، فلما فُرغ من ضربه تناول ثوبه ، ثم قال : أستغفر الله وأتوب إليه من قذف المحصنات ، قال : فلقيت أبا الزناد ، فذكرت ذلك له ، قال : فقال : إن الأمر عندنا هاهنا أنه إذا قال ذلك حين يفرغ من ضربه ، ولم نعلم منه إلا خيرا قُبلت شهادته.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا )... الآية ، قال : من اعترف وأقرّ على نفسه علانية أنه قال البهتان ، وتاب إلى الله توبة نصوحا ، والنصوح : أن لا يعودوا ، وإقراره واعترافه عند الحدّ حين يؤخذ بالجلد ، فقد تاب ، والله غفور رحيم.
وقال آخرون : توبته من ذلك صلاح حاله ، وندمه على ما فرط منه من ذلك ، والاستغفار منه ، وتركه العود في مثل ذلك من الجرم ، وذلك قول جماعة من التابعين وغيرهم ، وقد ذكرنا بعض قائليه فيما مضى ، وهو قول مالك بن أنس.
وهذا القول أولى القولين في ذلك بالصواب ؛ لأن الله تعالى ذكره جعل توبة كل ذي ذنب من أهل الإيمان تركه العود منه ، والندم على ما سلف منه ، واستغفار ربه منه ، فيما كان من ذنب بين العبد وبينه ، دون ما كان من حقوق عباده ومظالمهم بينهم ، والقاذف إذا أُقيم عليه فيه الحدّ ، أو عُفي عنه ، فلم يبق عليه إلا توبته من جرمه بينه وبين ربه ،

(19/108)


وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)

فسبيل توبته منه سبيل توبته من سائر أجرامه ، فإذا كان الصحيح في ذلك من القول ما وصفنا ، فتأويل الكلام : وأولئك هم الفاسقون ، إلا الذين تابوا من جُرمهم الذي اجترموه بقذفهم المحصنات من بعد اجترامهموه( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول : ساتر على ذنوبهم بعفوه لهم عنها ، رحيم بهم بعد التوبة أن يعذّبهم عليها ، فأقبلوا شهادتهم ولا تسموهم فسقة ، بل سموهم بأسمائهم التي هي لهم في حال توبتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) }
يقول تعالى ذكره : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ ) من الرجال( أَزْوَاجِهِمْ ) بالفاحشة ، فيقذفونهنّ بالزنا ، ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ ) يشهدون لهم بصحة ما رموهنّ به من الفاحشة ، ( فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ).
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : " أرْبَعَ شَهاداتٍ " نصبا ، ولنصبهم ذلك وجهان : أحدهما : أن تكون الشهادة في قوله : ( فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ ) مرفوعة بمضمر قبلها ، وتكون " الأربع " منصوبا بمعنى الشهادة ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : فعلى أحدهم أن يشهد أربعَ شهادات بالله. والوجه الثاني : أن تكون الشهادة مرفوعة بقوله : ( إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) و " الأربع " منصوبة بوقوع الشهادة عليها ، كما يقال : شهادتي ألف مرة إنك لرجل سَوْء ، وذلك أن العرب ترفع الأيمان بأجوبتها ، فتقول : حلف صادق لأقومنّ ، وشهادة عمرو ليقعدنّ. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : ( أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ ) برفع " الأربع " ، ويجعلونها للشهادة مرافعة ، وكأنهم وجهوا تأويل الكلام : فالذي يلزم من الشهادة ، أربعُ شهادات بالله إنه لمن الصادقين.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ : " فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين " بنصب أربع ، بوقوع " الشهادة " عليها ، و " الشهادة " مرفوعة حينئذ على ما وصفت من الوجهين قبل. وأحبّ وجهيهما إليّ أن تكون به مرفوعة بالجواب ، وذلك قوله : ( إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) وذلك أن معنى الكلام : ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن

(19/109)


الصادقين) تقوم مقام الشهداء الأربعة في دفع الحدّ عنه. فترك ذكر : تقوم مقام الشهداء الأربعة ، اكتفاء بمعرفة السامعين بما ذكر من الكلام ، فصار مرافع " الشهادة " ما وصفت.
ويعني بقوله : ( فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ) : فحلف أحدهم أربع أيمان بالله ، من قول القائل : أشهد بالله إنه لمن الصادقين فيما رمى زوجته به من الفاحشة.( وَالْخَامِسَةُ ) يقول : والشهادة الخامسة ، ( أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ ) يقول : إن لعنة الله له واجبة وعليه حالَّة ، إن كان فيما رماها به من الفاحشة من الكاذبين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت به جماعة من أهل التأويل.
ذكر الرواية بذلك ، وذكر السبب الذي فيه أنزلت هذه الآية :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلية ، قال : ثنا أيوب ، عن عكرمة ، قال : لما نزلت( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ) قال سعد بن عبادة : الله إن أنا رأيت لَكَاعِ متفخذَها رجل فقلت بما رأيت إن في ظهري لثمانين إلى ما أجمع أربعة قد ذهب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا مَعْشَرَ الأنْصَار ، ألا تَسْمَعونَ إلى ما يَقولُ سَيِّدُكُمْ ؟ " . قالوا : يا رسول الله لا تَلُمْه ، وذكروا من غيرته ، فما تزوّج امرأة قط إلا بكرا ، ولا طلق امرأة قطّ فرجع فيها أحد منا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإنَّ الله يَأبَى إلا ذَاكَ " فقال : صدق الله ورسوله . قال : فلم يلبثوا أن جاء ابن عمّ له فرمى امرأته ، فشق ذلك على المسلمين ، فقال : لا والله ، لا يجعل في ظهري ثمانين أبدا ، لقد نظرت حتى أيقنت ، ولقد استسمعت حتى استشفيت ، قال : فأنزل الله القرآن باللعان ، فقيل له : احلف! فحلف ، قال : قفوه عند الخامسة ، فإنها موجبة ، فقال : لا يدخله الله النار بهذا أبدا ، كما درأ عنه جلد ثمانين ، لقد نظرت حتى أيقنت ، ولقد استسمعت حتى استشفيت فحلف ، ثم قيل : احلفي ، فحلفت ، ثم قال : قفوها عند الخامسة ، فإنها مُوجِبة ، فقيل لها : إنها مُوجبة ، فتلكأت ساعة ، ثم قالت : لا أُخْزي قومي ، فحلفت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنْ جاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِزَوْجها ، وإنْ جاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ للَّذِي قِيلَ فِيهِ ما قِيلَ ، قال : فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق ، فكان بعد أميرا بمصر لا يُعرف نسبه ، أو لا يُدْرَى من أبوه " .

(19/110)


حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا عباد ، قال : سمعت عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) قال سعد بن عبادة : لهكذا أنزلت يا رسول الله ؟ لو أتيتُ لَكَاع قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحرّكه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله ما كنت لآتيَ بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا مَعْشَرَ الأنْصَار أما تَسْمَعونَ إلى ما يَقُول سَيدُكُمْ ؟ " قالوا : لا تلمه فإنه رجل غَيُور ، ما تزوّج فينا قطّ إلا عذراء ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوّجها ؛ قال سعد : يا رسول الله ، بأبي وأمي ، والله إني لأعرف أنها من الله ، وأنها حقّ ، ولكن عجبت لو وجدت لَكَاعِ ، قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ، والله لا آتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ، فوالله ما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية من حديقة له فرأى بعينيه ، وسمع بأذنيه ، فأمسك حتى أصبح ، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس مع أصحابه ، فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء ، فوجدت رجلا مع أهلي ، رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه به وثقل عليه جدا ، حتى عُرف ذلك في وجهه ، فقال هلال : والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم أني صادق ، وما قلت إلا حقا ، فإني لأرجو أن يجعل الله فرجا ، قال : واجتمعت الأنصار ، فقالوا : ابتلينا بما قال سعد ، أيجلد هلال بن أميَّة ، وتبطل شهادته في المسلمين ؟ فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضربه ، فإنه لكذلك يريد أن يأمر بضربه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه ، إذ نزل عليه الوحي ، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل حتى فرغ ، فأنزل الله : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ )... إلى : ( أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبْشِرْ يا هِلالُ ، فإنَّ الله قدْ جَعَل فَرَجا " فقال : قد كنت أرجو ذلك من الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرْسِلُوا إلَيْها! " فجاءت ، فلما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لها ، فكذّبت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكما كاذب ، فَهَل مِنْكُما تائب ؟ " فقال هلال :

(19/111)


يا رسول الله ، بأبي وأمي لقد صدقتُ ، وما قلت إلا حقا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاعِنُوا بَيْنَهُما! " قيل لهلال : يا هلال اشهد ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فقيل له عند الخامسة : يا هلال اتق الله ، فإن عذاب الله أشدّ من عذاب الناس ، إنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال هلال : والله لا يعذّبني الله عليها ، كما لم يجلدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشهد الخامسة : ( أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) ثم قيل لها : اشهدي ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فقيل لها عند الخامسة : اتقي الله ، فإن عذاب الله أشدّ من عذاب الناس ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فتلكأت ساعة ، ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة : ( أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ففرّق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقضى أن الولد لها ، ولا يُدعى لأب ، ولا يُرْمى ولدها.
حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : ثنا أبو أحمد الحسين بن محمد ، قال : ثنا جرير بن حازم ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : " لما قذف هلال بن أميَّة امرأته ، قيل له : والله ليجلدنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانين جلدة ، قال : الله أعدل من ذلك أن يضربني ضربة وقد علم أني قد رأيت حتى استيقنت ، وسمعت حتى استثبتُّ ، لا والله لا يضربني أبدا ، فنزلت آية الملاعنة ، فدعا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت الآية ، فقال : " الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ فقال هلال : والله إني لصادق. فقال له : " احلف بالله الذي لا إله إلا هو : إني لصادق " يقول ذلك أربعَ مرّات فإن كنتُ كاذبا فعليّ لعنة الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قِفُوه عِنْدَ الخامِسَة ، فإنَّها مُوجِبه " ، فحلف ، ثم قالت أربعا : والله الذي لا اله إلا هو إنه لمن الكاذبين ، فإن كان صادقا فعليها غضب الله ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قِفُوها عِنْدَ الخامِسَة ، فإنَّها مُوجِبة " ، فتردّدت وهمَّت بالاعتراف ، ثم قالت : لا أفضح قومي.
حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي ، قالا ثنا عَبْدة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : كنا ليلة الجمعة في المسجد ، فدخل رجل فقال : لو أن رجلا وجَد مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه ، وإن تكلم جلدتموه ، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله آية اللعان ، ثم جاء الرجل بعد ، فقذف امرأته ، فلاعن

(19/112)


رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، فقال : " عَسَى أنْ تَجِيء بِهِ أسْوَدَ جَعْدًا ، فجاءت به أسود جعدا " .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا جرير بن عبد الحميد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سعيد بن جُبير قال : سألت ابن عمر ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن ، أيفرق بين المتلاعنين ؟ فقال : نعم ، سبحان الله ، إن أوّل من سأل عن ذلك فلان ، أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله ، فقال : أرأيت لو أن أحدنا رأى صاحبته على فاحشة ، كيف يصنع ؟ فلم يجبه في ذلك شيئا ، قال : فأتاه بعد ذلك فقال : إن الذي سألت عنه قد ابتليتُ به ، فأنزل الله هذه الآية في سورة النور ، فدعا الرجل فوعظه وذكَّره ، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، قال : والذي بعثك بالحق ، لقد رأيت وما كذبتُ عليها ، قال : ودعا المرأة فوعظها ، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقالت : والذي بعثك بالحق إنه لكاذب ، وما رأى شيئا ؛ قال : فبدأ الرجل ، فشهد أربع شهادات بالله : إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين; ثم إن المرأة شهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غَضَبَ الله عليها إن كان من الصادقين وفرق بينهما.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن عامر ، قال : لما أنزل : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ) قال عاصم بن عديّ : إن أنا رأيت فتكلمت جلدت ثمانين ، وإن أنا سكت سكت على الغيظ ، قال : فكأن ذلك شقّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فأنزلت هذه الآية : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ ) قال : فما لبثوا إلا جمعة ، حتى كان بين رجل من قومه وبين امرأته ، فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ )... الآية ، والخامسة : أن يقال له : إن عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين. وإن أقرّت المرأة بقوله رُجمت ، وإن أنكرت شهدت أربع شهادات بالله : إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن يقال لها : غضب الله عليك إن كان من الصادقين ، فيدرأ عنها العذاب ، ويفرق بينهما ، فلا يجتمعان أبدا ، ويُلحق الولد بأمه.

(19/113)


وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عكرمة ، قوله : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ) قال : هلال بن أميَّة : والذي رميت به شريك بن سحماء ، والذي استفتى عاصم بن عديّ.
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني الزهريّ عن الملاعنة والسنة فيها ، عن حديث سهل بن سعد أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ؟ أم كيف يفعل ؟ فأنزل الله في شأنه ما ذكر من أمر المتلاعنين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قَدْ قَضَى اللهُ فيكَ وفِي امرْأتِكَ ، فتلاعنا وأنا شاهد " ثم فارقها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت السنة بعدها أن يفرّق بين المتلاعنين ، وكانت حاملة ، فأنكره ، فكان ابنها يُدعى إلى أمه ، ثم جرت السنة أن ابنها يَرثها ، وترث ما فرض الله لها.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ )... إلى قوله : ( إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) قال : إذا شهد الرجل خمس شهادات ، فقد برئ كل واحد من الآخر ، وعِدَّتُها إن كانت حاملا أن تضع حملها ، ولا يجْلد واحد منهما ، وإن لم تحلف أقيم عليها الحدّ والرجْم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) }
يعني جلّ ذكره بقوله : ( وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ ) : ويدفع عنها الحدّ.
واختلف أهل العلم في العذاب الذي عناه الله في هذا الموضع أنه يدرؤه عنها شهاداتها الأربع ، فقال بعضهم : بنحو الذي قلنا في ذلك ، من أن الحدّ جلد مئة إن كانت بكرا ، أو الرجم إن كانت ثيبا قد أحصنت.
وقال آخرون : بل ذلك الحبس ، وقالوا : الذي يجب عليها إن هي لم تشهد الشهادات الأربع بعد شهادات الزوج الأربع ، والتعانه : الحبس دون الحدّ.
وإنما قلنا : الواجب عليها إذا هي امتنعت من الالتعان بعد التعان الزوج الحدّ الذي

(19/114)


وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

وصفنا ، قياسا على إجماع الجميع على أن الحدّ إذا زال عن الزوج بالشهادات الأربع على تصديقه فيما رماها به ، أن الحدّ عليها واجب ، فجعل الله أيمانه الأربع ، والتعانه في الخامسة مخرجا له من الحدّ الذي يجب لها برميه إياها ، كما جعل الشهداء الأربعة مخرجا له منه في ذلك وزائلا به عنه الحدّ ، فكذلك الواجب أن يكون بزوال الحدّ عنه بذلك واجبا عليها حدّها ، كما كان بزواله عنه بالشهود واجبا عليها ، لا فرق بين ذلك ، وقد استقصينا العلل في ذلك في باب اللعان من كتابنا المسمى [لطيف القول في شرائع الإسلام] ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله : ( أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ) يقول : ويدفع عنها العذاب أن تحلف بالله أربع أيمان : أن زوجها الذي رماها بما رماها به من الفاحشة ، لمن الكاذبين فيما رماها من الزنا ، وقوله : ( وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا )... الآية ، يقول : والشهادة الخامسة : أن غضب الله عليها إن كان زوجها فيما رماها به من الزنا من الصادقين. ورفع قوله : ( وَالْخَامِسَةُ ) في كلتا الآيتين ، بأن التي تليها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) }
يقول تعالى ذكره : ولولا فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته بكم ، وأنه عَوّاد على خلقه بلطفه وطوله ، حكيم في تدبيره إياهم ، وسياسته لهم ، لعاجلكم بالعقوبة على معاصيكم وفضح أهل الذنوب منكم بذنوبهم ، ولكنه ستر عليكم ذنوبكم وترك فضيحتكم بها عاجلا رحمة منه بكم ، وتفضلا عليكم ، فاشكروا نعمه وانتهوا عن التقدّم عما عنه نهاكم من معاصيه ، وترك الجواب في ذلك ، اكتفاء بمعرفة السامع المراد منه.

(19/115)


إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين جاءوا بالكذب والبهتان( عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) يقول : جماعة منكم أيها الناس.( لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) يقول : لا تظنوا ما جاءوا به من الإفك شرّا لكم عند الله وعند الناس ، بل ذلك خير لكم عنده وعند

(19/115)


المؤمنين ، وذلك أن الله يجعل ذلك كفارة للمرمي به ويظهر براءته مما رمي به ، ويجعل له منه مخرجا. وقيل : إن الذي عنى الله بقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) : جماعة ، منهم حسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش. كما حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا أبان العطار ، قال : ثنا هشام بن عروة ، عن عروة : أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان : كتبت إليّ تسألني في الذين جاءوا بالإفك ، وهم كما قال الله : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) وأنه لم يسمّ منهم أحد إلا حسان بن ثابت ، ومسْطَح بن أثاثة ، وَحَمْنة بنت جَحْش ، وهو يقال في آخرين لا علم لي بهم; غير أنهم عصبة كما قال الله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد ، قوله : ( جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) هم أصحاب عائشة ، قال ابن جريج : قال ابن عباس : قوله : ( جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ )... الآية ، الذين افتروا على عائشة : عبد الله بن أُبيّ ، وهو الذي تولى كبره ، وحسان بن ثابت ، ومسطح ، وحمنة بنت جحش.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) الذين قالوا لعائشة الإفك والبهتان.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) قال : الشرّ لكم بالإفك الذي قالوا ، الذي تكلَّموا به ، كان شرّا لهم ، وكان فيهم من لم يقله ، إنما سمعه ، فعاتبهم الله ، فقال أول شيء : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) ثم قال : ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ).
وقوله : ( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ ) يقول : لكل امرئ من الذين جاءوا بالإفك جزاء ما اجترم من الإثم ، بمجيئه بما جاء به ، من الأولى عبد الله.
وقوله : ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ) يقول : والذي تحمل معظم ذلك الإثم والإفك منهم هو الذي بدأ بالخوض فيه.
كما حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ) يقول : الذي بدأ بذلك.

(19/116)


حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) قال : أصحاب عائشة عبد الله بن أُبيّ ابن سلول ، ومسطح ، وحسان.
قال أبو جعفر : له من الله عذاب عظيم يوم القيامة.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( كِبْرهُ ) فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار : ( كِبْرَهُ ) بكسر الكاف ، سوى حميد الأعرج ، فإنه كان يقرؤه " كُبْرهُ " بمعنى : والذي تحمل أكبره.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب : القراءة التي عليها عوامّ القرّاء ، وهي كسر الكاف ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ، وأن الكبر بالكسر : مصدر الكبير من الأمور ، وأن الكبر بضم الكاف إنما هو من الولاء والنسب من قولهم : هو كُبر قومه ، والكبر في هذا الموضع : هو ما وصفناه من معظم الإثم والإفك. فإذا كان ذلك كذلك ، فالكسر في كافه هو الكلام الفصيح دون ضمها ، وإن كان لضمها وجه مفهوم.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ) الآية ، فقال بعضهم : هو حسان بن ثابت.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن قزعة ، قال : ثنا مسلمة بن علقمة ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، أن عائشة قالت : ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان ، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة ، قوله لأبي سفيان :
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ... وَعِنْدَ الله في ذاكَ الجَزَاءُ... فإنَّ أبي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي... لِعِرْضِ مُحمّدٍ مِنْكُمْ وقاءُ... أتَشْتُمُهُ وَلَسْتَ لَهُ بكُفءٍ... فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُما الفِداءُ... لسانِي صَارمٌ لا عَيْبَ فِيه... وبَحْري لا تُكَدّرهُ الدّلاءُ (1)
__________
(1) هذه الأبيات الأربعة لحسان بن ثابت الأنصاري ، شاعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، يهجو بها أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شاعر قريش قبل إسلامه . وهي من قصيدته التي مطلعها : : " عفت ذات الأصابع فالجواء " . والأبيات قرب نهاية القصيدة ، وقبلها . ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برح الخفاء
( وانظر القصيدة في سيرة ابن هشام طبعة الحلبي ج 4 : 64 - 66 ) وقد استشهد بها المؤلف على أن حسان كان ممن خاض في حديث الإفك الذي رميت به أم المؤمنين عائشة المبرأة ، رضي الله عنها

(19/117)


فقيل : يا أم المؤمنين ، أليس هذا لغوا ؟ قالت; لا إنما اللَّغو ما قيل عند النساء. قيل : أليس الله يقول : ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) قالت : أليس قد أصابه عذاب عظيم ، أليس قد ذهب بصره ، وكُنِّع بالسيف (1) .
قال : ثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : كنت عند عائشة ، فدخل حسان بن ثابت ، فأمرت ، فألقي له وسادة; فلما خرج قلت لعائشة : ما تصنعين بهذا ، وقد قال الله ما قال ؟ فقالت : قال الله : ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) وقد ذهب بصره ، ولعلّ الله يجعل ذلك العذاب العظيم : ذهاب بصره.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة ، فشبَّب بأبيات له ، فقال :
وتصبح غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافِل (2)
فقالت عائشة : أما إنك لست كذلك ، فقلت : تدعين هذا الرجل يدخل عليك ، وقد أنزل الله فيه : ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ ) الآية ؟ فقالت : وأيّ عذاب أشدّ من العمى ، وقالت : إنه كان يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، قال : ثنا جعفر بن عون ، عن المُعَلَّى بن عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جحش ، قال : تفاخرت عائشة وزينب ، قال :
__________
(1) كنع بالسيف : ضرب به حتى يبس جلده ( اللسان )
(2) هذا عجز بيت لحسان بن ثابت ، من أبيات له في مدح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه بعد أن نزلت براءتها في سورة النور ، من الإفك الذي خاض فيه بعض الصحابة ، وكان حسان من أشدهم خوضًا فيه ، حتى إذا حصحص الحق ، وظهرت براءة أم المؤمنين ندم حسان واعتذر ، وقال يمدحها في أبيات له . وصدر البيت * حصان رزان ما تزن بريبة *
والحصان : العفيفة والرزان : الرزينة الثابتة التي لا يستخفها الطيش . وتزن ترمي وتتهم . والريبة : التهمة والشك . وغرثى : جائعة ، يريد لا تغتاب النساء ، والغوافل : جمع غافلة ، وهي التي غفل قلبها عن الشر ( وانظر سيرة ابن هشام طبعة الحلبي 3 : 319 ، 320 )

(19/118)


فقالت زينب : أنا التي نزل تزويجي من السماء قال : وقالت عائشة : أنا التي نزل عذري في كتابه حين حملني ابن المعطّل على الراحلة ، فقالت لها زينب : يا عائشة ، ما قلت حين ركبتيها ، قالت : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل ، قالت : قلت كلمة المؤمنين.
وقال آخرون : هو عبد الله بن أُبَي ابن سلول.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كان الذين تكلموا فيه : المنافق عبد الله بن أُبي ابن سلول ، وكان يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كبره ، ومسطح ، وحسان بن ثابت.
حدثنا سفيان ، قال : ثنا محمد بن بشر ، قال : ثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن علقمة بن وقاص وغيره أيضا ، قالوا : قالت عائشة : كان الذي تولى كبره : الذي يجمعهم في بيته ، عبد الله بن أُبي ابن سلول.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن شهاب ، قال : ثني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عائشة ، قالت : كان الذي تولى كبره : عبد الله بن أُبي.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا ) الآية ، الذين افتروا على عائشة : عبد الله بن أُبي ، وهو الذي تولى كبره ، وحسان ، ومسطح ، وحمنة بنت جحش.
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا أبان العطار ، قال : ثنا هشام بن عروة في الذين جاءوا بالإفك ، يزعمون أنه كان كِبْرُ ذلك عبد الله بن أُبي ابن سلول ، أحد بني عوف بن الخزرج ، وأخبرت أنه كان يحدّث به عنهم ، فيقرّه ويسمعه ويستوشيه.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أما الذي تولى كبره منهم ، فعبد الله بن أُبي ابن سلول الخبيث ، هو الذي ابتدأ هذا الكلام ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ، ثم جاء يقود بها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ،

(19/119)


قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : والذي تولى كبره هو عبد الله بن أُبي ابن سلول ، وهو بدأه.
وأولى القولين في ذلك بالصواب : قول من قال : الذي تولى كبره من عصبة الإفك ، كان عبد الله بن أُبي ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير ، أن الذي بدأ بذكر الإفك ، وكان يجمع أهله ويحدثهم ، عبد الله بن أُبي ابن سلول ، وفعله ذلك على ما وصفت كان توليه كبر ذلك الأمر.
وكان سبب مجيء أهل الإفك ، ما حدَّثنا به ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب ، ثني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله ، وكلهم حدثني طائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض ، وأثبت اقتصاصا ، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة ، وبعض حديثهم يصدّق بعضا :
زعموا أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها. قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزاة غزاها ، فخرج سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد ما أنزل الحجاب ، وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل إلى المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني ، أقبلت إلى الرحل ، فلمست صدري ، فإذا عقد لي من جَزْع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي ، فاحتملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه ، قالت : وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يُهَبِّلْهُن ولم يَغْشَهن اللحم ، إنما يأكلن العُلْقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السنّ ، فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدي بعد ما استمرّ الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني ويرجعون إليّ ، فبينا أنا جالسة في منزلي ، غلبتني عيني ،

(19/120)


فنمت حتى أصبحت. وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش ، فأدلج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني ، فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل أن يضرب الحجاب عليّ ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، والله ما تكلمت بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يديها ، فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة ، فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أُبي ابن سلول ، فقدمنا المدينة ، فاشتكيت شهرا ، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل فيسلم ثم يقول : " كيف تيكم ؟ " فذلك يريبني ، ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت ، فخرجت مع أمّ مسطح قبل المناصع ، وهو متبرّزنا ، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه (1) وكنا نتأذّى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا ، فانطلقت أنا وأمّ مسطح ، وهي ابنة أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصدّيق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أمّ مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت! أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه ، أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى منزلي ، ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : " كيف تيكم ؟ " فقلت : أتأذن لي أن آتي أبويّ ؟ قال : " نعم " ، قالت : وأنا (2) حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قِبَلهما ، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئت أبويّ ، فقلت لأمي : أي أمتاه ، ماذا يتحدّث الناس ؟ فقالت : أي بنية ، هوّني عليك ، فوالله لقلما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر ، إلا أكثرن عليها. قالت : قلت : سبحان الله ، أو قد تحدّث الناس بهذا وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت ، فدخل عليّ أبو بكر وأنا أبكي ، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها ، فأكبّ يبكي ، فبكى ساعة ، ثم قال : اسكتي يا بنية ، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، ثم بكيت ليلتي المقبلة ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب ، وأُسامة بن زيد ، حين استلبث الوحي ، يستشيرهما في فراق أهله قالت : فأما أُسامة ، فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود فقال : يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا. وأما عليّ فقال : لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك ، يعني : بريرة ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِيرة ، فقال : " هَلْ رأيْت منْ شَيء يَرِيبُكِ مِنْ عائِشَةَ ؟ " قالت له بريرة : والذي بعثك بالحقّ ، ما رأيت عليها أمرا قطّ أغمصه عليها ، أكثر من أنها حديثة السنّ ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله ، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : " مَنْ يَعْذُرُني مِمَّنْ قَدْ بَلَغني أذَاهُ في أهْلِي ؟ " يعني عبد الله بن أُبيّ ابن سلول ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر أيضا : " يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ ، مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَني أذَاهُ فِي أهْلِي ؟ فَوَاللهِ ما عَلِمْتُ عَلى أهْلِي إلا خَيْرًا ، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلا ما عَلِمْتُ عَلَيْه إلا خَيْرًا ، وما كانَ يَدْخُل على أهْلِي إلا مَعي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ؛ فقام سعد بن عبادة ، فقال ، وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية ، فقال : أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ، ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن حضير ، وهو ابن عمة سعد بن معاذ ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت ، لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان الأوس والخزرج ، حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله
__________
(1) كذا رواه الإمام مسلم في صحيحه ( 17 : 106 ) بشرح النووي . وفي صحيح البخاري طبعة الحلبي ( 5 : 150 ) : البرية قبل الغائط ، في مكان : التنزه
(2) هذه رواية مسلم . وفي صحيح البخاري ( 5 : 150 ) : قالت : أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت : فأذن .. . إلخ

(19/121)


صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ، ثم أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في بيت أبويّ ، فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي ، استأذنت عليّ امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي; قالت : فبينا نحن على ذلك ، دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جلس عندي ، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحَى إليه في شأني بشيء ، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ، ثم قال : " أمَّا بَعْدُ يَا عائشَةُ ، فإنَّهُ بَلَغَني عَنْكِ كَذَا وكَذَا ، فإنْ كُنْت بَرِيئَةً فَسَيُبَرئُكِ اللهُ ، وإن كُنْتِ ألمَمْتِ بِذَنْبٍ ، فاسْتَغْفِري اللهَ ، وَتُوبِي إلَيْهِ ، فإنَّ العَبْدَ إذَا اعْتَرَف بِذَنْبِهِ ثُمَّ تابَ ، تابَ اللهُ عَلَيْهِ " . فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته ، قلص دمعي ، حتى ما أحسّ منه دمعة ، قلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرًا من القرآن : إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا ، حتى استقرّ في أنفسكم ، حتى كدتم أن تصدِّقوا به ، فإن قلت لكم : إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدّقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر ، والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني ، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف (1) ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) ثم تولّيت واضطجعت على فراشي ، وأنا والله أعلمُ أني بريئة ، وأن الله سيبرّئني ببراءتي ، ولكني والله ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحي يُتلى ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يُتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام رؤيا يبرّئني الله بها ، قالت : والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ، ولا خرج من البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي ، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي ، من ثقل القول الذي أُنزل عليه ، قالت : فلما سُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، كان أوّل كلمة تكلم بها أن قال : " أبْشِرِي يا عائِشَةُ ، إنَّ اللهَ قَدْ برَّأك! " فقالت لي أمي ، قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله ، هو الذي أنزل براءتي. فأنزل الله : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) عشر آيات ، فأنزل هذه الآيات براءة لي. قالت : فقال أبو بكر ، وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ، قالت : فأنزل الله : ( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) حتى بلغ : ( غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فقال أبو بكر : إني لأحبّ أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري ، وما رأت ، وما سمعت ، فقالت : يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ، والله ما رأيت إلا خيرا ، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني ، فعصمها الله بالورع ، وطفقت أختها حمنة تحارب ، فهلكت فيمن هلك.
قال الزهري بن شهاب : هذا الذي انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، وعن علقمة بن وقاص الليثي ، عن سعيد بن المسيب ، وعن عروة بن الزبير ، وعن عبيد الله بن عتبة بن مسعود ، قال الزهري : كلّ قد حدثني بعض هذا الحديث ، وبعض القوم كان له أوعى من بعض. قال : وقد جمعت لك كل الذي قد حدثني.
وحدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة; قال : وثني محمد بن إسحاق ، قال : ثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة قال : وثني عبد الله بن بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : وكل قد اجتمع في حديثه قصة خبر عائشة عن نفسها ، حين قال أهل الإفك فيها ما قالوا ، وكله قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا ، ويحدث بعضهم ما لم يحدث بعض ، وكلّ كان عنها ثقة ، وكلّ قد حدّث عنها ما سمع.
قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها معه ، فلما كانت غزاة بني المصطلق ، أقرع بين نسائه ، كما كان يصنع ، فخرج سهمي عليهنّ ، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ، قالت : وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق ، لم يهيجهن اللحم فيثقلن ؛
__________
(1) لم تذكر أم المؤمنين رضي الله عنها اسم النبي يعقوب أبي يوسف عليهما السلام ، لأنها كانت جارية حديثة السن ، ولم تقرأ كثيرًا من القرآن بعد

(19/123)


قالت : وكنت إذا رحل بعيري جلست في هودجي ، ثم يأتي القوم الذين يرحلون بي بعيري ويحملوني ، فيأخذون بأسفل الهودج يرفعونه فيضعونه على ظهر البعير ، فينطلقون به ؛ قالت : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك ، وجه قافلاحتى إذا كان قريبا من المدينة ، نزل منزلا فبات بعض الليل ، ثم أذن في الناس بالرحيل. فلما ارتحل الناس ، خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي من جزع ظَفَار ، فلما فرغت انسلّ من عنقي وما أدري; فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده ، وقد أخذ الناس في الرحيل ، قالت : فرجعت عَوْدِي إلى بَدْئي ، إلى المكان الذي ذهبت إليه ، فالتمسته حتى وجدته ، وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون بي البعير.
ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى ، عن ابن ثور.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا وما علمت فتشهد فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : " أمَّا بَعْدُ أشِيرُوا عَلَيَّ في أُناسٍ أبَنُوا أهْلِي ، واللهِ ما عَلِمْتُ عَلى أهْلِي سُوءًا قَطُّ ، وأبَنوهُم بمَنْ واللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ سُوءًا قَطُّ ، ولا دَخَلَ بَيْتِي قَطُّ إلا وأنا حاضِرٌ ، ولا أغِيبُ في سَفَرٍ إلا غَابَ مَعِي " فقام سعد بن معاذ فقال : يا رسول الله ، نرى أن نضرب أعناقهم ، فقام رجل من الخزرج ، وكانت أمّ حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل ، فقال : كذبت ، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج في المسجد شر ، وما علمت به ، فلما كان مساء ذلك اليوم ، خرجت لبعض حاجتي ومعي أمّ مسطح ، فعثرت ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت علام تسبين ابنك فسكتت ، ثم عثرت الثانية ، فقالت : تعس مسطح ، قلت : علام تسبين ابنك ؟ فسكتت ، ثم عثرت الثالثة ، فقالت : تعس مسطح فانتهرتها وقلت : علام تسبين ابنك ؟ قالت : والله ما أسبه إلا فيك ، قلت : في أيّ شأني ، فبقرت (1) لي الحديث ، فقلت : وقد كان هذا ؟ قالت : نعم والله ، قالت : فرجعت إلى بيتي فكأن الذي خرجتُ له لم أخرج له ، ولا أجد منه قليلا ولا كثيرا ، ووعكت ، فقلت : يا رسول الله ، أرسلني إلى بيت أبي ، فأرسل معي الغلام ، فدخلت الدار فإذا أنا بأمي أمّ رومان ، قالت : ما جاء بك يا بُنية ؟ فأخبرتها ، فقالت : خفِّضي عليك الشأن ،
__________
(1) بقرت لي الحديث : أخبرتني به مفصلا

(19/125)


فإنه والله ما كانت امرأة جميلة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا حسدنها وقلن فيها ، قلت : وقد علم بها أبي ؟ قالت : نعم. قلت : ورسول الله ؟ قالت : نعم ، فاستعبرت وبكيت ، فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ ، فنزل فقال لأمي : ما شأنها ؟ قالت : بلغها الذي ذكر من أمرها ، ففاضت عيناه ، فقال : أقسمت عليك إلا رجعت إلى بيتك.
فرجعت ، فأصبح أبواي عندي ، فلم يزالا عندي حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بعد العصر ، وقد اكتنفني أبواي ، عن يميني ، وعن شمالي ، فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : " أمَّا بَعْدُ يا عائِشَةُ ، إن كُنْتِ قَارفتِ سُوءًا أوْ ألمَمْتِ فَتُوبِي إلى الله ، فإنَّ الله يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه " وقد جاءت امرأة من الأنصار وهي جالسة ، فقلت : ألا تستحي من هذه المرأة أن تقول شيئا ؟ فقلت لأبي : أجبه ، فقال : أقول ماذا ؟ قلت لأمي : أجيبيه ، فقالت : أقول ماذا ؟ فلما لم يجيباه تشهدت ، فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ، ثم قلت : أما بعد ، فوالله لئن قلت لكم إني لم أفعل ، والله يعلم إني لصادقة ما ذا بنافعي عندكم ، لقد تكلم به وأشربته قلوبكم ، وإن قلت إني قد فعلت ، والله يعلم أني لم أفعل ، لتقولنّ قد باءت به على نفسها ، وأيم الله ، ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف وما أحفظ اسمه : ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) وأنزل الله على رسوله ساعتئذ ، فرفع عنه ، وإني لأتبين السرور في وجهه ، وهو يمسح جبينه يقول : " أبْشِرِي يا عائِشَةُ ، فَقَدْ أنزلَ اللهُ بَرَاءَتَكِ " فكنت أشدّ ما كنت غضبا ، فقال لي أبواي : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمده ولا أحمدكما ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه ، ولكني أحمد الله الذي أنزل براءتي. ولقد جاء رسول الله بيتي ، فسأل الجارية عني ، فقالت : والله ما أعلم عليها عيبا ، إلا أنها كانت تنام حتى كانت تدخل الشاة فتأكل حصيرها أو عجينها ، فانتهرها بعض أصحابه ، وقال لها : اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عروة : فعتب على من قاله ، فقال : لا والله ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر ، وبلغ ذلك الرجل الذي قيل له ، فقال : سبحان الله ما كشفت كنف أنثى قطّ ، فقتل شهيدا في سبيل الله ، قالت عائشة : فأما زينب بنت جحش فعصمها الله بدينها ، فلم تقل إلا خيرا ، وأما حمنة أختها ، فهلكت فيمن هلك ، وكان الذين تكلموا فيه : المنافق عبد الله بن أُبي ابن سلول ، وكان يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كبره ،

(19/126)


ومسطحا ، وحسان بن ثابت ، فحلف أبو بكر أن لا ينفع مسطحا بنافعة ، فأنزل الله : ( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) . يعني أبا بكر ، ( أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ ) يعني : مسطحا( أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال أبو بكر : بلى والله ، إنا لنحبّ أن يغفر الله لنا ، وعاد أبو بكر لمسطح بما كان يصنع به.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا محمد بن بشر ، قال : ثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن علقمة بن وقاص وغيره أيضا ، قال : خرجت عائشة تريد المذهب (1) ومعها أمّ مسطح ، وكان مسطح بن أثاثة ممن قال ما قال ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل ذلك ، فقال : " كَيْفَ تَرَوْنَ فِيمَنْ يُؤْذِيني فِي أهْلِي ويَجْمَعُ في بَيْتِهِ مَنْ يُؤْذِيني ؟ " فقال سعد بن معاذ : أي رسول الله ، إن كان منا معشر الأوس جلدنا رأسه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج ، أمرتنا فأطعناك ، فقال سعد بن عبادة : يا بن معاذ ، والله ما بك نصرة رسول الله ، ولكنها قد كانت ضغائن في الجاهلية ، وإحن لم تحلل لنا من صدوركم بعد ، فقال ابن معاذ : الله أعلم ما أردت ، فقام أسيد بن حضير فقال : يا بن عبادة ، إن سعدا ليس شديدا ، ولكنك تجادل عن المنافقين ، وتدفع عنهم ، وكثر اللغط في الحيين في المسجد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على المنبر ، فما زال النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئ بيده إلى الناس هاهنا وهاهنا ، حتى هدأ الصوت.
وقالت عائشة : كان الذي تولى كبره ، والذي يجمعهم في بيته ، عبد الله بن أُبي ابن سلول ، قالت : فخرجت إلى المذهب ومعي أمّ مسطح ، فعثرت ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت : غفر الله لك ، أتقولين هذا لابنك ولصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت ذلك مرّتين ، وما شعرت بالذي كان ، فحُدثت ، فذهب عني الذي خرجت له ، حتى ما أجد منه شيئا ،
ورجعت على أبويّ : أبي بكر ، وأمّ رومان فقلت : أما اتقيتما الله في وما وصلتما رحمي ؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي قال ، وتحدّث الناس بالذي تحدثوا به ولم تعلماني ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : أي بنية ، والله لقلما أحبّ رجل قطّ امرأته إلا قالوا لها نحو الذي قالوا لك ، أي بنية ارجعي إلى بيتك حتى نأتيك فيه ، فرجعت وارتكبني صالب من حمى ، فجاء أبواي
__________
(1) المذهب : مكان التبرز في الخلاء

(19/127)


لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)

فدخلا وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على سريري وجاهي ، فقالا أي بينة ، إن كنت صنعت ما قال الناس فاستغفري الله ، وإن لم تكوني صنعتيه فأخبري رسول الله بعذرك ، قلت : ما أجد لي ولكم إلا كأبي يوسف( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) قالت : فالتمست اسم يعقوب فما قدرت ، أو فلم أقدر عليه ، فشخص بصر رسول الله إلى السقف ، وكان إذا نزل عليه وجد قال الله : ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا ) فوالذي هو أكرمه ، وأنزل عليه الكتاب ما زال يضحك حتى إني لأنظر إلى نواجذه سرورا ، ثم مسح عن وجهه ، فقال : " يا عائشَةُ أبْشرِي ، قد أنزل اللهُ عُذْرَك " قلت : بحمد الله لا بحمدك ، ولا بحمد أصحابك ، قال الله : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ )... حتى بلغ( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) وكان أبو بكر حلف أن لا ينفع مسطحا بنافعة ، وكان بينهما رحم ، فلما أنزلت : ( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ )... حتى بلغ : ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال أبو بكر : بلى ، أي ربّ ، فعاد إلى الذي كان لمسطح( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ )... حتى بلغ( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) قالت عائشة : والله ما كنت أرجو أن ينزل فيّ كتاب ولا أطمع به ، ولكن أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا تذهب ما في نفسه ، قالت : وسأل الجارية الحبشية فقالت : والله لعائشة أطيب من طيب الذهب ، وما بها عيب إلا أنها ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل عجينها ، ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنك الله ، قال : فعجب الناس من فقهها.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) }
وهذا عتاب من الله تعالى ذكره أهل الإيمان به فيما وقع في أنفسهم من إرجاف من أرجف في أمر عائشة بما أرجف به ، يقول لهم تعالى ذكره : هلا أيها الناس إذ سمعتم ما قال أهل الإفك في عائشة ظن المؤمنون منكم والمؤمنات بأنفسهم خيرا : يقول : ظننتم بمن قرف بذلك منكم خيرا ، ولم تظنوا به أنه أتى الفاحشة ، وقال بأنفسهم ، لأن أهل الإسلام كلهم بمنزلة نفس واحدة ، لأنهم أهل ملة واحدة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/128)


لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن أبيه ، عن بعض رجال بني النجار ، أن أبا أيوب خالد بن زيد ، قالت له امرأته أمّ أيوب : أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال : بلى ، وذلك الكذب ، أكنت فاعلة ذلك يا أمّ أيوب ؟ قالت : لا والله ما كنت لأفعله ، قال : فعائشة والله خير منك ، قال : فلما نزل القرآن ، ذكر الله من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) وذلك حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا ، ثم قال : ( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ )... الآية : أي كما قال أبو أيوب وصاحبته.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا ) ما هذا الخير ظنّ المؤمن أن المؤمن لم يكن ليفجر بأمه ، وأن الأم لم تكن لتفجر بابنها ، إن أراد أن يفجر فجر بغير أمه ،
يقول : إنما كانت عائشة أما ، والمؤمنون بنون لها ، محرّما عليها ، وقرأ : ( لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ )... الآية.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : ( ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا ) قال لهم خيرا ، ألا ترى أنه يقول : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) . يقول : بعضكم بعضا ، وسلموا على أنفسكم ، قال : يسلم بعضكم على بعض.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عوف عن الحسن ، في قوله : ( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا ) يعني بذلك المؤمنين والمؤمنات.
وقوله : ( وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ) يقول : وقال المؤمنون والمؤمنات : هذا الذي سمعناه من القوم الذي رمي به عائشة من الفاحشة كذب وإثم ، يبين لمن عقل وفكر فيه أنه كذب وإثم وبهتان.
كما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : أخبرنا عوف عن الحسن : ( وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ) قالوا : إن هذا لا ينبغي أن يتكلم به إلا من أقام عليه أربعة من الشهود ، وأقيم عليه حدّ الزنا.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ

(19/129)


فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) }
يقول تعالى ذكره : هلا جاء هؤلاء العصبة الذين جاءوا بالإفك ، ورموا عائشة بالبهتان ، بأربعة شهداء يشهدون على مقالتهم فيها وما رَمَوها به ،
فإذا لم يأتوا بالشهداء الأربعة على حقيقة ما رَمَوْها به( فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) يقول : فالعُصْبة الذين رَمَوها بذلك عند الله هم الكاذبون فيما جاءوا به من الإفك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) أيها الخائضون في أمر عائشة ، المُشِيعُون فيها الكذب والإثم ، بتركه تعجيل عقوبتكم( وَرَحْمَتُهُ ) إياكم لعفوه عنكم( فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) بقبول توبتكم مما كان منكم في ذلك ؛ ( لَمَسَّكُمْ فِيمَا ) خضتم فيه من أمرها عاجلا في الدنيا( عَذَابٌ عَظِيمٌ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ) هذا للذين تكلموا فنشروا ذلك الكلام ، ( لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) }
يقول تعالى ذكره : لمسَّكم فيما أفضتم فيه من شأن عائشة عذاب عظيم ، حين تلَّقونه بألسنتكم ، و " إذ " من صلة قوله " لمسَّكم " ويعني بقوله : ( تَلَقَّوْنَهُ ) تتلقون الإفك الذي جاءت به العصبة من أهل الإفك ، فتقبلونه ، ويرويه بعضكم عن بعض يقال : تلقيت هذا الكلام عن فلان ، بمعنى أخذته منه ، وقيل ذلك ؛ لأن الرجل منهم فيما ذُكِرَ يَلْقى آخر ، فيقول : أوَمَا بلغك كذا وكذا عن عائشة ؟ ليُشيع عليها بذلك

(19/130)


الفاحشة. وذكر أنها في قراءة أُبيّ : " إذ تَتَلقَّوْنه " بتاءين ، وعليها قراءة الأمصار ، غير أنهم قرءوها : ( تَلَقَّوْنَهُ ) بتاء واحدة ؛ لأنها كذلك في مصاحفهم.
وقد رُوي عن عائشة في ذلك ، ما حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكَم ، قال : ثنا خالد بن نزار ، عن نافع ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقرأ هذه الآية : " إذْ تَلِقُونَهُ بِألْسِنَتكُمْ " تقول : إنما هو وَلْق الكذب ، وتقول : إنما كانوا يلقون الكذب. قال ابن أبي مليكة : وهي أعلم بما فيها أنزلت ، قال نافع : وسمعت بعض العرب (1) يقول : اللَّيق : الكذب.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا نافع بن عمر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الجمحِيّ ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، أنها كانت تقرأ : " إذْ تَلِقُونَهُ بألْسِنَتِكم " وهي أعلم بذلك وفيها أنزلت ، قال ابن أبي مليكة : هو من وَلْق الكذب.
قال أبو جعفر : وكأن عائشة وجَّهت معنى ذلك بقراءتها " تَلِقُونَهُ " بكسر اللام وتخفيف القاف ، إلى : إذ تستمرّون في كذبكم عليها ، وإفككم بألسنتكم ، كما يقال : ولق فلان في السير فهو يَلِق : إذا استمرّ فيه; وكما قال الراجز :
إنَّ الجُلَيْدَ زَلِقٌ وَزُمَلِقْ... جاءتْ بِهِ عَنْسٌ مِنَ الشَّأمِ تَلِقْ
مُجَوَّعُ البَطْنِ كِلابيُّ الخُلُقْ (2)
وقد رُوي عن العرب في الوَلْق : الكذب : الألْق ، والإلِق : بفتح الألف وكسرها ، ويقال في فعلت منه : ألقت ، فأنا ألق ، وقال بعضهم :
مَنْ لِيَ بالمُزَرَّرِ اليَلامِقِ... صاحِبِ أدْهانٍ وألقٍ آلِقِ (3)
__________
(1) لم نقف عليه فيما بأيدينا من كتب اللغة ، فلعله مصحف .
(2) هذه الأبيات ثلاثة من مشطور الرجز ، للقلاخ بن حزن المنقري نقلها صاحب ( اللسان : زلق ) . قال : رجل زلق و زملق مثال هديد و زمالق و زملق ( بتشديد الميم ) ، وهو الذي ينزل قبل أن يجامع . قال القلاخ بن حزن المنقري .. . الأبيات : ثم قال : والجليد : هو الجليد الكلابي . التهذيب : والعرب تقول : زلق و زملق ، وهو الشكاز ، الذي ينزل إذا حدث المرأة من غير جماع . قال ويقال للخفيف الطياش : زمل و زملوق و زمالق وفي ( اللسان : ولق ) . قال : وولق في سيره ولقا : أسرع . ونسب أبيات الشاهد للشماخ ، ولم أجدها في ديوان الشماخ المطبوع بمصر سنة 1327 . 1 هـ .
(3) هذان بيتان من الرجز أنشدها الأزهري عن بعضهم ( اللسان : ولق ) . وألق الكلام : متابعته في سرعة . والألق : الاستمرار في الكذب وألق يألق ألقا مثال ضرب يضرب ضربا . واليلامق : جمع يلمق ، وهو القباء ( فارسي معرب ) .. . واستشهد المؤلف بالبيتين على أن بعضهم قرأ قوله تعالى : { إذ تلقونه بألسنتكم } بكسر اللام ، وتخفيف القاف ، على أنه بمعنى الاستمرار في الكذب

(19/131)


وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)

والقراءة التي لا أستجيز غيرها : ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ) على ما ذكرت من قراءة الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
وبنحو الذي قلنا من التأويل في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ) قال : تَرْوُونه بعضُكم عن بعض.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ) قال : تَرْوُونه بعضكم عن بعض.
قوله : ( وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ) يقول تعالى ذكره : وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم من الأمر الذي تَرْوُونه ، فتقولون : سمعنا أن عائشة فعلت كذا وكذا ، ولا تعلمون حقيقة ذلك ولا صحته ، ( وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا ) وتظنون أن قولكم ذلك وروايتكموه بألسنتكم ، وتلقِّيكموه بعضكم عن بعض هين سهل ، لا إثم عليكم فيه ولا حرج ، ( وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ) يقول : وتلقِّيكم ذلك كذلك وقولُكموه بأفواهكم ، عند الله عظيم من الأمر; لأنكم كنتم تؤذون به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحليلته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلَوْلا ) أيها الخائضون في الإفك الذي جاءت به عصبة منكم ، ( إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ) ممن جاء به( قُلْتُمْ ) ما يحلّ لنا أن نتكلم بهذا ، وما ينبغي لنا أن نتفوّه به( سُبْحَانَكَ ) تنزيها لك يا ربّ وبراءة إليك مما جاء به هؤلاء( هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ) يقول : هذا القول بهتان عظيم.

(19/132)


يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) }
يقول تعالى ذكره : يذكِّرُكم الله وينهاكم بآي كتابه ، لئلا تعودوا لمثل فعلكم الذي فعلتموه في أمر عائشة من تلقِّيكم الإفك الذي روي عليها بألسنتكم ، وقولكم بأفواهكم ما ليس لكم به علم فيها أبدا( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) يقول : إن كنتم تتعظون بعظات الله ، وتأتمرون لأمره ، وتنتهون عما نهاكم عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) قال : والذي هو خير لنا من هذا ، أن الله أعلمنا هذا لكيلا نقع فيه ، لولا أن الله أعلمناه لهلكنا كما هلك القوم ، أن يقول الرجل : أنا سمعته ولم أخترقه (1) ولم أتقوله ، فكان خيرًا حين أعلمناه الله ، لئلا ندخل في مثله أبدا ، وهو عند الله عظيم وقوله : ( وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ) : ويفصّل الله لكم حججه عليكم بأمره ونهيه ، ليتبين المطيع له منكم من العاصي ، والله عليم بكم وبأفعالكم ، لا يخفى عليه شيء ، وهو مجاز المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، حكيم في تدبير خلقه ، وتكليفه ما كلَّفهم من الأعمال وفرضه ما فرض عليهم من الأفعال.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين يحبون أن يذيع الزنا في الذين صدّقوا بالله ورسوله ويظهر ذلك فيهم ، ( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يقول : لهم عذاب وجيع في الدنيا ، بالحدّ الذي جعله الله حدّا لرامي المحصَناتِ والمحصنين إذا رموهم بذلك ، وفي الآخرة عذاب جهنم إن مات مصرّا على ذلك غير تائب. كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن
__________
(1) اخترق الكذب : مثل اخترعه ، وافتعله ، وصنعه .

(19/133)


وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)

مجاهد ، قوله : ( يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ) قال : تظهر في شأن عائشة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) قال : الخبيث عبد الله بن أُبي ابن سلول ، المنافق ، الذي أشاع على عائشة ما أشاع عليها من الفرية ، ( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ) قال : تظهر; يتحدّث عن شأن عائشة.
وقوله : ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره : والله يعلم كذب الذين جاءوا بالإفك من صدقهم ، وأنتم أيها الناس لا تعلمون ذلك ، لأنكم لا تعلمون الغيب ، وإنما يعلم ذلك علام الغيوب. يقول : فلا تَرْووا ما لا علم لكم به من الإفك على أهل الإيمان بالله ، ولا سيما على حلائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهلكوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) }
يقول تعالى ذكره : ولولا أن تفضَّل الله عليكم أيها الناس ورحمكم ، وأن الله ذو رأفة ، ذو رحمة بخلقه لهلكتم فيما أفضتم فيه ، وعاجلتكم من الله العقوبة. وترك ذكر الجواب لمعرفة السامع بالمراد من الكلام بعده ، وهو قوله : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ )... الآية.

(19/134)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (21) }
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، لا تسلكوا سبيل الشيطان وطرقه ، ولا تقتفوا آثاره ، بإشاعتكم الفاحشة في الذين آمنوا وإذ اعتكموها فيهم وروايتكم ذلك عمن جاء به ، فإن الشيطان يأمر بالفحشاء ، وهي الزنا ، والمنكر من القول.
وقد بَيَّنَّا معنى الخطوات والفحشاء فيما مضى بشواهده ، ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

(19/134)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) }
يقول تعالى ذكره : ولولا فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته لكم ، ما تَطَهَّر منكم من أحد أبدا من دنس ذنوبه وشركه ، ولكن الله يطهرُ من يشاء من خلقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا ) يقول : ما اهتدى منكم من الخلائق لشيء من الخير ينفع به نفسه ، ولم يتق شيئا من الشرّ يدفعه عن نفسه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا ) قال : ما زكى : ما أسلم ، وقال : كلّ شيء في القرآن من زكى أو تَزكى ، فهو الإسلام.
وقوله : ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) يقول : والله سميع لما تقولون بأفواهكم ، وتَلَقَّوْنه بألسنتكم ، وغير ذلك من كلامكم ، عليم بذلك كله وبغيره من أموركم ، محيط به ، محصيه عليكم ، ليجازيكم بكل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) }
يقول تعالى ذكره : ولا يحلف بالله ذوو الفضل منكم ، يعني : ذوي التفضل والسَّعة ، يقول : وذوو الجِدَه.
واختلف القرّاء في قراءة قوله : ( ولا يَأْتَلِ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار.( وَلا يَأْتَلِ ) بمعنى : يفتعل من الألَيَّة ، وهي القسم بالله ، سوى أبي جعفر وزيد بن أسلم ، فإنه ذكر عنهما أنهما قرآ ذلك " وَلا يَتألّ " بمعنى : يتفعل ، من الألِية.

(19/135)


والصواب من القراءة في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : ( ولا يَأْتَلِ ) بمعنى : يفتعل من الألية ، وذلك أن ذلك في خطّ المصحف كذلك ، والقراءة الأخرى مخالفة خطّ المصحف ، فاتباع المصحف مع قراءة جماعة القرّاء وصحّة المقروء به أولى من خلاف ذلك كله ، وإنما عُنِي بذلك أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه في حلفه بالله لا ينفق على مِسْطَح ، فقال جلّ ثناؤه : ولا يحلف من كان ذا فضل من مال وسعة منكم أيها المؤمنون بالله ألا يُعْطُوا ذَوي قَرابتهم ، فيصلوا به أرحامهم ، كمِسْطح ، وهو ابن خالة أبي بكر( والمسَاكِين ) يقول : وذوي خَلَّة الحاجة ، وكان مِسْطح منهم ؛ لأنه كان فقيرا محتاجا( وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) وهم الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم في جهاد أعداء الله ، وكان مِسْطَح منهم; لأنه كان ممن هاجر من مكة إلى المدينة ، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا( وَلْيَعْفُوا ) يقول : وليعفوا عما كان منهم إليهم من جُرم ، وذلك كجرم مِسطَح إلى أبي بكر في إشاعته على ابنته عائشة ما أشاع من الإفك ، ( وَلْيَصْفَحُوا ) يقول : وليتركوا عقوبتهم على ذلك ، بحرمانهم ما كانوا يؤتونهم قبل ذلك ، ولكن ليعودوا لهم إلى مثل الذي كانوا لهم عليه من الإفضال عليهم ، ( أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ) يقول : ألا تحبون أن يستر الله عليكم ذنوبكم بإفضالكم عليهم ، فيترك عقوبتكم عليها( واللهُ غَفُورٌ ) لذنوب من أطاعه واتبع أمره ، ( رَحِيمٌ ) بهم أن يعذبهم مع اتباعهم أمره ، وطاعتهم إياه على ما كان لهم من زلة وهفوة قد استغفروه منها ، وتابوا إليه من فعلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهريّ ، عن عَلقمة بن وقاص الليثيّ ، وعن سعيد بن المسيب ، وعن عروة بن الزبير ، وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة ، قال : وثني ابن إسحاق ، قال : ثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة ، قال : وثني ابن إسحاق ، قال : ثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة ، قالت : لما نزل هذا ، يعني قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) في عائشة ، وفيمن قال لها ما قال قال أبو بكر ، وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا ، ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال ، وأدخل عليها

(19/136)


إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)

ما أدخل ، قالت : فأنزل الله في ذلك( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ )... الآية. قالت : فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجَّع إلى مسطح نفقته التي كان يُنْفِق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا.
حدثني عليّ ، قال ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) يقول : لا تقسموا ألا تنفعوا أحدا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ )... إلى آخر الآية ، قال : كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رَمَوا عائشة بالقبيح ، وأفشَوا ذلك وتكلموا به ، فأقسم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيهم أبو بكر ، ألا يتصدّق على رجل تكلم بشيء من هذا ولا يصله ، فقال : لا يُقْسِم أولو الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم ، وأن يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك. فأمر الله أن يُغْفَر لهم وأن يُعْفَى عنهم.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) : لما أنزل الله تعالى ذكره عذر عائشة من السماء ، قال أبو بكر وآخرون من المسلمين ، والله لا نصل رجلا منهم تكلم بشيء من شأن عائشة ولا ننفعه ، فأنزل الله( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) يقول : ولا يحلف.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى ) قال : كان مِسْطَح ذا قرابة.( وَالْمَسَاكِينَ ) قال : كان مسكينا( والمهاجرين في سبيل الله ) كان بدْريا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) قال : أبو بكر حلف أن لا ينفع يتيما في حِجْره كان أشاع ذلك ، فلما نزلت هذه الآية قال : بلى أنا أحب أن يغفر الله لي ، فلأكوننّ ليتيمي خيرَ ما كنت له قطُّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ

(19/137)


الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) }
يقول تعالى ذكره : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ ) بالفاحشة( الْمُحْصَنَاتِ ) يعني العفيفات( الْغَافِلاتِ ) عن الفواحش( الْمُؤْمِنَاتِ ) بالله ورسوله ، وما جاء به من عند الله ، ( لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) يقول : أبْعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة ، ( وَلَهُمْ ) في الآخرة( عَذَابٌ عَظِيمٌ ) وذلك عذاب جهنم.
واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي هذا حكمهنّ ، فقال بعضهم : إنما ذلك لعائشة خاصة ، وحكم من الله فيها وفيمن رماها ، دون سائر نساء أمة نبينا صلى الله عليه وسلم
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : ثنا خَصِيف ، قال : قلت لسعيد بن جُبير : الزنا أشدّ أم قذف المحصَنة ؟ فقال : الزنا ، فقلت : أليس الله يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ )... الآية ؟ قال سعيد : إنما كان هذا لعائشة خاصة.
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سَلَمة ، عن أبيه ، قال : قالت عائشة : رُميت بما رُميت به وأنا غافلة ، فبلغني بعد ذلك ، قالت : فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي جالس ، إذ أوحي إليه ، وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات ، وأنه أُوحي إليه وهو جالس عندي ، ثم استوى جالسا يمسح عن وجهه ، وقال : يا عائشة أبشري ، قالت : فقلت : بحمد الله لا بحمدك ، فقرأ : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ )... حتى بلغ : ( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ).
وقال آخرون : بل ذلك لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، دون سائر النساء غيرهنّ.
*ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ )... الآية ، أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة.

(19/138)


وقال آخرون : نزلت هذه الآية في شأن عائشة ، وعني بها كلّ من كان بالصفة التي وصف الله في هذه الآية ، قالوا : فذلك حكم كلّ من رمى محصنة ، لم تقارف سُوءًا.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا زيد ، عن جعفر بن برقان ، قال : سألت ميمونا ، قلت : الذي ذكر الله : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ )... إلى قوله : ( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فجعل في هذه توبة ، وقال في الأخرى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ )... إلى قوله : ( لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) قال ميمون : أما الأولى فعسى أن تكون قد قارفت ، وأما هذه ، فهي التي لم تقارف شيئا من ذلك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام بن حوشب ، عن شيخ من بني أسد ، عن ابن عباس ، قال : فسَّر سورة النور ، فلما أتى على هذه الآية( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ )... الآية ، قال : هذا في شأن عائشة وأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهي مبهمة ، وليست لهم توبة ، ثم قرأ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ) ... إلى قوله : ( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا )... الآية ، قال : فجعل لهؤلاء توبة ، ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة ، قال : فهمّ بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن ما فسَّر سورة النور.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) قال : هذا في عائشة ، ومن صنع هذا اليوم في المسلمات ، فله ما قال الله ، ولكن عائشة كانت إمام ذلك.
وقال آخرون : نزلت هذه الآية في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أوّل السورة فأوجب الجلد ، وقبل التوبة.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ )... إلى : ( عَذَابٌ عَظِيمٌ ) يعني أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، رماهنّ أهل النفاق ، فأوجب الله

(19/139)


يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)

لهم اللعنة والغضب وباءوا بسخط من الله ، وكان ذلك في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل بعد ذلك : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ )... إلى قوله : ( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فأنزل الله الجلد والتوبة ، فالتوبة تُقبل ، والشهادة تردّ.
وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : نزلت هذه الآية في شأن عائشة ، والحكم بها عامّ في كلّ من كان بالصفة التي وصفه الله بها فيها.
وإنما قلنا ذلك أولى تأويلاته بالصواب ؛ لأن الله عمَّ بقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) كلّ محصنة غافلة مؤمنة ، رماها رام بالفاحشة ، من غير أن يخصَّ بذلك بعضا دون بعض ، فكلّ رام محصنة بالصفة التي ذكر الله جلّ ثناؤه في هذه الآية فملعون في الدنيا والآخرة ، وله عذاب عظيم ، إلا أن يتوب من ذنبه ذلك قبل وفاته ، فإن الله دلّ باستثنائه بقوله : ( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ) على أن ذلك حكم رامي كل محصنة ، بأيّ صفة كانت المحصنة المؤمنة المرمية ، وعلى أن قوله : ( لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) معناه : لهم ذلك إن هلكوا ولم يتوبوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) }
يقول تعالى ذكره : ولهم عذاب عظيم( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ) فاليوم الذي في قوله : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ) من صلة قوله : ( وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) وعُني بقوله : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ) يوم القيامة ، وذلك حين يجحد أحدهم ما اكتسب في الدنيا من الذنوب ، عند تقرير الله إياه بها فيختم الله على أفواههم ، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
فإن قال قائل : وكيف تشهد عليهم ألسنتهم حين يختم على أفواههم ؟ قيل : عني بذلك أن ألسنة بعضهم تشهد على بعض ، لا أنَّ ألسنتهم تنطق وقد ختم على الأفواه.
وقد حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو ، عن درّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ عُرِّفَ الكَافِرُ بعَمَلِه ، فَجَحَدَ وَخَاصَمَ ، فَيُقُالُ لَهُ : هَؤُلاءِ جِيرَانُك يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ ، فَيَقُولُ : كَذَبُوا ، فَيَقُولُ : أهْلُكَ وعَشِيرتُكَ ، فَيَقُولُ : كَذَبُوا ، فَيَقُولُ : أتَحْلِفُونَ ؟

(19/140)


يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

فَيَحْلِفُون ، ثُمَّ يُصْمِتُهُم اللهُ ، وتَشْهَدُ ألْسِنَتُهُم ثُمَّ يُدْخلُهُم النَّارَ " .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) }
يقول تعالى ذكره : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يوفيهم الله حسابهم وجزاءهم الحقّ على أعمالهم.
والدين في هذا الموضع : الحساب والجزاء ، كما حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ) يقول. حسابهم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( الحَقَّ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار.( دِينَهُمُ الْحَقَّ ) نصبا على النعت للدين ، كأنه قال : يوفيهم الله ثواب أعمالهم حقا ، ثم أدخل في الحقّ الألف واللام ، فنصب بما نصب به الدين. وذُكر عن مجاهد أنه قرأ ذلك : " يُوَفِيهمُ اللهُ دينَهُمُ الحَقُّ " برفع الحقّ على أنه من نعت الله.
حدثنا بذلك أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا يزيد ، عن جرير بن حازم ، عن حميد ، عن مجاهد ، أنه قرأها " الحق " بالرفع. قال جرير : وقرأتها في مصحف أُبيّ بن كعب " يُوَفِّيهمُ اللهُ الحَقُّ دِينَهُمْ " .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، وهو نصب الحقّ على اتباعه إعراب الدين ؛ لإجماع الحجة عليه.
وقوله : ( وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) يقول : ويعلمون يومئذ أن الله هو الحق الذي يبين لهم حقائق ما كان يعدهم في الدنيا من العذاب ، ويزول حينئذٍ الشكُّ فيه عن أهل النفاق ، الذين كانوا فيما كان يعدهم في الدنيا يمترون.
القول في تأويل قوله تعالى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول ، والطيبات من القول

(19/141)


للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من القول.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ) يقول : الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول.
وقوله : ( وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ ) يقول : الطيبات من القول للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من القول ، نزلت في الذين قالوا في زوجة النبيّ صلى الله عليه وسلم ما قالوا من البهتان ، ويقال : الخبيثات للخبيثين : الأعمال الخبيثة تكون للخبيثين : والطيبات من الأعمال تكون للطيبين.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس ، والطيبات من الكلام للطيبين من الناس.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، في قول الله : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) قال : الطيبات : القول الطيب ، يخرج من الكافر والمؤمن فهو للمؤمن ، والخبيثات : القول الخبيث يخرج من المؤمن والكافر فهو للكافر( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) وذلك أنه برأ كليهما مما ليس بحقّ من الكلام.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) يقول : الخبيثات والطيبات : القول السيئ والحسن ، للمؤمنين الحسن وللكافرين السيئ( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) وذلك بأنه ما قال الكافرون من كلمة طيبة فهي للمؤمنين ، وما قال المؤمنون من كلمة خبيثة فهي للكافرين ، كلّ بريء مما ليس بحقّ من الكلام.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن

(19/142)


مجاهد : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ) قال : الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس ، والخبيثون من الناس للخبيثات من الكلام.
حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، مثله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ )... الآية ، يقول : الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول ، والطيبات من القول للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من القول ، فهذا في الكلام ، وهم الذين قالوا لعائشة ما قالوا ، هم الخبيثون ، والطيبون هم المبرّءون مما قال الخبيثون.
حدثنا أبو زرعة ، قال ثنا أبو نعيم ، قال : ثنا سلمة ، يعني ابن نبيط الأشجعي ، عن الضحاك : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ) قال : الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس ، والطيبات من الكلام للطيبين من الناس.
قال : ثنا قبيصة ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيع وعثمان بن الأسود ، عن مجاهد : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) قال : الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس ، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول ، والطيبات من القول للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من القول.
قال : ثنا سفيان عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، قال : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) قال : الخبيثات من القول للخبيثين من الناس ، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول ، والطيبات من القول للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من القول.
قال : ثني محمد بن بكر بن مقدم ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الملك ، يعني ابن أبي سليمان ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن سعيد بن جبير ، عن مجاهد : ( وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ) قال : الخبيثات من القول للخبيثين من الناس.
قال : ثنا عباس بن الوليد النرسي ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) يقول : الخبيثات من القول والعمل للخبيثين من الناس ، والخبيثون من الناس للخبيثات

(19/143)


من القول والعمل.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، قال : الطيبات للطيبين ، والطيبون للطيبات ، قال : الطيبات من القول للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من القول ، والخبيثات من القول للخبيثين من الناس ، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) قال : نزلت في عائشة حين رماها المنافق بالبهتان والفرية ، فبرأها الله من ذلك. وكان عبد الله بن أُبيّ هو خبيث ، وكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبا ، وكان أولى أن تكون له الطيبة ، وكانت عائشة الطيبة ، وكان أولى أن يكون لها الطيب( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) قال : هاهنا برّئت عائشة( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ).
وأولى هذه الأقوال في تأويل الآية قول من قال : عنى بالخبيثات : الخبيثات من القول ، وذلك قبيحه وسيئه للخبيثين من الرجال والنساء ، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول ، هم بها أولى ؛ لأنهم أهلها. والطيبات من القول ، وذلك حسنه وجميله للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من القول; لأنهم أهلها وأحقّ بها.
وإنما قلنا هذا القول أولى بتأويل الآية ؛ لأن الآيات قبل ذلك إنما جاءت بتوبيخ الله للقائلين في عائشة الإفك ، والرامين المحصنات الغافلات المؤمنات ، وإخبارهم ما خصهم به على إفكهم ، فكان ختم الخبر عن أولى الفريقين بالإفك من الرامي والمرمي به ، أشبه من الخبر عن غيرهم.
وقوله : ( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ ) يقول : الطيبون من الناس مبرّءون من خبيثات القول ، إن قالوها فإن الله يصفح لهم عنها ، ويغفرها لهم ، وإن قيلت فيهم ؛ ضرّت قائلها ولم تضرّهم ، كما لو قال الطيب من القول الخبيث من الناس لم ينفعه الله به ، لأن الله لا يتقبله ،

(19/144)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)

ولو قيلت له لضرّته ؛ لأنه يلحقه عارها في الدنيا ، وذلها في الآخرة.
كما حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) فمن كان طيبا فهو مبرأ من كل قول خبيث ، يقول يغفره الله ، ومن كان خبيثا فهو مبرأ من كل قول صالح ، فإنه يردّه الله عليه لا يقبله منه ، وقد قيل : عُني بقوله : ( أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ) عائشة وصفوان بن المعطل الذي رميت به ، فعلى هذا القول قيل " أُولئِكَ " فجمع ، والمراد ذانك ، كما قيل : ( وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً ) والمراد أخَوان.
وقوله : ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) يقول لهؤلاء الطيبين من الناس مغفرة من الله لذنوبهم ، والخبيث من القول إن كان منهم( وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) يقول : ولهم أيضا مع المغفرة عطية من الله كريمة ، وذلك الجنة ، وما أعدّ لهم فيها من الكرامة.
كما حدثنا أبو زرعة ، قال : ثنا العباس بن الوليد النرسي ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) : مغفرة لذنوبهم ورزق كريم في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) }
اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : تأويله يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ : " لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا " قال : وإنما " تستأنسوا " وهم من الكُتَّاب.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس في هذه الآية( لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) وقال : إنما هي خطأ من الكاتب حتى تستأذنوا وتسلموا.

(19/145)


حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا وهب بن جرير ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، بمثله. غير أنه قال : إنما هي حتى تستأذنوا ، ولكنها سقط من الكاتب.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، قال : ثنا معاذ بن سليمان ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد ، عن ابن عباس( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) قال : أخطأ الكاتب ، وكان ابن عباس يقرأ " حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا " وكان يقرؤها على قراءة أُبيّ بن كعب.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش أنه كان يقرؤها : " حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا " قال سفيان : وبلغني أن ابن عباس كان يقرؤها : " حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا " وقال : إنها خطأ من الكاتب.
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) قال : الاستئناس : الاستئذان.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : في مصحف ابن مسعود : " حَتَّى تُسَلِّمُوا على أهْلِها وَتَسْتَأْذِنُوا " .
قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا جعفر بن إياس ، عن سعيد ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : " يأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تُسَلِّمُوا عَلى أهْلِها وتَسْتَأْذِنوا " قال : وإنما تستأنسوا وهم من الكتاب.
قال : ثنا هشيم ، قال مغيرة ، قال مجاهد : جاء ابن عمر من حاجة وقد آذاه الرمضاء ، فأتى فسطاط امرأة من قريش ، فقال : السلام عليكم ، أدخل ؟ فقالت : ادخل بسلام ، فأعاد فأعادت ، وهو يراوح بين قدميه ، قال : قولي ادخل ، قالت : ادخل فدخل.
قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا منصور ، عن ابن سيرين ، وأخبرنا يونس بن عبيد ، عن عمرو بن سعيد الثقفي ، أن رجلا استأذن على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : ألج أو أنلج ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة : " قُومِي إلى هَذَا فَكَلِّمِيهِ ، فإنَّهُ لا يُحسِنُ يَسْتأذِنُ ، فَقُولي لَهُ يَقُولُ : السَّلامُ عَلَيْكُمْ ، أدْخُل ؟ " فسمعها الرجل ، فقالها ، فقال : " اُدْخُل " .

(19/146)


حدثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : ( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال : الاستئذان ، ثم نسخ واستثني : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا أبو حمزة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قوله : ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ) قال : حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة : ( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال : حتى تستأذنوا وتسلموا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أشعث بن سوار ، عن كردوس ، عن ابن مسعود ، قال : عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم ، قال أشعت ، عن عديّ بن ثابت : أن امرأة من الأنصار ، قالت : يا رسول الله ، إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها ، والد ولا ولد ، وأنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي ، وأنا على تلك الحال ؟ قال : فنزلت : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا )... الآية.
وقال آخرون : معنى ذلك : حتى تؤنسوا أهل البيت بالتنحنح والتنخم وما أشبهه ، حتى يعلموا أنكم تريدون الدخول عليهم.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، في قوله : ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) قال : حتى تتنحنحوا وتتنخموا.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال : حتى تجرّسوا وتسلموا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال : تنحنحوا وتنخموا.

(19/147)


قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس ، قال : ثلاث آيات قد جحدهنّ الناس ، قال الله : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) قال : ويقولون : إن أكرمهم عند الله أعظمهم شأنا ، قال : والإذن كله قد جحده الناس ، فقلت له : أستأذن على أخواتي ، أيتام في حجري ، معي في بيت واحد ؟ قال : نعم (1) فرددت على من حضرني ، فأبى ، قال : أتحبّ أن تراها عريانة ؟ قلت : لا قال : فاستأذن ، فراجعته أيضا ، قال : أتحبّ أن تطيع الله ؟ قلت : نعم ، قال : فاستأذن ، فقال لي سعيد بن جُبير : إنك لتردد عليه ، قلت : أردت أن يرخص لي.
قال ابن جُرَيج : وأخبرني ابن طاووس ، عن أبيه قال : ما من امرأة أكره إليّ أن أرى ، كأنه يقول : عريتها أو عريانة ، من ذات محرم ، قال : وكان يشدّد في ذلك.
قال ابن جُرَيج ، وقال عطاء بن أبي رباح : وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ، فواجب على الناس أجمعين إذا احتلموا أن يستأذنوا على من كان من الناس ، قلت لعطاء : أواجب على الرجل أن يستأذن على أمه ، ومن وراءها من ذات قرابته ؟ قال : نعم ، قلت : أبرّ وجب ؟ قال قوله : ( وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ) .
قال ابن جُرَيج : وأخبرني ابن زياد : أن صفوان مولى لبني زهرة ، أخبره عن عطاء بن يسار : أن رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أستأذن على أمي ؟ قال : " نَعَمْ " ، قال : إنها ليس لها خادم غيري ، أفأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال : " أتُحب أنْ تَراها عُرْيَانَةً ؟ " قال الرجل : لا. قال : " فاسْتَأْذِنْ عَلَيْها " .
قال ابن جُرَيج عن الزهري : قال : سمعت هزيل بن شُرَحبيل الأوْدي الأعمى ، أنه سمع ابن مسعود يقول : عليكم الإذن على أمهاتكم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته ؟ قال : لا.
حدثنا الحسين ، قال : ثنا محمد بن حازم ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن يحيى بن الجزّار ، عن ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود ، عن زينب قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب ، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه.
__________
(1) في ابن كثير : فرددت عليه ليرخص لي ، فأبى ، فلعله تصحيف عنه.

(19/148)


حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) قال : الاستئناس : التنحنح والتجرس ، حتى يعرفوا أن قد جاءهم أحد ، قال : والتجرّس : كلامه وتنحنحه.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الاستئناس : الاستفعال من الأنس ، وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم ، مخبرا بذلك من فيه ، وهل فيه أحد ؟ وليؤذنهم أنه داخل عليهم ، فليأنس إلى إذنهم له في ذلك ، ويأنسوا إلى استئذانه إياهم.
وقد حكي عن العرب سماعا : اذهب فاستأنس ، هل ترى أحدا في الدار ؟ بمعنى : انظر هل ترى فيها أحدا ؟
فتأويل الكلام إذن إذا كان ذلك معناه : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تسلموا وتستأذنوا ، وذلك أن يقول أحدكم : السلام عليكم ، أدخل ؟ وهو من المقدم الذي معناه التأخير ، إنما هو حتى تسلموا وتستأذنوا ، كما ذكرنا من الرواية ، عن ابن عباس.
وقوله : ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ) يقول : استئناسكم وتسليمكم على أهل البيت الذي تريدون دخوله ، فإن دخولكموه خير لكم ، لأنكم لا تدرون أنكم إذا دخلتموه بغير إذن ، على ماذا تهجمون ؟ على ما يسوءكم أو يسرّكم ؟ وأنتم إذا دخلتم بإذن ، لم تدخلوا على ما تكرهون ، وأدّيتم بذلك أيضا حقّ الله عليكم في الاستئذان والسلام. وقوله : ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) يقول : لتتذكروا بفعلكم ذلك أوامر الله عليكم ، واللازم لكم من طاعته ، فتطيعوه.

(19/149)


فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) }
يقول تعالى ذكره : فإن لم تجدوا في البيوت التي تستأذنون فيها أحدا ، يأذن لكم بالدخول إليها ، فلا تدخلوها ، لأنها ليست لكم ، فلا يحلّ لكم دخولها إلا بإذن أربابها ، فإن أذن لكم أربابها أن تدخلوها فادخلوها( وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ) يقول : وإن قال لكم أهل البيوت التي تستأذنون فيها : ارجعوا فلا تدخلوها ، وارجعوا عنها ولا

(19/149)


لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)

تدخلوها;( هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ) يقول : رجوعكم عنها إذا قيل لكم ارجعوا ، ولم يؤذن لكم بالدخول فيها ، أطهر لكم عند الله. وقوله : ( هُوَ ) كناية من اسم الفعل (1) أعني من قوله : ( فارْجِعُوا ). وقوله : ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) يقول جلّ ثناؤه : والله بما تعملون من رجوعكم بعد استئذانكم في بيوت غيركم إذا قيل لكم ارجعوا ، وترك رجوعكم عنها وطاعتكم الله فيما أمركم ونهاكم في ذلك وغيره من أمره ونهيه - ذو علم محيط بذلك كله ، محص جميعه عليكم ، حتى يجازيكم على جميع ذلك.
وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا ) قال : إن لم يكن لكم فيها متاع ، فلا تدخلوها إلا بإذن( وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ).
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا هاشم بن القاسم المزني ، عن قَتادة ، قال : قال رجل من المهاجرين : لقد طلبت عمري كله هذه الآية ، فما أدركتها ، أن أستأذن على بعض إخواني ، فيقول لي ارجع ، فأرجع وأنا مغتبط ، لقوله( وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ )وهذا القول الذي قاله مجاهد في تأويل قوله : ( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا ) بمعنى : إن لم يكن لكم فيها متاع ، قول بعيد من مفهوم كلام العرب; لأن العرب لا تكاد تقول : ليس بمكان كذا أحد ، إلا وهي تعني ليس بها أحد من بني آدم.
وأما الأمتعة وسائر الأشياء غير بني آدم ، ومن كان سبيله سبيلهم ، فلا تقول ذلك فيها.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) }
__________
(1) يريد باسم الفعل : المصدر ؛ لأنه اسم الحدث ، ولا يريد ما اصطلح النحاة علي تسميته اسم فعل كصه وأف.

(19/150)


يقول تعالى ذكره : ليس عليكم أيها الناس إثم وحرج أن تدخلوا بيوتا لا ساكن بها بغير استئذان.
ثم اختلفوا في ذلك أيّ البيوت عنى ، فقال بعضهم : عنى بها الخانات والبيوت المبنية بالطرق التي ليس بها سكان معروفون ، وإنما بنيت لمارّة الطريق والسابلة ، ليأووا إليها ، ويؤوا إليها أمتعتهم.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن سالم المكي ، عن محمد ابن الحنفية ، في قوله : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ) قال : هي الخانات التي تكون في الطرق.
حدثني عباس بن محمد ، قال : ثنا مسلم ، قال : ثنا عمر بن فروخ ، قال : سمعت قَتادة يقول : ( بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ) قال : هي الخانات تكون لأهل الأسفار.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ) قال : كانوا يضعون في بيوت في طرق المدينة متاعا وأقتابا ، فرُخِّص لهم أن يدخلوها.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ) قال : هي البيوت التي ينزلها السفر ، لا يسكنها أحد.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ) قال : كانوا يصنعون ، أو يضعون بطريق المدينة أقتابا وأمتعة في بيوت ليس فيها أحد ، فأحلّ لهم أن يدخلوها بغير إذن.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله. إلا أنه قال : كانوا يضعون بطريق المدينة ، بغير شكّ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله ، غير أنه قال : كانوا يضعون بطريق المدينة أقتابا وأمتعة.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ) هي البيوت التي ليس لها

(19/151)


أهل ، وهي البيوت التي تكون بالطرق والخربة( فِيهَا مَتَاعٌ ) منفعة للمسافر في الشتاء والصيف ، يأوي إليها.
وقال آخرون : هي بيوت مكة.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام بن سلم ، عن سعيد بن سائق ، عن الحجاج بن أرطأة ، عن سالم بن محمد بن الحنفية في : ( بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ) قال : هي بيوت مكة.
وقال آخرون : هي البيوت الخربة والمتاع الذي قال الله فيها لكم قضاء الحاجة ، من الخلاء والبول فيها.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عطاء يقول( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ) قال : الخلاء والبول.
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا حسن بن عيسى بن زيد ، عن أبيه ، في هذه الآية( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ) قال : التخلي في الخراب.
وقال آخرون : بل عنى بذلك بيوت التجار التي فيها أمتعة الناس.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ) قال : بيوت التجار ، ليس عليكم جناح أن تدخلوها بغير إذن ، الحوانيت التي بالقيساريات والأسواق ، وقرأ( فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ) متاع للناس ، ولبني آدم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عمّ بقوله : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ) كلّ بيت لا ساكن به لنا فيه متاع ندخله بغير إذن; لأن الإذن إنما يكون ليؤنس المأذون عليه قبل الدخول ، أو ليأذن للداخل إن كان له مالكا ، أو كان فيه ساكنا. فأما إن كان لا مالك له فيحتاج إلى إذنه لدخوله

(19/152)


ولا ساكن فيه فيحتاج الداخل إلى إيناسه والتسليم عليه ، لئلا يهجم على ما لا يحبّ رؤيته منه ، فلا معنى للاستئذان فيه. فإذا كان ذلك ، فلا وجه لتخصيص بعض ذلك دون بعض ، فكلّ بيت لا مالك له ، ولا ساكن ، من بيت مبنيّ ببعض الطرق للمارّة والسابلة ؛ ليأووا إليه ، أو بيت خراب ، قد باد أهله ولا ساكن فيه ، حيث كان ذلك ، فإن لمن أراد دخوله أن يدخل بغير استئذان ، لمتاع له يؤويه إليه ، أو للاستمتاع به لقضاء حقه من بول أو غائط أو غير ذلك وأما بيوت التجار ، فإنه ليس لأحد دخولها إلا بإذن أربابها وسكانها.
فإن ظنّ ظانّ أن التاجر إذا فتح دكانه وقعد للناس ، فقد أذن لمن أراد الدخول عليه في دخوله ، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّ ، وذلك أنه ليس لأحد دخول ملك غيره بغير ضرورة ألجأته إليه ، أو بغير سبب أباح له دخوله إلا بإذن ربه ، لا سيما إذا كان فيه متاع ، فإن كان التاجر قد عرف منه أن فتحه حانوته إذن منه لمن أراد دخوله في الدخول ، فذلك بعد راجع إلى ما قلنا من أنه لم يدخله من دخله إلا بإذنه. وإذا كان ذلك كذلك ، لم يكن من معنى قوله : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ) في شيء ، وذلك أن التي وضع الله عنا الجناح في دخولها بغير إذن من البيوت ، هي ما لم يكن مسكونا ، إذ حانوت التاجر لا سبيل إلى دخوله إلا بإذنه ، وهو مع ذلك مسكون ، فتبين أنه مما عنى الله من هذه الآية بمعزل.
وقال جماعة من أهل التأويل : هذه الآية مستثناة من قوله : ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ).
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ) ثم نسخ واستثنى فقال : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا )... الآية ، فنسخ من ذلك ، واستثني فقال : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ).
وليس في قوله : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ) دلالة على أنه استثناء من قوله : ( لا تَدْخُلُوا

(19/153)


قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)

بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) ; لأن قوله : ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) حكم من الله في البيوت التي لها سكان وأرباب. وقوله : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ) حكم منه في البيوت التي لا سكان لها ، ولا أرباب معروفون ، فكل واحد من الحكمين حكم في معنى غير معنى الآخر ، وإنما يستثنى الشيء من الشيء إذا كان من جنسه أو نوعه في الفعل أو النفس ، فأما إذا لم يكن كذلك ، فلا معنى لاستثنائه منه. وقوله : ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ) يقول تعالى ذكره : والله يعلم ما تظهرون أيها الناس بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة( وَمَا تَكْتُمُونَ ) يقول : وما تضمرونه في صدوركم عند فعلكم ذلك ما الذي تقصدون به إطاعة الله ، والانتهاء إلى أمره ، أم غير ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ ) بالله وبك يا محمد( يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ) يقول : يكفوا من نظرهم إلى ما يشتهون النظر إليه ، مما قد نهاهم الله عن النظر إليه( وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) أن يراها من لا يحلّ له رؤيتها ، بلبس ما يسترها عن أبصارهم( ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ) يقول : فإن غضها من النظر عما لا يحلّ النظر إليه ، وحفظ الفرج عن أن يظهر لأبصار الناظرين ؛ أطهر لهم عند الله وأفضل( إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) يقول : إن الله ذو خبرة بما تصنعون أيها الناس فيما أمركم به من غض أبصاركم عما أمركم بالغضّ عنه ، وحفظ فروجكم عن إظهارها لمن نهاكم عن إظهارها له.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سهل الرملي ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) قال : كل فرج ذُكِرَ حِفْظُهُ في القرآن فهو من الزنا إلا هذه( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) فإنه يعني الستر.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،

(19/154)


وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

قوله : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ )( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) قال : يغضوا أبصارهم عما يكره الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ) قال : يغضّ من بصره : أن ينظر إلى ما لا يحلّ له ، إذا رأى ما لا يحلّ له غضّ من بصره لا ينظر إليه ، ولا يستطيع أحد أن يغضّ بصره كله ، إنما قال الله : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ (31) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم( وَقُلْ ) يا محمد( للْمُؤْمِنَاتِ ) من أمتك( يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ) عما يكره الله النظر إليه مما نهاكم عن النظر إليه( وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) يقول : ويحفظن فروجهنَّ عن أن يراها من لا يحلّ له رؤيتها ، بلبس ما يسترها عن أبصارهم.
وقوله : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ) يقول تعالى ذكره : ولا يُظهرن للناس الذين ليسوا لهن بمحرم زينتهنّ ، وهما زينتان : إحداهما : ما خفي وذلك كالخلخال والسوارين والقرطين والقلائد ،
والأخرى : ما ظهر منها ، وذلك مختلف في المعنيّ منه بهذه الآية ، فكان بعضهم يقول : زينة الثياب الظاهرة.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هارون بن المغيرة ، عن الحجاج ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود ، قال : الزينة زينتان : فالظاهرة منها الثياب ، وما خفي : الخَلْخَالان والقرطان والسواران.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني الثوري ، عن أبي إسحاق

(19/155)


الهمداني ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، أنه قال : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) : قال : هي الثياب.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال : الثياب.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، مثله.
قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن زيد ، عن عبد الله ، مثله.
قال : ثنا سفيان ، عن علقمة ، عن إبراهيم ، في قوله : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) : قال : الثياب.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا بعض أصحابنا ، إما يونس ، وإما غيره ، عن الحسن ، في قوله : ( إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال : الثياب.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله( إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال : الثياب.
قال أبو إسحاق : ألا ترى أنه قال : ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : ثنا محمد بن الفضل ، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن زيد ، عن ابن مسعود( إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال : هو الرداء.
وقال آخرون : الظاهر من الزينة التي أبيح لها أن تبديه : الكحل ، والخاتم ، والسواران ، والوجه.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا مروان ، قال : ثنا مسلم الملائي ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال : الكحل والخاتم.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآمُليّ ، قال : ثنا مروان ، عن مسلم المَلائي ، عن سعيد بن جُبير ، مثله. ولم يذكر ابن عباس.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هارون ، عن أبي عبد الله نهشل ، عن الضحاك ، عن

(19/156)


ابن عباس ، قال : الظاهر منها : الكحل والخدان.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال : الوجه والكفّ.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي ، عن سعيد بن جُبير ، مثله.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، قال : ثنا أبو عمرو ، عن عطاء في قول الله( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال : الكفان والوجه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قَتادة قال : الكحل ، والسوران ، والخاتم.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال : والزينة الظاهرة : الوجه ، وكحل العين ، وخضاب الكفّ ، والخاتم ، فهذه تظهر في بيتها لمن دخل من الناس عليها.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال : المسكتان والخاتم والكحل ، قال قَتادة : وبلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحِلُّ لامْرأةٍ تُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ ، أنْ تخْرجَ يَدَها إلا إلى هاهنا " . وقبض نصف الذراع.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن رجل ، عن المسور بن مخرمة ، في قوله : ( إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال : القلبين ، والخاتم ، والكحل ، يعني السوار.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال : الخاتم والمسكة.
قال ابن جُرَيج ، وقالت عائشة : القُلْبُ والفتخة ، قالت عائشة : دَخَلَتْ عليّ ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مُزَيَّنةً ، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأعرض ، فقالت عائشة : يا رسول الله إنها ابنة أخي وجارية ، فقال : " إذا عركت المرأة (1) لم
__________
(1) عركت الجارية تعرك (كتنصر) عركًا وعراكًا وعروكًا : حاضت : فهي عارك ، وأعركت فهي معرك .

(19/157)


يحلّ لها أن تظهر إلا وجهها ، وإلا ما دون هذا " ، وقبض على ذراع نفسه ، فترك بين قبضته وبين الكفّ مثل قبضة أخرى. وأشار به أبو عليّ.
قال ابن جُرَيج ، وقال مجاهد قوله : ( إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال : الكحل والخضاب والخاتم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عاصم ، عن عامر : ( إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال الكحل ، والخضاب ، والثياب.
حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) من الزينة : الكحل ، والخضاب ، والخاتم ، هكذا كانوا يقولون وهذا يراه الناس.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثنا عمر بن أبي سلمة ، قال : سئل الأوزاعي عن( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال : الكفين والوجه.
حدثنا عمرو بن بندق ، قال : ثنا مروان ، عن جُويبر ، عن الضحاك في قول : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ) قال الكفّ والوجه.
وقال آخرون : عنى به الوجه والثياب.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، قال : قال يونس( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال الحسن : الوجه والثياب.
حدثنا ابن بشار ، قال ثنا ابن أبي عديّ ، وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قَتادة ، عن الحسن ، في قوله : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال : الوجه والثياب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال : عنى بذلك : الوجه والكفان ، يدخل في ذلك إذا كان كذلك : الكحل ، والخاتم ، والسوار ، والخضاب.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل ؛ لإجماع الجميع على أن على كلّ مصل أن يستر عورته في صلاته ، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها ، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها ، إلا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبديه من ذراعها إلى قدر النصف. فإذا كان ذلك من جميعهم إجماعا ، كان معلوما بذلك أن لها أن تبدي من بدنها

(19/158)


ما لم يكن عورة ، كما ذلك للرجال; لأن ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره ؛ وإذا كان لها إظهار ذلك ، كان معلوما أنه مما استثناه الله تعالى ذكره ، بقوله : ( إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) لأن كل ذلك ظاهر منها.
* * *
وقول : ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) يقول تعالى ذكره : وليلقين خُمُرهنّ ، وهي جمع خمار ، على جيوبهنّ ، ليسترن بذلك شعورهنّ وأعناقهن وقُرْطَهُنَّ.
حدثنا ابن وكيع ، قال ثنا زيد بن حباب ، عن إبراهيم بن نافع ، قال : ثنا الحسن بن مسلم بن يناق ، عن صفية بنت شيبة ، عن عائشة ، قالت : لما نزلت هذه الآية : ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) قال شققن البُرُد مما يلي الحواشي ، فاختمرن به.
حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، أن قرة بن عبد الرحمن ، أخبره ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت : يرحم الله النساء المهاجرات الأوَل ، لما أنزل الله : ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) شققن أكثف مروطهنّ ، فاختمرن به.
وقوله : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ ) يقول تعالى ذكره : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ) التي هي غير ظاهرة ، بل الخفية منها ، وذلك الخلخال والقرط والدملج ، وما أمرت بتغطيته بخمارها من فوق الجيب ، وما وراء ما أبيح لها كشفه ، وإبرازه في الصلاة وللأجنبيين من الناس ، والذراعين إلى فوق ذلك ، إلا لبعولتهنّ.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن طلحة بن مصرف ، عن إبراهيم : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ ) قال : هذه ما فوق الذراع.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، قال : سمعت رجلا يحدث عن طلحة ، عن إبراهيم ، قال في هذه الآية( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ ) قال : ما فوق الجيب ، قال شعبة : كتب به منصور إليّ ، وقرأته عليه.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قَتادة ، في قوله : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ ) قال : تبدي لهؤلاء الرأس.

(19/159)


حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ )... إلى قوله : ( عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ) قال : الزينة التي يبدينها لهؤلاء : قرطاها ، وقلادتها ، وسوارها ، فأما خلخالاها ومعضداها ونحرها وشعرها ، فإنه لا تبديه إلا لزوجها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قال : ابن مسعود ، في قوله : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ ) قال : الطوق والقرطين ، يقول الله تعالى ذكره : قل للمؤمنات الحرائر : لا يظهرن هذه الزينَة الخفية التي ليست بالظاهرة إلا لبعولتهنّ ، وهم أزواجهن ، واحدهم بعل ، أو لآبائهنّ ، أو لآباء بعولتهن : يقول أو لآباء أزواجهن ، أو لأبنائهن ، أو لأبناء بعولتهن ، أو لإخوانهن ، أو لبني إخوانهن ، ويعني بقوله : أو لإخوانهن أو لأخواتهن ، أو لبني إخوانهن ، أو بني أخواتهن ، أو نسائهن. قيل : عني بذلك نساء المسلمين.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُريج ، قوله : ( أَوْ نِسَائِهِنَّ ) قال : بلغني أنهنّ نساء المسلمين ، لا يحلّ لمسلمة أن ترى مشركة عريتها ، إلا أن تكون أمة لها ، فذلك قوله : ( أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ).
قال : ثني الحسين ، قال : ثني عيسى بن يونس ، عن هشام بن الغازي ، عن عبادة بن نسيّ : أنه كره أن تقبل النصرانية المسلمة ، أو ترى عورتها ، ويتأوّل : ( أَوْ نِسَائِهِنَّ ).
قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن هشام ، عن عبادة ، قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عُبيدة بن الجرّاح رحمة الله عليهما : أما بعد ، فقد بلغني أن نساء يدخلن الحمامات ، ومعهن نساء أهل الكتاب ، فامنع ذلك ، وحُلْ دونه. قال : ثم إن أبا عُبيدة قام في ذلك المقام مبتهلا اللهم أيما امرأة تدخل الحمام من غير علة ولا سقم ، تريد البياض لوجهها ، فسوّد وجهها يوم تبيض الوجوه.
وقول : ( أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال : بعضهم : أو مَمَالِيكُهُنَّ ، فإنه لا بأس عليها أن تظهر لهم من زينتها ما تظهره لهؤلاء.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال :

(19/160)


أخبرني عمرو بن دينار ، عن مخلد التميمي ، أنه قال ، في قوله : ( أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ) قال : في القراءة الأولى : أيمانكم.
وقال : آخرون : بل معنى ذلك : أو ما ملكت أيمانهنّ من إماء المشركين ، كما قد ذكرنا عن ابن جُرَيج قبل من أنه لما قال : ( أَوْ نِسَائِهِنَّ ) عنى بهن النساء المسلمات دون المشركات ، ثم قال : أو ما ملكت أيمانهن من الإماء المشركات.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) }
يقول تعالى ذكره : والذين يتبعونكم لطعام يأكلونه عندكم ، ممن لا أرب له في النساء من الرجال ، ولا حاجة به إليهنّ ، ولا يريدهنّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ ) قال : كان الرجل يتبع الرجل في الزمان الأول لا يغار عليه ولا ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده ، وهو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ ) فهذا الرجل يتبع القوم ، وهو مغفل في عقله ، لا يكترث للنساء ، ولا يشتهيهنّ ، فالزينة التي تبديها لهؤلاء : قرطاها وقلادتها وسواراها ، وأما خلخالاها ومعضداها ونحرها وشعرها ، فإنها لا تبديه إلا لزوجها.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : ( أَوِ التَّابِعِينَ ) قال : هو التابع يتبعك يصيب من طعامك.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسماعيل بن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ ) قال : الذي يريد الطعام ،

(19/161)


ولا يريد النساء.
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ ) الذين لا يهمهم إلا بطونهم ، ولا يُخافون على النساء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ ، قال : ثنا شريك ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : ( غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ ) قال : الأبله.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، قوله : ( غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ ) قال : هو الأبله ، الذي لا يعرف شيئًا من النساء.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلية ، قال : ثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ ) الذي لا أرب له بالنساء ، مثل فلان.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق عمن حدثه ، عن ابن عباس : ( غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ ) قال : هو الذي لا تستحيي منه النساء.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي : ( غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ ) قال : من تبع الرجل وحشمه ، الذي لم يبلغ أربه أن يطَّلع على عورة النساء.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن المغيرة ، عن الشعبي( غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ ) قال : الذي لا أرب له في النساء.
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير ، قال : المعتوه.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري في قوله : ( أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ ) قال : هو الأحمق ، الذي لا همة له بالنساء ولا أرب.
وبه عن معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، في قوله : ( غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ ) يقول : الأحمق ، الذي ليست له همة في النساء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال :

(19/162)


قال ابن عباس : الذي لا حاجة له في النساء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال : ابن زيد ، في قوله : ( أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ ) قال : هو الذي يتبع القوم ، حتى كأنه كان منهم ونشأ فيهم ، وليس يتبعهم لإربة نسائهم ، وليس له في نسائهم إربة. وإنما يتبعهم لإرفاقهم إياه.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مخنث ، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة ، فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لا أرَى هَذَا يَعْلَمُ ما هَاهُنا ، لا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُمْ " فحجبوه.
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قال : ثنا حفص بن عمر العدني ، قال : ثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : ( أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ ) قال : هو المخنث الذي لا يقوم زبه.
واختلف القرّاء فى قوله : ( غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ ) فقرأ ذلك بعض أهل الشام ، وبعض أهل المدينة والكوفة " غَيْرَ أُولي الإرْبَةِ " بنصب غير ، ولنصب غير ، هاهنا وجهان : أحدهما على القطع من التابعين ، لأن التابعين معرفة وغير نكرة ، والآخر على الاستثناء ، وتوجيه غير إلى معنى " إلا " ، فكأنه قيل : إلا. وقرأ غير من ذكرت بخفض " غَيْرِ " على أنها نعت للتابعين ، وجاز نعت " التابعين " ب " غير " و " التابعون " معرفة وغير نكرة ، لأن " التابعين " معرفة غير مؤقتة. فتأويل الكلام على هذه القراءة : أو الذين هذه صفتهم.
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى مستفيضة القراءة بهما في الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، غير أن الخفض في " غير " أقوى في العربية ، فالقراءة به أعجب إليّ والإربة : الفعلة من الأرب ، مثل الجلسة من الجلوس ، والمشية من المشي ، وهي الحاجة ، يقال : لا أرب لي فيك : لا حاجة لي فيك ، وكذا أربت لكذا وكذا إذا : احتجت إليه ، فأنا آرب له أربا. فأما الأربة بضم الألف : فالعقدة.
وقوله : ( أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ) يقول تعالى ذكره : أو الطفل الذين لم يكشفوا عن عورات النساء بجماعهنّ فيظهروا عليهن لصغرهم.

(19/163)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ) قال : لم يدروا ما ثم ، من الصغر قبل الحلم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
وقوله : ( وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ) يقول تعالى ذكره : ولا يجعلن في أرجلهنّ من الحليّ ما إذا مشين أو حرّكنهنّ ، علم الناس الذين مشين بينهم ما يخفين من ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين (1) من فضة ، واتخذت جزعا ، فمرّت على قوم ، فضربت برجلها ، فوقع الخلخال على الجزع ، فصوّت ، فأنزل الله( وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن السديّ ، عن أبي مالك( وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ) قال : كان في أرجلهم خرز ، فكنّ إذا مررن بالمجالس حرّكن أرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهنّ.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ( وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ ) فهو أن تقرع الخَلْخَال بالآخر عند الرجال ، ويكون في رجليها خلاخل ، فتحرّكهنّ عند الرجال ، فنهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك ؛ لأنه من عمل الشيطان.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ) قال : هو الخَلْخَال ، لا تضرب امرأة
__________
(1) مثنى برة ، بتخفيف الراء ، وهي كل حلقة من سوار وقرط وخلخال وما أشبهها . قال : * وقعقعن الخلاخل والبرينا *
وفي الأصل : " مرتين " بدون نقط . وانظر (اللسان : برا) .

(19/164)


برجلها ليسمع صوت خلخالها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ) قال : الأجراس من حليهنّ ، يجعلنها في أرجلهنّ في مكان الخلاخل ، فنهاهن الله أن يضربن بأرجلهنّ لتسمع تلك الأجراس.
وقوله : ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ) يقول تعالى ذكره : وارجعوا أيها المؤمنون إلى طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من غضّ البصر ، وحفظ الفرج ، وترك دخول بيوت غير بيوتكم ، من غير استئذان ولا تسليم ، وغير ذلك من أمره ونهيه ؛ ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) يقول : لتفلحوا وتدركوا طلباتكم لديه ، إذا أنتم أطعتموه فيما أمركم ونهاكم.

(19/165)


وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) }
يقول تعالى ذكره : وزوّجوا أيها المؤمنون من لا زوج له ، من أحرار رجالكم ونسائكم ، ومن أهل الصلاح من عبيدكم ومماليككم. والأيامى : جمع أيمُ ، وإنما جمع الأيم أيامى ؛ لأنها فعيلة في المعنى ، فجُمعت كذلك كما جمعت اليتيمة : يتامى; ومنه قول جميل :
أُحبُّ الأيامَى إذْ بُثَيْنَةُ أيِّمٌ... وأحْبَبْتُ لمَّا أنْ غَنِيتِ الغَوَانِيا (1)
ولو جمعت أيائم كان صوابا ، والأيم يوصف به الذكر والأنثى ، يقال : رجل أيم ، وامرأة أيم وأيِّمة : إذا لم يكن لها زوج; ومنه قول الشاعر :
فإنْ تَنْكِحي أَنْكِحْ وَإنْ تَتأَيَّمِي... وإنْ كُنْتُ أفْتَى مِنْكُمُ أتَأيَّمُ (2)
__________
(1) البيت لجميل العذري صاحب بثينة ، كما قال المؤلف ، وكما في (اللسان : غنا) . قال : والغانية : التي غنيت بالزوج ، وقال جميل : " أحب الأيامى ... " البيت وغنيت المرأة بزوجها غنيانًا . أي : استغنت . والأيامى : جمع أيم ، وهي في الأصل : التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا ، مطلقة كانت أو متوفى عنها (اللسان) . وفي التنزيل العزيز : {وأنكحوا الأيامى منكم) : دخل فيه الذكر والأنثى ، والبكر والثيب . واستشهد به المؤلف على أن الأيم التي ليس لها زوج
(2) البيت أنشده صاحب (اللسان) في أيم ، قال : وتأيم الرجل زمانا ، وتأيمت المرأة : إذا مكثا أيامًا وزمانًا لا يتزوجان ، وأنشد ابن بري : فإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتأَيَّمِي ... (يَدَ الدَّهْرِ مَا لَمْ تَنْكِحِي) أتأيم
وفي رواية الشطر خلاف بين ما أنشده المؤلف وما أنشده ، ابن بري . والشاهد فيه عند المؤلف ، كما قدمناه في الشاهد الذي قبله وهو أن الأيم من الرجال أو النساء : من لا زوج له أو لها . والفعل منه آم يئيم ، وتأيم يتأيم .

(19/165)


وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)

( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ ) يقول : إن يكن هؤلاء الذين تُنْكِحونهم من أيامى رجالكم ونسائكم وعبيدكم وإمائكم أهل فاقة وفقر ، فإن الله يغنيهم من فضله ، فلا يمنعنكم فقرهم من إنكاحهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ) قال : أمر الله سبحانه بالنكاح ، ورغَّبهم فيه ، وأمرهم أن يزوّجوا أحرارهم وعبيدهم ، ووعدهم في ذلك الغنى ، فقال : ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا حسن أبو الحسن ، وكان إسماعيل بن صبيح مولى هذا ، قال : سمعت القاسم بن الوليد ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : التمسوا الغنى في النكاح ، يقول الله : ( إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ).
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ ) قال : أيامى النساء : اللاتي ليس لهنّ أزواج.
وقوله : ( وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) يقول جلّ ثناؤه : والله واسع الفضل جواد بعطاياه ، فزوّجوا إماءكم ، فإن الله واسع يوسع عليهم من فضله ، إن كانوا فقراء. عليم : يقول : هو ذو علم بالفقير منهم والغنيّ ، لا يخفى عليه حال خلقه في شيء وتدبيرهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ (33) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ) ما ينكحون به النساء عن إتيان ما حرّم الله عليهم من الفواحش ، حتى يغنيهم الله من سعة فضله ، ويوسِّع عليهم من رزقه.

(19/166)


وقوله : ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) يقول جلّ ثناؤه : والذين يلتمسون المكاتبة منكم من مماليككم( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) ، واختلف أهل العلم في وجه مكاتبة الرجل عبده ، الذي قد علم فيه خيرا ، وهل قوله : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) على وجه الفرض ، أم هو على وجه الندب ؟ فقال بعضهم : فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم فيه خيرا ، إذا سأله العبد ذلك.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جُرَيج ، قال : قلت لعطاء : أواجب عليّ إذا علمت مالا أن أكاتبه ؟ قال : ما أراه إلا واجبا ، وقالها عمرو بن دينار ، قال : قلت لعطاء : أتأثِره عن أحد ؟ قال : لا.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن بكر ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتَادَة ، عن أنس بن مالك أن سيرين أراد أن يكاتبه ، فتلكأ عليه ، فقال له عمر : لتكاتبنه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : لا ينبغي لرجل إذا كان عنده المملوك الصالح ، الذي له المال يريد إن يكاتب ، ألا يكاتبه.
وقال آخرون : ذلك غير واجب على السيد ، وإنما قوله : ( فَكَاتِبُوهُمْ ) ندب من الله سادة العبيد إلى كتابة من عُلم فيه منهم خير ، لا إيجاب.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال مالك بن أنس : الأمر عندنا أن ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك ، ولم أسمع بأحد من الأئمة أكره أحدا على أن يكاتب عبده ، وقد سمعت بعض أهل العلم إذا سُئل عن ذلك ، فقيل له : إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) يتلو هاتين الآيتين( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا )( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ) قال مالك : فإنما ذلك أمر أذن الله فيه للناس ، وليس بواجب على الناس ولا يلزم أحدا. وقال الثوري : إذا أراد العبد من سيده أن يكاتبه ، فإن شاء السيد أن يكاتبه كاتبه ، ولا يجبر السيد على ذلك.
حدثني بذلك عليّ عن زيد ، عنه ، وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،

(19/167)


قال : قال ابن زيد في قوله : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قال : ليس بواجب عليه أن يكاتبه ، إنما هذا أمر أذن الله فيه ، ودليل.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : واجب على سيد العبد أن يكاتبه إذا علم فيه خيرا ، وسأله العبد الكتابة ، وذلك أن ظاهر قوله : ( فَكَاتِبُوهُمْ ) ظاهر أمر ، وأمر الله فرض الانتهاء إليه ، ما لم يكن دليل من كتاب أو سنة ، على أنه ندب ، لما قد بيَّنا من العلة في كتابنا المسمى " البيان عن أصول الأحكام " .
وأما الخير الذي أمر الله تعالى ذكره عباده بكتابة عبيدهم إذا علموه فيهم ، فهو القدرة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتبوا عليه.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الكريم الجزري ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كره أن يكاتب مملوكه إذا لم تكن له حرفة ، قال : تطعمني أوساخ الناس.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) يقول : إن علمتم لهم حيلة ، ولا تلقوا مؤنتهم على المسلمين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا أشهب ، قال : سئل مالك بن أنس ، عن قوله : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) فقال : إنه ليقال : الخير القوة على الأداء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني ابن زيد ، عن أبيه قول الله : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قال : الخير : القوة على ذلك.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن علمتم فيهم صدقا ووفاء وأداء.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن عُلية ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن ، في قوله : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قال : صدقا ووفاء وأداء وأمانة.
قال : ثنا ابن عُلية ، قال : ثنا عبد الله ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وطاووس ، أنهما قالا في قوله : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قالا مالا وأمانة.

(19/178)


حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : ثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قال : أداء وأمانة.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن المغيرة ، قال : كان إبراهيم يقول في هذه الآية( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قال : صدقا ووفاء ، أو أحدهما.
حدثنا أبو بكر ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، في قوله( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قال : أداء ومالا.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جُرَيج ، قال : قال عمرو بن دينار : أحسبه كل ذلك المال والصلاح.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا زيد ، قال : ثنا سفيان : ( إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) يعني : صدقا ووفاء وأمانة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قال : إن علمت فيه خيرا لنفسك ، يؤدّي إليك ويصدّقك ما حدثك ؛ فكاتبه.
وقال آخرون بل معنى ذلك : إن علمتم لهم مالا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) يقول : إن علمتم لهم مالا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس( إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قال : مالا.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قال : مالا.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قال : لهم مالا فكاتبوهم.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.

(19/169)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قال : إن علمتم لهم مالا كائنة أخلاقهم وأديانهم ما كانت.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن زاذان ، عن عطاء بن أبي رباح : ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قال : مالا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن مجاهد ، قال : إن علمتم عندهم مالا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني محمد بن عمرو اليافعي ، عن ابن جُرَيج ، أن عطاء بن أبي رباح ، كان يقول : ما نراه إلا المال ، يعني قوله : ( إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ) قال : ثم تلا( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ).
وأولى هذه الأقوال في معنى ذلك عندي قول من قال : معناه فكاتبوهم إن علمتم فيهم قوة على الاحتراف والاكتساب ، ووفاء بما أوجب على نفسه وألزمها وصدق لهجة. وذلك أن هذه المعاني هي الأسباب التي بمولى العبد الحاجة إليها إذا كاتب عبده مما يكون في العبد.
فأما المال وإن كان من الخير ، فإنه لا يكون في العبد وإنما يكون عنده أو له لا فيه ، والله إنما أوجب علينا مكاتبة العبد إذا علمنا فيه خيرا ، لا إذا علمنا عنده أو له ، فلذلك لم نقل : إن الخير في هذا الموضع معنيّ به المال.
وقوله : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) يقول تعالى ذكره : وأعطوهم من مال الله الذي أعطاكم.
ثم اختلف أهل التأويل في المأمور بإعطائه من مال الله الذي أعطاه ، من هو ؟ وفي المال ، أيّ الأموال هو ؟ فقال : بعضهم : الذي أمر الله بإعطاء المكاتب من مال الله : هو مولى العبد المكاتب ، ومال الله الذي أمر بإعطائه منه هو مال الكتابة ، والقدر الذي أمر أن يعطيه منه الربع.
وقال آخرون : بل ما شاء من ذلك المولى.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عمرو بن عليّ ، قال : ثنا عمران بن عيينة ، قال : ثنا عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن عليّ في قول الله : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال : ربع المكاتبة.

(19/170)


حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن عليّ ، في قوله الله : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال : ربع الكتابة يحطها عنه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن ليث بن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن عليّ رضي الله عنه ، في قول الله : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال : الربع من أوّل نجومه.
قال : أخبرنا ابن علية ، قال عطاء بن السائب : عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن عليّ ، في قوله : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال : الربع من مكاتبته.
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثني عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عبد الملك بن أعين ، قال : كاتب أبو عبد الرحمن غلاما في أربعة آلاف درهم ، ثم وضع له الربع ، ثم قال : لولا أني رأيت عليا ، رضوان الله عليه كاتب غلاما له ، ثم وضع له الربع ، ما وضعت لك شيئا.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الرحمن السلمي : أنه كاتب غلاما له على ألف ومئتين ، فترك الربع وأشهدني ، فقال لي : كان صديقك يفعل هذا ، يعني عليا رضوان الله عليه يتأوّل( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الملك ، قال : ثني فضالة بن أبي أمية ، عن أبيه ، قال : كاتبني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فاستقرض لي من حفصة مئتي درهم. قلت : ألا تجعلها في مكاتبتي ؟ قال : إني لا أدري أدرك ذاك أم لا.
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، بلغني أنه كاتبه على مئة أوقية ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الملك ، قال : ذكرت ذلك لعكرمة ، فقال : هو قول الله : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ).
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قول الله( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) يقول : ضعوا عنهم من مكاتبتهم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) يقول : ضعوا عنهم مما قاطعتموهم عليه.

(19/171)


حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، في قوله : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال : مما أخرج الله لكم منهم.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال : آتِهمْ مما في يديك.
حدثني الحسين بن عمرو العنقزي ، قال : ثني أبي ، عن أسباط ، عن السديّ ، عن أبيه ، قال : كاتبتني زينب بنت قيس ، بن مخرمة من بني المطلب بن عبد مناف على عشرة آلاف ، فتركت لي ألفا وكانت زينب قد صلَّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعا.
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا ابن مسعود الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، مولى أبي أسيد ، قال : كاتبني أبو أسيد ، على ثنتي عشرة مئة ، فجئته بها ، فأخذ منها ألفا ، وردّ عليّ مئتين.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أوّل نجومه ؛ مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته ، ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحبّ.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مخرمة ، عن أبيه ، عن نافع ، قال : كاتب عبد الله بن عمر غلامًا له يقال له : شرف ، على خمسة وثلاثين ألف درهم ، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف ولم يذكر نافع أنه أعطاه شيئا غير الذي وضع له.
قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال مالك : سمعت بعض أهل العلم يقول : إن ذلك أن يكاتب الرجل غلامه ، ثم يضع عنه من آخر كتابته شيئا مسمى ، قال مالك : وذلك أحسن ما سمعت ، وعلى ذلك أهل العلم ، وعمل الناس عندنا.
حدثني عليّ ، قال : ثنا زيد ، قال : ثنا سفيان : أحبّ إليّ أن يعطيه الربع ، أو أقلّ منه شيئا ، وليس بواجب ، وأن يفعل ذلك حسن.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء ، عن عبد الله بن حبيب أبي عبد الرحمن السلمي ، عن عليّ رضي الله عنه( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال : هو ربع المكاتبة.
وقال آخرون : بل ذلك حضّ من الله أهل الأموال على أن يعطوهم سهمهم ، الذي جعله لهم من الصدقات المفروضة لهم في أموالهم ، بقوله : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ ) قال : فالرقاب التي جعل فيها

(19/172)


أحد سُهمان الصدقة الثمانية هم المكاتبون ، قال : وإياه عنى جلّ ثناؤه بقوله : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) : أي سهمهم من الصدقة.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثني يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن ابن زيد ، عن أبيه ، قوله : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال : يحث الله عليه يعطونه.
حدثني يعقوب ، قال : ثني ابن علية ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال : حثّ الناس عليه ، مولاه وغيره.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم في قوله : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال : يعطي مكاتبه وغيره حثّ الناس عليه.
حدثني يعقوب قال : ثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم أنه قال في قوله : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال : أمر مولاه والناس جميعا أن يعينوه.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد ، قال : ثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال : أمر المسلمين أن يعطوهم مما آتاهم الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني ابن زيد ، عن أبيه( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال : ذلك في الزكاة على الولاة ، يعطونهم من الزكاة ، يقول الله( وَفِي الرِّقَابِ) .
قال : ثني ابن زيد ، عن أبيه( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) قال : الفيء والصدقات. وقرأ قول الله : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ) ، وقرأ حتى بلغ : ( وَفِي الرِّقَابِ ) فأمر الله أن يوفوها منه ، فليس ذلك من الكتابة ، قال : وكان أبي يقول : ما له وللكتابة ؟! هو من مال الله الذي فرض له فيه نصيبا.
وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي القول الثاني ، وهو قول من قال : عنى به إيتاءهم سهمهم من الصدقة المفروضة.
وإنما قلنا ذلك أولى القولين ، لأن قوله : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) أمر من الله تعالى ذكره بإيتاء المكاتبين من ماله الذي آتى أهل الأموال ، وأمر الله فرض على عباده الانتهاء إليه ، ما لم يخبرهم أن مراده الندب ، لما قد بيَّنا في غير موضع من كتابنا ، فإذ كان ذلك كذلك ولم يكن أخبرنا في كتابه ، ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم

(19/173)


أنه ندب ، ففرض واجب. وإذ كان ذلك كذلك ، وكانت الحجة قد قامت أن لا حق لأحد في مال أحد غيره من المسلمين ، إلا ما أوجبه الله لأهل سهمان الصدقة في أموال الأغنياء منهم ، وكانت الكتابة التي يقتضيها سيد المكاتب من مكاتبه مالا من مال سيد المكاتب ، فيفاد أن الحقّ الذي أوجب الله له على المؤمنين أن يؤتوه من أموالهم ، هو ما فرض على الأغنياء في أموالهم له من الصدقة المفروضة ، إذ كان لا حقّ في أموالهم لأحد سواها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) }
يقول تعالى ذكره : زوّجوا الصالحين من عبادكم وإمائكم ولا تكرهوا إماءكم على البغاء ، وهو الزنا( إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا ) يقول : إن أردن تعففا عن الزنا.
( لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يقول : لتلتمسوا بإكراهكم إياهنّ على الزنا عرض الحياة الدنيا وذلك ما تعرض لهم إليه الحاجة من رياشها وزينتها وأموالها ، ( وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ ) يقول : ومن يكره فتياته على البغاء ، فإن الله من بعد إكراهه إياهنّ على ذلك ، لهن( غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، ووزر ما كان من ذلك عليهم دونهن.
وذُكر أن هذه الآية أنزلت في عبد الله بن أُبي ابن سلول ، حين أكره أمته مسيكة على الزنا.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن الصباح ، قال : ثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : جاءت مسيكة لبعض الأنصار فقالت : إن سيدي يكرهني على الزنا ، فنزلت في ذلك : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ).
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان عن جابر قال : كانت جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول ، يقال لها مسيكة ، فآجرها أو أكرهها " الطبري شكّ " فأتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فشكت ذلك إليه ، فأنزل الله( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يعني بهنّ.

(19/174)


حدثنا أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : ثنا عبثر ، قال : ثنا حصين ، عن الشعبي ، في قوله : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) قال : رجل كانت له جارية تفجر ، فلما أسلمت نزلت هذه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني أبو الزبير ، عن جابر ، قال : جاءت جارية لبعض الأنصار ، فقالت : إن سيدي أكرهني على البغاء ، فأنزل الله في ذلك( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ )قال ابن جُرَيج : وأخبرني عمرو بن دينار ، عن عكرمة قال : أمة لعبد الله بن أُبَيّ ، أمرها فزنت ، فجاءت ببرد ، فقال لها : ارجعي فازني ، قالت : والله لا أفعل ، إن يك هذا خيرا فقد استكثرت منه ، وإن يك شرّا فقد آن لي أن أدعه. قال ابن جُرَيج ، وقال مجاهد نحو ذلك ، وزاد قال : البغاء الزنا ، ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال : للمكرهات على الزنا ، وفيها نزلت هذه الآية.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري أن رجلا من قريش أُسر يوم بدر ، وكان عبد الله بن أُبي أسره ، وكان لعبد الله جارية يقال : لها معاذة ، فكان القرشيّ الأسير يريدها على نفسها ، وكانت مسلمة ، فكانت تمتنع منه لإسلامها ، وكان ابن أُبي يُكرهها على ذلك ، ويضربها رجاء أن تحمل للقرشيّ ، فيطلب فداء ولده ، فقال الله : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا ) قال الزهري : ( وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول : غفور لهنّ ما أكرهن عليه.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبير ، أنه كان يقرأ : فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لهن غَفُورٌ رَحِيمٌ .
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا ) يقول : ولا تكرهوا إماءكم على الزنا ، فإن فعلتم فإن الله سبحانه لهنّ غفور رحيم ، وإثمهنّ على من أكرههنّ.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) ... إلى آخر الآية ، قال : كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا ، يأخذون أجورهن ، فقال الله : لا تكرهوهنّ على الزنا من أجل المنالة في الدنيا ، ( وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

(19/175)


وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

لهنّ يعني إذا أكرهن.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) على الزنا ، قال : عبد الله بن أُبي ابن سلول أمر أمة له بالزنا ، فجاءته بدينار أو ببرد " شكّ أبو عاصم " فأعطته ، فقال : ارجعي فازني بآخر ، فقالت : والله ما أنا براجعة ، فالله غفور رحيم للمكرهات على الزنا ، ففي هذا أنزلت هذه الآية.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه. إلا أنه قال في حديثه : أمر أمة له بالزنا ، فزنت فجاءته ببرد فأعطته ، فلم يشك.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) يقول : على الزنا( فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول : غفور لهنّ ، للمكرهات على الزنا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال : ابن زيد ، في قوله : ( وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال : غفور رحيم لهنّ حين أكرهن وقسرن على ذلك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : كانوا يأمرون ولائدهم يباغين يفعلن ذلك ، فيصبن ، فيأتينهم بكسبهنّ ، فكانت لعبد الله بن أُبي ابن سلول جارية ، فكانت تباغي. فكرهت وحلفت أن لا تفعله ، فأكرهها أهلها ، فانطلقت فباغت ببرد أخضر ، فأتتهم به ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) ... الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) }
يقول تعالى ذكره : ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس دلالات وعلامات مبينات : يقول مفصلات الحقّ من الباطل ، وموضحات ذلك.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة ، وبعض الكوفيين والبصريين " مُبَيَّنَاتٍ " بفتح الياء : بمعنى مفصلات ، وأن الله فصلهن وبينهنّ لعباده ، فهنّ مفصلات مبينات. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : ( مُبَيِّنَاتٍ ) بكسر الياء ، بمعنى أن الآيات هن تبين

(19/176)


اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

الحقّ والصواب للناس وتهديهم إلى الحقّ.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان ، وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، متقاربتا المعنى ، وذلك أن الله إذ فصّلها وبيَّنها صارت مبينة بنفسها الحق لمن التمسه من قِبَلها ، وإذا بيَّنت ذلك لمن التمسه من قبلها ، فيبين الله ذلك فيها ، فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب ، في قراءته الصواب.
وقوله : ( وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ) من الأمم ، ( وَمَوْعِظَةً) لمن اتقى الله ، فخاف عقابه وخشي عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) }
يعني تعالى ذكره بقوله : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) هادي من في السماوات والأرض ، فهم بنوره إلى الحق يهتدون ، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول : الله سبحانه هادي أهل السماوات والأرض.
حدثني سليمان بن عمر بن خلدة الرقي ، قال : ثنا وهب بن راشد ، عن فرقد ، عن أنس بن مالك ، قال : إن إلهي يقول : نوري هُداي.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الله مدبر السماوات والأرض.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد وابن عباس في قوله : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) : يدبر الأمر فيهما ، نجومهما وشمسهما وقمرهما.

(19/177)


وقال آخرون : بل عنى بذلك النور الضياء. وقالوا : معنى ذلك : ضياء السماوات والأرض.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : ثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، في قول الله : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال : فبدأ بنور نفسه ، فذكره ، ثم ذكر نور المؤمن.
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك; لأنه عقيب قوله : ( وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) فكان ذلك بأن يكون خبرًا عن موقع يقع تنزيله من خلقه. ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه ، أولى وأشبه ، ما لم يأت ما يدلُّ على انقضاء الخبر عنه من غيره. فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس آيات مبينات الحقّ من الباطل( وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) فهديناكم بها ، وبيَّنا لكم معالم دينكم بها ، لأني هادي أهل السماوات وأهل الأرض ، وترك وصل الكلام باللام ، وابتدأ الخبر عن هداية خلقه ابتداء ، وفيه المعنى الذي ذكرت ، استغناء بدلالة الكلام عليه من ذكره ، ثم ابتدأ في الخبر عن مثل هدايته خلقه بالآيات المبينات التي أنزلها إليهم ، فقال : ( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ) يقول : مثل ما أنار من الحقّ بهذا التنزيل في بيانه كمشكاة.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى بالهاء في قوله : ( مَثَلُ نُورِهِ ) علام هي عائدة ، ومن ذكر ما هي ؟ فقال بعضهم : هي من ذكر المؤمن. وقالوا : معنى الكلام : مثل نور المؤمن الذي في قلبه من الإيمان والقرآن مثل مشكاة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، في قول الله : ( مَثَلُ نُورِهِ ) قال : ذكر نور المؤمن فقال : مثل نوره ، يقول مثل نور المؤمن. قال : وكان أُبيّ يقرؤها : كذلك مثل المؤمن ، قال : هو المؤمن قد جعل الإيمان والقرآن في صدره.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ،

(19/178)


عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ) قال : بدأ بنور نفسه فذكره ، ثم قال : ( مَثَلُ نُورِهِ ) يقول : مثل نور من آمن به ، قال : وكذلك كان يقرأ أُبيّ ، قال : هو عبد جعل الله القرآن والإيمان في صدره.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير( مَثَلُ نُورِهِ ) قال : مثل نور المؤمن.
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي ، قال : ثنا يحيى بن اليمان ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك في قوله : ( مَثَلُ نُورِهِ ) قال : نور المؤمن.
وقال آخرون : بل عُني بالنور : محمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : الهاء التي قوله : ( مَثَلُ نُورِهِ ) عائدة على اسم الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن حفص ، عن شمر قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار ، فقال له : حدثني عن قول الله عزّ وجلّ : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) ... الآية ؟ فقال كعب : الله نور السماوات والأرض ، مثل نوره مثل محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة.
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي ، قال : ثنا يحيى بن اليمان ، عن أشعث ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبير في قوله : ( مَثَلُ نُورِهِ ) قال : محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون : بل عني بذلك : هدي الله وبيانه ، وهو القرآن ، قالوا : والهاء من ذكر الله. قالوا : ومعنى الكلام : الله هادي أهل السماوات والأرض بآياته المبينات ، وهي النور الذي استنار به السماوات والأرض مثل هداه وآياته التي هدى بها خلقه ، ووعظهم بها في قلوب المؤمنين كمشكاة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( مَثَلُ نُورِهِ ) مثل هداه في قلب المؤمن.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( مَثَلُ نُورِهِ ) قال : مثل هذا القرآن في القلب كمشكاة.

(19/179)


حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( مَثَلُ نُورِهِ ) : نور القرآن الذي أنزل على رسوله وعباده ، هذا مثل القرآن( كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ).
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم في قول الله تبارك وتعالى : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ) ونوره الذي ذكر القرآن ، ومثله الذي ضرب له.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : مثل نور الله ، وقالوا : يعني بالنور : الطاعة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني بي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ) : وذلك أن اليهود قالوا لمحمد : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره ، فقال : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) قال : وهو مثل ضربه الله لطاعته ، فسمى طاعته نورا ، ثم سماها أنوارا شتى.
وقوله : ( كَمِشْكَاةٍ ) اختلف أهل التأويل في معنى المشكاة والمصباح ، وما المراد بذلك ، وبالزجاجة ، فقال بعضهم : المشكاة كل كوّة لا منفذ لها ، وقالوا : هذا مثل ضربه الله لقلب محمد صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن حفص ، عن شمر ، قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار ، فقال له : حدثني عن قول الله : ( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) ، قال : المشكاة وهي الكوّة ، ضربها الله مثلا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، المشكاة( فيها مصباح المصباح قَلْبِهِ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ ) صدره ، الزجاجة( كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ) شبه صدر النبي صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدريّ ، ثم رجع المصباح إلى قلبه فقال : ( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) لم تمسّها شمس المشرق ولا شمس المغرب ، ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ) يكاد محمد يبين للناس ، وإن لم يتكلم أنه نبيّ ، كما يكاد ذلك الزيت يضيء( وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ ).
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس

(19/180)


قوله : ( كَمِشْكَاةٍ ) يقول : موضع الفتيلة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( الله نور السماوات والأرض إِلَى كَمِشْكَاةٍ ) قال : المشكاة : كوّة البيت.
وقال : آخرون عنى بالمشكاة : صدر المؤمن ، وبالمصباح : القرآن والإيمان ، وبالزجاجة : قلبه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ) قال : مثل المؤمن ، قد جعل الإيمان والقرآن في صدره كمشكاة ، قال : المشكاة : صدره( فِيهَا مِصْبَاحٌ ) قال : والمصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره( الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ) قال : والزجاجة : قلبه( الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ ) قال : فمثله مما استنار فيه القرآن والإيمان كأنه كوكب درّيّ ، يقول : مضيء( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ) والشجرة المباركة أصله المباركة الإخلاص لله وحده وعبادته ، لا شريك له( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال : فمثله مثل شجرة التفّ بها الشجر ، فهي خضراء ناعمة ، لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت ، لا إذا طلعت ولا إذا غربت ، وكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الغير ، وقد ابتلي بها فثبته الله فيها ، فهو بين أربع خلال : إن أعطى شكر ، وإن ابتلي صبر ، وإن حكم عدل ، وإن قال صدق ، فهو في سائر الناس كالرجل الحيّ يمشي في قبور الأموات ، قال : ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) فهو يتقلَّب في خمسة من النور : فكلامه نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة في الجنة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني يحيى بن اليمان ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أُبيّ العالية ، عن أبي بن كعب ، قال : المشكاة : صدر المؤمن( فِيهَا مِصْبَاحٌ ) قال : القرآن.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، نحو حديث عبد الأعلى ، عن عبيد الله.

(19/181)


حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) قال : مثل هداه في قلب المؤمن ، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار ، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء ، كذلك يكون قلب المؤمن ، يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ، ونورا على نور ، كما قال إبراهيم صلوات الله عليه قبل أن تجيئه المعرفة : ( قَالَ هَذَا رَبِّي ) حين رأى الكوكب من غير أن يخبره أحد أن له ربا ، فلما أخبره الله أنه ربه ازداد هدى على هدى.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ) وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره ، فقال : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ) والمشكاة : كوّة (1) البيت فيها مصباح ، ( الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ) والمصباح : السراج يكون في الزجاجة ، وهو مثل ضربه الله لطاعته ، فسمى طاعته نورا وسماها أنواعا شتى.
قوله : ( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ) قال : هي شجرة لا يفيء عليها ظلّ شرق ولا ظلّ غرب ، ضاحية ، ذلك أصفى للزيت (2) ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ) قال معمر ، وقال الحسن : ليست من شجر الدنيا ، ليست شرقية ولا غربية.
وقال آخرون : هو مثل للمؤمن ، غير أن المصباح وما فيه مثل لفؤاده ، والمشكاة مثل لجوفه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد وابن عباس جميعا : المصباح وما فيه مثل فؤاد المؤمن وجوفه ، المصباح : مثل الفؤاد ، والكوّة : مثل الجوف.
قال ابن جُرَيج( كَمِشْكَاةٍ ) : كوة غير نافذة. قال ابن جُرَيج ، وقال ابن عباس :
__________
(1) الكوة : بفتح الكاف ، والضم لغة (اللسان) .
(2) في الأصل : الزيت ، بدون لام قبلها ، وأظنه ، محرفًا ، عما أثبتناه .

(19/182)


قوله : ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) يعني : إيمان المؤمن وعمله.
وقال آخرون : بل ذلك مثل للقرآن في قلب المؤمن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) قال : ككوّة( فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ).
حدثني يونس ، قال : اخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ) نور القرآن الذي أنزل على رسوله وعباده ، فهذا مثل القرآن( كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ) فقرأ حتى بلغ : ( مُبَارَكَةٍ ) فهذا مثل القرآن يستضاء به في نوره ويعلمونه ويأخذون به ، وهو كما هو لا ينقص فهذا مثل ضربه الله لنوره. وفي قوله : ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ) قال : الضوء : إشراق ذلك الزيت ، والمشكاة : التي فيها الفتيلة التي فيها المصباح ، والقناديل تلك المصابيح.
حدثنا محمد بن شار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن عياض في قوله : ( كَمِشْكَاةٍ ) قال : الكوّة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا قرة ، عن عطية ، في قوله : ( كَمِشْكَاةٍ ) قال : قال ابن عمر : المشكاة : الكوّة.
وقال : آخرون : المشكاة القنديل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( كَمِشْكَاةٍ ) قال : القنديل ، ثم العمود الذي فيه القنديل.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( كَمِشْكَاةٍ ) الصفر الذي في جوف القنديل.
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن رجل ، عن مجاهد قال : المشكاة : القنديل.
وقال آخرون : المشكاة الحديد الذي يعلق به القنديل.

(19/183)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن المفضل ، قال : ثنا هشيم ، قال : ثنا داود بن أبي هند ، عن مجاهد ، قال : المشكاة الحدائد التي يعلق بها القنديل.
وأوْلى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به ، فقال : مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد ، الذي أنزله إليهم فآمنوا به وصدقوا بما فيه في قلوب المؤمنين مثل مشكاة ، وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة ، وذلك هو نظير الكوّة التي تكون في الحيطان التي لا منفذ لها ، وإنما جعل ذلك العمود مشكاة ؛ لأنه غير نافذ ، وهو أجوف مفتوح الأعلى ، فهو كالكوّة التي في الحائط التي لا تنفذ ، ثم قال : ( فِيهَا مِصْبَاحٌ ) وهو السراج ، وجعل السراج وهو المصباح مثلا لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات المبينات ، ثم قال : ( الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ) يعني : أن السراج الذي في المشكاة : في القنديل ، وهو الزجاجة ، وذلك مثل للقرآن ، يقول : القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله قلبه في صدره ، ثم مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشكّ فيه ، واستنارته بنور القرآن ، واستضاءته بآيات ربه المبينات ، ومواعظه فيها بالكوكب الدرّيّ ، فقال : ( الزُّجَاجَةُ ) وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه( كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ).
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( دُرِّيٌّ ) ، فقرأته عامة قراء الحجاز : ( دُرِّيٌّ ) بضم الدال وترك الهمزة ، وقرأ بعض قراء البصرة والكوفة : " دِرِّيء " بكسر الدال وهمزة ، وقرأ بعض قرّاء الكوفة " دُرِّيء " بضم الدال وهمزة ، وكأن الذين ضموا داله وتركوا الهمزة وجهوا معناه إلى ما قاله أهل التفسير الذي ذكرنا عنهم من أن الزجاجة في صفائها وحسنها كالدرّ ، وأنها منسوبة إليه لذلك من نعتها وصفتها ، ووجه الذين قرءوا ذلك بكسر داله وهمزه إلى أنه فعيل من درِّيء الكوكب : أي دُفع ورجم به الشيطان من قوله : ( وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ ) : أي يدفع ، والعرب تسمي الكواكب العظام التي لا تعرف أسماءها الدراري بغير همز. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : هي الدرارئ بالهمز ، من يدرأن.وأما الذين قرءوه بضمّ داله وهمزه ، فإن كانوا أرادوا به درّوء مثل سبوح وقدوس من درأت ، ثم استثقلوا كثرة الضمَّات فيه ، فصرفوا بعضها إلى الكسرة ، فقالوا دِرِّيء ، كما قيل : ( وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) وهو فعول من عتوت عتوّا ،

(19/184)


ثم حوّلت بعض ضماتها إلى الكسر ، فقيل : عتيًا ، فهو مذهب ، وإلا فلا أعرف لصحة قراءتهم ذلك كذلك وجها ، وذلك أنه لا يُعرف في كلام العرب فعيل ، وقد كان بعض أهل العربية يقول : هو لحن.
والذي هو أولى القراءات عندي في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأ( دُرِّيٌّ ) بضمّ داله ، وترك همزه ، على النسبة إلى الدرّ ، لأن أهل التأويل بتأويل ذلك جاءوا وقد ذكرنا أقوالهم في ذلك قبل ، ففي ذلك مكتفى عن الاستشهاد على صحتها بغيره ، فتأويل الكلام : الزجاجة : وهي صدر المؤمن ، كأنها : يعني كأن الزجاجة وذلك مثل لصدر المؤمن ، كوكب : يقول في صفائها وضيائها وحسنها. وإنما يصف صدره بالنقاء من كلّ ريب وشكّ في أسباب الإيمان بالله وبعده من دنس المعاصي ، كالكوكب الذي يُشبه الدرّ في الصفاء والضياء والحسن.
واختلفوا أيضا في قراءة قوله : " تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ " فقرأ ذلك بعض المكيين والمدنيين وبعض البصريين : " تَوَقَّدُ مِنْ شَجَرَةٍ " بالتاء وفتحها وتشديد القاف وفتح الدال ، وكأنهم وجهوا معنى ذلك إلى توقد المصباح من شجرة مباركة. وقرأه بعض عامة قرّاء المدنيين( يُوقَدُ ) بالياء وتخفيف القاف ورفع الدال ، بمعنى : يوقد المصباح ، موقده من شجرة ، ثم لم يسمّ فاعله. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة " تُوقَدُ " بضم التاء وتخفيف القاف ورفع الدال ، بمعنى : يوقد الزجاجة موقدها من شجرة مباركة (1) لما لم يسمّ فاعله ، فقيل : توقد. وقرأه بعض أهل مكة " تَوَقَّدُ " بفتح التاء وتشديد القاف وضم الدال ، بمعنى : تتوقد الزجاجة من شجرة ، ثم أسقطت إحدى التاءين اكتفاء بالباقية من الذاهبة ، وهذه القراءات متقاربات المعاني وإن اختلفت الألفاظ بها ، وذلك أن الزجاجة إذا وصفت بالتوقد ، أو بأنها تَوَقَّد ، فمعلوم معنى ذلك ، فإن المراد به تَوَقَّدَ فيها المصباح ، أو يوقد فيها المصباح ، ولكن وجَّهوا الخبر إلى أن وصفها بذلك أقرب في الكلام منها ، وفهم السامعين معناه. والمراد منه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فبأيّ القراءات قرأ القارئ فمصيب ، غير أن أعجب القراءات إليّ أن أقرأ بها في ذلك " تَوَقَّدَ " بفتح التاء ، وتشديد القاف وفتح الدال ، بمعنى وصف المصباح بالتوقد; لأن التوقد والاتقاد لا شكّ أنهما من صفته دون الزجاجة ،
__________
(1) لعل هنا سقطا في العبارة ، تقديره : " ثم بنى " كما يفهم من السياق.

(19/185)


فمعنى الكلام إذن : كمشكاة فيها مصباح ، المصباح من دهن شجرة مباركة ، زيتونة ، لا شرقية ولا غربية.
وقد ذكرنا بعض ما رُوي عن بعضهم من الاختلاف في ذلك فيما قد مضى ، ونذكر باقي ما حضرنا مما لم نذكره قبل ، فقال بعضهم : إنما قيل لهذه الشجرة : لا شرقية ولا غربية : أي ليست شرقية وحدها حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت ، وإنما لها نصيبها من الشمس بالغداة ما دامت بالجانب الذي يلي الشرق ، ثم لا يكون لها نصيب منها إذا مالت إلى جانب الغرب ، ولا هي غربية وحدها ، فتصيبها الشمس بالعشيّ إذا مالت إلى جانب الغرب ، ولا تصيبها بالغداة ، ولكنها شرقية غربية ، تطلع عليه الشمس بالغداة ، وتغرب عليها ، فيصيبها حرّ الشمس بالغداة والعشيّ ، قالوا : إذا كانت كذلك ، كان أجود لزيتها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال : لا يسترها من الشمس جبل ولا واد ، إذا طلعت وإذا غربت.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا حرمي بن عمارة ، قال : ثنا شعبة ، قال : أخبرني عمارة ، عن عكرِمة ، في قوله : ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال : الشجرة تكون في مكان لا يسترها من الشمس شيء ، تطلع عليها ، وتغرب عليها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ؛ قال : قال مجاهد وابن عباس( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قالا هي التي بشقّ الجبل ، التي يصيبها شروق الشمس وغروبها ، إذا طلعت أصابتها ، وإذا غربت أصابتها.
وقال آخرون : بل معنى ذلك ليست شرقية ولا غربية.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثني محمد بن الصلت ، قال : ثنا أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال : هي شجرة وسط الشجر ، ليست من الشرق ولا من الغرب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( زيتونة لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) متيامنة الشام ، لا شرقي ولا غربي.

(19/186)


وقال آخرون : ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، في قول الله : ( لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال : والله لو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية ، ولكنما هو مثل ضربه الله لنوره.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عثمان ، يعني ابن الهيثم ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن في قول الله : ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال : لو كانت في الأرض هذه الزيتونة كانت شرقية أو غربية ، ولكن والله ما هي في الأرض ، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا عوف ، عن الحسن في قوله : ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال : هذا مثل ضربه الله ، ولو كانت هذه الشجرة في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية.
وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك ، قول من قال : إنها شرقية غربية ، وقال : ومعنى الكلام : ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشيّ دون الغداة ، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب ، فهي شرقية غربية.
وإنما قلنا ذلك أولى بمعنى الكلام ؛ لأن الله إنما وصف الزيت الذي يوقد على هذا المصباح بالصفاء والجودة ، فإذا كان شجره شرقيا غربيا ، كان زيته لا شكّ أجود وأصفى وأضوأ.
وقوله : ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ) يقول تعالى ذكره : يكاد زيت هذه الزيتونة يضيء من صفائه وحسن ضيائه( وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ) يقول : فكيف إذا مسته النار.
وإنما أريد بقوله : ( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ) أن هذا القرآن من عند الله ، وأنه كلامه ، فجعل مثله ومثل كونه من عنده ، مثل المصباح الذي يوقد من الشجرة المباركة ، التي وصفها جلّ ثناؤه في هذه الآية. وعنى بقوله : ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ) : أن حجج الله تعالى ذكره على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر أو أعرض عنها ولها( وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ) يقول : ولو لم يزدها الله بيانا ووضوحا بإنزاله هذا القرآن إليهم ؛ منبها لهم على توحيده ، فكيف إذا نبههم به وذكَّرهم بآياته ، فزادهم به حجة إلى حججه عليهم قبل ذلك ، فذلك بيان من الله ونور على البيان ، والنور الذي كان قد

(19/187)


وضعه لهم ونصبه قبل نزوله.
وقوله : ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) يعني : النار على هذا الزيت الذي كاد يضيء ولو لم تمسسه النار.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( نور على نُورٌ ) قال : النار على الزيت.
قال أبو جعفر : وهو عندي كما ذكرت مثل القرآن. ويعني بقوله : ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) هذا القرآن نور من عند الله ، أنزله إلى خلقه يستضيئون به ، ( عَلَى نُورٍ ) على الحجج والبيان الذي قد نصبه لهم قبل مجيء القرآن إنزاله إياه ، مما يدلّ على حقيقة وحدانيته ، فذلك بيان من الله ، ونور على البيان ، والنور الذي كان وضعه لهم ونصبه قبل نزوله.
وذكر عن زيد بن أسلم في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم ، في قوله : ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) يضيء بعضه بعضا ، يعني القرآن.
وقوله : ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) يقول تعالى ذكره : يوفق الله لاتباع نوره ، وهو هذا القرآن ، من يشاء من عباده. وقوله : ( وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ ) يقول : ويمثل الله الأمثال والأشباه للناس ، كما مثَّل لهم مثل هذا القرآن في قلب المؤمن بالمصباح في المشكاة ، وسائر ما في هذه الآية من الأمثالَ.
( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )يقول والله يضرب الأمثال ، وغيرها من الأشياء كلها ، ذو علم.

(19/188)


فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)

القول في تأويل قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) }
يعني تعالى ذكره بقوله : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) الله نور السماوات

(19/188)


والأرض ، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ، في بيوت أذن الله أن ترفع.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : المشكاة التي فيها الفتيلة التي فيها المصباح ، قال : المصابيح في بيوت أذن الله أن ترفع.
قال أبو جعفر : قد يحتمل أن تكون " من " في صلة " توقد " ، فيكون المعنى : توقد من شجرة مباركة ذلك المصباح في بيوت أذن الله أن ترفع ، وعنى بالبيوت المساجد.
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم بالذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، ونصر بن عبد الرحمن الأودي ، قالا ثنا حكام ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قول الله : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال : المساجد.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) وهي المساجد تكرم ، ونهى عن اللغو فيها.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) يعني : كل مسجد يصلي فيه ، جامع أو غيره.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال : مساجد تبنى.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال : في المساجد.
قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، قال : أدركت أصحاب رسول الله وهم يقولون : المساجد بيوت الله ، وإنه حقّ على الله أن يكرم من زاره فيها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن سالم بن عمر في قوله : ( فِي بُيُوتٍ

(19/189)


أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال : هي المساجد.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال : المساجد.
وقال آخرون : عنى بذلك البيوت كلها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، ونصر بن عبد الرحمن الأودي ، قالا حدثنا حكَّام بن سلم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عكرِمة( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال : هي البيوت كلها.
إنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك ؛ لدلالة قوله : ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) على أنها بيوت بنيت للصلاة ، فلذلك قلنا هي المساجد.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقال : بعضهم معناه : أذن الله أن تبنى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عصام ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال : تبنى.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون : معناه : أذن الله أن تعظم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : ( أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) يقول : أن تعظم لذكره.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، القول الذي قاله مجاهد ، وهو أن معناه : أذن الله أن ترفع بناء ، كما قال جلّ ثناؤه : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ) وذلك أن ذلك هو الأغلب من معنى الرفع في البيوت والأبنية.
وقوله : ( وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) يقول : وأذن لعباده أن يذكروا اسمه فيها. وقد قيل :

(19/190)


عني به أنه أذن لهم بتلاوة القرآن فيها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال : ( وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) يقول : يتلى فيها كتابه. وهذا القول قريب المعنى مما قلناه في ذلك ؛ لأن تلاوة كتاب الله من معاني ذكر الله ، غير أن الذي قلنا به أظهر معنييه ، فلذلك اخترنا القول به.
وقول : ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( يُسَبِّحُ لَهُ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار( يُسَبِّحُ لَهُ ) بضم الياء وكسر الباء ، بمعنى يصلي له فيها رجال ، ويجعل يسبح فعلا للرجال ، وخبرا عنهم ، وترفع به الرجال ، سوى عاصم وابن عامر ، فإنهما قرأا ذلك : " يُسَبَّحُ لَهُ " بضمّ الياء وفتح الباء ، على ما لم يسمّ فاعله ، ثم يرفعان الرجال بخبر ثان مضمر ، كأنهما أرادا : يُسَبَّحُ الله في البيوت التي أذن الله أن ترفع ، فسبَّح له رجال ، فرفعا الرجال بفعل مضمر ، والقراءة التي هي أولاهما بالصواب ، قراءة من كسر الباء ، وجعله خبرا للرجال وفعلا لهم. وإنما كان الاختيار رفع الرجال بمضمر من الفعل لو كان الخبر عن البيوت ، لا يتمّ إلا بقوله : ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا ) ، فأما والخبر عنها دون ذلك تامّ ، فلا وجه لتوجيه قوله : ( يُسَبِّحُ لَهُ ) إلى غيره أي (1) غير الخبر عن الرجال. وعني بقوله : ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) يصلي له في هذه البيوت بالغُدُوات والعشيات رجال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن الحسن الأزدي ، قال : ثنا المعافى بن عمران ، عن سفيان ، عن عمار الدهني (2) عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : كلّ تسبيح في القرآن فهو صلاة.
حدثني عليّ ، قال ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال : ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) يقول : يصلي له فيها بالغداة والعشيّ ،
__________
(1) في الأصل : إلى غير. ولعله تحريف.
(2) هو عمار بن معاوية الدهني بضم المهملة ، الكوفي ، وثقه أحمد مات سنة 133 ، ا ه.

(19/191)


يعني بالغدو : صلاة الغداة ، ويعني بالآصال صلاة العصر وهما أوّل ما افترض الله من الصلاة ، فأحبّ أن يذكرهما ، ويذكر بهما عبادته.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ ) أذن الله أن تبنى ، فيصلي فيها بالغدوّ والآصال.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول في قوله : ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) يعني الصلاة المفروضة.
وقوله : ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره : لا يشغل هؤلاء الرجال الذين يصلون في هذه المساجد ، التي أذن الله أن ترفع ، عن ذكر الله فيها وإقام الصلاة - تجارة ولا بيع.
كما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن رجل نسي اسمه في هذه الآية : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) ... إلى قوله : ( وَالأبْصَارُ ) قال : هم قوم في تجاراتهم وبيوعهم ؛ لا تلهيهم تجاراتهم ، ولا بيوعهم عن ذكر الله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا جعفر بن سليمان ، عن عمرو بن دينار ، عن سالم بن عبد الله أنه نظر إلى قوم من السوق ، قاموا وتركوا بياعاتهم إلى الصلاة ، فقال : هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه( لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) ... الآية.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، عن سيار ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود ، نحو ذلك.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، عن سيار ، قال : حُدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوما من أهل السوق حيث نودي بالصلاة ، تركوا بياعاتهم ، ونهضوا إلى الصلاة ، فقال عبد الله : هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه(لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ).
وقال بعضهم : معنى ذلك : ( لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ ) عن صلاتهم المفروضة عليهم.

(19/192)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال : ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) يقول : عن الصلاة المكتوبة.
قوله : ( وَإِقَامِ الصَّلاةِ ) يقول : ولا يشغلهم ذلك أيضا عن إقام الصلاة بحدودها في أوقاتها.
وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد ، قال : ثنا عوف ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن رجل نسي عوف اسمه في( وَإِقَامِ الصَّلاةِ ) قال : يقومون للصلاة عند مواقيت الصلاة.
فإن قال قائل : أو ليس قوله : ( وَإِقَامِ الصَّلاةِ ) مصدرا من قوله : أقمت ؟ قيل : بلى.فإن قال : أو ليس المصدر منه إقامة ، كالمصدر من آجرت إجارة ؟ قيل : بلى. فإن قال : وكيف قال : ( وَإِقَامِ الصَّلاةِ ) أو تجيز أن نقول : أقمت إقاما ؟ قيل : ولكني أجيز أعجبني إقام الصلاة. فإن قيل : وما وجه جواز ذلك ؟ قيل : إن الحكم في أقمت إذا جعل منه مصدر أن يقال : إقواما ، كما يقال : أقعدت فلانا إقعادا ، وأعطيته إعطاء. ولكن العرب لما سكنت الواو من أقمت فسقطت لاجتماعها ، وهي ساكنة ، والميم وهي ساكنة ، بنوا المصدر على ذلك ، إذ جاءت الواو ساكنة قبل ألف الإفعال وهي ساكنة ، فسقطت الأولى منهما ، فأبدلوا منها هاء في آخر الحرف كالتكثير للحرف ، كما فعلوا ذلك في قولهم : وعدته عدة ، ووزنته زنة ، إذ ذهبت الواو من أوّله ، كثروه من آخره بالهاء; فلما أضيفت الإقامة إلى الصلاة ، حذفوا الزيادة التي كانوا زادوها للتكثير وهي الهاء في آخرها ؛ لأن الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد ، فاستغنوا بالمضاف إليه من الحرف الزائد ، وقد قال بعضهم في نظير ذلك :
إنَّ الخَلِيطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانجَرَدُوا... وأخْلَفُوكَ عدَى الأمْرِ الَّذِي وَعَدُوا (1)
__________
(1) البيت للفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب وهو في ( اللسان : وعد ) قال : وقال الفراء : وعدت عدة ، ويحذفون الهاء إذا أضافوا وأنشد : " إن الخليط .. . " البيت . وقال ابن الأنباري وغيره : الفراء يقول : عدة وعدى وأنشد : " و أخلفوك عدى .. . " البيت . وقال : أراد : عدة الأمر ، فحذف الهاء عند الإضافة ، قال : ويكتب بالياء . وقال الجوهري : والعدة الوعد ، والهاء عوض من الواو . والخليط : اسم لمن يخالطك بجوار أو قرابة أو عمل أو نحوه . وأجدوا البين : أسرعوا في الفراق ، واجتهدوا فيه . وانجردوا : أسرعوا وشمروا والشاهد في البيت عند المؤلف أن الهاء في عدة ونحوها تحذف منها عند الإضافة استغناء عنها بالمضاف إليه عن الحرف الزائد .

(19/193)


يريد : عدة الأمر. فأسقط الهاء من العدة لما أضافها ، فكذلك ذلك في إقام الصلاة.
وقوله( وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ) قيل : معناه وإخلاص الطاعة لله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ )( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ) ، وقوله : ( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ) ، وقوله : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا ) ، وقوله : ( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ) ونحو هذا في القرآن ، قال : يعني بالزكاة : طاعة الله والإخلاص ، وقوله : ( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ ) يقول : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب من هوله بين طمع بالنجاة ، وحذر بالهلاك ، والأبصار : أي ناحية يؤخذ بهم ، أذات اليمين أم ذات الشمال ، ومن أين يؤتون كتبهم ، أمن قبل الأيمان ، أو من قبل الشمائل ؟ وذلك يوم القيامة.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الله بن عياش ، قال زيد بن أسلم في قول الله : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) ... إلى قوله : ( تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ ) : يوم القيامة.
وقوله : ( لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ) يقول : فعلوا ذلك ، يعني أنهم لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأطاعوا ربهم ؛ مخافة عذابه يوم القيامة ، كي يثيبهم الله يوم القيامة بأحسن أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، ويزيدهم على ثوابه إياهم على أحسن أعمالهم التي عملوها في الدنيا من فضله ، فَيُفْضل عليهم عن عنده بما أحبّ من كرامته لهم.وقوله : ( وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) يقول تعالى ذكره : يتفضل على من شاء وأراد من طوْله وكرامته ، مما لم يستحقه بعمله ، ولم يبلغه بطاعته( بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ، يقول : بغير

(19/194)


وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)

محاسبة على ما بذل له وأعطاه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) }
وهذا مثل ضربه الله لأعمال أهل الكفر به ، فقال : والذين جحدوا توحيد ربهم وكذّبوا بهذا القرآن ، وبمن جاء به مَثَلُ أعمالهم التي عملوها( كسراب ) يقول : مثل سراب ، والسراب ما لصق بالأرض ، وذلك يكون نصف النهار ، وحين يشتدّ الحرّ والآل ، ما كان كالماء بين السماء والأرض ، وذلك يكون أوّل النهار ، يرفع كلّ شيء ضحى. وقوله : ( بقيعة ) وهي جمع قاع ، كالجيرة جمع جار ، والقاع : ما انبسط من الأرض واتسع ، وفيه يكون السراب. وقوله : ( يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً ) يقول : يظن العطشان من الناس السراب ماء( حَتَّى إِذَا جَاءَهُ ) والهاء من ذكر السراب ، والمعنى : حتى إذا جاء الظمآنُ السرابَ ملتمسا ماءً ، يستغيث به من عطشه( لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) يقول : لم يجد السراب شيئا ، فكذلك الكافرون بالله من أعمالهم التي عملوها في غرور ، يحسبون أنها منجيتهم عند الله من عذابه ، كما حسب الظمآن الذي رأى السراب فظنه ماء يُرويه من ظمئه ، حتى إذا هلك وصار إلى الحاجة إلى عمله الذي كان يرى أنه نافعه عند الله ، لم يجده ينفعه شيئا; لأنه كان عمله على كفر بالله ، ووجد الله ، هذا الكافرُ عند هلاكه بالمرصاد ، فوفاه يوم القيامة حساب أعماله التي عملها في الدنيا ، وجازاه بها جزاءه الذي يستحقه عليه منه.
فإن قال قائل : وكيف قيل : ( حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) فإن لم يكن السراب شيئا ، فعلام أدخلت الهاء في قوله : ( حَتَّى إِذَا جَاءَهُ ) ؟ قيل : إنه شيء يرى من بعيد كالضباب ، الذي يرى كثيفا من بعيد ، والهباء ، فإذا قرب منه المرء ، رقّ وصار كالهواء. وقد يحتمل أن يكون معناه حتى إذا جاء موضع السراب ؛ لم يجد السراب شيئا ، فاكتفى بذكر السراب من ذكر موضعه ، ( وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) يقول والله سريع حسابه; لأنه تعالى ذكره لا يحتاج إلى عقد أصابع ، ولا حفظ بقلب ، ولكنه عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد ، ومن بعد ما عمله.

(19/195)


وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، قال : ثم ضرب مثلا آخر ، فقال : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ) قال : وكذلك الكافر يجيء يوم القيامة ، وهو يحسب أن له عند الله خيرا فلا يجد ، فيُدخله النار.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، بنحوه.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ) يقول : الأرض المستوية.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ) ... إلى قوله : ( وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) قال : هو مثل ضربه الله لرجل عطش فاشتدّ عطشه ، فرأى سرابا فحسبه ماء ، فطلبه وظنّ أنه قد قدر عليه ، حتى أتاه ، فلما أتاه لم يجده شيئا ، وقبض عند ذلك ، يقول الكافر كذلك ، يحسب أن عمله مغن عنه ، أو نافعه شيئا ، ولا يكون آتيًا على شيء حتى يأتيه الموت ، فإذا أتاه الموت لم يجد عمله أغنى عنه شيئا ، ولم ينفعه إلا كما نفع العطشانَ المشتدّ إلى السرابِ.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن. قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ) قال : بقاعٍ من الأرض ، والسراب : عمله ، زاد الحارث في حديثه عن الحسن : والسراب : عمل الكافر( إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) إتيانه إياه : موته ، وفراقه الدنيا( وَوَجَدَ اللَّهَ ) عند فراقه الدنيا ، ( فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتَادة ، في قوله : ( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ) قال : بقيعة من الأرض( يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً ) هو مثل ضربه الله لعمل الكافر ، يقول : يحسب أنه في شيء ، كما يحسب هذا السراب ماء( حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) وكذلك الكافر إذا مات لم يجد عمله شيئا( وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ).

(19/196)


أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا ) ... إلى قوله : ( وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ ) قال : هذا مثل ضربه الله للذين كفروا( أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ) قد رأى السراب ، ووثق بنفسه أنه ماء ، فلما جاءه لم يجده شيئا ، قال : وهؤلاء ظنوا أن أعمالهم صالحة ، وأنهم سيرجعون منها إلى خير ، فلم يرجعوا منها إلا كما رجع صاحب السراب ، فهذا مثل ضربه الله جلّ ثناؤه ، وتقدّست أسماؤه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) }
وهذا مثل آخر ضربه الله لأعمال الكفار ، يقول تعالى ذكره : ومثل أعمال هؤلاء الكفار ، في أنها عمِلت على خطأ وفساد وضلالة وحيرة من عمالها فيها ، وعلى غير هدى ، مثَلُ ظلمات في بحر لجِّيّ ، ونسب البحر إلى اللجة وصفًا له بأنه عميق كثير الماء ، ولجة البحر معظمه( يَغْشَاهُ مَوْجٌ ) يقول : يغشى البحر موج( مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ ) يقول : من فوق الموج موج آخر يغشاه ، ( مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ) يقول : من فوق الموج الثاني الذي يغشى الموج الأوّل سحاب ، فجعل الظلمات مثلا لأعمالهم ، والبحر اللجيّ مثلا لقلب الكافر ، يقول : عمل بنية قلب قد غمره الجهل ، وتغشَّته الضلال والحيرة ، كما يغشى هذا البحر اللجّي موج من فوقه موج من فوقه سحاب ، فكذلك قلب هذا الكافر الذي مثل عمله مثل هذه الظلمات ، يغشاه الجهل بالله ، بأن الله ختم عليه ، فلا يعقل عن الله ، وعلى سمعه ، فلا يسمع مواعظ الله ، وجعل على بصره غشاوة فلا يبصر به حجج الله ، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض (1) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنا أبي ،
__________
(1) قال الشوكاني في فتح القدير ( 4 : 38 ) : ومن غرائب التفاسير : أنه سبحانه وتعالى أراد بالظلمات أعمال الكافر ، وبالبحر اللجى قلبه ، وبالموج : ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة . والسحاب : الرين والختم والطبع على قلبه . وهذا تفسير هو عن لغة العرب بمكان بعيد 1 هـ .

(19/197)


عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ) ... إلى قوله : ( مِنْ نُورٍ ) قال : يعني بالظلمات : الأعمال ، وبالبحر اللجّي : قلب الإنسان ، قال : يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ، قال : ظلمات بعضها فوق بعض ، يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر ، وهو كقوله : ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) ... الآية ، وكقوله : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) ... إلى قوله : ( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة في قوله : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ) عميق ، وهو مثل ضربه الله للكافر ، يعمل في ضلالة وحيرة ، قال : ( ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ).
ورُوي عن أُبيّ بن كعب ما حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب ، في قوله : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ ) ... الآية ، قال : ضرب مثلا آخر للكافر ، فقال : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ) ... الآية ، قال : فهو يتقلب في خمس من الظلم : فكلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن أبي الربيع ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، بنحوه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ ) ... إلى قوله : ( ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ) قال : شرّ بعضه فوق بعض.
وقوله : ( إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ) يقول : إذا أخرج الناظر يده في هذه الظلمات لم يكد يراها.
فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : ( لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ) ، مع شدّة هذه الظلمة التي وصف ، وقد علمت أن قول القائل : لم أكد أرى فلانا ، إنما هو إثبات منه لنفسه رؤيته بعد جهد وشدّة ، ومن دون الظلمات التي وصف في هذه الآية ما لا يرى الناظر يده إذا أخرجها فيه ، فكيف فيها ؟ قيل في ذلك أقوال نذكرها ، ثم نخبر بالصواب من

(19/198)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)

ذلك ، أحدها : أن يكون معنى الكلام : إذا أخرج يده رائيا لها لم يكد يراها : أي لم يعرف من أين يراها ، فيكون من المقدّم الذي معناه التأخير ، ويكون تأويل الكلام على ذلك : إذا أخرج يده لم يقرب أن يراها. والثاني : أن يكون معناه : إذا أخرج يده لم يرها (1) ويكون قوله : ( لَمْ يَكَدْ ) في دخوله في الكلام نظير دخول الظنّ فيما هو يقين من الكلام ، كقوله : ( وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) ونحو ذلك. والثالث : أن يكون قد رآها بعد بطء وجهد ، كما يقول القائل لآخر : ما كدت أراك من الظلمة ، وقد رآه ، ولكن بعد إياس وشدة ، وهذا القول الثالث أظهر معاني الكلمة من جهة ما تستعمل العرب أكاد في كلامها ، والقول الآخر الذي قلنا إنه يتوجه إلى أنه بمعنى لم يرها ، قول أوضح من جهة التفسير ، وهو أخفى معانيه. وإنما حسُن ذلك في هذا الموضع ، أعني أن يقول : لم يكد يراها مع شدة الظلمة التي ذكر; لأن ذلك مثل لا خبر عن كائن كان.( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا ) يقول : من لم يرزقه الله إيمانا وهدى من الضلالة ومعرفة بكتابه ، ( فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ) : يقول فما له من إيمان وهدى ومعرفة بكتابه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تنظر يا محمد بعين قلبك ، فتعلم أن الله يصلي له من في السماوات والأرض من ملك وإنس وجنّ( وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ) في الهواء أيضا تسبح له( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (2) والتسبيح عندك صلاة ، فيقال : قيل : إن الصلاة لبني آدم ، والتسبيح لغيرهم من الخلق ، ولذلك فصّل فيما بين ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) في فتح القدير للشوكاني ( طبعة الحلبي 4 : 38 ) قال الزجاج وأبو عبيدة : لم يرها ولم يكد . وقال الفراء : إن كاد زائدة ، وقال المحقق الرضي في شرحه لكافية ابن الحاجب ( 2 : 306 ) : إن نفي القرب من الفعل أبلغ في انتفاء ذلك الفعل ، من نفي الفعل نفسه ؛ فإن ما قربت من الضرب ، آكد في نفي الضرب من ما ضربت . أ هـ .
(2) يظهر أن في الكلام سقطًا . تقديره : فإن قيل : ما فائدة عطف " وتسبيحه " على صلاته .. . إلخ . بدليل قوله : قيل .. . إلخ وهو جواب عن سؤال.

(19/199)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) قال : والصلاة للإنسان ، والتسبيح لما سوى ذلك من الخلق.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد قوله : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) قال : صلاته للناس ، وتسبيحه عامة لكلّ شيء.
ويتوجه قوله : ( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) لوجوه : أحدها أن تكون الهاء التي في قوله : ( صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) من ذكر كلّ ، فيكون تأويل الكلام : كل مصلّ ومسبِح منهم قد علم الله صلاته وتسبيحه ، ويكون الكلّ حينئذ مرتفعا بالعائد من ذكره في قوله : ( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) وهو الهاء التي في الصلاة.
والوجه الآخر : أن تكون الهاء في الصلاة والتسبيح أيضا للكل ، ويكون الكل مرتفعا بالعائد من ذكره عليه في( عَلِمَ ) ويكون( عَلِمَ ) فعلا للكلّ ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : قد علم كلّ مصلّ ومسبح منهم صلاة نفسه وتسبيحه ، الذي كُلِّفه وأُلْزمه.
والوجه الآخر : أن تكون الهاء في الصلاة والتسبيح من ذكر الله ، والعلم للكل ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : قد علم كلّ مسبح ومصلّ صلاة الله التي كلفه إياها ، وتسبيحه ، وأظهر هذه المعاني الثلاثة على هذا الكلام ، المعنى الأوّل ، وهو أن يكون المعنى : كلّ مصلّ منهم ومسبح قد علم الله صلاته وتسبيحه.
وقوله : ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) يقول تعالى ذكره : والله ذو علم بما يفعل كلّ مصلّ ومسبح منهم ، لا يخفى عليه شيء من أفعالهم ، طاعتها ومعصيتها ، محيط بذلك كله ، وهو مجازيهم على ذلك كله.
وقوله : ( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول جلّ ثناؤه : ولله سلطان السماوات والأرض وملكها دون كلّ من هو دونه من سلطان وملك ، فإياه فارهبوا أيها الناس ، وإليه فارغبوا لا إلى غيره ، فإن بيده خزائن السماوات والأرض ، لا يخشى بعطاياكم منها فقرا( وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) يقول : وأنتم إليه بعد وفاتكم ، مصيركم ومعادكم ، فيوفيكم

(19/200)


أجور أعمالكم التي عملتموها في الدنيا ، فأحسنوا عبادته ، واجتهدوا في طاعته ، وقدموا لأنفسكم الصالحات من الأعمال.

(19/201)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ (44) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( أَلَمْ تَرَ ) يا محمد( أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي ) يعني : يسوق( سحابا ) حيث يريد( ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ) يقول : ثم يؤلف بين السحاب ، وأضاف بين إلى السحاب ، ولم يذكر مع غيره ، وبين لا تكون مضافة إلا إلى جماعة أو اثنين ؛ لأن السحاب في معنى جمع ، واحده سحابة ، كما يجمع النخلة : نخل ، والتمرة تمر ، فهو نظير قول قائل : جلس فلان بين النخل ، وتأليف الله السحاب : جمعه بين متفرّقها.
وقوله : ( ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا ) يقول : ثم يجعل السحاب الذي يزجيه ، ويؤلف بعضه إلى بعض ركاما ، يعني : متراكما بعضه على بعض.
وقد حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا خالد ، قال : ثنا مطر ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عبيد بن عمير الليثي ، قال : الرياح أربع : يبعث الله الريح الأولى فتقُمّ الأرض قما ، ثم يبعث الثانية فتنشئ سحابا ، ثم يبعث الثالثة فتؤلف بينه فتجعله ركاما ، ثم يبعث الرابعة فتمطره.
وقوله : ( فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) يقول : فترى المطر يخرج من بين السحاب ، وهو الودق ، قال : الشاعر :
فَلا مُزْنَةٌ ودقَتْ ودْقَهَا... ولا أَرْضٌ أبْقَلَ إبْقَالَها (1)
والهاء في قوله : ( مِنْ خِلالِهِ ) من ذكر السحاب ، والخلال : جمع خلل. وذُكر عن ابن عباس وجماعة أنهم كانوا يقرءون ذلك : " مِنْ خَلَلِهِ " .
__________
(1) البيت لعامر بن جوين الطائي ( اللسان : ودق ) قال : الودق : المطر كله شديده و هينه وقد ودق يدق ودقًا أي قطر ، قال عامر بن جوين الطائي " فلا مزنة " البيت والمزنة سحابة واستشهد المؤلف بالبيت على أن معنى الودق المطر

(19/201)


حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا حرمي بنُ عمارة ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا قَتَادة ، عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأ هذا الحرف : ( فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) : " مِنْ خَلَلِهِ " .
قال : ثنا شعبة ، قال : أخبرني عمارة ، عن رجل ، عن ابن عباس أنه قرأ هذا الحرف : ( فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) : " من خَلَله " .
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، قال : أخبرني عمارة بن أبي حفصة ، عن رجل ، عن ابن عباس ، أنه قرأها : " مِنْ خَلَلِهِ " بفتح الخاء ، من غير ألف.
قال هارون : فذكرت ذلك لأبي عمرو ، فقال : إنها لحسنة ، ولكن خلاله أعمّ.
وأما قرّاء الأمصار ، فإنهم على القراءة الأخرى من خلاله ، وهي التي نختار لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) قال : الودْقَ : القطر ، والخلال : السحاب.
وقوله : ( وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) : قيل في ذلك قولان : أحدهما : أن معناه أن الله ينزل من السماء من جبال في السماء من برد مخلوقة هنالك خلقه ، كأن الجبال على هذا القول هي من برد ، كما يقال : جبال من طين. والقول الآخر : أن الله ينزل من السماء قدر جبال ، وأمثال جبال من برد إلى الأرض ، كما يقال : عندي بيتان تبنا ، والمعنى قدر بيتين من التبن ، والبيتان ليسا من التبن.
وقوله : ( فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ ) يقول : فيعذّب بذلك الذي ينزل من السماء من جبال فيها من برد ، من يشاء فيهلكه ، أو يهلك به زروعه وماله( وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ ) من خلقه ، يعني : عن زروعهم وأموالهم.
وقوله : ( يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ ) يقول : يكاد شدّة ضوء برق هذا السحاب يذهب بأبصار من لاقى بصره ، والسنا مقصور ، وهو ضوء البرق.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قوله : ( يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ ) قال : ضوء برقه.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : ( يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ ) يقول : لمعان البرق يذهب بالأبصار.

(19/202)


وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ ) قال : سناه ضوء يذهب بالأبصار.
وقرأت قرّاء الأمصار( يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ ) بفتح الياء من يذهب سوى أبي جعفر القارئ ، فإنه قرأه بضم الياء " يُذْهِبُ بِالأبْصَارِ " .
والقراءة التي لا أختار غيرها هي فتحها ؛ لإجماع الحجة من القرّاء عليها ، وأن العرب إذا أدخلت الباء في مفعول ذهبت ، لم يقولوا : إلا ذهبت به ، دون أذهبت به ، وإذا أدخلوا الألف في أذهبت لم يكادوا أن يدخلوا الباء في مفعوله ، فيقولون : أذهبته وذهبت به.
وقوله : ( يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) يقول : يعقب اللهُ بين الليل والنهار ويصرفهما ، إذا أذهب هذا جاء هذا ، وإذا أذهب هذا جاء هذا( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ ) يقول : إنّ في إنشاء الله السحاب ، وإنزاله منه الودق ، ومن السماء البردَ ، وفي تقليبه الليل والنهار لعبرة لمن اعتبر به ، وعظةً لمن اتعظ به. ممن له فهم وعقل; لأن ذلك ينبئ ويدلّ على أنه له مدبِّرا ومصرِّفًا ومقلبا لا يشبهه شيء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ) فقرأته عامة قرّاء الكوفة غير عاصم : " وَاللهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ " . وقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وعاصم : ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ ) بنصب كل ، وخلق على مثال فَعَلَ ، وهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، وذلك أن الإضافة في قراءة من قرأ ذلك " خَالِقُ " تدلّ على أن معنى ذلك المضيّ ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقوله : ( خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ) يعني : من نطفة ، ( فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ) كالحيات وما أشبهها ، وقيل : إنما قيل : ( فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ) والمشي لا يكون على البطن; لأن المشي إنما يكون لما له قوائم على التشبيه وأنه لما خالط ما له قوائم ما لا قوائم له جاز ، كما قال : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ ) كالطير ، ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ) كالبهائم.
فإن قال قائل : فكيف قيل : ( فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي ) ، و " مَنْ " للناس ، وكلّ هذه

(19/203)


لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)

الأجناس أو أكثرها لغيرهم ؟ قيل : لأنه تفريق ما هو داخلٌ في قوله : ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ ) وكان داخلا في ذلك الناس وغيرهم ، ثم قال : ( فمنهم ) ، لاجتماع الناس والبهائم وغيرهم في ذلك واختلاطهم ، فكنى عن جميعهم كنايته عن بني آدم ، ثم فسرهم ب " مِنْ " ، إذ كان قد كنى عنهم كناية بني آدم خاصة( يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) يقول : يحدث الله ما يشاء من الخلق( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يقول : إن الله على إحداث ذلك وخلقه ، وخلق ما يشاء من الأشياء غيره ، ذو قدرة لا يتعذّر عليه شيء أراد.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) }
يقول تعالى ذكره : لقد أنزلنا أيها الناس علامات واضحات دالات على طريق الحقّ وسبيل الرشاد( وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول : والله يرشد من يشاء من خلقه بتوفيقه ، فيهديه إلى دين الإسلام ، وهو الصراط المستقيم والطريق القاصد الذي لا اعوجاج فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) }
يقول تعالى ذكره : ويقول المنافقون : صدّقنا بالله وبالرسول ، وأطعنا الله وأطعنا الرسول( ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ ) يقول : ثم تدبر كلّ طائفة منهم من بعد ما قالوا هذا القول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتدعو إلى المحاكمة إلى غيره خصمها( وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) يقول : وليس قائلو هذه المقالة ، يعني قوله : ( آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ) بالمؤمنين ؛ لتركهم الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عنه إذا دعوا إليه. وقوله : ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) يقول : وإذا دعي هؤلاء المنافقون إلى كتاب الله وإلى رسوله( لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ) فيما اختصموا فيه بحكم الله( إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ) عن قبول الحقّ ، والرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ

(19/204)


وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)

مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) }
يقول تعالى ذكره : وإن يكن الحق لهؤلاء الذين يدعون إلى الله ورسوله ليحكم بينهم فيأبون ويعرضون عن الإجابة إلى ذلك ، قِبَل الذين يدعونهم إلى الله ورسوله - يأتوا إلى رسول الله مذعنين ، يقول : مذعنين منقادين لحكمه ، مقرّين به طائعين غير مكرهين ، يقال منه : قد أذعن فلان بحقه إذا أقرّ به طائعا غير مستكره وانقاد له وسلم.
وكان مجاهد فيما ذكر عنه يقول في ذلك ما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) قال : سراعا.
وقوله : ( أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) يقول تعالى ذكره : أفي قلوب هؤلاء الذين يعرضون إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ، شكّ في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه لله رسول ، فهم يمتنعون من الإجابة إلى حكمه والرضا به( أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ) إذا احتكموا إلى حكم كتاب الله وحكم رسوله وقال : ( أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ) والمعنى : أن يحيف رسول الله عليهم ، فبدأ بالله تعالى ذكره تعظيما لله ، كما يقال : ما شاء الله ثم شئت ، بمعنى شئت. ومما يدلّ على أن معنى ذلك كذلك قوله : ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ) فأفرد الرسول بالحكم ، ولم يقل : ليحكما.
وقوله : ( بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) يقول : ما خاف هؤلاء المعرضون عن حكم الله وحكم رسوله ، إذ أعرضوا عن الإجابة إلى ذلك مما دعوا إليه ، أن يحيف عليهم رسول الله ، فيجور في حكمه عليهم ، ولكنهم قوم أهل ظلم لأنفسهم بخلافهم أمر ربهم ، ومعصيتهم الله فيما أمرهم من الرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أحبوا وكرهوا ، والتسليم له.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) }
يقول تعالى ذكره : إنما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين إذا دعوا إلى حكم الله وإلى حكم رسوله ، ( لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ) وبين خصومهم ، ( أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا ) ما قيل لنا

(19/205)


وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)

( وأطعنا ) مَن دعانا إلى ذلك. ولم يُعن ب( كَانَ ) في هذا الموضع الخبر عن أمر قد مضى فيقضى ، ولكنه تأنيب من الله الذي أنزلت هذه الآية بسببهم ، وتأديب منه آخرين غيرهم.وقوله : ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) يقول تعالى ذكره : والذين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم وبين خصومهم( أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا المفلحون يقول : هم المنجحون المدركون طِلباتهم ، بفعلهم ذلك ، المخلدون في جنات الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) }
يقول تعالى ذكره : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) فيما أمره ونهاه ، ويسلم لحكمهما له وعليه ، ويخف عاقبة معصية الله ويحذره ، ويتق عذاب الله بطاعته إياه في أمره ونهيه( فأولئك ) يقول : فالذين يفعلون ذلك( هُمُ الْفَائِزُونَ ) برضا الله عنهم يَوم القيامة ، وأمنهم من عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) }
يقول تعالى ذكره وحلف هؤلاء المعرضون عن حكم الله وحكم رسوله ، إذ دعوا إليه( بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ) يقول : أغلظ أيمانهم وأشدّها( لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ ) يا محمد بالخروج إلى جهاد عدوك وعدو المؤمنين( لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا ) لا تحلفوا ، فإن هذه( طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) منكم فيها التكذيب.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) قال : قد عرفت طاعتكم إلي أنكم تكذبون( إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) يقول : إن الله ذو خبرة بما تعملون من طاعتكم الله ورسوله ، أو خلافكم أمرهما ، أو غير ذلك من أموركم ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، وهو مجازيكم بكل ذلك.

(19/206)


قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ

(19/206)


تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) }
يقول تعالى ذكره : ( قل ) يا محمد لهؤلاء المقسمين بالله( جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ) ، وغيرهم من أمتك( أَطِيعُوا اللَّهَ ) أيها القوم فيما أمركم به ، ونهاكم عنه( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) فإن طاعته لله طاعة( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) يقول : فإن تعرضوا وتدبروا عما أمركم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو نهاكم عنه ، وتأبوا أن تذعنوا لحكمه لكم وعليكم( فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ ) يقول : فإنما عليه فعل ما أمر بفعله من تبليغ رسالة الله إليكم على ما كلَّفه من التبليغ( وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ ) يقول : وعليكم أيها الناس أن تفعلوا ما ألزمكم ، وأوجب عليكم من اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، والانتهاء إلى طاعته فيما أمركم ونهاكم.
وقلنا : إن قوله : ( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) بمعنى فإن تتولوا ، فإنه في موضع جزم; لأنه خطاب للذين أمر رسول الله بأن يقول لهم( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) يدل على أن ذلك كذلك قوله : ( وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ ) ولو كان قوله : ( تولوا ) فعلا ماضيا على وجه الخبر عن غيب لكان في موضع قوله : ( عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ ).
وقوله : ( وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ) يقول تعالى ذكره : وإن تطيعوا - أيها الناس - رسول الله - فيما يأمركم وينهاكم - ترشدوا وتصيبوا الحقّ في أموركم( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) يقول : وغير واجب على من أرسله الله إلى قوم برسالة إلا أن يبلغهم رسالته بلاغا يبين لهم ذلك البلاغ عما أراد الله به.
يقول فليس على محمد - أيها الناس - إلا أداء رسالة الله إليكم ، وعليكم الطاعة ، وإن أطعتموه (1) لحظوظ أنفسكم تصيبون ، وإن عصيتموه بأنفسكم فتوبقون (2) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي
__________
(1) كأنه عل تقدير الفاء في جواب الشرط أي فلحظوظ إلخ
(2) كان الأولى أن يقول : وإن عصيتموه فلأنفسكم توبقون

(19/207)


وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)

لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) }
يقول تعالى ذكره : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ منكم ) أيها الناس ، ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) يقول : وأطاعوا الله ورسوله فيما أمراه ونهياه( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ ) يقول : ليورثنهم الله أرض المشركين من العرب والعجم ، فيجعلهم ملوكها وساستها( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول : كما فعل منْ قبلهم ذلك ببني إسرائيل ، إذ أهلك الجبابرة بالشأم ، وجعلهم ملوكها وسكانها( وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ) يقول : وليوطئنّ لهم دينهم ، يعني : ملتهم التي ارتضاها لهم ، فأمرهم بها. وقيل : وعد الله الذين آمنوا ، ثم تلقى ذلك بجواب اليمين بقوله : ( ليستخلفنهم ) لأن الوعد قول يصلح فيه " أن " ، وجواب اليمين كقوله : وعدتك أن أكرمك ، ووعدتك لأكرمنك.
واختلف القرّاء في قراءة قوله : ( كَمَا اسْتَخْلَفَ ) فقرأته عامة القرّاء( كَمَا اسْتَخْلَفَ ) بفتح التاء واللام ، بمعنى : كما استخلف الله الذين من قبلهم من الأمم. وقرأ ذلك عاصم " كَما اسْتُخْلِفَ " بضم التاء وكسر اللام ، على مذهب ما لم يسمّ فاعله.
واختلفوا أيضا في قراءة قوله : ( وليبدلنهم ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم( وليبدلنهم ) بتشديد الدال ، بمعنى : وليغيرنّ حالهم عما هي عليه من الخوف إلى الأمن ، والعرب تقول : قد بدّل فلان إذا غيرت حاله ، ولم يأت مكان غيره ، وكذلك كلّ مغير عن حاله ، فهو عندهم مبدل بالتشديد. وربما قيل بالتخفيف ، وليس بالفصيح ، فأما إذا جعل مكان الشيء المبدل غيره ، فذلك بالتخفيف أبدلته فهو مبدل. وذلك كقولهم : أبدل هذا الثوب : أي جُعل مكانه آخر غيره ، وقد يقال بالتشديد غير أن الفصيح من الكلام ما وصفت. وكان عاصم يقرؤه " وَلَيُبْدِلَنَّهُمْ " بتخفيف الدال.
والصواب من القراءة في ذلك التشديد ، على المعنى الذي وصفت قبلُ ، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه ، وأن ذاك تغيير حال الخوف إلى الأمن ، وأرى عاصما ذهب إلى أن الأمن لما كان خلاف الخوف وجَّه المعنى إلى أنه ذهب بحال الخوف ، وجاء بحال الأمن ، فخفف ذلك.
ومن الدليل على ما قلنا ، من أن التخفيف إنما هو ما كان في إبدال شيء مكان آخر ، قول أبي النجم :
عَزْلُ الأمير للأمِيرِ المبْدَل (1)
__________
(1) البيت من مشطور الرجز ، لأبي النجم العجلي الراجز ( اللسان : بدل ) قال : قال أبو العباس ( يعني ثعلبًا ) وحقيقته : أن التبديل تغيير الصورة إلى صورة أخرى ، والجوهرة بعينها ؛ والإبدال : تنحية الجوهرة ، واستئناف جوهرة أخرى . منه قول أبي النجم : * عزل الأمير للأمير المبدل *
ألا ترى أنه نحى جسمًا ، وجعل مكانه جسمًا غيره ؟ .

(19/208)


وقوله : ( يعبدونني ) يقول : يخضعون لي بالطاعة ويتذللون لأمري ونهيي( لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) يقول : لا يشركون في عبادتهم إياي الأوثان والأصنام ولا شيئا غيرها ، بل يخلصون لي العبادة فيفردونها إليَّ دون كل ما عبد من شيء غيري ، وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل شكاية بعض أصحابه إليه في بعض الأوقات التي كانوا فيها من العدوّ في خوف شديد مما هم فيه من الرعب والخوف ، وما يلقون بسبب ذلك من الأذى والمكروه.
* ذكر الرواية بذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قوله : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ... الآية ، قال : فمكث النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين خائفا يدعو إلى الله سرّا وعلانية ، قال : ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة. قال : فمكث بها هو وأصحابه خائفون ، يصبحون في السلاح ، ويمسون فيه ، فقال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ، ونضع عنا السلاح ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لا تَغْبُرُونَ إلا يَسيرًا حتى يجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الملإ العَظيمِ مُحْتَبِيًا فِيه ، لَيْسَ فِيهِ حَدِيدَةٌ " . (1) فأنزل الله هذه الآية( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) ... إلى قوله : ( فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ) " قال : يقول : من كفر بهذه النعمة( فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) وليس يعني الكفر بالله. قال : فأظهره الله على جزيرة العرب فآمنوا ، ثم تجبروا ، فغيرَ الله ما بهم ، وكفروا بهذه النعمة ، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم ، قال القاسم : قال أبو علي : بقتلهم عثمان بن عفان رضي الله عنه.
واختلف أهل التأويل في معنى الكفر الذي ذكره الله في قوله : ( فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ) فقال أبو العالية (2) ما ذكرنا عنه من أنه كفر بالنعمة لا كفر بالله.
ورُوي عن حُذيفة في ذلك ما حدثنا به ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ،
__________
(1) في فتح القدير للشوكاني ( 4 : 47 ) ليست فيهم جديدة . ولعلها رواية أخرى
(2) لعله أبو العالية ، راوي الحديث .

(19/209)


وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

عن حبيب بن أبي الشعثاء ، قال : كنت جالسا مع حُذيفة وعبد الله بن مسعود ، فقال حُذيفة : ذهب النفاق ، وإنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو الكفر بعد الإيمان ، قال : فضحك عبد الله ، فقال : لم تقول ذلك ؟ قال : علمت ذلك ، قال : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ ) ... حتى بلغ آخرها.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي الشعثاء ، قال : قعدت إلى ابن مسعود وحُذيفة ، فقال حذيفة : ذهب النفاق فلا نفاق ، وإنما هو الكفر بعد الإيمان ، فقال عبد الله : تعلم ما تقول ؟ قال : فتلا هذه الآية( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ ) ... حتى بلغ : ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) قال : فضحك عبد الله ، قال : فلقيت أبا الشعثاء بعد ذلك بأيام ، فقلت : من أي شيء ضحك عبد الله ؟ قال : لا أدري ، إن الرجل ربما ضحك من الشيء الذي يعجبه ، وربما ضحك من الشيء الذي لا يعجبه ، فمن أي شيء ضحك ؟ لا أدري. والذي قاله أبو العالية من التأويل أشبه بتأويل الآية ، وذلك أن الله وعد الإنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية ، أنه منعم به عليهم ، ثم قال عقيب ذلك : فمن كفر هذه النعمة بعد ذلك( فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) قال : تلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد( أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) قال : لا يخافون غيري.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) }
يقول تعالى ذكره : ( وأقيموا أَيُّهَا النَّاسُ الصلاة ) بحدودها ، فلا تضيعوها ، ( وَآتُوا الزَّكَاةَ ) التي فرضها الله عليكم أهلها ، وأطيعوا رسول ربكم فيما أمركم ونهاكم( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) يقول : كي يرحمكم ربكم ، فينجيكم من عذابه ، وقوله : ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ ) يقول تعالى ذكره : لا تحسبن يا محمد ، الذين كفروا بالله معجزيه في الأرض إذا أراد إهلاكهم( ومأواهم ) بعد هلاكهم( النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ )

(19/210)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)

الذي يصيرون إليه ذلك المأوى. وقد كان بعضهم يقول : " لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا " بالياء ، وهو مذهب ضعيف عند أهل العربية; وذلك أنّ " تَحْسَبَ " محتاج إلى منصوبين. وإذا قرئ " يَحْسَبَنَّ " لم يكن واقعا إلا على منصوب واحد ، غير أني أحسب أن قائله بالياء ظنّ أنه قد عمل في " مُعْجِزِينَ " وأن منصوبه الثاني " في الأرض " ، وذلك لا معنى له ، إن كان ذلك قصد.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) }
اختلف أهل التأويل في المعنِّي بقوله : ( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) فقال بعضهم : عني بذلك : الرجال دون النساء ، ونهوا عن أن يدخلوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة ، هؤلاء الذين سموا في هذه الآية إلا بإذن.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قوله : ( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قال : هي على الذكور دون الإناث.
وقال آخرون : بل عني به الرجال والنساء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن ، في قوله : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قال : هي في الرجال والنساء ، يستأذنون على كلّ حال ، بالليل والنهار.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عُني به الذكور والإناث; لأن الله عمّ بقوله : ( الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) جميع أملاك أيماننا ، ولم يخصص منهم ذكرا ولا أنثى فذلك على جميع مَنْ عمه ظاهر التنزيل.

(19/211)


فتأويل الكلام : يا أيُّها الذين صدقوا الله ورسوله ، ليستأذنكم في الدخول عليكم عبيدكم وإماؤكم ، فلا يدخلوا عليكم إلا بإذن منكم لهم.
( وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ) يقول : والذين لم يحتلموا من أحراركم( ثَلاثَ مَرَّاتٍ ) ، يعني : ثلاث مرات في ثلاثة أوقات ، من ساعات ليلكم ونهاركم.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قال : عبيدكم المملوكون( وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ) قال : لم يحتلموا من أحراركم.
قال ابن جُرَيج : قال لي عطاء بن أبي رباح : فذلك على كل صغير وصغيرة أن يستأذن ، كما قال( ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ) قالوا : هي العتمة. قلت : فإذا وضعوا ثيابهم بعد العتمة استأذنوا عليهم حتى يصبحوا ؟ قال : نعم. قلت لعطاء : هل استئذانهم إلا عند وضع الناس ثيابهم ؟ قال : لا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن صالح بن كيسان ويعقوب بن عتبة وإسماعيل بن محمد ، قالوا : لا استئذان على خدم الرجل عليه إلا في العورات الثلاث.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) يقول : إذا خلا الرجل بأهله بعد صلاة العشاء ، فلا يدخل عليه خادم ولا صبيّ إلا بإذن حتى يصلي الغداة ، فإذا خلا بأهله عند صلاة الظهر فمثل ذلك.
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني قرة بن عبد الرحمن ، عن ابن شهاب ، عن ثعلبة ، عن أبي مالك القرظي : أنه سأل عبد الله بن سويد الحارثي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن الإذن في العورات الثلاث ، فقال : إذا وضعت ثيابي من الظهيرة لم يلج عليّ أحد من الخدم الذي بلغ الحلم ، ولا أحد ممن لم يبلغ الحلم من الأحرار إلا بإذن.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عطاء يقول : قال ابن عباس : ثلاث آيات جحدهنّ الناس : الإذن كله ، وقال : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) وقال الناس : أكرمكم أعظمكم بيتا ، ونسيت الثالثة.
حدثني ابن أبي الشوارب ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا يونس ، عن الحسن ،

(19/212)


في هذه الآية( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قال : كان الحسن يقول : إذا أبات الرجل خادمه معه فهو إذنه ، وإن لم يبته معه استأذن في هذه الساعات.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثني موسى بن أبي عائشة ، عن الشعبي في قوله : ( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قال : لم تُنسخ ، قلت : إن الناس لا يعملون به ، قال : الله المستعان!
قال ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن الشعبي ، وسألته عن هذه الآية : ( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قلت : منسوخة هي ؟ قال : لا والله ما نُسخت ، قلت : إن الناس لا يعملون بها ، قال : الله المستعان!
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، قال : إن ناسا يقولون نسخت ، ولكنها مما يتهاون الناس به.
قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير في هذه الآية( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) ... إلى آخر الآية ، قال : لا يعمل بها اليوم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا حنظلة ، أنه سمع القاسم بن محمد يسأل عن الإذن ، فقال : يستأذن عند كلّ عورة ، ثم هو طوّاف ، يعني الرجل على أمه.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عثمان بن عمر ، قال : أخبرنا عبد العزيز بن أبي روّاد ، قال : أخبرني رجل من أهل الطائف ، عن غيلان بن شُرَحبيل ، عن عبد الرحمن بن عوف ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يَغْلِبَنَّكُمْ الأعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاتِكُمْ ، قال الله : ( وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ) وإنَّمَا العَتَمَةُ عَتَمَةُ الإبِلِ " .
وقوله : ( ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : ( ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ) برفع " الثلاث " ، بمعنى الخبر عن هذه الأوقات التي ذكرت كأنه عندهم ، قيل : هذه الأوقات الثلاثة التي أمرناكم بأن لا يدخل عليكم فيها من ذكرنا إلا بإذن ، ثلاث عورات لكم ، لأنكم تضعون فيها ثيابكم ، وتخلون بأهليكم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة " ثَلاثَ عَوْرَاتٍ " بنصب الثلاث على الرد على الثلاث الأولى. وكأن معنى الكلام عندهم : ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ، والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرّات ، ثلاثَ عورات لكم.

(19/213)


والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ ) يقول تعالى ذكره : ( ليس عليكم ) معشر أرباب البيوت والمساكن ، ( ولا عليهم ) يعني : ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء ، والذين لم يبلغوا الحلم من أولادكم الصغار ، حرج ولا إثم بعدهنّ ، يعني بعد العورات الثلاث ، والهاء والنون في قوله : ( بعدهن ) عائدتان على " الثلاث " من قوله : ( ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ) وإنما يعني بذلك أنه لا حرج ولا جناح على الناس أن يدخل عليهم مماليكهم البالغون ، وصبيانهم الصغار بغير إذن بعد هذه الأوقات الثلاث اللاتي ذكرهنّ في قوله : ( مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : ثم رخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن ، يعني فيما بين صلاة الغداة إلى الظهر ، وبعد الظهر إلى صلاة العشاء ، أنه رخص لخادم الرجل والصبيّ أن يدخل عليه منزله بغير إذن ، قال : وهو قوله : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ) فأما من بلغ الحُلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال.
وقوله : ( طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ ) رفع الطوّافون بمضمر ، وذلك هم . يقول : هؤلاء المماليك والصبيان الصغار هم طوّافون عليكم أيها الناس ، ويعني بالطوّافين : أنهم يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم في منازلهم غدوة وعشية بغير إذن يطوفون عليهم ، بعضكم على بعض في غير الأوقات الثلاث التي أمرهم أن لا يدخلوا على ساداتهم وأقربائهم فيها إلا بإذن( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ) يقول جلّ ثناؤه : كما بينت لكم أيها الناس أحكام الاستئذان في هذه الآية ، كذلك يبين الله لكم جميع أعلامه وأدلته وشرائع دينه( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) يقول : والله ذو علم بما يصلح عباده ، حكيم في تدبيره إياهم ، وغير ذلك من أموره.

(19/214)


وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ

(19/214)


عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) }
يقول تعالى ذكره : إذا بلغ الصغار من أولادكم وأقربائكم ، ويعني بقوله : ( منكم ) من أحراركم( الحلم ) يعني الاحتلام ، واحتلموا( فليستأذنوا ) يقول : فلا يدخلوا عليكم فى وقت من الأوقات إلا بإذن ، لا في أوقات العورات الثلاث ولا في غيرها. وقوله : ( كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول : كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقربائه الأحرار ، وخصّ الله تعالى ذكره في هذه الآية الأطفال بالذكر ، وتعريف حكمهم عباده في الاستئذان دون ذكر ما ملكت أيماننا ، وقد تقدّمت الآية التي قبلها بتعريفهم حكم الأطفال الأحرار والمماليك; لأن حكم ما ملكت أيمانكم في ذلك حكم واحد ، سواء فيه حكم كبارهم وصغارهم في أن الإذن عليهم في الساعات الثلاث التي ذكرها الله في الآية التي قبل.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : أما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله ، يعني من الصبيان الأحرار إلا بإذن على كل حال ، وهو قوله : ( وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال عطاء : ( وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ) قال : واجب على الناس أجمعين أن يستأذنوا إذا احتلموا على من كان من الناس.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، قال : يستأذن الرجل على أمه ؟ قال : إنما أنزلت( وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) فِي ذَلِكَ(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ) يقول : هكذا يبين الله لكم آياته ، أحكامه وشرائع دينه ، كما بين لكم أمر هؤلاء الأطفال في الاستئذان بعد البلوغ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) يقول : والله عليم بما يصلح خلقه وغير ذلك من الأشياء ، حكيم في تدبيره خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ

(19/215)


وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) }
يقول تعالى ذكره : واللواتي قد قعدن عن الولد من الكبر من النساء ، فلا يحضن ولا يلدن ، واحدتهنّ قاعد( اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا ) يقول : اللاتي قد يئسن من البعولة ، فلا يطمعن في الأزواج( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) يقول : فليس عليهنّ حرج ولا إثم أن يضعن ثيابهنّ ، يعني جلابيبهنّ ، وهي القناع الذي يكون فوق الخمار ، والرداء الذي يكون فوق الثياب ، لا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال ، وغير المحارم من الغرباء غير متبرجات بزينة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا ) وهي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار ، وتضع عنها الجلباب ما لم تتبرّج لما يكره الله وهو قوله : ( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ثُمَّ قَالَ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ).
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) يعني الجلباب ، وهو القناع ، وهذا للكبيرة التي قد قعدت عن الولد ، فلا يضرّها أن لا تجلبب فوق الخمار. وأما كلّ امرأة مسلمة حرّة ، فعليها إذا بلغت المحيض أن تدني الجلباب على الخمار ، وقال الله في سورة الأحزاب( يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) وكان بالمدينة رجال من المنافقين إذا مرت بهم امرأة سيئة الهيئة والزيّ ، حسب المنافقون أنها مزنية وأنها من بغيتهم ، فكانوا يؤذون المؤمنات بالرفث ولا يعلمون الحرّة من الأمة ، فأنزل الله في ذلك( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) يقول : إذا كان زيهنّ حسنا لم يطمع فيهن المنافقون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، في قوله : ( وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ ) التي قعدت من الولد وكبرت. قال ابن جُرَيج : قال مجاهد : ( اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا ) قال : لا يُردنه( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) قال : جلابيبهنّ.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالْقَوَاعِدُ مِنَ

(19/216)


النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) قال : وضع الخمار ، قال : التي لا ترجو نكاحا ، التي قد بلغت أن لا يكون لها في الرجال حاجة. ولا للرجال فيها حاجة ، فإذا بلغن ذلك وضعن الخمار. غير متبرّجات بزينة ، ثم قال : ( وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ) كان أبي يقول هذا كله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن ذرّ ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، في قوله : ( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) قال : الجلباب أو الرداء ، شكّ سفيان.
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) قال : الرداء.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : قال عبد الله في هذه الآية( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) قال : هي الملحفة.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سمعت أبا وائل قال : سمعت عبد الله يقول في هذه الآية( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) قال : الجلباب.
حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، قال : أخبرني الحكم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن ابن مسعود ، في قوله : ( أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) قال : هو الرداء.
قال الحسن ، قال : عبد الرزاق ، قال الثوري : وأخبرني أبو حصين وسالم الأفطس ، عن سعيد بن جُبير ، قال : هو الرداء.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي( أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) قال : تضع الجلباب المرأة التي قد عجزت ولم تزوّج. قال الشعبيّ : فإن أُبيّ بن كعب يقرأ " أنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنَّ " .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : قلت لابن أبي نجيح ، قوله : ( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) قال : الجلباب ، قال يعقوب :

(19/217)


لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

قال أبو يونس : قلت له : عن مجاهد ؟ قال : نعم ، في الدار والحجرة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ) قال : جلابيبهنَّ.
وقوله : ( غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) يقول : ليس عليهنّ جناح في وضع أرديتهنّ إذا لم يردن بوضع ذلك عنهنّ أن يبدين ما عليهنّ من الزينة للرجال. والتبرّج : هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تستره.
وقوله : ( وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ) يقول : وإن تعففن عن وضع جلابيبهنّ وأرديتهنّ ، فيلبسنها خير لهنّ من أن يضعنها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ) قال : أن يلبسن جلابيبهنّ.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ( وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ) قال : ترك ذلك ، يعني : ترك وضع الثياب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ) والاستعفاف : لبس الخمار على رأسها ، كان أبي يقول هذا كله( وَاللَّهُ سَمِيعٌ ) ما تنطقون بألسنتكم( عليم ) بما تضمره صدوركم ، فاتقوه أن تنطقوا بألسنتكم ما قد نهاكم عن أن تنطقوا بها ، أو تضمروا في صدوركم ما قد كرهه لكم ، فتستوجبوا بذلك منه عقوبة.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ

(19/218)


أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في هذه الآية في المعنى الذي أنزلت فيه ، فقال بعضهم : أنزلت هذه الآية ترخيصا للمسلمين في الأكل مع العميان والعرجان والمرضى وأهل الزمانة من طعامهم ، من أجل أنهم كانوا قد امتنعوا من أن يأكلوا معهم من طعامهم ، خشية أن يكونوا قد أتوا بأكلهم معهم من طعامهم شيئًا مما نهاهم الله عنه بقوله : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا ) من بيوتكم ... إلى قوله : ( أَوْ أَشْتَاتًا ) وذلك لما أنزل الله( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) فقال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام من أفضل الأموال ، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فكفّ الناس عن ذلك ، فأنزل الله بعد ذلك( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ ) ... إلى قوله : ( أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ).
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ ) ... الآية ، كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض ، فقال بعضهم : إنما كان بهم التقذّر والتقزّز. وقال بعضهم : المريض لا يستوفي الطعام ، كما يستوفي الصحيح والأعرج المنحبس ، لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والأعمى لا يبصر طيب الطعام ، فأنزل الله( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) حرج في مؤاكلة المريض والأعمى والأعرج ، فمعنى الكلام على تأويل هؤلاء : ليس عليكم أيها الناس في الأعمى حرج أن تأكلوا منه ومعه ، ولا في الأعرج حرج ، ولا في المريض حرج ، ولا في أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ، فوجّهوا معنى " على " في هذا الموضع إلى معنى " في " .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية ترخيصا لأهل الزمانة في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية ، لأن قوما كانوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن

(19/219)


عندهم في بيوتهم ما يطعمونهم ، ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم ، أو بعض من سمّى الله في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة يتخوّفون من أن يطعموا ذلك الطعام ، لأنه أطعمهم غير ملكه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ ) قال : كان رجال زمنى. قال ابن عمرو في حديثه : عميان وعرجان. وقال الحارث : عمي عرج أولوا حاجة ، يستتبعهم رجال إلى بيوتهم ، فإن لم يجدوا طعاما ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم ، ومن عدّد منهم من البيوت ، فكره ذلك المستتبعون ، فأنزل الله في ذلك( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ) وأحلّ لهم الطعام حيث وجدوه.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان الرجل يذهب بالأعمى والمريض والأعرج إلى بيت أبيه ، أو إلى بيت أخيه ، أو عمه ، أو خاله ، أو خالته ، فكان الزمني يتحرّجون من ذلك ، يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم ، فنزلت هذه الآية رخصة لهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، نحو حديث ابن عمرو ، عن أبي عاصم.
وقال آخرون : بل نزلت ترخيصا لأهل الزمانة الذين وصفهم الله في هذه الآية أن يأكلوا من بيوت من خلَّفهم في بيوته من الغزاة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، قال : قلت للزهري ، في قوله : ( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ ) ما بال الأعمى ذكر هاهنا ، والأعرج والمريض ؟ فقال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم ، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ، يقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، وكانوا يتحرّجون من ذلك ، يقولون : لا ندخلها وهم غُيَّب ، فأنزلت هذه الآية رخصة لهم.
وقال آخرون : بل عنى بقوله : ( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) في التخلف عن الجهاد في سبيل الله ، قالوا : وقوله : ( وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) كلام منقطع عما قبله.

(19/220)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) قال : هذا في الجهاد في سبيل الله ، وفي قوله : ( وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) ... إلى قوله : ( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) قال : هذا شيء قد انقطع ، إنما كان هذا في الأوّل ، لم يكن لهم أبواب ، وكانت الستور مرخاة ، فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد ، فربما وجد الطعام وهو جائع ، فسوّغه الله أن يأكله. قال : وقد ذهب ذلك اليوم ، البيوت اليوم فيها أهلها ، وإذا خرجوا أغلقوها ، فقد ذهب ذلك.
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية ترخيصا للمسلمين الذين كانوا يتقون مؤاكلة أهل الزمانة في مؤاكلتهم إذا شاءوا ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن مِقْسم ، في قوله : ( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ ) قال : كانوا يتقون أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج ، فنزلت( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ).
واختلفوا أيضا في معنى قوله : ( أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ) فقال بعضهم : عني بذلك : وكيل الرجل وقيمه ، أنه لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ، ونحو ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ) وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته ، فرخص الله له أن يأكل من ذلك الطعام والتمر ويشرب اللبن.
وقال آخرون : بل عُني بذلك : منزل الرجل نفسه أنه لا بأس عليه أن يأكل.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ) يعني : بيت أحدهم ، فإنه يملكه ، والعبيد منهم مما ملكوا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : ( أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ) مما تحبون يا ابن آدم.

(19/221)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : ( أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ) قال : خزائن لأنفسهم ، ليست لغيرهم.
وأشبه الأقوال التي ذكرنا في تأويل قوله : ( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ ) ... إلى قوله : ( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) القول الذي ذكرنا عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، وذلك أن أظهر معاني قوله : ( لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ ) أنه لا حرج على هؤلاء الذين سموا في هذه الآية أن يأكلوا من بيوت من ذكره الله فيها ، على ما أباح لهم من الأكل منها ؛ فإذ كان ذلك أظهر معانيه فتوجيه معناه إلى الأغلب الأعرف من معانيه أولى من توجيهه إلى الأنكر منها. فإذ كان ذلك كذلك ؛ كان ما خالف من التأويل قول من قال : معناه : ليس في الأعمى والأعرج حرج أولى بالصواب. وكذلك أيضا الأغلب من تأويل قوله : ( وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) أنه بمعنى : ولا عليكم أيها الناس ، ثم جمع هؤلاء والزَّمنَى الذين ذكرهم قبل في الخطاب ، فقال : أن تأكلوا من بيوت أنفسكم ، وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بين خبر الغائب والمخاطب غلبت المخاطب ، فقالت : أنت وأخوك قمتما ، وأنت وزيد جلستما ، ولا تقول : أنت وأخوك جلسا ، وكذلك قوله : ( وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) والخبر عن الأعمى والأعرج والمريض غلب المخاطب ، فقال : أن تأكلوا ، ولم يقل : أن يأكلوا.
فإن قال قائل : فهذا الأكل من بيوتهم قد علمناه ، كان لهم حلالا إذ كان ملكا لهم ، أو كان أيضا حلالا لهم الأكل من مال غيرهم. قيل له : ليس الأمر في ذلك على ما توهمت ، ولكنه كما ذكرناه عن عبيد الله بن عبد الله ، أنهم كانوا إذا غابوا في مغازيهم ، وتخلف أهل الزمانة منهم ، دفع الغازي مفتاح مسكنه إلى المتخلف منهم ، فأطلق له في الأكل مما يخلف في منزله من الطعام ، فكان المتخلفون يتخوّفون الأكل من ذلك وربه غائب ، فأعلمه الله أنه لا حرج عليه في الأكل منه ، وأذن لهم في أكله فإذ كان ذلك كذلك تبين أن لا معنى لقول من قال : إنما أنزلت هذه الآية من أجل كراهة المستتبع أكل طعام غير المستتبع ، لأن ذلك لو كان كما قال من قال ذلك ، لقيل : ليس عليكم حرج أن تأكلوا من طعام غير من أضافكم ، أو من طعام آباء من دعاكم ، ولم يقل : أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم ، وكذلك لا وجه لقول من قال : معنى ذلك : ليس على الأعمى حرج في التخلف عن الجهاد في سبيل الله ، لأن قوله : ( أَنْ تَأْكُلُوا ) خبر ليس ، وأن في موضع نصب على أنها خبر لها ، فهي متعلقة

(19/222)


بليس ، فمعلوم بذلك أن معنى الكلام : ليس على الأعمى حرج أن يأكل من بيته ، لا ما قاله الذين ذكرنا من أنه لا حرج عليه في التخلف عن الجهاد ؛ فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا ، تبين أن معنى الكلام : لا ضيق على الأعمى ، ولا على الأعرج ، ولا على المريض ، ولا عليكم أيها الناس أن تأكلوا من بيوت أنفسكم ، أو من بيوت آبائكم ، أو من بيوت أمهاتكم ، أو من بيوت إخوانكم ، أو من بيوت أخواتكم ، أو من بيوت أعمامكم ، أو من بيوت عماتكم ، أو من بيوت أخوالكم ، أو من بيوت خالاتكم ، أو من البيوت التي ملكتم مفاتحها ، أو من بيوت صديقكم إذا أذنوا لكم في ذلك ، عند مغيبهم ومشهدهم. والمفاتح : الخزائن ، واحدها : مفتح إذا أريد به المصدر ، وإذا كان من المفاتيح التي يفتح بها فهي مفتح ومفاتح ، وهي هاهنا على التأويل الذي اخترناه جمع مِفتح الذي يفتح به.
وكان قَتادة يتأوّل في قوله : ( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) ما حدثنا به الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) فلو أكلت من بيت صديقك من غير أمره ، لم يكن بذلك بأس ، قال معمر : قلت لقتادة : أو لا أشرب من هذا الحُبّ ؟ قال : أنت لي صديق.
وأما قوله : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : كان الغنيّ من الناس يتخوّف أن يأكل مع الفقير ، فرخص لهم في الأكل معهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : ( أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ) قال : كان الغنيّ يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصديقه ، فيدعوه إلى طعامه ليأكل معه ، فيقول : والله إني لأجنح أن آكل معك ، والجنح : الحرج وأنا غنيّ وأنت فقير ، ، فأمروا أن يأكلوا جميعا أو أشتاتا.
وقال آخرون : بل عني بذلك حيّ من أحياء العرب ، كانوا لا يأكل أحدهم وحده ، ولا يأكل إلا مع غيره ، فأذن الله لهم أن يأكل من شاء منهم وحده ، ومن شاء منهم مع غيره.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : كانوا يأنفون ويتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده ، حتى يكون معه غيره ،

(19/223)


فرخص الله لهم ، فقال : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : كانت بنو كنانة يستحي الرجل منهم أن يأكل وحده ، حتى نزلت هذه الآية.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : كانوا لا يأكلون إلا جميعا ، ولا يأكلون متفرّقين ، وكان ذلك فيهم دينا ، فأنزل الله : ليس عليكم حرج في مؤاكلة المريض والأعمى ، وليس عليكم حرج أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ) قال : كان من العرب من لا يأكل أبدا جميعا ، ومنهم من لا يأكل إلا جميعا. فقال الله ذلك.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، قال : نزلت( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ) في حيّ من العرب كان الرجل منهم لا يأكل طعامه وحده ، كان يحمله بعض يوم حتى يجد من يأكله معه قال : وأحسب أنه ذكر أنهم من كنانة.
وقال آخرون : بل عُني بذلك قوم كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم ، فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا حفص ، عن عمران بن سليمان ، عن أبي صالح وعكرمة ، قالا كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم ، فرخص لهم ، قال الله : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ).
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله وضع الحرج عن المسلمين أن يأكلوا جميعا معا إذا شاءوا ، أو أشتاتا متفرّقين إذا أرادوا ، وجائز أن يكون ذلك نزل بسبب من كان يتخوّف من الأغنياء الأكل مع الفقير ، وجائز أن يكون نزل بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا لا يطعمون وحدانا ، وبسبب غير ذلك ، ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر ، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على حقيقة شيء منه ، والصواب التسليم لما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، والتوقف فيما لم يكن على صحته دليل.
وقوله : ( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) اختلف أهل

(19/224)


التأويل في ذلك. فقال بعضهم : معناه : فإذا دخلتم أيها الناس بيوت أنفسكم ، فسلموا على أهليكم وعيالكم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري وقتادة في قوله : ( فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) قالا بيتك ، إذا دخلته فقل : سلام عليكم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) قال : سلم على أهلك ، قال ابن جريح : وسُئل عطاء بن أبي رباح : أحقّ على الرجل إذا دخل على أهله أن يسلم عليهم ؟ قال : نعم. وقالها عمرو بن دينار ، وتلوا : ( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ) قال عطاء بن أبي رباح : ذلك غير مرّة.
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني أبو الزبير ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم( تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ) قال : ما رأيته إلا يوجبه.
قال ابن جُرَيج ، وأخبرني زياد ، عن ابن طاوس أنه كان يقول : إذا دخل أحدكم بيته فليسلم.
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قلت لعطاء : إذا خرجت أواجب السلام ، هل أسلم عليهم ؟ فإنما قال : ( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا ) ؟ قال : ما أعلمه واجبا ، ولا آثِرُ عن أحد وجوبه ولكن أحبّ إليّ وما أدعه إلا ناسيا.
قال ابن جُرَيج ، وقال عمرو بن دينار : لا قال : قلت لعطاء : فإن لم يكن في البيت أحد ؟ قال : سلم ، قل : السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على أهل البيت ورحمة الله ، قلت له : قولك هذا إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد عمن تأثره ؟ قال : سمعته ولم يؤثر لي عن أحد.
قال ابن جُرَيج ، وأخبرني عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قال : السلام علينا من ربنا ، وقال عمرو بن دينار : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
حدثنا أحمد بن عبد الرحيم ، قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : ثنا صدقة ، عن زهير ، عن ابن جُرَيج ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : إذا دخلت على أهلك

(19/225)


فسلم عليهم ، تحية من عند الله مباركة طيبة. قال : ما رأيته إلا يوجبه.
حدثنا محمد بن عباد الرازي ، قال : ثنا حجاج بن محمد الأعور ، قال : قال لي ابن جُرَيج : أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول ، فذكر مثله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) يقول : سلموا على أهاليكم إذا دخلتم بيوتكم ، وعلى غير أهاليكم ، فسلموا إذا دخلتم بيوتهم.
وقال آخرون : بل معناه : فإذا دخلتم المساجد فسلموا على أهلها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك عن معمر ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) قال : هي المساجد ، يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، في قوله : ( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) قال : إذا دخلت المسجد فقل : السلام على رسول الله ، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وإذا دخلت بيتك فقل : السلام عليكم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين فيها ناس منكم ، فليسلم بعضكم على بعض.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : ( فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) أي : ليسلم بعضكم على بعض ، كقوله : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، فى قوله : ( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) قال : إذا دخل المسلِّمُ سُلِّم عليه ، كمثل قوله : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) إنما هو : لا تقتل أخاك المسلم.
وقوله : ( ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ) قال : يقتل بعضكم بعضا ، قريظة والنضير.
وقال آخرون : معناه : فإذا دخلتم بيوتا ليس فيها أحد ، فسلموا على أنفسكم.

(19/226)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك ، قال : إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وإذا دخلت بيتا فيه ناس من المسلمين وغير المسلمين ، فقل مثل ذلك.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي سنان ، عن ماهان ، قال : إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ، قال : تقولوا : السلام علينا من ربنا.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرنا شعبة عن منصور ، قال شعبة : وسألته عن هذه الآية : ( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) قال : قال إبراهيم : إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشجّ عن نافع أن عبد الله كان إذا دخل بيتا ليس فيه أحد ، قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، قال : ثنا منصور ، عن إبراهيم : ( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) قال : إذا دخلت بيتا فيه يهود ، فقل : السلام عليكم ، وإن لم يكن فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال معناه : فإذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين ، فليسلم بعضكم على بعض.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن الله جلّ ثناؤه قال : ( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا ) ولم يخصصْ من ذلك بيتا دون بيت ، وقال : ( فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) يعني : بعضكم على بعض ، فكان معلوما إذ لم يخصص ذلك على بعض البيوت دون بعض ، أنه معنيّ به جميعها ، مساجدها وغير مساجدها.ومعنى قوله : ( فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) نظير قوله : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) . وقوله : ( تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) ونصب تحية ، بمعنى : تحيون أنفسكم تحية من عند الله السلام تحية ، فكأنه قال : فليحيّ بعضكم بعضا تحية من عند الله ، وقد كان بعض أهل العربية يقول : إنما نصبت بمعنى : أمركم بها تفعلونها تحية منه ، ووصف جلّ ثناؤه هذه التحية المباركة الطيبة لما فيها من الأجر الجزيل والثواب العظيم.
وقوله : ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ) يقول تعالى ذكره : هكذا يفصل الله لكم

(19/227)


معالم دينكم ، فيبينها لكم ، كما فصل لكم في هذه الآية ما أحلّ لكم فيها ، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) يقول : لكي تفقهوا عن الله أمره ونهيه وأدبه.

(19/228)


إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ (62) }
يقول تعالى ذكره : ما المؤمنون حقّ الإيمان ، إلا الذين صدقوا الله ورسوله( وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ ) يقول : وإذا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم( عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ ) يقول : على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت ، أو صلاة اجتمع لها ، أو تشاور في أمر نزل( لَمْ يَذْهَبُوا ) يقول : لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر ، حتى يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) يقول : إذا كان أمر طاعة لله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : قوله : ( وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ ) قال : أمر من طاعة الله عامّ.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جُرَيج ، قال : سأل مكحولا الشامي إنسان وأنا أسمع ، ومكحول جالس مع عطاء عن قول الله في هذه الآية( وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) فقال مكحول : في يوم الجمعة ، وفي زحف ، وفي كلّ أمر جامع ، قد أمر أن لا يذهب أحد في يوم جمعة حتى يستأذن الإمام ، وكذلك في كل جامع ، ألا ترى أنه يقول : ( وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ ).
حدثني يعقوب ، قال : ثني ابن علية ، قال : أخبرنا هشام بن حسان ، عن الحسن ، قال : كان الرجل إذا كانت له حاجة والإمام يخطب ، قام فأمسك بأنفه ، فأشار إليه الإمام أن

(19/228)


لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)

يخرج ، قال : فكان رجل قد أراد الرجوع إلى أهله ، فقام إلى هرم بن حيان وهو يخطب ، فأخذ بأنفه ، فأشار إليه هرم أن يذهب ، فخرج إلى أهله فأقام فيهم ، ثم قدم ، قال له هرم : أين كنت ؟ قال : في أهلي ؟ قال : أبإذن ذهبت ؟ قال : نعم ، قمت إليك وأنت تخطب فأخذتُ بأنفي ، فأشرتَ إليّ أن اذهب فذهبت ، فقال : أفاتخذت هذا دغلا ؟ أو كلمة نحوها ، ثم قال : اللهمّ أخر رجال السوء إلى زمان السوء.
حدثني الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، في قوله : ( وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ ) قال : هو الجمعة إذا كانوا معه لم يذهبوا حتى يستأذنوه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) قال : الأمر الجامع حين يكونوا معه في جماعة الحرب أو جمعة ، قال : والجمعة من الأمر الجامع لا ينبغي لأحد أن يخرج إذا قعد الإمام على المنبر يوم الجمعة إلا بإذن سلطان ، إذا كان حيث يراه أو يقدر عليه ، ولا يخرج إلا بإذن ، وإذا كان حيث لا يراه ولا يقدر عليه ، ولا يصل إليه ، فالله أولى بالعذر.
وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) يقول تعالى ذكره : إن الذين لا ينصرفون يا محمد إذا كانوا معك في أمر جامع عنك إلا بإذنك لهم طاعة منهم لله ولك ، وتصديقا بما أتيتهم به من عندي ، أولئك الذين يصدقون الله ورسوله حقا ، لا من يخالف أمر الله وأمر رسوله ، فينصرف عنك بغير إذن منك له ، بعد تقدّمك إليه أن لا ينصرف عنك إلا بإذنك.وقوله : ( فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ) يقول تعالى ذكره : فإذا استأذنك يا محمد الذين لا يذهبون عنك إلا بإذنك في هذه المواطن لبعض شأنهم ، يعني : لبعض حاجاتهم التي تعرض لهم ، فأذن لمن شئت منهم في الانصراف عنك لقضائها( وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) يقول : وادع الله لهم بأن يتفضل عليهم بالعفو عن تبعات ما بينه وبينهم( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ) لذنوب عباده التائبين ، ( رحيم ) بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ

(19/229)


يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) }
يقول تعالى ذكره لأصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( لا تَجْعَلُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ).
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : نهى الله بهذه الآية المؤمنين أن يتعرضوا لدعاء الرسول عليهم ، وقال لهم : اتقوا دعاءه عليكم ، بأن تفعلوا ما يسخطه ، فيدعو لذلك عليكم فتهلكوا ، فلا تجعلوا دعاءه كدعاء غيره من الناس ، فإن دعاءه موجبة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ) دعوة الرسول عليكم موجبة ، فاحذروها.
وقال آخرون : بل ذلك نهي من الله أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلظ وجفاء ، وأمر لهم أن يدعوه بلين وتواضع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ) قال : أمرهم أن يدعوا : يا رسول الله ، في لين وتواضع ، ولا يقولوا : يا محمد ، في تجهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد مثله ، ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ) قال : أمرهم أن يدعوه : يا رسول الله ، في لين وتواضع.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ) قال : أمرهم أن يفخِّموه ويشرّفوه.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي التأويل الذي قاله ابن عباس ، وذلك أن الذي قبل قوله : ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ) نهي من الله المؤمنين أن يأتوا من الانصراف عنه في الأمر الذي يجمع جميعهم ما يكرهه ، والذي بعده وعيد للمنصرفين بغير إذنه عنه ، فالذي بينهما بأن يكون تحذيرا لهم سخطه أن يضطّره إلى الدعاء عليهم أشبه من أن يكون أمرا لهم بما لم يجر له ذكر من تعظيمه وتوقيره بالقول والدعاء.

(19/230)


أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

وقوله : ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا ) يقول تعالى ذكره : إنكم أيها المنصرفون عن نبيكم بغير إذنه ، تسترا وخفية منه ، وإن خفي أمر من يفعل ذلك منكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله يعلم ذلك ، ولا يخفى عليه ، فليتق من يفعل ذلك منكم ، الذين يخالفون أمر الله في الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه ، أن تصيبهم فتنة من الله ، أو يصيبهم عذاب أليم ، فيطبع على قلوبهم ، فيكفروا بالله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو بن قيس ، عن جُويبر ، عن الضحاك ، في قول الله : ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا ) قال : كانوا يستتر بعضهم ببعض ، فيقومون ، فقال : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ) قال : يطبع على قلبه ، فلا يأمن أن يظهر الكفر بلسانه فتُضرب عنقه.
حدثنا ابن القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا ) قال : خلافا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قَال ابن زيد ، في قوله : ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا ) قال : هؤلاء المنافقون الذين يرجعون بغير إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : اللواذ : يلوذ عنه ، ويروغ ويذهب بغير إذن النبيّ صلى الله عليه وسلم( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) الذين يصنعون هذا أن تصيبهم فتنة ، أو يصيبهم عذاب أليم. الفتنة هاهنا : الكفر ، واللواذ : مصدر لاوذت بفلان ملاوذة ولواذا ، ولذلك ظهرت الواو ، ولو كان مصدرا للذتُ لقيل : لياذا ، كما يقال : قمت قياما ، وإذا قيل : قاومتك ، قيل : قواما طويلا. واللواذ : هو أن يلوذ القوم بعضهم ببعض ، يستتر هذا بهذا ، وهذا بهذا ، كما قال الضحاك.
وقوله : ( أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يقول : أو يصيبهم في عاجل الدنيا عذاب من الله موجع ، على صنيعهم ذلك ، وخلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) وأدخلت " عن " ؛ لأن معنى الكلام : فليحذر الذين يلوذون عن أمره ، ويدبرون عنه معرضين.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ

(19/231)


قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) }
يقول تعالى ذكره : ألا إن لله ملك جميع السماوات والأرض : يقول : فلا ينبغي لمملوك أن يخالف أمر مالكه فيعصيه ، فيستوجب بذلك عقوبته ، يقول : فكذلك أنتم أيها الناس لا يصلح لكم خلاف ربكم الذي هو مالككم فأطيعوه ، وأتمروا لأمره ، ولا تنصرفوا عن رسوله إذا كنتم معه على أمر جامع إلا بإذنه.
وقوله : ( قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) من طاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم من ذلك ، كما حدثني أيضا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) صنيعكم هذا أيضا( وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ ) يقول : ويوم يرجع إلى الله الذين يخالفون عن أمره( فينبئهم ) يقول : فيخبرهم حينئذ ، ( بِمَا عَمِلُوا ) في الدنيا ، ثم يجازيهم على ما أسلفوا فيها ، من خلافهم على ربهم( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) يقول : والله ذو علم بكل شيء عملتموه أنتم وغيركم وغير ذلك من الأمور ، لا يخفى عليه شيء ، بل هو محيط بذلك كله ، وهو موفٍّ كلّ عامل منكم أجر عمله يوم ترجعون إليه.
آخر تفسير سورة النور.

(19/232)


تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)

تفسير سورة الفرقان
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه : { تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) }
قال أبو جعفر : تبارك : تفاعل من البركة ، كما حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثنا بشر بن عمارة ، قال : ثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : تبارك : تفاعل من البركة. وهو كقول القائل : تقدّس ربنا ، فقوله : ( تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ ) يقول : تبارك الذي نزل الفصل بين الحقّ والباطل ، فصلا بعد فصل وسورة بعد سورة ، على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ، ليكون محمد لجميع الجنّ والإنس ، الذين بعثه الله إليهم داعيا إليه ، نذيرا : يعني منذرا ينذرهم عقابه ويخوِّفهم عذابه ، إن لم يوحدوه ولم يخلصوا له العبادة ، ويخلعوا كلّ ما دونه من الآلهة والأوثان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) قال : النبيّ النذير. وقرأ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) وقرأ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ ) قال : رسل. قال : المنذرون : الرسل. قال : وكان نذيرا واحدا بلَّغ ما بين المشرق والمغرب ، ذو القرنين ، ثم بلغ السدّين ، وكان نذيرا ، ولم أسمع أحدا يحق أنه كان نبيا( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) قال : من بلغه القرآن من الخلق ، فرسول الله نذيره. وقرأ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) وقال : لم يرسل الله رسولا إلى الناس عامة إلا نوحا ، بدأ به الخلق ، فكان رسول أهل الأرض كلهم ، ومحمد

(19/233)


الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)

صلى الله عليه وسلم ختم به.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) }
يقول تعالى ذكره : تبارك الذي نزل الفرقان( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) فالذي الثانية من نعت الذي الأولى ، وهما جميعا في موضع رفع ، الأولى بقوله تبارك ، والثانية نعت لها ويعني بقوله : ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) الذي له سلطان السماوات والأرض ينفذ في جميعها أمره وقضاءه ، ويمضي في كلها أحكامه ، يقول : فحقّ على من كان كذلك أن يطيعه أهل مملكته ، ومن في سلطانه ، ولا يعصوه ، يقول : فلا تعصوا نذيري إليكم أيها الناس ، واتبعوه ، واعملوا بما جاءكم به من الحق( وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ) يقول : تكذيبا لمن أضاف إليه الولد ، وقال : الملائكة بنات الله ، ما اتخذ الذي نزل الفرقان على عبده ولدا ، فمن أضاف إليه ولدا فقد كذب وافترى على ربه( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) يقول تكذيبا لمن كان يضيف الألوهة إلى الأصنام ويعبدها من دون الله من مشركي العرب ، ويقول في تلبيته : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، كذب قائلو هذا القول ، ما كان لله من شريك في مُلكه وسلطانه ، فيصلح أن يعبد من دونه. يقول تعالى ذكره : فأفردوا أيها الناس لربكم الذي نزل الفرقان على عبده محمد نبيه صلى الله عليه وسلم الألوهة ، وأخلصوا له العبادة دون كلّ ما تعبدونه من دونه من الآلهة والأصنام والملائكة والجنّ والإنس ، فإن كلّ ذلك خلقه وفي ملكه ، فلا تصلح العبادة إلا لله الذي هو مالك جميع ذلك ، وقوله : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) يقول تعالى ذكره : وخلق الذي نزل على محمد الفرقان كل شيء ، فالأشياء كلها خلقه وملكه ، وعلى المماليك طاعة مالكهم ، وخدمة سيدهم دون غيره. يقول : وأنا خالقكم ومالككم ، فأخلصوا لي العبادة دون غيري ، وقوله : ( فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) يقول : فسوّى كل ما خلق ، وهيأه لما يصلح له ، فلا خلل فيه ولا تفاوت.

(19/236)


وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا (3) }

(19/236)


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)

يقول تعالى ذكره مقرعا مشركي العرب بعبادتهم ما دونه من الآلهة ، ومعجبا أولي النهى منهم ، ومنبههم على موضع خطأ فعلهم وذهابهم عن منهج الحقّ ، وركوبهم من سبل الضلالة ما لا يركبه إلا كل مدخول الرأي ، مسلوب العقل : واتخذ هؤلاء المشركون بالله من دون الذي له مُلك السماوات والأرض وحده. من غير شريك ، الذي خلق كل شيء فقدّره ، آلهة : يعني أصناما بأيديهم يعبدونها ، لا تخلق شيئا وهي تخلق ، ولا تملك لأنفسها نفعا تجرّه إليها ، ولا ضرّا تدفعه عنها ممن أرادها بضرّ ، ولا تملك إماتة حيّ ، ولا إحياء ميت ، ولا نشره من بعد مماته ، وتركوا عبادة خالق كلّ شيء ، وخالق آلهتهم ، ومالك الضرّ والنفع ، والذي بيده الموت والحياة والنشور. والنشور : مصدر نُشر الميت نشورا ، وهو أن يُبعث ويحيا بعد الموت.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) }
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء الكافرون بالله ، الذين اتخذوا من دونه آلهة : ما هذا القرآن الذي جاءنا به محمد( إِلا إِفْكٌ ) يعني : إلا كذب وبهتان( افْتَرَاهُ ) اختلقه وتخرّصه بقوله : ( وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) ذكر أنهم كانوا يقولون : إنما يعلِّم محمدا هذا الذي يجيئنا به اليهود ، فذلك قوله : ( وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) يقول : وأعان محمدا على هذا الإفك الذي افتراه يهود.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) قال : يهود.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
وقوله : ( فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ) يقول تعالى ذكره : فقد أتى قائلو هذه المقالة ، يعني الذين قالوا : ( إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) ظلما ، يعني بالظلم نسبتهم كلام الله وتنزيله إلى أنه إفك افتراه محمد صلى الله عليه وسلم. وقد بيَّنا فيما مضى

(19/237)


وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)

أن معنى الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، فكان ظلم قائلي هذه المقالة القرآن بقيلهم هذا وصفهم إياه بغير صفته ، والزور : أصله تحسين الباطل. فتأويل الكلام : فقد أتى هؤلاء ، القوم في قيلهم( إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) كذبا محضا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وحدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ) قال : كذبًا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا (5) قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) }
ذكر أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث ، وأنه المعني بقوله : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يونس بن بكير ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثنا شيخ من أهل مصر ، قدم منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ من شياطين قريش ، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة ، تعلَّم بها أحاديث ملوك فارس ، وأحاديث رستم وأسفنديار ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا ، فذكّر بالله وحدّث قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم ، من نقمة الله خلفه في مجلسه إذا قام ، ثم يقول : أنا والله يا معشر قُريش أحسن حديثا منه. فهلموا فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار ، ثم يقول : ما محمد أحسن حديثا مني ، قال : فأنزل الله تبارك وتعالى في النضر ثماني آيات من القرآن ، قوله : ( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) وكل ما ذُكِر فيه الأساطير في القرآن.

(19/238)


وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس نحوه ، إلا أنه جعل قوله : " فأنزل الله في النضر ثماني آيات " ، عن ابن إسحاق ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) أشعارهم وكهانتهم ، وقالها النضر بن الحارث.
فتأويل الكلام : وقال هؤلاء المشركون بالله ، الذين قالوا لهذا القرآن(إن هذا إلا إفك افتراه) محمد صلى الله عليه وسلم : هذا الذي جاءنا به محمد أساطير الأوّلين ، يعنون أحاديثهم التي كانوا يسطرونها في كتبهم ، اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم من يهود ، ( فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ ) يعنون بقوله : ( فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ ) فهذه الأساطير تقرأ عليه ، من قولهم : أمليت عليك الكتاب وأمللت( بُكْرَةً وَأَصِيلا ) يقول : وتملى عليه غدوة وعشيا.
وقوله : ( قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المكذّبين بآيات الله من مشركي قومك : ما الأمر كما تقولون من أن هذا القرآن أساطير الأولين ، وأن محمد صلى الله عليه وسلم افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ، بل هو الحقّ ، أنزله الربّ الذي يعلم سرّ من في السماوات ومن في الأرض ، ولا يخفى عليه شيء ، ومحصي ذلك على خلقه ، ومجازيهم بما عزمت عليه قلوبهم ، وأضمروه في نفوسهم( إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ) يقول : إنه لم يزل يصفح عن خلقه ويرحمهم ، فيتفضل عليهم بعفوه ، يقول : فلأن ذلك من عادته في خلقه ، يمهلكم أيها القائلون ما قلتم من الإفك ، والفاعلون ما فعلتم من الكفر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال : ما يسرّ أهل الأرض وأهل السماء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا

(19/239)


أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)

مَسْحُورًا (8) }
ذُكر أن هاتين الآيتين نزلتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان مشركو قومه قالوا له ليلة اجتماع أشرافهم بظهر الكعبة ، وعرضوا عليه أشياء ، وسألوه الآيات.
فكان فيما كلموه به حينئذ ، فيما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جُبير ، أو عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس أن قالوا له : فإن لم تفعل لنا هذا - يعني ما سألوه من تسيير جبالهم عنهم ، وإحياء آبائهم ، والمجيء بالله والملائكة قبيلا وما ذكره الله في سورة بني إسرائيل ، فخذ لنفسك ، سل ربك يبعث معك ملَكا يصدّقك بما تقول ، ويراجعنا عنك ، وسله فيجعل لك قصورا وجنانا ، وكنوزا من ذهب وفضة ، تغنيك عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعلم فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنا بفاعل ، فأنزل الله في قولهم : أن خذ لنفسك ما سألوه ، أن يأخذ لها ، أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا ، أو يبعث معه ملَكا يصدّقه بما يقول ، ويردّ عنه من خاصمه.( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا ).
فتأويل الكلام : وقال المشركون ما لهذا الرسول يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم ، الذي يزعم أن الله بعثه إلينا يأكل الطعام كما نأكل ، ويمشي في أسواقنا كما نمشي( لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ ) يقول : هلا أنزل إليه ملَك إن كان صادقا من السماء ، فيكون معه منذرا للناس ، مصدّقا له على ما يقول ، أو يلقى إليه كنز من فضة أو ذهب ، فلا يحتاج معه إلى التصرّف في طلب المعاش( أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ ) يقول : أو يكون له بستان( يَأْكُلُ مِنْهَا ).
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين( يَأْكُلُ ) بالياء ، بمعنى : يأكل منها الرسول. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين( نَأْكُلُ مِنْهَا ) بالنون ، بمعنى : نأكل من الجنة.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بالياء ، وذلك للخبر الذي ذكرنا قبل بأن مسألة من سأل من المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يسأل ربه هذه الخلال لنفسه لا لهم. فإذ كانت مسألتهم إياه ذلك كذلك ، فغير جائز أن يقولوا له :

(19/240)


انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)

سل لنفسك ذلك لنأكل نحن.
وبعدُ ، فإن في قوله تعالى ذكره : ( تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) دليلا بيِّنا على أنهم إنما قالوا له : اطلب ذلك لنفسك ، لتأكل أنت منه ، لا نحن.
وقوله : ( وَقَالَ الظَّالِمُونَ ) يقول : وقال المشركون للمؤمنين بالله ورسوله : ( إِنْ تَتَّبِعُونَ ) أيها القوم باتباعكم محمدا( إِلا رَجُلا ) به سحر.
القول في تأويل قوله تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : انظر يا محمد إلى هؤلاء المشركين الذين شبهوا لك الأشباه بقولهم لك : هو مسحور ، فضلوا بذلك عن قصد السبيل ، وأخطؤوا طريق الهدى والرشاد ، فلا يستطيعون يقول : فلا يجدون سبيلا إلى الحقّ ، إلا فيما بعثتك به ، ومن الوجه الذي ضلوا عنه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبى محمد ، عن سعيد بن جُبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا ) أي التمسوا الهدى في غير ما بعثتك به إليهم فضلوا ، فلن يستطيعوا أن يصيبوا الهدى في غيره.
وقال آخرون في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا ) قال : مخرجا يخرجهم من الأمثال التي ضربوا لك.
وقوله : ( تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) يقول تعالى ذكره : تقدس الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك.
واختلف أهل التأويل في المعني ب : " ذلك " التي في قوله : ( جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ ) فقال

(19/241)


بعضهم : معنى ذلك : خيرا مما قال هؤلاء المشركون لك يا محمد : هلا أوتيته وأنت لله رسول ، ثم بين تعالى ذكره عن الذي لو شاء جعل له من خير مما قالوا ، فقال : ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ).
* ذكر من قال ذلك.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ ) خيرا مما قالوا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ ) قال : مما قالوا وتمنوا لك ، فيجعل لك مكان ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار.
وقال آخرون : عني بذلك المشي في الأسواق ، والتماس المعاش.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، فيما يرى الطبري ، عن سعيد بن جُبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : ثم قال : ( تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ ) من أن تمشي في الأسواق ، وتلتمس المعاش كما يلتمسه الناس ، ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ).
قال أبو جعفر : والقول الذي ذكرناه عن مجاهد في ذلك أشبه بتأويل الآية ، لأن المشركين إنما استعظموا أن لا تكون له جنة يأكل منها ، وأن لا يلقى إليه كنز واستنكروا أن يمشي في الأسواق ، وهو لله رسول ، فالذي هو أولى بوعد الله إياه أن يكون وعدا بما هو خير مما كان عند المشركين عظيما ، لا مما كان منكرا عندهم ، وعني بقوله : ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) بساتين تجري في أصول أشجارها الأنهار.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) قال : حوائط.
وقوله : ( وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ) يعني بالقصور : البيوت المبنية.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/242)


بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)

* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : قال أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ) قال : بيوتا مبنية مشيدة ، كان ذلك في الدنيا ، قال : كانت قريش ترى البيت من الحجارة قصرا كائنا ما كان.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ) مشيدة في الدنيا ، كل هذا قالته قريش. وكانت قريش ترى البيت من حجارة ما كان صغيرا (1) قصرا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن حبيب قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن نعطيك من خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك ، ولا يعطى من بعدك ، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله تعالى ، فقال : " اجمعوها لي في الآخرة " ، فأنزل الله في ذلك( تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) }
__________
(1) الظاهر أنه سقط من قلم الناسخ " أو كبيرًا " كما يفيده ما قبله . والذي في ابن كثير " صغيرًا كان أو كبيرًا "

(19/243)


إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) }
يقول تعالى ذكره : ما كذب هؤلاء المشركون بالله ، وأنكروا ما جئتهم به يا محمد من الحق من أجل أنك تأكل الطعام ، وتمشي في الأسواق ، ولكن من أجل أنهم لا يوقنون بالمعاد ، ولا يصدقون بالثواب والعقاب تكذيبا منهم بالقيامة ، وبعث الله الأموات أحياء لحشر القيامة.
( واعتدنا ) يقول : وأعددنا لمن كذب ببعث الله الأموات أحياء بعد فنائهم لقيام الساعة ، نارا تسعر عليهم وتتقد( إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) ، يقول : إذا رأت هذه النار التي اعتدناها لهؤلاء المكذبين أشخاصهم من مكان بعيد ، تغيظت عليهم ، وذلك أن تغلي وتفور ، يقال : فلان تغيظ على فلان ، وذلك إذ غضب عليه ، فغلى صدره من الغضب عليه ،

(19/243)


وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)

وتبين في كلامه ، (وَزَفِيرًا) ، وهو صوتها.
فإن قال قائل : وكيف قيل( سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا ) والتغيظ : لا يسمع ، قيل معنى ذلك : سمعوا لها صوت التغيظ من التلهب والتوقد.
حدثني محمود بن خداش ، قال : ثنا محمد بن يزيد الواسطي ، قال : ثنا أصبع بن زيد الوَرَّاقُ ، عن خالد بن كثير ، عن فديك ، عن رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ يَقُولُ عَليَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ مَقْعَدًا " قالوا : يا رسول الله ، وهل لها من عين ؟ قال : " أَلَمْ تَسْمَعُوا إلى قَوْلِ اللهِ( إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) " ... الآية.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر في قوله : ( سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) قال : أخبرني المنصور بن المعتمر ، عن مجاهد ، عن عبيد بن عمير ، قال : إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك ولا نبي إلا خر ترعد فرائضه حتى إن إبراهيم ليجثو على ركبتيه ، فيقول : يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي!.
حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : إن الرجل ليجر إلي النار ، فتنزوي ، وينقبض بعضها إلى بعض ، فيقول لها الرحمن : ما لك ؟ فتقول : إنه ليستجير مني! فيقول : أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجر إلى النار ، فيقول : يا رب ما كان هذا الظن بك ؟ فيقول : ما كان ظنك ؟ فيقول : أن تسعني رحمتك ، قال : فيقول أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجرُّ إلى النار ، فتشهق إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير ، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) }
يقول تعالى ذكره : وإذا ألقي هؤلاء المكذّبون بالساعة من النار مكانا ضيقا ، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال( دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ).
واختلف أهل التأويل في معنى الثبور ، فقال بعضهم : هو الويل.

(19/244)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس. في قوله : ( وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ) يقول : ويلا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا ) يقول : لا تدعوا اليوم ويلا واحدا ، وادعوا ويلا كثيرا.
وقال آخرون : الثبور الهلاك.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا ) الثبور : الهلاك.
قال أبو جعفر : والثبور في كلام العرب : أصله انصراف الرجل عن الشيء ، يقال منه : ما ثبرك عن هذا الأمر : أي ما صرفك عنه ، وهو في هذا الموضع دعاء هؤلاء القوم بالندم على انصرافهم عن طاعة الله في الدنيا ، والإيمان بما جاءهم به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى استوجبوا العقوبة منه ، كما يقول القائل : وا ندامتاه ، وا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله : وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول في قوله : ( دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ) أي هلكة ، ويقول : هو مصدر من ثبر الرجل : أي أهلك ، ويستشهد لقيله في ذلك ببيت ابن الزّبَعْرى :
إذ أُجاري الشَّيطَان في سَنَن الغ... يّ ومن مَال مَيْلَهُ مَثْبُورا (1)
وقوله : ( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ) أيها المشركون ندمًا واحدًا : أي مرة واحدة ، ولكن ادعوا ذلك كثيرا. وإنما قيل : ( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا ) لأن الثبور مصدر ؛ والمصادر لا تجمع ، وإنما توصف بامتداد وقتها وكثرتها ، كما يقال : قعد قعودا طويلا وأكل أكلا كثيرا.
حدثنا محمد بن مرزوق ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا حماد قال : ثنا عليّ بن زيد ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أوَّلُ مَنْ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ النَّار إِبْلِيسُ ،
__________
(1) البيت لعبد الله بن الزبعرى شاعر قريش الذي كان يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثم خرج إليه وأسلم بعد فتح مكة ، وقال حين أسلم شعرًا ، منه هذا البيت من مقطوعة أربعة أبيات أنشدها ابن إسحاق في السيرة (طبعة الحلبي 4 : 61) ومعنى أجاري : أباري وأعارض . والسنن بالتحريك : وسط الطريق . ومثبور : هالك . والشاهد فيه عند المؤلف أن الثبور معناه الهلاك والمثبور : الهالك

(19/245)


قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)

فَيَضَعُها عَلى حاجبَيْه ، ويَسْحَبُها مِنْ خَلْفِهِ ، وَذُرَّيَّتُهُ مِنْ خَلْفِهِ ، وَهُوَ يَقُولُ : يا ثُبُورَاه ، وَهُمْ يُنَادُونَ : يا ثُبُورَهُمْ فيقال : ( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ) " .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا (16) }
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المكذّبين بالساعة : أهذه النار التي وصف لكم ربكم صفتها وصفة أهلها خير ؟ أم بستان الخلد الذي يدوم نعيمه ولا يبيد ، الذي وعد من اتقاه في الدنيا بطاعته فيما أمره ونهاه ؟ وقوله : ( كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ) يقول : كانت جنة الخلد للمتقين جزاء أعمالهم لله في الدنيا بطاعته ، وثواب تقواهم إياه ، ومصيرا لهم ، يقول : ومصيرا للمتقين يصيرون إليها في الآخرة. وقوله : ( لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ) يقول : لهؤلاء المتقين في جنة الخلد التي وعدهموها الله ما يشاءون مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، ( خَالِدِينَ ) فيها ، يقول : لابثين فيها ماكثين أبدا ، لا يزولون عنها ولا يزول عنهم نعيمها. وقوله : ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا ) وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم ذلك في الدنيا حين قالوا : ( وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ ) يقول الله تبارك وتعالى : وكان إعطاء الله المؤمنين جنة الخلد التي وصف صفتها في الآخرة وعدا وعدهم الله على طاعتهم إياه في الدنيا ، ومسألتهم إياه ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس( كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا ) قال : فسألوا الذي وعدهم وتنجزوه.
حدثني يونس. قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا ) قال : سألوه إياها في الدنيا ، طلبوا ذلك فأعطاهم وعدهم إذ سألوه أن يعطيهم ، فأعطاهم ، فكان ذلك وعدا مسئولا كما وقَّت أرزاق العباد في الأرض قبل أن يخلقهم فجعلها أقواتا للسائلين ، وقَّت ذلك على مسألتهم ، وقرأ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي

(19/246)


وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)

أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ).
وقد كان بعض أهل العربية يوجه معنى قوله : ( وَعْدًا مَسْئُولا ) إلى أنه معنيّ به وعدا واجبا ، وذلك أن المسئول واجب ، وإن لم يُسأل كالدين ، ويقول ذلك نظير قول العرب : لأعطينك ألفا وعدا مسئولا بمعنى واجب لك ، فتسأله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) }
يقول تعالى ذكره : ويوم نحشر هؤلاء المكذّبين بالساعة ، العابدين الأوثان ، وما يعبدون من دون الله من الملائكة والإنس والجنّ.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) فيقول : ( أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ ) قال : عيسى وعُزير والملائكة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، نحوه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه أبو جعفر القارئ وعبد الله بن كثير : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ ) بالياء جميعا ، بمعنى : ويوم يحشرهم ربك ، ويحشر ما يعبدون من دون فيقول. وقرأته عامة قرّاء الكوفيين(نَحْشُرُهُمْ) بالنون ، فنقول. وكذلك قرأه نافع.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله : ( فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ ) يقول : فيقول الله للذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء : يقول : أنتم أزلتموهم عن طريق الهدى ، ودعوتموهم إلى الغيّ والضلالة حتى تاهوا وهلكوا ، أم هم ضلوا السبيل ، يقول : أم عبادي هم الذين ضلوا سبيل الرشد والحقّ وسلكوا العطب.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ

(19/247)


قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)

نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) }
يقول تعالى ذكره : قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى : تنزيها لك يا ربنا ، وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء المشركون ، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم ، أنت ولينا من دونهم ، ولكن متعتهم بالمال يا ربنا في الدنيا والصحة ، حتى نسوا الذكر وكانوا قوما هَلْكى ، قد غلب عليهم الشقاء والخذلان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) يقول : قوم قد ذهبت أعمالهم وهم في الدنيا ، ولم تكن لهم أعمال صالحة.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) يقول : هلكى.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) يقول : هلكى.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن الحسن( وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) قال : هم الذين لا خير فيهم ، حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) قال : يقول : ليس من الخير في شيء. البور : الذي ليس فيه من الخير شيء.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار( نَتَّخِذَ ) بفتح النون سوى الحسن ويزيد بن القعقاع ، فإنهما قرآه : (أنَّ نُتَّخَذَ) بضم النون. فذهب الذين فتحوها إلى المعنى الذي بَيَّنَّاه في تأويله من أن الملائكة وعيسى ، ومن عُبِد من دون الله من المؤمنين ، هم الذين تبرّءوا أن يكون كان لهم وليّ غير الله تعالى ذكره. وأما الذين قرءوا ذلك بضمّ النون ، فإنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن المعبودين في الدنيا إنما تبرّءوا إلى الله أن يكون كان لهم أن يعبدوا من دون الله

(19/248)


جلّ ثناؤه ، كما أخبر الله عن عيسى ، أنه قال إذا قيل : ( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ....* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ )
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بفتح النون ، لعلل ثلاث : إحداهن إجماع من القرّاء عليها. والثانية : أن الله جلّ ثناؤه ذكر نظير هذه القصة في سورة سبأ ، فقال : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ) ، فأخبر عن الملائكة أنهم إذا سُئلوا عن عبادة من عبدهم تبرّءوا إلى الله من ولايتهم ، فقالوا لربهم : (أنت ولينا من دونهم) فذلك يوضح عن صحة قراءة من قرأ ذلك( مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) بمعنى : ما كان ينبغي لنا أن نتخذهم من دونك أولياء. والثالثة : أن العرب لا تدخل " مِن " هذه التي تدخل في الجحد إلا في الأسماء ، ولا تدخلها في الأخبار ، لا يقولون : ما رأيت أخاك من رجل ، وإنما يقولون : ما رأيت من أحد ، وما عندي من رجل ، وقد دخلت ها هنا في الأولياء ، وهي في موضع الخبر ، ولو لم تكن فيها " من " كان وجها حسنا. وأما البور : فمصدر واحد وجمع للبائر ، يقال : أصبحت منازلهم بورا : أي خالية لا شيء فيها ، ومنه قولهم : بارت السوق وبار الطعام إذا خلا من الطلاب والمشتري ، فلم يكن له طالب ، فصار كالشيء الهالك; ومنه قول ابن الزبعْرى :
يَا رَسُولَ المَلِيكِ إنَّ لسانِي... رَاتقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ (1)
وقد قيل : إن بور : مصدر ، كالعدل والزور والقطع ، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، وإنما أريد بالبور في هذا الموضع أن أعمال هؤلاء الكفار كانت باطلة ؛ لأنها لم تكن لله كما ذكرنا عن ابن عباس.
__________
(1) البيت لعبد الله بن الزبعرى قاله حين أسلم عند فتح مكة . وهو في أول المقطوعة قبل البيت الذي مضى شرحه قبل هذا . وراتق : مصلح لما أفسدت ، وأصل الرتق السد للثوب الممزق بإصلاح ما تقطع منه . وفتقت : أي أفسدت من الدين ، فكل إثم فتق وتمزيق ، وكل ثوبة رتق وإصلاح . وبور : هالك . يقال : رجل بور وبائر ، وقوم بور ، وأصل البور : مصدر بار يبور بورًا ، ثم وصف به فلزم الإفراد لأن المصادر لا تجمع . وقال المؤلف : إنه مصدر واحد (غير مجموع) ، وجمع للبائر ، قال يقال : أصبحت منازلهم بورًا ، أي خالية

(19/249)


فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا (19) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عما هو قائل للمشركين عند تبرّي من كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله منهم : قد كذّبوكم أيها الكافرون من زعمتم أنهم أضلوكم ، ودعوكم إلى عبادتهم بما تقولون ، يعني بقولكم ، يقول : كذّبوكم بكذبكم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال :

(19/250)


ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ) يقول الله للذين كانوا يعبدون عيسى وعُزيرا والملائكة ، يكذّبون المشركين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ) قال : عيسى وعُزيرا والملائكة ، يكذّبون المشركين بقولهم.
وكان ابن زيد يقول في تأويل ذلك : ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) قال : كذّبوكم بما تقولون بما جاء من عند الله جاءت به الأنبياء والمؤمنون آمنوا به ، وكذب هؤلاء فوجه ابن زيد تأويل قوله : ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ) إلى : فقد كذّبوكم أيها المؤمنون المكذّبون بما جاءهم به محمد من عند الله ، بما تقولون من الحقّ ، وهو أن يكون خبرا عن الذين كذّبوا الكافرين في زعمهم أنهم دعوهم إلى الضلالة ، وأمروهم بها على ما قاله مجاهد من القول الذي ذكرناه عنه أشبه وأولى; لأنه في سياق الخبر عنهم ، والقراءة في ذلك عندنا( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ) بالتاء على التأويل الذي ذكرناه ، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه. وقد حُكي عن بعضهم أنه قرأه(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا يَقُولُونَ) بالياء ، بمعنى : فقد كذبوكم بقولهم.
وقوله جلّ ثناؤه( فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) يقول : فما يستطيع هؤلاء الكفار صرف عذاب الله حين نزل بهم عن أنفسهم ، ولا نصرها من الله حين عذّبها وعاقبها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) قال : المشركون لا يستطيعونه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) قال : المشركون. قال ابن جُرَيج : لا يستطيعون صرف العذاب عنهم ، ولا نصر أنفسهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) قال : لا يستطيعون يصرفون عنهم العذاب الذي نزل بهم حين كذّبوا ، ولا أن ينتصروا قال : وينادي مناد يوم القيامة حين يجتمع الخلائق : ما لكم لا تناصرون ، قال : من عبد من دون الله لا ينصر اليوم من عبده ، وقال العابدون من دون الله : لا ينصره اليوم إلهه الذي يعبد من دون الله ، فقال الله تبارك وتعالى : ( بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) وقرأ قول الله جلّ ثناؤه( فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ) .
ورُوي عن ابن مسعود في ذلك ما حدثنا به أحمد بن يونس ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، قال : هي في حرف عبد الله بن مسعود(فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لكَ صَرْفًا) فإن تكن هذه الرواية عنه صحيحة صحّ التأويل الذي تأوّله ابن زيد في قوله : ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ) ويصير قوله( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ) خبرا عن المشركين أنهم كذّبوا المؤمنين ، ويكون تأويل قوله حينئذ(فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لكَ صَرْفًا) فما يستطيع يا محمد هؤلاء الكفار لك صرفا عن الحق الذي هداك الله له ، ولا نصر أنفسهم ، مما بهم من البلاء الذي هم فيه ، بتكذيبهم إياك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) }
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به : ( وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ ) أيها المؤمنون - يعني بقوله : ( وَمَنْ يَظْلِمْ ) ومن يشرك بالله فيظلم نفسه ، فذلك نذقه عذابا كبيرا كالذي ذكرنا أنَّا نذيقه الذين كذّبوا بالساعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/251)


وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، في قوله : ( وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ ) قال : يشرك( نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : ( وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ ) قال : هو الشرك :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) }
وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا : ( مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ ) وجواب لهم عنه يقول لهم جلّ ثناؤه : وما أنكر يا محمد هؤلاء القائلون : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، من أكلك الطعام ، ومشيك في الأسواق ، وأنت لله رسول ، فقد علموا أنا ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، كالذي تأكل أنت وتمشي ، فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة.
فان قال قائل : فإن(من) ليست في التلاوة ، فكيف قلت : معنى الكلام : إلا من إنهم ليأكلون الطعام ؟ قيل : قلنا في ذلك : معناه : أن الهاء والميم في قوله : إنهم ، كناية أسماء لم تذكر ، ولا بد لها من أن تعود على من كُني عنه بها ، وإنما ترك ذكر " من " وإظهاره في الكلام اكتفاء بدلالة قوله : ( مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) عليه ، كما اكتفي في قوله : ( وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ) من إظهار " من " ، ولا شكّ أن معنى ذلك : وما منا إلا من له مقام معلوم ، كما قيل( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ) ومعناه : وإن منكم إلا من هو واردها ، فقوله : ( إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) صلة لمن المتروك ، كما يقال في الكلام : ما أرسلت إليك من الناس إلا من إنه ليبلغك الرسالة ، فإنه ليبلغك الرسالة ، صلة لمن.
وقوله : ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ) يقول تعالى ذكره : وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض ، جعلنا هذا نبيا وخصصناه بالرسالة ، وهذا ملِكا وخصصناه بالدنيا ، وهذا فقيرًا وحرمناه الدنيا لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغنيّ ، والملك بصبره على ما

(19/252)


أعطيه الرسول من الكرامة ، وكيف رضي كل إنسان منهم بما أعطى ، وقسم له ، وطاعته ربه مع ما حرم مما أعطى غيره. يقول فمن أجل ذلك لم أعط محمدا الدنيا ، وجعلته يطلب المعاش في الأسواق ، ولأبتليكم أيها الناس ، وأختبر طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلى ما دعاكم إليه ، بغير عرض من الدنيا ترجونه من محمد أن يعطيكم على اتباعكم إياه ، لأني لو أعطيته الدنيا ، لسارع كثير منكم إلى اتباعه طمعا في دنياه أن يَنال منها.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : ثني عبد القدوس ، عن الحسن ، في قوله : ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ) ... الآية ، يقول هذا الأعمى : لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان ، ويقول هذا الفقير : لو شاء الله لجعلني غنيا مثل فلان ، ويقول هذا السقيم : لوشاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ) قال : يمسك عن هذا ، ويوسع على هذا ، فيقول : لم يعطني مثل ما أعطى فلانا ، ويبتلى بالوجع كذلك ، فيقول : لم يجعلني ربي صحيحا مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء ، ليعلم من يصبر ممن يجزع.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، فيما يرى الطبري ، عن عكرمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : وأنزل عليه في ذلك من قولهم : ( مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ ) ... الآية : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ) : أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا ، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي ، فلا يخالفون لفعلت ، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم.
وقوله : ( وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) يقول : وربك يا محمد بصير بمن يجزع ومن يصبر على ما امتحن به من المحن.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) إن ربك لبصير بمن يجزع ، ومن يصبر.

(19/253)


وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) }
يقول تعالى ذكره : وقال المشركون الذين لا يخافون لقاءنا ، ولا يَخْشَون عقابنا ، هلا أنزل الله علينا ملائكة ، فتخبرَنا أن محمدًا محقّ فيما يقول ، وأن ما جاءنا به صدق ، أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك ، كما قال جلّ ثناؤه مخبرا عنهم : ( وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا ) ثم قال بعد : ( أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا ) يقول الله : لقد استكبر قائلو هذه المقالة في أنفسهم ، ونعظموا ، ( وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ) يقول : وتجاوزوا في الاستكبار بقيلهم ذلك حدّه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال كفار قريش : ( لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ ) فيخبرونا أن محمدا رسول الله( لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا ) لأن " عتا " من ذوات الواو ، فأخرج مصدره على الأصل بالواو ، وقيل في سورة مريم( وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) وإنما قيل ذلك كذلك لموافقة المصادر في هذا الوجه جمع الأسماء كقولهم : قعد قعودا ، وهم قوم قعود ، فلما كان ذلك كذلك ، وكان العاتي يجمع عتيا بناء على الواحد ، جعل مصدره أحيانا موافقا لجمعه ، وأحيانا مردودا إلى أصله.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) }
يقول تعالى ذكره : يوم يرى هؤلاء الذين قالوا : ( لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ) بتصديق محمد الملائكة ، فلا بشرى لهم يومئذ بخير( وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ) يعني أن الملائكة يقولون للمجرمين حجرا محجورا ، حراما محرّما عليكم اليوم البشرى أن تكون لكم من الله; ومن الحجر قول المتلمس :

(19/254)


حَنَّتْ إلى نَخْلَةَ القُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا... حِجْرٌ حَرَامٌ ألا تِلْكَ الدَّهاريسُ (1)
ومنه قولهم : حجر القاضي على فلان ، وحجر فلان على أهله; ومنه حجر الكعبة ، لأنه لا يدخل إليه في الطواف ، وإنما يطاف من ورائه; ومنه قول الآخر.
فَهَمَمْتُ أنْ أَلْقَى إلَيْها مَحْجَرًا... فَلَمِثْلُهَا يُلْقَى إلَيْهِ المَحْجَرُ (2)
أي مثلها يُركب منه المُحْرَمُ.
واختلف أهل التأويل في المخبر عنهم بقوله : ( وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ) ومن قائلوه ؟ فقال بعضهم : قائلو ذلك الملائكة للمجرمين نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن الأجلح ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم ، وسأله رجل عن قول الله( وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ) قال : تقول الملائكة : حراما محرما أن تكون لكم البُشرى.
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، عن جدي ، عن الحسن ، عن قتادة( وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ) قال : هي كلمة كانت العرب تقولها ، كان الرجل إذا نزل به شدّة قال : حجرا ، يقول : حراما محرّما.
__________
(1) البيت للمتلمس جرير بن عبد المسيح (عن معجم ما استعجم لأبي عبيد البكري : رسم نخلة) .. وحنت : اشتاقت . وفي (اللسان : دهرس) : حجت . ونخلة القصوى : موضع على ليلة من مكة . وقيل : هما نخلة الشامية ونخلة اليمانية ؛ فالشامية واد ينصب من الغمير . واليمانية : واد ينصب من بطن قرن المنازل ، وهو طريق اليمن إلى مكة . وحجر : مثلث الحاء بمعنى حرام ، وفي المعجم البكري : بسل عليك ، وهو الحرام أيضًا . والدهاريس جمع دهرس ، مثلث الدال ، وهي الداهية (عن اللسان ) . والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 167 من مصورة الجامعة رقم 26059) وعنه أخذه المؤلف
(2) البيت لحميد بن ثور الهلالي ( اللسان : حجر . والديوان طبعة دار الكتب المصرية ص 84) . وفي رواية الديوان واللسان : أغشى في موضع ألقى . والمحجر : الحرام . قال في اللسان : لمثلها يؤتى إليه الحرام . وقبل البيت ثلاثة أبيات وهي : لَمْ أَلْقَ عَمْرَةَ بَعْدَ إذْ هِيَ نَاشِئٌ ... خَرَجَتْ مُعَطَّفَةً عَلَيْهَا مئْزَرُ
بَرَزَتْ عَقِيلَةَ أَرْبَع هَادَيْنَهَا ... بِيضِ الوُجُوهِ كأنهُنَّ الْعُنْقَرُ
ذَهَبَتْ بِعَقْلِكَ رَيطَةٌ مَطْوِيَّةٌ ... وَهِيَ التي تُهْدَي بِهَا لَوْ تَشْعُرُ
والبيت شاهد على أنت المحجر الحرام . وقال الفراء في معاني القرآن ( الورقة 224 من مصورة الجامعة 24059) : ألقى : من لقيت أي مثلها يركب منه المحرم . وعنه أخذ المؤلف

(19/255)


وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ) لما جاءت زلازل الساعة ، فكان من زلازلها أن السماء انشقت( فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا ) على شفة كل شيء تشقَّق من السماء ، فذلك قوله : ( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ ) : يعني الملائكة تقول للمجرمين حراما محرمًا أيها المجرمون أن تكون لكم البشرى اليوم حين رأيتمونا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ) قال : يوم القيامة( وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ) قال : عوذا معاذا.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله ، وزاد فيه : الملائكة تقوله.
وقال آخرون : ذلك خبر من الله عن قيل المشركين إذا عاينوا الملائكة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ) قال ابن جُرَيج : كانت العرب إذا كرهوا شيئا قالوا حجرا ، فقالوا حين عاينوا الملائكة. قال ابن جُرَيج : قال مجاهد : ( حِجْرًا ) عوذا ، يستعيذون من الملائكة.
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك من أجل أن الحِجْر هو الحرام ، فمعلوم أن الملائكة هي التي تخبر أهل الكفر أن البُشرى عليهم حرام. وأما الاستعاذة فإنها الاستجارة ، وليست بتحريم ، ومعلوم أن الكفار لا يقولون للملائكة حرام عليكم ، فيوجه الكلام إلى أن ذلك خبر عن قيل المجرمين للملائكة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا (24) }
يقول تعالى ذكره : ( وَقَدِمْنَا ) وعمدنا إلى ما عمل هؤلاء المجرمون( مِنْ عَمَلِ ) ; ومنه قول الراجز :

(19/256)


وَقَدِمَ الخَوَارِجُ الضُّلالُ... إلَى عِبادِ رَبِّهِمْ وَقالُوا
إنَّ دِمَاءَكُم لَنا حَلالُ (1)
يعني بقوله : قدم : عمد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَقَدِمْنَا ) قال : عَمَدنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله وقوله : ( فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ) يقول : فجعلناه باطلا لأنهم لم يعملوه لله وإنما عملوه للشيطان.
والهباء : هو الذي يرى كهيئة الغبار إذا دخل ضوء الشمس من كوّة يحسبه الناظر غبارًا ليس بشيء تقبض عليه الأيدي ولا تمسه ، ولا يرى ذلك في الظل.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية( هَبَاءً مَنْثُورًا ) قال : الغبار الذي يكون في الشمس.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ) قال : الشعاع في كوّة أحدهم إن ذهب يقبض عليه لم يستطع.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( هَبَاءً مَنْثُورًا ) قال : شعاع الشمس من الكوّة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
__________
(1) الرجز من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 167 مصورة الجامعة 26059) وقدم إلى الشيء : عمد إليه وقصده . وهو محل الشاهد عند المؤلف

(19/257)


حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : ( هَبَاءً مَنْثُورًا ) قال : ما رأيت شيئا يدخل البيت من الشمس تدخله من الكوّة ، فهو الهباء.
وقال آخرون : بل هو ما تسفيه الرياح من التراب ، وتذروه من حطام الأشجار ، ونحو ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : ( هَبَاءً مَنْثُورًا ) قال : ما تسفي الريح تَبُثُّهُ.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة( هَبَاءً مَنْثُورًا ) قال : هو ما تذرو الريح من حطام هذا الشجر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( هَبَاءً مَنْثُورًا ) قال : الهباء : الغبار.
وقال آخرون : هو الماء المهراق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( هَبَاءً مَنْثُورًا ) يقال : الماء المهراق.
وقوله جلّ ثناؤه : ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا ) يقول تعالى ذكره : أهل الجنة يوم القيامة خير مستقرّا ، وهو الموضع الذي يستقرّون فيه من منازلهم في الجنة من مستقرّ هؤلاء المشركين الذين يفتخرون بأموالهم ، وما أوتوا من عرض هذه الدنيا في الدنيا ، وأحسن منهم فيها مقيلا.
فإن قال قائل : وهل في الجنة قائلة ؟ فيقال : ( وَأَحْسَنُ مَقِيلا ) فيها ؟ قيل : معنى ذلك : وأحسن فيها قرارا في أوقات قائلتهم في الدنيا ، وذلك أنه ذكر أن أهل الجنة لا يمرّ فيهم في الآخرة إلا قدر ميقات النهار من أوّله إلى وقت القائلة ، حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة ، فذلك معنى قوله : ( وَأَحْسَنُ مَقِيلا ) .

(19/258)


* ذكر الرواية عمن قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا ) يقول : قالوا في الغرف في الجنة ، وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة ، وذلك الحساب اليسير ، وهو مثل قوله : ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ) .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، في قوله : ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا ) قال : كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة في نصف النهار ، فيقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا ) قال : لم ينتصف النهار حتى يقضي الله بينهم ، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. قال : وفي قراءة ابن مسعود : (ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لإلى الجَحيم).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا ) قال : قال ابن عباس : كان الحساب من ذلك في أوّله ، وقال القوم حين قالوا في منازلهم من الجنة ، وقرأ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث أن سعيدًا الصوّاف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقضي على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وأنهم يقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس ، فذلك قول الله : ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا ).
قال أبو جعفر : وإنما قلنا : معنى ذلك : خير مستقرا في الجنة منهم في الدنيا ، لأن الله تعالى ذكره عَمَّ بقوله : ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا ) جميع أحوال الجنة في الآخرة أنها خير في الاستقرار فيها ، والقائلة من جميع أحوال أهل النار ، ولم يخُصّ بذلك أنه خير من أحوالهم في النار دون الدنيا ، ولا في الدنيا دون الآخرة ، فالواجب أن يعمَّ كما عمّ ربنا جلّ ثناؤه ، فيقال : أصحاب الجنة يوم القيامة خير مستقرًّا

(19/259)


وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)

في الجنة من أهل النار في الدنيا والآخرة ، وأحسن منهم مقيلا وإذا كان ذلك معناه ، صحّ فساد قول من توهم أن تفضيل أهل الجنة بقول الله : ( خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا ) على غير الوجه المعروف من كلام الناس بينهم في قولهم : هذا خير من هذا ، وهذا أحسن من هذا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) }
اختلف القرّاء في قراءة قوله( تَشَقَّقُ ) فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز(وَيَوْمَ تَشَّقَّقُ) بتشديد الشين بمعنى : تَتَشقق ، فأدغموا إحدى التاءين في الشين فشدّدوها ، كما قال : ( لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى )
وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة : ( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ) بتخفيف الشين والاجتزاء بإحدى التاءين من الأخرى.
والقول في ذلك عندي : أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وتأويل الكلام : ويوم تُشقق السماء عن الغمام. وقيل : إن ذلك غمام أبيض مثل الغمام الذي ظلل على بني إسرائيل ، وجعلت الباء ، في قوله : ( بِالْغَمَامِ ) مكان " عن " كما تقول : رميت عن القوس وبالقوس وعلى القوس ، بمعنى واحد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ) قال : هو الذي قال : ( فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ) الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ، ولم يكن في تلك قطّ إلا لبني إسرائيل. قال ابن جُرَيج : الغمام الذي يأتي الله فيه غمام زعموا في الجنة.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا معتمر بن سليمان ، عن عبد الجليل ، عن أبي حازم ، عن عبد الله بن عمرو قال : يهبط الله حين يهبط ، وبينه وبين خلقه سبعون حجابا ، منها النور والظلمة والماء ، فيصوّت الماء صوتا تنخلع له القلوب.

(19/260)


قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عكرمة في قوله : ( يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ ) يقول : والملائكة حوله.
قال : ثني حجاج ، عن مبارك بن فضالة ، عن عليّ بن زيد بن جُدعان ، عن يوسف بن مهران ، أنه سمع ابن عباس يقول : إن هذه السماء إذا انشقت نزل منها من الملائكة أكثر من الجنّ والإنس ، وهو يوم التلاق ، يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض ، فيقول أهل الأرض : جاء ربنا ، فيقولون : لم يجيء وهو آت ، ثم تَتَشقق السماء الثانية ، ثم سماء سماء على قدر ذلك من التضعيف إلى السماء السابعة ، فينزل منها من الملائكة أكثر من جميع من نزل من السماوات ومن الجنّ والإنس. قال : فتنزل الملائكة الكُروبيون ، ثم يأتي ربنا تبارك وتعالى في حملة العرش الثمانية ، بين كعب كل ملك وركبته مسيرة سبعين سنة ، وبين فخذه ومنكبه مسيرة سبعين سنة ، قال : وكل ملك منهم لم يتأمل وجه صاحبه ، وكلّ ملك منهم واضع رأسه بين ثدييه يقول : سبحان الملك القدوس ، وعلى رءوسهم شيء مبسوط كأنه القباء ، والعرش فوق ذلك ، ثم وقف.
قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا جعفر بن سليمان ، عن هارون بن وثاب ، عن شهر بن حوشب ، قال : حملة العرش ثمانية ، فأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، لك الحمد على حلمك بعد علمك. وأربعة يقولون : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : إذا نظر أهل الأرض إلى العرش يهبط عليهم فوقهم شخصت إليه أبصارهم ، ورجفت كُلاهم في أجوافهم ، قال : وطارت قلوبهم من مقرّها في صدورهم إلى حناجرهم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا ) يعني يوم القيامة حين تشقق السماء بالغمام ، وتنزل الملائكة تنزيلا.
وقوله : ( وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا ) يقول : ونزل الملائكة إلى الأرض تنزيلا( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ ) يقول : الملك الحقّ يومئذ خالص للرحمن دون كلّ من سواه ، وبطلت الممالك يومئذ سوى ملكه. وقد كان في الدنيا ملوك ، فبطل الملك يومئذ سوى ملك الجبار( وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ) يقول : وكان يومُ تشقُّق السماء بالغمام

(19/261)


وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)

يوما على أهل الكفر بالله عسيرا ، يعني صعبا شديدا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا (29) }
يقول تعالى ذكره : ويوم يعضّ الظالم نفسه المشرك بربه على يديه ندما وأسفًا على ما فرط في جنب الله ، وأوبق نفسه بالكفر به في طاعة خليله الذي صدّه عن سبيل ربه ، يقول : يا ليتني اتخذت في الدنيا مع الرسول سبيلا يعني طريقا إلى النجاة من عذاب الله ، وقوله( يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ) .
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : ( الظَّالِمُ ) وبقوله : ( فُلانًا ) فقال بعضهم : عني بالظالم : عقبة بن أبي معيط ، لأنه ارتدّ بعد إسلامه ، طلبا منه لرضا أُبيّ بن خلف ، وقالوا : فلان هو أُبيّ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قال : كان أُبيّ بن خلف يحضر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فزجره عقبة بن أبي معيط ، فنزل : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ) ... إلى قوله( خَذُولا ) قال : (الظالم) : عقبة ، وفلانا خليلا أُبيّ بن خلف.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ في قوله : ( لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ) قال : كان عقبة بن أبي معيط خليلا لأمية بن خلف ، فأسلم عقبة ، فقال أمية : وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمدا فكفر; وهو الذي قال : ( لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة وعثمان الجزري ، عن مقسم في قوله : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ) قال : اجتمع عقبة بن أبي معيط وأبيّ بن خلف ، وكانا خليلين ، فقال أحدهما لصاحبه : بلغني أنك أتيت محمدا فاستمعت منه ، والله لا أرضى عنك حتى تتفل

(19/262)


في وجهه وتكذّبه ، فلم يسلطه الله على ذلك ، فقتل عقبة يوم بدر صبرا (1) . وأما أُبيّ بن خلف فقتله النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده يوم أُحد في القتال ، وهما اللذان أنزل الله فيهما : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ).
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن ابن عباس ، ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ) ... إلى قوله : ( فُلانًا خَلِيلا ) قال : هو أُبيّ بن خلف ، كان يحضر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فزجره عقبة بن أبي معيط.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ) قال : عقبة بن أبي معيط دعا مجلسا فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لطعام ، فأبى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأكل ، وقال : " ولا آكُل حتى تَشْهَدَ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ ، وأنَّ مُحمَّدًا رسُولُ الله " ، فقال : ما أنت بآكل حتى أشهد ؟ قال : " نعم " ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ مُحمَّدًا رسُولُ الله. فلقيه أمية بن خلف فقال : صبوت ؟ فقال : إن أخاك على ما تعلم ، ولكني صنعت طعاما فأبى أن يأكل حتى أقول ذلك ، فقلته ، وليس من نفسي.
وقال آخرون : عنى بفلان : الشيطان.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فُلانًا خَلِيلا ) قال : الشيطان.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله. وقوله : ( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ) يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن هذا النادم على ما سلف منه في الدنيا ، من معصية ربه في طاعة خليله : لقد أضلني عن الإيمان بالقرآن ، وهو الذكر ، بعد إذ جاءني من عند الله ، فصدّني عنه ، يقول الله : ( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا ) يقول : مسلما لما ينزل به من البلاء غير منقذه ولا منجيه.
__________
(1) يقال : قتل فلان صبرًا : قدم فقتل ، وهو يرى وينظر ، وهو غير من يقتل في حرب أو حادث . السقا .

(19/263)


وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) }
يقول تعالى ذكره : وقال الرسول يوم يعضّ الظالم على يديه : يا ربّ إن قومي الذين بعثتني إليهم لأدعوهم إلى توحيدك اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
واختلف أهل التأويل في معنى اتخاذهم القرآن مهجورا ، فقال بعضهم : كان اتخاذهم ذلك هجرا ، قولهم فيه السييء من القول ، وزعمهم أنه سحر ، وأنه شعر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) قال : يهجُرون فيه بالقول ، يقولون : هو سحر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( وَقَالَ الرَّسُولُ ) ... الآية : يهجرون فيه بالقول. قال مجاهد : وقوله : ( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ) قال : مستكبرين بالبلد سامرا مجالس تهجرون ، قال : بالقول السييء في القرآن غير الحقّ.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال ، ثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في قول الله : ( إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) قال : قالوا فيه غير الحقّ ، ألم تر إلى المريض إذا هذي قال غير الحق.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الخبر عن المشركين أنهم هجروا القرآن وأعرضوا عنه ولم يسمعوا له.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) لا يريدون أن يسمعوه ، وإن دعوا إلى الله قالوا لا. وقرأ( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ) قال : ينهون عنه ، ويبعدون عنه.
قال أبو جعفر : وهذا القول أولى بتأويل ذلك ، وذلك أن الله أخبر عنهم أنهم قالوا :

(19/264)


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)

(لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) ، وذلك هجرهم إياه.
وقوله : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وكما جعلنا لك يا محمد أعداء من مشركي قومك ، كذلك جعلنا لكل من نبأناه من قبلك عدوّا من مشركي قومه ، فلم تخصص بذلك من بينهم. يقول : فاصبر لما نالك منهم كما صبر من قبلك أولو العزم من رسلنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن عباس : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ) قال : يوطن محمدا صلى الله عليه وسلم أنه جاعل له عدوّا من المجرمين كما جعل لمن قبله.
وقوله : ( وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) يقول تعالى ذكره لنبيه : وكفاك يا محمد بربك هاديا يهديك إلى الحقّ ، ويبصرك الرشد ، ونصيرا : يقول : ناصرا لك على أعدائك ، يقول : فلا يهولنك أعداؤك من المشركين ، فإني ناصرك عليهم ، فاصبر لأمري ، وامض لتبليغ رسالتي إليهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا (32) }
يقول تعالى ذكره : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بالله( لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ ) يقول : هلا نزل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن( جُمْلَةً وَاحِدَةً ) كما أنزلت التوراة على موسى جملة واحدة ؟ قال الله : ( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) تنزيله عليك الآية بعد الآية ، والشيء بعد الشيء ، لنثبت به فؤادك نزلناه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ) قال : كان الله ينزل عليه الآية ، فإذا علمها نبيّ الله نزلت آية أخرى ليعلمه الكتاب عن ظهر قلب ، ويثبت به فؤاده.

(19/265)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) كما أنزلت التوراة على موسى ، قال : ( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) قال : كان القرآن ينزل عليه جوابا لقولهم : ليعلم محمد أن الله يجيب القوم بما يقولون بالحقّ ، ويعني بقوله : ( لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) لنصحح به عزيمة قلبك ويقين نفسك ، ونشجعك به.
وقوله( وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ) يقول : وشيئا بعد شيء علمناكه حتى تحفظنه ، والترتيل في القراءة : الترسل والتثبت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : ( وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ) قال : نزل متفرّقا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : ( وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ) قال : كان ينزل آية وآيتين وآيات جوابا لهم إذا سألوا عن شيء أنزله الله جوابا لهم ، وردّا عن النبيّ فيما يتكلمون به. وكان بين أوله وآخره نحو من عشرين سنة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ) قال : كان بين ما أنزل القرآن إلى آخره أنزل عليه لأربعين ، ومات النبيّ صلى الله عليه وسلم لثنتين أو لثلاث وستين.
وقال آخرون : معنى الترتيل : التبيين والتفسير.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا ) قال : فسرناه تفسيرا ، وقرأ : ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ).

(19/266)


وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا (34) }
يقول تعالى ذكره : ولا يأتيك يا محمد هؤلاء المشركون بمثل يضربونه إلا جئناك

(19/266)


من الحق ، بما نبطل به ما جاءوا به ، وأحسن منه تفسيرًا.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ ) قال : الكتاب بما تردّ به ما جاءوا به من الأمثال التي جاءوا بها وأحسن تفسيرا.
وعنى بقوله( وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) وأحسن مما جاءوا به من المثل بيانا وتفصيلا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن ابن عباس قوله : ( وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) يقول : أحسن تفصيلا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) قال : بيانا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) يقول : تفصيلا.
وقوله : ( الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا ) يقول تعالى ذكره لنبيه : هؤلاء المشركون يا محمد ، القائلون لك( لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ومن كان على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله ، الذين يحشرون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم ، فيساقون إلى جهنم شرّ مستقرّا في الدنيا والآخرة من أهل الجنة في الجنة ، وأضل منهم في الدنيا طريقا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ ) قال : الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم( أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا ) من أهل الجنة( وَأَضَلُّ سَبِيلا ) قال : طريقا.
حدثني محمد بن يحيى الأزدي ، قال : ثنا الحسين بن محمد ، قال : ثنا شيبان ، عن قتادة ، قوله : ( الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ ) قال : حدثنا أنس بن

(19/267)


وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)

مالك أن رجلا قال : يا رسول الله ، كيف يحشر الكافر على وجهه ؟ قال : الَّذِي أَمْشَاهُ عَلى رِجْلَيْهِ قادرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ " .
حدثنا أبو سفيان الغنوي يزيد بن عمرو ، قال : ثنا خلاد بن يحيى الكوفي ، قال : ثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : أخبرني من سمع أنس بن مالك يقول : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : كيف يحشرهم على وجوههم ؟ قال : " الَّذِي يَحْشُرُهُمْ عَلى أرْجُلِهِمْ قادِرٌ بأنْ يَحْشُرُهُمْ عَلى وُجُوههمْ " .
حدثنا عبيد بن محمد الورّاق ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي داود ، عن أنس بن مالك ، قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يُحشر أهل النار على وجوههم ؟ فقال : إنَّ الَّذِي أمْشاهُمْ عَلى أقْدامِهِمْ قَادِرٌ عَلى أنْ يُمْشِيَهُمْ عَلى وُجُوهِهِمْ " .
حدثني أحمد بن المقدام قال : ثنا حزم ، قال : سمعت الحسن يقول : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية( الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ ) فقالوا : يا نبي الله ، كيف يمشون على وجوههم ؟ قال : أرأيْتَ الَّذِي أمْشاهُمْ عَلى أقْدَامِهِمْ ألَيْس قَادِرًا أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلى وُجُوهِهم " .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا منصور بن زاذان ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن أبي خالد ، عن أبي هريرة ، قال : " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف على الدوابّ ، وصنف على أقدامهم ، وصنف على وجوههم ، فقيل : كيف يمشون على وجوههم ؟ قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم ، قادر أن يمشيهم على وجوههم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يتوعد مشركي قومه على كفرهم بالله ، وتكذيبهم رسوله ويخوّفهم من حلول نقمته بهم ، نظير الذي يحلّ بمن كان قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها( وَلَقَدْ آتَيْنَا ) يا محمد( مُوسَى الْكِتَابَ ) يعني التوراة ،

(19/268)


وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)

كالذي آتيناك من الفرقان( وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ) يعني معينا وظهيرا( فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) يقول : فقلنا لهما : اذهبا إلى فرعون وقومه الذين كذبوا بإعلامنا وأدلتنا ، فدمرناهم تدميرا. وفي الكلام متروك استغني بدلالة ما ذكر من ذكره وهو : فذهبا فكذبوهما فدمرناهم حينئذ.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) }
يقول تعالى ذكره : وقوم نوح لما كذبوا رسلنا ، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من الحقّ ، أغرقناهم بالطوفان( وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ) يقول : وجعلنا تغريقنا إياهم وإهلاكنا عظة وعبرة للناس يعتبرون بها( وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ) يقول : وأعددنا لهم من الكافرين بالله في الآخرة عذابا أليما ، سوى الذي حلّ بهم من عاجل العذاب في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) }
يقول تعالى ذكره : ودمرنا أيضا عادا وثمود وأصحاب الرسّ.
واختلف أهل التأويل في أصحاب الرسّ ، فقال بعضهم : أصحاب الرسّ من ثمود.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : ( وَأَصْحَابَ الرَّسِّ ) قال : قرية من ثمود.
وقال آخرون : بل هي قرية من اليمامة يقال لها الفلْج (1) .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : ثنا جرير بن حازم ، قال : قال قتادة : الرسّ : قرية من اليمامة يقال لها الفلج.
__________
(1) في تاج العروس : وقيل (فلج) : بلد . ومنه قيل لطريق مأخذه من البصرة إلى اليمامة : طريق بطن فلج . ا هـ .

(19/269)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قال عكرمة : أصحاب الرسّ بفلج هم أصحاب يس.
وقال آخرون : هم قوم رسوا نبيهم في بئر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي بكر ، عن عكرمة ، قال : كان الرسّ بئرا رسُّوا فيها نبيهم.
وقال آخرون : هي بئر كانت تسمى الرسّ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَأَصْحَابَ الرَّسِّ ) قال : هي بئر كانت تسمى الرّسّ.
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى عن مجاهد في قوله : ( وَأَصْحَابَ الرَّسِّ ) قال : الرّسّ بئر كان عليها قوم.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، قول من قال : هم قوم كانوا على بئر ، وذلك أن الرّسّ في كلام العرب : كلّ محفور مثل البئر والقبر ونحو ذلك; ومنه قول الشاعر :
سَبَقْتَ إلى فَرطٍ باهِلٍ... تنابِلَةٍ يَحْفِرُونَ الرِّساسا (1)
يريد أنهم يحفِرون المعادن ، ولا أعلم قوما كانت لهم قصة بسبب حفرة ، ذكرهم الله في كتابه إلا أصحاب الأخدود ، فإن يكونوا هم المعنيين بقوله : ( وَأَصْحَابَ الرَّسِّ ) فإنا سنذكر خبرهم إن شاء الله إذا انتهينا إلى سورة البروج ، وإن يكونوا غيرهم فلا نعرف لهم خبرا ، إلا ما جاء من جملة الخبر عنهم أنهم قوم رَسوا نبيهم في حفرة.
إلا ما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يَدخُلُ
__________
(1) البيت للنابغة الجعدي ( اللسان : رسس) . والفرط بالتحريك : القوم يتقدمون إلى الماء قبل الورود ، فيهيئون لهم الأرسال والدلاء ، ويملئون الحياض ، ويستقون لهم ( عن اللسان ) . والباهل : المتردد بلا عمل . والتنابلة جمع تنبل ، بوزن جَعْفَر ، وهو الرجل القصير . ولعله كناية عن البطء والعجز عن العمل . والرساس جمع رس ، وهي البئر القديمة أو المعدن ( المنجم تستخرج منه المعادن كالحديد ونحوه ) . استشهد به المؤلف على أن كل محفور مثل البئر والقبر والمعدن فهو رس عند العرب .

(19/270)


الجَنَّةَ يَوْمَ القِيَامَةِ الْعَبْدُ الأسْوَدُ " . وذلك أن الله تبارك وتعالى بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن مِنْ أهلها أحد إلا ذلك الأسود ، ثم إن أهل القرية عدوا على النبيّ عليه السلام ، فحفروا له بئرا فألقوه فيها ، ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم ، قال : وكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ، ثم يأتي بحطبه فيبيعه ، فيشتري به طعاما وشرابا ، ثم يأتي به إلى ذلك البئر ، فيرفع تلك الصخرة ، فيعينه الله عليها ، فيدلي إليه طعامه وشرابه ، ثم يعيدها كما كانت ، قال : فكان كذلك ما شاء الله أن يكون. ثم إنه ذهب يوما يحتطب ، كما كان يصنع ، فجمع حطبه ، وحزم حزمته وفرغ منها; فلما أراد أن يحتملها وجد سِنة ، فاضطجع فنام ، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما. ثم إنه هبّ فتمطى ، فتحوّل لشقة الآخر ، فاضطجع ، فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى. ثم إنه هبّ فاحتمل حزمته ، ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار ، فجاء إلى القرية فباع حزمته ، ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع ثم ذهب إلى الحفرة في موضعها التي كانت فيه فالتمسه فلم يجده ، وقد كان بدا لقومه فيه بداء ، فاستخرجوه وآمنوا به وصدّقوه ، قال : فكان النبي عليه السلام يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل ؟ فيقولون : ما ندري ، حتى قبض الله النبيّ ، فأهبّ الله الأسود من نومته بعد ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ ذَلكَ الأسْودَ لأوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ " غير أن هؤلاء في هذا الخبر يذكر محمد بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم آمنوا بنبيهم واستخرجوه من حفرته ، فلا ينبغي أن يكونوا المعنيين بقوله : ( وَأَصْحَابَ الرَّسِّ ) لأن الله أخبر عن أصحاب الرّسّ أنه دمرهم تدميرا ، إلا أن يكونوا دمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم الذي استخرجوه من الحفرة وآمنوا به ، فيكون ذلك وجها( وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ) يقول : ودمرنا بين أضعاف هذه الأمم التي سمَّيناها لكم أمما كثيرة.
كما حدثنا الحسن بن شبيب ، قال : ثنا خلف بن خليفة ، عن جعفر بن عليّ بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خلفت بالمدينة عمي ممن يفتي على أن القرن سبعون سنة ، وكان عمه عبيد الله بن أبي رافع كاتب عليّ رضي الله عنه.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : ثنا حفص بن غياث ، عن الحجاج ، عن

(19/271)


وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)

الحكم ، عن إبراهيم قال : القرن أربعون سنة.
وقوله : ( وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ ) يقول تعالى ذكره : وكل هذه الأمم التي أهلكناها التي سميناها لكم أو لم نسمها ضربنا له الأمثال يقول : مثلنا له الأمثال ونبهناها على حججنا عليها ، وأعذرنا إليها بالعبر والمواعظ ، فلم نهلك أمة إلا بعد الإبلاغ إليهم في المعذرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ ) قال : كلّ قد أعذر الله إليه ، ثم انتقم منه.
وقوله : ( وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ) يقول تعالى ذكره : وكل هؤلاء الذين ذكرنا لكم أمرهم استأصلناهم ، فدمرناهم بالعذاب إبادة ، وأهلكناهم جميعا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : ( وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ) قال : تبر الله كلا بعذاب تتبيرا.
حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبير( وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ) قال : تتبير بالنبطية.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قوله : ( وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ) قال : بالعذاب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) }
يقول تعالى ذكره : ولقد أتى هؤلاء الذين اتخذوا القرآن مهجورا على القرية التي أمطرها الله مطر السوء وهي سدوم ، قرية قوم لوط. ومطر السوء : هو الحجارة التي أمطرها الله عليهم فأهلكهم بها. كما :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( وَلَقَدْ

(19/272)


وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)

أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ ) قال : حجارة ، وهي قرية قوم لوط ، واسمها سدوم. قال ابن عباس : خمس قرَّيات ، فأهلك الله أربعة ، وبقيت الخامسة ، واسمها صعوة. لم تهلك صعوة ، كان أهلها لا يعملون ذلك العمل ، وكانت سدوم أعظمها ، وهي التي نزل بها لوط ، ومنها بعث ، وكان إبراهيم صلى الله عليه وسلم ينادي نصيحة لهم : يا سدوم ، يوم لكم من الله ، أنهاكم أن تعرضوا لعقوبة الله ، زعموا أن لوطا ابن أخي إبراهيم صلوات الله عليهما.
وقوله : ( أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا ) يقول جلّ ثناؤه : أو لم يكن هؤلاء المشركون الذين قد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء يرون تلك القرية ، وما نزل بها من عذاب الله بتكذيب أهلها رسلهم ، فيعتبروا ويتذكروا ، فيراجعوا التوبة من كفرهم وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم( بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا ) يقول تعالى ذكره : ما كذّبوا محمدا فيما جاءهم به من عند الله ، لأنهم لم يكونوا رأوا ما حلّ بالقرية التي وصفت ، ولكنهم كذّبوه من أجل أنهم قوم لا يخافون نشورًا بعد الممات ، يعني أنهم لا يوقنون بالعقاب والثواب ، ولا يؤمنون بقيام الساعة ، فيردعهم ذلك عما يأتون من معاصي الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا ) بعثا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا (41) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإذا رآك هؤلاء المشركون الذين قصصت عليك قصصهم( إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا ) يقول : ما يتخذونك إلا سخرية يسخرون منك ، يقولون : ( أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ ) إلينا( رَسُولا ) من بين خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا (42) }

(19/273)


أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)

يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء المشركين الذين كانوا يهزءون برسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم يقولون إذا رأوه : قد كاد هذا يضلنا عن آلهتنا التي نعبدها ، فيصدّنا عن عبادتها لولا صبرنا عليها ، وثبوتنا على عبادتها( وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ) يقول جلّ ثناؤه : سيبين لهم حين يعاينون عذاب الله قد حلّ بهم على عبادتهم الآلهة( مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا ) يقول : من الراكب غير طريق الهدى ، والسالك سبيل الردى أنت أوهم.
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله : ( لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج( إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ) قال : ثبتنا عليها.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا (43) }

(19/274)


أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا (44) }
يعني تعالى ذكره : ( أَرَأَيْتَ ) يا محمد( مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ ) شهوته التي يهواها وذلك أن الرجل من المشركين كان يعبد الحجر ، فإذا رأى أحسن منه رمى به ، وأخذ الآخر يعبده ، فكان معبوده وإلهه ما يتخيره لنفسه ، فلذلك قال جلّ ثناؤه( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا ) يقول تعالى ذكره : أفأنت تكون يا محمد على هذا حفيظا في أفعاله مع عظيم جهله ؟( أَمْ تَحْسَبُ ) يا محمد أن أكثر هؤلاء المشركين( يَسْمَعُونَ ) ما يتلى عليهم ، فيعون( أَوْ يَعْقِلُونَ ) ما يعاينون من حجج الله ، فيفهمون( إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ ) يقول : ما هم إلا كالبهائم التي لا تعقل ما يقال لها ، ولا تفقه ، بل هم من البهائم أضلّ سبيلا لأن البهائم تهتدي لمراعيها ، وتنقاد لأربابها ، وهؤلاء الكفرة لا يطيعون ربهم ، ولا يشكرون نعمة من أنعم عليهم ، بل يكفرونها ، ويعصون من خلقهم وبرأهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) }

(19/274)


يقول تعالى ذكره : ( أَلَمْ تَرَ ) يا محمد( كَيْفَ مَدَّ ) ربك( الظِّلَّ ) وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) يقول : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) قال : مدّه ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ) قال : الظلّ : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا أبو محصن ، عن حصين ، عن أبي مالك ، قال : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) قال : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) قال. ظلّ الغداة قبل أن تطلع الشمس.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : الظلّ : ظلّ الغداة.
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عكرمة ، قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) قال : مدّه من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) يعني : من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس.
قوله : ( وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ) يقول : ولو شاء لجعله دائما لا يزول ، ممدودا

(19/275)


لا تذهبه الشمس ، ولا تنقصه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ) يقول : دائما.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال ، ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ) قال : لا تصيبه الشمس ولا يزول.
حدثنا القاسم. قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ) قال : لا يزول.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ) قال : دائما لا يزول.
وقوله : ( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ) يقول جلّ ثناؤه : ثم دللناكم أيها الناس بنسخ الشمس إياه عند طلوعها عليه ، أنه خلْق من خلق ربكم ، يوجده إذا شاء ، ويفنيه إذا أراد; والهاء في قوله : " عليه " من ذكر الظلّ. ومعناه : ثم جعلنا الشمس على الظلّ دليلا. قيل : معنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس التي تنسخه لم يعلم أنه شيء ، إذا كانت الأشياء إنما تعرف بأضدادها ، نظير الحلو الذي إنما يعرف بالحامض والبارد بالحارِّ ، وما أشبه ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ) يقول : طلوع الشمس.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ) قال : تحويه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن

(19/276)


مجاهد ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ) قال : أخرجت ذلك الظل فذهبت به وقوله : ( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ) يقول تعالى ذكره : ثم قبضنا ذلك الدليل من الشمس على الظلّ إلينا قبضا خفيا سريعا بالفيء الذي نأتي به بالعشيّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ) قال : حوى الشمس الظلّ. وقيل : إن الهاء التي في قوله : ( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا ) عائدة على الظلّ ، وإن معنى الكلام : ثم قبضنا الظلّ إلينا بعد غروب الشمس ، وذلك أن الشمس إذا غربت غاب الظلّ الممدود ، قالوا : وذلك وقت قبضه.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( يَسِيرًا ) فقال بعضهم : معناه : سريعا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ) يقول : سريعا.
وقال آخرون : بل معناه : قبضا خفيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن مجاهد( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ) قال : خفيا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج( قَبْضًا يَسِيرًا ) قال : خفيا ، قال : إن ما بين الشمس والظلّ مثل الخيط ، واليسير الفعيل من اليسر ، وهو السهل الهين في كلام العرب. فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك ، يتوجه لما روي عن ابن عباس ومجاهد ؛ لأن سهولة قبض ذلك قد تكون بسرعة وخفاء. وقيل : إنما قيل( ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ) لأن الظلّ بعد غروب الشمس لا يذهب

(19/277)


وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)

كله دفعة ، ولا يقبل الظلام كله جملة ، وإنما يقبض ذلك الظلّ قبضا خفيا ، شيئا بعد شيء ويعقب كل جزء منه يقبضه جزء من الظلام.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) }
يقول تعالى ذكره : الذي مدّ الظل ثم جعل الشمس عليه دليلا هو الذي جعل لكم أيها الناس الليل لباسا. وإنما قال جلّ ثناؤه( جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا ) لأنه جعله لخلقه جنة يجتنون فيها ويسكنون ، فصار لهم سترا يستترون به ، كما يستترون بالثياب التي يُكسونها. وقوله : ( وَالنَّوْمَ سُبَاتًا ) يقول : وجعل لكم النوم راحة تستريح به أبدانكم ، وتهدأ به جوارحكم. وقوله : ( وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ) يقول تعالى ذكره : وجعل النهار يقظة وحياة من قولهم : نَشر الميتُ ، كما قال الأعشى :
حَتى يقُولَ النَّاسُ مِمَّا رأَوْا... يا عَجَبا للْمَيِّتِ النَّاشِرِ (1)
ومنه قول الله : ( وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا )
وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ) قال : ينشر فيه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك ، أنه عقيب قوله : ( وَالنَّوْمَ سُبَاتًا ) في الليل. فإذ كان ذلك كذلك ، فوصف النهار بأن فيه اليقظة والنشور من النوم أشبه إذ كان النوم أخا الموت. والذي قاله مجاهد غير بعيد من الصواب ؛ لأن الله أخبر أنه جعل النهار معاشا ، وفيه الانتشار للمعاش ، ولكن النشور مصدر من قول القائل : نشر ،
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة ( ديوان طبعة القاهرة ، بشرح الدكتور محمد حسين 141) وهو من قصيدة يهجو بها علقمة بن علاثة ، ويمدح عامر بن الطفيل في المنافرة التي جرت بينهما . وقبل البيت قوله : لَو أسْنَدَتْ مَيْتًا إلى صَدْرِهَا ... عَاشَ وَلَمْ يَنْقَلْ إلى قَابِرِ
والبيت كذلك في ( اللسان : نشر) قال : ونشر الله الميت ينشره نشرًا ونشورًا ، وأنشره ، فنشر الميت ( برفع الميت ) لا غير : أحياه قال الأعشى : حتى يقول ... " البيت . وهذا محل الشاهد عند المؤلف .

(19/278)


وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)

فهو بالنشر من الموت والنوم أشبه ، كما صحّت الرواية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا أصبح وقام من نومه : " الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَما أماتَنا ، وإلَيْهِ النُّشُورُ " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) }
يقول تعالى ذكره : والله الذي أرسل الرياح الملقحة( بُشْرًا ) : حياة أو من الحيا والغيث الذي هو منزله على عباده( وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) يقول : وأنزلنا من السحاب الذي أنشأناه بالرياح من فوقكم أيها الناس ماء طهورا.( لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ) يعني أرضا قَحِطة عذية لا تُنبت. وقال : ( بَلْدَةً مَيْتًا ) ولم يقل ميتة ، لأنه أريد بذلك لنحيي به موضعًا ومكانًا ميتًا( وَنُسْقِيَهُ ) من خلقنا( أَنْعَامًا ) من البهائم( وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ) يعني الأناسيّ : جمع إنسان وجمع أناسي ، فجعل الياء عوضا من النون التي في إنسان ، وقد يجمع إنسان : إناسين ، كما يجمع النَشْيان (1) نشايين. فإن قيل : أناسيّ جمع واحده إنسيّ ، فهو مذهب أيضًا محكي ، وقد يجمع أناسي مخففة الياء ، وكأن من جمع ذلك كذلك أسقط الياء التي بين عين الفعل ولامه ، كما يجمع القرقور : قراقير وقراقر. ومما يصحح جمعهم إياه بالتخفيف ، قول العرب : أناسية كثيرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا (50) }
يقول تعالى ذكره : ولقد قسمنا هذا الماء الذي أنزلناه من السماء طهورا لنحيي به الميت من الأرض بين عبادي ، ليتذكروا نعمي عليهم ، ويشكروا أيادي عندهم وإحساني إليهم( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا ) يقول : إلا جحودا لنعمي عليهم ، وأياديّ عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) يقال : رجل نشوان ، من السكر ؛ ونشيان للخبر : يختبر الأخبار أول ورودها ، ويبحث عنها . وأصلها الواو .

(19/279)


وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : سمعت الحسن بن مسلم يحدّث طاوسا ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس قال : ما عام بأكثر مطرا من عام ، ولكنّ الله يصرّفه بين خلقه; قال : ثم قرأ : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ).
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، قال : ثنا الحسن بن مسلم ، عن سعيد بن جُبير ، قال : قال ابن عباس : ما عام بأكثر مطرا من عام ، ولكنه يصرفه في الأرضين ، ثم تلا( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ) قال : المطر ينزله في الأرض ، ولا ينزله في الأرض الأخرى ، قال : فقال عكرِمة : صرفناه بينهم ليذّكروا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ) قال : المطر مرّة هاهنا ، ومرّة هاهنا.
حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ، قال : ثنا سفيان بن عيينة ، عن يزيد بن أبي زياد ، أنه سمع أبا جحيفة يقول : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : ليس عام بأمطر من عام ، ولكنه يصرفه ، ثم قال عبد الله : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ).
وأما قوله : ( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا ) فإن القاسم حدثنا قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جُرَيج ، عن عكرمة : ( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا ) قال : قولهم في الأنواء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) }
يقول تعالى ذكره : ولو شئنا يا محمد لأرسلنا في كلّ مصر ومدينة نذيرا ينذرهم بأسنا على كفرهم بنا ، فيخفّ عنك كثير من أعباء ما حملناك منه ، ويسقط عنك بذلك مؤنة عظيمة ، ولكنا حملناك ثقل نذارة جميع القرى ، لتستوجب بصبرك عليه إن صبرت ما أعدّ الله لك من الكرامة عنده ، والمنازل الرفيعة قِبَله ، فلا تطع الكافرين فيما يدعونك

(19/280)


وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)

إليه من أن تعبد آلهتهم ، فنذيقك ضعف الحياة وضعف الممات ، ولكن جاهدهم بهذا القرآن جهادا كبيرا ، حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله ، ويدينوا به ويذعنوا للعمل بجميعه طوعا وكرها.
وبنحو الذي قلنا في قوله : ( وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، قوله( فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ) قال : بالقرآن.
وقال آخرون في ذلك بما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ) قال : الإسلام. وقرأ( وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) وقرأ( وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) وقال : هذا الجهاد الكبير.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) }
يقول تعالى ذكره : والله الذي خلط البحرين ، فأمرج أحدهما في الآخر ، وأفاضه فيه. وأصل المرج الخلط ، ثم يقال للتخلية مرج ؛ لأن الرجل إذا خلى الشيء حتى اختلط بغيره ، فكأنه قد مرجه ، ومنه الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقوله لعبد الله بن عمرو : " كَيْفَ بِكَ يا عَبْدَ اللهِ إذَا كُنْتَ في حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ ، قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وأماناتُهُمْ ، وصَارُوا هَكَذا وشبَّك بين أصابعه. يعني بقوله : قد مرجت : اختلطت ، ومنه قول الله : ( فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) أي مختلط. وإنما قيل للمرج مرج من ذلك ، لأنه يكون فيه أخلاط من الدوابّ ، ويقال : مَرَجْت دابتك : أي خليتها تذهب حيث شاءت. ومنه قول الراجز :
رَعَى بِهَا مَرَجَ رَبيعٍ مَمْرَج (1)
وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
__________
(1) البيت من مشطور الرجز ، للعجاج الراجز ( ديوانه طبع ليبسك سنة 1093 ص 9 ) وهو البيت الثاني والثمانون من أرجوزته التي مطلعها * ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا *
وضبط ناشره لفظ ممرج ، بضم الميم الأول وكسر الراء ، والصواب ما في اللسان ، ونقلناه عنه ، وهو اسم مكان من مرج الدابة يمرجها ( من باب نصر ) إذا أرسلها ترعى في المرج .

(19/281)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) يعني أنه خلع أحدهما

(19/282)


على الآخر.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) أفاض أحدهما على الآخر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) يقول : خلع أحدهما على الآخر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد( مَرَجَ ) أفاض أحدهما على الآخر.
وقوله( هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ ) الفرات : شديد العذوبة ، يقال : هذا ماء فرات : أي شديد العذوبة وقوله( وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) يقول : وهذا ملح مرّ ، يعني بالعذب الفرات : مياه الأنهار والأمطار ، وبالملح الأجاج : مياه البحار.
وإنما عنى بذلك أنه من نعمته على خلقه ، وعظيم سلطانه ، يخلط ماء البحر العذب بماء البحر الملح الأجاج ، ثم يمنع الملح من تغيير العذب عن عذوبته ، وإفساده إياه بقضائه وقدرته ، لئلا يضرّ إفساده إياه بركبان الملح منهما ، فلا يجدوا ماء يشربونه عند حاجتهم إلى الماء ، فقال جلّ ثناؤه : ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) يعني حاجزا يمنع كل واحد منهما من إفساد الآخر( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) يقول : وجعل كلّ واحد منهما حراما محرّما على صاحبه أن يغيره ويفسده.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) يعني أنه خلع أحدهما على الآخر ، فليس يفسد العذب المالح ، وليس يفسد المالح العذب ، وقوله : ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) قال : البرزخ : الأرض بينهما( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) يعني : حجر أحدهما على الآخر بأمره وقضائه ، وهو مثل قوله( وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ) .
وحدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) قال : محبسا ، قوله : ( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) قال : لا يختلط البحر بالعذب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) قال : حاجزا لا يراه أحد ، لا يختلط العذب في البحر. قال ابن جُرَيج : فلم أجد بحرا عذبا إلا الأنهار العذاب ، فإن دجلة تقع في البحر ، فأخبرني الخبير بها أنها تقع في البحر ، فلا تمور فيه بينهما مثل الخيط الأبيض ، فإذا رجعت لم ترجع في طريقها من البحر ، والنيل يصبّ في البحر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) قال : البرزخ أنهما يلتقيان فلا يختلطان ، وقوله( حِجْرًا مَحْجُورًا ) : أي لا تختلط ملوحة هذا بعذوبة هذا ، لا يبغي أحدهما على الآخر.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) قال : هذا اليبس.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) قال : جعل هذا ملحا أجاجًا ، قال : والأجاج : المرّ.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) يقول : خلع أحدهما على الآخر ، فلا يغير أحدهما طعم الآخر( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) هو الأجل ما بين الدنيا والآخرة( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) جعل الله بين البحرين حجرا ، يقول : حاجزا حجز أحدهما عن الآخر بأمره وقضائه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَجَعَلَ

(19/283)


وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)

بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) وجعل بينهما سترا لا يلتقيان. قال : والعرب إذا كلم أحدهم الآخر بما يكره قال حجرا ، قال : سترا دون الذي تقول.
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في معنى قوله : ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) دون القول الذي قاله من قال معناه : إنه جعل بينهما حاجزا من الأرض أو من اليبس ، لأن الله تعالى ذكره أخبر في أوّل الآية أنه مرج البحرين ، والمرج : هو الخلط في كلام العرب على ما بيَّنت قبل ، فلو كان البرزخ الذي بين العذب الفرات من البحرين ، والملح الأجاج أرضا أو يبسا لم يكن هناك مرج للبحرين ، وقد أخبر جلّ ثناؤه أنه مرجهما ، وإنما عرفنا قدرته بحجزه هذا الملح الأجاج عن إفساد هذا العذب الفرات ، مع اختلاط كلّ واحد منهما بصاحبه. فأما إذا كان كلّ واحد منهما في حيز عن حيز صاحبه ، فليس هناك مرج ، ولا هناك من الأعجوبة ما ينبه عليه أهل الجهل به من الناس ، ويذكرون به ، وإن كان كلّ ما ابتدعه ربنا عجيبا ، وفيه أعظم العبر والمواعظ والحجج البوالغ.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) }
يقول تعالى ذكره : والله الذي خلق من النطف بشرا إنسانا فجعله نسبا ، وذلك سبعة ، وصهرا ، وهو خمسة.
كما حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ) النسب : سبع ، قوله : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ) ... إلى قوله( وَبَنَاتُ الأخْتِ ) والصهر خمس ، قوله : ( وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ) ... إلى قوله( وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ).
وقوله : ( وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ) يقول : وربك يا محمد ذو قدرة على خلق ما يشاء من الخلق ، وتصريفهم فيما شاء وأراد.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) }
يقول تعالى ذكره : ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهة لا تنفعهم ، فتجلب

(19/284)


إليهم نفعا إذا هم عبدوها ، ولا تضرّهم إن تركوا عبادتها ، ويتركون عبادة من أنعم عليهم هذه النعم التي لا كفاء لأدناها ، وهي ما عدّد علينا جلّ جلاله في هذه الآيات من قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) إلى قوله : ( قَدِيرًا ) ، ومن قدرته القدرة التي لا يمتنع عليه معها شيء أراده ، ولا يتعذّر عليه فعل شيء أراد فعله ، ومن إذا أراد عقاب بعض من عصاه من عباده أحلّ به ما أحلّ بالذين وصف صفتهم من قوم فرعون وعاد وثمود وأصحاب الرّسّ ، وقرونا بين ذلك كثيرا ، فلم يكن لمن غضب عليه منه ناصر ، ولا له عنه دافع( وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) يقول تعالى ذكره : وكان الكافر معينا للشيطان على ربه ، مظاهرا له على معصيته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد( وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) قال : يظاهر الشيطان على معصية الله بعينه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) قال : معينا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله. قال ابن جُرَيج : أبو جهل معينا ظاهر الشيطان على ربه.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : ( وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) قال : عونا للشيطان على ربه على المعاصي.
حدثني يونس. قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) قال : على ربه عوينا. والظهير : العوين. وقرأ قول الله : ( فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ) قال : لا تكونن لهم عوينا. وقرأ أيضا قول الله : ( وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ ) قال : ظاهروهم : أعانوهم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) يعني : أبا الحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبا جهل بن هشام.

(19/285)


وقد كان بعضهم يوجه معنى قوله : ( وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) أي وكان الكافر على ربه هينا ، من قول العرب : ظهرت به ، فلم ألتفت إليه ، إذا جعله خلف ظهره فلم يلتفت إليه ، وكأنّ الظهير كان عنده فعيل صرف من مفعول إليه من مظهور به ، كأنه قيل : وكان الكافر مظهورا به. والقول الذي قلناه هو وجه الكلام ، والمعنى الصحيح ، لأن الله تعالى ذكره أخبر عن عبادة هؤلاء الكفار من دونه ، فأولى الكلام أن يتبع ذلك ذمه إياهم ، وذمّ فعلهم دون الخبر عن هوانهم على ربهم ، ولم يجر لاستكبارهم عليه ذكر ، فيتبع بالخبر عن هوانهم عليه.

(19/286)


وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (57) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ ) يا محمد إلى من أرسلناك إليه( إِلا مُبَشِّرًا ) بالثواب الجزيل ، من آمن بك وصدّقك ، وآمن بالذي جئتهم به من عندي ، وعملوا به( وَنَذِيرًا ) من كذّبك وكذّب ما جئتهم به من عندي ، فلم يصدّقوا به ، ولم يعملوا( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) يقول له : قل لهؤلاء الذين أرسلتك إليهم ، ما أسألكم يا قوم على ما جئتكم به من عند ربي أجرا ، فتقولون : إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه ، فلا نتبعه فيه ، ولا نعطيه من أموالنا شيئا ، ( إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ) يقول : لكن من شاء منكم اتخذ إلى ربه سبيلا طريقا بإنفاقه من ماله في سبيله ، وفيما يقربه إليه من الصدقة والنفقة في جهاد عدوّه ، وغير ذلك من سبل الخير.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) }
يقول تعالى ذكره : وتوكل يا محمد على الذي له الحياة الدائمة التي لا موت معها ، فثق به في أمر ربك وفوّض إليه ، واستسلم له ، واصبر على ما نابك فيه. قوله : ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) يقول : واعبده شكرا منك له على ما أنعم به عليك. قوله : ( وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ

(19/286)


الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)

خَبِيرًا ) يقول : وحسبك بالحي الذي لا يموت خابرا بذنوب خلقه ، فإنه لا يخفى عليه شيء منها ، وهو محص جميعها عليهم حتى يجازيهم بها يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) }
يقول تعالى ذكره : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ )( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) فقال : ( وَمَا بَيْنَهُمَا ) وقد ذكر السماوات والأرض ، والسماوات جماع ، لأنه وجه ذلك إلى الصنفين والشيئين ، كما قال القطامي :
ألَمْ يَحْزُنْكَ أنَّ حِبالَ قَيْسٍ... وتَغْلِبَ قَدْ تَبايَنَتا انقِطاعا (1)
يريد : وحبال تغلب فثنى ، والحبال جمع ، لأنه أراد الشيئين والنوعين.
وقوله : ( فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) قيل : كان ابتداء ذلك يوم الأحد ، والفراغ يوم الجمعة( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ ) يقول : ثم استوى على العرش الرحمن وعلا عليه ، وذلك يوم السبت فيما قيل. وقوله : ( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) يقول : فاسأل يا محمد خبيرا بالرحمن ، خبيرا بخلقه ، فإنه خالق كلّ شيء ، ولا يخفى عليه ما خلق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) قال : يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم : إذا أخبرتك شيئا ، فاعلم أنه كما أخبرتك ، أنا الخبير ، والخبير في قوله : ( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) منصوب على الحال من الهاء التي في قوله به.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا
__________
(1) البيت للقطامي ، وقد سبق الكلام عنه مفصلا ، والشاهد فيه هنا : أن الشاعر قال : " تباينتا " بالتثنية ، مع أن حبال جمع حبل . والمسوغ لذلك : أن حبال قيس جماعة ، وحبال تغلب جماعة أخرى ، فعاملهما في إعادة الضمير عليهما معاملة المفردين ، ومثله في القرآن : { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما} لأنه وجه ذلك إلى الصفتين .

(19/287)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)

وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) }
يقول تعالى ذكره : وإذا قيل لهؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم : ( اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ ) أي اجعلوا سجودكم لله خالصا دون الآلهة والأوثان. قالوا : ( أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ).
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : ( لِمَا تَأْمُرُنَا ) بمعنى : أنسجد نحن يا محمد لما تأمرنا أنت أن نسجد له. وقرأته عامة قرّاء الكوفة " لمَا يَأْمُرُنا " بالياء ، بمعنى : أنسجد لما يأمر الرحمن ، وذكر بعضهم أن مُسيلمة كان يُدعى الرحمن ، فلما قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم اسجدوا للرحمن ، قالوا : أنسجد لما يأمرنا رحمن اليمامة ؟ يعنون مُسَيلمة بالسجود له.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان مستفيضتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحد منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله : ( وَزَادَهُمْ نُفُورًا ) يقول : وزاد هؤلاء المشركين قول القائل لهم : اسجدوا للرحمن من إخلاص السجود لله ، وإفراد الله بالعبادة بعدا مما دعوا إليه من ذلك فرارا.
القول في تأويل قوله تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) }
يقول تعالى ذكره : تقدّس الربّ الذي جعل في السماء بروجا ، ويعني بالبروج : القصور ، في قول بعضهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن العلاء ومحمد بن المثنى وسلم بن جنادة ، قالوا : ثنا عبد الله بن إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن عطية بن سعد ، في قوله : ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال : قصورا في السماء ، فيها الحرس.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثني أبو معاوية ، قال : ثني إسماعيل ، عن يحيى بن رافع ، في قوله : ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال : قصورا في السماء.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم( جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال : قصورًا في السماء.

(19/288)


حدثني إسماعيل بن سيف ، قال : ثني عليّ بن مسهر ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، في قوله : ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال : قصورا في السماء فيها الحرس.
وقال آخرون : هي النجوم الكبار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن المثنى ، قال : ثنا يعلى بن عبيد ، قال : ثنا إسماعيل ، عن أبي صالح( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال : النجوم الكبار.
قال : ثنا الضحاك ، عن مخلد ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : الكواكب.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( بُرُوجًا ) قال : البروج : النجوم.
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : هي قصور في السماء ، لأن ذلك في كلام العرب( وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) وقول الأخطل :
كَأَنَّهَا بُرْجُ رُوميّ يُشَيِّدُهُ... بانٍ بِجِصّ وآجُر وأحْجارِ (1)
يعني بالبرج : القصر.
قوله : ( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا ) اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا ) على التوحيد ، ووجهوا تأويل ذلك إلى أنه جعل فيها الشمس ، وهي السراج التي عني عندهم بقوله : ( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا ).
كما حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : ( وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ) قال : السراج : الشمس.
وقرأته عامة قرّاء الكوفيين " وَجَعَلَ فِيها سُرُجا " على الجماع ، كأنهم وجهوا تأويله : وجعل فيها نجوما( وَقَمَرًا مُنِيرًا ) وجعلوا النجوم سرجا إذ كان يهتدي بها.
__________
(1) البيت للأخطل كما قال المؤلف . والبرج : المراد به القصر كما قاله . وقد كثر في كلام العرب تشبيه إبل السفر القوية الموثقة الخلق بأبنية الرومي ، ومن ذلك قول طرفة في وصف ناقته : كَقَنْطَرَةِ الرُّوميّ أقسَمَ رَبُّهَا ... لَتُكْتَفَنْ حَتَى تُشَادَ بِقَرْمَدِ
والبيت شاهد على أن البرج معناه : القصر .

(19/289)


وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار ، لكل واحدة منهما وجه مفهوم ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله : ( وَقَمَرًا مُنِيرًا ) يعني بالمنير : المضيء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) فقال بعضهم : معناه : أن الله جعل كل واحد منهما خلفًا من الآخر ، في أن ما فات أحدهما من عمل يعمل فيه لله ، أدرك قضاؤه في الآخر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية ، عن شقيق قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : فاتتني الصلاة الليلة ، فقال : أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك ، فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر ، أو أراد شكورا.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) يقول : من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار ، أو من النهار أدركه بالليل.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : ( جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال : جعل أحدهما خلفا للآخر ، إن فات رجلا من النهار شيء أدركه من الليل ، وإن فاته من الليل أدركه من النهار.
وقال آخرون : بل معناه أنه جعل كل واحد منهما مخالفا صاحبه ، فجعل هذا أسود وهذا أبيض.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال : أسود وأبيض.

(19/290)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، قال : ثنا سفيان ، عن عمر بن قيس بن أبي مسلم الماصر ، عن مجاهد( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال : أسود وأبيض.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن كل واحد منهما يخلف صاحبه ، إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب هذا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : ثنا قيس ، عن عمر بن قيس الماصر ، عن مجاهد ، قوله : ( جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال : هذا يخلف هذا ، وهذا يخلف هذا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) قال : لو لم يجعلهما خلفة لم يدر كيف يعمل ، لو كان الدهر ليلا كله كيف يدري أحد كيف يصوم ، أو كان الدهر نهارا كله كيف يدري أحد كيف يصلي. قال : والخلفة : مختلفان ، يذهب هذا ويأتي هذا ، جعلهما الله خلفة للعباد ، وقرأ( لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) والخلفة : مصدر ، فلذلك وحدت ، وهي خبر عن الليل والنهار; والعرب تقول : خلف هذا من كذا خلفة ، وذلك إذا جاء شيء مكان شيء ذهب قبله ، كما قال الشاعر :
وَلهَا بالمَاطِرُونَ إذَا... أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَا خِلْفَةٌ حَتَّى إذَا ارْتَبَعَتْ... سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا (1)
__________
(1) البيتان ليزيد بن معاوية من مقطوعة له ذكرها صاحب ( خزانة الأدب الكبرى 3 : 278 - 280) قالها متغزلا في امرأة نصرانية كانت قد ترهبت في دير عند الماطرون وهو بستان بظاهر دمشق . وفي الأبيات " خرفة " في موضع " خلفة " وخرافة بضم الخاء : ما يخترف ويجتنى ، وهذه رواية المبرد في الكامل .
ورواية المؤلف موافقة لرواية صاحب العباب ، وكذلك رواها العيني عن أبي القوطية قال : الرواية : هي الخلفة باللام ، وهو ما يطلع من الثمر بعد الثمر الطيب . قال البغدادي : والجيد عندي رواية الخلفة ، على أنها اسم من الاختلاف ، أي التردد . وارتبعت : دخلت في الربيع . ويروى : ربعت ، بمعناه . ويروى : ذكرت : بدل سكنت ، وجلق : مدينة بالشام ، والبيع : جمع بيعة بكسر الباء ، وهي متعبد . قال الجوهري وصاحبا العباب ، والمصباح : هي للنصارى ، وقال العيني : البيعة : لليهود ، والكنيسة للنصارى ، وهذا لا يناسب قوله إن الشعر في نصرانية . ومعنى البيتين : إن لهذه المرأة ترددًا إلى الماطرون في الشتاء ، فإن النمل يخزن الحب في الصيف ، ليأكله في الشتاء ؛ وإذا دخلت في أيام الربيع ارتحلت إلى البيع التي بجلق . ا ه. وأورد المؤلف الشعر شاهدًا على معنى الخلفة كما شرحه البغدادي .

(19/291)


وكما قال زهير :
بِهَا العِيْنُ والآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً... وأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلّ مَجْثَمِ (1)
يعني بقوله : يمشين خلفة : تذهب منها طائفة ، وتخلف مكانها طائفة أخرى. وقد يحتمل أن زُهَيرا أراد بقوله : خلفة : مختلفات الألوان ، وأنها ضروب في ألوانها وهيئاتها. ويحتمل أن يكون أراد أنها تذهب في مشيها كذا ، وتجيء كذا.
وقوله( لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ) يقول تعالى ذكره : جعل الليل والنهار ، وخلوف كل واحد منهما الآخر حجة وآية لمن أراد أن يذكَّر أمر الله ، فينيب إلى الحق( أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) أو أراد شكر نعمة الله التي أنعمها عليه في اختلاف الليل والنهار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) قال : شكر نعمة ربه عليه فيهما.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ ) ذاك آية له( أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) قال : شكر نعمة ربه عليه فيهما.
واختلف القرّاء في قراءة قوله : ( يَذَّكَّرَ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : ( يَذَّكَّرَ ) مشددة ، بمعنى يتذكر. وقرأه عامة قرّاء الكوفيين : " يَذْكُرَ "
__________
(1) البيت من معلقة زهير بن أبي سلمى ( مختار شعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ص 228) قال شارحه : العين : جمع عيناء ، بقر الوحش . والآرام : جمع رئم ، وهو الظبي الخالص البياض . وخلفة : يخلف بعضها بعضًا . والأطلاء : جمع الطلا ، وهو الولد من ذوات الظلف. والمجثم : المربض ، والشاهد في البيت عند المؤلف في قوله " خلفة " كما في الشاهد الذي قبله : أي يذهب بعضها ويخلفه بعض .

(19/292)


وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)

مخففة ، وقد يكون التشديد والتخفيف في مثل هذا بمعنى واحد. يقال : ذكرت حاجة فلان وتذكرتها.
والقول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب فيهما.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) }
يقول تعالى ذكره : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) بالحلم والسكينة والوقار غير مستكبرين ، ولا متجبرين ، ولا ساعين فيها بالفساد ومعاصي الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أنهم اختلفوا ، فقال بعضهم : عنى بقوله : ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) أنهم يمشون عليها بالسكينة والوقار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال : بالوقار والسكينة.
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد : ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال : بالحلم والوقار.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال ثنا عيسى; وحدثني الحارث; قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال : بالوقار والسكينة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) بالوقار والسكينة.
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : ثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد وعبد الرحمن( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قالا بالسكينة والوقار.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن شريك ، عن جابر ، عن عمار ، عن

(19/293)


عكرمة ، في قوله : ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال : بالوقار والسكينة.
قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن أيوب ، عن عمرو الملائي( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال : بالوقار والسكينة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهم يمشون عليها بالطاعة والتواضع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) بالطاعة والعفاف والتواضع.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال : يمشون على الأرض بالطاعة.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : كتب إليّ إبراهيم بن سويد ، قال : سمعت زيد بن أسلم يقول : التمست تفسير هذه الآية( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) فلم أجدها عند أحد ، فأُتيت في النوم فقيل لي : هم الذين لا يريدون يفسدون في الأرض.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أسامة بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، قال : لا يفسدون في الأرض.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال : لا يتكبرون على الناس ، ولا يتجبرون ، ولا يفسدون. وقرأ قول الله( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهم يمشون عليها بالحلم لا يجهلون على من جهل عليهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن في( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال : حلماء ، وإن جُهِلَ عليهم لم يجهلوا.

(19/294)


حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال : حلماء.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال : علماء حلماء لا يجهلون.
وقوله : ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) يقول : وإذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول ، أجابوهم بالمعروف من القول ، والسداد من الخطاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا أبو الأشهب ، عن الحسن( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ) ... الآية ، قال : حلماء ، وإن جُهل عليهم لم يجهلوا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن يحيى بن المختار ، عن الحسن ، في قوله( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) قال : إن المؤمنين قوم ذُلُلٌ ، ذلّت منهم والله الأسماع والأبصار والجوارح ، حتى يحسبهم الجاهل مرضى ، وإنهم لأصحاء القلوب ، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم ، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة ، فقالوا : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ) والله ما حزنهم حزن الدنيا ، ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا به الجنة ، أبكاهم الخوف من النار ، وإنه من لم يتعز بعزاء الله تَقَطَّعَ نفسه على الدنيا حسرات ، ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعم ومشرب ، فقد قلّ علمه وحضر عذابه.
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) قال : سدادا.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) قال : سَدَادا من القول.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوريّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد

(19/295)


وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)

( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) حلماء.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن ، قال : حلماء لا يجهلون ، وإن جُهِل عليهم حلموا ولم يسفهوا ، هذا نهارهم فكيف ليلهم - خير ليل - صفوا أقدامهم ، وأجْرَوا دموعهم على خدودهم يطلبون إلى الله جلّ ثناؤه في فكاك رقابهم.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبادة ، عن الحسن ، قال : حلماء لا يجهلون وإن جهل عليهم حلموا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) }
يقول تعالى ذكره : والذين يبيتون لربهم يصلون لله ، يراوحون بين سجود في صلاتهم وقيام. وقوله : ( وَقِيَامًا ) جمع قائم ، كما الصيام جمع صائم( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ) يقول تعالى ذكره : والذين يدعون الله أن يصرف عنهم عقابه وعذابه حذرا منه ووجلا . وقوله : ( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) يقول : إن عذاب جهنم كان غراما ملحا دائما لازما غير مفارق من عذِّب به من الكفار ، ومهلكا له. ومنه قولهم : رجل مُغْرم ، من الغُرْم والدَّين. ومنه قيل للغريم غَريم لطلبه حقه ، وإلحاحه على صاحبه فيه. ومنه قيل للرجل المولع للنساء : إنه لمغرَم بالنساء ، وفلان مغرَم بفلان : إذا لم يصبر عنه; ومنه قول الأعشى :
إنْ يُعَاقِب يَكُنْ غَرَاما وَإِنْ يُعْـ... ـطِ جَزِيلا فَإِنَّهُ لا يبالي (1)
يقول : إن يعاقب يكن عقابه عقابا لازما ، لا يفارق صاحبه مهلكا له ، وقول
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة ( ديوانه طبع القاهرة ، بشرح الدكتور محمد حسين ، ص 9 ) وهو من قصيدة يمدح بها الأسود بن المنذر اللخمي ، وأولها ما بكاء الكبير بالأطلال
والغرام الشر الدائم ، ومنه قوله تعالى { إن عذابها كان غرامًا } أي هلاكًا ولزامًا لهم . يقول : إن عاقب كان غرامًا ، وإن أعطى لم يبال العذال.

(19/296)


بشر بن أبي خازم :
وَيوْمَ النِّسارِ وَيَوْمَ الجِفا... رِ كَانَ عِقَابًا وَكَانَ غَرَاما (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن الحسن اللاني ، قال : أخبرنا المعافي بن عمران الموصلي ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب في قوله : ( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) قال : إن الله سأل الكفار عن نعمه ، فلم يردّوها إليه ، فأغرمهم ، فأدخلهم النار.
قال : ثنا المعافي ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن ، في قوله : ( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) قال : قد علموا أن كلّ غريم مفارق غريمه إلا غريم جهنم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) قال : الغرام : الشرّ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : ( إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ) قال : لا يفارقه.
وقوله( إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ) يقول : إن جهنم ساءت مستقرًّا ومقاما ، يعني بالمستقرّ : القرار ، وبالمقام : الإقامة; كأن معنى الكلام : ساءت جهنم منزلا
__________
(1) البيت لبشر بن أبي خازم كما قال المؤلف . وفي اللسان نسبه للطرماح . قال : والغرام : اللازم من العذاب ، والشر الدائم ، والبلاء ، والحب ، والعشق ، وما لا يستطاع أن يتفصى منه ، وقال الزجاج : هو أشد العذاب في اللغة . قال الله عز وجل : { إن عذابها كان غرامًا } ، وقال الطرماح : " ويوم النسار .. . " البيت . وقوله عز وجل : { إن عذابها كان غرامًا } : أي ملحًا دائمًا ملازمًا . وفي معجم ما استعجم للبكري (طبعة القاهرة ص 385) الجفار : بكسر أوله ، وبالراء المهملة : موضع بنجد ، وهو الذي عنى بشر بن أبي خازم بقوله : " ويوم الجفار .. . " البيت . وقال أبو عبيدة : الجفار : في بلاد بني تميم . وقال البكري في رسم النسار : النسار ، بكسر أوله : على لفظ الجمع ، وهي أجبل صغار ، شبهت بأنسر واقعة ، وذكر ذلك أبو حاتم . وقال في موضع آخر : هي ثلاث قارات سود ، تسمى الأنسر . وهناك أوقعت طيئ وأسد وغطفان ، وهم حلفاء لبني عامر وبني تميم ، ففرت تميم ، وثبتت بنو عامر ، فقتلوهم قتلا شديدًا ؛ فغضبت بنو تميم لبني عامر ، فتجمعوا ولقوهم يوم الجفار ، فلقيت أشد مما لقيت بنو عامر ، فقال بشر ابن أبي خازم : غَضِبَتْ تَمِيمٌ أنْ تُقْتَّلَ عَامِر ... يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْقِبُوا بِالصَّيْلَمِ
قلت : الصيلم : الداهية المستأصلة . وفي رواية : فأعتبوا

(19/297)


وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)

ومقاما. وإذا ضمت الميم من المقام فهو من الإقامة ، وإذا فتحت فهو من قمت ، ويقال : المقام إذا فتحت الميم أيضا هو المجلس ، ومن المُقام بضمّ الميم بمعنى الإقامة ، قول سلامة بن جندل :
يَوْمانِ : يَوْمُ مُقَاماتٍ وأَنْدِيَةٍ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إلى الأعْداءِ تَأوِيبَ (1)
ومن المُقام الذي بمعنى المجلس ، قول عباس بن مرداس :
فأيِّي ما وأيُّكَ كانَ شَرًّا... فقِيدَ إلى المَقَامَة لا يَرَاها (2)
يعني : المجلس.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) }
يقول تعالى ذكره : والذين إذا أنفقوا أموالهم لم يسرفوا في إنفاقها.
ثم اختلف أهل التأويل في النفقة التي عناها الله في هذا الموضع ، وما الإسراف فيها والإقتار. فقال بعضهم : الإسراف ما كان من نفقة في معصية الله وإن قلت : قال : وإياها عني الله ، وسماها إسرافا. قالوا : والإقتار : المنع من حقّ الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) قال : هم المؤمنون لا يسرفون فينفقون في معصية الله ، ولا يُقترون فيمنعون حقوق الله تعالى.
__________
(1) البيت لسلامة بن جندل ، كما قال المؤلف . ( وانظر اللسان : أوب ) . والمقامات جمع مقامة ، بمعنى الإقامة ، والتأويب في كلام العرب : سير النهار كله إلى الليل . يقول : إننا نمضي حياتنا على هذا النحو : نجعل يوماً للإقامة ، يجتمع أولو الرأي فينا في أنديتهم ومجالسهم ، ليتشاوروا ويدبروا أمر القبيلة ؛ واليوم الآخر نجعله للإغارة على الأعداء نشنها عليهم ، ولو سرنا إليهم النهار كله فما نبالي ، لأننا أهل عزة ومنعة . واستشهد به المؤلف عند قوله تعالى في صفة جهنم : { إنها ساءت مستقرًا ومقامًا } أي إقامة .
(2) البيت لعباس بن مرداس ، أنشده ابن بري في ( اللسان : قوم ) وهو شاهد على أن المقام والمقامة ، بفتح الميم : المجلس . وقال البغدادي في الخزانة ( 2 : 230 ) يدعو على الشر منهما ، أي من كان منا شرَّا أعماه الله في الدنيا ، فلا يبصر حتى يقاد إلى مجلسه . وقال شارح اللباب : أي قيد إلى مواضع إقامة الناس وجمعهم في العرصات لا يراها ، أي قيد أعمى لا يرى المقامة . والبيت من جملة أبيات للعباس بن مرداس السلمي ، قالها لخفاف بن ندبه في أمر شجر بينهما .

(19/298)


حدثنا أبو كُريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله ما كان سرفا ، ولو أنفقت صاعا فى معصية الله كان سرفا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) قال : في النفقة فيما نهاهم وإن كان درهما واحدا ، ولم يقتروا ولم يُقصِّروا عن النفقة في الحق.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) قال : لم يسرفوا فينفقوا في معاصي الله كلّ ما أنفق في معصية الله ، وإن قلّ فهو إسراف ، ولم يقتروا فيمسكوا عن طاعة الله. قال : وما أُمْسِكَ عن طاعة الله وإن كثر فهو إقتار.
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني إبراهيم بن نشيط ، عن عمر مولى غُفرة أنه سئل عن الإسراف ما هو ؟ قال : كلّ شيء أنفقته في غير طاعة الله فهو سرف.
وقال آخرون : السرف : المجاوزة في النفقة الحدّ ، والإقتار : التقصير عن الذي لا بدّ منه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عبد السلام بن حرب ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قوله : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) قال : لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف.
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن يزيد بن خنيس أبو عبد الله المخزومي المكي ، قال : سمعت وهيب بن الورد أبا الورد مولى بني مخزوم ، قال : لقي عالم عالما هو فوقه في العلم ، فقال : يرحمك الله أخبرني عن هذا البناء الذي لا إسراف فيه ما هو ؟ قال : هو ما سترك من الشمس ، وأكنك من المطر ، قال : يرحمك الله ، فأخبرني عن هذا الطعام الذي نصيبه لا إسراف فيه ما هو ؟ قال : ما سدّ الجوع ودون الشبع ، قال : يرحمك الله ، فأخبرني عن هذا اللباس الذي لا إسراف فيه ما هو ؟ قال : ما ستر عورتك ، وأدفأك من البرد.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن شريح ،

(19/299)


عن يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا ) ... الآية ، قال : كانوا لا يلبسون ثوبا للجمال ، ولا يأكلون طعاما للذّة ، ولكن كانوا يريدون من اللباس ما يسترون به عورتهم ، ويكتَنُّون به من الحرّ والقرّ ، ويريدون من الطعام ما سدّ عنهم الجوع ، وقواهم على عبادة ربهم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن يزيد بن مرّة الجعفي. قال : العلم خير من العمل ، والحسنة بين السيئتين ، يعني : إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ، وخير الأعمال أوساطها.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : ثنا كعب بن فروخ ، قال : ثنا قتادة ، عن مطرِّف بن عبد الله ، قال : خير هذه الأمور أوساطها ، والحسنة بين السيئتين. فقلت لقتادة : ما الحسنة بين السيئتين ؟ فقال : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) ... الآية.
وقال آخرون : الإسراف هو أن تأكل مال غيرك بغير حق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا سالم بن سعيد ، عن أبي مَعْدان ، قال : كنت عند عون بن عبد الله بن عتبة ، فقال : ليس المسرف من يأكل ماله ، إنما المسرف من يأكل مال غيره.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، قول من قال : الإسراف في النفقة الذي عناه الله في هذا الموضع : ما جاوز الحدّ الذي أباحه الله لعباده إلى ما فوقه ، والإقتار : ما قصر عما أمر الله به ، والقوام : بين ذلك.
وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن المسرف والمقتر كذلك ، ولو كان الإسراف والإقتار في النفقة مرخصا فيهما ما كانا مذمومين ، ولا كان المسرف ولا المقتر مذموما ، لأن ما أذن الله في فعله فغير مستحقّ فاعله الذمّ.
فإن قال قائل : فهل لذلك من حدّ معروف تبينه لنا ؟ قيل : نعم ذلك مفهوم في كلّ شيء من المطاعم والمشارب والملابس والصدقة وأعمال البرّ وغير ذلك ، نكره تطويل الكتاب بذكر كلّ نوع من ذلك مفصلا غير أن جملة ذلك هو ما بيَّنا وذلك نحو أكل آكل من الطعام فوق الشبع ما يضعف بدنه ، وينهك قواه ويشغله عن طاعة

(19/300)


ربه ، وأداء فرائضه ؛ فذلك من السرف ، وأن يترك الأكل وله إليه سبيل حتى يضعف ذلك جسمه وينهك قواه ويضعفه عن أداء فرائض ربه ؛ فذلك من الإقتار وبين ذلك القوام على هذا النحو ، كل ما جانس ما ذكرنا ، فأما اتخاذ الثوب للجمال يلبسه عند اجتماعه مع الناس ، وحضوره المحافل والجمع والأعياد دون ثوب مهنته ، أو أكله من الطعام ما قوّاه على عبادة ربه ، مما ارتفع عما قد يسدّ الجوع ، مما هو دونه من الأغذية ، غير أنه لا يعين البدن على القيام لله بالواجب معونته ، فذلك خارج عن معنى الإسراف ، بل ذلك من القوام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ببعض ذلك ، وحضّ على بعضه ، كقوله : " مَا عَلى أحَدِكُمْ لَوْ اتَّخَذَ ثَوْبَيْنِ : ثَوْبًا لِمِهْنَتِهِ ، وَثَوْبًا لجُمْعَتِهِ وَعِيدِه " وكقوله : " إذَا أنْعَمَ اللهُ عَلَى عبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ " وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد بيَّناها في مواضعها.
وأما قوله : ( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) فإنه النفقة بالعدل والمعروف على ما قد بيَّنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي سليمان ، عن وهب بن منبه ، في قوله : ( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) قال : الشطر من أموالهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) النفقة بالحقّ.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) قال : القوام : أن ينفقوا في طاعة الله ، ويمسكوا عن محارم الله.
قال : أخبرني إبراهيم بن نشيط ، عن عمر مولى غُفْرة ، قال : قلت له : ما القوام ؟ قال : القوام : أن لا تنفق في غير حقّ ، ولا تمسك عن حقّ هو عليك. والقوام في كلام العرب ، بفتح القاف ، وهو الشيء بين الشيئين. تقول للمرأة المعتدلة الخلق : إنها لحسنة القوام في اعتدالها ، كما قال الحطيئة :
طَافَتْ أُمَامَةُ بالرُّكْبانِ آونَةً... يا حُسْنَهُ مِنْ قَوَام ما وَمُنْتَقَبا (1)
__________
(1) البيت للحطيئة : وآونة : جمع أوان . والقوام : حسن الطول . والمنتقب : مصدر ميمي بمعنى الانتقاب . يقول : إن أمامة كانت أحيانًا تطوف بالركبان ، فما أعدل قوامها ، وأحسن نقبتها . والنقاب : ما وضع على مارن الأنف من أغطية الوجه . والنقبة : هيئة الانتقاب به ، يقال : إن فلانة لحسنة النقبة . ويكون معنى القوام كذلك : الشيء الوسط بين الشيئين . وقد حمل عليه المؤلف معنى البيت .

(19/301)


فأما إذا كسرت القاف فقلت : إنه قِوام أهله ، فإنه يعني به : أن به يقوم أمرهم وشأنهم. وفيه لغات أُخَر ، يقال منه : هو قيام أهله وقيّمهم في معنى قوامهم. فمعنى الكلام : وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواما معتدلا لا مجاوزة عن حد الله ، ولا تقصيرا عما فرضه الله ، ولكن عدلا بين ذلك على ما أباحه جلّ ثناؤه ، وأذن فيه ورخص.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( وَلَمْ يَقْتُرُوا ) فقرأته عامة قرّاء المدينة " ولمْ يُقْتروا " بضم الياء وكسر التاء من أقتر يَقْتِر. وقرأته عامة قرّاء الكوفيين( وَلَمْ يَقْتُرُوا ) بفتح الياء وضم التاء من قتر يَقْتُر. وقرأته عامة قرّاء البصرة " وَلمْ يَقْتِروا " بفتح الياء وكسر التاء من قتر يَقْتِر.
والصواب من القول في ذلك ، أن كل هذه القراءات على اختلاف ألفاظها لغات مشهورات في العرب ، وقراءات مستفيضات وفي قرّاء الأمصار بمعنى واحد ، فبأيتها قرأ القارئ فمصيب.
وقد بيَّنا معنى الإسراف والإقتار بشواهدهما فيما مضى في كتابنا في كلام العرب ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وفي نصب القَوام وجهان : أحدهما ما ذكرت ، وهو أن يجعل في كان اسم الإنفاق بمعنى : وكان إنفاقهم ما أنفقوا بين ذلك قواما : أي عدلا والآخر أن يجعل بين هو الاسم ، فتكون وإن كانت في اللفظة نصبا في معنى رفع ، كما يقال : كان دون هذا لك كافيا ، يعني به : أقلّ من هذا كان لك كافيا ، فكذلك يكون في قوله : ( وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) لأن معناه : وكان الوسط من ذلك قواما.

(19/302)


وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)

(19/302)


إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)

إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) }
يقول تعالى ذكره : والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر ، فيشركون في عبادتهم إياه ، ولكنهم يخلصون له العبادة ويفردونه بالطاعة( وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ) قتلها( إِلا بِالْحَقِّ ) إما بكفر بالله بعد إسلامها ، أو زنا بعد إحصانها ، أو قتل نفس ، فتقتل بها( وَلا يَزْنُونَ ) فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ) يقول : ومن يأت هذه الأفعال ، فدعا مع الله إلها آخر ، وقتل النفس التي حرّم الله بغير الحق ، وزنى( يَلْقَ أَثَامًا ) يقول : يلق من عقاب الله عقوبة ونكالا كما وصفه ربنا جلّ ثناؤه ، وهو أنه( يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) ، ومن الأثام قول بَلْعَاءَ بن قيس الكناني :
جَزَى اللهُ ابْنَ عُرْوَةَ حيْثُ أمْسَى... عُقُوقا والعُقُوقُ لَهُ أثامُ (1)
يعني بالأثام : العقاب.
وقد ذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل قوم من المشركين أرادوا الدخول في الإسلام ، ممن كان منه في شركه هذه الذنوب ، فخافوا أن لا ينفعهم مع ما سلف منهم من ذلك إسلام ، فاستفتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية ، يعلمهم أن الله قابل توبة من تاب منهم.
__________
(1) البيت لبلعام بن قيس بن ربيعة بن عبد الله بن يعمر ، واسمه حميضة وهو من كنانة بن خزيمة ، وكان بلعاء رأس بني كنانة في أكثر حروبهم ومغازيهم ، وكان كثير الغارات على العرب ، وله أخبار في حروب الفجار . وهو شاعر محسن ، قال في كل فن أشعاراً جيادًا ( انظر المؤتلف والمختلف 106 ومعجم الشعراء للمرزباني 357 ) . والبيت أنشده صاحب ( اللسان : أثم ) ونسبه إلى شافع الليثي . ونسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن إلى بلعاء بن قيس الكناني ، وعنه أخذ المؤلف قال في اللسان : " قال أبو إسحاق : تأويل الأثام : المجازاة وفال أبو عمرو الشيباني : لقي فلان أثام ذلك : أي جزاء ذلك ، فإن الخليل وسيبويه يذهبان إلى أن معناه : يلقى جزاء الأثام . وقول شافع الليثي في ذلك جزى الله ابن عروة ...... ... .............. له أثام "
أي عقوبة مجازاة العقوق ، وهي قطيعة الرحم . وقال الليث : الأثام في جملة التفسير عقوبة الإثم . وقيل في قوله تعالى {يلق أثاما} قيل : هو واد في جهنم . قال ابن سيده : والصواب عندي : أن معناه : يلق عقاب الأثام. ا هـ .

(19/303)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : ثني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك قَتَلُوا فأكثروا ، فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن الذي تدعونا إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ) ونزلت : ( قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) إلى قوله : ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) قال ابن جُرَيج : وقال مجاهد مثل قول ابن عباس سواء.
حدثنا عبد الله بن محمد الفريابي ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي معاوية ، عن أبي عمرو الشيباني ، عن عبد الله ، قال : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما الكبائر ؟ قال : أنْ تَدْعُوَ للهِ نِدّا وهُوَ خَلَقَكَ وأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأَكُلَ مَعَكَ ، وأنْ تَزْنِي بِحَلِيلَةِ جَارِكَ ، وقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا سفيان عن الأعمش ومنصور ، عن أبي وائل ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن عبد الله ، قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ أنْ تَجْعَلَ للهِ نِدّا وهُوَ خَلَقَكَ ، قلت : ثم أي ؟ قال : أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأَكُلَ مَعَكَ ، قلت : ثم أي ؟ قال : أنْ تُزَاني حَلِيلَةِ جَارِكَ " فأنزل تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ) " ... الآية.
حدثنا سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا عليّ بن قادم ، قال : ثنا أسباط بن نصر الهمداني ، عن منصور ، عن أبي وائل ، عن أبي ميسرة ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، قال : ثني عمي يحيى بن عيسى ،

(19/304)


عن الأعمش ، عن سفيان ، عن عبد الله قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الذنب أكبر ؟ ثم ذكر نحوه.
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : ثنا عامر بن مدرك ، قال : ثنا السريّ - يعني ابن إسماعيل - قال : ثنا الشعبي ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فاتبعته ، فجلس على نشَز من الأرض ، وقعدت أسفل منه ، ووجهي حيال ركبتيه ، فاغتنمت خلوته وقلت : بأبي وأمي يا رسول الله ، أي الذنوب أكبر ؟ قال : " أنْ تَدْعُوَ للهِ نِدّا وهُوَ خَلَقَكَ. قلت : ثم مه ؟ قال : " أنْ تَقْتَلَ وَلَدَكَ كَرَاهِيَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ " . قلت : ثم مه ؟ قال : " أنْ تُزَانِي حَلِيلَةِ جَارِكَ " ، ثم تلا هذه الآية : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) ... إلى آخر الآية.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن منصور ، قال : ثني سعيد بن جُبير ، أو حُدثت عن سعيد بن جُبير ، أن عبد الرحمن بن أبزى أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين التي في النساء( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ) ... إلى آخر الآية ، والآية التي في الفرقان( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ) إلى( وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) قال ابن عباس : إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره ، ثم قتل مؤمنا متعمدا ، فلا توبة له ، والتي في الفرقان لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة : فقد عدلنا بالله ، وقتلنا النفس التي حرّم الله بغير الحقّ ، فما ينفعنا الإسلام ؟ قال : فنزلت( إِلا مَنْ تَابَ ) قال : فمن تاب منهم قُبل منه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، قال : ثني سعيد بن جبير ، أو قال : حدثني الحكم عن سعيد بن جُبير ، قال : أمرني عبد الرحمن بن أبزي ، فقال : سل ابن عباس ، عن هاتين الآيتين ، ما أمرهما عن الآية التي في الفرقان( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ) الآية ، والتي في النساء( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ) فسألت ابن عباس عن ذلك ، فقال : لما أنزل الله التي في الفرقان ، قال مشركو أهل مكة : قد قتلنا النفس التي حرّم الله ، ودعونا مع الله إلها آخر ، فقال : ( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) الآية. فهذه لأولئك. وأما التي في النساء( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ) ... الآية ، فإن الرجل إذا عرف الإسلام ، ثم قتل مؤمنا متعمدا ، فجزاؤه جهنم ، فلا توبة له. فذكرته لمجاهد ،

(19/305)


فقال : إلا من ندم.
حدثنا محمد بن عوف الطائي ، قال : ثنا أحمد بن خالد الذهني ، قال : ثنا شيبان ، عن منصور بن المعتمر ، قال : ثني سعيد بن جُبير ، قال لي سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى : سل ابن عباس ، عن هاتين الآيتين عن قول الله : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) ... إلى( مَنْ تَابَ ) وعن قوله( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ) ... إلى آخر الآية ، قال : فسألت عنها ابن عباس ، فقال : أنزلت هذه الآية في الفرقان بمكة إلى قوله( وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) فقال المشركون : فما يغني عنا الإسلام ، وقد عدلنا بالله ، وقتلنا النفس التي حرّم الله ، وأتينا الفواحش ، قال : فأنزل الله( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) ... إلى آخر الآية ، قال : وأما من دخل في الإسلام وعقله ، ثم قتل ، فلا توبة له.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال في هذه الآية( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ) ... الآية ، قال : نزلت في أهل الشرك.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن سعيد بن جُبير ، قال : أمرني عبد الرحمن بن أبزي أن أسأل ابن عباس عن هذه الآية( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) فذكر نحوه.
حدثني عبد الكريم بن عمير ، قال : ثنا إبراهيم بن المنذر ، قال : ثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان ، مَولى لبني الديل من أهل المدينة ، عن فليح الشماس ، عن عبيد بن أبي عبيد ، عن أبي هريرة ، قال : " صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العَتَمة ، ثم انصرفت فإذا امرأة عند بابي ، ثم سلمت ، ففتحت ودخلت ، فبينا أنا في مسجدي أصلي ، إذ نقرت الباب ، فأذنت لها ، فدخلت فقالت : إني جئتك أسألك عن عمل عملت ، هل لي من توبة ؟ فقالت : إني زنيت وولدت ، فقتلته ، فقلت : ولا لا نعمت العين ولا كرامة ، فقامت وهي تدعو بالحسرة تقول : يا حسرتاه ، أخُلق هذا الحسن للنار ؟ قال : ثم صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح من تلك الليلة ، ثم جلسنا ننتظر الإذن عليه ، فأذن لنا ، فدخلنا ، ثم خرج من كان معي ، وتخلفت ، فقال : مَا لَكَ يا أبا هُرَيْرَةَ ، ألَكَ حَاجَة ؟ فقلت له : يا رسول الله صليت معك البارحة ثم

(19/306)


انصرفت. وقصصت عليه ما قالت المرأة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما قُلْت لَهَا ؟ قال : قلت لها : لا والله ، ولا نعمت العين ولا كرامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بِئسَ مَا قُلتَ ، أمَا كُنْتَ تَقْرَأ هذِهِ الآية( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ) ... الآية( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) فقال أبو هريرة : فخرجت ، فلم أترك بالمدينة حصنا ولا دارًا إلا وقفت عليه ، فقلت : إن تكن فيكم المرأة التي جاءت أبا هريرة الليلة ، فلتأتني ولتبشر; فلما صليت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم العشاء ، فإذا هي عند بابي ، فقلت : أبشري ، فإني دخلت على النبيّ ، فذكرت له ما قلت لي ، وما قلت لك ، فقال : وبئس ما قلت لها ، أما كنت تقرأ هذه الآية ؟ فقرأتها عليها ، فخرّت ساجدة ، فقالت : الحمد لله الذي جعل مخرجًا وتوبة مما عملت ، إن هذه الجارية وابنها حرَّان لوجه الله ، وإني قد تبت مما عملت " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا جعفر بن سليمان ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، قال : اختلفت إلى ابن عباس ثلاث عشرة سنة ، فما شيء من القرآن إلا سألته عنه ، ورسولي يختلف إلى عائشة ، فما سمعته ولا سمعت أحدا من العلماء يقول : إن الله يقول لذنب : لا أغفره.
وقال آخرون : هذه الآية منسوخة بالتي في النساء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني المغيرة بن عبد الرحمن الحراني ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد أنه دخل على أبيه وعنده رجل من أهل العراق ، وهو يسأله عن هذه الآية التي في تبارك الفرقان ، والتي في النساء( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ) فقال زيد بن ثابت : قد عرفت الناسخة من المنسوخة ، نسختها التي في النساء بعدها بستة أشهر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال الضحاك بن مزاحم : هذه السورة بينها وبين النساء( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ) ثمان حجج. وقال ابن جُرَيج : وأخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جُبير : هل لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة ؟ فقال : لا فقرأ عليه هذه الآية كلها ، فقال سعيد بن جُبير :

(19/307)


قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي ، فقال : هذه مكية ، نسختها آية مدنية ، التي في سورة النساء ، وقد أتينا على البيان عن الصواب من القول في هذه الآية التي في سورة النساء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في الأثام من القول ، قال أهل التأويل ، إلا أنهم قالوا : ذلك عقاب يعاقب الله به من أتى هذه الكبائر بواد في جهنم يُدعى أثاما.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي يحدّث ، عن قتادة ، عن أبي أيوب الأزدي ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : الأثام : واد في جهنم.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعًا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( يَلْقَ أَثَامًا ) قال : واديا في جهنم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، في قوله : ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ) قال : واديا في جهنم فيه الزناة.
حدثني العباس بن أبي طالب ، قال : ثنا محمد بن زياد ، قال : ثنا شرقي بن قطاميّ ، عن لقمان بن عامر الخزاعيّ ، قال : جئت أبا أمامة صديّ بن عجلان الباهلي ، فقلت : حدثني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فدعا لي بطعام ، ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَوْ أَنَّ صَخْرَةً زِنَةَ عَشْر عَشْرَوَاتٍ قُذِفَ بِها مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ ما بَلَغَتْ قَعْرَهَا خَمْسِينَ خَرِيفا ، ثُمَّ تَنْتَهِي إلى غَيٍّ وأثامٍ " . قلت : وما غيّ وأثام ؟ قال : بِئْرَان فِي أَسْفَلِ جَهَنَّمَ يَسِيلُ فِيهِمَا صَدِيدُ أهْلِ النَّار ، وهما اللذان ذكر الله في كتابه( أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) وقوله في الفرقان( وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( يَلْقَ أَثَامًا ) قال : الأثام الشرّ ، وقال : سيكفيك ما وراء ذلك : ( يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ).
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( يَلْقَ أَثَامًا ) قال : نكالا قال : وقال : إنه واد في جهنم.

(19/308)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن هشيم ، قال : أخبرنا زكريا بن أبي مريم قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة سبعين خريفا بحجر يهوي فيها أو بصخرة تهوي ، عظمها كعشر عشراوات سمان ، فقال له رجل : فهل تحت ذلك من شيء ؟ قال : نعم غيّ وأثام.
قوله : ( يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأته عامة قراء الأمصار سوى عاصم( يُضَاعفْ ) جزما( وَيَخْلُدْ ) جزما. وقرأه عاصم : ( يضَاعَفُ ) رفعا( وَيَخْلُدُ ) رفعا كلاهما على الابتداء ، وأن الكلام عنده قد تناهى عند( يَلْقَ أَثَامًا ) ثم ابتدأ قوله : ( يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ ). والصواب من القراءة عندنا فيه : جزم الحرفين كليهما : يضاعفْ ، ويخلدْ ، وذلك أنه تفسير للأثام لا فعل له ، ولو كان فعلا له كان الوجه فيه الرفع ، كما قال الشاعر :
مَتى تأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نَارِهِ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ (1)
فرفع تعشو ، لأنه فعل لقوله تأته ، معناه : متى تأته عاشيا.
وقوله( وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) ويبقى فيه إلى ما لا نهاية في هوان. وقوله : ( إِلا مَنْ
__________
(1) البيت للحطيئة ( اللسان : عشا ) . قال : عشا إلى النار وعشاها عشوًا وعشوًا (كفعول ) واعتشاها واعتشى بها : كله : رآها ليلا على بعد ، فقصدها مستضيئا بها ؛ قال الحطيئة : * متى تأته تعشو *
البيت . أي متى تأته لا تتبين ناره من ضعف بصرك . ا هـ . وجملة تعشو : في محل نصب على الحال . ولذلك قال المؤلف : فرفع تعشو لأنه فعل لقوله تأته ، أي : هو حال من فاعل تأته . أي متى تأته عاشيًا . أما ما رواه الطبري من أن القراء مختلفون في قراءة : (يضاعف ) جزمًا ورفعًا فهو كلام وجيه ، ولكل قراءة تأويلها من جهة النحو ، ولكنه يؤثر رواية الجزم على التفسير ، أي البدل مما قبله ، وهو (يلق ) والذي ذهب إليه المؤلف تبع فيه الفراء في معاني القرآن (مصور الجامعة رقم 24059 ص 226) قال : وقوله : { ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة } : قرأت القراء بجزم { يضاعف} ورفعه عاصم بن أبي النجود ؛ والوجه الجزم . وذلك إن فسرته ولم يكن فعلا لما قبله ( أي مصاحبا الفعل الذي قبله) فالوجه الجزم . وما كان فعلا لما قبله رفعته ، فأما المفسر للمجزوم ( أي المبدل منه ) فقوله : {ومن يفعل ذلك يلق أثاما} ثم فسر الأثام ، فقال { يضاعف له العذاب} . ومثله في الكلام : " إن تكلمني توصني بالخير والبر أقبل منك " . ألا ترى أنك فسرت الكلام بالبر ، ولم يكن له فعلا له ، فلذلك جزمت ، ولو كان الثاني فعلا للأول لرفعته ، كقولك : " إن تأتنا تطلب الخير تجده " . ألا ترى تجد تطلب فعلا للإتيان ، كقيلك : إن تأتنا طالبًا للخير تجده ، قال الشاعر : متى تأته تعشو ...
" البيت ، فرفع تعشو لأنه أراد : متى تأته عاشيًا . ورفع عاصم {يضاعف له} ، لأنه أراد الاستئناف ، كما تقول : إن تأتنا نكرمك ، نعطيك كل ما تريد ، لا على الجزاء .

(19/309)


تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) يقول تعالى ذكره : ومن يفعل هذه الأفعال التي ذكرها جلّ ثناؤه يلق أثاما( إِلا مَنْ تَابَ ) يقول : إلا من راجع طاعة الله تبارك وتعالى بتركه ذلك ، وإنابته إلى ما يرضاه الله( وَآمَنَ ) يقول : وصدّق بما جاء به محمد نبيّ الله( وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) يقول : وعمل بما آمره الله من الأعمال ، وانتهى عما نهاه الله عنه.
قوله : ( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ). اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فأولئك يبدّل الله بقبائح أعمالهم في الشرك ، محاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدله بالشرك إيمانا ، وبقيل أهل الشرك بالله قيل أهل الإيمان به ، وبالزنا عفة وإحصانا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) قال : هم المؤمنون كانوا قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن ذلك ، فحوّلهم إلى الحسنات ، وأبدلهم مكان السيئات حسنات.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا ) ... إلى آخر الآية ، قال : هم الذين يتوبون فيعملون بالطاعة ، فيبدّل الله سيئاتهم حسنات حين يتوبون.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن سعيد ، قال : نزلت( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) ... إلى آخر الآية في وحشي وأصحابه ، قالوا : كيف لنا بالتوبة ، وقد عبدنا الأوثان ، وقتلنا المؤمنين ، ونكحنا المشركات ، فأنزل الله فيهم( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) فأبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الله ، وأبدلهم بقتالهم مع المشركين قتالا مع المسلمين للمشركين ، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قال ابن عباس ، في قوله : ( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) قال : بالشرك إيمانا ، وبالقتل إمساكا ، والزنا إحصانا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت

(19/310)


الضحاك يقول في قوله : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) وهذه الآية مكية نزلت بمكة( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ) يعني : الشرك ، والقتل ، والزنا جميعا. لما أنزل الله هذه الآية قال المشركون من أهل مكة : يزعم محمد أن من أشرك وقتل وزنى فله النار ، وليس له عند الله خير ، فأنزل الله( إِلا مَنْ تَابَ ) من المشركين من أهل مكة ، ( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) يقول : يبدّل الله مكان الشرك والقتل والزنا : الإيمان بالله ، والدخول في الإسلام ، وهو التبديل في الدنيا. وأنزل الله في ذلك( يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) يعنيهم بذلك( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) يعني ما كان في الشرك ، يقول الله لهم : (أَنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) ، يدعوهم إلى الإسلام ، فهاتان الآيتان مكيتان والتي في النساء( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ) ... الآية ، هذه مدنية ، نزلت بالمدينة ، وبينها وبين التي نزلت في الفرقان ثمان سنين ، وهي مبهمة ليس منها مخرج.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا أبو تُمَيْلة ، قال ثنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : سُئل ابن عباس عن قول الله جلّ ثناؤه : ( يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) فقال :
بُدِّلْنَ بَعْدَ حَرّهِ خَرِيفا... وَبَعْدَ طُولِ النَّفَسِ الوَجِيفا (1)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) ...إلى قوله : ( وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) فقال المشركون : ولا والله ما كان هؤلاء الذين مع محمد إلا معنا ، قال : فأنزل الله( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ ) قال : تاب من الشرك ، قال : وآمن بعقاب الله ورسوله( وَعَمِلَ عَمَلا
__________
(1) هذا بيت للبيد العامري الشاعر . وروايته هكذا غامضة . ولم أجده في أصل ديوانه ، وإنما وجدته في الملحق بالديوان (طبع ليدن ص 56) ، وروايته فيه كرواية السيوطي في الإتقان : وهذه الرواية أجود وأوضح ، وهي : بَدّلْنَ بَعْدَ النَّفَش الوَجِيفا ... وَبَعْدَ طُولِ الحِرَّةِ الصَّرِيفا
يصف لبيد جماعة من الإبل ، بأنها كانت ترعى ليلا زمنًا طويلا ، ثم بدلت بذلك الوجيف ، وهو ضرب من سير الإبل والخيل سريع ، يقال : وجف البعير والفرس وجفًا ، ووجيفًا أسرع وبدلت بعد طول الاجتراء في مباركها الصريف . والاجتراء : أن يخرج دو الكرش جزءًا من الطعام ليمضغه جيدًا ثم يعيده والصريف يطلق على معان ، منها اللبن ساعة يحلب ، والخمر ؛ والمراد به هنا صوت ناب الناقة إذا حركته ، وإنما يكون ذلك إذا نالها الإعياء والكلال فكأن لبيدًا يقول تبدلت أحوالها بعد النعيم بؤسًا .

(19/311)


صَالِحًا ) قال : صدّق ، ( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) قال : يبدّل الله أعمالهم السيئة التي كانت في الشرك بالأعمال الصالحة حين دخلوا في الإيمان.
وقال آخرون : بل معنى ذلك ، فأولئك يبدل الله سيئاتهم في الدنيا حسنات لهم يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن عمرو البصري ، قال : ثنا قريش بن أنس أبو أنس ، قال : ثني صالح بن رستم ، عن عطاء الخراساني ، عن سعيد بن المسيب( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) قال : تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القيامة.
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا محمد بن حازم أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذرّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنِّي لأعْرِفُ آَخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ ، وآخِرَ أَهْلِ النَّارِ دُخُولا الجَنَّةَ ، قال : يُؤتَى بِرجُلٍ يَومَ القِيَامَةِ ، فَيُقَالُ : نَحُّوا كِبَارَ ذُنُوبِهِ وسَلُوهُ عَنْ صِغَارِهَا ، قال : فَيُقُالُ لَهُ : عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا ، وَعَمِلْتَ كَذَا وكَذَا ، قال : فيَقُولُ : يا رَبّ لَقَدْ عَمِلْتُ أشْيَاءَ ما أرَاها هاهُنَا ، قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، قال : فَيُقَالُ لَهُ : لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ " .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، تأويل من تأوّله : فأولئك يبدل الله سيئاتهم : أعمالهم في الشرك حسنات في الإسلام ، بنقلهم عما يسخطه الله من الأعمال إلى ما يرضى.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت على ما كانت عليه من القُبح ، وغير جائز تحويل عين قد مضت بصفة إلى خلاف ما كانت عليه إلا بتغييرها عما كانت عليه من صفتها في حال أخرى ، فيجب إن فعل ذلك كذلك أن يصير شرك الكافر الذي كان شركا في الكفر بعينه إيمانا يوم القيامة بالإسلام ومعاصيه كلها بأعيانها طاعة ، وذلك ما لا يقوله ذو حجا.
وقوله : ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) يقول تعالى ذكره : وكان الله ذا عفو عن ذنوب من تاب من عباده ، وراجع طاعته ، وذا رحمة به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها. قوله : ( وَمَنْ تَابَ ) يقول : ومن تاب من المشركين ، فآمن بالله ورسوله

(19/312)


وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)

( وَعَمِلَ صَالِحًا ) يقول : وعمل بما أمره الله فأطاعه ، فإن الله فاعل به من إبداله سيئ أعماله في الشرك بحسنها في الإسلام ، مثل الذي فعل من ذلك بمن تاب وآمن وعمل صالحا قبل نزول هذه الآية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ) قال : هذا للمشركين الذين قالوا لما أنزلت( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) ... إلى قوله( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما كان هؤلاء إلا معنا ، قال : ومن تاب وعمل صالحا فإن لهم مثل ما لهؤلاء( فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ) لم تُحظر التوبة عليكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) }
اختلف أهل التأويل في معنى الزور الذي وصف الله هؤلاء القوم بأنهم لا يشهدونه ، فقال بعضهم : معناه الشرك بالله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا سفيان ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : ( لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) قال : الشرك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) قال : هؤلاء المهاجرون ، قال : والزور قولهم لآلهتهم ، وتعظيمهم إياها.
وقال آخرون : بل عني به الغناء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن عبد الأعلى المحاربيّ قال : ثنا محمد بن مروان ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) قال : لا يسمعون الغناء.

(19/313)


وقال آخرون : هو قول الكذب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) قال : الكذب.
قال أبو جعفر : وأصل الزور تحسين الشيء ، ووصفه بخلاف صفته ، حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه ، أنه خلاف ما هو به ، والشرك قد يدخل في ذلك ، لأنه محسَّن لأهله ، حتى قد ظنوا أنه حق ، وهو باطل ، ويدخل فيه الغناء ، لأنه أيضا مما يحسنه ترجيع الصوت ، حتى يستحلي سامعه سماعه ، والكذب أيضا قد يدخل فيه لتحسين صاحبه إياه ، حتى يظنّ صاحبه أنه حق ، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور.
فإذا كان ذلك كذلك ، فأولى الأقوال بالصواب في تأويله أن يقال : والذين لا يشهدون شيئا من الباطل لا شركا ، ولا غناء ، ولا كذبا ولا غيره ، وكلّ ما لزمه اسم الزور ، لأن الله عمّ في وصفه إياهم أنهم لا يشهدون الزور ، فلا ينبغي أن يخص من ذلك شيء إلا بحجة يجب التسليم لها ، من خبر أو عقل.
وقوله : ( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) اختلف أهل التأويل في معنى اللغو الذي ذُكر في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناه : ما كان المشركون يقولونه للمؤمنين ، ويكلمونهم به من الأذى. ومرورهم به كراما إعراضهم عنهم وصفحهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال : صفحوا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال : إذا أوذوا مرّوا كراما ، قال : صفحوا.
وقال آخرون : بل معناه : وإذا مرّوا بذكر النكاح ، كفوا عنه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوام

(19/314)


بن حوشب ، عن مجاهد( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال : إذا ذكروا النكاح كفوا عنه.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الأشيب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام بن حوشب ، عن مجاهد ، ( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال : كانوا إذا أتوا على ذكر النكاح كفوا عنه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبي مخزوم ، عن سيار( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) إذا مرّوا بالرفث كفُّوا.
وقال آخرون : إذا مرّوا بما كان المشركون فيه من الباطل مرّوا منكرين له.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال : هؤلاء المهاجرون ، واللغو ما كانوا فيه من الباطل ، يعني المشركين وقرأ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ )
وقال آخرون : عُني باللغو هاهنا : المعاصي كلها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : ( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال : اللغو كله : المعاصي.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي ، أن يقال : إن الله أخبر عن هؤلاء المؤمنين الذين مدحهم بأنهم إذا مروا باللغو مرّوا كراما ، واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل ، أو ما يستقبح فسبّ الإنسان الإنسان بالباطل الذي لا حقيقة له من اللغو. وذكر النكاح بصريح اسمه مما يُستقبح في بعض الأماكن ، فهو من اللغو ، وكذلك تعظيم المشركين آلهتهم من الباطل الذي لا حقيقة لما عظموه على نحو ما عظموه ، وسماع الغناء مما هو مستقبح في أهل الدين ، فكل ذلك يدخل في معنى اللغو ، فلا وجه إذ كان كل ذلك يلزمه اسم اللغو ، أن يقال : عُني به بعض ذلك دون بعض ، إذ لم يكن لخصوص ذلك دلالة من خبر أو عقل. فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : وإذا مرّوا بالباطل فسمعوه أو رأوه ، مرّوا كراما ، مرورهم كراما في بعض ذلك بأن لا يسمعوه ، وذلك كالغناء. وفي بعض ذلك بأن يعرضوا عنه ويصفحوا ، وذلك إذا أو ذوا بإسماع القبيح من القول ، وفي بعضه بأن يَنْهَوْا عن

(19/315)


وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)

ذلك ، وذلك بأن يروا من المنكر ما يغير بالقول فيغيروه بالقول. وفي بعضه بأن يضاربوا عليه بالسيوف ، وذلك بأن يروا قوما يقطعون الطريق على قوم ، فيستصرخهم المراد ذلك منهم ، فيصرخونهم ، وكلّ ذلك مرورهم كراما.
وقد حدثني ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا محمد بن مسلم ، عن إبراهيم بن ميسرة ، قال : مرّ ابن مسعود بلهو مسرعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنْ أصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَكَرِيما " .
وقيل : إن هذه الآية مكية.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، قال : سمعت السديّ يقول : ( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) قال : هي مكية ، وإنما عني السديّ بقوله هذا إن شاء الله ، أن الله نسخ ذلك بأمره المؤمنين بقتال المشركين بقوله : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وأمرهم إذا مرّوا باللَّغو الذي هو شرك ، أن يُقاتلوا أمراءه ، وإذا مرّوا باللغو ، الذي هو معصية لله أن يغيروه ، ولم يكونوا أمروا بذلك بمكة ، وهذا القول نظير تأويلنا الذي تأولناه في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) }
يقول تعالى ذكره : والذين إذا ذكَّرهم مذكِّر بحجج الله ، لم يكونوا صما لا يسمعون ، وعميا لا يبصرونها ولكنهم يِقَاظُ القلوب ، فهماء العقول ، يفهمون عن الله ما يذِّكرهم به ، ويفهمون عنه ما ينبههم عليه ، فيوعون مواعظه آذانا سمعته ، وقلوبا وعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ) فلا يسمعون ، ولا يبصرون ، ولا يفقهون حقا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن

(19/316)


مجاهد ، قوله : ( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ) قال : لا يفقهون ، ولا يسمعون ، ولا يبصرون.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علَية ، عن ابن عون ، قال : قلت للشعبيّ : رأيت قوما قد سجدوا ولم أعلم ما سجدوا منه أسجد (1) قال : ( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ) قال : هذا مثل ضربه الله لهم ، لم يدعوها إلى غيرها ، وقرأ قول الله : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) ... الآية.
فإن قال قائل : وما معنى قوله( لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ) أوَ يَخرّ الكافرون صما وعميانا إذا ذكروا بآيات الله ، فَيُنْفَى عن هؤلاء ما هو صفة للكفار ؟ قيل : نعم ، الكافر إذا تُليت عليه آيات الله خرّ عليها أصم وأعمى ، وخرّه عليها كذلك : إقامته على الكفر ، وذلك نظير قول العرب : سببت فلانا ، فقام يبكي ، بمعنى فظلّ يبكي ، ولا قيام هنالك ، ولعله أن يكون بكى قاعدا ، وكما يقال : نهيت فلانا عن كذا ، فقعد يشتمني : ومعنى ذلك : فجعل يشتمني ، وظلّ يشتمني ، ولا قعود هنالك ، ولكن ذلك قد جرى على ألسن العرب ، حتى قد فهموا معناه. وذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول : قعد يشتمني ، كقولك : قام يشتمني ، وأقبل يشتمني; قال : وأنشد بعض بني عامر :
لا يُقْنِعُ الجَارِيَةَ الخِضَابُ... ولا الوِشاحانِ ولا الجِلْبابُ... منْ دُونِ أنْ تَلْتَقِي الأرْكابُ... وَيَقْعُدَ الأيْرُ لَهُ لُعابُ (2)
__________
(1) أي فكنت أسجد معهم . ولكنه اختصر الكلام . وكثير من هؤلاء القائلين والمجيبين يختصرون الكلام إلى حد الرمز والإشارة ، اكتفاء بدلالة الحال .
(2) هذه أربعة أبيات من مشطور الرجز ، رواها الفراء في معاني القرآن عن بعض العرب ( مصور الجامعة ص 227) قال : وسمعت العرب تقول : قعد يشتمني ، كقولك : قام يشتمني ، وأقبل يشتمني ، وأنشد بعض العرب : * لا يقنع الجارية ......... *
الأبيات . وفي البيت الرابع : " ويقعدّ الهنُ " ... إلخ كقولك : يصير . وقوله : الأركاب ، هو جمع ركب ، كسبب ، وهو العانة أو منبتها ، أو ظاهر الفرج . قال الخليل : هو للمرأة خاصة وقال الفراء : هو للرجل والمرأة . وأنشد الفراء : " لا يقنع الجارية ... " الأبيات . وفي التهذيب : ولا يقال : ركب للرجل . وقيل : يجوز أن يقال : ركب للرجل . والهن (في رواية الفراء) : الحر.

(19/317)


وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)

بمعنى : يصير ، فكذلك قوله : ( لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ) إنما معناه : لم يصَمُّوا عنها ، ولا عموا عنها ، ولم يصيروا على باب ربهم صُمًّا وعمْيانًا ، كما قال الراجز :
وَيَقْعَدَ الهَنُ لَهُ لُعَابُ
بمعنى : ويصير.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) }
يقول تعالى ذكره : والذين يرغبون إلى الله في دعائهم ومسألتهم بأن يقولوا : ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا ما تقرّ به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) يعنون : من يعمل لك بالطاعة فتقرّ بهم أعيننا في الدنيا والآخرة.
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : ثنا حزم ، قال : سمعت كثيرا سأل الحسن ، قال : يا أبا سعيد ، قول الله : ( هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) في الدنيا والآخرة ؟ قال : لا بل في الدنيا ، قال : وما ذاك ؟ قال : المؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله.
حدثنا الفضل بن إسحاق ، قال : ثنا سالم بن قُتَيبة ، قال : ثنا حزم ، قال : سمعت الحسن فذكر نحوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قرأ حضرمي( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) قال : وإنما قرّة أعينهم أن يروهم يعملون بطاعة الله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن ابن جُرَيج فيما قرأنا عليه في قوله : ( هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) قال : يعبدونك فيحسنون عبادتك ،

(19/318)


ولا يجرُّون الجرائر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قوله : ( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) قال : يعبدونك يحسنون عبادتك ، ولا يجرّون علينا الجرائر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) قال : يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.
حدثنا محمد بن عون ، قال : ثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، قال : ثني أبي ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نفير ، عن أبيه ، قال : جلسنا إلى المقداد بن الأسود ، فقال : لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أشدّ حالة بُعث عليها نبيّ من الأنبياء في فترة وجاهلية ، ما يرون دينا أفضل من عبادة الأوثان ، فجاء بفرقان فَرق به بين الحق والباطل ، وفرق بين الوالد وولده ، حتى إن كان الرجل ليرى ولده ووالده وأخاه كافرا ، وقد فتح الله قفل قلبه بالإسلام ، فيعلم أنه إن مات دخل النار ، فلا تقرّ عينه ، وهو يعلم أن حبيبه في النار ، وإنها للتي قال الله : ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) ... الآية.
حدثني ابن عوف ، قال : ثني علي بن الحسن العسقلاني ، عن عبد الله بن المبارك ، عن صفوان ، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَيرٍ ، عن أبيه ، عن المقداد ، نحوه.
وقيل : هب لنا قرّة أعين ، وقد ذكر الأزواج والذريات وهم جمع ، وقوله : ( قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) واحدة لأن قوله : قرّة أعين مصدر من قول القائل : قرّت عينك قرة ، والمصدر لا تكاد العرب تجمعه.
وقوله : ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : اجعلنا أئمة يَقْتَدِي بنا من بعدنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثني عون بن سلام ، قال : أخبرنا بشر بن عمارة عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) يقول : أثمة يُقْتَدَى بنا.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) أثمة التقوى ولأهله يقتدى بنا. قال ابن زيد : كما قال لإبراهيم : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ).

(19/319)


وقال آخرون : بل معناه : واجعلنا للمتقين إمامًا : نأتمّ بهم ، ويأتمّ بنا من بعدنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) أئمة نقتدي بمن قبلنا ، ونكون أئمة لمن بعدنا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن أبن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) قال : اجعلنا مؤتمين بهم ، مقتدين بهم.
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : واجعلنا للمتقين الذين يتقون معاصيك ، ويخافون عقابك إماما يأتمون بنا في الخيرات ، لأنهم إنما سألوا ربهم أن يجعلهم للمتقين أئمة ولم يسألوه أن يجعل المتقين لهم إماما ، وقال : ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) ولم يقل أئمة. وقد قالوا : واجعلنا وهم جماعة ، لأن الإمام مصدر من قول القائل : أمّ فلان فلانا إماما ، كما يقال : قام فلان قياما وصام يوم كذا صياما. ومن جمع الإمام أئمة ، جعل الإمام اسما ، كما يقال : أصحاب محمد إمام ، وأئمة للناس. فمن وحَّد قال : يأتمّ بهم الناس. وهذا القول الذي قلناه في ذلك قول بعض نحويِّي أهل الكوفة. وقال بعض أهل البصرة من أهل العربية : الإمام في قوله : ( لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) جماعة ، كما تقول : كلهم عُدُول. قال : ويكون على الحكاية كما يقول القائل : إذا قيل له : من أميركم ، هؤلاء أميرنا ، واستشهد لذلك بقول الشاعر :
يا عاذِلاتي لا تُرِدْنَ مَلامَتِي... إنَّ العوَاذلَ لَسْنَ لي بأمِيرِ (1)
__________
(1) البيت من شواهد بن هشام في المغني في حرف اللام ، على أن قوله : " لا تردن ملامتي " أبلغ من : لا تلمني لأنه نهى عن السبب ، والنهي عن إرادة الفعل أبلغ من النهي عن الفعل نفسه . وقال الأمير في حاشيته : قوله : " بأمير " : أخبر به عن الجمع ، إما لكونه " فعيلا " يستوي فيه الواحد وغيره ، قال الله تعالى : { والملائكة بعد ذلك ظهير} . أو أنه صفة لمفرد لفظًا ، جمع معنى محذوف ، أي بفريق أمير . فلاحظ في الإخبار معناه وفي وصفه لفظه . قلت : ولم ينسب البيت ابن هشام ولا الأمير ، ولا ذكره السيوطي في شرح شواهد المغني في حرف اللام. وتوحيد الأمير في البيت نظير توحيد الإمام في قوله تعالى : { واجعلنا للمتقين إمامًا } ، وكلاهما يراد به الجمع في المعنى . قال في اللسان : وقوله تعالى : {واجعلنا للمتقين إمامًا} . قال أبو عبيدة : هو واحد يدل على الجمع . ا هـ .

(19/320)


أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)

القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا (75) }
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفت صفتهم من عبادي ، وذلك من ابتداء قوله : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) ... إلى قوله : ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا ) ... الآية( يُجْزَوْنَ ) يقول : يُثابون على أفعالهم هذه التي فعلوها في الدنيا( الْغُرْفَةَ ) وهي منزلة من منازل الجنة رفيعة( بِمَا صَبَرُوا ) يقول : بصبرهم على هذه الأفعال ، ومقاساة شدتها. وقوله : ( وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا ) اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة( وَيُلَقَّوْنَ ) مضمومة الياء ، مشدّدة القاف ، بمعنى : وتتلقاهم الملائكة فيها بالتحية. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : " وَيَلْقَوْنَ " بفتح الياء ، وتخفيف القاف.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأة الأمصار بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، غير أن أعجب القراءتين إليّ أن أقرأ بها " وَيَلْقَوْنَ فِيهَا " بفتح الياء ، وتخفيف القاف. لأن العرب إذا قالت ذلك بالتشديد ، قالت : فلان يُتَلَّقَّى بالسلام وبالخير ونحن نتلقاهم بالسلام ، قرنته بالياء وقلما تقول : فلان يُلقَّى السلام ، فكان وجه الكلام لو كان بالتشديد ، أن يقال : ويُتَلَقَّوْنَ فيها بالتحية والسلام.
وإنما اخترنا القراءة بذلك ، كما تجيز أخذت بالخطام ، وأخذت الخطام.
وقد بيَّنا معنى التحية والسلام فيما مضى قبل ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) }
يقول تعالى ذكره : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ، خالدين في الغرفة ، يعني أنهم ماكثون فيها ، لابثون إلى غير أمد ، حسنت تلك الغرفة قرارا لهم ومقاما. يقول : وإقامة. وقوله : ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه : قل يا محمد لهؤلاء الذين أرسلت إليهم : أيّ شيء يَعُدّكم ، وأيّ شيء يصنع بكم ربي ؟ يقال منه : عبأت به أعبأ عبئا ،

(19/321)


وعبأت الطيب أعبؤه : إذا هيأته ، كما قال الشاعر :
كأنَّ بِنَحْرِهِ وبمَنْكَبَيْهِ... عَبِيرًا باتَ يَعْبَؤُهُ عَرُوسُ (1)
يقول : يهيئه ويعمله يعبؤُه عبا وعبوءا ، ومنه قولهم : عَبَّأت الجيش بالتشديد والتخفيف فأنا أعبئه : أُهَيِّئُهُ والعبءُ : الثقل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي ) يصنع لولا دعاؤكم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي ) قال : يعبأ : يفعل.
وقوله : ( لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ) يقول : لولا عبادة من يعبده منكم ، وطاعة من يطيعه منكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ) يقول : لولا إيمانكم ، وأخبر الله الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين ، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حبَّبه إلى المؤمنين.
وحدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ) قال : لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه وتطيعوه.
__________
(1) البيت لأبي زبيد الطائي يصف أسدًا (اللسان : عبأ) . قال : عبأ الطيب يعبؤه عبئًا : صنعه وخلطه ، قال أبو زبيد يصف أسدًا : " كأن بنحره ... " البيت . ويروى : " بات يخبؤه " . وقال الفراء في معاني القرآن : وقوله : { ما يعبأ بكم ربي } : استفهام ، أي ما يصنع بكم لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام ؟ وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ( ص 170) : ومنه قوله ؛ ما عبأت بك شيئًا : أي ما عددتك شيئًا . ا هـ .

(19/322)


وقوله : ( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ) يقول تعالى ذكره لمشركي قريش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقد كذبتم أيها القوم رسولكم الذي أرسل إليكم وخالفتم أمر ربكم الذي أمر بالتمسك به لو تمسكتم به ، كان يعبأ بكم ربي ، فسوف يكون تكذيبكم رسول ربكم ، وخلافكم أمر بارئكم ، عذابًا لكم ملازما ، قتلا بالسيوف وهلاكا لكم مفنيا يلحق بعضكم بعضا ، كما قال أبو ذُؤَيب الهُذَليّ :
فَفاجأَهُ بِعادِيَةٍ لِزَامٍ... كمَا يَتَفَجَّرُ الحَوْضُ اللَّقِيفُ (1)
يعني باللزام : الكبير الذي يتبع بعضه بعضا ، وباللقيف : المتساقط الحجارة المتهدّم ، ففعل الله ذلك بهم ، وصدقهم وعده ، وقتلهم يوم بدر بأيدي أوليائه ، وألحق بعضهم ببعض ، فكان ذلك العذاب اللزام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : أخبرني مولى لشقيق بن ثور أنه سمع سلمان أبا عبد الله ، قال : صليت مع ابن الزُّبير فسمعته يقرأ : فقد كذب الكافرون.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا سعيد بن أدهم السدوسيّ ، قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة ، عن عبد المجيد ، قال : سمعت مسلم بن عمار ، قال : سمعت ابن عباس يقرأ هذا الحرف : فقد كذب الكافرون( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ).
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) يقول : كذب الكافرون أعداء الله.
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي ( اللسان : لقف) . قال : وحوض لقف ولقيف : تهور من أسفله واتسع ، ومنه قول أبي ذؤيب : * فلم تر غير عادية لزامًا *
.. . البيت قال : ويقال : الملآن . والأول : هو الصحيح . قال : والعادية : القوم يعدون على أرجلهم أي : فحملتهم لزامًا ، كأنهم لزموه ، لا يفارقون ما هم فيه . ا هـ . وقال في (لزم) : واللزام : الملازم قال أبو ذؤيب : ( البيت كروايته في لقف ) ثم فسره كما فسره هناك . قال : واللقيف : المتهور من أسفله . وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ( مصورة الجامعة رقم 26059 ص 170) : لزام : أي كثيرة بعضها في أثر بعض وبهامشه : اللقيف المتهدم ، الذي سقطت حجاره بعضها على بعض . اه .

(19/323)


حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود ، قال : فسوف يلقون لزاما يوم بدر.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق. قال : قال عبد الرحمن : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم.
حدثني الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، قوله : ( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) قال أُبَيِّ بن كعب : هو القتل يوم بدر.
حدثنا بن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن عمرو ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : اللزام : يوم بدر.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) قال : هو يوم بدر.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) قال : يوم بدر.
حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن مَعْمر ، عن منصور ، عن سفيان ، عن ابن مسعود ، قال : اللزام ، القتل يوم بدر.
حُدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) الكفار كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله ، فسوف يكون لزاما ، وهو يوم بدر.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : قد مضى اللزام ، كان اللزام يوم بدر ، أسروا سبعين ، وقتلوا سبعين.
وقال آخرون : معنى اللزام : القتال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَسَوْفَ

(19/324)


يَكُونُ لِزَامًا ) قال : فسوف يكون قتالا اللزام : القتال.
وقال آخرون : اللزام : الموت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) قال : موتا.
وقال بعض أهل العلم بكلام العرب : معنى ذلك : فسوف يكون جزاء يلزم كل عامل ما عمل من خير أو شرّ. وقد بيَّنا الصواب من القول في ذلك. وللنصب في اللزامِ وجه آخر غير الذي قلناه ، وهو أن يكون في قوله( يَكُون ) مجهول ، ثم ينصب اللزام على الخبر كما قيل :
إذَا كان طَعْنًا بَيْنَهُمْ وَقتالا
وقد كان بعض من لا علم له بأقوال أهل العلم يقول في تأويل ذلك : قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ما تَدْعون من دونه من الآلهة والأنداد ، وهذا قول لا معنى للتشاغل به لخروجه عن أقوال أهل العلم من أهل التأويل.
آخر تفسير سورة الفرقان ، والحمد لله وحده.

(19/325)


طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)

تفسير سورة الشعراء
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) }
قال أبو جعفر : وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيما في ابتداء فواتح سور القرآن من حروف الهجاء ، وما انتزع به كل قائل منهم لقوله ومذهبه من العلة. وقد بيَّنا الذي هو أولى بالصواب من القول فيه فيما مضى من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته ، وقد ذكر عنهم من الاختلاف في قوله : طسم وطس ، نظير الذي ذكر عنهم في : (الم) و(المر) و(المص).
وقد حدثني عليّ بن داود ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( طسم ) قال : فإنه قسم أقسمه الله ، وهو من أسماء الله.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( طسم ) قال : اسم من أسماء القرآن.
فتأويل الكلام على قول ابن عباس والجميع : إن هذه الآيات التي أنزلتها على محمد صلى الله عليه وسلم في هذه السورة لآيات الكتاب الذي أنزلته إليه من قبلها الذي بين لمن تدبره بفهم ، وفكر فيه بعقل ، أنه من عند الله جلّ جلاله ، لم يتخرّصه محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يتقوّله من عنده ، بل أوحاه إليه ربه.
وقوله : ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) يقول تعالى ذكره : لعلك يا محمد قاتل نفسك ومهلكها إن لم يؤمن قومك بك ، ويصدقوك على ما جئتهم به والبخْع : هو القتل والإهلاك في كلام العرب; ومنه قول ذي الرُّمة :
ألا أيُّهَذَا الباخعُ الوَجْدُ نَفْسَهُ... لشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المَقادِرُ (1)
__________
(1) البيت لذي الرمة ، وقد تقدم الاستشهاد به في سورة الكهف (15 : 194) على أن معنى البخع : القتل ، فراجعه ثمة.

(19/326)


إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : ( بَاخِعٌ نَفْسَكَ ) : قاتل نفسك.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) قال : لعلك من الحرص على إيمانهم مخرج نفسك من جسدك ، قال : ذلك البخع.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ) عليهم حرصا.
وأن من قوله : ( أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) في موضع نصب بباخع ، كما يقال : زرت عبد الله أن زارني ، وهو جزاء; ولو كان الفعل الذي بعد أن مستقبلا لكان وجه الكلام في " أن " الكسر كما يقال; أزور عبد الله إن يزورني.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ )... الآية ، فقال بعضهم : معناه : فظلّ القوم الذين أنزل عليهم من السماء آية خاضعة أعناقهم لها من الذلَّة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد في قوله : ( فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) قال : فظلوا خاضعة أعناقهم لها.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( خَاضِعِينَ ) قال : لو شاء الله لنزل عليه آية يذلون بها ، فلا يلوي أحد عنقه إلى معصية الله.
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( أَلا يَكُونُوا

(19/330)


مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً ) قال : لو شاء الله لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بعده بمعصية.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) قال : ملقين أعناقهم.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) قال : الخاضع : الذليل.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فظلت سادتهم وكبراؤهم للآية خاضعين ، ويقول : الأعناق : هم الكبراء من الناس.
واختلف أهل العربية في وجه تذكير(خاضعين) ، وهو خبر عن الأعناق ، فقال بعض نحوييّ البصرة : يزعمون أن قوله( أعْنَاقُهُمْ ) على الجماعات ، نحو : هذا عنق من الناس كثير ، أو ذُكِّر كما يذكَّر بعض المؤنث ، كما قال الشاعر :
تَمَزَّزْتُها والدّيكُ يَدْعُو صَبَاحَهُ... إذا ما بنو نَعْشٍ دَنَوْا فَتَصَوَّبُوا (1)
فجماعات هذا أعناق ، أو يكون ذكره لإضافته إلى المذكر كما يؤنث لإضافته إلى
__________
(1) هذا البيت أنشده سيبويه للنابغة الجعدي ، (اللسان : نعش) وقبله بيت آخر ، يصف بهما الخمر ، وهو قوله : وَصَهْبَاءُ لا يَخْفَى الْقَذَى وَ هْيَ دُونَهُ ... تُصَفَّقُ في رأوُوقِهَا ثُمَّ تُقْطَبُ
قال : وبنات نعش سبعة كواكب ، أربعة منها مربعة ، وثلاثة بنات نعش ، الواحد : ابن نعش لأن الكوكب مذكر فيذكرونه على تذكيره. وإذا قالوا : ثلاث أو أربع ذهبوا إلى البنات ، وكذلك بنات نعش الصغرى. واتفق سيبويه والفراء على ترك صرف نعش للمعرفة والتأنيث. وقيل : شبهت بحملة النعش في تربيعها. وجاء في الشعر بنو نعش ، أنشد سيبويه للنابغة الجعدي : * وصهباء لا يخفي .........*
" البيتان ، الصهباء : الخمر. وقوله : " لا يخفى القذى وهي دونه " أي لا تستره إذا وقع فيها ، لكونها صافية ، فالقذى يرى فيها إذا وقع. وقوله : وهي دونه : يريد أن القذى إذا حصل في أسفل الإناء ، رآه الرائي في الموضع الذي فوقه الخمر ، والخمر أقرب إلى الرائي من القذى. يريد أنها يرى ما وراءها. وتصفق تدار من إناء إلى إناء وقوله : تمززتها : أي شربتها قليلا قليلا. وتقطب : تمزج بالماء. قال الأزهري : وللشاعر إذا اضطر أن يقول : بنو نعش ، كما قال الشاعر ، وأنشد البيت ، ووجه الكلام : بنات نعش ، كما قالوا : بنات آوى وبنات عرس ، والواحد منها ابن عرس ، يؤنثون جمع ما خلا الآدميين. ورواية أبي عبيدة في (مجاز القرآن ص 171) : شربت إذا ما الديك... إلخ البيت.

(19/331)


المؤنث ، كما قال الأعشى :
وتشرقُ بالقَوْلِ الَّذِي قَدْ أذَعْتَه... كمَا شَرَقَتْ صَدْرُ القَناةِ مِنَ الدَّم (1)
وقال العجاج :
لَمَّا رأى مَتْنَ السَّماء أبْعَدَتْ (2)
وقال الفرزدق :
إذَا الْقُنْبُضَاتُ السُّودُ طَوَّفْنَ بالضحى... رَقَدْنَ عَلَيهِنَّ الحِجَالُ المُسَجَّفُ (3)
وقال الأعشى :
وإن أمرأً أهْدَى إلَيْكَ وَدُونَهُ... مِنَ الأرْضِ يَهْماءٌ وَبَيْدَاءُ خَيْفَقُ... لَمَحْقُوقَة أن تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ... وأنْ تَعْلَمِي أنَّ المُعانَ المُوَفَّقُ (4)
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (اللسان : شرق) قال : شرق الشيء شرقًا ، فهو شرق : اشتدت حمرته بدم ، أو بحسن لون أحمر ، قال الأعشى : " وتشرق بالقول.. " البيت. والبيت هو الرابع والثلاثون من قصيدة في ديوانه (طبع القاهرة ص 121) يهجو بها عمير بن عبد الله بن المنذر بن عبدان ، حين جمع بينه وبين جهنام الشاعر ليهاجيه. قال شارح الديوان : " وحتى تشرق بما أذعنت من قول ، كما يشرق مقدم الرمح بالدم " . وصدر القناة : أعلاها. والشاهد في البيت أنه أنث الفعل شرق بالتاء ، مع أن فاعله وهو " صدر " مذكر. ولكنه لما أضيف إلى القناة وهي مؤنثة ، فكأنه جعل الفعل للقناة لا لصدرها.
(2) لم أجد البيت في ديوان العجاج ورؤبة. ووجدت أرجوزة من نفس القافية للزفيان ملحقة بديوان العجاج (94 ، 95) وليس فيها البيت. والمتن : الظهر. والشاهد في هذا الرجز أنه أنث الفعل أبعدت بالتاء ، مع أن الضمير فيه راجع إلى المتن ، وهو مذكر ؛ لكن لما أضيف المتن إلى السماء وهي مؤنثة ، فكأن الشاعر أعاد الضمير على السماء ، وتناسى المتن ، فأنث لذلك ، وكأنه قال : " لما رأى السماء أبعدت " . وهو كالشاهد الذي قبله.
(3) البيت للفرزدق (اللسان : قبض). والقنبضة من النساء : القصيرة ، والنون زائدة ، والضمير في رقدن : يعود إلى نساء وصفهن بالنعمة والترف إذا كانت القنبضات السود في خدمة وتعب ا ه. يعني بالقنبضات الولائد والإماء من الخدم. والحجال : جمع حجلة ، بالتحريك ، وهي بيت كالقبة يستر بالثياب ، ويكون له أزرار كبار. ومنه حديث : " أعروا النساء يلزمن الحجال " . وجمع الحجلة : حجل وحجال ، قال الفرزدق : * رقدن عليهن الحجال المسجف *
قال : الحجال ، وهي جماعة ، ثم قال : المسجف فذكر ، لأن لفظ الحجال لفظ الواحد مثل الجراب. قال : ومثله قوله تعالى : (قال من يحيي العظام وهي رميم) ، ولم يقل رميمة. وانظر البيت أيضًا في ديوان الفرزدق (طبعة الصاوي ص 552) قال : والتسجيف : إرخاء السجفين ، وهما سترا باب الحجلة للعروس وكل باب يستره ستران بينهما مشقوق ، فكل شق منهما سجف.
(4) البيتان لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه ص 223) من قافيته التي مطلعها : * أرقت وما هذا السهاد المؤرق *
يمدح بها المحلق بن خنثم بن شداد بن ربيعة. وفي رواية البيت الأول فيه وفي خزانة الأدب الكبرى (للبغدادي 1 : 551 ، 2 : 410) أسرى ، في موضع : أهدى. و " أن المعان موفق " في موضع " أن المعان الموفق " . ومعنى أهدى من الهدية ، وهذا لا يصلح إلا على أن الخطاب للناقة وكان قد أهداها الممدوح إليه ، لا على أن الخطاب للمرأة المذكورة في القصيدة قبل البيت في قوله " وكم دون ليلى " وتمام رواية البيت على أنه خطاب للناقة هو : وإن امرأ أهداك بيني وبينه ... فياف تنوفات ويهماء سملق
والأكثرون على رواية أسرى إليك ، وأنه خطاب للمرأة ، وعليه بنى الكوفيون كلامهم في الاستشهاد بالبيت. وأسرى : لغة في سرى أي سار ليلا. والموماة : الأرض التي لا ماء فيها. والبيداء واليهماء القفر. والسملق : الأرض المستوية. وقد اختلف النحويون في تخريج قوله : " المحقوقة أن تستجيبى " ، فقيل : لمحقوقة استجابتك أي استجابتك محقوقة. وعليه فالتأنيث في محقوقة للمصدر المؤنث جوازًا. وعليه أيضًا فلا شاهد في البيت. وقال الكوفيون : محقوقة خبر إن امرأ ، غير جار على من هو له وهو امرأ ، وإنما هو جار على المرأة المخاطبة بقوله إليك. والبصريون يوجبون إذا جرى الخبر على غير من هو له إبراز الضمير المستتر فيه ، فكان حقه أن يقول : لمحقوقة أنت أن تستجيبى لصوته. ويرى الكوفيون أن إبراز الضمير المستتر في مثل هذه الحالة حكمه الجواز لا الوجوب ، واستدلوا بالبيت على ترك إبرازه. ورد البصريون كلامهم بما لا محل لذكره هنا. واستشهد المؤلف بالبيت على ما استشهد به الكوفيون.

(19/332)


قال : ويقولون : بنات نعش وبنو نعش ، ويقال : بنات عِرس ، وبنو عِرس; وقالت امرأة : أنا امرؤ لا أخبر السرّ ، قال : وذكر لرؤبة رجل فقال : هو كان أحد بنات مساجد الله ، يعني الحَصَى. وكان بعض نحويي الكوفة يقول : هذا بمنزلة قول الشاعر :
تَرَى أرْمَاحَهُمْ مُتَقَلديها... إذَا صَدِئَ الحَدِيدُ على الكُماةِ (1)
فمعناه عنده : فظلت أعناقهم خاضعيها هم ، كما يقال : يدك باسطها ، بمعنى : يدك باسطها أنت ، فاكتفى بما ابتدأ به من الاسم أن يكون ، فصار الفعل كأنه للأوّل وهو للثاني ، وكذلك قوله : لمحقوقة أن تستجيبي لصوته إنما هو لمحقوقة أنت ، والمحقوقة : الناقة ، إلا أنه عطفه على المرء لما عاد بالذكر. وكان آخر منهم يقول : الأعناق : الطوائف ، كما يقال : رأيت الناس إلى فلان عنقا واحدة ، فيجعل الأعناق الطوائف والعصب; ويقول : يحتمل أيضا أن تكون الأعناق هم السادة والرجال الكبراء ، فيكون كأنه قيل :
__________
(1) البيت ذكره ابن الأنباري في الإنصاف ولم ينسبه وكذلك لم ينسبه البغدادي في الخزانة (2 : 411) وهو كالشاهد الذي قبله. قال البغدادي : الظاهر من كلام ابن الشجري في أماليه ، ومن كلام ابن الأنباري في مسائل الخلاف ، ومن كلام غيرهما : أن مذهب الكوفيين ، جواز ترك التأكيد مطلقًا ، سواء أمن اللبس أم لا. قال ابن الأنباري : احتج الكوفيون لمذهبهم بالشعر المتقدم ، وبقوله : " ترى أرباقهم.. " البيت. ولو كان إبراز الضمير واجبًا لقال : متقلديها هم. فلما لم يبرز الضمير دل على جوازه. وأجاب البصريون عن هذا بأنه على حذف مضاف ، أي نرى أصحاب أرباقهم متقلديها. ورواية البيت في الخزانة والإنصاف : " ترى أرباقهم " في موضع " ترى أرماحهم " . وكذلك أنشده الفراء في معاني القرآن : أرباقهم (ص 228).

(19/333)


فظلت رءوس القوم وكبراؤهم لها خاضعين ، وقال : أحب إلي من هذين الوجهين في العربية أن يقال : إن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون ، فجعلت الفعل أولا للأعناق ، ثم جعلت خاضعين للرجال ، كما قال الشاعر :
عَلى قَبْضَة مَرْجُوَّة ظَهْرُ كَفِّهِ... فَلا المَرْءُ مُسْتَحي وَلا هُوَ طاعِمُ (1)
فأنث فعل الظهر ، لأن الكفّ تجمع الظهر ، وتكفي منه ، كما أنك تكتفي بأن تقول : خضعت لك ، من أن تقول : خَضَعَتْ لك رقبتي ، وقال : ألا ترى أن العرب تقول : كل ذي عين ناظر وناظرة إليك ، لأن قولك : نظرتْ إليك عيني ، ونظرت إليك بمعنى واحد بترك كل ، وله الفعل ومرده إلى العين ، فلو قلت : فظلت أعناقهم لها خاضعة ، كان صوابا.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بما قال أهل التأويل في ذلك أن تكون الأعناق هي أعناق الرجال ، وأن يكون معنى الكلام : فظلت أعناقهم ذليلة ، للآية التي ينزلها الله عليهم من السماء ، وأن يكون قوله " خاضعين " مذكرا ، لأنه خبر عن الهاء والميم في الأعناق ، فيكون ذلك نظير قول جرير :
أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي... كمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الهلالِ (2)
وذلك أن قوله : مرّ ، لو أسقط من الكلام ، لأدى ما بقي من الكلام عنه ولم يفسد سقوطه معنى الكلام عما كان به قبل سقوطه ، وكذلك لو أسقطت الأعناق من
__________
(1) هذا البيت مما استشهد به الفراء في معاني القرآن (الورقة 328) قال عند قوله تعالى : (فظلت أعناقهم لها خاضعين) : الفعل للأعناق ، فيقول القائل : كيف لم يقل خاضعة. وفي ذلك وجوه كلها صواب. أولها : أن مجاهدًا جعل الأعناق الرجال الكبراء ، فكانت الأعناق ها هنا بمنزلة قولك : ظلت رءوسهم ، رءوس القوم وكبراؤهم (لها خاضعين) ، الآية. والوجه الآخر : أن تجعل الأعناق : الطوائف ، كما تقول : رأيت الناس إلى فلان عنقًا واحدًا ، فتجعل الأعناق : الطوائف والعصب. وأحب إليَّ من هذين الوجهين في العربية : أن الأعناق إذا خضعت ، فأربابها خاضعون ، فجعلت الفعل أولا للأعناق. ثم جعلت خاضعين للرجال ، كما قال الشاعر " على قبضة مرجوة.. " البيت. فأنث فعل الظهر ، لأن الكف تجمع الظهر ، وتكفي منه.
(2) البيت لجرير ، وقد سبق الاستشهاد به في الجزء (12 : 157) وذكره صاحب (اللسان : خضع) قال : جاز أن يخبر عن المضاف إليه كما قال الشاعر " رأت مر السنين " ، لما كانت السنون لا تكون إلا بمن أخبر عن السنين ، وإن كان أضاف إليها المرور. والسرار : الليلة التي يخفى فيها الهلال آخر الشهر. ورواية " رأت مر السنين " : هي رواية الديوان (طبعة الصاوي : 426) ورواية أبي عبيدة في مجاز القرآن (ص 171).

(19/334)


وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)

قوله : فظلت أعناقهم ، لأدى ما بقي من الكلام عنها ، وذلك أن الرجال إذا ذلوا ، فقد ذلت رقابهم ، وإذا ذلت رقابهم فقد ذلوا.
فإن قيل في الكلام : فظلوا لها خاضعين ، كان الكلام غير فاسد ، لسقوط الأعناق ، ولا متغير معناه عما كان عليه قبل سقوطها ، فصرف الخبر بالخضوع إلى أصحاب الأعناق ، وإن كان قد ابتدأ بذكر الأعناق لما قد جرى به استعمال العرب في كلامهم ، إذا كان الاسم المبتدأ به ، وما أضيف إليه يؤدّي الخبر كل واحد منهما عن الآخر.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) }
يقول تعالى ذكره : وما يجيء هؤلاء المشركين الذين يكذّبونك ويجحدون ما أتيتهم به يا محمد من عند ربك من تذكير وتنبيه على مواضع حجج الله عليهم على صدقك ، وحقيقة ما تدعوهم إليه مما يحدثه الله إليك ويوحيه إليك ، لتذكرهم به ، إلا أعرضوا عن استماعه ، وتركوا إعمال الفكر فيه وتدبره.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) }
يقول تعالى ذكره : فقد كذب يا محمد هؤلاء المشركون بالذكر الذي أتاهم من عند الله ، وأعرضوا عنه( فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) يقول : فسيأتيهم أخبار الأمر الذي كانوا يسخرون منه ، وذلك وعيد من الله لهم أنه محلّ بهم عقابه على تماديهم في كفرهم ، وتمرّدهم على ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) }
يقول تعالى ذكره : أولم ير هؤلاء المشركون المكذّبون بالبعث والنشر إلى الأرض ، كم أنبتنا فيها بعد أن كانت ميتة لا نبات فيها( مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) يعني بالكريم : الحسن ، كما يقال للنخلة الطيبة الحمل : كريمة ، وكما يقال للشاة أو الناقة إذا غزرتا ، فكثرت ألبانهما : ناقة كريمة ، وشاة كريمة.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

(19/335)


إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) قال : من نبات الأرض ، مما تأكل الناس والأنعام.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : اخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) قال : حسن.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) }
يقول تعالى ذكره : إن في إنباتنا في الأرض من كلّ زوج كريم لآية. يقول : لدلالة لهؤلاء المشركين المكذّبين بالبعث ، على حقيقته ، وأن القدرة التي بها أنبت الله في الأرض ذلك النبات بعد جدوبتها ، لن يُعجزه أن يُنْشر بها الأموات بعد مماتهم ، أحياء من قبورهم.
وقوله : ( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) يقول : وما كان أكثر هؤلاء المكذبين بالبعث ، الجاحدين نبوتك يا محمد ، بمصدقيك على ما تأتيهم به من عند الله من الذكر.
يقول جلّ ثناؤه : وقد سبق في علمي أنهم لا يؤمنون ، فلا يؤمن بك أكثرهم للسابق من علمي فيهم. وقوله : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) يقول : وإن ربك يا محمد لهو العزيز في نقمته ، لا يمتنع عليه أحد أراد الانتقام منه. يقول تعالى ذكره : وإني إن أحللت بهؤلاء المكذبين بك يا محمد ، المعرضين عما يأتيهم من ذكر من عندي ، عقوبتي بتكذيبهم إياك ، فلن يمنعهم مني مانع ، لأني أنا العزيز الرحيم ، يعني أنه ذو الرحمة بمن تاب من خلقه من كفره ومعصيته ، أن يعاقبه على ما سلف من جرمه بعد توبته.
وكان ابن جُرَيج يقول في معنى ذلك ، ما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني الحجاج ، عن ابن جُرَيج قال : كلّ شيء في الشعراء من قوله( الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) فهو ما أهلك ممن مضى من الأمم ، يقول عزيز ، حين انتقم من أعدائه ، رحيم بالمؤمنين ، حين أنجاهم مما أهلك به أعداءه.

(19/336)


وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)

قال أبو جعفر : وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك في هذا الموضع ، لأن قوله : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) عقيب وعيد الله قوما من أهل الشرك والتكذيب بالبعث ، لم يكونوا أهلكوا ، فيوجه إلى أنه خبر من الله عن فعله بهم وإهلاكه.ولعلّ ابن جُرَيج بقوله هذا أراد ما كان من ذلك عقيب خبر الله عن إهلاكه من أهلك من الأمم ، وذلك إن شاء الله إذا كان عقيب خبرهم كذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره : واذكر يا محمد إذ نادى ربك موسى بن عمران( أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) يعني الكافرين قوم فرعون ، ونصب القوم الثاني ترجمة عن القوم الأوّل ، وقوله : ( أَلا يَتَّقُونَ ) يقول : ألا يتقون عقاب الله على كفرهم به. ومعنى الكلام : قوم فرعون فقل لهم : ألا يتقون. وترك إظهار فقل لهم لدلالة الكلام عليه. وإنما قيل : ألا يتقون بالياء ، ولم يقل ألا تتقون بالتاء ، لأن التنزيل كان قبل الخطاب ، ولو جاءت القراءة فيها بالتاء كان صوابا ، كما قيل : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ ) و " سَتُغْلَبُونَ "
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) }
يقول تعالى ذكره : ( قال ) موسى لربه( رَبِّ إِنِّي أَخَافُ ) من قوم فرعون الذين أمرتني أن آتيهم( أَنْ يُكَذِّبُونِ ) بقيلي لهم : إنك أرسلتني إليهم.( وَيَضِيقُ صَدْرِي ) من تكذيبهم إياي إن كذّبوني. ورفع قوله : ( وَيَضِيقُ صَدْرِي ) عطفا به على أخاف ، وبالرفع فيه قرأته عامة قرّاء الأمصار ، ومعناه : وإني يضيق صدري .وقوله : ( وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي ) يقول : ولا ينطق بالعبارة عما ترسلني به إليهم ، للعلة التي كانت بلسانه. وقوله : ( وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي ) كلام معطوف به على يضيق. وقوله : ( فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ) يعني هارون أخاه ، ولم يقل : فأرسل إليّ هارون ليؤازرني وليعينني ، إذ كان مفهوما معنى الكلام ، وذلك كقول القائل : لو نزلت بنا نازلة لفزعنا إليك ، بمعنى : لفزعنا إليك لتعيننا. وقوله : ( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ ) يقول : ولقوم فرعون عليّ دعوى ذنب أذنبت

(19/337)


قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)

إليهم ، وذلك قتله النفس التي قتلها منهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) قال : قتل النفس التي قتل منهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : قتْل موسى النفس.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله : ( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ ) قال : قتل النفس.
وقوله : ( فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) يقول : فأخاف أن يقتلوني قودا بالنفس التي قتلت منهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) }
يقول تعالى ذكره : ( كَلا ) : أي لن يقتلك قوم فرعون.( فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا ) يقول : فاذهب أنت وأخوك بآياتنا ، يعني بأعلامنا وحججنا التي أعطيناك عليهم. وقوله : ( إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) من قوم فرعون ما يقولون لكم ، ويجيبونكم به. وقوله : ( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا ) ... الآية ، يقول : فأت أنت يا موسى وأخوك هارون فرعون.( فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) إليك ب( أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وقال رسول ربّ العالمين ، وهو يخاطب اثنين بقوله فقولا لأنه أراد به المصدر من أرسلت ، يقال : أرسلت رسالة ورسولا كما قال الشاعر :
لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ ما بُحْتُ عِندَهمْ... بِسُوءٍ وَلا أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ (1)
__________
(1) البيت في (اللسان : رسل). وفي رواية " بليلى " في موضع " بسوء " . قال : والإرسال التوجيه ، وقد أرسل إليه. والاسم الرسالة (بكسر الراء المشددة وفتحها) والرسول والرسيل. الأخيرة عن ثعلب. وأنشد : " لقد كذب الواشون.ز " البيت قال : والرسول بمعنى الرسالة يؤنث ويذكر. وفي (اللسان : رسل) رواية أخرى للبيت كرواية المؤلف ، ونسبه إلى كثير.

(19/338)


قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)

يعنى برسالة ، وقال الآخر :
ألا منْ مُبْلِغٌ عَنّي خُفافا... رَسُولا بَيْتُ أهلِكَ مُنْتَهاها (1)
يعني بقوله : رسولا رسالة ، فأنث لذلك الهاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) }
وفي هذا الكلام محذوف استغني بدلالة ما ظهر عليه منه ، وهو : فأتيا فرعون فأبلغاه رسالة ربهما إليه ، فقال فرعون : ألم نربك فينا يا موسى وليدا ، ولبثت فينا من عمرك سنين ؟ وذلك مكثه عنده قبل قتل القتيل الذي قتله من القبط.( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ) يعني : قتله النفس التي قتل من القبط.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ . )قال : قتل النفس.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
وإنما قيل( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ) لأنها مرة واحدة ، ولا يجوز كسر الفاء إذا أريد بها هذا المعنى. وذُكر عن الشعبي أنه قرأ ذلك : " وَفَعَلْتَ فِعْلَتَكَ " بكسر الفاء ، وهي قراءة لقراءة القرّاء من أهل الأمصار - مخالفة.
وقوله : ( وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وأنت من الكافرين بالله على ديننا.
__________
(1) البيت لعباس بن مرداس (اللسان : رسل). قال : فأنث الرسول (بعود الضمير المؤنث) حيث كان بمعنى الرسالة. وهذا البيت من المقطوعة التي منها الشاهد السابق (ص 37) وهو : " فأيي ما وأيك.. " البيت. يهجو به العباس بن مرداس خفاف بن ندبة لشيء كان بينهما (خزانة الأدب للبغدادي 2 : 229).

(19/339)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ : ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) يعني على ديننا هذا الذي تعيب.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأنت من الكافرين نعمتنا عليك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) قال : ربيناك فينا وليدا ، فهذا الذي كافأتنا أن قتلت منا نفسا ، وكفرت نعمتنا!.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) يقول : كافرا للنعمة لأن فرعون لم يكن يعلم ما الكفر.
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله ابن زيد أشبه بتأويل الآية ، لأن فرعون لم يكن مقرّا لله بالربوبية وإنما كان يزعم أنه هو الرب ، فغير جائز أن يقول لموسى إن كان موسى كان عنده على دينه يوم قتل القتيل على ما قاله السديّ : فعلت الفعلة وأنت من الكافرين ، الإيمان عنده : هو دينه الذي كان عليه موسى عنده ، إلا أن يقول قائل : إنما أراد : وأنت من الكافرين يومئذ يا موسى ، على قولك اليوم ، فيكون ذلك وجها يتوجه. فتأويل الكلام إذن : وقتلت الذي قتلت منا وأنت من الكافرين نعمتنا عليك ، وإحساننا إليك في قتلك إياه.
وقد قيل : معنى ذلك : وأنت الآن من الكافرين لنعمتي عليك ، وتربيتي إياك.

(19/340)


قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) }
يقول تعالى ذكره : قال موسى لفرعون : فعلت تلك الفعلة التي فعلت ، أي قتلت تلك النفس التي قتلت إذن وأنا من الضالين. يقول : وأنا من الجاهلين قبل أن يأتيني من الله وحي بتحريم قتله عليّ. والعرب تضع من الضلال موضع الجهل ، والجهل موضع

(19/340)


الضلال ، فتقول : قد جهل فلان الطريق وضل الطريق ، بمعنى واحد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) قال : من الجاهلين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
قال ابن جُرَيج : وفي قراءة ابن مسعود : " وأنا مِنَ الجَاهِلِينَ " .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : ( وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) قال : من الجاهلين.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) فقال موسى : لم أكفر ، ولكن فعلتها وأنا من الضالين. وفي حرف ابن مسعود : " فعلتها إذا وأنا من الجاهلين " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) قبل أن يأتيني من الله شيء كان قتلي إياه ضلالة خطأ. قال : والضلالة ههنا الخطأ ، لم يقل ضلاله فيما بينه وبين الله.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) يقول : وأنا من الجاهلين.
وقوله( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ )... الآية ، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل موسى لفرعون : ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ ) معشر الملأ من قوم فرعون( لَمَّا خِفْتُكُمْ ) أن تقتلوني بقتلي القتيل منكم.( فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا ) يقول : فوهب لي ربي نبوّة وهي الحكم.
كما حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط عن السديّ : ( فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا ) والحكم : النبوّة.
وقوله : ( وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) يقول : وألحقني بعداد من أرسله إلى خلقه ، مبلغا عنه رسالته إليهم بإرساله إياي إليك يا فرعون.

(19/341)


وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ ) يعني بقوله : وتلك تربية فرعون إياه ، يقول : وتربيتك إياي ، وتركك استعبادي ، كما استعبدت بني إسرائيل نعمة منك تمنها عليّ بحقّ. وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ذكر عليه عنه ، وهو : وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل وتركتني ، فلم تستعبدني ، فترك ذكر " وتركتني " لدلالة قوله( أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) عليه ، والعرب تفعل ذلك اختصارا للكلام ، ونظير ذلك في الكلام أن يستحق رجلان من ذي سلطان عقوبة ، فيعاقب أحدهما ، ويعفو عن الآخر ، فيقول المعفو عنه هذه نعمة علي من الأمير أن عاقب فلانا ، وتركني ، ثم حذف " وتركني " لدلالة الكلام عليه ، ولأن في قوله : ( أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وجهين : أحدهما النصب ، لتعلق " تمنها " بها ، وإذا كانت نصبا كان معنى الكلام : وتلك نعمة تمنها علي لتعبدك بني إسرائيل. والآخر : الرفع على أنها ردّ على النعمة. وإذا كانت رفعا كان معنى الكلام : وتلك نعمة تمنها عليّ تعبيدك بني إسرائيل. ويعني بقوله : ( أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) : أن اتخذتهم عبيدا لك. يقال منه : عبدت العبيد وأعبدتهم ، قال الشاعر :
عَلامَ يُعْبِدنِي قَومِي وقدْ كَثُرَتْ... فِيها أباعِرُ ما شاءُوا وَعُبْدَانُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) قال : قهرتهم واستعملتهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال :
__________
(1) البيت من شواهد (اللسان : عبد) قال : تعبد الرجل (وعبده) بتشديد الباء فيهما ، وأعبده : صيره كالعبد. قال الشاعر : " ختام يعبدني قومي.. " البيت.

(19/342)


تمن علي أن عبَّدت بني إسرائيل ، قال : قهرت وغلبت واستعملت بني إسرائيل.
حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ : ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وربيتني قبل وليدا.
وقال آخرون : هذا استفهام كان من موسى لفرعون ، كأنه قال : أتمنّ عليّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيدا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ ) قال : يقول موسى لفرعون : أتمنّ عليّ أن اتخذت أنت بني إسرائيل عبيدا.
واختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي البصرة : وتلك نعمة تمنها عليّ ، فيقال : هذا استفهام كأنه قال : أتمنها علي ؟ ثم فسر فقال : ( أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وجعله بدلا من النعمة. وكان بعض أهل العربية ينكر هذا القول ، ويقول : هو غلط من قائله لا يجوز أن يكون همز الاستفهام يلقى ، وهو يطلب ، فيكون الاستفهام كالخبر ، قال : وقد استقبح ومعه أم ، وهي دليل على الاستفهام واستقبحوا :
تَرُوحُ منَ الحَيّ أمْ تَبْتَكرْ... وَماذَا يَضُرُّكَ لَوْ تَنْتظرْ? (1)
قال : وقال بعضهم : هو أتروح من الحيّ ، وحذف الاستفهام أوّلا اكتفاء بأم. وقال أكثرهم : بل الأوّل خبر ، والثاني استفهام ، وكأن " أم " إذا جاءت بعد الكلام فهي الألف ، فأما وليس معه أم ، فلم يقله إنسان.
وقال بعض نحويي الكوفة في ذلك ما قلنا. وقال : معنى الكلام : وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين لنعمتي : أي لنعمة تربيتي لك ، فأجابه فقال : نعم هي نعمة عليّ أن عبدت الناس ولم تستعبدني.
وقول( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) يقول : وأيّ شيء ربّ العالمين ؟
( قال )
__________
(1) البيت : لامرىء القيس بن حجر الكندي (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 115) تروح : أتروح ، وتبتكر : تخرج مبكرًا. يقول : أتروح إلى أهلك آخر النهار ، أم تخرج إليهم بكرة ، وما الذي يعجلك عن الانتظار وهو خير لك. والبيت شاهد على أنه حذف همزة الاستفهام اكتفاء بدلالة أم عليه. وبعضهم يستقبح الحذف في هذا الموضع. ويمنعه فيما يلبس بالخبر.

(19/343)


قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)

موسى هو( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) ومالكهن(وَمَا بَيْنَهُمَا ) يقول : ومالك ما بين السموات والأرض من شيء.( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) يقول : إن كنتم موقنين أن ما تعاينونه كما تعاينونه ، فكذلك فأيقنوا أن ربنا هو ربّ السموات والأرض وما بينهما.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) }
يعني تعالى ذكره بقوله( قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ ) قال فرعون لمن حوله من قومه : ألا تستمعون لما يقول موسى ، فأخبر موسى عليه السلام القوم بالحواب عن مسألة فرعون إياه وقيله له( وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ليفهم بذلك قوم فرعون مقالته لفرعون ، وجوابه إياه عما سأله ، إذ قال لهم فرعون( أَلا تَسْتَمِعُونَ ) إلى قول موسى ، فقال لهم الذي دعوته إليه وإلى عبادته( رَبُّكُمْ ) الذي خلقكم( وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) فقال فرعون لما قال لهم موسى ذلك ، وأخبرهم عما يدعو إليه فرعون وقومه : ( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) يقول : إن رسولكم هذا الذي يزعم أنه أرسل إليكم لمغلوب على عقله ، لأنه يقول قولا لا نعرفه ولا نفهمه ، وإنما قال ذلك ونسب موسى عدو الله إلى الجنة ، لأنه كان عنده وعند قومه أنه لا رب غيره يعبد ، وأن الذي يدعوه إليه موسى باطل ليست له حقيقة ، فقال موسى عند ذلك محتجًّا عليهم ، ومعرفهم ربهم بصفته وأدلته ، إذ كان عند قوم فرعون أن الذي يعرفونه ربًّا لهم في ذلك الوقت هو فرعون ، وأن الذي يعرفونه لآبائهم أربابا ملوك أخر ، كانوا قبل فرعون ، قد مضوا فلم يكن عندهم أن موسى أخبرهم بشيء له معنى يفهمونه ولا يعقلونه ، ولذلك قال لهم فرعون : إنه مجنون ، لأن كلامه كان عندهم كلاما لا يعقلون معناه ، وقوله : (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا) فمعناه : الذي أدعوكم وفرعون إلى عبادته رب المشرق والمغرب وما بينهما يعني ملك مشرق الشمس ومغربها ، وما بينهما من شيء لا إلى عبادة ملوك مصر الذين كانوا ملوكها قبل فرعون لآبائكم فمضوا ، ولا إلى عبادة فرعون الذي هو ملكها.( إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) يقول : إن كان لكم عقول تعقلون بها ما يقال لكم ، وتفهمون بها ما تسمعون مما يعين لكم ؛ فلما أخبرهم عليه السلام بالأمر الذي علموا أنه الحق

(19/344)


قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)

الواضح ، إذ كان فرعون ومن قبله من ملوك مصر لم يجاوز ملكهم عريش مصر ، وتبين لفرعون ومن حوله من قومه أن الذي يدعوهم موسى إلى عبادته ، هو الملك الذي يملك الملوك. قال فرعون حينئذ استكبارا عن الحق ، وتماديا في الغي لموسى : ( لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي ) يقول : لئن أقررت بمعبود سواي( لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) يقول : لأسجننك مع من في السجن من أهله.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) }
يقول تعالى ذكره : قال موسى لفرعون لما عرفه ربه ، وأنه رب المشرق والمغرب ، ودعاه إلى عبادته وإخلاص الألوهة له ، وأجابه فرعون بقوله( لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) : أتجعلني من المسجونين( أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ) يبين لك صدق ما أقول يا فرعون وحقيقة ما أدعوك إليه ؟ وإنما قال ذلك له ، لأن من أخلاق الناس السكون للإنصاف ، والإجابة إلى الحق بعد البيان ؛ فلما قال موسى له ما قال من ذلك ، قال له فرعون : فأت بالشيء المبين حقيقة ما تقول ، فإنا لن نسجنك حينئذ إن اتخذت إلها غيري إن كنت من الصادقين : يقول : إن كنت محقا فيما تقول ، وصادقا فيما تصف وتخبر ، ( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) يقول جلّ ثناؤه : فألقى موسى عصاه فتحوّلت ثعبانا ، وهي الحية الذكر كما قد بيَّنت فيما مضى قبل من صفته وقوله( مُبِينٌ ) يقول : يبين لفرعون والملأ من قومه أنه ثعبان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) يقول : مبين له خلق حية.
وقوله : ( وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ ) يقول : وأخرج موسى يده من جيبه فإذا هي بيضاء تلمع( للناظرين ) لمن ينظر إليها ويراها.

(19/345)


قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عثام بن عليّ ، قال : ثنا الأعمش ، عن المنهال ، قال : ارتفعت الحية في السماء قدر ميل ، ثم سفلت حتى صار رأس فرعون بين نابيها ، فجعلت تقول : يا موسى مرني بما شئت ، فجعل فرعون يقول : يا موسى أسألك. بالذي أرسلك ، قال : فأخذه بطنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) }
يقول تعالى ذكره : قال فرعون لما أراه موسى من عظيم قدرة الله وسلطانه حجة عليه لموسى بحقيقة ما دعاه إليه ، وصدق ما أتاه به من عند ربه( لِلْمَلإ حَوْلَهُ ) يعني لأشراف قومه الذين كانوا حوله.( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) يقول : إن موسى سحر عصاه حتى أراكموها ثعبانا( عَلِيمٌ ) ، يقول : ذو علم بالسحر وبصر به.( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ) يقول : يريد أن يخرج بني إسرائيل من أرضكم إلى الشأم بقهره إياكم بالسحر. وإنما قال : يريد أن يخرجكم فجعل الخطاب للملإ حوله من القبط ، والمعنيّ به بنو إسرائيل ، لأن القبط كانوا قد استعبدوا بني إسرائيل ، واتخذوهم خدما لأنفسهم ومهانا ، فلذلك قال لهم : ( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ ) وهو يريد : أن يخرج خدمكم وعبيدكم من أرض مصر إلى الشأم.
وإنما قلت معنى ذلك كذلك ، لأن الله إنما أرسل موسى إلى فرعون يأمره بإرسال بني إسرائيل معه ، فقال له ولأخيه( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ).
وقوله : ( فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ) يقول : فأي شيء تأمرون في أمر موسى وما به تشيرون من الرأي فيه ؟( قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ) يقول تعالى ذكره : فأجاب فرعون الملأ حوله بأن قالوا له : أخِّر موسى وأخاه وأنظره ، وابعث في بلادك وأمصار مصر حاشرين يحشرون إليك كل سحّار عليم بالسحر.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)

(19/346)


وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)

وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) }

(19/347)


لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) }
يقول تعالى ذكره : فجمع الحاشرون الذين بعثهم فرعون بحشر السحرة( لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) يقول : لوقت واعد فرعون لموسى الاجتماع معه فيه من يوم معلوم ، وذلك يوم الزينة( وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ).
وقيل للناس : هل أنتم مجتمعون لتنظروا إلى ما يفعل الفريقان ، ولمن تكون الغلبة ، لموسى أو للسحرة ؟ فلعلنا نتبع السحرة ، ومعنى لعل هنا كي ، يقول : كي نتبع السحرة ، إن كانوا هم الغالبين موسى ، وإنما قلت ذلك معناها : لأن قوم فرعون كانوا على دين فرعون ، فغير معقول أن يقول من كان على دين : أنظر إلى حجة من هو على خلافي لعلي اتبع ديني ، وإنما يقال : أنظر إليها كي ازداد بصيرة بديني ، فأقيم عليه. وكذلك قال قوم فرعون. فإياها عنوا بقيلهم : (لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين).
وقيل : إن اجتماعهم للميقات الذي اتعد للاجتماع فيه فرعون وموسى كان بالإسكندرية.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ) قال : كانوا بالإسكندرية ، قال : ويقال : بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة يومئذ ، قال : وهربوا وأسلموا فرعون وهمت به ، فقال : فخذها يا موسى ، قال : فكان فرعون مما يلي الناس منه أنه كان لا يضع على الأرض شيئا ، قال : فأحدث يومئذ تحته ، قال : وكان إرساله الحية في القبة الحمراء.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) }
يقول تعالى ذكره : ( فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ ) فرعون لوعد لموسى وموعد فرعون( قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا ) سحرنا قبلك( إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ مُوسَى قال ) فرعون لهم( نَعَمْ ) لكم الأجر على ذلك( وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) منا. فقالوا عند ذلك لموسى : إما أن تلقي ، وإما أن نكون نحن الملقين ، وترك ذكر قيلهم

(19/347)


فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)

ذلك لدلالة خبر الله عنهم أنهم قال لهم موسى : ألقوا ما أنتم ملقون ، على أن ذلك معناه ف( قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ) من حبالكم وعصيكم.( فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ) من أيديهم( وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ ) يقول : أقسموا بقوّة فرعون وشدّة سلطانه ، ومنعة مملكته( إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ) موسى.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) }
يقول تعالى ذكره : ( فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ ) حين ألقت السحرة حبالهم وعصيهم.( فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ) يقول : فإذا عصا موسى تزدرد ما يأتون به من الفرية والسحر الذي لا حقيقة له ، وإنما هو مخاييل (1) وخدعة.( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ) يقول : فلما تبين السحرة أن الذي جاءهم به موسى حق لا سحر ، وأنه مما لا يقدر عليه غير الله الذي فطر السموات والأرض من غير أصل ، خرّوا لوجوههم سجدا لله ، مذعنين له بالطاعة ، مقرّين لموسى بالذي أتاهم به من عند الله أنه هو الحقّ ، وأن ما كانوا يعملونه من السحر باطل ، قائلين : ( آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) الذي دعانا موسى إلى عبادته دون فرعون وملئه.( رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) يقول جلّ ثناؤه : قال فرعون للذين كانوا سحرته فآمنوا : آمنتم لموسى بأن ما جاء به حق قبل أن آذن لكم في الإيمان به.( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) يقول : إن موسى لرئيسكم في السحر ، وهو الذي علَّمكموه ، ولذلك آمنتم به.( فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) عند عقابي إياكم وبال ما فعلتم ، وخطأ ما صنعتم من الإيمان به.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) }
__________
(1) مخاييل : جمع مخيلة ، بمعنى المظنة ، وأصله مخايل. والكوفيون يزيدون في مثل هذا الجمع ياء قبل آخره ، مثل دارهيم وصياريف جمعى درهم وصيرف.

(19/348)


إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)

يقول( لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) مخالفا في قطع ذلك منكم بين قطع الأيدي والأرجل ، وذلك أن أقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، ثم اليد اليسرى والرجل اليمنى ، ونحو ذلك من قطع اليد من جانب ، ثم الرجل من الجانب الآخر ، وذلك هو القطع من خلاف( وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ) فوكد ذلك بأجمعين إعلاما منه أنه غير مُسْتَبْقٍ منهم أحدا.( قَالُوا لا ضَيْرَ ) يقول تعالى ذكره : قالت السحرة : لا ضير علينا; وهو مصدر من قول القائل : قد ضار فلانٌ فلانا فهو يضير ضيرا ، ومعناه : لا ضرر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( لا ضَيْرَ ) قال : يقول : لا يضرنا الذي تقول ، وإن صنعته بنا وصلبتنا.( إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ) يقول : إنا إلى ربنا راجعون ، وهو مجازينا بصبرنا على عقوبتك إيانا ، وثباتنا على توحيده ، والبراءة من الكفر به.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل السحرة : إنا نطمع : إنا نرجو أن يصفع لنا ربنا عن خطايانا التي سلفت منا قبل إيماننا به ، فلا يعاقبنا بها.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا ) قال : السحر والكفر الذي كانوا فيه.( أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول : لأن كنا أوّل من آمن بموسى وصدقه بما جاء به من توحيد الله وتكذيب فرعون في ادعائه الربوبية في دهرنا هذا وزماننا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال : كانوا كذلك يومئذ أول من آمن بآياته حين رأوها.

(19/349)


فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)

وقوله : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي ) يقول : وأوحينا إلى موسى إذ تمادى فرعون في غيه وأبى إلا الثبات على طغيانه بعد ما أريناه آياتنا ، أن أسر بعبادي : يقول : أن سر ببني إسرائيل ليلا من أرض مصر.( إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) إن فرعون وجنده متبعوك وقومك من بني إسرائيل ، ليحولوا بينكم وبين الخروج من أرضهم ، أرض مصر.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) }
يقول تعالى ذكره : فأرسل فرعون في المدائن يحشر له جنده وقومه ويقول لهم( إِنَّ هَؤُلاءِ ) يعني بهؤلاء : بني إسرائيل( لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) يعني بالشرذمة : الطائفة والعصبة الباقية من عصب جبيرة ، وشرذمة كل شيء : بقيته القليلة; ومنه قول الراجز :
جَاءَ الشِّتَاءُ وقَمِيصِي أخْلاقْ... شَرَاذِمٌ يَضْحَكُ مِنْهُ التَّوَّاقْ (1)
وقيل : قليلون ، لأن كل جماعة منهم كان يلزمها معنى القلة; فلما جمع جمع جماعاتهم قيل : قليلون ، كما قال الكُمَيت :
فَرَدَّ قَوَاصِيَ الأحْيَاء مِنْهُمْ... فَقَدْ صَارُوا كَحَيّ وَاحدينا (2)
__________
(1) البيت في (اللسان : خلق) منسوب لراجز. قال : يقال : ثوب أخلاق ، يصفون به الواحد ، إذا كانت الخلوقة فيه كله ، كما قالوا : برمة أعشار ، وحبل أرمام ، وأرض سباسب ، وكذلك برمة أخلاق عن اللحياني ، أي نواحيها أخلاق. وقال الراجز : " جاء الشتاء.. " البيت ا ه. كأنه لما صار خلقًا كله ، كان كل جزء فيه خلقًا ، فجمعه باعتبار أجزائه ، كما تفيده عبارة اللحياني. والتواق : اسم ولد الراجز. وفي (اللسان : شرذم) الشرذمة : القطعة من الشيء ، والجمع شراذم والشرذمة : الجماعة من الناس القليلة ، وفي التنزيل : (إن هؤلاء لشرذمة قليلون) وثياب شراذم أي : أخلاق متقطعة وثوب شراذم أي قطع. وأنشد البيت عن ابن برى.
(2) البيت للكميت (اللسان : وحد). قال الجوهري : العرب تقول : أنتم حي واحد ، وحي واحدون ، كما يقال : شرذمة قليلون ، وأنشد للكميت : " فرد قواصي الأحياء.. " البيت. وهو يشبه كلام الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة الورقة 229) قال : وقوله : (إن هؤلاء لشرذمة قليلون) يقول : عصبة قليلة ، وقليلون وكثيرون. وأكثر كلام العرب أن يقولوا : قومك قليل وقومنا كثير. وقليلون وكثيرون : جائز عربي ، وإنما جاز لأن القلة إنما تدخلهم جميعًا ، فقيل : قليل ؛ وأوثر " قليل " على " قليلين " ، وجاز الجمع إذا كانت القلة تلزم جميعهم في المعنى ، فظهرت أسماؤهم على ذلك. ومثله أنتم حي واحد ، وحي واحدون. ومعنى واحدون : واحد ، كما قال الكميت : " فرد قواصي الأحياء.. " البيت.

(19/350)


وذكر أن الجماعة التي سماها فرعون شرذمة قليلين ، كانوا ستّ مئة ألف وسبعين ألفا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة : ( إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) ، قال : كانوا ستّ مئة وسبعين ألفا.
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عُبيدة ، عن عبد الله ، قال : الشرذمة : ستّ مئة ألف وسبعون ألفا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد ، قال : اجتمع يعقوب وولده إلى يوسف ، وهم اثنان وسبعون ، وخرجوا مع موسى وهم ستّ مئة ألف ، فقال فرعون( إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) ، وخرج فرعون على فرس أدهم حصان على لون فرسه في عسكره ثمان مئة ألف.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن سعيد الجريري ، عن أبي السليل ، عن قيس بن عباد ، قال : وكان من أكثر الناس أو أحدث الناس عن بني إسرائيل ، قال : فحدثنا أن الشرذمة الذين سماهم فرعون من بني إسرائيل كانوا ستّ مئة ألف ، قال : وكان مقدمة فرعون سبعة مئة ألف ، كل رجل منهم على حصان على رأسه بيضة ، وفي يده حربة ، وهو خلفهم في الدهم. فلما انتهى موسى ببني إسرائيل إلى البحر ، قالت بنو إسرائيل. يا موسى أين ما وعدتنا ، هذا البحر بين أيدينا ، وهذا فرعون وجنوده قد دهمنا من خلفنا ، فقال موسى للبحر : انفلق أبا خالد ، قال : لا لن أنفلق لك يا موسى ، أنا أقدم منك خلقا; قال : فنودي أن أضرب بعصاك البحر ، فضربه ، فانفلق البحر ، وكانوا اثني عسر سبطا. قال الجريري. فأحسبه قال : إنه كان لكل سبط طريق ، قال : فلما انتهى أول جنود فرعون إلى البحر ، هابت الخيل اللهب; قال : ومثل لحصان منها فرس وديق ، فوجد ريحها فاشتدّ ، فاتبعه الخيل; قال : فلما تتام آخر جنود فرعون في البحر ، وخرج آخر بني إسرائيل ، أمر البحر فانصفق عليهم ، فقالت بنو إسرائيل : ما مات فرعون وما كان ليموت أبدا ، فسمع الله تكذيبهم نبيه عليه السلام ، قال : فرمى به على الساحل ، كأنه ثور أحمر يتراءاه بنو إسرائيل.

(19/351)


حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ( إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) يعني بني إسرائيل.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) قال : هم يومئذ ستّ مئة ألف ، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) قال : أوحى الله إلى موسى أن اجمع بني إسرائيل ، كل أربعة أبيات في بيت ، ثم اذبحوا أولاد الضأن ، فاضربوا بدمائها على الأبواب ، فإني سآمر الملائكة أن لا تدخل بيتا على بابه دم ، وسآمرهم بقتل أبكار آل فرعون من أنفسهم وأموالهم ، ثم اخبزوا خبزا فطيرا ، فإنه أسرع لكم ، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي للبحر ، فيأتيك أمري ، ففعل; فلما أصبحوا قال فرعون : هذا عمل موسى وقومه قتلوا أبكارنا من أنفسنا وأموالنا ، فأرسل في أثرهم ألف ألف وخمس مئة ألف وخمس مئة ملك مسوّر ، مع كل ملك ألف رجل ، وخرج فرعون في الكرش العظمى ، وقال( إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) قال : قطعة ، وكانوا ستّ مئة ألف ، مئتا ألف منهم أبناء عشرين سنة إلى أربعين.
قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن حوشب ، عن ابن عباس ، قال : كان مع فرعون يومئذ ألف جبار ، كلهم عليه تاج ، وكلهم أمير على خيل.
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : كانوا ثلاثين ملكا ساقة خلف فرعون يحسبون أنهم معهم وجبرائيل أمامهم ، يرد أوائل الخيل على أواخرها ، فأتبعهم حتى انتهى إلى البحر ، وقوله : ( وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ) يقول : وإن هؤلاء الشرذمة لنا لغائظون ، فذكر أن غيظهم إياهم كان قتل الملائكة من قتلت من أبكارهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ) يقول : بقتلهم أبكارنا من أنفسنا وأموالنا. وقد يحتمل أن يكون معناه : وإنهم لنا لغائظون بذهابهم منهم بالعواريّ التي كانوا استعاروها منهم من الحليّ ،

(19/352)


ويحتمل أن يكون ذلك بفراقهم إياهم ، وخروجهم من أرضهم بكره لهم لذلك.
وقوله( وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة( وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) بمعنى : أنهم معدون مؤدون ذوو أداة وقوّة وسلاح. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة : " وأنا لجميع حذرون " بغير ألف. وكان الفرّاء يقول : كأن الحاذر الذي يحذرك الآن ، وكأن الحذر المخلوق حذرا لا تلقاه إلا حذرا; ومن الحذر قول ابن أحمر :
هَلْ أُنسَأَنْ يَوْما إلى غَيْرِهِ... إنِّي حَوَالِيٌّ وآنّي حَذِر (1)
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ ، فمصيب الصواب فيه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت الأسود بن زيد يقرأ : ( وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) قال : مقوون مؤدون.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عيسى بن عبيد ، عن أيوب ، عن أبي العرجاء ، عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقرأ : ( وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) يقول : مؤدون.
__________
(1) البيت لابن أحمر الباهلي. قاله المؤلف. ونسبه في (اللسان : حول) إلى المرار بن منقذ العدوي. قال : ويقال رجل حوالي : للجيد الرأي ذي الحيلة كما قال ابن أحمر ، ويقال للمرار بن منقذ العدوي * أو تنسأن يومي إلى غيره *
وقال في " حذر " : ورجل حذر وحذر (بكسر الذال وضمها) وحاذورة ، وحذريان : متيقظ ، شديد الحذر والفزع متحرز. وحاذر : متأهب معد ، كأنه يحذر أن يفاجأ. والجمع " حذرون وحذارى " . وفي التنزيل : (وإنا لجميع حاذرون " ، وقرئ " حذرون " و " حذرون " . الأخيرة بضم الذال ، حكاه الأخفش. ومعنى " حاذرون " متأهبون ، ومعنى " حذرون " خائفون. وقيل : معنى " حذرون " معدون. الأزهري. من قرأ (وإنا لجميع حاذرون) أي مستعدون. ومن قرأ " حذرون " فمعناه : إنا نخاف شرهم. وقال الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة ، الورقة 229) : وقوله : " حاذرون ، وحذرون : حدثني أبو ليلى السجستاني ، عن ابن جرير قاضي سجستان ، أن ابن مسعود قرأ : (وإنا لجميع حاذرون). يقولون : مؤدون في السلاح. يقولون : ذوو أداة من السلاح. و " حذرون " وكأن الحاذر : الذي يحذرك الآن ؛ وكأن " الحذر " : المخلوق حذرًا : ، لا تلقاه إلا حذرًا. ا ه.

(19/353)


فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : ( وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) يقول : حذرنا ، قال : جمعنا أمرنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) قال : مؤدون معدون في السلاح والكراع.
ثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج أبو معشر ، عن محمد بن قيس قال : كان مع فرعون ست مئة ألف حصان أدهم سوى ألوان الخيل.
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا سليمان بن معاذ الضبي ، عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس أنه قرأها : ( وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) قال : مؤدون مقوون.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) }
يقول تعالى ذكره : فأخرجنا فرعون وقومه من بساتين وعيون ماء ، وكنوز ذهب وفضة ، ومقام كريم. قيل : إن ذلك المقام الكريم : المنابر. وقوله( كذلك ) يقول : هكذا أخرجناهم من ذلك كما وصفت لكم في هذه الآية والتي قبلها.( وأورثناها ) يقول : وأورثنا تلك الجنات التي أخرجناهم منها والعيون والكنوز والمقام الكريم عنهم بهلاكهم بني إسرائيل.وقوله : ( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ) فأتبع فرعون وأصحابه بني إسرائيل ، مشرقين حين أشرقت الشمس ، وقيل حين أصبحوا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ) قال : خرج موسى ليلا فكسف القمر وأظلمت الأرض ، وقال أصحابه : إن يوسف أخبرنا أنا سننجَى من فرعون ، وأخذ علينا العهد لنخرجنّ بعظامه معنا ، فخرج موسى ليلته يسأل عن قبره ، فوجد عجوزا بيتها على قبره ، فأخرجته له بحكمها ، وكان حكمها أو كلمة تشبه هذا ، أن قالت : احملني فأخرجني معك ، فجعل عظام يوسف في كسائه ، ثم حمل العجوز على كسائه ، فجعله على رقبته ، وخيل فرعون هي ملء أعنتها

(19/354)


حضرا (1) في أعينهم ، ولا تبرح ، حبست عن موسى وأصحابه حتى تواروا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ) قال : فرعون وأصحابه ، وخيل فرعون في ملء أعنتها في رأي عيونهم ، ولا تبرح ، حبست عن موسى وأصحابه حتى تواروا.
__________
(1) في الأصل خضراء ، والراجح أنه " حضرًا " ، وهو الأسراع في العدو. أي : يرونها مسرعة وهي لا تبرح أماكنها.

(19/355)


فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) }
يقول تعالى ذكره : فلما تناظر الجمعان : جمع موسى وهم بنو إسرائيل ، وجمع فرعون وهم القبط( قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) أي إنا لملحقون ، الآن يلحقنا فرعون وجنوده فيقتلوننا ، وذكر أنهم قالوا ذلك لموسى ، تشاؤما بموسى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قلت لعبد الرحمن( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) قال : تشاءموا بموسى ، وقالوا : ( أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ) .
حدثنا موسى ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ : ( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ ) فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد رمقهم قالوا( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالوا يَامُوسَى أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ) اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا ، إنا لمدركون; البحر بين أيدينا ، وفرعون من خلفنا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، قال : لما انتهى موسى إلى البحر ، وهاجت الريح العاصف ، فنظر أصحاب موسى خلفهم إلى الريح ، وإلى البحر أمامهم( قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ).

(19/355)


واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى الأعرج( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) ، وقرأه الأعرج : " إنَّا لَمُدَرَّكُونَ " كما يقال نزلت ، وأنزلت. والقراءة عندنا التي عليها قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
وقوله : ( كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) قال موسى لقومه : ليس الأمر كما ذكرتم ، كلا لن تدركوا إن معي ربي سيهدين ، يقول : سيهدين لطريق أنجو فيه من فرعون وقومه.
كما حدثني ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دُهم الخيل ، سوى ما في جنده من شية الخيل ، وخرج موسى حتى إذا قابله البحر ، ولم يكن عنه منصرف ، طلع فرعون في جنده من خلفهم( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) أي للنجاة ، وقد وعدني ذلك ، ولا خُلف لموعوده.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ : ( قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) يقول : سيكفيني ، وقال : ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وقوله فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ ) ذكر أن الله كان قد أمر البحر أن لا ينفلق حتى يضربه موسى بعصاه.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : فتقدم هارون فضرب البحر ، فأبى أن ينفتح ، وقال : من هذا الجبار الذي يضربني ، حتى أتاه موسى فكناه أبا خالد ، وضربه فانفلق.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : أوحى الله فيما ذكر إلى البحر : إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له ، قال : فبات البحر يضرب بعضه بعضا فرقا من الله ، وانتظار أمره ، وأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه ، فانفلق.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، ظن سليمان التيمي ، عن أبي السليل ، قال : لما ضرب موسى بعصاه البحر ، قال : إيها أبا خالد ، فأخذه إفْكَلُ.

(19/356)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، وحجاج عن أبي : بكر بن عبد الله وغيره ، قالوا : لما انتهى موسى إلى البحر وهاجت الريح والبحر يرمي بتياره ، ويموج مثل الجبال ، وقد أوحى الله إلى البحر أن لا ينفلق حتى يضربه موسى بالعصا ، فقال له يوشع : يا كليم الله أين أمرت ؟ قال : ههنا ، قال : فجاز البحر ما يواري حافره الماء ، فذهب القوم يصنعون مثل ذلك ، فلم يقدروا ، وقال له الذي يكتم إيمانه : يا كليم الله أين أمرت ؟ قال : ههنا ، فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه ، ثم قحمه البحر فأرسب في الماء ، فأوحى الله إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر ، فضرب بعصاه موسى البحر فانفلق ، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتلّ سرجه ولا لبده.
وقوله : ( فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) يقول تعالى ذكره : فكان كل طائفة من البحر لما ضربه موسى كالجبل العظيم. وذُكر أنه انفلق اثنتي عشرة فلقة على عدد الأسباط ، لكل سبط منهم فرق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ : ( فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) يقول : كالجبل العظيم ، فدخلت بنو إسرائيل ، وكان في البحر اثنا عشر طريقا ، في كل طريق سبط ، وكان الطريق كما إذا انفلقت الجدران ، فقال : كل سبط قد قتل أصحابنا; فلما رأى ذلك موسى دعا الله فجعلها قناطر كهيئة الطيقان ، فنظر آخرهم إلى أولهم حتى خرجوا جميعا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، وحجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله وغيره قالوا : انفلق البحر ، فكان كل فرق كالطود العظيم ، اثنا عشر طريقا في كل طريق سبط ، وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطا ، وكانت الطرق بجدران ، فقال كل سبط : قد قتل أصحابنا; فلما رأى ذلك موسى ، دعا الله فجعلها لهم بقناطر كهيئة الطيقان ، ينظر بعضهم إلى بعض ، وعلى أرض يابسة كأن الماء لم يصبها قطّ حتى عبر.
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : لما انفلق البحر لهم صار فيه

(19/357)


وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)

كوى ينظر بعضهم إلى بعض.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق : ( فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) أي كالجبل على نشز من الأرض.
حدثني عليّ ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) يقول : كالجبل.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) قال : كالجبل العظيم.
ومنه قول الأسود بن يعفر :
حَلُّوا بأنْقِرَةٍ يَسيلُ عَلَيْهِمُ... ماء الفُرَاتِ يَجيءُ مِنْ أطْوادِ (1)
يعني بالأطواد : جمع طود ، وهو الجبل.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) }
يعني بقول تعالى ذكره : ( وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ ) : وقرّبنا هنالك آل فرعون من البحر ، وقدمناهم إليه ، ومنه قوله : ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ) بمعنى : قربت وأُدنيت; ومنه قول العجاج :
طَيّ اللَّيالي زُلَفا فَزُلَفا... سَماوَةَ الهِلالِ حتى احْقَوْقَفَا (2)
__________
(1) البيت للأسود بن يعفر ، قاله المؤلف. وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (مخطوطة الجامعة ص 172) قال : كالطود العظيم : أي الجبل. قال : " حلوا بأنقرة.. " البيت وفي (اللسان : طود) : الطود : الجبل العظيم. وفي حديث عائشة تصف أباها (رضي الله عنهما) : ذاك طود منيف : أي جبل عال. والطود : الهضبة. عن ابن الأعرابي. والجمع : أطواد. ا ه. وفي رواية أبي عبيدة في مجاز القرآن : " يجيش " في موضع " يسيل " ورواية البكري في معجم ما استعجم ص 204 طبعة القاهرة : " يسيل " كرواية المؤلف. وأنقرة : موضع بظهر الكوفة ، أسفل من الخورنق ، كانت إياد تنزله في الدهر الأول ، إذا غلبوا على ما بين الكوفة والبصرة. قال البكري : وفيه اليوم طيئ وسليح ، وفي بارق إلى هيث وما يليها ، كلها منازل طيئ وسليح. هذا قول عمر بن شبة. وقال غيره : أنقرة : موضع بالحيرة. وقد صرحوا بأن أنقرة هذه. غير أنقرة التي في بلاد الروم (الأناضول) وهي الآن قاعدة دولة الترك.
(2) البيت من مشطور الرجز ، وهما للعجاج ، من أرجوزة مطولة له ، وصف ارتحاله في ظلال الليل ، وجملا ناجيًا حمله. (انظر اللسان : زلف. وأراجيز العرب للسيد البكري ص 52). وقبل البيتين بيت متصل بمعناهما ، وهو قوله : * ناج طواه الأين مما وجفا *
قال في اللسان : يقول : منزلة بعد منزلة ، ودرجة بعد درجة. وقال السيد البكري : زلفًا فزلفًا : أي درجة فدرجة. وسماوة : أي أعلى. واحقوقف : اعوج. يريد طواه السير كما تطوى الليالي الأهلة حتى تنحل (من النحول) وتعوج ا ه. وفي اللسان : الزلف (كسبب) والزلفة والزلفى : القربة ، والدرجة ، والمنزلة. وأزلف الشيء : قربه. وفي التنزيل (وأُزلفت الجنة للمتقين) : أي قربت. قال الزجاج : وتأويله : أي قريب دخولهم فيها ، ونظرهم إليها. وقوله عز وجل : (وأزلفنا ثم الآخرين) معنى (أزلفنا) : جمعنا ، وقيل : قربنا الآخرين من الغرق ، وهم أصحاب فرعون ، وكلاهما حسن جميل ؛ لأن جمعهم تقريب بعضهم من بعض. والبيتان من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (ص 172 من مخطوطة جامعة القاهرة).

(19/358)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ ) قال : قرّبنا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ ) قال : هم قوم فرعون قربهم الله حتى أغرقهم في البحر.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : دنا فرعون وأصحابه بعد ما قطع موسى ببني إسرائيل البحر من البحر; فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا ، قال : ألا ترون البحر فرق مني ، قد تفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم ، فذلك قول الله( وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ ) يقول : قربنا ثم الآخرين هم آل فرعون; فلما قام فرعون على الطرق ، وأبت خيله أن تتقحم ، فنزل جبرائيل صلى الله عليه وسلم على ماذيانة ، فتشامَّتْ الحُصُن ريح الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم ، أمر البحر أن يأخذهم ، فالتطم عليهم ، وتفرد جبرائيل بمقلة من مقل البحر ، فجعل يدسها في فيه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : أقبل فرعون فلما أشرف على الماء ، قال أصحاب موسى : يا مكلم الله إن القوم يتبعوننا في الطريق ، فاضرب بعصاك البحر فاخلطه ، فأراد موسى أن يفعل ، فأوحى الله إليه : أن اترك البحر رَهْوا يقول : أمره على سكناته( إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) إنما أمكر بهم ،

(19/359)


فإذا سلكوا طريقكم غرقتهم; فلما نظر فرعون إلى البحر قال : ألا ترون البحر فرق مني حتى تفتح لي ، حتى أدرك أعدائي فأقتلهم; فلما وقف على أفواه الطرق وهو على حصان ، فرأى الحصان البحر فيه أمثال الجبال هاب وخاف ، وقال فرعون : أنا راجع ، فمكر به جبرائيل عليه السلام ، فأقبل على فرس أنثى ، فأدناها من حصان فرعون ، فطفق فرسه لا يقرّ ، وجعل جبرائيل يقول : تقدم ، ويقول : ليس أحد أحق بالطريق منك ، فتشامت الحصن الماذيانة ، فما ملك فرعون فرسه أن ولج على أثره; فلما انتهى فرعون إلى وسط البحر ، أوحى الله إلى البحر : خذ عبدي الظَّالم وعبادي الظلمة ، سلطاني فيك ، فإني قد سلطتك عليهم ، قال : فتغطمطت تلك الفرق من الأمواج كأنها الجبال ، وضرب بعضها بعضا; فلما أدركه الغرق( قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) وكان جبرائيل صلى الله عليه وسلم شديد الأسف عليه لما ردّ من آيات الله ، ولطول علاج موسى إياه ، فدخل في أسفل البحر ، فأخرج طينا ، فحشاه في فم فرعون لكيلا يقولها الثانية ، فتدركه الرحمة ، قال : فبعث الله إليه ميكائيل يعيره : ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) وقال جبرائيل : يا محمد ما أبغضت أحدا من خلق الله ما أبغضت اثنين أحدهما من الجن وهو إبليس ، والآخر فرعون( فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى ) : ولقد رأيتني يا محمد ، وأنا أحشو في فيه مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها.
وقد زعم بعضهم أن معنى قوله : ( وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ ) وجمعنا ، قال : ومنه ليلة المزدلفة ، قال : ومعنى ذلك : أنها ليلة جمع. وقال بعضهم : وأزلفنا ثَمَّ وأهلكنا.
وقوله : ( وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ) يقول تعالى ذكره : وأنجينا موسى مما أتبعنا به فرعون وقومه من الغرق في البحر ومن مع موسى من بني إسرائيل أجمعين. وقوله : ( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ) يقول : ثم أغرقنا فرعون وقومه من القبط في البحر بعد أن أنجينا موسى منه ومن معه.
وقوله : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) يقول تعالى ذكره : إن فيما فعلت بفرعون ومن معه تغريقي إياهم في البحر إذ كذبوا رسولي موسى ، وخالفوا أمري بعد الإعذار إليهم ، والإنذار لدلالة بينة يا محمد لقومك من قريش على أن ذلك سنتي فيمن سلك سبيلهم من تكذيب رسلي ، وعظة لهم وعبرة أن ادكروا واعتبروا أن يفعلوا مثل فعلهم من تكذيبك مع البرهان والآيات التي قد أتيتهم ، فيحلّ بهم من العقوبة نظير ما حل بهم ، ولك آية في فعلي بموسى ، وتنجيتي إياه بعد طول علاجه فرعون وقومه

(19/360)


وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)

منه ، وإظهاري إياه وتوريثه وقومه دورهم وأرضهم وأموالهم ، على أني سالك فيك سبيله ، إن أنت صبرت صبره ، وقمت من تبليغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه قيامه ، ومظهرك على مكذّبيك ، ومعليك عليهم.( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) يقول : وما كان أكثر قومك يا محمد مؤمنين بما أتاك الله من الحقّ المبين ، فسابق في علمي أنهم لا يؤمنون.
( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ) في انتقامه ممن كفر به وكذّب رسله من أعدائه ، ( الرَّحِيمُ ) بمن أنجى من رسله ، وأتباعهم من الغرق والعذاب الذي عذب به الكفرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) }
يقول تعالى ذكره : واقصص على قومك من المشركين يا محمد خبر إبراهيم حين قال لأبيه وقومه : أيّ شيء تعبدون ؟( قالوا لَهُ نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ) يقول : فنظلّ لها خدما مقيمين على عبادتها وخدمتها.
وقد بيَّنا معنى العكوف بشواهده فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وكان ابن عباس فيما روي عنه يقول في معنى ذلك ما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : ( قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ) قال : الصلاة لأصنامهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) }
يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم لهم : هل تسمع دعاءكم هؤلاء الآلهة إذ تدعونهم ؟ واختلف أهل العربية في معنى ذلك : فقال بعض نحويي البصرة معناه : هل يسمعون منكم أو هل يسمعون دعاءكم. فحذف الدعاء ، كما قال زُهَير :
القائِدُ الخَيْلَ مَنْكُوبًا دَوَابِرُها... قدْ أُحْكِمَتْ حَكماتِ القِدّ والأبَقا (1)
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى المزني ، من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان (مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة الحلبي 248) قال شارحه : الدوابر : الحوافر ، أي تأكلها الأرض وتؤثر فيها. (وفي اللسان : دبر) : دابرة الحافر مؤخرة ، وقيل : هي التي تلي مؤخر الرسغ. وجمعها : دوابر. (وأحكمت) : جعل لها حكمات. والحكمة : التي تكون على الأنف من الرسن. والقد : ما قطع من الجلد. والأبق : شبه الكتان ، وقيل : هو القنب. ا ه. وفي (اللسان : حكم) : والحكمة : حديدة في اللجام تكون على أنف الفرس وحنكه تمنعه عن مخالفة راكبه وحكم الفرس حكمًا (بفتح الحاء) ، وأحكمه بالحكمة : جعل للجامه حكمة ، وكانت العرب تتخذها من القد والأبق ، لأن قصدهم الشجاعة ، لا الزينة ؛ قال زهير : " القائد الخيل.. " البيت. يريد قد أحكمت بحكمات القد ، وبحكمات الأبق. فحذف الحكمات ، وأقام الأبق مكانها. ويروي : " محكومة حكمات القد والأبقا " على اللغتين جميعًا. قال أبو الحسن : عُدِّي : " قد أحكمت " لأن فيه معنى قلدت ، وقلدت متعدية إلى مفعولين ، الأزهري : وفرس محكومة في رأسها حكمة ، وأنشد * محكوكة حكمات القد والأبق *
ابن شميل : الحكمة : خلقة تكون في فم الفرس.

(19/361)


قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)

وقال : يريد أحكمت حكمات الأبق ، فألقى الحكمات وأقام الأبق مُقامها. وقال بعض من أنكر ذلك من قوله من أهل العربية : الفصيح من الكلام في ذلك هو ما جاء في القرآن ، لأن العرب تقول : سمعت زيدا متكلما ، يريدون : سمعت كلام زيد ، ثم تعلم أن السمع لا يقع على الأناسيّ. إنما يقع على كلامهم ثم يقولون : سمعت زيدا : أي سمعت كلامه. قال : ولو لم يقدم في بيت زهير حكمات القدّ لم يجز أن يسبق بالأبق عليها ، لأنه لا يقال : رأيت الأبق ، وهو يريد الحكمة. وقوله : ( أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ) يقول : أو تنفعكم هذه الأصنام ، فيرزقونكم شيئا على عبادتكموها ، أو يضرّونكم فيعاقبونكم على ترككم عبادتها بأن يسلبوكم أموالكم ، أو يهلكوكم إذا هلكتم وأولادكم( قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ). وفي الكلام متروك استغني بدلالة ما ذكر عما ترك ، وذلك جوابهم إبراهيم عن مسألته إياهم : ( هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ) فكان جوابهم إياه : لا ما يسمعوننا إذا دعوناهم ، ولا ينفعوننا ولا يضرّون ، يدل على أنهم بذلك أجابوه. قولهم : ( بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) وذلك رجوع عن مجحود ، كقول القائل : ما كان كذا بل كذا وكذا ، ومعنى قولهم : ( وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) وجدنا من قبلنا ولا يضرّون ، يدّل على أنهم بذلك أجابوه ، قولهم من آبائنا يعبدونها ويعكفون عليها لخدمتها وعبادتها ، فنحن نفعل ذلك اقتداء بهم ، واتباعا لمنهاجهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) }
يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم لقومه : أفرأيتم أيها القوم ما كنتم تعبدون من هذه

(19/362)


الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)

الأصنام أنتم وآباؤكم الأقدمون ، يعني بالأقدمين : الأقدمين من الذين كان إبراهيم يخاطبهم ، وهم الأوّلون قبلهم ممن كان على مثل ما كان عليه الذين كلمهم إبراهيم من عبادة الأصنام( فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ). يقول قائل : وكيف يوصف الخشب والحديد والنحاس بعداوة ابن آدم ؟ فإن معنى ذلك : فإنهم عدوّ لي لو عبدتهم يوم القيامة ، كما قال جلّ ثناؤه( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .
وقوله : ( إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ ) نصبا على الاستثناء ، والعدوّ بمعنى الجمع ، ووحد لأنه أخرج مخرج المصدر ، مثل القعود والجلوس.
ومعنى الكلام : أفرأيتم كل معبود لكم ولآبائكم ، فإني منه بريء لا أعبده ، إلا رب العالمين.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) }
يقول : فإنهم عدوّ لي إلا ربّ العالمين( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) للصواب من القول والعمل ، ويسددني للرشاد.( وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ) يقول : والذي يغذوني بالطعام والشراب ، ويرزقني الأرزاق( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) يقول : وإذا سقم جسمي واعتل ، فهو يبرئه ويعافيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) }
يقول : والذي يميتني إذا شاء ثم يحييني إذا أراد بعد مماتي.( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) فربي هذا الذي بيده نفعي وضرّي ، وله القدرة والسلطان ، وله الدنيا والآخرة ، لا الذي لا يسمع إذا دعي ، ولا ينفع ولا يضرّ. وإنما كان هذا الكلام من إبراهيم احتجاجا على قومه ، في أنه لا تصلح الألوهة ، ولا ينبغي أن تكون العبودة إلا لمن يفعل هذه الأفعال ، لا لمن لا يطيق نفعا ولا ضرّا.
وقيل : إن إبراهيم صلوات الله عليه ، عني بقوله : ( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) : والذي أرجو أن يغفر لي قولي : ( إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) وقولي لسارة : إنها أختي.

(19/363)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) قال : قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله : (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) وقوله لسارة : إنها أختي ، حين أراد فرعون من الفراعنة أن يأخذها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) قال : قوله( إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) وقوله لسارة : إنها أختي.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد نحوه.
ويعني بقوله( يَوْمِ الدِّينِ ) يوم الحساب ، يوم المجازاة. وقد بيَّنا ذلك بشواهده فيما مضى.

(19/364)


رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84)

القول في تأويل قوله تعالى : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن مسألة خليله إبراهيم إياه( رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا ) يقول : رب هب لي نبوّة.( وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) يقول : واجعلني رسولا إلى خلقك ، حتى تلحقني بذلك بعداد من أرسلته من رسلك إلى خلقك ، وائتمنته على وحيك ، واصطفيته لنفسك.وقوله : ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ) يقول : واجعل لي في الناس ذكرًا جميلا وثناء حسنا ، باقيا فيمن يجيء من القرون بعدي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة ، قوله : ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) قَوْلُهُ(وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ). قال : إن الله فضله بالخُلة حين اتخذه خليلا فسأل الله فقال : ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ) حتى لا تكذّبني الأمم ، فأعطاه الله ذلك ، فإن اليهود آمنت بموسى ،

(19/364)


وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)

وكفرت بعيسى ، وإن النصارى آمنت بعيسى ، وكفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكلهم يتولى إبراهيم; قالت اليهود : هو خليل الله وهو منا ، فقطع الله ولايتهم منه بعد ما أقرّوا له بالنبوّة وآمنوا به ، فقال : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ثم ألحق ولايته بكم فقال : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) فهذا أجره الذي عجل له ، وهي الحسنة ، إذ يقول : ( وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) وهو اللسان الصدق الذي سأل ربه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ) قال : اللسان الصدق : الذكر الصدق ، والثناء الصالح ، والذكر الصالح في الآخرين من الناس ، من الأمم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) }
يعني إبراهيم صلوات الله عليه بقوله : ( وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ) أورثني يا ربّ من منازل من هلك من أعدائك المشركين بك من الجنة ، وأسكني ذلك.( وَاغْفِرْ لأبِي ) يقول : واصفح لأبي عن شركه بك ، ولا تعاقبه عليه( إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) يقول : إنه كان ممن ضل عن سبيل الهدى ، فكفر بك.
وقد بيَّنا المعنى الذي من أجله استغفر إبراهيم لأبيه صلوات الله عليه ، واختلاف أهل العلم في ذلك ، والصواب عندنا من القول فيه فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله : ( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) يقول : ولا تذلني بعقابك إياي يوم تبعث عبادك من قبورهم لموقف القيامة.( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ) يقول : لا تخزني يوم لا ينفع من كفر بك وعصاك في الدنيا مال كان له في الدنيا ، ولا بنوه الذين كانوا له فيها ، فيدفع ذلك عنه عقاب الله إذا عاقبه ، ولا ينجيه منه.
وقوله : ( إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) يقول : ولا تخزني يوم يبعثون ، يوم لا ينفع

(19/365)


وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)

إلا القلب السليم.
والذي عني به من سلامة القلب في هذا الموضع : هو سلامة القلب من الشكّ في توحيد الله ، والبعث بعد الممات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن عون ، قال : قلت لمحمد : ما القلب السليم ؟ قال : أن يعلم أن الله حقّ ، وأن الساعة قائمة ، وأن الله يبعث من في القبور.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : ( إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال : لا شك فيه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال : ليس فيه شكّ في الحقّ.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال : سليم من الشرك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال : سليم من الشرك ، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد.
حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن جوبير ، عن الضحاك ، في قول الله : ( إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال : هو الخالص.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) }
يعني جلّ ثناؤه بقوله : ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ) وأدنيت الجنة وقرّبت للمتقين ، الذين اتقوا عقاب الله في الآخرة بطاعتهم إياه في الدنيا( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ) يقول :

(19/366)


قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)

وأظهرت النار للذين غووا فضلوا عن سواء السبيل.( وقيل لِلْغَاوِينَ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) من الأنداد( هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ ) اليوم من الله ، فينقذونكم من عذابه( أَوْ يَنْتَصِرُونَ ) لأنفسهم ، فينجونها مما يُرَاد بها ؟.
وقوله : ( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ) يقول : فرمي ببعضهم في الجحيم على بعض ، وطرح بعضهم على بعض منكبين على وجوههم. وأصل كبكبوا : كببوا ، ولكن الكاف كرّرت كما قيل : ( بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ) يعني به صرّ ، ونهنهني يُنهنهَني ، يعني به : نههني.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال. ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( فكبكبوا ) قال : فدهوروا.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَكُبْكِبُوا فِيهَا ) يقول : فجمعوا فيها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، فى قوله : ( فَكُبْكِبُوا فِيهَا ) قال : طرحوا فيها. فتأويل الكلام : فكبكب هؤلاء الأنداد التي كانت تعبد من دون الله في الجحيم والغاوون.
وذُكر عن قَتادة أنه كان يقول : الغاوون في هذا الموضع. الشياطين.
* ذكر الرواية عمن قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ) قال : الغاوون : الشياطين.
فتأويل الكلام على هذا القول الذي ذكرنا عن قتادة. فكبكب فيها الكفار الذين كانوا يعبدون من دون الله الأصنام والشياطين.
وقوله : ( وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ) يقول : وكبكب فيها مع الأنداد والغاوين جنود إبليس أجمعون. وجنوده : كل من كان من تباعه ، من ذرّيته كان أو من ذرّية آدم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ

(19/367)


تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)

كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) }
يقول تعالى ذكره : قال هؤلاء الغاوون والأنداد التي كانوا يعبدونها من دون الله وجنود إبليس ، وهم في الجحيم يختصمون.( تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) يقول : تالله لقد كنا في ذهاب عن الحقّ ، إن كنا لفي ضلال مبين ، يبين ذهابنا ذلك عنه عن نفسه ، لمن تأمله وتدبره ، أنه ضلال وباطل. وقوله : ( إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول الغاوون للذين يعبدونهم من دون الله : تالله إن كنا لفي ذهاب عن الحقّ حين نعدلكم برب العالمين فنعبدكم من دونه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال : لتلك الآلهة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء الغاوين في الجحيم : ( وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ ) يعني بالمجرمين إبليس ، وابن آدم الذي سنّ القتل.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عكرمة ، قوله : ( وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ ) قال : إبليس وابن آدم القاتل.
وقوله( فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ) يقول : فليس لنا شافع فيشفع لنا عند الله من الأباعد ، فيعفو عنا ، وينجينا من عقابه.( وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) من الأقارب.
واختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بالشافعين ، وبالصديق الحميم ، فقال بعضهم : عني بالشافعين : الملائكة ، وبالصديق الحميم : النسيب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ) قال : من الملائكة( وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) قال : من الناس ، قال مجاهد :

(19/368)


إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)

صديق حميم ، قال : شقيق.
وقال آخرون : كل هؤلاء من بني آدم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا إسحاق بن سعيد البصري المسمعي ، عن أخيه يحيى بن سعيد المسمعي ، قال : كان قَتادة إذا قرأ : ( فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) قال : يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحا نفع ، وأن الحميم إذا كان صالحا شفع.
وقوله( فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول : فلو أن لنا رجعة إلى الدنيا فنؤمن بالله فنكون بإيماننا به من المؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) }
يقول تعالى ذكره : إن فيما احتجّ به إبراهيم على قومه من الحجج التي ذكرنا له لدلالة بينة واضحة لمن اعتبر ، على أن سنة الله في خلقه الذين يستنون بسنة قوم إبراهيم من عبادة الأصنام والآلهة ، ويقتدون بهم في ذلك ما سنّ فيهم في الدار الآخرة ، من كبكبتهم وما عبدوا من دونه مع جنود إبليس في الجحيم ، وما كان أكثرهم في سابق علمه مؤمنين. وإن ربك يا محمد لهو الشديد الانتقام ممن عبد دونه ، ثم لم يتب من كفره حتى هلك ، الرحيم بمن تاب منهم أن يعاقبه على ما كان سلف منه قبل توبته من إثم وجرم.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) }
يقول تعالى ذكره : ( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ) رسل الله الذين أرسلهم إليهم لما( قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ ) فتحذروا عقابه على كفركم به ، وتكذيبكم رسله.( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ ) من الله( أمِينٌ ) على وحيه إلي ، برسالته إياي إليكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) }

(19/369)


يقول تعالى ذكره : فاتقوا عقاب الله أيها القوم على كفركم به ، وأطيعوني في نصيحتي لكم ، وأمري إياكم باتقائه.( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) يقول : وما أطلب منكم على نصيحتي لكم وأمري إياكم باتقاء عقاب الله بطاعته فيما أمركم ونهاكم ، من ثواب ولا جزاء( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) دونكم ودون جميع خلق الله ، فاتقوا عقاب الله على كفركم به ، وخافوا حلول سخطه بكم على تكذيبكم رسله ، وأطيعون : يقول : وأطيعوني في نصيحتي لكم ، وأمري إياكم بإخلاص العبادة لخالقكم.

(19/370)


قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) }
يقول تعالى ذكره : قال قوم نوح له مجيبيه عن قيله لهم : ( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) قالوا : أنؤمن لك يا نوح ، ونقرّ بتصديقك فيما تدعونا إليه ، وإنما اتبعك منا الأرذلون دون ذوي الشرف وأهل البيوتات.( قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال نوح لقومه : وما علمي بما كان أتباعي يعملون ، إنما لي منهم ظاهر أمرهم دون باطنه ، ولم أكَلَّفْ علم باطنهم ، وإنما كلّفت الظاهر ، فمن أظهر حسنا ظننت به حسنا ، ومن أظهر سيئا ظننت به سيئا. يقول : إن حساب باطن أمرهم الذي خفي عني إلا على ربي لو تشعرون ، فإنه يعلم سرّ أمرهم وعلانيته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ) قال : هو أعلم بما في نفوسهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه : وما أنا بطارد من آمن بالله واتبعني على التصديق بما جئت به من عند الله.( إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) يقول : ما أنا إلا نذير لكم من عند ربكم أنذركم بأسه ، وسطوته على كفركم به مبين : يقول : نذير قد أبان

(19/370)


قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)

لكم إنذاره ، ولم يكتمكم نصيحته.( قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) يقول : قال لنوح قومه : لئن لم تنته يا نوح عما تقول ، وتدعو إليه ، وتعيب به آلهتنا ، لتكوننّ من المشتومين ، يقول : لنشتمك.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) }
يقول تعالى ذكره : قال نوح : ( رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ) فيما أتيتهم به من الحقّ من عندك ، وردّوا عليّ نصيحتي لهم.( فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ) يقول : فاحكم بيني وبينهم حكما من عندك تهلك به المبطل ، وتنتقم به ممن كفر بك وجحد توحيدك ، وكذب رسولك.
كما حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ) قال : فاقض بيني وبينهم قضاء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ) قال : يقول : اقض بيني وبينهم.( ونجني ) يقول : ونجني من ذلك العذاب الذي تأتي به حكما بيني وبينهم.( وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول : والذين معي من أهل الإيمان بك والتصديق لي.
وقوله( فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) يقول : فأنجينا نوحا ومن معه من المؤمنين - حين فتحنا بينهم وبين قومهم ، وأنزلنا بأسنا بالقوم الكافرين - في الفلك المشحون ، يعني في السفينة الموقرة المملوءة.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله( الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) قال : يعني الموقر.
حدثنا محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا الحسين بن الحسن الأشقر ، قال : ثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : (المشحون) : الموقر.

(19/371)


إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) قال : المفروغ منه المملوء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : ( المشحون ) المفروغ منه تحميلا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قول الله : ( الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) قال : هو المحمل.
وقوله : ( ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ) من قومه الذين كذبوه ، وردوا عليه النصيحة.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) }
يقول تعالى ذكره : إن فيما فعلنا يا محمد بنوح ومن معه من المؤمنين في الفلك المشحون ، حين أنزلنا بأسنا وسطوتنا ، بقومه الذين كذبوه ، لآية لك ولقومك المصدّقيك منهم والمكذّبيك ، في أن سنتنا تنجية رسلنا وأتباعهم ، إذا نزلت نقمتنا بالمكذبين بهم من قومهم ، وإهلاك المكذبين بالله ، وكذلك سنتي فيك وفي قومك.( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) يقول : ولم يكن أكثر قومك بالذين يصدّقونك مما سبق في قضاء الله أنهم لن يؤمنوا.( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ) في انتقامه ممن كفر به ، وخالف أمره( الرَّحِيمُ ) بالتائب منهم ، أن يعاقبه بعد توبته.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) }
يقول تعالى ذكره : ( كَذَّبَتْ عَادٌ ) رسل الله إليهم.( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ ) عقاب الله على كفركم به.( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ ) من ربي يأمركم بطاعته ، ويحذركم على كفركم بأسه ، ( أَمِينٌ ) على وحيه ورسالته.( فَاتَّقُوا اللَّهَ ) بطاعته والانتهاء إلى ما يأمركم وينهاكم( وأطيعون ) فيما آمركم به من اتقاء الله وتحذيركم سطوته.( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ

(19/372)


أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)

أَجْرٍ ) يقول : وما أطلب منكم على أمري إياكم باتقاء الله جزاء ولا ثوابا.( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول : ما جزائي وثوابي على نصيحتي إياكم إلا على ربّ العالمين.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هود لقومه : ( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ) والريع : كل مكان مشرف من الأرض مرتفع ، أو طريق أو واد; ومنه قول ذي الرُّمَّة :
طِرَاقُ الخَوَافِي مُشْرفٌ فَوْق رِيعَةٍ... نَدَى لَيْلِه فِي ريشِهِ يَتَرَقْرَقُ (1)
وقول الأعشى :
وَيهْماءُ قَفْرٍ تَجاوَزْتها... إذَا خَبَّ فِي رِيعِها آلُهَا (2)
__________
(1) البيت لذي الرمة (اللسان : ريع) قال : والريع : الجبل ، والجمع أرياع ، وريوع ، ورياع. وقيل : الواحدة ريعة. والجمع : رياع. وحكى ابن برى عن أبي عبيدة : الريعة : جمع ريع ، خلاف قول الجوهري ، قال ذو الرمة : * طراق الخوافي واقعًا فوق ريعة *
والريع : السبيل ، سلك أو لم يسلك. وقوله تعالى : (أتبون بكل ريع آية). وقرئ : " بكل ريع " ، (بفتح الراء) : قيل في تفسيره : بكل مكان مرتفع. وقيل معناه : بكل فج. والفج : الطريق المتفرج في الجبال خاصة. وقيل : بكل طريق. وقال الفراء : الريع والريع (بكسر الراء وفتحها) لغتان ، مثل الرير والرير. ا ه. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة 173) : (بكل ريع) ، وهو الارتفاع من الأرض ، والطريق. والجمع أرياع وريعة. قال ذو الرمة : طِرَاقُ الخَوَافي مُشْرِفٌ فَوْقَ رِيعَةٍ ... نَدَى لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَق
وفي (اللسان : طرق) : وطائر طراق الريش : إذا ركب بعضه بعضًا. قال ذو الرمة يصف بازيا : طِرَاقُ الخَوَافي وَاقِعٌ فَوْقَ رِيعِه ... نَدَى لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَق
ويترقرق : يلمع. وكل شيء له بصيص وتلألؤ فهو رقراق. والخوافي : ما تحت القوادم في الطائر من الريش. والقوادم : جمع قادمة ، وهي أربع ريشات طويلة في أول جناحه.
(2) البيت نسبه المؤلف للأعشى (أعشى بني قيس بن ثعلبة) وفي ديوانه طبعة القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين (ص 163 - 169) قصيدة من هذا البحر المتقارب ومن القافية نفسها ، عدتها 47 بيتًا ، يمدح بها إياس بن قبيصة الطائي. ولكن البيت سقط منها في نسخة الديوان ، ولعله يوجد في نسخ أخرى منه قديمة واليهماء القازة لا ماء بها ولا أنيس وخب تحرك واضطراب والريع قد فسرناه في الشاهد قبل هذا ، ونقلنا كلام العلماء والآل السراب وخب السراب أي تحرك ولمع وهذا الشاهد كالذي قبله يريد المؤلف أنه كل مكان مشرف من الأرض مرتفع ، أو طريق أو واد وفيه لغتان ريع وريع بكسر الراء وفتحها كما قال ، وكما قال غيره من أهل اللغة.

(19/373)


وفيه لغتان : ريع ورَيع بكسر الراء وفتحها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ) يقول : بكلّ شرف.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( بِكُلِّ رِيعٍ ) قال : فجّ.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً ) قال : بكل طريق.
حدثني سليمان بن عبيد الله الغيلاني ، قال : ثنا أبو قتيبة ، قال : ثنا مسلم بن خالد ، قال : ثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ) قال : الريع : الثنية الصغيرة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا يحيى بن حسان ، عن مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال عكرمة : ( بِكُلِّ رِيعٍ ) قال : فجّ وواد ، قال : وقال مجاهد( بِكُلِّ رِيعٍ ) بين جبلين.
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ) قال : شرف ومنظر.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : ( بِكُلِّ رِيعٍ ) قال : بكلّ طريق.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( بِكُلِّ رِيعٍ ) بكلّ طريق. ويعني بقوله( آية ) بنيانا ، علما.
وقد بينا في غير موضع من كتابنا هذا ، أن الآية هي الدلالة والعلامة بالشواهد المغنية عن إعادتها في هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في ألفاظهم

(19/374)


في تأويله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً ) قال : الآية : علم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً ) قال : آية : بنيان.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( آية ) : بنيان.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله : ( بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً ) قال : بنيان الحمام.
وقوله : ( تعبثون ) قال : تلعبون.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( تعبثون ) قال : تلعبون.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك ، يقول في قوله : ( تعبثون ) قال : تلعبون.
وقوله : ( وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ ) اختلف أهل التأويل في معنى المصانع ، فقال بعضهم : هي قصور مشيدة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ ) قال : قصور مشيدة ، وبنيان مخلد.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( مصانع ) : قصور مشيدة وبنيان.

(19/375)


حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن مجاهد ، قال : ( مصانع ) يقول : حصون وقصور.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا يحيى بن حسان ، عن مسلم ، عن رجل ، عن مجاهد ، قوله : ( مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) قال : أبرجة الحمام.
وقال آخرون : بل هي مآخذ للماء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( مصانع ) قال : مآخذ للماء.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن المصانع جمع مصنعة ، والعرب تسمي كل بناء مصنعة ، وجائز أن يكون ذلك البناء كان قصورًا وحصونا مشيدة ، وجائز أن يكون كان مآخذ للماء ، ولا خبر يقطع العذر بأيّ ذلك كان ، ولا هو مما يدرك من جهة العقل. فالصواب أن يقال فيه ، ما قال الله : إنهم كانوا يتخذون مصانع.
وقوله : ( لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) يقول : كأنكم تخلدون ، فتبقون في الأرض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) يقول : كأنكم تخلدون.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : قال في بعض الحروف( وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ ) كأنكم تخلدون.
وكان ابن زيد يقول : " لعلكم " في هذا الموضع استفهام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) قال : هذا استفهام ، يقول : لعلكم تخلدون حين تبنون هذه الأشياء ؟.
وكان بعض أهل العربية يزعم أن لعلكم في هذا الموضع بمعنى " كيما " .

(19/376)


فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)

وقوله : ( وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) يقول : وإذا سطوتم سطوتم قتلا بالسيوف ، وضربا بالسياط.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج : ( وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) قال : القتل بالسيف والسياط.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هود لقومه من عاد : اتقوا عقاب الله أيها القوم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم ، وانتهوا عن اللهو واللعب ، وظلم الناس ، وقهرهم بالغلبة والفساد في الأرض ، واحذروا سخط الذي أعطاكم من عنده ما تعلمون ، وأعانكم به من بين المواشي والبنين ، والبساتين والأنهار.( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ ) من الله( عَظِيمٍ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) }

(19/377)


إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) }
يقول تعالى ذكره : قالت عاد لنبيهم هود صلى الله عليه وسلم : معتدل عندنا وعظك إيانا ، وتركك الوعظ ، فلن نؤمن لك ولن نصدّقك على ما جئتنا به.
وقوله : ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك; فقرأته عامة قرّاء المدينة سوى أبي جعفر ، وعامة قرّاء الكوفة المتأخرين منهم : ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) من قبلنا : وقرأ ذلك أبو جعفر ، وأبو عمرو بن العلاء : " إنْ هَذَاإلا خَلْقُ الأوّلينَ " بفتح الخاء وتسكين اللام بمعنى : ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأوّلين وأحاديثهم.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، نحو اختلاف القرَّاء في قراءته ، فقال بعضهم : معناه : ما هذا إلا دين الأوّلين وعادتهم وأخلاقهم.

(19/377)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) يقول : دين الأوّلين.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) يقول : هكذا خِلْقة الأوّلين ، وهكذا كانوا يحيون ويموتون.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما هذا إلا كذب الأوّلين وأساطيرهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) قال : أساطير الأوّلين.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) قال : كذبهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) قال : إن هذا إلا أمر الأوّلين وأساطير الأوّلين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن علقمة ، عن ابن مسعود : ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) يقول : إن هذا إلا اختلاق الأوّلين.
قال ثنا يزيد بن هارون ، قال. أخبرنا داود ، عن الشعبيّ ، عن علقمة ، عن عبد الله ، أنه كان يقرأ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) ويقول شيء اختلقوه.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبيّ ، قال : قال علقمة : ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ ) قال : اختلاق الأوّلين.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب : قراءة من قرأ( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ )

(19/378)


فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143)

بضم الخاء واللام ، بمعنى : إن هذا إلا عادة الأوّلين ودينهم ، كما قال ابن عباس ، لأنهم إنما عوتبوا على البنيان الذي كانوا يتخذونه ، وبطشهم بالناس بطش الجبابرة ، وقلة شكرهم ربهم فيما أنعم عليهم ، فأجابوا نبيّهم بأنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك ، احتذاء منهم سنة من قبلهم من الأمم ، واقتفاء منهم آثارهم ، فقالوا : ما هذا الذي نفعله إلا خلق الأوّلين ، يعنون بالخلق : عادة الأوّلين. ويزيد ذلك بيانا وتصحيحا لما اخترنا من القراءة والتأويل ، قولهم : ( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) لأنهم لو كانوا لا يقرُّون بأن لهم ربا يقدر على تعذيبهم ، ما قالوا : ( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) بل كانوا يقولون : إن هذا الذي جئتنا به يا هود إلا خلق الأوّلين ، وما لنا من معذب يعذبنا ، ولكنهم كانوا مقرين بالصانع ، ويعبدون الآلهة ، على نحو ما كان مشركو العرب يعبدونها ، ويقولون إنها تقربنا إلى الله زلفى ، فلذلك قالوا لهود وهم منكرون نبوته : ( سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ) ثم قالوا له : ما هذا الذي نفعله إلا عادة من قبلنا وأخلاقهم ، وما الله معذبنا عليه. كما أخبرنا تعالى ذكره عن الأمم الخالية قبلنا ، أنهم كانوا يقولون لرسلهم : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) }
يقول تعالى ذكره : فكذّبت عاد رسول ربهم هودا ، والهاء في قوله( فكذبوه ) من ذكر هود.( فأهلكناهم ) يقول : فأهلكنا عادا بتكذيبهم رسولنا.( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) يقول تعالى ذكره : إن في إهلاكنا عادا بتكذيبها رسولها ، لعبرة وموعظة لقومك يا محمد ، المكذّبيك فيما أتيتهم به من عند ربك.
يقول : وما كان أكثر من أهلكنا بالذين يؤمنون في سابق علم الله.
( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ) في انتقامه من أعدائه ، ( الرَّحِيمُ ) بالمؤمنين به.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا

(19/379)


فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)

اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) }
يقول تعالى ذكره : كذّبت ثمود رسل الله ، إذ دعاهم صالح أخوهم إلى الله ، فقال لهم : ألا تتقون عقاب الله يا قوم على معصيتكم إياه ، وخلافكم أمره ، بطاعتكم أمر المفسدين في أرض الله.( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ ) من الله أرسلني إليكم بتحذيركم عقوبته على خلافكم أمره( أمِينٌ ) على رسالته التي أرسلها معي إليكم.( فَاتَّقُوا اللَّهَ ) أيها القوم ، واحذروا عقابه( وأطيعون ) في تحذيري إياكم ، وأمر ربكم باتباع طاعته.( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) يقول : وما أسألكم على نصحي إياكم ، وإنذاركم من جزاء ولا ثواب.( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول : إن جزائي وثوابي إلا على ربّ جميع ما في السموات ، وما في الأرض ، وما بينهما من خلق.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل صالح لقومه من ثمود : أيترككم يا قوم ربكم في هذه الدنيا آمنين ، لا تخافون شيئا ؟.( فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) يقول : في بساتين وعيون ماء.( وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) يعني بالطلع : الكُفُرَّى.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله( هَضِيمٌ ) فقال بعضهم : معناه اليانع النضيج.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) يقول : أينع وبلغ فهو هضيم.
وقال آخرون : بل هو المتهشم المتفتت.

(19/380)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) قال محمد بن عمرو في حديثه تهشم هشيما. وقال الحارث : تهشم تهشّما.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عبد الكريم يقول : سمعت مجاهدا يقول في قوله : ( وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) قال : حين تطلع يقبض عليه فيهضمه.
قال ابن جُرَيج : قال مجاهد : إذا مسّ تهشّم وتفتَّت ، قال : هو من الرطب هضيم تقبض عليه فتهضمه.
وقال آخرون : هو الرطب اللين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة قوله : ( وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) قال : الهضيم : الرطب اللين.
وقال آخرون : هو الراكب بعضه بعضا.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) إذا كثر حمل النخلة فركب بعضها بعضا ، حتى نقص بعضها بعضا ، فهو حينئذ هضيم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : الهضيم : هو المتكسر من لينه ورطوبته ، وذلك من قولهم : هضم فلان حقه : إذا انتقصه وتحيفه ، فكذلك الهضم في الطلع ، إنما هو التنقص منه من رطوبته ولينه إما بمسّ الأيدي ، وإما بركوب بعضه بعضا ، وأصله مفعول صرف إلى فعيل.
وقوله : ( وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ) يقول تعالى ذكره : وتتخذون من الجبال بيوتا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله( فارهين ) فقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة :

(19/381)


( فارهين ) بمعنى : حاذقين بنحتها.
وقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة : " فَرِهِينَ " بغير ألف ، بمعنى : أشرين بطرين.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك على نحو اختلاف القرّاء في قراءته ، فقال بعضهم : معنى فارهين : حاذقين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عثام ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح وعبد الله بن شدّاد : ( وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ) قال أحدهما : حاذقين ، وقال الآخر : يتجبرون.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا مروان ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح : ( وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ) قال : حاذقين بنحتها.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( فارهين ) يقول : حاذقين.
وقال آخرون : معنى فارهين : مستفرهين متجبرين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن السديّ ، عن عبد الله بن شداد في قوله : " فَرِهِينَ " قال : يتجبرون.
قال أبو جعفر : والصواب : فارهين.
وقال آخرون ممن قرأه فارهين : معنى ذلك : كيسين.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فارهين ) قال : كيسين.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد ، عن الضحاك أنه قرأ( فارهين ) قال : كيسين.
وقال آخرون : فرهين : أشرين.

(19/382)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ) يقول : أشرين ، ويقال : كيسين.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " بيوتا فرهين " قال : شرهين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بمثله.
وقال آخرون : معنى ذلك : أقوياء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَرِهِينَ " قال : الفره : القويّ.
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة ، في قوله : " فَرِهِينَ " قال : معجبين بصنيعكم.والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن قراءة من قرأها( فارهين ) وقراءة من قرأ " فَرِهِينَ " قراءتان معروفتان ، مستفيضة القراءة بكل واحدة منهما في علماء القرّاء ، فبأتيهما قرأ القارئ فمصيب. ومعنى قراءة من قرأ( فارهين ) : حاذقين بنحتها ، متخيرين لمواضع نحتها ، كيسين ، من الفراهة. ومعنى قراءة من قرأ " فَرِهِينَ " : مرحين أشرين. وقد يجوز أن يكون معنى فاره وفره واحدا ، فيكون فاره مبنيا على بنائه ، وأصله من فعل يفعل ، ويكون فره صفة ، كما يقال : فلان حاذق بهذا الأمر وحذق. ومن الفاره بمعنى المرح قول الشاعر عديّ بن وادع العوفي من الأزد :
لا أسْتَكِينُ إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ... وَلَنْ تَرَانِي بِخَيْرٍ فارِهَ الطَّلَبِ (1)
__________
(1) البيت لعدي بن وادع الشاعر الأزدي الأعمى ، (كما سماه صاحب معجم الشعراء ص 252) ، وكما في مجاز القرآن لأبي عبيدة (مصورة الجامعة ص 173) قال (وتنحتون من الجبال بيوتًا فارهين) أي مرحين. قال عدي بن وادع العفوي من العفاة بن عمرو بن فهم من الأزد : لا أسْتَكِينُ إذَا مَا أزْمَةٌ أزَمَتْ ... وَ لَنْ تَرَاني بِخَيْرٍ فَارِهَ اللَّبَبِ
أي مرح اللبب. قال : ويجوز : " فرهين " في معنى " فارهين " .
أو هو ابن وادع العوفي ، كما في (اللسان : فره) قال : الفاره : الحاذق بالشيء والفروهة والفراهة والفراهية : النشاط. وفره بالكسر : أشر وبطر ، ورجل فره نشيط أشر. وفي التنزيل : (وتنحتون من الجبال بيوتًا فرهين). فمن قرأه كذلك ، فهو من هذا : شرهين بطرين. ومن قرأه : " فارهين " ، فهو من فره بالضم. قال ابن برى عند هذا الموضع : قال ابن وادع العوفي : لا أستكين إذا ما أزمة أزمت ... ولن تراني بخير فاره الطلب
قال الفراء : معنى فارهين : حاذقين. ا ه. وأما " اللبب " في رواية أبي عبيدة ، فلعلها الرواية الصحيحة. ومعناه : البال. يقال : إنه لرخى اللبب. وفي التهذيب : فلان في بال رخى ، ولبب رخى : أي في سعة وخصب وأمن.

(19/383)


وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)

أي مرح الطلب. وقوله : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) يقول تعالى ذكره : فاتقوا عقاب الله أيها القوم على معصيتكم ربكم ، وخلافكم أمره ، وأطيعون في نصيحتي لكم ، وإنذاري إياكم عقاب الله ترشدوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل صالح لقومه من ثمود : لا تطيعوا أيها القوم أمر المسرفين على أنفسهم في تماديهم في معصية الله ، واجترائهم على سخطه ، وهم الرهط التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض ، ولا يصلحون من ثمود الذين وصفهم الله جلّ ثناؤه بقوله : ( وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ) يقول : الذين يسعون في أرض الله بمعاصيه ، ولا يصلحون ، يقول : ولا يصلحون أنفسهم بالعمل بطاعة الله.
وقوله : ( إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه إنما أنت من المسحورين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد :

(19/384)


( إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) قال : من المسحورين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتاده ، في قوله : ( إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) قال : إنما أنت من المسحورين.
وقال آخرون : معناه : من المخلوقين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد ، قال : ثنا موسى بن عمرو ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، في قوله : ( إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) قال : من المخلوقين.
واختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك ، فكان بعض أهل البصرة يقول : كل من أكل من إنس أو دابة فهو مسحر ، وذلك لأن له سحرا يقري ما أكل فيه ، واستشهد على ذلك بقول لبيد :
فَإِنْ تَسْأَلينا فِيمَ نَحْنُ فإنَّنا... عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الأنامِ المُسَحَّر (1)
وقال بعض نحويي الكوفيين نحو هذا ، غير أنه قال : أخذ من قولك : انتفخ سحرك : أي أنك تأكل الطعام والشراب ، فتُسَحَّر به وتعلل. وقال : معنى قول لبيد : " من هذا الأنام المسحر " : من هذا الأنام المعلل المخدوع. قال : ويُروى أن السحر من ذلك ، لأنه كالخديعة.
__________
(1) سبق الاستشهاد ببيت لبيد هذا في (15 : 96) وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة الورقة 174) قال : وكل من أكل من إنس أو دابة فهو مسحر ، وذلك أن له سحرًا يقرى فيه ما أكل ، قال لبيد (وأنشد البيت). وفي (اللسان : سحر)/ سحره بالطعام والشراب يسحره سحرًا ، وسحره : غذاه وعلله. وقيل : خدعه. والسحر : الغذاء. قال امرؤ القيس : أرَانَا مُوضِعِينَ لأَمْرِ غَيْبٍ ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالْشَّرَابِ
موضعين : مسرعين. ولأمر غيب : يريد الموت وأنه قد غيب عنا وقته ، ونحن نلهى عنه بالطعام والشراب والسحر : الخديعة. وقول لبيد : " فإن تسألينا.. " البيت. يكون على وجهين. وقوله تعالى : (إنما أنت من المسحرين) يكون من التغذية ومن الخديعة وقال الفراء : (إنما أنت من المسحرين) : قالوا لنبي الله : لست بملك ، إنما أنت بشر مثلنا. قال : والمسحر : المجوف ؛ كأنه أعلم ، أخذ من قولك : انتفخ سحرك ، أي أنك تأكل الطعام والشراب ، فتعلل به. وقيل : (من المسحرين) أي : ممن سحر مرة بعد مرة.

(19/385)


مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)

والصواب من القول في ذلك عندي : القول الذي ذكرته عن ابن عباس ، أن معناه : إنما أنت من المخلوقين الذين يعللون بالطعام والشراب مثلنا ، ولست ربا ولا ملكا فنطيعك ، ونعلم أنك صادق فيما تقول. والمسحر : المفعل من السحرة ، وهو الذي له سحرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل ثمود لنبيها صالح : ( مَا أَنْتَ يَاصَالِحُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) من بني آدم ، تأكل ما نأكل ، وتشرب ما نشرب ، ولست بربّ ولا ملك ، فعلام نتبعك ؟ فإن كنت صادقا في قيلك ، وأن الله أرسلك إلينا( فَأْتِ بِآيَةٍ ) يعني : بدلالة وحجة على أنك محقّ فيما تقول ، إن كنت ممن صدقنا في دعواه أن الله أرسله إلينا.
وقد حدثنا أحمد بن عمرو البصري ، قال : ثنا عمرو بن عاصم الكلابي ، قال : ثنا داود بن أبي الفرات ، قال : ثنا علباء بن أحمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن صالحا النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه الله إلى قومه ، فآمنوا به واتبعوه ، فمات صالح ، فرجعوا عن الإسلام ، فأتاهم صالح ، فقال لهم : أنا صالح ، قالوا : إن كنت صادقا فأتنا بآية ، فأتاهم بالناقة ، فكذبوه وعقروها ، فعذّبهم الله.
وقوله : ( قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) يقول تعالى ذكره : قال صالح لثمود لما سألوه آية يعلمون بها صدقه ، فأتاهم بناقة أخرجها من صخرة أو هضبة : هذه ناقة يا قوم ، لها شرب ولكم مثله شرب يوم آخر معلوم ، ما لكم من الشرب ، ليس لكم في يوم وردها أن تشربوا من شربها شيئا ، ولا لها أن تشرب في يومكم مما لكم شيئا. ويعني بالشرب : الحظّ والنصيب من الماء ، يقول : لها حظّ من الماء ، ولكم مثله ، والشُّرْب والشَّرْب والشِّرْب مصادر كلها بالضم والفتح والكسر.
وقد حُكي عن العرب سماعا : آخرها أقلها شُربا وشِربا.

(19/386)


فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

وقوله : ( وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ ) يقول : لا تمسوها بما يؤذيها من عقر وقتل ونحو ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : ( وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ ) لا تعقروها. وقوله : ( فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) يقول : فيحل بكم من الله عذاب يوم عظيم عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) }
يقول تعالى ذكره ، فخالفت ثمود أمر نبيها صالح صلى الله عليه وسلم ، فعقروا الناقة التي قال لهم صالح : لا تمسوها بسوء ، فأصبحوا نادمين على عقرها ، فلم ينفعهم ندمهم ، وأخذهم عذاب الله الذي كان صالح توعدهم به فأهلكهم.( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) يقول : إنّ في إهلاك ثمود بما فعلت من عقرها ناقة الله وخلافها أمر نبي الله صالح لعبرة لمن اعتبر به يا محمد من قومك.( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) يقول : ولن يؤمن أكثرهم في سابق علم الله.( وَإِنَّ رَبَّكَ ) يا محمد( لَهُوَ الْعَزِيزُ ) في انتقامه من أعدائه( الرَّحِيمُ ) بمن آمن به من خلقه.

(19/387)


كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)

القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) }
يقول تعالى ذكره : ( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ) من أرسله الله إليهم من الرسل حين( قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ ) الله أيها القوم.( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ ) من ربكم( أمِينٌ ) على وحيه ، وتبليغ رسالته.( فَاتَّقُوا اللَّهَ ) في أنفسكم ، أن يحلّ بكم عقابه

(19/387)


أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)

على تكذيبكم رسوله( وأطيعون ) فيما دعوتكم إليه أهدكم سبيل الرشاد.( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ ) من أجر يقول : وما أسألكم على نصيحتي لكم ودعايتكم إلى ربي جزاء ولا ثوابا. يقول : ما جزائي على دعايتكم إلى الله ، وعلى نصحي لكم وتبليغ رسالات الله إليكم ، إلا على ربّ العالمين.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) }
يعني بقوله : ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ) : أتنكحون الذكران من بني آدم في أدبارهم. وقوله : ( وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ) يقول : وتدعون الذي خلق لكم ربكم من أزواجكم من فروجهنّ ، فأحله لكم. وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " وَتَذَرُونَ ما أصْلَحَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أزْوَاجِكُمْ " .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ) قال : تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال وأدبار النساء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد بنحوه.
وقوله : ( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ) يقول : بل أنتم قوم تتجاوزون ما أباح لكم ربكم ، وأحله لكم من الفروج إلى ما حرّم عليكم منها.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ) قال : قوم معتدون.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) }
يقول تعالى ذكره : قال قوم لوط : ( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ ) عن نهينا عن إتيان

(19/388)


رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)

الذكران( لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ) من بين أظهرنا وبلدنا.( قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ) يقول لهم لوط : إني لعملكم الذي تعملونه من إتيان الذكران في أدبارهم من القالين ، يعني من المبغضين ، المنكرين فعله.
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) }
يقول تعالى ذكره : فاستغاث لوط حين توعده قومه بالإخراج من بلدهم إن هو لم ينته عن نهيهم عن ركوب الفاحشة ، فقال( رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي ) من عقوبتك إياهم على ما يعملون من إتيان الذكران.( فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ) من عقوبتنا التي عاقبنا بها قوم لوط( أَجْمَعِينَ إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ) يعني في الباقين ، لطول مرور السنين عليها ، فصارت هرمة ، فإنها أهلكت من بين أهل لوط ، لأنها كانت تدلّ قومها على الأضياف. وقد قيل : إنما قيل من الغابرين لأنها لم تهلك مع قومها في قريتهم ، وأنها إنما أصابها الحجر بعد ما خرجت عن قريتهم مع لوط وابنتيه ، فكانت من الغابرين بعد قومها ، ثم أهلكها الله بما أمطر على بقايا قوم لوط من الحجارة ، وقد بيَّنا ذلك فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادتها.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) }
يقول تعالى ذكره : ثم أهلكنا الآخرين من قوم لوط بالتدمير.( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا ) وذلك إرسال الله عليهم حجارة من سجيل من السماء.( فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ) يقول : فبئس ذلك المطر مطر القوم الذين أنذرهم نبيهم فكذّبوه.( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) يقول تعالى ذكره : إن في إهلاكنا قوم لوط الهلاك الذي وصفنا بتكذيبهم رسولنا ، لعبرة وموعظة لقومك يا محمد ، يتعظون بها في تكذيبهم إياك ، وردهم عليك ما جئتهم به من عند ربك من الحقّ( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) في سابق علم الله( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) بمن آمن به
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ

(19/389)


كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179)

(176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) }
يقول تعالى ذكره : ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ ). والأيكة : الشجر الملتفّ ، وهي واحدة الأيك ، وكل شجر ملتفّ فهو عند العرب أيكة; ومنه قول نابغة بني ذبيان :
تَجْلُو بِقادمَتَيْ حَمَامَةِ أيْكَةٍ... بَرَدًا أُسِفّ لِثاتُهُ بالإثْمِدِ (1)
وأصحاب الأيكة : هم أهل مدين فيما ذُكر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ) يقول : أصحاب الغيضة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ) قال : الأيكة : مجمع الشجر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ) قال : أهل مدين ، والأيكة : الملتف من الشجر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ) قال : الأيكة : الشجر ، بعث الله شعيبا إلى قومه من أهل مدين ، وإلى أهل البادية ، قال : وهم أصحاب ليكة ، وليكة والأيكة : واحد.
وقوله( إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ ) يقول تعالى ذكره : قال لهم شعيب :
__________
(1) البيت للنابغة الذبياني زياد بن معاوية (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 185) قال شارحه : تجلو : تكشف. والقوادم : الريش المقدم في جناح الطائر. ويكون شديد السواد. شبه سواد شفتيها بالقوادم ؛ وشبه بياض ثغرها ببياض البرد. واللثاث : مغارز الأسنان ، ومن عاداتهم أن يذروا عليها الإثمد ، ليبين بياض الأسنان. ا ه. والأيكة : الشجر الكثير الملتف. وقيل : هي الغيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر. وخص بعضهم به منبت الأثل ومجتمعه. وقال أبو حنيفة الدينوري : قد تكون الأيكة : الجماعة من الشجر ، حتى من النخل. قال : والأول أعرف. والجمع أيك.

(19/390)


وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)

ألا تتقون عقاب الله على معصيتكم ربكم ؟.( إِنِّي لَكُمْ مِنَ اللَّهِ رَسُولٌ أَمِينٌ ) على وحيه.( فاتقوا ) عقاب( الله ) على خلافكم أمره( وأطيعون ) ترشدوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) }
يقول : ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ ) على نصحي لكم من جزاء وثواب ، ما جزائي وثوابي على ذلك( إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ ). يقول : أوفوا الناس حقوقهم من الكيل.( وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ) يقول : ولا تكونوا ممن نقصهم حقوقهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ (183) }
يعني بقوله( وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ ) وزنوا بالميزان( الْمُسْتقِيمِ ) الذي لا بخس فيه على من وزنتم له.( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ) يقول : ولا تنقصوا الناس حقوقهم في الكيل والوزن.( وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ ) يقول : ولا تكثروا في الأرض الفساد. قد بيَّنا ذلك كله بشواهده ، واختلاف أهل التأويل فيه فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

(19/391)


وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) }
يقول تعالى ذكره : ( واتقوا ) أيها القوم عقاب ربكم( الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ خَلَقَ الْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ ) يعني بالجبلة : الخلق الأوّلين. وفي الجبلة للعرب لغتان : كسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وضم الجيم والباء وتشديد اللام; فإذا نزعت الهاء من آخرها كان الضم في الجيم والباء أكثر كما قال جلّ ثناؤه : " وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جُبُلا كَثِيرًا " وربما سكنوا الباء من الجبْل ، كما قال

(19/391)


أبو ذؤيب :
مَنايا يُقَرّبْنَ الحُتُوفَ لأهْلِها... جِهارًا وَيَسْتَمْتِعْنَ بالأنس الجِبْلِ (1)
وبنحو ما قلنا في معنى الجِبِلَّة قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : قوله : ( وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ ) يقول : خلق الأوّلين.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ ) قال : الخليقة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ ) قال : الخلق الأوّلين ، الجبلة : الخلق.
وقوله : ( قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) يقول : قالوا : إنما أنت يا شعيب معلل تعلل بالطعام والشراب ، كما نعلل بهما ، ولست ملَكا.( وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) تأكل وتشرب( وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ). يقول : وما نحسبك فيما تخبرنا وتدعونا إليه ، إلا ممن يكذب فيما يقول ، فإن كنت صادقا فيما تقول بأنك رسول الله كما تزعم( فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ) يعني قطعا من السماء ، وهي جمع كِسفة ، جمع كذلك كما تجمع تمرة : تمرا (2) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي (اللسان : جبل) والمنايا : جمع منية ، وهي الموت. والحتوف جمع حتف ، وهو الهلاك. والأنس الناس. والجبل : الأمة من الخلق. وفيه لغات ، فيكون مثلث الجيم ، ساكن الباء. ويكون بضم الجيم والباء وتشديد اللام. قال في اللسان : وحى جبل كثير. قال أبو ذؤيب : " منايا.. " البيت. أي كثير. يقول : الناس كلهم متعة للموت ، يستمتع بهم. قال ابن برى : ويروى : الجبل ، بضم الجيم. قال : وكذا رواه أبو عبيدة. وقول الله عز وجل : (ولقد أضل منكم جبلا كثيرًا) : يقرأ : جبلا (بضم فسكون) عن أبي عمرو وجبلا (بضمتين) عن الكسائي. وجبلا (بكسر فسكون) عن الأعرج وعيسى بن عمر. وجبلا (بكسرتين فلام مشددة) عن أهل المدينة وجبلا (بضمتين مع التشديد) عن الحسن وابن أبي إسحاق قال : ويجوز أيضًا جبل (بكسر ففتح) جمع جبلة (بكسرة فسكون) وهو في جميع هذه الوجوه : خلقًا كثيرًا ا ه.
(2) كذا في الأصل وقياس الجمع الأخير على ما قبله ليس بواضح

(19/392)


قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)

* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( كسفا ) يقول : قِطَعا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ) : جانبا من السماء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ) قال : ناحية من السماء ، عذاب ذلك الكسف.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) }
يقول تعالى ذكره : قال شعيب لقومه : ( رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ) يقول : بأعمالهم هو بها محيط ، لا يخفى عليه منها شيء ، وهو مجازيكم بها جزاءكم.( فكذبوه ) يقول : فكذّبه قومه.( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) يعني بالظلة : سحابة ظللتهم ، فلما تتاموا تحتها التهبت عليهم نارا ، وأحرقتهم ، وبذلك جاءت الآثار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن معاوية ، في قوله : ( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) قال : أصابهم حرّ أقلقهم في بيوتهم ، فنشأت لهم سحابة كهيئة الظلة ، فابتدروها ، فلما تتاموا تحتها أخذتهم الرجفة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، في قوله : ( عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) قال : كانوا يحفرون الأسراب ليتبردوا فيها ، فإذا دخلوها وجدوها أشد حرا من الظاهر ، وكانت الظلة سحابة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني جرير بن حازم أنه سمع قتادة يقول : بعث شُعيب إلى أمتين : إلى قومه أهل مدين ، وإلى أصحاب الأيكة. وكانت الأيكة من شجر ملتف; فلما أراد الله أن يعذّبهم ، بعث الله عليهم حرّا شديدا ، ورفع لهم العذاب كأنه سحابة; فلما دنت منهم خرجوا إليها رجاء بردها ، فلما كانوا تحتها مطرت عليهم نارا. قال : فذلك قوله : ( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ).

(19/393)


حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثني سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد ، قال : ثنا حاتم بن أبي صغيرة ، قال : ثني يزيد الباهلي ، قال : سألت عبد الله بن عباس ، عن هذه الآية : ( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) فقال عبد الله بن عباس : بعث الله عليهم ومدة وحرّا شديدا ، فأخذ بأنفاسهم ، فدخلوا البيوت ، فدخل عليهم أجواف البيوت ، فأخذ بأنفاسهم ، فخرجوا من البيوت هرابا (1) إلى البرية ، فبعث الله عليهم سحابة ، فأظلتهم من الشمس ، فوجدوا لها بردا ولذة ، فنادى بعضهم بعضا ، حتى إذا اجتمعوا تحتها ، أرسلها الله عليهم نارا. قال عبد الله بن عباس : فذلك عذاب يوم الظلة ، (إنه كان عذاب يوم عظيم).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : " يَوْمُ الظُّلَّةِ " قال : إظلال العذاب إياهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) قال : أظلّ العذابُ قوم شُعيب.
قال ابن جُرَيج : لما أنزل الله عليهم أوّل العذاب ، أخذهم منه حر شديد ، فرفع الله لهم غمامة ، فخرج إليها طائفة منهم ليستظلوا بها ، فأصابهم منها روح وبرد وريح طيبة ، فصبّ الله عليهم من فوقهم من تلك الغمامة عذابا ، فذلك قوله : ( عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر بن راشد ، قال : ثني رجل من أصحابنا ، عن بعض العلماء قال : كانوا عطلوا حدّا ، فوسع الله عليهم في الرزق ، ثم عطلوا حدّا ، فوسع الله عليهم في الرزق ، ثم عطلوا حدّا ، فوسع الله عليهم في الرزق ، فجعلوا كلما عطلوا حدّا وسع الله عليهم في الرزق ، حتى إذا أراد إهلاكهم سلط الله عليهم حرّا لا يستطيعون أن يتقارّوا ، ولا ينفعهم ظل ولا ماء ، حتى ذهب ذاهب منهم ، فاستظلّ تحت ظلة ، فوجد روحا ، فنادى أصحابه : هلموا إلى الروح ، فذهبوا إليه سراعا ، حتى إذا اجتمعوا ألهبها الله عليهم نارا ، فذلك عذاب يوم الظلة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن ابن عباس ، قال : من حدثك من العلماء ما عذاب يوم الظلة ؟ فكذِّبْه.
__________
(1) هرابًا : لعله جمع هارب ، ولم أجده في اللسان.

(19/394)


إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) قوم شعيب ، حبس الله عنهم الظل والريح ، فأصابهم حرّ شديد ، ثم بعث الله لهم سحابة فيها العذاب ، فلما رأوا السحابة انطلقوا يؤمونها ، زعموا يستظلون ، فاضطرمت عليهم نارا فأهلكتهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) قال : بعث الله إليهم ظلة من سحاب ، وبعث إلى الشمس فأحرقت ما على وجه الأرض ، فخرجوا كلهم إلى تلك الظلة ، حتى إذا اجتمعوا كلهم ، كشف الله عنهم الظلة ، وأحمى عليهم الشمس ، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى. وقوله : ( إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) يقول تعالى ذكره : إن عذاب يوم الظلة كان عذاب يوم لقوم شُعيب عظيم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) }
يقول تعالى ذكره : إن في تعذيبنا قوم شعيب عذاب يوم الظلة ، بتكذيبهم نبيهم شعيبا ، لآية لقومك يا محمد ، وعبرة لمن اعتبر ، إن اعتبروا أن سنتنا فيهم بتكذيبهم إياك ، سنتنا في أصحاب الأيكة.( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ )في سابق علمنا فيهم( وَإِنَّ رَبَّكَ ) يا محمد( لَهُوَ الْعَزِيزُ ) فى نقمته ممن انتقم منه من أعدائه( الرَّحِيمُ ) بمن تاب من خلقه ، وأناب إلى طاعته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) }
يقول تعالى ذكره : وإنّ هذا القرآن( لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) والهاء في قوله( وإنه ) كناية الذكر الذي فى قوله : ( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في

(19/395)


قوله : ( لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قال : هذا القرآن.
واختلف القرّاء في قراءة قوله( نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ) فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة( نزل ) به مخففة( الرُّوحُ الأمِينُ ) رفعا بمعنى : أن الروح الأمين هو الذي نزل بالقرآن على محمد ، وهو جبريل. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة.( نزل ) مشددة الزاي( الرُّوحُ الأمِينُ ) نصبا ، بمعنى : أن رب العالمين نزل بالقرآن الروح الأمين ، وهو جبريل عليه السلام.
والصواب من القول فى ذلك عندنا أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضتان فى قرّاء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وذلك أن الروح الأمين إذا نزل على محمد بالقرآن ، لم ينزل به إلا بأمر الله إياه بالنزول ، ولن يجهل أن ذلك كذلك ذو إيمان بالله ، وأن الله إذا أنزله به نزل.
وبنحو الذي قلنا في أن المعني بالروح الأمين في هذا الموضع جبريل قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبى ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس. في قوله : ( نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ) قال : جبريل.
حدثنا الحسين ، قال أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قول الله : ( نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ) قال : جبريل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج قال : ( الرُّوحُ الأمِينُ ) جبريل.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( الرُّوحُ الأمِينُ ) قال : جبريل.
وقوله( عَلَى قَلْبِكَ ) يقول : نزل به الروح الأمين فتلاه عليك يا محمد ، حتى وعيته بقلبك. وقوله : ( لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) يقول : لتكون من رسل الله الذين كانوا ينذرون من أرسلوا إليه من قومهم ، فتنذر بهذا التنزيل قومك المكذّبين بآيات الله. وقوله : ( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) يقول : لتنذر قومك بلسان عربي مبين ، يبين لمن سمعه أنه عربي ، وبلسان العرب نزل ، والباء من قوله( بلسان ) من صلة قوله : ( نزلَ ) ، وإنما ذكر

(19/396)


وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)

تعالى ذكره أنه نزل هذا القرآن بلسان عربي مبين في هذا الموضع ، إعلاما منه مشركي قريش أنه أنزله كذلك ، لئلا يقولوا إنه نزل بغير لساننا ، فنحن إنما نعرض عنه ولا نسمعه ، لأنا لا نفهمه ، وإنما هذا تقريع لهم ، وذلك أنه تعالى ذكره قال : ( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ) . ثم قال : لم يعرضوا عنه لأنهم لا يفهمون معانيه ، بل يفهمونها ، لأنه تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين بلسانهم العربيّ ، ولكنهم أعرضوا عنه تكذيبا به واستكبارا( فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) . كما أتى هذه الأمم التي قصصنا نبأها في هذه السورة حين كذّبت رسلها أنباء ما كانوا به يكذّبون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ (201) }
يقول تعالى ذكره : وإن هذا القرآن لفي زبر الأوّلين : يعني في كتب الأوّلين ، وخرج مخرج العموم ومعناه الخصوص ، وإنما هو : وإن هذا القرآن لفي بعض زبر الأوّلين; يعني : أن ذكره وخبره في بعض ما نزل من الكتب على بعض رسله. وقوله : ( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) يقول تعالى ذكره : أولم يكن لهؤلاء المعرضين عما يأتيك يا محمد من ذكر ربك ، دلالةٌ على أنك رسول رب العالمين ، أن يعلم حقيقة ذلك وصحته علماء بني إسرائيل. وقيل : عني بعلماء بني إسرائيل في هذا الموضع : عبد الله بن سلام ومن أشبهه ممن كان قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل في عصره.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) قال : كان عبد الله بن سلام من علماء بنى إسرائيل ، وكان من خيارهم ، فآمن بكتاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم الله : أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني

(19/397)


إسرائيل وخيارهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) قال : عبد الله بن سلام وغيره من علمائهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً ) قال محمد : ( أَنْ يَعْلَمَهُ ) قال : يعرفه.( عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ). قال ابن جُرَيج ، قال مجاهد : علماء بني إسرائيل : عبد الله بن سلام ، وغيره من علمائهم.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) قال : أولم يكن للنبي آية ، علامة أن علماء بني إسرائيل كانوا يعلمون أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم ؟. وقوله : ( وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ ) يقول تعالى ذكره : ولو نزلنا هذا القرآن على بعض البهائم التي لا تنطق ، وإنما قيل على بعض الأعجمين ، ولم يقل على بعض الأعجميين ، لأن العرب تقول إذا نعتت الرجل بالعجمة وأنه لا يفصح بالعربية : هذا رجل أعجم ، وللمرأة : هذه امرأة عَجْماء ، وللجماعة : هؤلاء قوم عُجْم وأعجمون ، وإذا أريد هذا المعنى وصف به العربيّ والأعجمي ، لأنه إنما يعني أنه غير فصيح اللسان ، وقد يكون كذلك ، وهو من العرب ومن هذا المعنى قول الشاعر :
مِنْ وَائِلٍ لا حَيَّ يَعْدِلُهُمْ... مِنْ سُوقَةٍ عَرَبٌ ولا عُجْمُ (1)
فأما إذا أريد به نسبة الرجل إلى أصله من العجم ، لا وصفه بأنه غير فصيح اللسان ،
__________
(1) السوقة : الرعية التي تسوسها الملوك. يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث والمذكر. والعجم بضم العين : جمع أعجم. قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة الورقة 175) : يقال : رجل أعجم : إذا كان في لسانه عجمة ، ورجل عجمي : أي من العجم. والدواب : عجم ، لأنها لا تتكلم. وفي (اللسان : عجم) قال أبو إسحاق : الأعجم : الذي لا يفصح ولا يبين كلامه ، وإن كان عربي النسب ، كزياد الأعجم. والأنثى : عجماء ، وكذلك الأعجمي. فأما العجمي فالذي من جنس العجم : أفصح أو لم يفصح ، والجمع : عجم (بالتحريك) كعربي وعرب. ورجل أعجمي وأعجم : إذا كانت في لسانه عجمة ، وإن أفصح بالعجمية وكلام أعجم وأعجمي : بين العجمة. وفي لتنزيل : (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي). وجمعه بالواو والنون ، تقول : أحمري وأحمرون ، وأعجمي وأعجمون ، على حد أشعثي وأشعثين وأشعري وأشعرين وعليه قوله عز وجل : (ولو نزلناه على بعض الأعجمين)

(19/398)


فإنه يقال : هذا رجل عجميّ ، وهذان رجلان عجميان ، وهؤلاء قوم عَجَم ، كما يقال : عربيّ ، وعربيان ، وقوم عرب. وإذا قيل : هذا رجل أعجميّ ، فإنما نسب إلى نفسه كما يقال للأحمر : هذا أحمري ضخم ، وكما قال العجاج :
والدَّهْرُ بالإنسانِ دَوَّارِيُّ (1)
ومعناه : دوّار ، فنسبه إلى فعل نفسه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : كنت واقفا إلى جنب عبد الله بن مطيع بعرفة ، فتلا هذه الآية : ( وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) قال : لو نزل على بعيري هذا فتكلم به ما آمنوا به( لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) حتى يفقهه عربيّ وعجميّ ، لو فعلنا ذلك.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : كان عبد الله بن مطيع واقفا بعرفة ، فقرأ هذه الآية( وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) قال : فقال : جملي هذا أعجم ، فلو أُنزل على هذا ما كانوا به مؤمنين.
__________
(1) هذا بيت من مشطور الرجز للعجاج الراجز المشهور (اللسان : دور. وأراجيز العرب للسيد توفيق البكري 174) وهو من أرجوزة له حزينة ، بدأها بقوله : بَكَيْتُ وَالْمُحْتَرِنُ البَكِيُّ ... وَإنَّمَا يَأْتي الصّبا الصَّبيُّ
أطَرَبَا وَأَنْتَ قِنَّسْرِيُّ ... وَالدَّهْرُ بِالإِنْسَانِ دَوَّارِيُّ
أَفْنَى الْقُرُونَ وَهْوَ قَعْسَرِيُّ ... وَبِالدَّهَاءِ يُخْتَلُ المَدْهِيّ
يقول : بكيت ومن حزم كان بكاؤك. والقنسري : المسن القديم. ودواري : دائر ، أي أنه يتصرف بالإنسان ويدور به أطوارًا وأحوالا. والقعسري : الشديد ، يريد الدهر. ومحل الشاهد في قوله : " دواري " قال في اللسان : أي دائر به ، على إضافة الشيء إلى نفسه (أي نسبته إلى نفسه ، لأن دواري منسوب إلى دوار ، فلفظ المنسوب إليه كلفظ المنسوب). قال ابن سيده : هذا قول اللغويين قال الفارسي هو على لفظ النسب ، وليس بنسب ، ونظيره بختى وكرسي. وفي (اللسان : عجم) وينسب إلى الأعجم الذي في لسانه عجمة ، فيقال : لسان أعجمي ، وكتاب أعجمي ، ولا يقال رجل أعجمي فتنسب إلى نفسه ، إلا أن يكون أعجم وأعجمي بمعنى ، مثل دوار ودواري ، وجمل قعسر وقعسري ؛ هذا إذا ورد وردًا لا يمكن رده. ا ه.

(19/399)


ورُوي عن قَتادة في ذلك ما حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ ) قال : لو نزله الله أعجميا كانوا أخسر الناس به ، لأنهم لا يعرفون بالعجمية.
وهذا الذي ذكرناه عن قتادة قول لا وجه له ، لأنه وجَّه الكلام أن معناه : ولو أنزلناه أعجميا ، وإنما التنزيل( وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ ) يعني : ولو نزلنا هذا القرآن العربي علي بهيمة من العجم أو بعض ما لا يفصح ، ولم يقل : ولو نزلناه أعجميا. فيكون تأويل الكلام ما قاله.
وقوله( فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ) يقول : فقرأ هذا القرآن على كفار قومك يا محمد الذين حتمت عليهم أن لا يؤمنوا ذلك الأعجم ما كانوا به مؤمنين. يقول : لم يكونوا ليؤمنوا به ، لما قد جرى لهم في سابق علمي من الشقاء ، وهذا تسلية من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن قومه ، لئلا يشتد وجدُه بإدبارهم عنه ، وإعراضهم عن الاستماع لهذا القرآن ، لأنه كان صلى الله عليه وسلم شديدا حرصه على قبولهم منه ، والدخول فيما دعاهم إليه ، حتى عاتبه ربه على شدّة حرصه على ذلك منهم ، فقال له : ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ثم قال مؤيسه من إيمانهم وأنهم هالكون ببعض مثلاته ، كما هلك بعض الأمم الذين قص عليهم قصصهم في هذه السورة. ولو نزلناه على بعض الأعجمين يا محمد لا عليك ، فإنك رجل منهم ، ويقولون لك : ما أنت إلا بشر مثلنا ، وهلا نزل به ملك ، فقرأ ذلك الأعجم عليهم هذا القرآن ، ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق ، وأنه تنزيل من عندي ، ما كانوا به مصدقين ، فخفض من حرصك على إيمانهم به ، ثم وكد تعالى ذكره الخبر عما قد حتم على هؤلاء المشركين ، الذين آيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من إيمانهم من الشقاء والبلاء ، فقال : كما حتمنا على هؤلاء أنهم لا يؤمنون بهذا القرآن( وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ ) التكذيب والكفر( فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ). ويعني بقوله : سلكنا : أدخلنا ، والهاء في قوله( سلكناه ) كناية من ذكر قوله( مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) ، كأنه قال : كذلك أدخلنا في قلوب المجرمين ترك الإيمان بهذا القرآن.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

(19/400)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ ) قال : الكفر( فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ . لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ ). (1)
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن سفيان ، عن حميد ، عن الحسن ، في هذه الآية : ( كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) قال : خلقناه.
قال : ثنا زيد ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، قال : سألت الحسن في بيت أبي خليفة ، عن قوله( كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) قال : الشرك سلكه في قلوبهم. وقوله : ( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ ) يقول : فعلنا ذلك ؛ بهم لئلا يصدّقوا بهذا القرآن ، حتى يروا العذاب الأليم في عاجل الدنيا ، كما رأت ذلك الأمم الذين قص الله قصصهم في هذه السورة. ورفع قوله( لا يُؤْمِنُونَ ) لأن العرب من شأنها إذا وضعت في موضع مثل هذا الموضع " لا " ربما جزمت ما بعدها ، وربما رفعت فتقول : ربطت الفرس لا تنفلتْ ، وأحكمت العقد لا ينحلّ ، جزما ورفعا. وإنما تفعل ذلك لأن تأويل ذلك : إن لم أحكم العقد انحلّ ، فجزمه على التأويل ، ورفعه بأن الجازم غير ظاهر.
ومن الشاهد على الجزم في ذلك قول الشاعر :
لَوْ كُنْتَ إذْ جِئْتَنا حاوَلْتَ رؤْيَتَنا... أوْ جِئْتنا ماشِيا لا يَعْرِف الفَرَس (2)
وقول الآخر :
__________
(1) سقط تفسير ابن زيد لما أراد من الآية ، ولعله الكفر أو الشرك ، أو نحوه ، أو مثله.
(2) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة الورقة 230) قال : وقوله : (كذلك سلكناه) تقول : سلكنا التكذيب في قلوب المجرمين كيلا يؤمنوا به حتى يروا العذاب الأليم. وإذا كان موقع كى في مثل هذا " لا " و " إن " جميعًا ، صلح الجزم في " لا " والرفع. والعرب تقول : ربطت الفرس لا ينفلت : جزمًا ورفعًا وأوثقت العبد لا يفر : جزما ورفعًا ؛ وإنما جزم ، لأن تأويله : إن لم أربطه فر ؛ فجزم على التأويل. أنشدني بعض بني عقيل : وَحَتى رَأَيْنَا أَحْسَنَ الْفِعْلِ بَيْنَنَا ... مُسَاكَتَةً لا يَفْرِقُ الشَّرَّ فَارِقُ
ينشد رفعًا وجزمًا. وقال الآخر : " لو كنت إذ جئتنا.. " البيت : رفعًا وجزمًا ، وقوله : " لطالما حلأتماها.. " الشاهد الآتي بعد من ذلك.

(19/401)


فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)

لَطالَمَا حَلأتَمَاها لا تَرِدْ... فَخَلِّياها والسِّجَالَ تَبْتَرِدْ (1)
القول في تأويل قوله تعالى : { فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) }
يقول تعالى ذكره : فيأتي هؤلاء المكذّبين بهذا القرآن ، العذاب الأليم بغتة ، يعني فجأة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) يقول : لا يعلمون قبل ذلك بمجيئه حتى يفجأهم بغتة.( فيقولوا ) حين يأتيهم بغتة( هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ) : أي هل نحن مؤخَّر عنا العذاب ، ومُنْسأ في آجالنا لنئوب ، وننيب إلى الله من شركنا وكفرنا بالله ، فنراجع الإيمان به ، وننيب إلى طاعته ؟. وقوله : ( أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ) يقول تعالى ذكره : أفبعذابنا هؤلاء المشركون يستعجلون بقولهم : لن نؤمن لك حتى( تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) }
__________
(1) البيت في (اللسان : حلأ). وروايته : قد طالما.. إلخ ، قال : حلأ الإبل والماشية عن الماء تحليئًا وتحلئة : طردها أو حبسها عن الورود ، ومنعها أن ترده. وكذلك حلأ القوم عن الماء. وقال ابن الأعرابي : قالت قريبة : كان رجل عاشق لمرأة فتزوجها ، فجاءها النساء ، فقال بعضهن لبعض * قد طالما حلأتماها لا ترد *
البيت. والسجال : جمع سجل وهو الدلو الضخمة المملوءة ماء (اللسان) والبيت شاهد كالذي قبله ، على أن " لا ترد " يجوز فيه الرفع والجزم على التأويل الذي ذكره الفراء.

(19/402)


مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)

القول في تأويل قوله تعالى : { مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) }
يقول تعالى ذكره : ثم جاءهم العذاب الذي كانوا يوعدون على كفرهم بآياتنا ، وتكذيبهم رسولنا.( مَا أَغْنَى عَنْهُمْ ) يقول : أي شيء أغنى عنهم التأخير الذي أخرنا في آجالهم ، والمتاع الذي متعناهم به من الحياة ، إذ لم يتوبوا من شركهم ، هل زادهم تمتيعنا إياهم ذلك إلا خبالا ؟ ، وهل نفعهم شيئا ؟ ، بل ضرهم بازديادهم من الآثام ، واكتسابهم من الإجرام ما لو لم يمتعوا لم يكتسبوه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ) إلى قوله( مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) قال : هؤلاء أهل الكفر.

(19/402)


وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) }
يقول تعالى ذكره : ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ ) من هذه القرى التي وصفت في هذه السور( إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ ) يقول : إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم بأسنا على كفرهم وسخطنا عليهم.( ذكرى ) يقول : إلا لها منذرون ينذرونهم ، تذكرة لهم وتنبيها لهم على ما فيه النجاة لهم من عذابنا. ففي الذكرى وجهان من الإعراب : أحدهما النصب على المصدر من الإنذار على ما بيَّنْتُ ، والآخر : الرفع على الابتداء (1) كأنه قيل : ذكرى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ . ذِكْرَى ) قال : الرسل. قال ابن جُرَيج : و قوله : ( ذكرى ) قال : الرسل.
قوله : ( وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ) يقول : وما كنا ظالميهم في تعذيبناهم وإهلاكهم ، لأنا إنما أهلكناهم ، إذ عتوا علينا ، وكفروا نعمتنا ، وعبدوا غيرنا بعد الإعذار عليهم والإنذار ، ومتابعة الحجج عليهم بأن ذلك لا ينبغي أن يفعلوه ، فأبوا إلا التمادي في الغيّ.
وقوله : ( وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ) يقول تعالى ذكره : وما تنزلت بهذا القرآن الشياطين على محمد ، ولكنه ينزل به الروح الأمين.( وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ ) يقول : وما ينبغي للشياطين أن ينزلوا به عليه ، ولا يصلح لهم ذلك.( وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ) يقول : وما يستطيعون أن يتنزلوا به ، لأنهم لا يصلون إلى استماعه في المكان الذي هو به من السماء.( إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) يقول : إن الشياطين عن سمع القران من المكان
__________
(1) يجوز أن يكون قوله تعالى (ذكرى) مرفوعًا على الابتداء والخبر محذوف ، أي ذكرى لهم. ويجوز أن يكون مرفوعًا على أنه خبر عن مبتدأ ، تقديره : " هم " أي المنذرون ، ذكرى لهم.

(19/403)


فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)

الذي هو به من السماء لمعزولون ، فكيف يستطيعون أن يتنزلوا به.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ) قال : هذا القرآن. وفي قوله( إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) قال : عن سمع السماء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، بنحوه ، إلا أنه قال : عن سمع القرآن.
والقرّاء مجمعة على قراءة( وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ) بالتاء ورفع النون ، لأنها نون أصلية ، واحدهم شيطان ، كما واحد البساتين بستان. وذُكر عن الحسن أنه كان يقرأ ذلك : " وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطُونَ " بالواو ، وذلك لحن ، وينبغي أن يكون ذلك إن كان صحيحا عنه ، أن يكون توهم أن ذلك نظير المسلمين والمؤمنين ، وذلك بعيد من هذا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( فَلا تَدْعُ ) يا محمد( مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) أي لا تعبد معه معبودا غيره( فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ) فينزل بك من العذاب ما نزل بهؤلاء الذين خالفوا أمرنا وعبدوا غيرنا. وقوله : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وأنذر عشيرتك من قومك الأقربين إليك قرابة ، وحذّرهم من عذابنا أن ينزل بهم بكفرهم.
وذُكر أن هذه الآية لما نزلت ، بدأ ببني جده عبد المطلب وولده ، فحذّرهم وأنذرهم.

(19/404)


*ذكر الرواية بذلك :
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : ثنا محمد بن عبد الرحمن ، قال : ثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما نزلت هذه الآية : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا صَفِيَّةُ بِنْتَ عِبْدِ المُطَّلِبِ ، يا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ إنِّي لا أمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئا ، سَلُوني مِنْ مالي ما شِئْتُمْ " .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ويونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عنبسة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : لما نزلت( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) قام النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : " يا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ، ويا صَفِيَّةُ ابْنَةَ عَبْدِ المُطَّلِبِ " ثم ذكر نحو حديث ابن المقدام.
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : ثنا سلامة ، قال : قال عقيل : ثني الزهري ، قال : قال سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن : إن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) : " يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ الله ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئًا ، يا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شَيْئًا ، يا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ الله لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئًا ، سَلِينِي ما شِئْتِ ، لا أُغْني عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا " .
حدثني محمد بن عبد الملك ، قال : ثنا أبو اليمان ، قال : أخبرنا شعيب عن الزهري ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) قال : " يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ الله " ثم ذكر نحو حديث يونس ، عن سلامة; غير أنه زاد فيه " يا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ الله لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا " ولم يذكر في حديثه فاطمة.
حدثني يونس ، قال : ثنا سلامة بن روح ، قال : قال عقيل : ثني ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) جمع قريشا ،

(19/405)


ثم أتاهم ، فقال لهم : " هَلْ فِيكُمْ غرِيبٌ ؟ " فقالوا : لا إلا ابن أخت لنا لا نراه إلا منا ، قال : " إنَّهُ منْكُمْ " ، فوعظهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لهم في آخر كلامه : " لا أعْرِفَنَّ مَا وَرَدَ عليَّ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ يَسُوقُونَ الآخِرَةَ ، وجِئْتُمْ إليَّ تَسُوقُونَ الدُّنْيا " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُنزل عليه( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) : " يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ الله لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئًا ، يا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شَيْئًا ، يا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رسُولِ الله لا أغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئًا ، يا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي ما شِئْتِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئًا " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت الحجاج يحدث ، عن عبد الملك بن عمير ، عن موسى بن طلحة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : لما أنزل الله : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أنْقِذُوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ ، يا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ ، ألا إنَّ لَكُمْ رَحِمًا سأبلُّها ببلالها " .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن زائدة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن موسى بن طلحة ، عن أبي هريرة ، قال : لما نزلت هذه الآية : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ، فعم وخصّ ، فقال : " يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ الله ، يا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ ، يا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، يا مَعْشَرَ بِنِي هاشم ، يا مَعْشَرَ بني عَبْدِ المُطَّلِبِ " ، يقول لكلهم : " أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ ، يا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ ، فإني وَاللهِ ما أمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شَيْئًا ، ألا إنَّ لَكُمْ رَحِمًا سأبلُّها بِبلالها " .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : ثنا أبو عثمان ، عن زهير بن عمرو وقبيصة بن مخارق : أنهما قالا أنزل الله على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ، فحدثنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه علا صخرة من

(19/406)


جبل ، فعلا أعلاها حجرا ، ثم قال : " يا آل عَبْدِ مَنافاه ، يا صَباحاه ، إنّي نَذِيرٌ ، إنَّ مَثَلِي وَمَثَلَكُمْ مَثَل رَجُلٍ أتى الجَيْشُ ، فَخَشِيَهُمْ على أهْلِهِ ، فَذَهَبَ يَرْبَؤُهم (1) فَخَشِيَ أنْ يَسْبِقُوهُ إلى أهْلِهِ ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِهِمْ : يا صَبَاحَاهُ " ! أو كما قال.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الوهاب ومحمد بن جعفر ، عن عوف ، عن قسامة بن زهير ، قال : بلغني أنه لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) جاء فوضع أصبعه في أذنه ، ورفع من صوته ، وقال : " يا بَنِي عَبْدِ مَناف وَاصَبَاحَاهُ " !
قال : ثني أبو عاصم ، قال : ثنا عوف ، عن قسامة بن زهير ، قال : أظنه عن الأشعري ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه.
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : ثنا أبو زيد الأنصاري سعد بن أوس ، عن عوف ، قال : قال قسامة بن زهير ، حدثني الأشعري ، قال : لما نزلت ، ثم ذكر نحوه; إلا أنه قال : وضع أصبعيه في أذنيه.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن نُمير ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ، ثم نادى : " يا صَباحاهُ " ، فاجتمع الناس إليه ، فبين رجل يجيء ، وبين آخر يبعث رسوله ، فقال : " يا بَنِي هَاشِمٍ ، يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ ، يا بَنِي فِهْرٍ ، يا بَنِي يا بَنِي ، أرَأَيْتَكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلا بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدَّقْتُمُونِي ؟ " قالوا : نعم ، قال : " فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ " فقال أبو لهب : تبا لكم سائر اليوم ، ما دعوتموني إلا لهذا ؟ فنزلت : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) .
حدثنا أبو كُرَيب وأبو السائب ، قالا ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا ، فقال : " يا صباحاهُ! " فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا له :
__________
(1) يقال ربأ القوم يربؤهم ، وربأ لهم إذا وقف على مكان عال ، ونظر بعيدًا ، يرقب عدوا أو جيشًا مغيرًا ، أو نحو ذلك

(19/407)


مالك ؟ فقال : " أرَأَيْتَكُمْ إنْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ العَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أوْ مُمُسِّيكُمْ ألا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي ؟ " قالوا : بلى ، قال : " فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَاب شَدِيد " . قال أبو لهب : تبا لك ، ألهذا دعوتنا أو جمعتنا! ، فأنزل الله : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ )... إلى آخر السورة.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ورهطك منهم المخلصين ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا ، فهتف : " يا صَباحاهُ! " فقالوا : من هذا الذي يهتف ؟ فقالوا : محمد ، فاجتمعوا إليه ، فقال : " يا بَنِي فُلان ، يا بَنِي فُلان ، يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ ، يا بَنِي عَبْدِ مَنَاف " ، فاجتمعوا إليه ، فقال : " أرَأَيْتَكُمْ إنْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلا تَخْرُج بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيّ ؟ " قالوا : ما جربنا عليك كذبا ، قال : " فإنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَاب شَدِيدٍ " ، فقال أبو لهب : تبا لك ، ما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قام فنزلت هذه السورة : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) و قد تب ، كذا قرأ الأعمش ، إلى آخر السورة.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام على الصفا ، فقال : " يا صَباحاهُ " !
قال ثنا خالد بن عمرو ، قال : ثنا سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ، فقال : " يا صباحاه ! " فجعل يعددهم : " يا بَنِي فُلان ، وَيا بَنِي فُلان ، ويا بَنِي عَبْدِ مَنَاف " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عمرو بن مرّة الجَمَليّ ، قال : لما نزلت : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) قال : أتى جبلا فجعل يهتف : " يا صَباحاهُ " ، فأتاه من خف من الناس ، وأرسل إليه المتثاقلون من الناس رسلا فجعلوا يجيئون يتبعون الصوت ; فلما انتهوا إليه قال : " إنَّ مِنْكُمْ مَنْ جَاءَ لِيَنْظُرَ ، وَمِنكُمْ مَنْ أرْسَلَ لينظر مَنِ الهاتف " ، فلما اجتمعوا وكثروا قال : " أرَأيتَْكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلا مُصَبِّحَتُكُمْ مِنْ هَذَا الجَبَلِ ، أكُنْتُمْ مُصَدِّقيّ ؟ " قالوا : نعم ، ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ

(19/408)


الآيَاتِ التي أُنزلْنَ ، وأنذرهم كما أمر ، فَجَعَلَ ينادي : " يا قُرَيْشُ ، يا بَنِي هاشِمٍ " حتى قالَ : " يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ ، إنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بينَ يَدَيْ عَذَاب شَدَيد " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عمرو : أنه كان يقرأ : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ورهطك المخلصين.
قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن عبد الغفار بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، عن عبد الله بن عباس ، عن عليّ بن أبي طالب : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : " يا عليُّ ، إنَّ الله أمَرَنِي أنْ أُنْذِرْ عَشِيرَتِي الأقْرَبِين " ، قال : " فضقت بذلك ذرعا ، وعرفت أنى متى ما أنادهم بهذا الأمر أَرَ منهم ما أكره ، فصمتُّ حتى جاء جبرائيل ، فقال : يا محمد ، إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربك. فاصنع لنا صاعا من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عسا من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب ، حتى أكلمهم ، وأبلغهم ما أمرت به " ، ففعلت ما أمرني به ، ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه ، فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب; فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم ، فجئت به. فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم حِذْية من اللحم (1) فشقها بأسنانه ، ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، قال : " خذوا باسم الله " ، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة ، وما أرى إلا مواضع أيديهم; وايم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم ، ثم قال : " اسْقِ النَّاسَ " ، فجِئْتُهُمْ بذلك العس ، فشربوا حتى رووا منه جميعا ، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله; فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم ، بدره أبو لهب إلى الكلام ، فقال : لَهَدَّ (2) ما سحركم به صاحبكم ، فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " الغد يا عليّ ، إن هَذَا الرَّجُل قدْ سَبَقَنِي إلى ما
__________
(1) في (اللسان : حذا) : أعطيته حذية من لحم ، وحذة وفلذة ، كل هذا إذا قطع طولا. ا ه. وقيل : هي القطعة الصغيرة.
(2) في (اللسان : هد) وفي الحديث " أن أبا لهب قال : لهد ما سحركم صاحبكم " قال لهد : كلمة يتعجب بها ، يقال : لهد الرجل : أي ما أجلده. قلت : وهو كقولنا لشد ما قال فلان ، أي ما أشد

(19/409)


قَدْ سَمِعْتَ مِنَ القَوْلِ ، فَتفرّق القوم قبلَ أنْ أُكَلِّمَهُمْ فأعِدَّ لَنا مِنَ الطَّعَامِ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ ، ثُمَّ اجْمَعْهُمْ لِي " ، قال : ففعلت ثم جمعتهم ، ثم دعاني بالطعام ، فقرّبته لهم ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ، قال : " اسقهم " ، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعًا ، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ ، إنِّي والله ما أعْلَمُ شابا فِي العَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ بأفْضَلَ ممَّا جئْتُكُمْ بِهِ ، إنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ ، وَقَدْ أمَرَنِي الله أنْ أدْعُوكُمْ إلَيْهِ ، فَأيُّكُمْ يُؤَازِرُني عَلى هَذَا الأمْرِ ، عَلى أنْ يَكُونَ أخِي " وكَذَا وكَذَا ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعا ، وقلت وإني لأحدثهم سنا ، وأرمصهم عينا ، وأعظمهم بطنا ، وأخمشهم ساقا. أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك ، فأخذ برقبتي ، ثم قال : " إن هذا أخي " وكذا وكذا ، " فاسمعوا له وأطيعوا " ، قال : فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع!.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني إسحاق ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن بن أبي الحسن ، قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح ، ثم قال : " يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ ، يا بَنِي عَبْدِ مَناف ، يا بَنِي قُصَيّ " ، قال : ثم فخَّذ قريشا قبيلة قبيلة ، حتى مرّ على آخرهم ، " إنّي أدْعُوكُمْ إلى اللهِ ، وأُنْذِرُكُمْ عَذَابَهُ " .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) قال : أمر محمد أن ينذر قومه ، ويبدأ بأهل بيته وفصيلته ، قال : ( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ) .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : ولما نزلت : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " يا فاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ، يا صَفِيَّهُ بِنْتَ عَبْدِ المُطَّلِبِ ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ " .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) بدأ بأهل بيته وفصيلته.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما نزلت : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم بني هاشم ، فقال : " يا

(19/410)


فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)

بني هاشم ، ألا لا ألْفِيَنَّكُمْ تأْتُونِي تَحْمِلُونَ الدُّنْيَا ، ويأتي النَّاسُ يَحْمِلُونَ الآخِرَةَ ، ألا إنَّ أوْليائي مِنْكُمْ المُتَّقُونَ ، فاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ " .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : لما نزلت هذه الآية بدأ بأهل بيته وفصيلته; قال : وشقّ ذلك على المسلمين ، فأنزل الله تعالى : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ).
وقوله : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ ) يقول : وألن جانبك وكلامك( لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال : يقول : لن لهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) }
يقول تعالى ذكره : فإن عصتك يا محمد عشيرتك الأقربون الذين أمرتك بإنذارهم ، وأبوا إلا الإقامة على عبادة الأوثان ، والإشراك بالرحمن ، فقل لهم : ( إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) من عبادة الأصنام ومعصية بارئ الأنام.( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ ) فى نقمته من أعدائه( الرَّحِيمِ ) بمن أناب إليه وتاب من معاصيه.
( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ) يقول : الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك.
وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ) قال : أينما كنت.
( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ويرى تقلبك في صلاتك حين تقوم ، ثم تركع ، وحين تسجد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) يقول : قيامك وركوعك وسجودك.

(19/411)


حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، قال : سمعت أبي وعليّ بن بذيمة يحدّثان عن عكرمة في قوله : ( يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) قال : قيامه وركوعه وسجوده.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال عكرمة ، في قوله : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) قال : قائما وساجدا وراكعا وجالسا.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ويرى تقلبك في المصلين ، وإبصارك منهم من هو خلفك ، كما تبصر من هو بين يديك منهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) كان يرى من خلفه ، كما يرى من قدّامه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) قال : المصلين كان يرى من خلفه في الصلاة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) قال : المصلين ، قال : كان يرى في الصلاة من خلفه.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وتقلبك مع الساجدين : أي تصرفك معهم في الجلوس والقيام والقعود.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج : أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قال : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) قال : يراك وأنت مع الساجدين تقلب وتقوم وتقعد معهم.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) قال : في المصلين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَتَقَلُّبَكَ

(19/412)


هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)

فِي السَّاجِدِينَ ) قال : في الساجدين : المصلين.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ويرى تصرّفك في الناس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : سألت الحسن عن قوله : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) قال : في الناس.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وتصرفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك تفعله ، والساجدون في قول قائل هذا القول : الأنبياء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : ( الَّذِي يَرَاكَ )... الآية ، قال : كما كانت الأنبياء من قبلك.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بتأويله قول من قال تأويله : ويرى تقلبك مع الساجدين في صلاتهم معك ، حين تقوم معهم وتركع وتسجد ، لأن ذلك هو الظاهر من معناه. فأما قول من وجهه إلى أن معناه : وتقلبك في الناس ، فإنه قول بعيد من المفهوم بظاهر التلاوة ، وإن كان له وجه ، لأنه وإن كان لا شيء إلا وظله يسجد لله ، فإنه ليس المفهوم من قول القائل : فلان مع الساجدين ، أو في الساجدين ، أنه مع الناس أو فيهم ، بل المفهوم بذلك أنه مع قوم سجود ، السجود المعروف ، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأغلب أولى من توجيهه إلى الأنكر.
وكذلك أيضا في قول من قال : معناه : تتقلب في أبصار الساجدين ، وإن كان له وجه ، فليس ذلك الظاهر من معانيه.
فتأويل الكلام إذن : وتوكل على العزيز الرحيم ، الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك ، ويرى تقلبك في المؤتمين بك فيها بين قيام وركوع وسجود وجلوس.
وقوله : ( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) يقول تعالى ذكره : إن ربك هو السميع تلاوتك يا محمد ، وذكرك في صلاتك ما تتلو وتذكر ، العليم بما تعمل فيها ويعمل فيها من يتقلب فيها معك مؤتما بك ، يقول : فرتل فيها القرآن ، وأقم حدودها ، فإنك بمرأى من ربك ومسمع.
القول في تأويل قوله تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ

(19/413)


تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)

(221) تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) }
يقول تعالى ذكره : ( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ ) من الناس ؟( تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ ) يعني كذّاب بهات( أثيم ) يعني : آثم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) قال : كل كذّاب من الناس.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) قال : كذاب من الناس.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) قال : هم الكهنة تسترق الجن السمع ، ثم يأتون به إلى أوليائهم من الإنس.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن وهب ، قال : كنت عند عبد الله بن الزبير ، فقيل له : إن المختار يزعم أنه يوحى إليه ، فقال : صدق ، ثم تلا( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ).
وقوله : ( يُلْقُونَ السَّمْعَ ) يقول تعالى ذكره : يلقي الشياطين السمع ، وهو ما يسمعون مما استرقوا سمعه من حين حدث من السماء ، إلى( كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) من أوليائهم من بني آدم.
وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( يُلْقُونَ السَّمْعَ ) قال : الشياطين ما سمعته ألقته على كلّ أفَّاكٍ كذّاب.

(19/414)


وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( يُلْقُونَ السَّمْعَ ) الشياطين ما سمعته ألقته( عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ ) قال : يلقون السمع ، قال : القول.
وقوله : ( وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ) يقول : وأكثر من تنزل عليه الشياطين كاذبون فيما يقولون ويخبرون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، في قوله : ( وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ) عن عروة ، عن عائشة قالت : الشياطين تسترق السمع ، فتجيء بكلمة حقّ فيقذفها في أذن وليه; قال : ويزيد فيها أكثر من مائة كذبة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) }
يقول تعالى ذكره : والشعراء يتبعهم أهل الغيّ لا أهل الرشاد والهدى.
واختلف أهل التأويل في الذين وصفوا بالغيّ في هذا الموضع فقال بعضهم : رواة الشعر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسن بن يزيد الطحان ، قال : ثنا إسحاق بن منصور ، قال : ثنا قيس ، عن يعلى ، عن عكرمة ، عن ابن عباس; وحدثني أبو كُرَيب ، قال : ثنا طلق بن غنام ، عن قيس; وحدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، عن قيس ، عن يعلى بن النعمان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) قال : الرواة.
وقال آخرون : هم الشياطين.

(19/415)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) : الشياطين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) قال : يتبعهم الشياطين.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن عكرمة ، في قوله : ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) قال : عصاة الجنّ.
وقال آخرون : هم السفهاء ، وقالوا : نزل ذلك في رجلين تهاجيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ )... إلى آخر الآية ، قال : كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحدهما من الأنصار ، والآخر من قوم آخرين ، وأنهما تهاجيا ، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه ، وهم السفهاء ، فقال الله : ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ).
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) قال : كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحدهما من الأنصار ، والآخر من قوم آخرين ، تهاجيا ، مع كل واحد منهما غواة من قومه ، وهم السُّفهاء.
وقال آخرون : هم ضلال الجنّ والإنس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس :

(19/416)


( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) قال : هم الكفار يتبعهم ضلال الجنّ والإنس.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) قال : الغاوون المشركون.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال فيه ما قال الله جلّ ثناؤه : إن شعراء المشركين يتبعهم غواة الناس ، ومردة الشياطين ، وعصاة الجنّ ، وذلك أن الله عم بقوله : ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) فلم يخصص بذلك بعض الغواة دون بعض ، فذلك على جميع أصناف الغواة التي دخلت في عموم الآية. قوله : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ) يقول تعالى ذكره : ألم تر يا محمد أنهم ، - يعني الشعراء - في كلّ واد يذهبون ، كالهائم على وجهه على غير قصد ، بل جائرا على الحقّ ، وطريق ، الرشاد ، وقصد السبيل.
وإنما هذا مثل ضربه الله لهم في افتنانهم في الوجوه التي يفتنون فيها بغير حق ، فيمدحون بالباطل قوما ويهجون آخرين كذلك بالكذب والزور.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ) يقول : في كلّ لَغْوٍ يخوضون.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ) قال : في كلّ فنّ يَفْتَنُّون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ ) قال : فن( يهيمون ) قال : يقولون.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ) قال : يمدحون قوما بباطل ، ويشتمون قوما بباطل.
وقوله : ( وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ) يقول : وأن أكثر قيلهم باطل وكذب.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ( وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ) يقول : أكثر قولهم يكذبون.
وعني بذلك شعراء المشركين.

(19/417)


كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : قال رجل لأبي : يا أبا أسامة ، أرأيت قول الله جلّ ثناؤه : ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ) فقال له أبي : إنما هذا لشعراء المشركين ، وليس شعراء المؤمنين ، ألا ترى أنه يقول : ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )... إلخ. فقال : فَرَّجت عني يا أبا أسامة; فرّج الله عنك.
وقوله : ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) وهذا استثناء من قوله( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ). وذكر أن هذا الاستثناء نزل في شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كحسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، ثم هو لكلّ من كان بالصفة التي وصفه الله بها.
وبالذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة وعليّ بن مجاهد ، وإبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط ، عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري ، قال : لما نزلت : ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) قال : جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يبكون ، فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء ، فتلا النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) إلى آخر السورة في حسَّان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك.
قال : ثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة وطاوس ، قالا قال : ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ) ، فنسخ من ذلك واستثنى ، قال : ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )... الآية.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ،

(19/418)


قال : ثم استثنى المؤمنين منهم ، يعني الشعراء ، فقال : ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، فذكر مثله.
حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) قال : هم الأنصار الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي حسن البراد ، قال : لما نزلت : ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) ثم ذكر نحو حديث ابن حميد عن سلمة.
وقوله : ( وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ) اختلف أهل التأويل في حال الذكر الذي وصف الله به هؤلاء المستثنين من الشعراء ، فقال بعضهم : هي حال منطقهم ومحاورتهم الناس ، قالوا : معنى الكلام : وذكروا الله كثيرا في كلامهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ) في كلامهم.
وقال آخرون : بل ذلك في شعرهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ) قال : ذكروا الله في شعرهم.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله وصف هؤلاء الذين استثناهم من شعراء المؤمنين بذكر الله كثيرا ، ولم يخص ذكرهم الله على حال دون حال في كتابه ، ولا على لسان رسوله ، فصفتهم أنهم يذكرون الله كثيرا في كلّ أحوالهم.
وقوله : ( وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) يقول : وانتصروا ممن هجاهم من شعراء المشركين ظلما بشعرهم وهجائهم إياهم ، وإجابتهم عما هجوهم به.

(19/419)


وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ( وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) قال : يردون على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وانتصروا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ).
وقيل : عني بذلك كله الرهط الذين ذكرت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا عليّ بن مجاهد وإبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداريّ ، قال : لما نزلت : ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) جاء حسَّان بن ثابت وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم يبكون ، فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء ، فتلا النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي حسن البراد ، قال : لما نزلت( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) ثم ذكر نحوه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) قال : عبد الله بن رواحة وأصحابه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) قال : عبد الله بن رواحة.
وقوله : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) يقول تعالى ذكره : وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم بشركهم بالله من أهل مكة( أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) يقول : أي مرجع يرجعون إليه ، وأي معاد يعودون إليه بعد مماتهم ، فإنهم يصيرون إلى نار لا يُطفأ سعيرها ، ولا يَسْكُن لهبها.

(19/420)


وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، وعليّ بن مجاهد ، وإبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) يعني : أهل مكة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) قال : وسيعلم الذين ظلموا من المشركين أي منقلب ينقلبون.
آخر تفسير سورة الشعراء

(19/421)


طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)

تفسير سورة النمل
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) }
قال أبو جعفر : وقد بيَّنا القول فيما مضى من كتابنا هذا فيما كان من حروف المعجم في فواتح السور ، فقوله : (طس) من ذلك. وقد رُوي عن ابن عباس أن قوله : (طس) قسم أقسمه الله هو من أسماء الله.
حدثني علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : قوله : (طس) قسم أقسمه الله هو من أسماء الله.
فالواجب على هذا القول أن يكون معناه : والسميع اللطيف ، إن هذه الآيات التي أنزلتها إليك يا محمد لآيات القرآن ، وآيات كتاب مبين : يقول : يبين لمن تدبَّره ، وفكَّر فيه بفهم أنه من عند الله ، أنزله إليك ، لم تتخرّصه أنت ولم تتقوّله ، ولا أحد سواك من خلق الله ، لأنه لا يقدر أحد من الخلق أن يأتي بمثله ، ولو تظاهر عليه الجنّ والإنس. وخفض قوله : ( وَكِتَابٍ مُبِينٍ ) عطفا به على القرآن. وقوله : (هُدًى) من صفة القرآن.
يقول : هذه آيات القرآن بيان من الله بين به طريق الحق وسبيل السلام.( وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول : وبشارة لمن آمن به ، وصدّق بما أنزل فيه بالفوز العظيم في المعاد.
وفي قوله : (هدى وبشرى ) وجهان من العربية : الرفع على الابتداء بمعنى : هو هدى وبُشرى. والنصب على القطع من آيات القرآن ، فيكون معناه : تلك آيات القرآن الهدى والبشرى للمؤمنين ، ثم أسقطت الألف واللام من الهدى والبشرى ، فصارا نكرة ، وهما صفة للمعرفة فنصبا.
وقوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) يقول : هو هدى وبشرى لمن آمن بها ، وأقام الصلاة المفروضة بحدودها. وقوله : (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) يقول : ويؤدّون الزكاة

(19/422)


إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)

المفروضة. وقيل : معناه : ويطهرون أجسادهم من دنس المعاصي.
وقد بيَّنا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.(وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ )يقول : وهم مع إقامتهم الصلاة ، وإيتائهم الزكاة الواجبة ، بالمعاد إلى الله بعد الممات يوقنون ، فيذلون في طاعة الله ، رجاء جزيل ثوابه ، وخوف عظيم عقابه ، وليسوا كالذين يكذّبون بالبعث ، ولا يبالون ، أحسنوا أم أساءوا ، وأطاعوا أم عصوا ، لأنهم إن أحسنوا لم يرجوا ثوابا ، وإن أساءوا لم يخافوا عقابا.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ (5) }
يقول تعالى ذكره : إن الذين لا يصدّقون بالدار الآخرة ، وقيام الساعة ، وبالمعاد إلى الله بعد الممات والثواب والعقاب.(زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ )
يقول : حببنا إليهم قبيح أعمالهم ، وسهَّلنا ذلك عليهم.(فَهُمْ يَعْمَهُونَ ) يقول : فهم في ضلال أعمالهم القبيحة التي زيَّناها لهم يتردّدون حيارى يحسبون أنهم يحسنون.
وقوله : (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ ) يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة لهم سوء العذاب في الدنيا ، وهم الذين قتلوا ببدر من مشركي قريش.
يقول : وهم يوم القيامة هم الأوضعون تجارة والأوكسوها باشترائهم الضلالة بالهدى(فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) }
يقول تعالى ذكره : وإنك يا محمد لتحفظ القرآن وتعلمه(مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) يقول : من عند حكيم بتدبير خلقه ، عليم بأنباء خلقه ومصالحهم ، والكائن من أمورهم ، والماضي من أخبارهم ، والحادث منها.(إِذْ قَالَ مُوسَى ) وإذ من صلة عليم. ومعنى

(19/426)


الكلام : عليم حين قال موسى(لأهْلِهِ ) وهو في مسيره من مدين إلى مصر ، وقد آذاهم برد ليلهم لما أصلد زنده.(إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ) أي أبصرت نارا أو أحسستها ، فامكثوا مكانكم(سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ ) يعني من النار ، والهاء والألف من ذكر النار(أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ )
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : " بِشِهَابِ قَبَسٍ " بإضافة الشهاب إلى القبس ، وترك التنوين ، بمعنى : أو آتيكم بشعلة نار أقتبسها منها. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة : (بِشِهَابٍ قَبَسٍ ) بتنوين الشهاب وترك إضافته إلى القبس ، يعني : أو آتيكم بشهاب مقتبس.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان في قَرَأة الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وكان بعض نحويِّي البصرة يقول : إذا جُعل القبس بدلا من الشهاب ، فالتنوين في الشهاب ، وإن أضاف الشهاب إلى القبس لم ينون الشهاب. وقال بعض نحويِّي الكوفة : إذا أضيف الشهاب إلى القبس فهو بمنزلة قوله(وَلَدَارُ الآخِرَةِ ) مما يضاف إلى نفسه إذا اختلف اسماه ولفظاه توهما بالثاني أنه غير الأوّل قال : ومثله حبة الخضراء ، وليلة القمراء ، ويوم الخميس وما أشبهه. وقال آخر منهم : إن كان الشهاب هو القبس لم تجز الإضافة ، لأن القبس نعت ، ولا يضاف الاسم إلى نعته إلا في قليل من الكلام ، وقد جاء : (وَلَدَارُ الآخِرَةِ ) و(وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ ) .
والصواب من القول في ذلك : أن الشهاب إذا أريد به أنه غير القبس ، فالقراءة فيه بالإضافة ، لأن معنى الكلام حينئذ ، ما بينا من أنه شعلة قبس ، كما قال الشاعر :
في كَفِّه صَعْدَةٌ مُثَقَّفَةٌ... فِيها سِنانٌ كشُعْلَة القَبَس (1)
وإذا أريد بالشهاب أنه هو القبس ، أو أنه نعت له ، فالصواب في الشهاب التنوين ؛ لأن الصحيح في كلام العرب ترك إضافة الاسم إلى نعته ، وإلى نفسه ، بل الإضافات في كلامها المعروف إضافة الشيء إلى غير نفسه وغير نعته.
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 175) قال : " بشهاب قبس " أي بشعلة نار. ومجاز قبس : ما اقتبست منها ومن الجمر ، قال : " في كفه.. " البيت. والصعدة : القناة تنبت مستقيمة. والشاهد في البيت : إضافة الشعلة إلى القبس أي شعلة مقتبسة من نار كما في قول الله عز وجل (بشهاب قبس) في قراءة من قرأه بالإضافة. ويجوز تنوين " شهاب " وجعل قبس صفة له إذا اعتبر الشهاب هو نفس القبس ، لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه ، ولا إلى صفته.

(19/427)


وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ) يقول : كي تصطلوا بها من البرد. وقوله : (فَلَمَّا جَاءَهَا ) يقول : فلما جاء موسى النار التي آنسها(نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ).
كما حدثنا عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ ) يقول : قدّس.
واختلف أهل التأويل في المعنِّي بقوله(مَنْ فِي النَّارِ ) فقال بعضهم : عنى جلّ جلاله بذلك نفسه ، وهو الذي كان في النار ، وكانت النار نوره تعالى ذكره في قول جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ ) يعني نفسه; قال : كان نور ربّ العالمين في الشجرة.
حدثني إسماعيل بن الهيثم أبو العالية العبدي ، قال : ثنا أبو قُتَيبة ، عن ورقاء ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير ، في قول الله : (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ ) قال : ناداه وهو في النار.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الحسن في قوله : (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ) قال : هو النور.
قال معمر : قال قَتادة : (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ ) قال : نور الله بورك.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال الحسن البصري : (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ ) (1) .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : بوركت النار.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : ثنا الأشيب ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ ) بوركت النار. كذلك قاله ابن عباس.
__________
(1) لعل المؤلف لم يجيء بمقول القول ، اكتفاء بنص ما قبله ، لموافقته إياه لفظًا ومعنى. وقد تكرر منه ذلك في مواضع.

(19/428)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ ) قال : بوركت النار.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد : (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ ) قال : بوركت النار.
حدثنا محمد بن سنان القزاز قال : ثنا مكي بن إبراهيم ، قال : ثنا موسى ، عن محمد بن كعب ، في قوله : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ ) نور الرحمن ، والنور هو الله(وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).
واختلف أهل التأويل في معنى النار في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناه : النور ، كما ذكرت عمن ذكرت ذلك عنه.
وقال آخرون : معناه النار لا النور.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن سعيد بن جبير ، أنه قال : حجاب العزّة ، وحجاب المَلِكَ ، وحجاب السلطان ، وحجاب النار ، وهي تلك النار التي نودي منها. قال : وحجاب النور ، وحجاب الغمام ، وحجاب الماء ، وإنما قيل : بورك من في النار ، ولم يقل : بورك فيمن في النار على لغة الذين يقولون : باركك الله. والعرب تقول : باركك الله ، وبارك فيك.
وقوله : (وَمَنْ حَوْلَهَا ) يقول : ومن حول النار. وقيل : عَنى بمن حولها : الملائكة.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (وَمَنْ حَوْلَهَا ) قال : يعني الملائكة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن الحسن ، مثله.
وقال آخرون : هو موسى والملائكة.
حدثنا محمد بن سنان القزّاز ، قال : ثنا مكي بن إبراهيم ، قال : ثنا موسى ، عن محمد بن كعب(وَمَنْ حَوْلَهَا ) قال : موسى النبيّ والملائكة ، ثم قال : (يَامُوسَى

(19/429)


يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)

إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).
وقوله : (وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول : وتنزيها لله رب العالمين ، مما يصفه به الظالمون.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله لموسى : (إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ ) في نقمته من أعدائه( الحَكِيمُ ) في تدبيره في خلقه ، والهاء التي في قوله : ( إنَّهُ ) هاء عماد ، وهو اسم لا يظهر في قول بعض أهل العربية. وقال بعض نحويي الكوفة : يقول هي الهاء المجهولة ، ومعناها : أن الأمر والشأن : أنا الله. وقوله : (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ ) في الكلام محذوف تُرك ذكره ، استغناء بما ذُكِر عما حذف ، وهو فألقاها فصارت حية تهتز(فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ) يقول : كأنها حية عظيمة ، والجانّ : جنس من الحيات معروف.
وقال ابن جُرَيْج في ذلك ما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج : (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ) قال : حين تحوّلت حية تسعى ، وهذا الجنس من الحيات عنى الراجز بقوله :
يَرْفَعْنَ باللَّيِل إذَا ما أسْدَفا... أعْناقَ جِنَّانِ وَهاما رُجَّفَا
وَعَنَقا بَعْدَ الرَّسِيم خَيْطَفَا (1)
__________
(1) هذه أبيات ثلاثة من مشطور الرجز للخطفي وهو حذيفة بن بدر جد جرير بن عطية شاعر تميم يصف إبله وسيرها في الليل. وأسدف : أظلم. والجنان جنس من الحيات ، إذا مشت رفعت رءوسها والهام. جمع هامة. والرجف جمع راجفة أي مضطربة ، لاهتزازها في مشيها وسرعتها. والعنق : ضرب من السير السريع. والرسيم سير خفيف. والخيطف : السريع ويروى : خطفا وبهذا لقب حذيفة جد جرير الخطفي ، لمجيء اللفظة في شعره وفي (اللسان خطف) والخيطفي سرعة انجذاب السير ، كأنه يختطف في سيره عنقه ، أي يجتدبه وجمل خيطف أي سريع المر ويقال عنق خيطف وخطفي ، قال جد جرير * وعنقا بعد الرسيم خيطفا *
وقيل هو مأخوذ من الخطف ، وهو الخلس وجمل خيطف سيره كذلك أي سريع المر

(19/430)


وقوله : (وَلَّى مُدْبِرًا ) يقول تعالى ذكره : ولى موسى هاربا خوفا منها(وَلَمْ يُعَقِّبْ ) يقول : ولم يرجع . من قولهم : عقب فلان : إذا رجع على عقبه إلى حيث بدأ.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (وَلَمْ يُعَقِّبْ ) قال : لم يرجع.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان عن معمر ، عن قتادة ، قال : لم يلتفت.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وَلَمْ يُعَقِّبْ ) قال : لم يرجع(يَامُوسَى ) قال : لما ألقى العصا صارت حية ، فرعب منها وجزع ، فقال الله : (إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) قال : فلم يرعو لذلك ، قال : فقال الله له : (أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ) قال : فلم يقف أيضا على شيء من هذا حتى قال : (سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى ) قال : فالتفت فإذا هي عصا كما كانت ، فرجع فأخذها ، ثم قوي بعد ذلك حتى صار يرسلها على فرعون ويأخذها.
وقوله : ( يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلا مَنْ ظَلَمَ ) يقول تعالى ذكره : فناداه ربه : يا موسى لا تخف من هذه الحية ، إني لا يخاف لديّ المرسلون. يقول : إني لا يخاف عندي رسلي وأنبيائي الذين أختصهم بالنبوّة ، إلا من ظلم منهم ، فعمل بغير الذي أذن له في العمل به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قوله : (يَامُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) قال : لا يخيف الله الأنبياء

(19/431)


إلا بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عبد الله الفزاري ، عن عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال : قوله : ( يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلا مَنْ ظَلَمَ ) قال : إني إنما أخفتك لقتلك النفس ، قال : وقال الحسن : كانت الأنبياء تذنب فتعاقب.
واختلف أهل العربية في وجه دخول إلا في هذا الموضع ، وهو استثناء مع وعد الله الغفران المستثنى من قوله : (إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) بقوله : (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ).وحكم الاستثناء أن يكون ما بعده بخلاف معنى ما قبله ، وذلك أن يكون ما بعده إن كان ما قبله منفيا مثبتا كقوله : ما قام إلا زيد ، فزيد مثبت له القيام ، لأنه مستثنى مما قبل إلا وما قبل إلا منفيّ عنه القيام ، وأن يكون ما بعده إن كان ما قبله مثبتا منفيا كقولهم : قام القوم إلا زيدًا; فزيد منفيّ عنه القيام; ومعناه : إن زيدًا لم يقم ، القوم مثبت لهم القيام(إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ) ، فقد أمنه الله بوعده الغفران والرحمة ، وأدخله في عداد من لا يخاف لديه من المرسلين ، فقال بعض نحويي البصرة : أدخلت إلا في هذا الموضع ؛ لأن إلا تدخل في مثل هذا الكلام ، كمثل قول العرب : ما أشتكي إلا خيرا ، فلم يجعل قوله : إلا خيرا على الشكوى ، ولكنه علم أنه إذا قال : ما أشتكي شيئا أن يذكر عن نفسه خيرا ، كأنه قال : ما أذكر إلا خيرا.
وقال بعض نحويي الكوفة يقول القائل : كيف صير خائفا من ظلم ، ثم بدّل حسنا بعد سوء ، وهو مغفور له ؟ فأقول لك : في هذه الآية وجهان : أحدهما أن يقول : إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة ، ومن خلط عملا صالحا وآخر سيئا فهو يخاف ويرجو ، فهذا وجه. والآخر : أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة ، لأن المعنى : لا يخاف لديّ المرسلون ، إنما الخوف على من سواهم ، ثم استثنى فقال : (إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا ) يقول : كان مشركا ، فتاب من الشرك ، وعمل حسنا ، فذلك مغفور له ، وليس يخاف. قال : وقد قال بعض النحويين : إن إلا في اللغة بمنزلة الواو ، وإنما معنى هذه الآية : لا يخاف لديّ المرسلون ، ولا من ظلم ثم بدّل حسنا ، قال : وجعلوا مثله كقول الله : (لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) قال : ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا ، لأني لا أجيز : قام الناس إلا عبد الله ، وعبد الله قائم ، إنما

(19/432)


معنى الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء التي قبل إلا. وقد أراه جائزا أن يقول : لي عليك ألف سوى ألف آخر; فإن وضعت إلا في هذا الموضع صلحت ، وكانت إلا في تأويل ما قالوا ، فأما مجردة قد استثنى قليلها من كثيرها فلا ولكن مثله مما يكون معنى إلا كمعنى الواو ، وليست بها قوله(خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) هو في المعنى. والذي شاء ربك من الزيادة ، فلا تجعل إلا بمنزلة الواو ، ولكن بمنزلة سوى; فإذا كانت " سوى " في موضع " إلا " صلحت بمعنى الواو ، لأنك تقول : عندي مال كثير سوى هذا : أي وهذا عندي ، كأنك قلت : عندي مال كثير وهذا أيضا عندي ، وهو في سوى أبعد منه في إلا لأنك تقول : عندي سوى هذا ، ولا تقول : عندي إلا هذا.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في قوله(إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ ) عندي غير ما قاله هؤلاء الذين حكينا قولهم من أهل العربية ، بل هو القول الذي قاله الحسن البصري وابن جُرَيج ومن قال قولهما ، وهو أن قوله : (إِلا مَنْ ظُلِمَ ) استثناء صحيح من قوله( لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلا مَنْ ظَلَمَ ) منهم فأتى ذنبا ، فإنه خائف لديه من عقوبته ، وقد بين الحسن رحمه الله معنى قيل الله لموسى ذلك ، وهو قوله قال : إني إنما أخفتك لقتلك النفس.
فإن قال قائل فما وجه قيله إن كان قوله(إِلا مَنْ ظُلِمَ ) استثناء صحيحا ، وخارجا من عداد من لا يخاف لديه من المرسلين ، وكيف يكون خائفا من كان قد وُعد الغفران والرحمة ؟ قيل : إن قوله : (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ) كلام آخر بعد الأوّل ، وقد تناهى الخبر عن الرسل من ظلم منهم ، ومن لم يظلم عند قوله(إِلا مَنْ ظُلِمَ ) ثم ابتدأ الخبر عمن ظلم من الرسل ، وسائر الناس غيرهم ، وقيل : فمن ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء فإني له غفور رحيم.
فإن قال قائل : فعلام تعطف إن كان الأمر كما قلت ب(ثُمَّ) إن لم يكن عطفا على قوله : ( ظَلَمَ ) ؟ قيل : على متروك استغني بدلالة قوله(ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ) عليه عن إظهاره ، إذ كان قد جرى قبل ذلك من الكلام نظيره ، وهو فمن ظلم من الخلق. وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربية ، فقد قالوا على مذهب العربية ، غير أنهم أغفلوا معنى الكلمة وحملوها على غير وجهها من التأويل. وإنما ينبغي أن يحمل الكلام على وجهه

(19/433)


وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)

من التأويل ، ويلتمس له على ذلك الوجه للإعراب في الصحة مخرج لا على إحالة الكلمة عن معناها ووجهها الصحيح من التأويل.
وقوله : (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ) يقول تعالى ذكره : فمن أتى ظلما من خلق الله ، وركب مأثما ، ثم بدل حسنا ، يقول : ثم تاب من ظلمه ذلك وركوبه المأثم ، (فَإِنِّي غَفُورٌ ) يقول : فإني ساتر على ذنبه وظلمه ذلك بعفوي عنه ، وترك عقوبته عليه( رَحِيمٌ ) به أن أعاقبه بعد تبديله الحسن بضده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ) ثم تاب من بعد إساءته(فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ )
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله لنبيه موسى : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ) ذكر أنه تعالى ذكره أمره أن يدخل كفه في جيبه; وإنما أمره بإدخاله في جيبه ، لأن الذي كان عليه يومئذ مِدرعة من صوف. قال بعضهم : لم يكن لها كُمٌّ. وقال بعضهم : كان كمها إلى بعض يده.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين قال ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ) قال : الكف فقط في جيبك ، قال : كانت مدرعة إلى بعض يده ، ولو كان لها كُمٌّ أمره أن يدخل يده في كمه.
قال : ثني حجاج ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن عمرو بن ميمون قال : قال ابن مسعود : إن موسى أتى فرعون حين أتاه في ذُرْ مانقة ، يعني جبة صوف.

(19/434)


فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)

وقوله : (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ ) يقول : تخرج اليد بيضاء بغير لون موسى(مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) يقول : من غير برص(فِي تِسْعِ آيَاتٍ ) ، يقول تعالى ذكره : أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ، فهي آية في تسع آيات مُرسل أنت بهنّ إلى فرعون; وترك ذكر مرسل لدلالة قوله(إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ) على أن ذلك معناه ، كما قال الشاعر :
رأتْنِي بِحَبْلَيْها فَصَدَّتْ مخافَةً... وفِي الحَبْلِ رَوْعاءُ الفُؤَادِ فَرُوقُ (1)
ومعنى الكلام : رأتني مقبلا بحبليها ، فترك ذكر " مقبل " استغناء بمعرفة السامعين معناه في ذلك ، إذ قال : رأتني بحبليها; ونظائر ذلك في كلام العرب كثيرة.
والآيات التسع : هنّ الآيات التي بيَّناهنّ فيما مضى.
وقد حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ) قال : هي التي ذكر الله في القرآن : العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والطوفان ، والدم ، والحجر ، والطمس الذي أصاب آل فرعون في أموالهم.
وقوله : (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) يقول : إن فرعون وقومه من القبط كانوا قوما فاسقين ، يعني كافرين بالله ، وقد بيَّنا معنى الفسق فيما مضى.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) }
__________
(1) سبق الكلام مفصلا على هذا الشاهد في الجزء (7 : 113) وهو لحميد بن ثور الهلالي. وانظره في (اللسان : حبل) وفرق. وفي الأساس (روع). وفي معاني القرآن للفراء (الورقة 232) قال الفراء أراد رأتني أقبلت بحبليها : بحبلى الناقة ، فأضمر فعلا ، كأنه قال : رأتني مقبلا

(19/435)


وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) }
يقول تعالى ذكره : فلما جاءت فرعون آياتنا ، يعني : أدلتنا وحججنا ، على حقيقة ما دعاهم إليه موسى وصحته ، وهي الآيات التسع التي ذكرناها قبل. وقوله( مُبْصِرَةً ) يقول : يبصر بها من نظر إليها ورآها حقيقة ما دلت عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/435)


*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً ) قال : بينة(قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) ، يقول : قال فرعون وقومه : هذا الذي جاءنا به موسى سحر مبين ، يقول : يبين للناظرين له أنه سحر.
وقوله : (وَجَحَدُوا بِهَا ) يقول : وكذبوا بالآيات التسع أن تكون من عند الله.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : (وَجَحَدُوا بِهَا ) قال : الجحود : التكذيب بها. وقوله : (وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ) يقول : وأيقنتها قلوبهم ، وعلموا يقينا أنها من عند الله ، فعاندوا بعد تبينهم الحق ، ومعرفتهم به.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : (وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ) قال : يقينهم في قلوبهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : (وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) قال : استيقنوا أن الآيات من الله حق ، فلم جحدوا بها ؟ قال : ظلما وعلوّا.
وقوله : (ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) يعني بالظلم : الاعتداء ، والعلو : الكبر ، كأنه قيل : اعتداء وتكبرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : (ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) قال : تعظما واستكبارا ، ومعنى ذلك : وجحدوا بالآيات التسع ظلما وعلوّا ، واستيقنتها أنفسهم أنها من عند الله ، فعاندوا الحقّ بعد وضوحه لهم ، فهو من المؤخر الذي معناه التقديم.
وقوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ).
ويقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فانظر يا محمد بعين قلبك

(19/436)


وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)

كيف كان عاقبة تكذيب هؤلاء الذين جحدوا آياتنا حين جاءتهم مبصرة ، وماذا حل بهم من إفسادهم في الأرض ومعصيتهم فيها ربهم ، وأعقبهم ما فعلوا ، فإن ذلك أخرجهم من جنات وعيون ، وزروع ومقام كريم ، إلى هلاك في العاجل بالغرق ، وفي الآجل إلى عذاب دائم لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون. يقول : وكذلك يا محمد سنتي في الذين كذّبوا بما جئتهم به من الآيات على حقيقة ما تدعوهم إليه من الحق من قومك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) }
يقول تعالى ذكره : (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ) وذلك علم كلام الطير والدواب ، وغير ذلك مما خصهم الله بعلمه.(وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول جلّ ثناؤه : وقال داود وسليمان : الحمد لله الذي فضلنا بما خصنا به من العلم الذي آتاناه ، دون سائر خلقه من بني آدم في زماننا هذا على كثير من عباده المؤمنين به في دهرنا هذا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) }
يقول تعالى ذكره : (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ ) أباه( دَاودَ ) العلم الذي كان آتاه الله في حياته ، والمُلك الذي كان خصه به على سائر قومه ، فجعله له بعد أبيه داود دون سائر ولد أبيه(وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) يقول : وقال سليمان لقومه : يا أيها الناس علمنا منطق الطير ، يعني فهمنا كلامها; وجعل ذلك من الطير كمنطق الرجل من بني آدم إذ فهمه عنها.
وقد حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب : (وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) قال : بلغنا أن سليمان كان عسكره مائة فرسخ : خمسة وعشرون منها للإنس ، وخمسة وعشرون للجنّ ، وخمسة وعشرون للوحش ، وخمسة وعشرون للطير ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب; فيها ثلاث مائة صريحة ، وسبع مائة سرية ، فأمر الريح العاصف فرفعته ، وأمر الرخاء

(19/437)


وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)

فسيرته ، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض : إني قد أردت أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح فأخبرته. وقوله : (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) يقول : وأعطينا ووهب لنا من كلّ شيء من الخيرات(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) يقول : إن هذا الذي أوتينا من الخيرات لهو الفضل على جميع أهل دهرنا المبين ، يقول : الذي يبين لمن تأمَّله وتدبره أنه فضل أعطيناه على من سوانا من الناس.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) }
يقول تعالى ذكره : وجمع لسليمان جنوده من الجنّ والإنس والطير في مسير لهم ، فهم يوزعون.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله(فَهُمْ يُوزَعُونَ ) فقال بعضهم : معنى ذلك : فهم يحبس أوّلهم على آخرهم حتى يجتمعوا.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قال : جعل على كل صنف من يرد أولاها على أُخراها لئلا يتقدموا في المسير ، كما تصنع الملوك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا أبو سفيان عن معمر ، عن قَتادة في قوله : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ) قال : يردّ أوّلهم على آخرهم.
وقال آخرون : معنى ذلك فهم يساقون.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ) قال : يوزعون : يُساقون.
وقال آخرون : بل معناه : فهم يتقدمون.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان عن معمر ، قال : قال الحسن : (يُوزَعُونَ ) يتقدمون.

(19/438)


حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معناه : يردّ أوّلهم على آخرهم; وذلك أن الوازع في كلام العرب هو الكافّ ، يقال منه : وزع فلان فلانا عن الظلم : إذا كفَّه عنه ، كما قال الشاعر :
أَلَمْ يَزَعِ الهَوَى إذْ لَمْ يُؤَاتِ... بَلى وَسَلَوْت عَنْ ضَلَب الفَتاة (1)
وقال آخر :
عَلى حِينَ عاتَبْتُ الْمَشيبَ عَلى الصّبا... وقُلْتُ ألَمَّا أصْحُ والشَّيْبُ وَازع (2)
وإنما قيل للذين يدفعون الناس عن الولاة والأمراء : وزعة : لكفهم إياهم عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) }
يعني تعالى ذكره بقوله : (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ ) حتى إذا أتى سليمان وجنوده على وادي النمل(قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ) يقول : لا يكسرنكم ويقتلنكم سليمان وجنوده(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) يقول : وهم لا يعلمون أنهم يحطمونكم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ويحيى ، قالا ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن رجل يقال له الحكم ، عن عوف في قوله : (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ) قال : كان نمل سليمان بن داود مثل الذباب.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا
__________
(1) الوزع : كف النفس عن هواها. وزعه وبه يزع (بفتح الزاي وكسرها) وزعًا كفه ، ويؤات يوافق. قال في اللسان : واتاه على الأمر : طاوعه. والمؤاتاة : حسن المطاوعة وآتيته على ذلك الأمر مؤاتاه : إذا وافقته وطاوعته. والعامة تقول : واتَيْتُهُ. ولا تقل. واتَيْتُهُ. إلا في لغة لأهل اليمن ومثله آسيت ، وآكلت ، وآمرت وإنما جعلوها واوًا على تخفيف الهمزة
(2) البيت للنابغة الذبياني من قصيدة يعتذر بها إلى النعمان بن المنذر (مختار الشعر لجاهلي شرح مصطفى السقا ، طبعة الحلبي 156 وما بعدها) قال صحا : أفاق والوازع الكاف الزاجر عن اللهو والصبا الصبوة ، والميل إلى التشبه بأعمال الصبيان من الطيش واللهو

(19/439)


فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)

تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) }
يقول تعالى ذكره : فتبسم سليمان ضاحكا من قول النملة التي قالت ما قالت ، وقال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) يعني بقوله(أَوْزِعْنِي ) ألهمني.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ) يقول : اجعلني.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) قال : في كلام العرب ، تقول : أوزع فلان بفلان ، يقول : حرض عليه. وقال ابن زيد : ( أوْزِعْني ) ألهمني وحرّضني على أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ.
وقوله : (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ) يقول : وأوزعني أن أعمل بطاعتك وما ترضاه(وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) يقول : وأدخلني برحمتك مع عبادك الصالحين ، الذين اخترتهم لرسالتك وانتخبتهم لوحيك ، يقول : أدخلني من الجنة مداخلهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) قال : مع عبادك الصالحين الأنبياء والمؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) }
يقول تعالى ذكره : ( وَتَفَقَّدَ ) سليمان(الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ). وكان سبب تفقده الطير وسؤاله عن الهدهد خاصة من بين الطير ، ما حدثنا ابن عبد الأعلى ،

(19/440)


قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران عن أبي مجلز ، قال : جلس ابن عباس إلى عبد الله بن سلام ، فسأله عن الهدهد : لم تفقَّده سليمان من بين الطير فقال عبد الله بن سلام : إن سليمان نزل منزلة في مسير له ، فلم يدر ما بُعْد الماء ، فقال : من يعلم بُعْد الماء ؟ قالوا : الهدهد ، فذاك حين تفقده.
حدثنا محمد ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا عمران بن حدير ، عن أبي مجلز ، عن ابن عباس وعبد الله بن سلام بنحوه.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان سليمان بن داود يوضع له ستّ مائة كرسي ، ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه ، ثم تجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس قال : ثم يدعو الطير فتظلهم ، ثم يدعو الريح فتحملهم ، قال : فيسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر ، قال : فبينا هو في مسيره إذ احتاج إلى الماء وهو في فلاة من الأرض ، قال : فدعا الهدهد ، فجاءه فنقر الأرض ، فيصيب موضع الماء ، قال : ثم تجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب ، قال : ثم يستخرجون الماء. فقال له نافع بن الأزرق : قف يا وقاق ، أرأيت قولك الهدهد يجيء فينقر الأرض ، فيصيب الماء ، كيف يبصر هذا ، ولا يبصر الفخّ يجيء حتى يقع في عنقه ؟ قال : فقال له ابن عباس : ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : كان سليمان بن داود إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير ، وقام له الجنّ والإنس حتى يجلس على سريره ، حتى إذا كان ذات غداة في بعض زمانه غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه ، فتفقد الطير. وكان فيما يزعمون يأتيه نوبا من كل صنف من الطير طائر ، فنظر فرأى من أصناف الطير كلها قد حضره إلا الهدهد ، فقال : ما لي لا أرى الهدهد.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أوّل ما فقد سليمان الهدهد نزل بواد فسأل الإنس عن ماءه ، فقالوا : ما نعلم له ماء ، فإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء فالجنّ فدعا الجنّ فسألهم ، فقالوا : ما نعلم له ماء وإن يكن

(19/441)


أحد من جنودك يعلم له ماء فالطير ، فدعا الطير فسألهم ، فقالوا : ما نعلم له ماء ، وإن يكن أحد من جنودك يعلمه فالهدهد ، فلم يجده ، قال : فذاك أوّل ما فقد الهدهد.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) قال : تفقد الهدهد من أجل أنه كان يدله على الماء إذا ركب ، وإن سليمان ركب ذات يوم فقال : أين الهدهُد ليدلنا على الماء ؟ فلم يجده ؛ فمن أجل ذلك تفقده ، فقال ابن عباس : إن الهدهد كان ينفعه الحذر ما لم يبلغه الأجل ؛ فلما بلغ الأجل لم ينفعه الحذر ، وحال القدر دون البصر ، فقد اختلف عبد الله بن سلام والقائلون بقوله ووهب بن منبه ، فقال عبد الله : كان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه ليستخبره عن بُعد الماء في الوادي الذي نزل به في مسيره ، وقال وهب بن منبه : كان تفقده إياه وسؤاله عنه لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها ، والله أعلم بأي ذلك كان إذ لم يأتنا بأيّ ذلك كان تنزيل ، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح.
فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أخبر عن سليمان أنه تفقد الطير ، إما للنوبة التي كانت عليها وأخلت بها ، وإما لحاجة كانت إليها عن بُعد الماء.
وقوله : (فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) يعني بقوله(مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ) أخطأه بصري فلا أراه وقد حضر أم هو غائب فيما غاب من سائر أجناس الخلق فلم يحضر ؟.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : (مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ) أخطأه بصري في الطير ، أم غاب فلم يحضر ؟.
وقوله : (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) يقول : فلما أخبر سليمان عن الهدهد أنه لم يحضر ، وأنه غائب غير شاهد ، أقسم(لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) وكان تعذيبه الطير فيما ذُكر عنه إذا عذبها أن ينتف ريشها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/442)


ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب قال : ثنا الحماني ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، في قوله : (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) قال : نتف ريشه.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن عطية ، عن شريك ، عن عطاء ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في : (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) عذابه : نتفه وتشميسه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) قال : نتف ريشه وتشميسه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) قال : نتف ريشه كله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد قوله : (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) قال : نتف ريش الهدهد كله ، فلا يغفو سِنة.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قال : نتف ريشه.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) يقول : نتف ريشه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان أنه حدّث أن عذابه الذي كان يعذّب به الطير نتف جناحه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قيل لبعض أهل العلم : هذا الذبح ، فما العذاب الشديد ؟. قال : نتف ريشه بتركه بَضعة تنزو.
حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ، قال : ثنا سفيان ، عن عمرو بن بشار ، عن ابن عباس ، في قوله : (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا ) قال : نتفه.
حدثني سعيد بن الربيع ، قال : ثنا سفيان ، عن حسين بن أبي شدّاد ، قال : نتفه وتشميسه(أَوْ لأذْبَحَنَّهُ ) يقول : أو لأقتلنه.

(19/443)


كما حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : (أَوْ لأذْبَحَنَّهُ ) يقول : أو لأقتلنه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عباد بن العوّام ، عن حصين ، عن عبد الله بن شدّاد : (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ )... الآية ، قال : فتلقَّاهُ الطير ، فأخبره ، فقال : ألم يستثن.
وقوله : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) يقول : أو ليأتيني بحجة تبين لسامعها صحتها وحقيقتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن الحسين الأزدي ، قال : ثنا المعافى بن عمران ، عن سفيان ، عن عمار الدُّهْني ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) يقول : ببينة أعذره بها ، وهو مثل قوله : (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ ) يقول : بغير بينة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن رجل ، عن عكرمة ، قال : كل شيء في القرآن سلطان ، فهو حجة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عبد الله ، بن يزيد ، عن قباث (1) بن رزين ، أنه سمع عكرِمة يقول : سمعت ابن عباس يقول : كل سلطان في القرآن فهو حجة ، كان للهدهد سلطان.
حدثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) قال : بعذر بين.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) : أي بحجة عذر له في غيبته.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) يقول : ببينة ، وهو قول الله(الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ ) بغير بينة.
__________
(1) قباث بوزن سحاب ، ابن رزين اللخمي (ويقال : التجيبي). وقباث : اسم عربي.

(19/444)


فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) قال : بعذر أعذره فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) }
يعني تعالى ذكره بقوله : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) فمكث سليمان غير طويل من حين سأل عن الهدهد ، حتى جاء الهدهد.
واختلف القرّاء في قراءة قوله : ( فَمَكَثَ ) فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم : " فَمَكُثَ " بضمّ الكاف ، وقرأه عاصم بفتحها ، وكلتا القراءتين عندنا صواب ؛ لأنهما لغتان مشهورتان ، وإن كان الضمّ فيها أعجب إليّ ، لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما.
وقوله : (فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) يقول : فقال الهدهد حين سأله سليمان عن تخلفه وغيبته : أحطت بعلم ما لم تحط به أنت يا سليمان.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ ) قال : ما لم تعلم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) ثم جاء الهدهد ، فقال له سليمان : ما خلَّفك عن نوبتك ؟ قال : أحطت بما لم تحط به.
وقوله : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) يقول : وجئتك من سبإ بخبر يقين.
وهو ما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) أي أدركت ملكا لم يبلغه ملكك.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : (مِنْ سَبَإٍ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة(مِنْ سَبَإٍ ) بالإجراء. المعنى أنه رجل اسمه سبأ. وقرأه بعض قرّاء أهل مكة والبصرة(مِنْ سَبَأَ ) بترك الإجراء ، على أنه اسم قبيلة أو لامرأة.
والصواب من القول في ذلك أن يُقال : إنهما قراءتان مشهورتان ، وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب; فالإجراء في سبأ ، وغير الإجراء صواب ، لأن سبأ إن كان رجلا كما جاء به الأثر ، فإنه إذا أريد به اسم الرجل

(19/445)


أجري ، وإن أريد به اسم القبيلة لم يجر ، كما قال الشاعر في إجرائه :
الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذَرَا سَبإٍ... قَدْ عَضَّ أعْناقَهُمْ جِلدُ الجَوَاميسِ (1)
يروى : ذرا ، وذرى ، وقد حُدثت عن الفرّاء عن الرؤاسي أنه سأل أبا عمرو بن العلاء كيف لم يجر سبأ ؟ قال : لست أدري ما هو; فكأن أبا عمرو ترك إجراءه إذ لم يدر ما هو ، كما تفعل العرب بالأسماء المجهولة التي لا تعرفها من ترك الإجراء ، حكي عن بعضهم : هذا أبو معرور قد جاء ، فترك إجراءه إذ لم يعرفه في أسمائهم. وإن كان سبأ جبلا أجري ؛ لأنه يُراد به الجبل بعينه ، وإن لم يجر فلأنه يجعل اسما للجبل وما حوله من البقعة.
__________
(1) استشهد المؤلف بهذا البيت مرة قبل هذه في (الجزء 14 : 117) وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 172). ثم استشهد المؤلف به هنا مرة ثانية ، على أن كلمة " سبأ " إن كان اسم قبيلة من اليمن ، فهو ممنوع من الصرف ، للعلمية والتأنيث. وإن لوحظ فيه أصله ، وهو اسم أبي القبيلة ، فهو مذكر مجرى.

(19/446)


إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) }
يقول تعالى مخبرا عن قيل الهدهد لسليمان مخبرا بعذره في مغيبه عنه : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ) يعني تملك سبأ ، وإنما صار هذا الخبر للهدهد عذرا وحجة عند سليمان ، درأ به عنه ما كان أُوعد به ؛ لأن سليمان كان لا يرى أن في الأرض أحدا له مملكة معه ، وكان مع ذلك صلى الله عليه وسلم رجلا حبِّب إليه الجهاد والغزو ، فلما دله الهدهد على ملك بموضع من الأرض هو لغيره ، وقوم كفرة يعبدون غير الله ، له في جهادهم وغزوهم الأجر الجزيل ، والثواب العظيم في الآجل ، وضمّ مملكة لغيره إلى ملكه ، حقَّت للهدهد المعذرة ، وصحّت له الحجة في مغيبه عن سليمان.
وقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) يقول : وأوتيت من كلّ شيء يؤتاه الملك في عاجل الدنيا مما يكون عندهم من العتاد والآلة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/446)


أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي عُبيدة الباجي ، عن الحسن ، قوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) يعني : من كل أمر الدنيا.
وقوله(وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) يقول : ولها كرسي عظيم. وعني بالعظيم في هذا الموضع : العظيم في قدره ، وعظم خطره ، لا عظمه في الكبر والسعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) قال : سرير كريم ، قال : حَسن الصنعة ، وعرشها : سرير من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ.
قال : ثني حجاج ، عن أبي عبيدة الباجي ، عن الحسن قوله : (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) يعني سرير عظيم.
وقوله : (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) يقول : وجدت هذه المرأة ملكة سبأ ، وقومها من سبأ ، يسجدون للشمس فيعبدونها من دون الله. وقوله : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ) يقول : وحسَّن لهم إبليس عبادتهم الشمس ، وسجودهم لها من دون الله ، وحبَّب ذلك إليهم(فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) يقول : فمنعهم بتزيينه ذلك لهم أن يتبعوا الطريق المستقيم ، وهو دين الله الذي بعث به أنبياءه ، ومعناه : فصدّهم عن سبيل الحقّ(فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ) يقول : فهم لما قد زين لهم الشيطان ما زين من السجود للشمس من دون الله والكفر به لا يهتدون لسبيل الحقّ ولا يسلكونه ، ولكنهم في ضلالهم الذي هم فيه يتردّدون.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) }
اختلف القرّاء في قراءة قوله(أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ ) فقرأ بعض المكيين وبعض المدنيين والكوفيين " ألا " بالتخفيف ، بمعنى : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، فأضمروا " هؤلاء " اكتفاء

(19/447)


بدلالة " يا " عليها. وذكر بعضهم سماعا من العرب : ألا يا ارحمنا ، ألا يا تصدّق علينا; واستشهد أيضا ببيت الأخطل :
ألا يا اسْلَمي يا هِنْدَ هنْدَ بَنِي بَدرٍ... وَإنْ كان حَيَّانا عِدًا آخِرَ الدَّهْر (1)
فعلى هذه القراءة اسجدوا في هذا الموضع جزم ، ولا موضع لقوله " ألا " في الإعراب. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والبصرة(أَلا يَسْجُدُوا ) بتشديد ألا بمعنى : وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا لله " ألا " في موضع نصب لما ذكرت من معناه أنه لئلا(ويسجدوا) في موضع نصب بأن.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القراء مع صحة معنييهما.
واختلف أهل العربية في وجه دخول " يا " في قراءة من قرأه على وجه الأمر ، فقال بعض نحوييِّ البصرة : من قرأ ذلك كذلك ، فكأنه جعله أمرا ، كأنه قال لهم : اسجدوا ، وزاد " يا " بينهما التي تكون للتنبيه ، ثم أذهب ألف الوصل التي في اسجدوا ، وأذهبت الألف التي في " يا " ؛ لأنها ساكنة لقيت السين ، فصار ألا يسجدوا. وقال بعض نحويي الكوفة : هذه " يا " التي تدخل للنداء يكتفى بها من الاسم ، ويكتفى بالاسم منها ، فتقول : يا أقبل ، وزيد أقبل ، وما سقط من السواكن فعلى هذا.
ويعني بقوله : (يُخْرِجُ الْخَبْءَ ) يخرج المخبوء في السموات والأرض من غيث في السماء ، ونبات في الأرض ونحو ذلك.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وإن اختلفت عبارتهم عنه.
__________
(1) البيت : نسبه في (اللسان : عدا) إلى الأخطل التغلبي الشاعر الأموي. قال : وقد جاء في الشعر العدى : بمعنى الأعداء. وقال ابن الأعرابي في قول الأخطل : " ألا يا اسلمي.. " البيت : العدى : التباعد. وقوم عدى : إذا كانوا متباعدين لا أرحام بينهم ولا حلف. وقوم عدى : إذا كانوا حربًا. وقد روى البيت بالكسر والضم ، مثل سوى وسوى. الأصمعي : يقال : هؤلاء قوم عدى مقصور ، يكون للأعداء وللغرباء. ولا يقال : قوم عدى (بضم العين) إلا أن تدخل الهاء ، فتقول : عداة ، في وزن قضاة. قال أبو زيد : طالت عدواءهم ، أي تباعدهم وتفرقهم. وشاهد المؤلف في هذا البيت : أن حرف النداء يا ، داخل على منادي محذوف. تقديره : ألا يا هذه اسلمي. وهو نظير قول الله عز وجل : " ألا يا اسجدوا " تقديره : ألا يا هؤلاء اسجدوا. فأضمر هؤلاء ، اكتفاء بدلالة " يا " عليها.

(19/448)


*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن ابن جُرَيج ، قراءة عن مجاهد : (يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ ) قال : الغيث.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (يُخْرِجُ الْخَبْءَ ) قال : الغيث.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال : خبء السماء والأرض ما جعل الله فيها من الأرزاق ، والمطر من السماء ، والنبات من الأرض ، كانتا رتقا لا تمطر هذه ، ولا تنبت هذه ، ففتق السماء ، وأنزل منها المطر ، وأخرج النبات.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن حكيم بن جابر ، في قوله : (أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) ويعلم كل خفية في السموات والأرض.
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أسامة بن زيد ، عن معاذ بن عبد الله ، قال : رأيت ابن عباس على بغلة يسأل تبعا ابن امرأة كعب : هل سألت كعبا عن البذر تنبت الأرضُ العامَ لم يصب العام الآخر ؟ قال : سمعت كعبا يقول : البذر ينزل من السماء ويخرج من الأرض ، قال : صدقت.
قال أبو جعفر : إنما هو تبيع ، ولكن هكذا قال محمد : وقيل : يخرج الخبء في السموات والأرض ، لأن العرب تضع " من " مكان " في " و " في " مكان " من " في الاستخراج(وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ) يقول : ويعلم السرّ من أمور خلقه ، هؤلاء الذين زين لهم الشيطان أعمالهم والعلانية منها ، وذلك على قراءة من قرأ ألا بالتشديد. وأما على قراءة من قرأ بالتخفيف فإن معناه : ويعلم ما يسره خلقه الذين أمرهم بالسجود بقوله : " ألا يا هؤلاء اسجدوا " . وقد ذكر أن ذلك في قراءة أُبيّ : " ألا تَسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي يَعْلَمُ سرَّكُمْ وما تُعْلِنُون " .
وقوله : (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) يقول تعالى ذكره : الله الذي لا تصلح العبادة إلا له ، لا إله إلا هو ، لا معبود سواه تصلح له العبادة ، فأخلصوا له

(19/449)


قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)

العبادة ، وأفردوه بالطاعة ، ولا تشركوا به شيئا(رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) يعني بذلك : مالك العرش العظيم الذي كل عرش ، وإن عظم ، فدونه ، لا يُشبهه عرش ملكة سبأ ولا غيره.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد; في قوله : (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) إلى قوله(لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) هذا كله كلام الهدهد.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق بنحوه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره : ( قَالَ ) سليمان للهدهد : ( سَنَنظُرُ ) فيما اعتذرت به من العذر ، واحتججت به من الحجة لغيبتك عنا ، وفيما جئتنا به من الخير( أَصَدَقْتَ ) في ذلك كله(أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) فيه(اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ )
فاختلف أهل التأويل في تأويل ذلك; فقال بعضهم : معناه : اذهب بكتابي هذا ، فألقه إليهم ، فانظر ماذا يَرْجِعونَ ، ثم تول عنهم منصرفا إليّ ، فقال : هو من المؤخَّر الذي معناه التقديم.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : فأجابه سليمان ، يعني أجاب الهدهد لما فرغ : ( سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ) وانظر ماذا يرجعون ، ثم تول عنهم منصرفا إلي. وقال : وكانت لها كوّة مستقبلة الشمس ، ساعة تطلع الشمس تطلع فيها فتسجد لها ، فجاء الهدهد حتى وقع فيها فسدها ، واستبطأت الشمس ، فقامت تنظر ، فرمى بالصحيفة إليها من تحت جناحه ، وطار حتى قامت تنظر الشمس.
قال أبو جعفر : فهذا القول من قول ابن زيد يدلّ على أن الهدهد تولى إلى سليمان راجعا بعد إلقائه الكتاب ، وأن نظره إلى المرأة ما الذي ترجع وتفعل كان قبل إلقائه كتاب سليمان إليها.

(19/450)


قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

وقال آخرون : بل معنى ذلك : اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ، ثم تولّ عنهم ، فكن قريبا منهم ، وانظر ماذا يرجعون; قالوا : وفعل الهدهد ، وسمع مراجعة المرأة أهل مملكتها ، وقولها لهم : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) وما بعد ذلك من مراجعة بعضهم بعضا.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قوله : (فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ) أي كن قريبا(فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ )وهذا القول أشبه بتأويل الآية ؛ لأن مراجعة المرأة قومها ، كانت بعد أن ألقي إليها الكتاب ، ولم يكن الهدهد لينصرف وقد أمر بأن ينظر إلى مراجعة القوم بينهم ما يتراجعونه قبل أن يفعل ما أمره به سليمان.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) }
يقول تعالى ذكره : فذهب الهدهد بكتاب سليمان إليها ، فألقاه إليها فلما قرأته قالت لقومها : (يَاأَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : كتب - يعني سليمان بن داود - مع الهدهد : بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن داود ، إلى بلقيس بنت ذي سرح وقومها ، أما بعد ، فلا تعلو عليّ ، وأتوني مسلمين ، قال : فأخذ الهدهد الكتاب برجله ، فانطلق به حتى أتاها ، وكانت لها كوّة في بيتها إذا طلعت الشمس نظرت إليها ، فسجدت لها ، فأتى الهدهد الكوّة فسدّها بجناحيه حتى ارتفعت الشمس ولم تعلم ، ثم ألقى الكتاب من الكوّة ، فوقع عليها في مكانها الذي هي فيه ، فأخذته.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن

(19/451)


قتادة ، قال : بلغني أنها امرأة يقال لها بلقيس ، أحسبه قال : ابنة شراحيل ، أحد أبويها من الجنّ ، مؤخر أحد قدميها كحافر الدابة ، وكانت في بيت مملكة ، وكان أولو مشورتها ثلاث مائة واثني عشر كلّ رجل منهم على عشرة آلاف ، وكانت بأرض يقال لها مأرب ، من صنعاء على ثلاثة أيام; فلما جاء الهدهد بخبرها إلى سليمان بن داود ، كتب الكتاب وبعث به مع الهدهد ، فجاء الهدهد وقد غَلقت الأبواب ، وكانت تغلِّق أبوابها وتضع مفاتيحها تحت رأسها ، فجاء الهدهد فدخل من كوّة ، فألقى الصحيفة عليها ، فقرأتها ، فإذا فيها : ( إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) وكذلك كانت تكتب الأنبياء لا تطنب ، إنما تكتب جملا.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : لم يزد سليمان على ما قصّ الله في كتابه إنه وإنه.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ) فمضى الهدهد بالكتاب ، حتى إذا حاذى الملكة وهي على عرشها ألقى إليها الكتاب.
وقوله : (قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) والملأ أشراف قومها ، يقول تعالى ذكره : قالت ملكة سبأ لأشراف قومها : (يَاأَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ).
واختلف أهل العلم في سبب وصفها الكتاب بالكريم ، فقال بعضهم : وصفته بذلك لأنه كان مختوما.
وقال آخرون : وصفته بذلك لأنه كان من ملك فوصفته بالكرم لكرم صاحبه. وممن قال ذلك ابن زيد.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) قال : هو كتاب سليمان حيث كتب إليها.
وقوله(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) كُسِرت إنَّ الأولى والثانية على الردّ على " إني " من قوله : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ). ومعنى الكلام : قالت : يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب ، وإنه من سليمان.
وقوله(أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) يقول : ألقي إليّ كتاب كريم

(19/452)


قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)

ألا تعلوا عليّ.
ففي " أنْ " وجهان من العربية : إن جعلت بدلا من الكتاب كانت رفعا بما رفع به الكتاب بدلا منه; وإن جعل معنى الكلام : إني ألقي إليّ كتاب كريم ألا تعلوا علي كانت نصبا بتعلق الكتاب بها.
وعنى بقوله : (أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ ) ألا تتكبروا ولا تتعاظموا عما دعوتكم إليه.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ ) ألا تمتنعوا من الذي دعوتكم إليه إن امتنعتم جاهدتكم ، فقلت لابن زيد : (أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ ) ألا تتكبروا علي ؟ قال : نعم; قال : وقال ابن زيد : (أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) ذلك في كتاب سليمان إليها. وقوله : (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) يقول : وأقبلوا إليّ مذعنين لله بالوحدانية والطاعة.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) }
يقول تعالى ذكره : قالت ملكة سبأ لأشراف قومها : (يَاأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ) تقول : أشيروا عليّ في أمري الذي قد حضرني من أمر صاحب هذا الكتاب الذي ألقي إليّ ، فجعلت المشورة فتيا.
وقوله : (مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ) تقول : ما كنت قاضية أمرا في ذلك حتى تشهدون ، فأشاوركم فيه.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : دعت قومها تشاورهم(يَاأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ) يقول في الكلام : ما كنت لأقطع أمرا دونك ولا كنت لأقضي أمرا ، فلذلك قالت : (مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا ) بمعنى : قاضية.
وقوله : (قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ) يقول تعالى ذكره : قال الملأ من قوم ملكة سبأ ، إذ شاورتهم في أمرها وأمر سليمان : نحن ذوو القوّة على القتال ، والبأس

(19/453)


قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)

الشديد في الحرب ، والأمر أيتها الملكة إليك في القتال وفي تركه ، فانظري من الرأي ما ترين ، فَمُرينا نأتمر لأمرك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : (قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ) عرضوا لها القتال ، يقاتلون لها ، والأمر إليك بعد هذا ، (فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : كان مع ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيول (1) مع كل قيول مئة ألف.
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان مع بلقيس مائة ألف قيل ، مع كل قيل مائة ألف.
قال : ثنا وكيع ، قال : ثنا الأعمش ، قال : سمعت مجاهدا يقول : كانت تحت يد ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيول ، والقيول بلسانهم : الملك تحت يد كلّ ملك مائة ألف مقاتل.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) }
يقول تعالى ذكره : قالت صاحبة سبأ للملأ من قومها ، إذ عرضوا عليها أنفسهم لقتال سليمان ، إن أمرتهم بذلك : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً ) عنوة وغلبة( أفْسَدُوها ) يقول : خرّبوها(وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ) وذلك باستعبادهم الأحرار ، واسترقاقهم إياهم; وتناهى الخبر منها عن الملوك في هذا الموضع فقال الله : (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) يقول تعالى ذكره : وكما قالت صاحبة سبأ تفعل الملوك ، إذا دخلوا قرية عنوة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) القَيْل بفتح فسكون : الملك الصغير في اليمن ، وجمعه : أقيال وقيول. وأما القيول ، ولعله بفتح القاف ، للملك الواحد ، فلم أجده بالمعاجم ، ولعله لفظ عام عند اليمن.

(19/454)


وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

*ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا أبو بكر ، في قوله : (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ) قال أبو بكر : هذا عنوة.
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا أبو بكر ، قال : ثنا الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس ، في قوله : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا ) قال : إذا دخلوها عنوة خرّبوها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ) قال ابن عباس : يقول الله : (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) }

(19/455)


فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) }
ذكر أنها قالت : إني مرسلة إلى سليمان ، لتختبره بذلك وتعرفه به ، أملك هو ، أم نبيّ ؟ وقالت : إن يكن نبيا لم يقبل الهدية ، ولم يرضه منا ، إلا أن نتبعه على دينه ، وإن يكن ملكا قبل الهدية وانصرف.
*ذكر الرواية عمن قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قالت : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) قال : وبعثت إليه بوصائف ووصفَاء ، وألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف ذكر من أنثى ، فقالت : إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى ، ثم ردّ الهدية فإنه نبيّ ، وينبغي لنا أن نترك ملكنا ، ونتبع دينه ، ونلحق به.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ) قال : بجوار لباسهم لباس الغلمان ، وغلمان لباسهم

(19/455)


لباس الجواري.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قولها : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ) قال : مائتي غلام ومائتي جارية. قال ابن جُرَيج : قال مجاهد : قوله : ( بِهَديَّةٍ ) قال : جوار ألبستهن لباس الغلمان ، وغلمان ألبستهم لباس الجواري.
قال ابن جُرَيج : قال : قالت : فإن خلص الجواري من الغلمان ، وردّ الهدية فإنه نبيّ ، وينبغي لنا أن نتبعه.
قال ابن جُرَيج ، قال مجاهد : فخلص سليمان بعضهم من بعض ، ولم يقبل هديتها.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا سفيان ، عن معمر ، عن ثابت البُنَانيّ ، قال : أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج ، فلما بلغ ذلك سليمان أمر الجنّ فموّهوا له الآجرّ بالذهب ، ثم أمر به فألقي في الطرق ، فلما جاءوا فرأوه ملقى ما يُلتفت إليه ، صغر في أعينهم ما جاءوا به.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا )... الآية ، وقالت : إن هذا الرجل إن كان إنما همته الدنيا فسنرضيه ، وإن كان إنما يريد الدين فلن يقبلَ غيره(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : كانت بلقيس امرأة لبيبة أديبة في بيت ملك ، لم تملك إلا لبقايا من مضى من أهلها ، إنه قد سيست وساست حتى أحكمها ذلك ، وكان دينها ودين قومها فيما ذكر الزنديقية; فلما قرأت الكتاب سمعت كتابا ليس من كتب الملوك التي كانت قبلها ، فبعثت إلى المقَاولة من أهل اليمن ، فقالت لهم : (يَاأَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) إلى قوله(بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) ثم قالت : إنه قد جاءني كتاب لم يأتني مثله من ملك من الملوك قبله ، فإن يكن الرجل نبيا مرسلا فلا طاقة لنا به ولا قوّة ، وإن يكن الرجل ملكا يكاثر ، فليس بأعز منا ، ولا أعدّ. فهيَّأت هدايا مما يُهدَى للملوك ، مما يُفتنون به ، فقالت : إن يكن ملكا فسيقبل الهدية ويرغب في المال ، وإن يكن نبيا

(19/456)


فليس له في الدنيا حاجة ، وليس إياها يريد ، إنما يريد أن ندخل معه في دينه ونتبعه على أمره ، أو كما قالت.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ) بعثت بوصائف ووصفاء ، لباسهم لباس واحد ، فقالت : إن زيَّل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى ، ثم رد الهدية فهو نبي ، وينبغي لنا أن نتبعه ، وندخل في دينه; فزيل سليمان بين الغلمان والجواري ، وردّ الهدية ، فقال(أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان في الهدايا التي بعثت بها وصائف ووصفاء يختلفون في ثيابهم ، ليميز الغلمان من الجواري ، قال : فدعا بماء ، فجعل الجواري يتوضأن من المرفق إلى أسفل ، وجعل الغلمان يتوضئون من المرفق إلى فوق. قال : وكان أبي يحدثنا هذا الحديث.
حدثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، قال : ثنا إسماعيل ، عن أبي صالح : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ) قال : أرسلت بلبنة من ذهب ، وقالت : إن كان يريد الدنيا علمته ، وإن كان يريد الآخرة علمته.
وقوله : (فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) تقول : فأنظر بأيّ شيء من خبره وفعله في هديتي التي أرسلها إليه ترجع رسلي ، أبقبول وانصراف عنا ، أم بردّ الهدية والثبات على مطالبتنا باتباعه على دينه ؟ وأسقطت الألف من " ما " في قوله( بِمَ ) وأصله : بما ، لأن العرب إذا كانت " ما " بمعنى : أي ، ثم وصلوها بحرف خافض أسقطوا ألفها تفريقا بين الاستفهام وغيره ، كما قال جلّ ثناؤه(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ) و(قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ) ، وربما أثبتوا فيها الألف ، كما قال الشاعر :
عَلامَا قامَ يَشْتُمِني لَئِيمٌ... كَخِنزيرٍ تَمَرَّغَ فِي تُرَاب (1)
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت وهو من شواهد كتاب المغني لابن هشام : " ما " وفي قافيته روايتان أخريان : (في دمان ، في رماد). قال ابن هشام : ويجب حذف ألف " ما " الاستفهامية إذا جرت ، وإبقاء الفتحة دليلا عليها ، نحو : فيم ، وإلام ، وعلام ، وبم ، وعلة حذف الألف : الفرق بين الاستفهام والخبر ، فلهذا حذفت في نحو (فيم أنت من ذكراها) ، (فناظرة بم يرجع المرسلون) ، (لم تقولون ما لا تفعلون) وأما قراءة عكرمة وعيسى : (عما يتساءلون) فنادر ، وأما قول حسان " على ما قام " البيت ، فضرورة ، والدمان كالرماد : وزنًا ومعنًى. ويروى : في رماد ، فلذلك رجحته على تفسير ابن الشجري له بالسرجين ومثله قول الآخر : إنا قتلنا بقتلانا سراتكم ... أهل اللواء ففيما يكثر القيل
وهذا يتضمن معنى قول المؤلف في هذا الشاهد.

(19/457)


وقالت : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ ) وإنما أرسلت إلى سليمان وحده على النحو الذي بينا في قوله : (عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ) ، وقوله : (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ ).
إن قال قائل : وكيف قيل : (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ ) فجعل الخبر في مجيء سليمان عن واحد ، وقد قال قبل ذلك : (فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) فإن كان الرسول كان واحدا ، فكيف قيل(بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) وإن كانوا جماعة فكيف قيل : (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ ) قيل : هذا نظير ما قد بيَّنا قبل من إظهار العرب الخبر في أمر كان من واحد على وجه الخبر ، عن جماعة إذا لم يقصد قصد الخبر عن شخص واحد بعينه ، يُشار إليه بعينه ، فسمي في الخبر. وقد قيل : إن الرسول الذي وجَّهته ملكة سبأ إلى سليمان كان امرأ واحدا ، فلذلك قال : (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ ) يُراد به : فلما جاء الرسول سليمان; واستدلّ قائلو ذلك على صحة ما قالوا من ذلك بقول سليمان للرسول : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ ) وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله ، فلما جاءوا سليمان على الجمع ، وذلك للفظ قوله : (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) فصلح الجمع للفظ والتوحيد للمعنى.
وقوله : (أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ ) يقول : قال سليمان لما جاء الرسول من قبل المرأة بهداياها : أتمدونن بمال.
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قرّاء أهل المدينة " أتُمِدونَنِي " بنونين ، وإثبات الياء. وقرأه بعض الكوفيين مثل ذلك ، غير أنه حذف الياء من آخر ذلك وكسر النون الأخيرة. وقرأه بعض قرّاء البصرة بنونين ، وإثبات الياء في الوصل وحذفها في الوقف. وقرأه بعض قرّاء الكوفة بتشديد النون وإثبات الياء. وكلّ هذه القراءات متقاربات وجميعها صواب ، لأنها معروفة في لغات العرب ، مشهورة في منطقها.
وقوله : (فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ ) يقول : فما آتاني الله من المال والدنيا أكثر مما أعطاكم منها وأفضل(بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ) يقول : ما أفرح بهديتكم التي

(19/458)


قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)

أهديتم إليّ ، بل أنتم تفرحون بالهدية التي تُهدى إليكم ، لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا ، ومكاثرة بها ، وليست الدنيا وأموالها من حاجتي ، لأن لله تعالى ذكره قد مكَّنني منها وملَّكني فيها ما لم يُمَلِّك أحدا.
(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ ) وهذا قول سليمان لرسول المرأة(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا ) لا طاقة لهم بها ولا قدرة لهم على دفعهم عما أرادوا منهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما أتت الهدايا سليمان فيها الوصائف والوُصفاء ، والخيل العراب ، وأصناف من أصناف الدنيا ، قال للرسل الذين جاءوا به : (أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ) لأنه لا حاجة لي بهديتكم ، وليس رأيي فيه كرأيكم ، فارجعوا إليها بما جئتم به من عندها ، (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا ).
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا ) قال : لا طاقة لهم بها. وقوله : (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ) يقول : ولنخرجنّ من أرسلكم من أرضهم أذلة وهم صاغرون إن لم يأتوني مسلمين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ) ، أو لتأتيني مسلمة هي وقومها.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ

(19/459)


قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) }
اختلف أهل العلم في الحين الذي قال فيه سليمان(يَاأَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ) فقال بعضهم : قال ذلك حين أتاه الهدهد بنبأ صاحبة سبأ ، وقال له : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) وأخبره أن لها عرشا عظيما ، فقال له سليمان صلى الله عليه وسلم : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) فكان اختباره صدقه من كذبه بأن قال لهؤلاء : أيكم يأتيني بعرش هذه المرأة قبل أن يأتوني مسلمين. وقالوا إنما كتب سليمان الكتاب مع الهدهد إلى المرأة بعد ما صحّ عنده صدق الهدهد بمجيء العالم بعرشها إليه على ما وصفه به الهدهد ، قالوا : ولولا ذلك كان محالا أن يكتب معه كتابا إلى من لا يدري ، هل هو في الدنيا أم لا ؟ قالوا : وأخرى أنه لو كان كتب مع الهدهد كتابا إلى المرأة قبل مجيء عرشها إليه ، وقبل علمه صدق الهدهد بذلك ، لم يكن لقوله له(سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) معنى ؛ لأنه لا يُلِم بخبره الثاني من إبلاغه إياها الكتاب ، أو ترك إبلاغه إياها ذلك ، إلا نحو الذي علم بخبره الأوّل حين قال له : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِين) قالوا : وإن لم يكن في الكتاب معهم امتحان صدقه من كذبه ، وكان محالا أن يقول نبي الله قولا لا معنى له وقد قال : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) علم أن الذي امتحن به صدق الهدهد من كذبه هو مصير عرش المرأة إليه ، على ما أخبره به الهدهد الشاهد على صدقه ، ثم كان الكتاب معه بعد ذلك إليها.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن سليمان أوتي ملكا ، وكان لا يعلم أن أحدا أوتي ملكا غيره; فلما فقد الهدهد سأله : من أين جئت ؟ ووعده وعيدا شديدا بالقتل والعذاب ، قال : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) قال له سليمان : ما هذا النبأ ؟ قال الهدهد : ( إنى وجدت امرأة ) بسبأ(تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) فلما أخبر الهدهد سليمان أنه وجد سلطانا ، أنكر أن يكون لأحد في الأرض سلطان غيره ،

(19/460)


فقال لمن عنده من الجنّ والإنس : ( يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) قال سليمان : أريد أعجل من ذلك(قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) وهو رجل من الإنس عنده علم من الكتاب فيه اسم الله الأكبر ، الذي إذا دعي به أجاب : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) فدعا بالاسم وهو عنده قائم ، فاحتمل العرش احتمالا حتى وُضع بين يدي سليمان ، والله صنع ذلك; فلما أتى سليمان بالعرش وهم مشركون ، يسجدون للشمس والقمر ، أخبره الهدهد بذلك ، فكتب معه كتابًا ثم بعثه إليهم ، حتى إذا جاء الهدهد الملكة ألقى إليها الكتاب(قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ )... إلى(وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) فقالت لقومها ما قالت(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) قال : وبعثت إليه بوصائف ووصفاء ، وألبستهم لباسا واحدا ، حتى لا يعرف ذكر من أنثى ، فقالت : إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى ، ثم رد الهدية ، فإنه نبي ، وينبغي لنا أن نترك ملكنا ونتبع دينه ونلحق به ، فردّ سليمان الهدية وزيل بينهم ، فقال : هؤلاء غلمان وهؤلاء جوار وقال : ( أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ )... إلى آخر الآية.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ )... الآية; قال : وأنكر سليمان أن يكون لأحد على الأرض سلطان غيره ، قال لمن حوله من الجنّ والإنس : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا )... الآية.
وقال آخرون : بل إنما اختبر صدق الهدهد سليمان بالكتاب ، وإنما سأل من عنده إحضاره عرش المرأة بعد ما خرجت رسلها من عنده ، وبعد أن أقبلت المرأة إليه.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما رجعت إليها الرسل بما قال سليمان : قالت : والله عرفت ما هذا بملك ، وما لنا به طاقة ، وما نصنع بمكاثرته شيئا ، وبعثت : إني قادمة عليك بملوك قومي ، حتى أنظر ما أمرك ، وما تدعو إليه من دينك ؟ ثم أمرت بسرير ملكها ، الذي كانت تجلس عليه ، وكان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ ، فجعل في سبعة أبيات بعضها

(19/461)


في بعض ، ثم أقفلت عليه الأبواب. وكانت إنما يخدمها النساء ، معها ستّمائة امرأة يخدمنها; ثم قالت لمن خلفت على سلطانها ، احتفظ بما قِبَلك ، وبسرير ملكي ، فلا يخلص إليه أحد من عباد الله ، ولا يرينه أحد حتى آتيك; ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قَيْلِ معها من ملوك اليمن ، تحت يد كلّ قَيْلِ منهم ألوف كثيرة ، فجعل سليمان يبعث الجنّ ، فيأتونه بمسيرها ومنتهاها كلّ يوم وليلة ، حتى إذا دنت جمع من عنده من الجنّ والإنس ممن تحت يده ، فقال : (يَاأَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ).
وتأويل الكلام : قال سليمان لأشراف من حضره من جنده من الجن والإنس : (يَاأَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ) يعني سريرها.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ) قال : سرير في أريكة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : عرشها سرير في أريكة. قال ابن جُرَيج : سرير من ذهب ، قوائمه من جوهر ولؤلؤ.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ) بسريرها.
وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ) قال : مجلسها.
واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله خصّ سليمان مسألة الملأ من جنده إحضار عرش هذه المرأة من بين أملاكها قبل إسلامها ، فقال بعضهم : إنما فعل ذلك لأنه أعجبه حين وصف له الهدهد صفته ، وخشي أن تسلم فيحرُم عليه مالها ، فأراد أن يأخذ سريرها ذلك قبل أن يحرُم عليه أخذه بإسلامها.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قال : أخبر سليمانَ الهدهدُ أنها قد خرجت لتأتيه ، وأخبر بعرشها فأعجبه. كان من ذهب

(19/462)


وقوائمه من جوهر مكلَّل باللؤلؤ ، فعرف أنهم إن جاءوه مسلمين لم تحلّ لهم أموالهم ، فقال للجنّ : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ).
وقال آخرون : بل فعل ذلك سليمان ليعاتبها به ، ويختبر به عقلها ، هل تثبته إذا رأته ، أم تنكره ؟
*ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أعلم الله سليمان أنها ستأتيه ، فقال : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) حتى يعاتبها ، وكانت الملوك يتعاتبون بالعلم.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله(قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ )فقال بعضهم : معناه : قبل أن يأتوني مستسلمين طوعا.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) يقول : طائعين.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : قبل أن يأتوني مسلمين الإسلام الذي هو دين الله.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) بحرمة الإسلام فيمنعهم وأموالهم ، يعني الإسلام يمنعهم.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في السبب الذي من أجله خصّ سليمان بسؤاله الملأ من جنده بإحضاره عرش هذه المرأة دون سائر ملكها عندنا ، ليجعل ذلك حجة عليها في نبوته ، ويعرفها بذلك قدرة الله وعظيم شأنه ، أنها خلَّفته في بيت في جوف أبيات ، بعضها في جوف بعض ، مغلق مقفل عليها ، فأخرجه الله من ذلك كله ، بغير فتح أغلاق وأقفال ، حتى أوصله إلى ولية من خلقه ، وسلمه إليه ، فكان لها في ذلك أعظم حجة ، على حقيقة ما دعاها إليه سليمان ، وعلى صدق سليمان فيما أعلمها من نبوّته.
فأما الذي هو أولى التأويلين في قوله(قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) بتأويله ، فقول

(19/463)


ابن عباس الذي ذكرناه قبل ، من أن معناه طائعين ، لأن المرأة لم تأت سليمان إذ أتته مسلمة ، وإنما أسلمت بعد مقدمها عليه وبعد محاورة جرت بينهما ومساءلة.
وقوله : (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ ) يقول تعالى ذكره : قال رئيس من الجنّ مارد قويّ. وللعرب فيه لغتان : عفريت ، وعفرية; فمن قال : عفرية ، جمعه : عفاري; ومن قال : عفريت ، جمعه : عفاريت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قال مجاهد : (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ ) قال : مارد من الجنّ(أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة وغيره ، مثله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن بعض أصحابه : (قَالَ عِفْريتٌ ) قال : داهية.
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي قال : العفريت الذي ذكره الله : اسمه كوزن.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم : (قَالَ عِفْريتٌ ) اسمه : كوزن.
وقوله : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ) يقول : أنا آتيك بعرشها قبل أن تقوم من مقعدك هذا.
وكان فيما ذُكر قاعدا للقضاء بين الناس ، فقال : أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك هذا الذي جلست فيه للحكم بين الناس. وذكر أنه كان يقعد إلى انتصاف النهار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.

(19/464)


قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة وغيره ، مثله ، قال : وكان يقضي قال : قبل أن تقوم من مجلسك الذي تقضي فيه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ) يعني مجلسه.
وقوله(وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) على ما فيه من الجواهر ، ولا أخون فيه.
وقد قيل : أمين على فرج المرأة.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) يقول : قويّ على حمله ، أمين على فرج هذه.
قوله : (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) يقول جلّ ثناؤه : قال الذي عنده علم من كتاب الله ، وكان رجلا فيما ذكر من بني آدم ، فقال بعضهم : اسمه بليخا.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو عثمة ، قال : ثنا شعبة ، عن بشر ، عن قتادة ، في قوله : (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) قال : كان اسمه بليخا.
حدثني يحيى بن داود الواسطي ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، في قوله : (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) رجل من الإنس.
حدثنا ابن عرفة ، قال : ثنا مروان بن معاوية الفزاريّ ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد ، في قول الله : (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ ) قال : أنا أنظر في كتاب ربي ، ثم آتيك به(قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) قال : فتكلم ذلك العالم بكلام دخل العرش تحت الأرض حتى خرج إليهم.
حدثنا ابن عرفة ، قال : ثني حماد بن محمد ، عن عثمان بن مطر ، عن الزهري ، قال : دعا الذي عنده علم من الكتاب : يا إلهنا وإله كلّ شيء إلها واحدا ، لا إله إلا أنت ، ائتني بعرشها ، قال : فمثل بين يديه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة : (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) قال : رجل من بني آدم ، أحسبه قال : من بني إسرائيل ، كان يعلم اسم الله الذي إذا دعي به أجاب.

(19/465)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) قال : الاسم الذي إذا دعي به أجاب ، وهو : يا ذا الجلال والإكرام.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : قال سليمان لمن حوله : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) فقال عفريت(أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ) قال سليمان : أريد أعجل من ذلك ، فقال رجل من الإنس عنده علم من الكتاب ، يعني اسم الله إذا دعي به أجاب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) لا آتيك بغيره ، أقول غيره أمثله لك. قال : وخرج يومئذ رجل عابد في جزيرة من البحر ، فلما سمع العفريت ، (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) قال : ثم دعا باسم من أسماء الله ، فإذا هو يحمل بين عينيه ، وقرأ : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي )... حتى بلغ(فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال رجل من الإنس.
قال : وقال مجاهد : الذي عنده علم من الكتاب : علم اسم الله.
وقال آخرون : الذي عنده علم من الكتاب ، كان آصف.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : (قَالَ عِفْريتٌ ) لسليمان(أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ) فزعموا أن سليمان بن داود قال : أبتغي أعجل من هذا ، فقال آصف بن برخيا ، وكان صدّيقا يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ، وإذا سئل به أعطى : (أَنَا ) يا نبيّ الله(آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ).
وقوله : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) اختلف أهل التأويل في تأويل

(19/466)


ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أنا آتيك به قبل أن يصل إليك من كان منك على مدّ البصر.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني إبراهيم ، قال : ثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن سعيد بن جُبَير : (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) قال : من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى ، فذلك قوله(قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ).
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، قال : قال غير قتادة : (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) قبل أن يأتيك الشخص من مدّ البصر.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : من قبل أن يبلغ طرفك مداه وغايته.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه : (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) تمدّ عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه حتى أمثله بين يديك. قال : ذلك أريد.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عثام ، عن إسماعيل ، عن سعيد بن جبير ، قال : أخبرت أنه قال : ارفع طرفك من حيث يجيء ، فلم يرجع إليه طرفه حتى وضع العرش بين يديه.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن عطاء ، عن مجاهد ، في قوله : (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) قال : مدّ بصره.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) قال : إذا مدّ البصر حتى يردّ الطرف خاسئا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) قال : إذا مدّ البصر حتى يحسر الطرف.
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : قبل أن يرجع إليك طرفك من أقصى أثره ، وذلك أن معنى قوله(يَرْتَدَّ إِلَيْكَ ) يرجع إليك البصر ، إذا فتحت العين غير راجع ، بل إنما يمتدّ ماضيا إلى أن يتناهى ما امتدّ نوره. فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله إنما أخبرنا عن قائل ذلك(أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ ) لم يكن

(19/467)


لنا أن نقول : أنا آتيك به قبل أن يرتدّ راجعا(إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) من عند منتهاه.
وقوله : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ ) يقول : فلما رأى سليمان عرش ملكة سبأ مستقرا عنده. وفي الكلام متروك استغنى بدلالة ما ظهر عما ترك ، وهو : فدعا الله ، فأتى به; فلما رآه سليمان مستقرا عنده. وذُكر أن العالم دعا الله ، فغار العرش في المكان الذي كان به ، ثم نبع من تحت الأرض بين يدي سليمان.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : ذكروا أن آصِف بن برخيا توضأ ، ثم ركع ركعتين ، ثم قال : يا نبيّ الله ، امدد عينك حتى ينتهي طرفك ، فمدّ سليمان عينه ينظر إليه نحو اليمن ، ودعا آصف فانخرق بالعرش مكانه الذي هو فيه ، ثم نبع بين يدي سليمان(فَلَمَّا رَآهُ ) سليمان(مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي )... الآية.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نبع عرشها من تحت الأرض.
وقوله : (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ) يقول : هذا البصر والتمكن والملك والسلطان الذي أنا فيه حتى حمل إليّ عرش هذه في قدر ارتداد الطرف من مأرب إلى الشام ، من فضل ربي الذي أفضله عليّ وعطائه الذي جاد به علي ، ليبلوني ، يقول : ليختبرني ويمتحنني ، أأشكر ذلك من فعله عليّ ، أم أكفر نعمته عليّ بترك الشكر له.
وقد قيل : إن معناه : أأشكر على عرش هذه المرأة إذ أتيت به ، أم كفر إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، في قوله : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ ) على السرير إذ أتيت به(أَمْ أَكْفُرُ ) إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني ؟ .
وقوله : (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ) يقول : ومن شكر نعمة الله عليه ، وفضله عليه ، فإنما يشكر طلب نفع نفسه ، لأنه ليس ينفع بذلك غير نفسه ؛ لأنه لا حاجة

(19/468)


قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)

لله إلى أحد من خلقه ، وإنما دعاهم إلى شكره تعريضا منه لهم للنفع ، لا لاجتلاب منه بشكرهم إياه نفعا إلى نفسه ، ولا دفع ضرّ عنها(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) يقول : ومن كفر نعمه وإحسانه إليه ، وفضله عليه ، لنفسه ظلم ، وحظَّها بخَس ، والله غنيّ عن شكره ، لا حاجة به إليه ، لا يضرّه كفر من كفر به من خلقه ، كريم ، ومن كرمه إفضاله على من يكفر نعمه ، ويجعلها وصلة يتوصل بها إلى معاصيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) }
يقول تعالى ذكره : قال سليمان - لما أتى عرش بلقيس صاحبة سبإٍ ، وقدمت هي عليه ، لجنده : غيِّروا لهذه المرأة سريرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : (نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ) قال : غيروا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فلما أتته(قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ) قال : وتنكير العرش ، أنه زيد فيه ونقص.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ) قال : غيِّروه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، نحوه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ) قال : مجلسها الذي تجلس فيه.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ) أمرهم أن يزيدوا فيه ، وينقصوا منه.

(19/469)


فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)

وقوله : (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي ) يقول : ننظر أتعقل فتثبت عرشها أنه هو الذي لها(أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ) يقول : من الذين لا يعقلون فلا تثبت عرشها.
وقيل : إن سليمان إنما نكَّر لها عرشها ، وأمر بالصرح يعمل لها ، من أجل أن الشياطين كانوا أخبروه أنه لا عقل لها ، وأن رجلها كحافر حمار ، فأراد أن يعرف صحة ما قيل له من ذلك.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله(أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ) قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ) قال : زيد في عرشها ونقص منه ؛ لينظر إلى عقلها ، فُوجدت ثابتة العقل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي ) أتعرفه ؟.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثني ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي ) قال : تَعرفه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : (أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ) أي أتعقل ، أم تكون من الذين لا يعقلون ؟ ففعل ذلك لينظر أتعرفه ، أم لا تعرفه ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) }
يقول تعالى ذكره : لما جاءت صاحبة سبإٍ سليمان ، أخرج لها عرشها ، فقال لها : ( أَهَكَذَا عَرْشُكِ ) ؟ قالت وشبهته به : (كَأَنَّهُ هُوَ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/470)


وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)

*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما انتهت إلى سليمان وكلمته أخرج لها عرشها ، ثم قال : (أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة : (فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ) قال : شبهته ، وكانت قد تركته خلفها.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان أبي يحدّثنا هذا الحديث كله ، يعني حديث سليمان ، وهذه المرأة(فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ) شكت.
وقوله : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل سليمان ، وقال سليمان : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا ) أي : هذه المرأة ، بالله وبقدرته على ما يشاء ، (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ) لله من قبلها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا ) قال : سليمان يقوله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) }
يقول تعالى ذكره : ومنع هذه المرأة صاحبة سبإ(مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ، وذلك عبادتها الشمس أن تعبد الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/471)


قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) قال : كفرها بقضاء الله ، وعبادة الوثن (1) صدها أن تهتدي للحق.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) قال : كفرها بقضاء الله ، صدها أن تهتدي للحق. ولو قيل : معنى ذلك : وصدّها سليمان ما كانت تعبد من دون الله ، بمعنى : منعها وحال بينها وبينه ، كان وجها حسنا. ولو قيل أيضا : وصدّها الله ذلك بتوفيقها للإسلام ، كان أيضا وجها صحيحا.
وقوله : (إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ) يقول : إن هذه المرأة كانت كافرة من قوم كافرين. وكسرت الألف من قوله " إنها " على الابتداء. ومن تأول قوله : (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) التأويل الذي تأولنا ، كانت " ما " من قوله(مَا كَانَتْ تَعْبُدُ ) في موضع رفع بالصد ، لأن المعنى فيه لم يصدها عن عبادة الله جهلها ، وأنها لا تعقل ، إنما صدها عن عبادة الله عبادتها الشمس والقمر ، وكان ذلك من دين قومها وآبائها ، فاتبعت فيه آثارهم. ومن تأوله على الوجهين الآخرين كانت " ما " في موضع نصب.
القول في تأويل قوله تعالى : { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) }
ذُكر أن سليمان لما أقبلت صاحبة سبإ تريده ، أمر الشياطين فبنوا له صرحا ، وهو كهيئة السطح من قوارير ، وأجرى من تحته الماء ليختبر عقلها بذلك ، وفهمها على نحو الذي كانت تفعل هي من توجيهها إليه الوصائف والوصفاء ليميز بين الذكور منهم والإناث معاتبة بذلك كذلك.
__________
(1) لعل العبارة سقط منها كلمة ، وهي " صدها " كما تدل الرواية الآتية بعد.

(19/472)


حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : أمر سليمان بالصرح ، وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضا ، ثم أرسل الماء تحته ، ثم وضع له فيه سريره ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجنّ والإنس ، ثم قال : (ادْخُلِي الصَّرْحَ ) ليريها مُلكا هو أعزُ من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها(فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ) لا تشكُّ أنه ماء تخوضه ، قيل لها : ادخلي إنه صرح ممرّد من قوارير; فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله ونعى عليها في عبادتها الشمس دون الله ، فقالت بقول الزنادقة ، فوقع سليمان ساجدا إعظاما لما قالت ، وسجد معه الناس; وسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع; فلما رفع سليمان رأسه قال : ويحك ماذا قلت ؟ قال : وأُنْسِيت ما قالت : ، فقالت : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) وأسلمت ، فحسن إسلامها.
وقيل : إن سليمان إنما أمر ببناء الصرح على ما وصفه الله ، لأن الجنّ خافت من سليمان أن يتزوّجها ، فأرادوا أن يزهدوه فيها ، فقالوا : إن رجلها رجل حمار ، وإن أمها كانت من الجنّ ، فأراد سليمان أن يعلم حقيقة ما أخبرته الجنّ من ذلك.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظيّ ، قال : قالت الجنّ لسليمان تزهِّده في بلقيس : إن رجلها رجل حمار ، وإن أمها كانت من الجنّ. فأمر سليمان بالصرح ، فعُمِل ، فسجن فيه دواب البحر : الحيتان ، والضفادع; فلما بصرت بالصرح قالت : ما وجد ابن داود عذابا يقتلني به إلا الغرق ؟(حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ) قال : فإذا أحسن الناس ساقا وقدما. قال : فضنّ سليمان بساقها عن الموسى ، قال : فاتخذت النورة بذلك السبب.
وجائز عندي أن يكون سليمان أمر باتخاذ الصرح للأمرين الذي قاله وهب ، والذي قاله محمد بن كعب القرظيّ ، ليختبر عقلها ، وينظر إلى ساقها وقدمها ، ليعرف صحة ما قيل له فيها.
وكان مجاهد يقول - فيما ذكر عنه في معنى الصرح - ما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال :

(19/473)


ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( الصرْحَ ) قال : بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير ألبسها. قال : وكانت بلقيس هلباء شعراء ، قدمها كحافر الحمار ، وكانت أمها جنية.
حدثني أحمد بن الوليد الرملي ، قال : ثنا هشام بن عمار ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن بشير ، عن قَتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان أحد أبوي صاحبة سبإ جنبا " .
قال : ثنا صفوان بن صالح ، قال : ثني الوليد ، عن سعيد بن بشير ، عن قَتادة ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر النضر بن أنس.
وقوله : (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ) يقول : فلما رأت المرأة الصرح حسبته لبياضه واضطراب دواب الماء تحته لجة بحر كشفت من ساقيها ؛ لتخوضه إلى سليمان.
ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة : (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ) قال : وكان من قوارير ، وكان الماء من خلفه فحسبته لجة.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : (حَسِبَتْهُ لُجَّةً ) قال : بحرا.
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : ثنا ابن سوار ، قال : ثنا روح بن القاسم ، عن عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، في قوله : (وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ) فإذا هما شعراوان ، فقال : ألا شيء يذهب هذا ؟ قالوا : الموسى ، قال : لا الموسى له أثر ، فأمر بالنورة فصنعت.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا حفص ، عن عمران بن سليمان ، عن عكرمة وأبي صالح قالا لما تزوّج سليمان بلقيس قالت له : لم تمسني حديدة قطّ ، قال سليمان للشياطين : انظروا ما يُذهب الشعر ؟ قالوا : النورة ، فكان أوّل من صنع النورة.

(19/474)


وقوله : (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ) يقول جلّ ثناؤه : قال سليمان لها : إن هذا ليس ببحر ، إنه صرح ممرّد من قوارير ، يقول : إنما هو بناء مبني مشيد من قوارير.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( مُمَرَّدٌ ) قال : مشيد.
وقوله : (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ )... الآية ، يقول تعالى ذكره : قالت المرأة صاحبة سبإ : رب إني ظلمت نفسي في عبادتي الشمس ، وسجودي لما دونك(وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ ) تقول : وانقدت مع سليمان مذعنة لله بالتوحيد ، مفردة له بالألوهة والربوبية دون كل من سواه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في : (حَسِبَتْهُ لُجَّةً ) قال : (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ) فَعرفت أنها قد غلبت(قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).

(19/475)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) }
يقول تعالى ذكره : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) وَحده لا شريك له ، ولا تجعلوا معه إلها غيره(فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ) يقول : فلما أتاهم صالح داعيا لهم إلى الله صار قومه من ثمود فيما دعاهم إليه فريقين يختصمون ، ففريق مصدّق صالحا مؤمن به ، وفريق مكذّب به كافر بما جاء به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ) قال : مؤمن وكافر ، قولهم : صالح مرسل ، وقولهم :

(19/475)


قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)

صالح ليس بمُرسل ، ويعني بقوله(يَخْتَصِمُونَ ) يختلفون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ) قال : مؤمن ، وكافر.
وقوله : (قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) يقول تعالى ذكره : قال صالح لقومه : يا قوم لأيّ شيء تستعجلون بعذاب الله قبل الرحمة.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد قوله : (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) قال : السيئة : العذاب ، قبل الحسنة : قبل الرحمة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : (قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ ) قال بالعذاب قبل الحسنة ، قال : العافية.
وقوله : (لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) يقول : هلا تتوبون إلى الله من كفركم ، فيغفر لكم ربكم عظيم جرمكم ، يصفح لكم عن عقوبته إياكم على ما قد أتيتم من عظيم الخطيئة.
وقوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) يقول : ليرحمكم ربكم باستغفاركم إياه من كفركم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) }
يقول تعالى ذكره : قالت ثمود لرسولها صالح(اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ) أي : تشاءمنا بك وبمن معك من أتباعنا ، وزجرنا الطير بأنا سيصيبنا بك وبهم المكاره والمصائب ، فأجابهم صالح فقال لهم(طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ) أي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه ، لا يدري أيّ ذلك كائن ، أما تظنون من المصائب أو المكاره ، أم ما لا ترجونه من العافية والرجاء والمحاب ؟.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : (قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ) يقول : مصائبكم.

(19/476)


وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله : (طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ) علمكم عند الله.
وقوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ) يقول : بل أنتم قوم تختبرون ، يختبركم ربكم إذ أرسلني إليكم ، أتطيعونه ، فتعملون بما أمركم به ، فيجزيكم الجزيل من ثوابه ؟ أم تعصونه بخلافه ، فيحلّ بكم عقابه ؟.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) }
يقول تعالى ذكره : وكان في مدينة صالح ، وهي حِجر ثمود ، تسعة أنفس يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، وكان إفسادهم في الأرض ، كفرهم بالله ، ومعصيتهم إياه ، وإنما خصّ الله جلّ ثناؤه هؤلاء التسعة الرهط بالخبر عنهم أنهم كانوا يفسدون في الأرض ، ولا يصلحون ، وإن كان أهل الكفر كلهم في الأرض مفسدين ، لأن هؤلاء التسعة هم الذين سعوا فيما بلغنا في عقر الناقة ، وتعاونوا عليه ، وتحالفوا على قتل صالح من بين قوم ثمود.وقد ذكرنا قصصهم وأخبارهم فيما مضى من كتابنا هذا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (تِسْعَةُ رَهْطٍ ) قال : من قوم صالح.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ) هم الذين عقروا الناقة ، وقالوا حين عقروها : نبيت صالحا وأهله فنقتلهم ، ثم نقول لأولياء صالح : ما شهدنا من هذا شيئا ، وما لنا به علم ، فدمرهم الله أجمعين.

(19/477)


وقوله : (قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ) يقول تعالى ذكره : قال هؤلاء التسعة الرهط الذين يُفسدون في أرض حجر ثمود ، ولا يصلحون : تقاسموا بالله : تحالفوا بالله أيها القوم ، ليحلف بعضكم لبعض : لنبيتنّ صالحا وأهله ، فلنقتلنه ، ثم لنقولنّ لوليه : ما شهدنا مهلك أهله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ ) قال : تحالفوا على إهلاكه ، فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بنحوه.
ويتوجه قوله(تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ ) إلى وجهين : أحدهما النصب على وجه الخبر ، كأنه قيل : قالوا متقاسمين وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " ولا يصلحون تقاسموا بالله " وليس فيها " قالوا " ، فذلك من قراءته يدل على وجه النصب في " تقاسموا " على ما وصفت. والوجه الآخر : الجزم ، كأنهم قال بعضهم لبعض : اقسموا بالله ، فعلى هذا الوجه الثاني تصلح قراءة(لَنُبَيِّتَنَّهُ ) بالياء والنون ، لأن القائل لهم تقاسموا ، وإن كان هو الآمر فهو فيمن أقسم ، كما يقال في الكلام : انهضوا بنا نمض إلى فلان ، وانهضوا نمضي إليه. وعلى الوجه الأوّل الذي هو وجه النصب القراءة فيه بالنون أفصح ، لأن معناه : قالوا متقاسمين لنبيتنه ، وقد تجوز الياء على هذا الوجه ، كما يقال في الكلام : قالوا لنكرمنّ أباك ، وليكرمنّ أباك ، وبالنون قرأ ذلك قرَّاء المدينة ، وعامة قراء البصرة وبعض الكوفيين. وأما الأغلب على قرّاء أهل الكوفة ، فقراءته بالياء وضمّ التاء جميعا. وأما بعض المكيين ، فقرأه بالياء.
وأعجب القراءات في ذلك إليّ النون ، لأن ذلك أفصح الكلام على الوجهين اللذين بيَّنت من النصب والجزم ، وإن كان كل ذلك صحيحا غير فاسد لما وصفت ، وأكرهها إليّ القراءة بها الياء ، لقلة قارئ ذلك كذلك. وقوله : ( لَنُبَيِّتَنَّهُ ) قال : ليبيتنّ صالحا ثم يفتكوا به.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال التسعة الذين عقروا

(19/478)


وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)

الناقة : هلمّ فلنقتل صالحا ، فإن كان صادقا - يعني فيما وعدهم من العذاب بعد الثلاث - عجلناه قبله ، وإن كان كاذبا نكون قد ألحقناه بناقته ، فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله ، فدمغتهم الملائكة بالحجارة; فلما أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح ، فوجدوهم مشدوخين قد رضخوا بالحجارة. وقوله : (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) نقول لوليه : وإنا لصادقون ، أنا ما شهدنا مهلك أهله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) }
يقول تعالى ذكره : وغدر هؤلاء التسعة الرهط الذين يفسدون في الأرض بصالح بمصيرهم إليه ليلا ليقتلوه وأهله ، وصالح لا يشعر بذلك(وَمَكَرْنَا مَكْرًا ) يقول : فأخذناهم بعقوبتنا إياهم ، وتعجيلنا العذاب لهم(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) بمكرنا.
وقد بيَّنا فيما مضى معنى : مكر الله ، بمن مكر به ، وما وجه ذلك ، وأنه أخذه من أخذه منهم على غرّة ، أو استدراجه منهم من استدرج على كفره به ، ومعصيته إياه ، ثم إحلاله العقوبة به على غرّة وغفلة ،
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن رجل ، عن عليّ ، قال : المكر غدر ، والغدر كفر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا ) قال : احتالوا لأمرهم ، واحتال الله لهم ، مكروا بصالح مكرا ، ومكرنا بهم مكرا(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) بمكرنا وشعرنا بمكرهم ، قالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه وأهله قبل ذلك ، وكان له مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه ، فخرجوا إلى كهف وقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ، ثم رجعنا إذا فرعنا منه إلى أهله ، ففرغنا منهم ، وقرأ قول الله تبارك وتعالى : (قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) فبعث الله صخرة من الهضب حيالهم ، فخشوا أن تشدخهم ، فبادروا الغار ، فطبقت الصخرة عليهم فم ذلك الغار ،

(19/479)


فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)

فلا يدري قومهم أين هم ؟ ولا يدرون ما فعل بقومهم ، فعذّب الله تبارك وتعالى هؤلاء ههنا ، وهؤلاء هنا ، وأنجى الله صالحا ومن معه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة : (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا ) قال : فسلط الله عليهم صخرة فقتلتهم.
وقوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ ) يقول تعالى ذكره : فانظر يا محمد بعين قلبك إلى عاقبة غدر ثمود بنبيهم صالح ، كيف كانت ؟ وما الذي أورثها اعتداؤهم وطغيانهم وتكذيبهم ؟ فإن ذلك سنتنا فيمن كذب رسلنا ، وطغى علينا من سائر الخلق ، فحذر قومك من قريش ، أن ينالهم بتكذيبهم إياك ، ما نال ثمود بتكذيبهم صالحا من المثلات.
وقوله : (أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ) يقول : إنا دمرنا التسعة الرهط الذين يفسدون في الأرض من قوم صالح وقومهم من ثمود أجمعين ، فلم نبق منهم أحدا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله " إنا " فقرأ بكسرها عامة قرّاء الحجاز والبصرة على الابتداء ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : (أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ ) بفتح الألف. وإذا فُتحت كان في( أَنَّا ) وجهان من الإعراب : أحدهما الرفع على ردّها على العاقبة على الاتباع لها ، والآخر النصب على الرد على موضع كيف ؛ لأنها في موضع نصب إن شئت ، وإن شئت على تكرير كان عليها على وجه ، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم كان عاقبة مكرهم تدميرنا إياهم.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) }
يعني تعالى ذكره بقوله : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً ) فتلك مساكنهم خاوية خالية منهم ، ليس فيها منهم أحد ، قد أهلكهم الله فأبادهم(بِمَا ظَلَمُوا ) يقول تعالى ذكره : بظلمهم أنفسهم بشركهم بالله ، وتكذيبهم رسولهم(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره : إن في فعلنا بثمود ما قصصنا عليك يا محمد من القصة ، لعظة لمن يعلم فعلنا بهم ما فعلنا ، من قومك الذين يكذّبونك فيما جئتهم به من عند ربك وعبرة.

(19/480)


وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)

(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا ) يقول : وأنجينا من نقمتنا وعذابنا الذي أحللناه بثمود رسولنا صالحا والمؤمنين به.(وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) يقول : وكانوا يتقون بإيمانهم ، وبتصديقهم صالحا الذي حل بقومهم من ثمود ما حلّ بهم من عذاب الله ، فكذلك ننجيك يا محمد وأتباعك ، عند إحلالنا عقوبتنا بمشركي قومك من بين أظهرهم.
وذكر أن صالحا لما أحلّ الله بقومه ما أحلّ ، خرج هو والمؤمنون به إلى الشام ، فنزل رملة فلسطين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) }
يقول تعالى ذكره : وأرسلنا لوطا إلى قومه ، إذ قال لهم : يا قوم(أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) أنها فاحشة ؛ لعلمكم بأنه لم يسبقكم إلى ما تفعلون من ذلك أحد. وقوله : (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً ) منكم بذلك من دون فروج النساء التي أباحها الله لكم بالنكاح. وقوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) يقول : ما ذلك منكم إلا أنكم قوم سفهاء جهلة بعظيم حقّ الله عليكم ، فخالفتم لذلك أمره ، وعصيتم رسوله.

(19/481)


فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) }
يقول تعالى ذكره : فلم يكن لقوم لوط جواب له ، إذ نهاهم عما أمره الله بنهيهم عنه من إتيان الرجال ، إلا قيل بعضهم لبعض : (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) عما نفعله نحن من إتيان الذكران في أدبارهم.
كما حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : سمعت الحسن بن عُمارة يذكر عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : (أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) قال : من إتيان الرجال والنساء في أدبارهن.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) قال : من أدبار الرجال وأدبار النساء استهزاء بهم.

(19/481)


فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : ( يَتَطَهَّرُونَ ) من أدبار الرجال والنساء ، استهزاء بهم يقولون ذلك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة أنه تلا(إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) قال : عابوهم بغير عيب أي : إنهم يتطهرون من أعمال السوء.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) }
يقول تعالى ذكره : فأنجينا لوطا وأهله سوى امرأته من عذابنا حين أحللناه بهم ، ثم( قَدَّرْناها ) يقول : فإن امرأته قدرناها : جعلناها بتقديرنا(مِنَ الْغَابِرِينَ ) من الباقين(وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا ) وهو إمطار الله عليهم من السماء حجارة من سجيل(فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ) يقول : فساء ذلك المطر مطر القوم الذين أنذرهم الله عقابه على معصيتهم إياه ، وخوفهم بأسه بإرسال الرسول إليهم بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ (59) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم( قُلِ ) يا محمد(الْحَمْدُ لِلَّهِ ) على نعمه علينا ، وتوفيقه إيانا لما وفِّقنا من الهداية ، (وَسَلامٌ ) يقول : وأمنة منه من عقابه الذي عاقب به قوم لوط ، وقوم صالح ، على الذين اصطفاهم ، يقول : الذين اجتباهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فجعلهم أصحابه ووزراءه على الدِّين الذي بعثه بالدعاء إليه دون المشركين به ، الجاحدين نبوّة نبيه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قالا أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حديث أبو كُرَيب ، قال : ثنا طلق ، يعني ابن غنام ، عن ابن ظهير ، عن السديّ ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : (وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ) قال : أصحاب محمد اصطفاهم الله لنبيه.
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، قال : قلت لعبد الله بن المبارك :

(19/482)


أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)

أرأيت قول الله(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ) من هؤلاء ؟ فحدثني عن سفيان الثوري ، قال : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله : (آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ ) يقول تعالى ذكره; قل يا محمد لهؤلاء الذين زيَّنا لهم أعمالهم من قومك فهم يعمهون : آلله الذي أنعم على أوليائه هذه النعم التي قصَّها عليكم في هذه السورة ، وأهلك أعداءه بالذي أهلكهم به من صنوف العذاب التي ذكرها لكم فيها خير ، أما تشركون من أوثانكم التي لا تنفعكم ولا تضرّكم ، ولا تدفع عن أنفسها ، ولا عن أوليائها سوءا ، ولا تجلب إليها ولا إليهم نفعا ؟ يقول : إن هذا الأمر لا يشكل على من له عقل ، فكيف تستجيزون أن تشركوا عبادة من لا نفع عنده لكم ، ولا دفع ضرّ عنكم في عبادة من بيده النفع والضرّ ، وله كل شيء ؟ ثم ابتدأ تعالى ذكره تعديد نعمه عليهم ، وأياديه عندهم ، وتعريفهم بقلة شكرهم إياه على ما أولاهم من ذلك ، فقال : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمَّن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) }
يقول تعالى ذكره للمشركين به من قُريش : أعبادة ما تعبدون من أوثانكم التي لا تضرّ ولا تنفع خير ، أم عبادة من خلق السموات والأرض ؟(وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) يعني مطرا ، وقد يجوز أن يكون مريدا به العيون التي فجَّرها في الأرض ؛ لأن كل ذلك من خلقه(فَأَنْبَتْنَا بِهِ ) يعني بالماء الذي أنزل من السماء(حَدَائِقَ) وهي جمع حديقة ، والحديقة : البستان عليه حائط محوّط ، وإن لم يكن عليه حائط لم يكن حديقة. وقوله : (ذَاتَ بَهْجَةٍ ) يقول : ذات منظر حسن. وقيل ذات بالتوحيد. وقد قيل حدائق ، كما قال : (وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) ، وقد بيَّنت ذلك فيما مضى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في

(19/483)


أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)

قوله : (حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ) قال : البهجة : الفقاح مما يأكل الناس والأنعام.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : (حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ) قال : من كل شيء تأكله الناس والأنعام.
وقوله : (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا ) يقول تعالى ذكره : أنبتنا بالماء الذي أنزلناه من السماء لكم هذه الحدائق ، إذ لم يكن لكم لولا أنه أنزل عليكم الماء من السماء ، طاقة أن تنبتوا شجر هذه الحدائق ، ولم تكونوا قادرين على ذهاب ذلك ، لأنه لا يصلح ذلك إلا بالماء.
وقوله : (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره : أمعبود مع الله أيها الجهلة خلق ذلك ، وأنزل من السماء الماء ، فأنبت به لكم الحدائق ؟ فقوله : (أَإِلَهٌ) مردود على تأويل : أمع الله إله ، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ) يقول جلّ ثناؤه : بل هؤلاء المشركون قوم ضلال ، يعدلون عن الحقّ ، ويجورون عليه ، على عمد منهم لذلك ، مع علمهم بأنهم على خطأ وضلال ولم يعدلوا عن جهل منهم ، بأن من لا يقدر على نفع ولا ضرّ ، خير ممن خلق السموات والأرض ، وفعل هذه الأفعال ، ولكنهم عدلوا على علم منهم ومعرفة ، اقتفاء منهم سُنّة من مضى قبلهم من آبائهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمَّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) }
يقول تعالى ذكره : أعبادة ما تشركون أيها الناس بربكم خير وهو لا يضرّ ولا ينفع ، أم الذي جعل الأرض لكم قرارا تستقرّون عليها لا تميد بكم(وَجَعَلَ ) لكم(خِلالَهَا أَنْهَارًا ) يقول : بينها أنهارا(وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ) وهي ثوابت الجبال ،
(وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ) بين العذب والملح ، أن يفسد أحدهما صاحبه(أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ) سواه فعل هذه الأشياء فأشركتموه في عبادتكم إياه ؟
وقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره : بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قدر عظمة الله ، وما عليهم من الضرّ في إشراكهم في عبادة الله غيره ، وما لهم من النفع في إفرادهم الله بالألوهة ، وإخلاصهم له العبادة ، وبراءتهم من كلّ معبود سواه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ

(19/484)


أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)

السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (62) }
يقول تعالى ذكره : أم ما تُشركون بالله خير ، أم الذي يجيب المضطّر إذا دعاه ، ويكشف السوء النازل به عنه ؟
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : (وَيَكْشِفُ السُّوءَ ) قال : الضرّ.
وقوله : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ ) يقول : ويستخلف بعد أمرائكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم. وقوله : (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ) يقول : أإله مع الله سواه يفعل هذه الأشياء بكم ، وينعم عليكم هذه النعم ؟ وقوله : (قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ) يقول : تَذَكُّرًا قليلا من عظمة الله وأياديه عندكم تذكرون وتعتبرون حجج الله عليكم يسيرا ، فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا (1) بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) }
يقول تعالى ذكره : أم ما تشركون بالله خير ، أم الذي يهديكم في ظلمات البرّ والبحر إذا ضللتم فيهما الطريق ، فأظلمت عليكم السبل فيهما ؟
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج قوله : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) والظُّلماتِ في البر ضلاله الطريق ، والبحر ، ضلاله طريقه وموجه وما يكون فيه. قوله : (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) يقول : والذي يرسل الرياح نُشرا لموتان الأرض بين يدي رحمته ، يعني : قدام الغيث الذي يحيي موات الأرض. وقوله : (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يقول تعالى ذكره : أإله مع الله سوى الله يفعل بكم شيئا من ذلك فتعبدوه من دونه ، أو تشركوه في عبادتكم إياه(تعالى الله) يقول : لله العلوّ والرفعة عن شرككم الذي تشركون به ، وعبادتكم معه ما تعبدون.
__________
(1) (في اللسان : نشر) وقوله تعالى (وهو الذي يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته) نشرا بضم النون والشين وقرئ نشرًا ونشرًا بضم النون وفتحها وسكون الشين والقراءة المشهورة نشرًا ، بضم وسكون

(19/485)


أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) }
يقول تعالى ذكره : أم ما تشركون أيها القوم خير ، أم الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، فينشئه من غير أصل ، ويبتدعه ثم يفنيه إذا شاء ، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل أن يفنيه ، والذي يرزقكم من السماء والأرض فينزل من هذه الغيث ، وينبت من هذه النبات لأقواتكم ، وأقوات أنعامكم(أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ) سوى الله يفعل ذلك ؟ وإن زعموا أن إلها غير الله يفعل ذلك أو شيئا منه ف( قُلْ ) لهم يا محمد( هاتوا برهانكم ) أي حجتكم على أن شيئا سوى الله يفعل ذلك(إن كنتم صادقين ) في دعواكم. و من التي في " أمَّن " و " ما " مبتدأ في قوله : أما يشركون ، والآيات بعدها إلى قوله : (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) بمعنى " الذي " ، لا بمعنى الاستفهام ، وذلك أن الاستفهام لا يدخل على الاستفهام.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ ) يا محمد لسائليك من المشركين عن الساعة متى هي قائمة(لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ ) الذي قد استأثر الله بعلمه ، وحجب عنه خلقه غيره والساعة من ذلك(وَمَا يَشْعُرُونَ ) يقول : وما يدري من في السموات والأرض من خلقه متى هم مبعوثون من قبورهم لقيام الساعة.
وقد حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، قال : قالت عائشة : من زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد ، فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول : (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ ).
واختلف أهل العربية في وجه رفع الله ، فقال بعض البصريين : هو كما تقول : إلا قليل منهم. وفي حرف ابن مسعود : قليلا بدلا من الأوّل ، لأنك نفيته عنه وجعلته للآخر.

(19/486)


وقال بعض الكوفيين : إن شئت أن تتوهم في " ومن " المجهول ، فتكون معطوفة على : قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله. قال : ويجوز أن تكون " من " معرفة ، ونزل ما بعد " إلا " عليه ، فيكون عطفا ولا يكون بدلا لأن الأوّل منفي ، والثاني مثبت ، فيكون في النسق كما تقول : قام زيد إلا عمرو ، فيكون الثاني عطفا على الأوّل ، والتأويل جحد ، ولا يكون أن يكون الخبر جحدًا ، أو الجحد خبرا. قال : وكذلك(مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ ) وقليلا من نصب ، فعلى الاستثناء في عبادتكم إياه ، ومن رفع فعلى العطف ، ولا يكون بدلا.
وقوله : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة سوى أبي جعفر وعامة قرّاء أهل الكوفة : (بَلِ ادَّارَكَ ) بكسر اللام من " بل " وتشديد الدال من " ادراك " ، بمعنى : بل تدارك علمهم أي تتابع علمهم بالآخرة هل هي كائنة أم لا ثم أدغمت التاء في الدال كما قيل : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ )وقد بينا ذلك فيما مضى بما فيه الكفاية من إعادته.
وقرأته عامة قرّاء أهل مكة : " بَلْ أدْرَك عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ " بسكون الدال وفتح الألف ، بمعنى هل أدرك علمهم علم الآخرة. وكان أبو عمرو بن العلاء يُنكر فيما ذكر عنه قراءة من قرأ : " بَلْ أدْرَكَ " ويقول : إن " بل " إيجاب والاستفهام في هذا الموضع إنكار. ومعنى الكلام : إذا قرئ كذلك " بَلْ أَدْرَكَ " لم يكن ذلك لم يدرك علمهم في الآخرة ، وبالاستفهام قرأ ذلك ابن محيصن على الوجه الذي ذكرت أن أبا عمرو أنكره.
وبنحو الذي ذكرت عن المكيين أنهم قرءوه ، ذُكر عن مجاهد أنه قرأه ، غير أنه كان يقرأ في موضع بل : أم.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن موسى ، قال : ثنا عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، أنه قرأ " أمْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ " وكان ابن عباس فيما ذُكر عنه يقرأ بإثبات ياء في بل ، ثم يبتدئ " أدّراك " بفتح ألفها على وجه الاستفهام وتشديد الدال.
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس في هذه الآية : " بَلى أدَّرَاكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ " : أي لم يدرك.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، قال : سمعت ابن عباس يقرأ " بَلى أدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ " إنما هو استفهام أنه لم يدرك.

(19/487)


وكأن ابن عباس وجه ذلك إلى أن مخرجه مخرج الاستهزاء بالمكذّبين بالبعث.
والصواب من القراءات عندنا في ذلك ، القراءتان اللتان ذكرت إحداهما عن قرأة أهل مكة والبصرة ، وهي " بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ " بسكون لام بل ، وفتح ألف أدرك ، وتخفيف دالها ، والأخرى منهما عن قرأة الكوفة ، وهي(بَلِ ادَّارَكَ ) بكسر اللام وتشديد الدال من ادّراك ؛ لأنهما القراءتان المعروفتان في قرّاء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب عندنا. فأما القراءة التي ذُكرت عن ابن عباس ، فإنها وإن كانت صحيحة المعنى والإعراب ، فخلاف لما عليه مصاحف المسلمين ، وذلك أن في بلى زيادة ياء في قراءاته ليست في المصاحف ، وهي مع ذلك قراءة لا نعلمها قرأ بها أحد من قرّاء الأمصار. وأما القراءة التي ذكرت عن ابن محيصن ، فإن الذي قال فيها أبو عمرو قول صحيح ؛ لأن العرب تحقق ببل ما بعدها لا تنفيه ، والاستفهام في هذا الموضع إنكار لا إثبات ، وذلك أن الله قد أخبر عن المشركين أنهم من الساعة في شكّ ، فقال : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ).
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : بل أدرك علمهم في الآخرة فأيقنوها إذ عاينوها حين لم ينفعهم يقينهم بها ، إذ كانوا بها في الدنيا مكذّبين.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : " بَلْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ " قال : بصرهم في الآخرة حين لم ينفعهم العلم والبصر.
وقال آخرون : بل معناه : بل غاب علمهم في الآخرة.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " بَلْ أدْرَكَ عِلْمُهُمْ في الآخرة " يقول : غاب علمهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ في الآخِرَةِ ) قال : يقول : ضلّ علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم ، (هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ).
وقال آخرون : معنى ذلك : لم يبلغ لهم فيها علم.

(19/488)


*ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، عن جدي ، قال : ثنا الحسين ، عن قَتادة في قوله : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ ) قال : كان يقرؤها : " بَلْ أدْرَكَ علْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ " قال : لم يبلغ لهم فيها علم ، ولا يصل إليها منهم رغبة.
وقال آخرون : معنى ذلك : بل أدْرَكَ : أم أدرك.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " بَلْ أدْرَكَ علْمُهُمْ " قال : أم أدرك.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عثمان ، عن مجاهد : " بَلْ أدْرَكَ علْمُهُمْ " قال : أم أدرك علمهم ، من أين يدرك علمهم ؟
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بنحوه.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب على قراءة من قرأ " بَلْ أدْرَكَ " القول الذي ذكرناه عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، وهو أن معناه : إذا قرئ كذلك(وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) بل أدرك علمهم نفس وقت ذلك في الآخرة حين يبعثون ، فلا ينفعهم علمهم به حينئذ ، فأما في الدنيا فإنهم منها في شكّ ، بل هم منها عمون.
وإنما قلت : هذا القول أولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ، على القراءة التي ذُكِرَت ؛ لأن ذلك أظهر معانيه. وإذ كان ذلك معناه ، كان في الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ظهر منه عنه ، وذلك أن معنى الكلام : وما يشعرون أيان يُبْعثون ، بل يشعرون ذلك في الآخرة ، فالكلام إذا كان ذلك معناه ، وما يشعرون أيان يبعثون ، بل أدرك علمهم بذلك في الآخرة ، بل هم في الدنيا في شك منها. وأما على قراءة من قرأه(بَلِ ادَّارَكَ ) بكسر اللام وتشديد الدال ، فالقول الذي ذكرنا عن مجاهد ، وهو أن يكون معنى بل : أم ، والعرب تضع أم موضع بل ، وموضع بل : أم ، إذا كان في أول الكلام استفهام

(19/489)


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)

كما قال الشاعر :
فَوَاللهِ ما أَدْرِي أَسَلْمَى تَغَوَّلَت... أمِ النَّوْمُ أَمْ كُلٌّ إليَّ حَبِيبُ (1)
يعني بذلك بل كلّ إلي حبيب ، فيكون تأويل الكلام : وما يشعرون أيان يبعثون ، بل تدارك علمهم في الآخرة : يعني تتابع علمهم في الآخرة : أي بعلم الآخرة : أي لم يتتابع بذلك ولم يعلموه ، بل غاب علمهم عنه ، وضل فلم يبلغوه ولم يدركوه.
وقوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا ) يقول : بل هؤلاء المشركون الذين يسألونك عن الساعة في شك من قيامها ، لا يوقنون بها ولا يصدّقون بأنهم مبعوثون من بعد الموت(بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ) يقول : بل هم من العلم بقيامها عمون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (68) }
يقول تعالى ذكره : قال الذين كفروا بالله : أئنا لمخرجون من قبورنا أحياء ، كهيئتنا من بعد مماتنا بعد أن كنا فيها ترابا قد بلينا ؟(لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ )
__________
(1) تغولت : تراءت لي في النوم في صور مختلفة. والشاهد في البيت : أن " أم " الأولى متصلة ، لأنها معادلة للهمزة ، يقول : لا أدري أهو طيف سلمى عرض لي وتراءى ، أم هو النوم يخلط على صور الأشياء ، وهي أضغاث الأحلام. وأما (أم) الثانية فإنها للإضراب : بمعنى (بل) يقول : بل كل ذلك حبيب إلى نفسي. يريد ما يتراءى له من طيف الخيال. وما يراه في النوم من الأحلام. والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 236 من مصورة الجامعة). وفي (اللسان : درك). فأما من قرأ : " بل أدارك " ، فإن الفراء قال : معناه لغة : تدارك ، أي تتابع علمهم في الآخرة ؛ يريد بعلم الآخرة : تكون أو لا تكون : ولذلك قال : (بل هم في شك منها بل هم منها عمون) قال : وهي في قراءة أبي : (أم تدارك) ؛ والعرب تجعل (بل) مكان (أم) ، و (أم) مكان (بل) إذا كان في أول الكلام استفهام ، مثل قول الشاعر : " فوالله ما أدري.. " البيت. معنى (أم) : (بل). وقال أبو معاذ النحوي : ومن قرأ : " بل أدرك " ، ومن قرأ : " بل أدارك " فمعناهما واحد. يقول : هم علماء في الآخرة ، كقول الله تعالى : (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) ونحو ذلك ، قال السدي في تفسيره : اجتمع علمهم في الآخرة ، ومعناها عنده : أي علموا في الآخرة أن الذي كانوا يوعدون به حق. وقال الأزهري : والقول في تفسير أدرك وأدارك ومعنى الآية : ما قال السدي وذهب إليه أبو معاذ وأبو سعيد. والذي قاله الفراء في معنى تدارك أي تتابع علمهم في الآخرة ، أنها تكون أو لا تكون ليس بالبين ، إنما المعنى : أنه تتابع علمهم في الآخرة ، وتوطأ حين حقت القيامة ، وخسروا ، وبان لهم صدق ما وعدوا ، حين لا ينفعهم ذلك العلم ا ه.

(19/490)


قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)

يقول : لقد وَعَدنا هذا من قبل محمد واعدون ، وعدوا ذلك آباءنا ، فلم نر لذلك حقيقة ، ولم نتبين له صحة(إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) يقول : قالوا : ما هذا الوعد إلا ما سطَّر الأوّلون من الأكاذيب في كتبهم ، فأثبتوه فيها وتحدّثوا به من غير أن يكون له صحة.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُل ) يا محمد لهؤلاء المكذّبين ما جئتهم به من الأنباء من عند ربك : (سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا ) إلى ديار من كان قبلكم من المكذّبين رسل الله ومساكنهم كيف هي ، ألم يخرّبها الله ، ويهلك أهلها بتكذيبهم رسلهم ، وردّهم عليهم نصائحهم فخلت منهم الديار وتعفَّت منهم الرسوم والآثار ، فإن ذلك كان عاقبة إجرامهم ، وذلك سنة ربكم في كلّ من سلك سبيلهم في تكذيب رسل ربهم ، والله فاعل ذلك بكم إن أنتم لم تبادروا الإنابة من كفركم وتكذيبكم رسول ربكم.
وقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تحزن على إدبار هؤلاء المشركين عنك وتكذيبهم لك(وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) يقول : ولا يضق صدرك من مكرهم بك ، فإن الله ناصرك عليهم ، ومهلكهم قتلا بالسيف.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) }
يقول تعالى ذكره : ويقول مشركو قومك يا محمد ، المكذبوك فيما أتيتهم به من عند ربك : ( مَتَى ) يكون(هَذَا الْوَعْدُ ) الذي تعدُناه من العذاب ، الذي هو بنا فيما تقول حالّ ، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) فيما تعدوننا به(قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ ) يقول جلّ جلاله : قل لهم يا محمد : عسى أن يكون اقترب لكم ودنا(بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ) من عذاب الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/491)


*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ ) يقول : اقترب لكم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ) يقول : اقترب لكم بعض الذي تستعجلون.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ ) قال : ردف : أعجل لكم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد قوله : (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ) قال : أزِف.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (رَدِفَ لَكُمْ ) اقترب لكم.
واختلف أهل العربية في وجه دخول اللام في قوله : (رَدِفَ لَكُمْ ) وكلام العرب المعروف : ردفه أمرٌ ، وأردفه ، كما يقال : تبعه وأتبعه ، فقال بعض نحويي البصرة : أدخل اللام في ذلك فأضاف بها الفعل كما يقال : (لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ )و(لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) .
وقال بعض نحويي الكوفة : أدخل اللام في ذلك للمعنى ؛ لأن معناه : دنا لهم ، كما قال الشاعر :
فَقُلْتُ لَها الحَاجَاتُ يَطْرَحْنَ بالفَتى (1)
فأدخل الباء في يطرحن ، وإنما يقال طرحته ، لأن معنى الطرح : الرمي ، فأدخل الباء للمعنى ، إذ كان معنى ذلك يرمين بالفتى ، وهذا القول الثاني هو أولاهما عندي بالصواب ، وقد مضى البيان عن نظائره في غير موضع من الكتاب ، بما أغنى عن تكراره
__________
(1) هذا صدر بيت من شواهد الفراء في (معاني القرآن ص 236 من مصورة جامعة القاهرة) وعجزه : * وهم تعناني معنى ركائبه *
وهو في (اللسان : عنا) وفي روايته " تعناه " في موضع تعناني. قال : وعانى الشيء : قاساه. يقال : عاناه وتعناه ، وتعنى هو. وقال : " فقلت.. " إلخ والبيت شاهد على أن الباء في بالفتى زائدة مثلها في قوله تعالى (ردف لكم)

(19/492)


وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)

في هذا الموضع.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( تَسْتَعْجِلُونَ ) قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : (رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ) قال : من العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) }
يقول تعالى ذكره : (وَإِنَّ رَبَّكَ ) يا محمد(لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) بتركه معاجلتهم بالعقوبة على معصيتهم إياه ، وكفرهم به ، وذو إحسان إليهم في ذلك وفي غيره من نعمه عندهم(وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ) لا يشكرونه على ذلك من إحسانه وفضله عليهم ، فيخلصوا له العبادة ، ولكنهم يشركون معه في العبادة ما يضرّهم ولا ينفعهم ومن لا فضل له عندهم ولا إحسان.
وقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ) يقول : وإن ربك ليعلم ضمائر صدور خلقه ، ومكنون أنفسهم ، وخفيّ أسرارهم ، وعلانية أمورهم الظاهرة ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، وهو محصيها عليهم حتى يجازي جميعهم بالإحسان إحسانا وبالإساءة جزاءها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ) قال : السر.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) }
يقول تعالى ذكره : (وَمَا مِنْ ) مكتوم سرّ وخفيّ أمر يغيب عن أبصار الناظرين

(19/493)


(فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ ) وهو أمّ الكتاب الذي أثبت ربنا فيه كلّ ما هو كائن من لدن ابتدأ خلق خلقه إلى يوم القيامة. ويعني بقوله : ( مُبِين ) أنه يبين لمن نظر إليه ، وقرأ ما فيه مما أثبت فيه ربنا جلّ ثناؤه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) يقول : ما من شيء في السماء والأرض ، سرّ ولا علانية إلا يعلمه.
وقوله : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )يقول تعالى ذكره : إن هذا القرآن الذي أنزلته إليك يا محمد يقصّ على بني إسرائيل الحقّ ، في أكثر الأشياء التي اختلفوا فيها ، وذلك كالذي اختلفوا فيه من أمر عيسى ، فقالت اليهود فيه ما قالت ، وقالت النصارى فيه ما قالت ، وتبرأ لاختلافهم فيه هؤلاء من هؤلاء ، وهؤلاء من هؤلاء ، وغير ذلك من الأمور التي اختلفوا فيها ، فقال جلّ ثناؤه لهم : إن هذا القرآن يقصّ عليكم الحق فيما اختلفتم فيه فاتبعوه ، وأقرّوا لما فيه ، فإنه يقص عليكم بالحقّ ، ويهديكم إلى سبيل الرشاد.

(19/494)


وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) }
يقول تعالى ذكره : إن هذا القرآن لهدى ، يقول : لبيان من الله ، بَيَّنَ به الحق فيما اختلف فيه خلقه من أمور دينهم(وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول : ورحمة لمن صدق به وعمل بما فيه ، (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ) يقول : إن ربك يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل بحكمه فيهم ، فينتقم من المبطل منهم ، ويجازي المحسن منهم المحقّ بجزائه ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) يقول : وربك العزيز في انتقامه من المبطل منهم ومن غيرهم ، لا يقدر أحد على منعه من الانتقام منه إذا انتقم العليم بالمحق المحسن من هؤلاء المختلفين من بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه ، ومن غيرهم من المبطل الضالّ عن الهدى.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ

(19/494)


فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)

الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ففوِّض إلى الله يا محمد أمورك ، وثق به فيها ، فإنه كافيك.(إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ) لمن تأمَّله ، وفكر ما فيه بعقل ، وتدبره بفهم ، أنه الحقّ ، دون ما عليه اليهود والنصارى ، المختلفون من بني إسرائيل ، ودون ما عليه أهل الأوثان ، المكذّبوك فيما أتيتهم به من الحقّ ، يقول : فلا يحزنك تكذيب من كذّبك ، وخلاف من خالفك ، وامض لأمر ربك الذي بعثك به.
وقوله : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ) يقول : إنك يا محمد لا تقدر أن تُفِهم الحقّ من طبع الله على قلبه فأماته ، لأن الله قد ختم عليه أن لا يفهمه(وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ ) يقول : ولا تقدر أن تسمع ذلك من أصمّ الله عن سماعه سمعه(إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) يقول : إذا هم أدبروا معرضين عنه ، لا يسمعون له لغلبة دين الكفر على قلوبهم ، ولا يُصغون للحقّ ، ولا يتدبرونه ، ولا ينصتون لقائله ، ولكنهم يعرضون عنه ، وينكرون القول به ، والاستماع له.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ (82) }
اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : ( وَمَا أَنْتَ بِهَادِي ) بالياء والألف وإضافته إلى العمي بمعنى : لست يا محمد بهادي من عمي عن الحقّ(عَنْ ضَلالَتِهِمْ ). وقراءة عامة قرّاء الكوفة " وَمَا أنْتَ تَهْدِي العُمْيَ " بالتاء ونصب العمي ، بمعنى : ولست تهديهم(عَنْ ضَلالَتِهِمْ ) ولكن الله يهديهم إن شاء.
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى مشهورتان في قرّاء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وتأويل الكلام ما وصفت(وَمَا أَنْتَ ) يا محمد( بِهادِي ) من أعماه الله عن الهدى والرشاد فجعل على بصره غشاوة أن يتبين سبيل الرشاد عن ضلالته التي هو فيها إلى طريق الرشاد وسبيل الرشاد. وقوله : (إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا )

(19/495)


يقول : ما تقدر أن تُفهم الحقّ وتوعيه أحدا إلا سمع من يصدّق بآياتنا ، يعني بأدلته وحججه وآي تنزيله( فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) فإن أولئك يسمعون منك ما تقول ويتدبرونه ، ويفكرون فيه ، ويعملون به ، فهم الذين يسمعون.
* ذكر من قال مثل الذي قلنا في قوله تعالى : ( وَقَعَ ) (1)
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (وإذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) قال : حقّ عليهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : (وإذا وقع الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) يقول : إذا وجب القول عليهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : (وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) قال : حقّ العذاب.
قال ابن جُرَيج : القول : العذاب.
*ذكر من قال قولنا في معنى القول :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : (وإذا وقع القول عَلَيْهِمْ ) والقول : الغضب.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن هشام ، عن حفصة ، قالت : سألت أبا العالية ، عن قوله : (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) فقال : أوحى الله إلى نوح(أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ ) قالت : فكأنما كان على وجهي غطاء فكشف.
وقال جماعة من أهل العلم : خروج هذه الدابة التي ذكرها حين لا يأمر الناس بمعروف ولا ينهون عن منكر.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية العوفي ، عن ابن عمر في قوله : ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ ) قال : هو حين لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا محمد بن الحسن أبو الحسن ، قال : ثنا عمرو
__________
(1) سقط كلام المؤلف في تأويل الآية رقم 82 ، ويدل عليه إيراد كلام أهل التأويل فيه.

(19/496)


بن قيس الملائي ، عن عطية ، عن ابن عمر ، في قوله : ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ ) قال : ذاك إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، عن ابن عمر ، في قوله : (أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) قال : حين لا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر.
حدثني محمد بن عمرو المقدسي ، قال : ثنا أشعث بن عبد الله السجستاني ، قال : ثنا شعبة ، عن عطية ، في قوله : (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تُكَلِّمُهُمْ ) قال : إذا لم يعرفوا معروفا ، ولم ينكروا منكرا.
وذُكر أن الأرض التي تخرج منها الدابة مكة.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثني الأشجعي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن ابن عمر ، قال : تخرج الدابة من صَدع في الصفا ، كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو بن قيس ، عن الفرات القزاز ، عن عامر بن واثلة أبي الطفيل ، عن حُذيفة بن أسيد الغفاري ، قال : إن الدابة حين تخرج يراها بعض الناس فيقولون : والله لقد رأينا الدابة ، حتى يبلغ ذلك الإمام ، فيطلب فلا يقدر على شيء. قال : ثم تخرج فيراها الناس ، فيقولون : والله لقد رأيناها ، فيبلغ ذلك الإمام فيطلب فلا يرى شيئا ، فيقول : أما إني إذا حدث الذي يذكرها قال : حتى يعدّ فيها القتل ، قال : فتخرج ، فإذا رآها الناس دخلوا المسجد يصلون ، فتجيء إليهم فتقول : الآن تصلون ، فتخطم الكافر ، وتمسح على جبين المسلم غرّة ، قال : فيعيش الناس زمانا يقول هذا : يا مؤمن ، وهذا : يا كافر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عثمان بن مطر ، عن واصل مولى أبي عيينة ، عن أبي الطفيل ، عن حُذيفة ، وأبي سفيان ، ثنا عن معمر ، عن قيس بن سعد ، عن أبي الطفيل ، عن حُذيفة بن أسيد ، في قوله : (أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) قال : للدابة ثلاث خرجات : خرجة في بعض البوادي ثم تكمن ، وخرجة في بعض القُرى حين يهرَيق فيها الأمراء الدماء ، ثم تكمن ، فبينا الناس عند أشرف المساجد وأعظمها وأفضلها ، إذ ارتفعت بهم الأرض ، فانطلق الناس هرابا ، وتبقى طائفة من

(19/497)


المؤمنين ، ويقولون : إنه لا ينجينا من الله شيء ، فتخرج عليهم الدابة تجلو وجوههم مثل الكوكب الدرّيّ ، ثم تنطلق فلا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ، وتأتي الرجل يصلي ، فتقول : والله ما كنت من أهل الصلاة ، فيلتفت إليها فتخطمه ، قال : تجلو وجه المؤمن ، وتخطم الكافر ، قلنا : فما الناس يومئذٍ ؟ قال : جيران في الرباع ، وشركاء في الأموال ، وأصحاب في الأسفار.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن الوليد بن جميع ، عن عبد الملك بن المُغيرة ، عن عبد الرحمن بن البيلماني ، عن ابن عمر : يبيت الناس يسيرون إلى جمع ، وتبيت دابة الأرض تسايرهم ، فيصبحون وقد خطمتهم من رأسها وذنبها ، فما من مؤمن إلا مسحته ، ولا من كافر ولا منافق إلا تخبطه.
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا الخيبري ، عن حيان بن عمير ، عن حسان بن حمصة ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : لو شئت لانتعلت بنعليّ هاتين ، فلم أمسّ الأرض قاعدا حتى أقف على الأحجار التي تخرج الدابة من بينها ، ولكأني بها قد خرجت في عقب ركب من الحاجِّ ، قال : فما حججت قطّ إلا خفت تخرج بعقبنا.
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء ، قال : رأيت عبد الله بن عمرو ، وكان منزله قريبا من الصفا ، رفع قدمه وهو قائم ، وقال : لو شئت لم أضعها حتى أضعها على المكان الذي تخرج منه الدابة.
حدثنا عصام بن روّاد بن الجراح ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا سفيان بن سعيد الثوريّ ، قال : ثنا منصور بن المعتمر ، عن ربعي بن حراش ، قال : سمعت حُذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : وذكر الدابة ، فقال حُذيفة : قلت يا رسول الله ، من أين تخرج ؟ قال : " مِنْ أَعْظَمِ المَساجِدِ حُرْمَةً عَلى اللهِ ، بَيْنَما عِيسَى يَطُوفُ بالبَيْتِ وَمَعَهُ المُسْلِمُونَ ، إذْ تَضْطَرِبُ الأرْضُ تحْتَهُمْ ، تُحَرُّكَ القِنْديلِ ، وَيَنْشَق الصَّفا ممَّا يَلي المَسْعَى ، وَتَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنَ الصَّفا ، أوَّلُ ما يَبْدُو رأْسُها ، مُلَمَّعَةٌ ذَاتُ وَبَرٍ وَرِيشٍ ، لَمْ يُدْرِكْها طالبٌ ، وَلَنْ يَفُوتَها هاربٌ ، تَسِمُ النَّاسَ مُؤْمِنٌ وكافِرٌ ، أمَّا المُؤْمِنُ فَتَتْرُكَ وَجْهَهُ كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرّيّ ، وتَكْتُبُ بينَ عَيْنَيْهِ مُؤْمِنٌ ، وأمَّا الكافُِر فَتَنْكُتُ بينَ عَيْنَيْهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاء كافِرٌ " .

(19/498)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو الحسين ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن أوس بن خالد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمَانَ وَعَصَا مُوسَى ، فَتَجْلُو وَجْهَ المُؤْمِنِ بالْعَصَا ، وَتَخْتِمُ أنْفَ الكَافِرِ بِالْخَاتَمِ ، حَتَّى إنَّ أَهْلَ البَيْتِ لَيَجْتَمِعُونَ فَيَقُولُ هذَا. يا مُؤْمِنُ ، وَيَقُولُ هَذَا : يا كافِرُ " .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قال : هي دابة ذات زغب وريش ، ولها أربع قوائم تخرج من بعض أودية تهامة ، قال : قال عبد الله بن عمر : إنها تنكت في وجه الكافر نكتة سوداء ، فتفشو في وجهه ، فيسودّ وجهه ، وتنكت في وجه المؤمن نكتة بيضاء فتفشو في وجه ، حتى يبيضّ وجهه ، فيجلس أهل البيت على المائدة ، فيعرفون المؤمن من الكافر ، ويتبايعون في الأسواق ، فيعرفون المؤمن من الكافر.
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : ثنا ابن لهيعة ويحيى بن أيوب ، قالا ثنا ابن الهاد ، عن عمر بن الحكم ، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : تخرج الدابة من شعب ، فيمسّ رأسها السحاب ، ورجلاها في الأرض ما خرجتا ، فتمرّ بالإنسان يصلي ، فتقول : ما الصلاة من حاجتك فتخطمه.
حدثنا صالح بن مسمار ، قال : ثنا ابن أبي فديك ، قال : ثنا يزيد بن عياض ، عن محمد بن إسحاق ، أنه بلغه عن عبد الله بن عمرو ، قال : تخرج دابة الأرض ومعها خاتم سليمان وعصا موسى ، فأما الكافر فتختم بين عينيه بخاتم سليمان ، وأما المؤمن فتمسح وجهه بعصا موسى فيبيض.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( تُكَلِّمُهُمْ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : ( تُكَلِّمُهُمْ ) بضم التاء وتشديد اللام ، بمعنى تخبرهم وتحدثهم ، وقرأه أبو زرعة بن عمرو : " تَكْلِمُهُمْ " بفتح التاء وتخفيف اللام بمعنى : تسمهم.
والقراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : (أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) قال : تحدثهم.

(19/499)


وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : (أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) وهي في بعض القراءة " تحدثهم " تقول لهم : (أن الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، في قوله : ( تُكَلِّمُهُمْ ) قال : كلامها تنبئهم(أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ َ ).
وقوله : (أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة والشام : " إنَّ النَّاسَ " بكسر الألف من " إن " على وجه الابتداء بالخبر عن الناس أنهم كانوا بآيات الله لا يوقنون; وهي وإن كسرت في قراءة هؤلاء فإن الكلام لها متناول. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة وبعض أهل البصرة : (أَنَّ النَّاسَ كَانُوا ) بفتح أن بمعنى : تكلمهم بأن الناس ، فيكون حينئذ نصب بوقوع الكلام عليها.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان متقاربتا المعنى مستفيضتان في قراءة الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) }
يقول تعالى ذكره : ويوم نجمع من كل قرن وملة فوجا ، يعني جماعة منهم ، وزمرة(مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا ) يقول : ممن يكذّب بأدلتنا وحججنا ، فهو يحبس أوّلهم على آخرهم ، ليجتمع جميعهم ، ثم يساقون إلى النار.
وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ) يعني : الشيعة عند الحشر.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني

(19/500)


وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)

الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ) قال : زمرة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ) قال : زمرة زمرة(فَهُمْ يُوزَعُونَ ).
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ) قال : يقول : فهم يدفعون.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : ( فَهُمْ يُوزَعُونَ ) قال : يحبس أولهم على آخرهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ( فَهُمْ يُوزَعُونَ ) قال : وزعة تردّ أولاهم على أخرهم.
وقد بيَّنت معنى قوله : ( يُوزَعُونَ ) فيما مضى قبل بشواهده ، فأغني ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله : ( حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي ) يقول تعالى ذكره : حتى إذا جاء من كل أمة فوج ممن يكذب بآياتنا فاجتمعوا قال الله : ( أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي ) أي : بحججي وأدلتي( وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا ) يقول : ولم تعرفوها حق معرفتها ، ( أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) فيها من تكذيب أو تصديق.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) }
يقول تعالى ذكره : ووجب السخط والغضب من الله على المكذّبين بآياته( بِمَا ظَلَمُوا ) يعني بتكذيبهم بآيات الله ، يوم يحشرون(فهم لا ينطقون )
يقول : فهم لا ينطقون بحجة يدفعون بها عن أنفسهم عظيم ما حلّ بهم ووقع عليهم من القول. وقوله : ( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ ) يقول تعالى ذكره : ألم ير هؤلاء المكذّبون بآياتنا تصريفنا الليل والنهار ، ومخالفتنا بينهما بتصييرنا هذا سكنًا لهم يسكنون فيه ويهدءون ، راحة أبدانهم من تعب التصرِّف والتقلب نهارا ، وهذا مضيئا يبصرون فيه الأشياء ويعاينونها

(19/501)


وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)

فيتقلبون فيه لمعايشهم ، فيتفكروا في ذلك ، ويتدبروا ، ويعلموا أن مصرِّف ذلك كذلك هو الإله الذي لا يعجزه شيء ، ولا يتعذر عليه إماتة الأحياء ، وإحياء الأموات بعد الممات ، كما لم يتعذر عليه الذهاب بالنهار والمجيء بالليل ، والمجيء بالنهار والذهاب بالليل مع اختلاف أحوالهما(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يقول تعالى ذكره : إن في تصييرنا الليل سكنا ، والنهار مبصرا لدلالة لقوم يؤمنون بالله على قدرته على ما آمنوا به من البعث بعد الموت ، وحجة لهم على توحيد الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى : ( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) وقد ذكرنا اختلافهم فيما مضى ، وبيَّنا الصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده ، غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ما لم يذكر هناك من الأخبار ، فقال بعضهم : هو قرن يُنفخ فيه.
*ذكر بعض من لم يُذكر فيما مضى قبل من الخبر عن ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (ويوم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) قال كهيئة البوق.
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : الصور : البوق قال : هو البوق صاحبه آخذ به يقبض قبضتين بكفيه على طرف القرن ، بين طرفه وبين فيه قدر قبضة أو نحوها ، قد برك على ركبة إحدى رجليه ، فأشار ، فبرك على ركبة يساره مقعيًا على قدمها عقبها تحت فخذه وأليته وأطراف أصابعها في التراب.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : الصور كهيئة القرن قد رفع إحدى ركبتيه إلى السماء ، وخفض الأخرى ، لم يلق جفون عينه على غمض منذ خلق الله السموات مستعدًا مستجدًا ، قد وضع الصور على فيه ينتظر متى يؤمر أن ينفخ فيه.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع

(19/502)


المدني ، عن يزيد بن زياد - قال أبو جعفر : والصواب : يزيد بن أبي زياد - عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة : أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، ما الصور ؟ قال : " قَرنٌ " ، قال : وكيف هو ؟ قال : " قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ : الأولى : نَفْخَةُ الفَزَعِ ، والثَّانِيَةُ : نَفْخَةُ الصَّعْقِ ، والثَّالِثَةُ : نَفْخَةُ القِيَامِ لِلهِ رَبِّ العَالَمينَ ، يَأْمُرُ اللهُ إسْرَافِيلَ بالنَّفْخَةِ الأولى ، فيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَيَفْزَعُ أهْلُ السَّمَوَاتِ وأَهْلُ الأرْضِ ، إلا مَنْ شاءَ اللهُ ، وَيأْمُرُهُ اللهُ فَيَمُدُّ بِها ويطوِّلهَا ، فَلا يَفْتُرُ ، وَهيَ الَّتي يَقُولُ اللهُ : ( وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) فَيُسَيِّرُ اللهُ الجِبالَ ، فَتَكُون سَرَابا ، وَتُرَجُّ الأرْضُ بأهْلِها رجا ، وهي التي يقول الله : ( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ) فَتَكُونُ الأرضُ كالسَّفِينَةِ المُوثَقَةِ فِي البَحْرِ ، تَضْرِبُها الأمْوَاجُ ، تُكْفأ بأَهْلِها ، أوْ كالقِنْدِيِل المُعَلَّقِ بالوَتَر ، تُرَجِّحُهُ الأرْياحُ ، فَتَمِيدُ النَّاسُ على ظَهْرها ، فَتَذْهَلُ المَرَاضِعُ ، وَتَضَعُ الحَوَامِلُ ، وَتَشِيبُ الولْدَانُ ، وَتَطِيرُ الشَّياطِينُ هارِبَةً ، حَتَّى تَأتِي الأقْطار ، فَتَتَلَقَّاهَا المَلائِكَةُ ، فَتَضْرِبُ وُجُوهَها ، فَتَرْجِعُ ، وَيُوَلي النَّاسُ مُدْبِرينَ يُنادي بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَهُوَ الَّذِي يَقُوُل اللهُ : ( يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) فبَيْنَما هُمْ عَلى ذلكَ إذْ تَصَدَّعَتِ الأرْضُ مِنْ قُطْرٍ إلى قُطْرٍ ، فَرَأوَا أمْرًا عَظِيما ، فَأَخَذَهُمْ لِذَلكَ مِنَ الكَرْب ما اللهُ أعْلَمُ بِهِ ، ثُمَّ نَظَرُوا إلى السَّماءِ ، فإذَا هِي كَالمُهْلِ ، ثُمَّ خُسِفَ شَمْسُها وَقَمَرُها ، وانْتَثَرتْ نُجُومُها ، ثُمَّ كُشِطَتْ عَنْهُمْ " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والأمْوَاتُ لا يعْلَمُون بِشَيْءٍ مِنْ ذلكَ ، فقال أبو هريرة : يا رسول الله ، فمن استثنى الله حين يقول : ( فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) قال : " أولَئِكَ الشُّهَدَاءُ ، وإنَّمَا يَصِلُ الفَزَعُ إلى الأحْياءِ ، أُولَئِكَ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، وَقاهُمُ اللهُ فَزَعَ ذَلِكَ الْيَومِ وآمَنَهُمْ ، وَهُوَ عَذَابُ اللهِ يَبْعَثُهُ عَلى شِرارِ خَلْقِه " .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا إسماعيل بن رافع ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله تَبارَكَ وتَعالى لَمَّا فَرَغَ مِنَ السَّمَواتِ والأرْضِ ، خَلَقَ الصُّورَ فَأعْطاهُ مَلَكًا ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ ، شَاخِصٌ بِبَصَرِه إلى العَرْشِ ، يَنْتَظِرُ مَتى يُؤمَرُ " . قال : قُلْتُ : يا رسول الله ، وما

(19/503)


الصُّورُ ؟ قال : " قَرْنٌ " ، قلت : فكيف هو ؟ قال : " عَظِيمٌ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ ، إنَّ عِظَمَ دائِرَةٍ فيه ، لَكَعَرْضِ السَّمَوَاتِ والأرْض ، يَأْمُرُهُ فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَيفْزَعُ أهْلُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ إلا مَنْ شاءَ اللهِ " ، ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث أبي كُرَيب عن المحاربي ، غير أنه قال في حديثه " كالسفينة المرفأة في البحر " .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ونفخ في صور الخلق.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) أي في الخلق. قوله : (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ ) يقول : ففزع من في السموات من الملائكة ومن في الأرض من الجن والإنس والشياطين ، من هول ما يعاينون ذلك اليوم.
فإن قال قائل : وكيف قيل : (فَفَزِعَ) ، فجعل فزع وهي فعل مردودة على ينفخ ، وهي يَفْعُلُ ؟ قيل : العرب تفعل ذلك في المواضع التي تصلح فيها إذا ، لأن إذا يصلح معها فعل ويفعل ، كقولك : أزورك إذا زرتني ، وأزورك إذا تزورني ، فإذا وضع مكان إذا يوم أجرى مجرى إذا. فإن قيل : فأين جواب قوله : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ ) ؟ قيل : جائز أن يكون مضمرا مع الواو ، كأنه قيل : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ، وذلك يوم ينفخ في الصور. وجائز أن يكون متروكا اكتفي بدلالة الكلام عليه منه ، كما قيل : ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) فترك جوابه.
وقوله : ( إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) قيل : إن الذين استثناهم الله في هذا الموضع من أن ينالهم الفزع يومئذ الشهداء ، وذلك أنهم أحياء عند ربهم يُرزقون ، وإن كانوا في عداد الموتى عند أهل الدنيا ، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرناه في الخبر الماضي.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام عمن حدثه ، عن أبي هريرة ، أنه قرأ هذه الآية : (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) قال : هم الشهداء.
وقوله : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) يقول : وكلّ أتوه صاغرين.
وبمثل الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

(19/504)


وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)

ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) يقول : صاغرين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ( وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) قال : صاغرين.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) قال : الداخر : الصاغر الراغم ، قال : لأن المرء الذي يفزع إذا فزع إنما همته الهرب من الأمر الذي فزع منه ، قال : فلما نُفخ في الصور فزعوا ، فلم يكن لهم من الله منجى.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار : " وَكُل آتَوهُ " بمدّ الألف من أتوه على مثال فاعلوه (1) سوى ابن مسعود ، فإنه قرأه : " وكُلٌّ أتُوهُ " على مثال فعلوه ، واتبعه على القراءة به المتأخرون الأعمش وحمزة ، واعتلّ الذين قرءوا ذلك على مثال فاعلوه بإجماع القراء على قوله : ( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ ) قالوا : فكذلك قوله : " آتَوهُ " في الجمع. وأما الذين قرءوا على قراءة عبد الله ، فإنهم ردوه على قوله : ( فَفَزِعَ ) كأنهم وجَّهوا معنى الكلام إلى : ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض ، وأتوه كلهم داخرين ، كما يقال في الكلام : رأى وفر وعاد وهو صاغر.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، ومتقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) }
يقول تعالى ذكره : ( وَتَرَى الْجِبَالَ ) يا محمد( تَحْسبَهُا ) قائمة(وهي تَمُرُّ ).
كالذي حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن
__________
(1) آتوه : جمع آتى بوزن فاعل. وأصله آتيوه ، نقلت الضمة من الياء لاستثقالها إلى التاء ، ثم حذفت الياء ، لسكونها وسكون الواو بعدها فصار آتوه على وزن فاعلوه. ووزنها قبل حذف الياء فاعلوه ، وهو الذي أراده المؤلف.

(19/505)


ابن عباس ، قوله : ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ) يقول : قائمة. وإنما قيل : ( وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ) لأنها تجمع ثم تسير ، فيحسب رائيها لكثرتها أنها واقفة ، وهي تسير سيرا حثيثا ، كما قال الجعدي :
بِأَرْعَنَ مِثْلَ الطَّوْدِ تَحْسِبُ أَنَّهُمْ... وُقُوفٌ لحِاجٍ والرّكابُ تُهَمْلجُ (1)
قوله : ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) وأوثق خلقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) يقول : أحكم كلّ شيء.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) يقول : أحسن كلّ شيء خلقه وأوثقه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) قال : أوثق كلّ شيء وسوّى.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( أتْقَنَ ) أوثق.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : ( إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) يقول تعالى ذكره : إن الله ذو علم وخبرة بما يفعل عباده من خير وشرّ وطاعة له ومعصية ، وهو مجازي جميعهم على جميع ذلك على الخير الخيرَ ، وعلى الشرِّ الشرّ نظيره.
__________
(1) الأرعن : يريد به الجيش العظيم ، شبهه بالجبل الضخم ذي الرعان ، وهي الفضول ، كرعان الجبال. والرعن الأنف العظيم من الجبل تراه متقدمًا. وقيل الأرعن : هو المضطرب لكثرته. والطود : الجبل العظيم والحاج : جمع حاجة ، وتهملج : تمشى الهملجة ، والهملجة : سير حسن في سرعة ، والبيت شاهد على أن الشيء الضخم تراه وهو يتحرك ، فتحسبه ساكنًا ، مع أنه مسرع في سيره جدًا ، وذلك كسير الجيش ، وكسير السفينة في البحر ، يحسبها الناظر إليها وهي مجدة في سيرها ، كأنها واقفة. وذلك هو شأن الجبال عند القيامة : تراها كأنها جامدة ، وهي تسير مسرعة كالسحاب.

(19/506)


مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)

القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) }
يقول تعالى ذكره : ( مَنْ جَاءَ ) الله بتوحيده والإيمان به ، وقول لا إله إلا الله موقنا به قلبه( فَلَهُ ) من هذه الحسنة عند الله( خَيرٌ ) يوم القيامة ، وذلك الخير أن يثيبه الله( مِنْهَا ) الجنة ، ويؤمنِّه( مِنْ فَزَعٍ ) الصيحة الكبرى وهي النفخ في الصور.( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ) يقول : ومن جاء بالشرك به يوم يلقاه ، وجحود وحدانيته( فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ ) في نار جهنم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : ثني الفضل بن دكين ، قال : ثنا يحيى بن أيوب البجلي ، قال : سمعت أبا زرعة ، قال : قال أبو هُريرة - قال يحيى : أحسبه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) قال : وهي لا إله إلا الله(وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) قال : وهي الشرك " .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا أبو يحيى الحماني ، عن النضر بن عربيّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) قال : من جاء بلا إله إلا الله ، ( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) ، قال : بالشرك.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ) يقول : من جاء بلا إله إلا الله( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ) وهو الشرك.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ) قال : بالشرك.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني

(19/507)


الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ ) قال : كلمة الإخلاص( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ) قال : الشرك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد بنحوه. قال ابن جُرَيج : وسمعت عطاء يقول فيها الشرك ، يعني في قوله : (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن أبي المحجل ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، قال : كان يحلف ما يستثني ، أنَّ(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ ) قال : لا إله إلا الله ، ( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ) قال : الشرك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء مثله.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : ثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب : ( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) قال : الشرك.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا حفص ، قال : ثنا سعيد بن سعيد ، عن عليّ بن الحسين ، وكان رجلا غزّاء ، قال : بينا هو في بعض خلواته حتى رفع صوته : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له المُلك وله الحمد يحيي ويميت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير; قال : فردّ عليه رجل : ما تقول يا عبد الله ؟ قال : أقول ما تسمع ، قال : أما إنها الكلمة التي قال الله : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ ) قال : الإخلاص(وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ) قال : الشرك.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ) يعني : الشرك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الحسن : ( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ) يقول : الشرك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) قال : السيئة : الشرك الكفر.

(19/508)


حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : ثنا حفص بن عمر العدني ، قال : ثنا الحكم بن أبان ، عن عكرِمة ، قوله : (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ ) قال : شهادة أن لا إله إلا الله(وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ) قال : السيئة : الشرك. قال الحكم : قال عكرمة : كل شيء في القرآن السيئة فهو الشرك.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ) قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ( فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ) فمنها وصل إليه الخير ، يعني ابن عباس بذلك : من الحسنة وصل إلى الذي جاء بها الخير.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا روح بن عبادة ، قال : ثنا حسين الشهيد ، عن الحسن : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ) قال : له منها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الحسن ، قال : من جاء بلا إله إلا الله ، فله خير منها خيرا (1) .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (فله خير مِنْهَا ) يقول : له منها حظّ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ) قال : له منها خير; فأما أن يكون خيرا من الإيمان فلا ولكن منها خير يصيب منها خيرا.
حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا حفص بن عمر ، قال : ثنا الحكم ، عن عكرمة ، قوله : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ) قال : ليس شيء خيرا من لا إله إلا الله ، ولكن له منها خير.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ) قال : أعطاه الله بالواحدة عشرا ، فهذا خير منها.
__________
(1) يريد أن (من) ليست للتفضيل ، ولذلك قدمها على خير ، وإنما هي للتعليل أو نحوه.

(19/509)


إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) فقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة : " وَهُمْ مِنْ فَزعِ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ " بإضافة فزع إلى اليوم. وقرأ ذلك جماعة قرّاء أهل الكوفة : ( مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ) بتنوين فزع.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، غير أن الإضافة أعجب إليّ ، لأنه فزع معلوم. وإذا كان ذلك كذلك كان معرفة على أن ذلك في سياق قوله : ( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) فإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنه عني بقوله : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) من الفزع الذي قد جرى ذكره قبله. وإذا كان ذلك كذلك ، كان لا شك أنه معرفة ، وأن الإضافة إذا كان معرفة به أولى من ترك الإضافة; وأخرى أن ذلك إذا أضيف فهو أبين أنه خبر عن أمانه من كلّ أهوال ذلك اليوم منه إذا لم يضف ذلك ، وذلك أنه إذا لم يضف كان الأغلب عليه أنه جعل الأمان من فزع بعض أهواله.
وقوله : ( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول تعالى ذكره. يقال لهم : هل تجزون أيها المشركون إلا ما كنتم تعملون ، إذ كبكم الله لوجوهكم في النار ، وإلا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا بما يسخط ربكم; وترك " يقال لهم " اكتفاء بدلالة الكلام عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد قل( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ ) وهي مكة(الَّذِي حَرَّمَهَا ) على خلقه أن يسفكوا فيها دما حراما ، أو يظلموا فيها أحدا ، أو يصاد صيدها ، أو يختلى خلاها دون الأوثان التي تعبدونها أيها المشركون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (إنما أمرت أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا ) يعني : مكة.

(19/510)


وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

وقوله : ( وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ) يقول : ولرب هذه البلدة الأشياء كلها ملكا. فإياه أمرت أن أعبد ، لا من لا يملك شيئا. وإنما قال جلّ ثناؤه : ( رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا ) فخصها بالذكر دون سائر البلدان ، وهو ربّ البلاد كلها ، لأنه أراد تعريف المشركين من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين هم أهل مكة ، بذلك نعمته عليهم ، وإحسانه إليهم ، وأن الذي ينبغي لهم أن يعبدوه هو الذي حرّم بلدهم ، فمنع الناس منهم ، وهم في سائر البلاد يأكل بعضهم بعضا ، ويقتل بعضهم بعضا ، لا من لم تجر له عليهم نعمة ، ولا يقدر لهم على نفع ولا ضرّ. وقوله : ( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) يقول : وأمرني ربي أن أسلم وجهي له حنيفا ، فأكون من المسلمين الذين دانوا بدين خليله إبراهيم وجدكم أيها المشركون ، لا من خالف دين جدّه المحق ، ودان دين إبليس عدوّ الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) }
يقول تعالى ذكره : (قل إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة) و(أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى ) يقول : فمن تبعني وآمن بي وبما جئت به ، فسلك طريق الرشاد( فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) يقول : فإنما يسلك سبيل الصواب باتباعه إياي ، وإيمانه بي ، وبما جئت به لنفسه ، لأنه بإيمانه بي ، وبما جئت به يأمن نقمته في الدنيا وعذابه في الآخرة. وقوله : (وَمَنْ ضَلَّ ) يقول : ومن جار عن قصد السبيل بتكذيبه بي وبما جئت به من عند الله( فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) يقول تعالى ذكره : فقل يا محمد لمن ضلّ عن قصد السبيل ، وكذبك ، ولم يصدّق بما جئت به من عندي : إنما أنا ممن ينذر قومه عذاب الله وسخطه على معصيتهم إياه ، وقد أنذرتكم ذلك معشر كفار قريش ، فإن قبلتم وانتهيتم عما يكرهه الله منكم من الشرك به ، فحظوظَ أنفسكم تصيبون ، وإن رددتم وكذبتم فعلى أنفسكم جنيتم ، وقد بلغتكم ما أمرت بإبلاغه إياكم ، ونصحت لكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) }

(19/511)


يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء القائلين لك من مشركي قومك : (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) : (الْحَمْدُ لِلَّهِ ) على نعمته علينا بتوفيقه إيانا للحق الذي أنتم عنه عمون ، سيريكم ربكم آيات عذابه وسخطه ، فتعرفون بها حقيقة نصحي كان لكم ، ويتبين صدق ما دعوتكم إليه من الرشاد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ) قال : في أنفسكم ، وفي السماء والأرض والرزق.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : (سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ) قال : في أنفسكم والسماء والأرض والرزق.
وقوله : (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يقول تعالى ذكره : وما ربك يا محمد بغافل عما يعمل هؤلاء المشركون ، ولكن لهم أجل هم بالغوه ، فإذا بلغوه فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : فلا يحزنك تكذيبهم إياك ، فإني من وراء إهلاكهم ، وإني لهم بالمرصاد ، فأيقن لنفسك بالنصر ، ولعدوّك بالذلّ والخزي.
آخر تفسير سورة النمل
ولله الحمد والمنة ، وبه الثقة والعصمة.

(19/512)


طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)

تفسير سورة القصص
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : { طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) }
قال أبو جعفر : وقد بيَّنا قبل فيما مضى تأويل قول الله عزَّ وجلَّ : ( طسم ) ، وذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويله . وأما قوله : ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) فإنه يعني : هذه آيات الكتاب الذي أنزلته إليك يا محمد ، المبين أنه من عند الله ، وأنك لم تتقوله : ولم تتخرّصه..
وكان قَتادة فيما ذكر عنه يقول في ذلك ما حدثني بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) يعني مبين والله بركته ورشده وهداه.
وقوله : ( نَتْلُوا عَلَيْك ) يقول : نقرأ عليك ، ونقصّ في هذا القرآن من خبر( مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ ).
كما حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : ( نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ) يقول : في هذا القرآن نبؤهم. وقوله : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يقول : لقوم يصدّقون بهذا الكتاب ، ليعلموا أن ما نتلو عليك من نبئهم فيه نبؤهم ، وتطمئنّ نفوسهم ، بأن سنتنا فيمن خالفك وعاداك من المشركين سنتنا فيمن عادى موسى ، ومن آمن به من بني إسرائيل من فرعون وقومه ، أن نهلكهم كما أهلكناهم ، وننجيهم منهم كما أنجيناهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) }

(19/513)


يقول تعالى ذكره : إن فرعون تجبر في أرض مصر وتكبر ، وعلا أهلها وقهرهم ، حتى أقرّوا له بالعُبُودَةِ.
كما حدثنا محمد بن هارون ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي(إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ) يقول : تجبر في الأرض.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ) أي : بغى في الأرض.
وقوله : ( وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) يعني بالشيع : الفِرَق ، يقول : وجعل أهلَها فرقًا متفرّقين.
كماحدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَجَعَل أَهْلَهَا شِيَعًا) : أي فرقًا يذبح طائفة منهم ، ويستحيي طائفة ، ويعذب طائفة ، ويستعبد طائفة ، قال الله عز وجل : ( يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ).
حدثني موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كان من شأن فرعون أنه رأى رؤيا في منامه ، أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر ، فأحرقت القبط ، وتركت بني إسرائيل ، وأحرقت بيوت مصر ، فدعا السحرة والكهنة والقافة والحازة (1) فسألهم عن رؤياه ، فقالوا له : يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه ، يعنون بيت المقدس ، رجل يكون على وجهه هلاك مصر ، فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه ، ولا تولد لهم جارية إلا تركت ، وقال للقبط : انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجا ، فأدخلوهم ، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة ، فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم ، وأدخلوا غلمانهم ، فذلك حين يقول : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) يعني بني إسرائيل ، حين جعلهم في الأعمال القذرة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
__________
(1) لعله : الحزاة ، بضم الحاء ، جمع الحازي ، وهو المتكهن. قال في (اللسان : حزا) التحزي : التكهن ، حزى حزيًا ، وتحزى : تكهن. ولم نجده في مادة (حوز) معنى التكهن. فلعل ما في الأصل خطأ الناسخ. ويؤيد ما قلناه أنه سيجيء في صفحة 8 سطر 23 صحيحًا كما قلناه.

(19/516)


وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)

( وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) قال : فرّق بينهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) قال : فِرَقا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) قال : الشيع : الفِرَق.
وقوله : ( يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ ) ذكر أن استضعافه إياها كان استعباده.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة : يستعبد طائفة منهم ، ويذبح طائفة ، ويقتل طائفة ، ويستحي طائفة.
وقوله : ( إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) يقول : إنه كان ممن يفسد في الأرض بقتله من لا يستحقّ منه القتل ، واستعباده من ليس له استعباده ، وتجبره في الأرض على أهلها ، وتكبره على عبادة ربه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) }

(19/517)


وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) }
قوله : ( وَنُرِيدُ ) عطف على قوله : ( يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ ) ومعنى الكلام : أن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها ، من بني إسرائيل ، فِرَقًا يستضعِف طائفة منهم(وَ) نَحْنُ( نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ ) استضعفهم فرعون من بني إسرائيل( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ ) قال : بنو إسرائيل.
قوله : ( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ) أي : ولاة وملوكا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

(19/517)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ) أي : ولاة الأمر.
وقوله : ( وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) يقول : ونجعلهم ورَّاث آل فرعون يرثون الأرض من بعد مهلكهم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ) : أي يرثون الأرض بعد فرعون وقومه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة(ونجعلهم الوارثين) يقول : يرثون الأرض بعد فرعون.
وقوله : (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ) يقول : ونوطئ لهم في أرض الشام ومصر( وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا ) كانوا قد أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل ، فكانوا من ذلك على وجل منهم ، ولذلك كان فرعون يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، فأرى الله فرعونَ وهامان وجنودهما ، من بني إسرائيل على يد موسى بن عمران نبيه ، ما كانوا يحذرونه منهم من هلاكهم وخراب منازلهم ودورهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) شيئًا ما حذّر القوم.
قال : وذُكر لنا أن حازيا حزا لعدوّ الله فرعون ، فقال : يولد في هذا العام غلام من بني إسرائيل يسلبك ملكك ، فتتبَّع أبناءهم ذلك العام ، يقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، حذرًا مما قال له الحازي.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قال : كان لفرعون رجل ينظر له ويخبره ، يعني أنه كاهن ، فقال له : إنه يولد في هذا العام غلام يذهب بملككم ، فكان فرعون يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم حذرا ، فذلك قوله : ( وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ).

(19/518)


وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والبصرة ، وبعض الكوفيين : ( وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ) بمعنى : ونري نحن ، بالنون عطفا بذلك على قوله : ( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ ). وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : " وَيَرَى فِرْعَوْنُ " على أن الفعل لفرعون ، بمعنى : ويعاين فرعون ، بالياء من يرى ، ورفع فرعون وهامان والجنود.
والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان معروفتان في قرّاء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب ، لأنه معلوم أن فرعون لم يكن ليرى من موسى ما رأى ، إلا بأن يريه الله عزّ وجلّ منه ، ولم يكن ليريه الله تعالى ذكره ذلك منه إلا رآه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) }
يقول تعالى ذكره : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ) حين ولدت موسى( أَنْ أَرْضِعِيهِ ).
وكان قَتادة يقول ، في معنى ذلك( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ) : قذفنا في قلبها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ) وحيًا جاءها من الله ، فقذف في قلبها ، وليس بوحي نبوة ، أن أرضعي موسى ، ( فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي )... الآية..
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ) قال : قذف في نفسها.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أمر فرعون أن يذبح مَن وُلِد من بني إسرائيل سنة ، ويتركوا سنة; فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت بموسى; فلما أرادت وضعه ، حزنت من شأنه ، فأوحى الله إليها( أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ).

(19/519)


واختلف أهل التأويل في الحال التي أمرت أمّ موسى أن تلقي موسى في اليم ، فقال بعضهم : أُمرت أن تلقيه في اليم بعد ميلاده بأربعة أشهر ، وذلك حال طلبه من الرضاع أكثر مما يطلب الصبيّ بعد حال سقوطه من بطن أمه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ) قال : إذا بلغ أربعة أشهر وصاح ، وابتغى من الرضاع أكثر من ذلك(فَأَلْقِيهِ) حينئذ(فِي الْيَمِّ) فذلك قوله : (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : لم يقل لها : إذا ولدتيه فألقيه في اليمّ ، إنما قال لها : ( أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ) بذلك أُمرت ، قال : جعلته في بستان ، فكانت تأتيه كلّ يوم فترضعه ، وتأتيه كلّ ليلة فترضعه ، فيكفيه ذلك.
وقال آخرون : بل أُمِرت أن تلقيه في اليمّ بعد ولادها إياه ، وبعد رضاعها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما وضعته أرضعته ، ثم دعت له نجارا ، فجعل له تابوتًا ، وجعل مفتاح التابوت من داخل ، وجعلته فيه ، فألقته في اليمِّ.
وأولى قول قيل في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر أمّ موسى أن ترضعه ، فإذا خافت عليه من عدو الله فرعون وجنده أن تلقيه في اليمّ. وجائز أن تكون خافتهم عليه بعد أشهر من ولادها إياه; وأيّ ذلك كان ، فقد فعلت ما أوحى الله إليها فيه ، ولا خبر قامت به حجة ، ولا فطرة في العقل لبيان أيّ ذلك كان من أيٍّ ، فأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال كما قال جل ثناؤه ، واليمّ الذي أُمِرَت أن تلقيه فيه هو النيل.
كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي(فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ) قال : هو البحر ، وهو النيل. وقد بيَّنا ذلك بشواهده ، وذكر الرواية فيه فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته.

(19/520)


فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)

وقوله : (وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي) يقول : لا تخافي على ولدك من فرعون وجنده أن يقتلوه ، ولا تحزني لفراقه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : (وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي) قال : لا تخافي عليه البحر ، ولا تحزني لفراقه ؛ ( إنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ).
وقوله : ( إِنَّا رَادًّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) يقول : إنا رادّو ولدك إليك للرضاع لتكوني أنت ترضعيه ، وباعثوه رسولا إلى من تخافينه عليه أن يقتله ، وفعل الله ذلك بها وبه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق(إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكَ) وباعثوه رسولا إلى هذا الطاغية ، وجاعلو هلاكه ، ونجاة بني إسرائيل مما هم فيه من البلاء على يديه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) }
يقول تعالى ذكره : فالتقطه آل فرعون فأصابوه وأخذوه; وأصله من اللقطة ، وهو ما وُجد ضالا فأخذ ، والعرب تقول : لما وردت عليه فجأة ، من غير طلب له ولا إرادة ، أصبته التقاطا ، ولقيت فلانا التقاطا; ومنه قول الراجز :
وَمَنْهَلٍ وَرَدْتُهُ الْتِقَاطَا... لَمْ أَلْقَ إِذْ وَرَدْتُهُ فُرَّاطَا (1)
__________
(1) هذا بيتان من مشطور الرجز ، لنقادة الأسدي ، أوردهما في (اللسان : لقط) وأورد معهما بيتًا ثالثا ، وهو * إلا الحمام الورق والغطاط *
قال : ولقيته التقاطًا : إذا لقيته من غير أن ترجوه أو تحسبه ؛ قال نقادة الأسدي : " ومنهل وردته.. " الأبيات الثلاثة : وقال سيبويه : التقاطا : أي فجأة ، وهو من المصادر التي وقعت أحوالا ، نحو جاء ركضا. ووردت الماء والشيء التقاطا : إذا هجمت عليه بغتة ، ولم تحتسبه. وحكى ابن الأعرابي : لقيته لقاطًا : مواجهة. وفي حديث عمر أن رجلا من تميم التقط شبكة ، فطلب أن يجعلها له. الشبكة : الآبار القريبة الماء. والتقاطه : عثوره عليها من غير طلب. اه. وقال في (فرط) : وفراطا القطا : متقدماتها إلى الوادي والماء. وأنشد البيت ونسبه إلى نقادة الأسدي. (وفي غطط) : والغطاط القطا ، بفتح الغين. وقيل : ضرب من القطا ، واحدته : غطاطة. وقيل القطا : ضربان ؛ فالقصار الأرجل ، الصفر الأعناق ، السود القوام. الصهب الخوافي هي الكدرية والجونية (بضم أولهما) والطوال الأرجل ، البيض البطون ، الغبر الظهور ، الواسعة العيون : هي الغطاط. وقيل : الغطاط : ضرب من الطير ، ليس من القطا ، هن غبر البطون والظهور والأبدان ، سود الأجنحة. وقيل : سود بطون الأجنحة ، طوال الأرجل والأعناق ، لطاف. اه. وانظر أقوالا أخرى في (اللسان : غطط). والبيت الأول في (معجم ما استعجم للبكري طبعة القاهرة بترتيب مصطفى السقا ص 779). وفي الكتاب لسيبويه (1 : 186).

(19/521)


يعني فجأة.
واختلف أهل التأويل في المعني بقوله : (آلُ فِرْعَوْنَ) في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عنى بذلك : جواري امرأة فرعون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : أقبل الموج بالتابوت يرفعه مرّة ويخفضه أخرى ، حتى أدخله بين أشجار عند بيت فرعون ، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغسلن ، فوجدن التابوت ، فأدخلنه إلى آسية ، وظننّ أن فيه مالا فلما نظرت إليه آسية ، وقعت عليها رحمته فأحبته; فلما أخبرت به فرعون أراد أن يذبحه ، فلم تزل آسية تكلمه حتى تركه لها ، قال : إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل ، وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا ، فذلك قول الله : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ).
وقال آخرون : بل عني به ابنة فرعون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، قال : كانت بنت فرعون برصاء ، فجاءت إلى النيل ، فإذا التابوت في النيل تخفقه الأمواج ، فأخذته بنت فرعون ، فلما فتحت التابوت ، فإذا هي بصبي ، فلما اطلعت في وجهه برأت من البرص ، فجاءت به إلى أمها ، فقالت : إن هذا الصبيّ مبارك لما نظرت إليه برئت ، فقال فرعون : هذا من صبيان بني إسرائيل ، هلمّ حتى أقتله ، فقالت : ( قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ ).

(19/522)


وقال آخرون : عنى به أعوان فرعون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أصبح فرعون في مجلس له كان يجلسه على شفير النيل كلّ غداة : فبينما هو جالس ، إذ مرّ النيل بالتابوت يقذف به ، وآسية بنت مزاحم امرأته جالسة إلى جنبه ، فقالت : إن هذا لشيء في البحر ، فأتوني به ، فخرج إليه أعوانه ، حتى جاءوا به ، ففتح التابوت فإذا فيه صبيّ في مهده ، فألقى الله عليه محبته ، وعطف عليه نفسه ، قالت امرأته آسية : ( لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ).
ولا قول في ذلك عندنا أولى بالصواب مما قال الله عزّ وجلّ : (فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ)
وقد بيَّنا معنى الآل فيما مضى بما فيه الكفاية من إعادته ههنا.
وقوله : ( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) فيقول القائل : ليكون موسى لآل فرعون عدوّا وحَزنا فالتقطوه ، فيقال : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) قيل : إنهم حين التقطوه لم يلتقطوه لذلك ، بل لما تقدّم ذكره ، ولكنه إن شاء الله كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة عن ابن إسحاق ، في قوله : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) قال : ليكون في عاقبة أمره عدوّا وحزنا لما أراد الله به ، وليس لذلك أخذوه ، ولكن امرأة فرعون قالت : (قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) فكان قول الله : (ليكون لهم عدوّا وحزنا) لما هو كائن في عاقبة أمره لهم ، وهو كقول الآخر إذا قَرَّعه لفعل ، كان فعله وهو يحسب محسنا في فعله ، فأداه فعله ذلك إلى مساءة مندِّما له على فعله : فعلت هذا لضرّ نفسك ، ولتضرّ به نفسك فعلت. وقد كان الفاعل في حال فعله ذلك عند نفسه يفعله راجيا نفعه ، غير أن العاقبة جاءت بخلاف ما كان يرجو. فكذلك قوله : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) إنما هو : فالتقطه آل فرعون ظنًّا منهم أنهم محسنون إلى أنفسهم ، ليكون قرّة عين لهم ، فكانت عاقبة التقاطهم إياه منه هلاكهم على يديه.
وقوله : (عَدُوًّا وَحَزَنًا) يقول : يكون لهم عدوّا في دينهم ، وحَزنًا على ما ينالهم منه من المكروه.

(19/523)


وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) عدوا لهم في دينهم ، وحزنا لما يأتيهم.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ، وبعض أهل الكوفة : (وَحَزَنًا) بفتح الحاء والزاي. وقرأته عامة قرّاء الكوفة : " وَحُزْنًا " بضم الحاء وتسكين الزاي. والحَزَن بفتح الحاء والزاي مصدر من حزنت حزنا ، والحُزْن بضم الحاء وتسكين الزاي الاسم : كالعَدَم والعُدْم ، ونحوه.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، وهما على اختلاف اللفظ فيهما بمنزلة العَدَم ، والعُدْم ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) يقول تعالى ذكره : إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا بربهم آثمين ، فلذلك كان لهم موسى عَدُوّا وحَزَنا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) }
يقول تعالى ذكره : (وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ) له هذا(قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) يا فرعون; فقرة عين مرفوعة بمضمر هو هذا ، أو هو. وقوله : (لا تَقْتُلُوهُ) مسألة من امرأة فرعون أن لا يقتله. وذُكِرَ أن المرأة لما قالت هذا القول لفرعون ، قال فرعون : أما لك فنعم ، وأما لي فلا فكان كذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، قال : قالت امرأة فرعون : ( قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) قال فرعون : قرّة عين لك ، أما لي فلا. قال محمد بن قيس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَوْ قَالَ فِرْعَوْنُ : قُرّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكِ ، لَكَانَ لَهُمَا جَمِيعًا " .
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : اتخذه فرعونُ ولدا ، ودُعَى على أنه ابن فرعون; فلما تحرّك الغلام أرته أمه آسية صبيا ، فبينما هي ترقصه

(19/524)


وتلعب به ، إذ ناولته فرعون ، وقالت : خذه ، قرّة عين لي ولك ، قال فرعون : هو قرّة عين لكِ ، لا لي. قال عبد الله بن عباس : لو أنه قال : وهو لي قرّة عين إذن ؛ لآمن به ، ولكنه أَبَى.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قالت امرأة فرعون : (قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) تعني بذلك : موسى.
حدثنا العباس بن الوليد ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبح بن يزيد ، قال : ثنا القاسم بن أبي أيوب ، قال : ثني سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : لما أتت بموسى امرأة فرعونَ فرعونَ قالت : (قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) قال فرعون : يكون لكِ ، فأما لي فلا حاجة لي فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ كَمَا أَقَرَّتْ ، لَهَدَاهُ اللهُ بِهِ كَمَا هَدَى بِهِ امْرَأَتَهُ ، وَلَكِنَّ الله حَرَمَهُ ذَلِكَ " .
وقوله : ( لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) ذُكِرَ أن امرأة فرعون قالت هذا القول حين همّ بقتله. قال بعضهم : حين أتَي به يوم التقطه من اليم. وقال بعضهم : يوم نَتَف من لحيته ، أو ضربه بعصا كانت في يده.
* ذكر من قال : قالت ذلك يوم نتف لحيته :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما أتي فرعون به صبيا أخذه إليه ، فأخذ موسى بلحيته فنتفها ، قال فرعون : علي بالذباحين ، هو هذا! قالت آسية( لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) إنما هو صبيّ لا يعقل ، وإنما صَنع هذا من صباه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا) قال : ألقيت عليه رحمتها حين أبصرته.
وقوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وهم لا يشعرون هلاكهم على يده.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) قال : وهم لا يشعرون أن هلكتهم على يديه ، وفي زمانه.

(19/525)


وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة(أوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) قال : إن هلاكهم على يديه.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) قال : آل فرعون إنه لهم عدوّ.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) بما هو كائن من أمرهم وأمره.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قالت امرأة فرعون آسية : ( لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) يقول الله : وهم لا يشعرون أي : بما هو كائن بما أراد الله به.
وقال آخرون : بل معنى قوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بنو إسرائيل لا يشعرون أنا التقطناه.
* ذِكر من قال ذلك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس( لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) قال : يقول : لا تدري بنو إسرائيل أنَّا التقطناه.
والصواب من القول في ذلك ، قول من قال : معنى ذلك : وفرعون وآله لا يشعرون بما هو كائن من هلاكهم على يديه.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات به ؛ لأنه عقِيب قوله : ( وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) وإذا كان ذلك عقبه ، فهو بأن يكون بيانا عن القول الذي هو عقبه أحقّ من أن يكون بيانا عن غيره.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) }
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عنى الله أنه أصبح منه فؤاد أمّ موسى فارغا ، فقال بعضهم : الذي عنى جلّ ثناؤه أنه أصبح منه فؤاد أمّ موسى فارغا : كل شيء سوى

(19/526)


ذكر ابنها موسى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن العلاء ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : ثنا الأعمش ، عن مجاهد ، وحسان أبي الأشرس عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) قال : فرغ من كلّ شيء إلا من ذكر مُوسى.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن حسان ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) قال : فارغًا من كلّ شيء إلا من ذكر موسى.
حدثنا محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن رجل ، عن ابن عباس( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) قال : فارغا من كلّ شيء إلا من همّ موسى.
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) قال : يقول : لا تذكر إلا موسى.
حدثنا محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) قال : من كل شيء غير ذكر موسى.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) قال : فرغ من كل شيء ، إلا من ذكر موسى.
حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي ، قال : ثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب ، عن مطر ، في قوله : ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) قال : فارغا من كل شيء ، إلا من هم موسى.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) : أي : لاغيًا من كلّ شيء ، إلا من ذكر موسى.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) قال : فرغ من كلّ شيء ، غير ذكر موسى.

(19/527)


وقال آخرون : بل عنى أن فؤادها أصبح فارغا من الوحي الذي كان الله أوحاه إليها ، ، إذ أمرها أن تلقيه في اليمّ فقال( وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) قال : فحزنت ونسيت عهد الله إليها ، فقال الله عز وجل : ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) من وحينا الذي أوحيناه إليها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) قال : فارغا من الوحي الذي أوحى الله إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ، ولا تخاف ولا تحزن ، قال : فجاءها الشيطان ، فقال : يا أمّ موسى ، كرهت أن يقتل فرعون موسى ، فيكون لك أجره وثوابه ، وتولَّيت قتله ، فألقيتيه في البحر وغرقتيه ، فقال الله : ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) من الوحي الذي أوحاه إليها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : ثني الحسن ، قال : أصبح فارغا من العهد الذي عهدنا إليها ، والوعد الذي وعدناها أن نردَّ عليها ابنها ، فنسيت ذلك كله ، حتى كادت أن تُبْدِي به لولا أن ربطنا على قلبها.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : قد كانت أمّ موسى ترفع له حين قذفته في البحر ، هل تسمع له بذكر ؟ حتى أتاها الخبر بأن فرعون أصاب الغداة صبيا في النيل في التابوت ، فعرفت الصفة ، ورأت أنه وقع في يدي عدوّه الذي فرّت به منه ، وأصبح فؤادها فارغا من عهد الله إليها فيه ، قد أنساها عظيم البلاء ما كان من العهد عندها من الله فيه.
وقال بعض أهل المعرفة بكلام العرب : معنى ذلك : ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) من الحزن ، لعلمها بأنه لم يغرق. قال : وهو من قولهم : دم فرغ (1) أي لا قود ولا دية; وهذا قول لا معنى له ؛ لخلافه قول جميع أهل التأويل.
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي ، قول من قال : معناه : ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) من كلّ شيء ، إلا من همّ موسى.
وإنما قلنا : ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب ؛ لدلالة قوله : ( إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ) ولو كان عَنَى بذلك : فراغ قلبها من الوحي ، لم يعقب
__________
(1) في (اللسان : فرغ) يقال : ذهب دمه فرغًا وفرغًا (بفتح الفاء وكسرها مع سكون الراء) أي باطلا هدرًا ، لم يطلب به

(19/528)


بقوله : ( إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) لأنها إن كانت قاربت أن تبدي الوحي ، فلم تكد أن تبديه إلا لكثرة ذكرها إياه ، وولوعها به. ومحال أن تكون به ولعة إلا وهي ذاكرة.
وإذا كان ذلك كذلك ، بطل القول بأنها كانت فارغة القلب مما أوحي إليها. وأخرى أن الله تعالى ذكره أخبر عنها أنها أصبحت فارغة القلب ، ولم يخصص فراغ قلبها من شيء دون شيء ، فذلك على العموم إلا ما قامت حجته أن قلبها لم يفرغ منه. وقد ذُكر عن فضالة بن عبيد أنه كان يقرؤه : " وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَازِعًا " من الفزع.
وقوله : ( إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عادت عليه الهاء في قوله : (بِهِ) فقال بعضهم : هي من ذكر موسى ، وعليه عادت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : ثنا الأعمش ، عن مجاهد وحسان أبي الأشرس ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس( إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) أن تقول : يا ابناه.
قال : ثني يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن حسان ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس( إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) أن تقول : يا ابناه.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان عن الأعمش ، عن حسان ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس( إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) أن تقول : يا ابناه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) أي : لتبدي به أنه ابنها من شدّة وجدها.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما جاءت أمه أخذ منها ، يعني الرضاع ، فكادت أن تقول : هو ابني ، فعصمها الله ، فذلك قول الله( إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ).
وقال آخرون : بِما أوْحَيْنَاهُ إِلَيْهَا : أي تظفر.
والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين ذكرنا قولهم أنهم قالوا : إن كادت لتقول : يا بنياه ؛ لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك ، وأنه عقيب قوله : ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) فلأن يكون لو لم يكن ممن ذكرنا في ذلك إجماع على ذلك من

(19/529)


وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)

ذكر موسى ، لقربه منه ، أشبه من أن يكون من ذكر الوحي.
وقال بعضهم : بل معنى ذلك(إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي) بموسى فتقول : هو ابني. قال : وذلك أن صدرها ضاق إذ نُسب إلى فرعون ، وقيل : ابن فرعون. وعنى بقوله : (لتُبْدِي بِهِ) لتظهره وتخبر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) : لتشعر به.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) قال : لتعلن بأمره لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين.
وقوله : ( لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ) يقول : لولا أن عصمناها من ذلك بتثبيتناها وتوفيقناها للسكوت عنه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : قال الله( لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ) : أي بالإيمان(لَِتكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كادت تقول : هو ابني ، فعصمها الله ، فذلك قول الله : ( إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ).
وقوله : ( لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول تعالى ذكره : عصمناها من إظهار ذلك وقيله بلسانها ، وثبتناها للعهد الذي عهدنا إليها( لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بوعد الله ، الموقنين به.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره : (وَقَالَتْ) أم موسى لأخت موسى حين ألقته في اليم(قُصّيهِ)

(19/530)


يقول : قصي أثر موسى ، اتبعي أثره ، تقول : قصصت آثار القوم : إذا اتبعت آثارهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( لأخْتِهِ قُصِّيهِ ) قال : اتبعي أثره كيف يصنع به.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد(قُصِّيهِ) أي قصي أثره.
حدثنا ابن حميد ، ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ ) قال : اتبعي أثره.
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ ) أي انظري ماذا يفعلون به.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ ) يعني : قصي أثره.
حدثني العباس بن الوليد ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، قال : ثنا القاسم بن أبي أيوب ، قال : ثني سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس( وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ ) أي قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا ، أحيّ ابني أو قد أكلته دوابّ البحر وحيتانه ؟ونسيتِ الذي كان الله وعدها. وقوله : ( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) يقول تعالى ذكره : فقصت أخت موسى أثره ، فبصرت به عن جُنُب : يقول فبصرت بموسى عن بُعد لم تدن منه ولم تقرب ، لئلا يعلم أنها منه بسبيل ، يقال منه : بصرت به وأبصرته ، لغتان مشهورتان ، وأبصرت عن جنب ، وعن جنابة ، كما قال الشاعر :
أَتَيْتُ حُرَيْثًا زَائِرًا عَنْ جَنَابَةٍ... فَكَانَ حُرَيْثُ عَنْ عَطَائِي جَاحِدَا (1)
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبعة القاهرة ص 65) قصيدة يمدح بها هوذة بن علي الحنفي ، ويذم الحارث بن وعلة بن مجالد الرقاشي ، وقد صغر اسمه تحقيرًا له وذمًا. وعن جنابة عن بعد وغربة. ورجل جنب أيضًا : يعني غريب. والجاحد : الذي ينكر ما يعلم. جحده حقه ، وبحقه. قاله في اللسان. والشاهد في البيت " عن جنابة " ومعناه : عن بعد.

(19/531)


يعني بقوله : عن جنابة : عن بُعد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (عَنْ جُنُبٍ) قال : بُعد.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد(عَنْ جُبٍ) قال : عن بُعد. قال ابن جُرَيج(عَنْ جُنُبٍ) قال : هي على الحدّ في الأرض ، وموسى يجري به النيل وهما متحاذيان كذلك تنظر إليه نظرة ، وإلى الناس نظرة ، وقد جعل في تابوت مقير ظهره وبطنه ، وأقفلته عليه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة : ( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) يقول : بصرت به وهي محاذيته لم تأته.
حدثني العباس بن الوليد ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، قال : ثني القاسم بن أبي أيوب ، قال : ثني سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) والجنب : أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد ، وهو إلى جنبه لا يشعر به.
وقوله : ( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) يقول : وقوم فرعون لا يشعرون بأخت موسى أنها أخته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) قال : آل فرعون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ

(19/532)


وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)

وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أنها أخته ، قال : جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أنها أخته.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أي لا يعرفون أنها منه بسبيل.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) }
يقول تعالى ذكره : ومنعنا موسى المراضع أن يرتضع منهنّ من قبل أمه ، ذكر أن أختا لموسى هي التي قالت لآل فرعون : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : أرادوا له المرضعات ، فلم يأخذ من أحد من النساء ، وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع ، فأبى أن يأخذ ، فذلك قوله : ( وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ ) أخته( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ) فلما جاءت أمه أخذ منها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ ) قال : لا يقبل ثدي امرأة حتى يرجع إلى أمه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن حسان ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس( وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ ) قال : كان لا يؤتى بمرضع فيقبلها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ ) قال : لا يرضع ثدي امرأة حتى يرجع

(19/533)


فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

إلى أمه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ ) قال : جعل لا يؤتى بامرأة إلا لم يأخذ ثديها ، قال : (فَقَالَتْ) أخته( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : جمعوا المراضع حين ألقى الله محبتهم عليه ، فلا يؤتى بامرأة فيقبل ثديها فيرمضهم (1) ذلك ، فيؤتي بمرضع بعد مرضع ، فلا يقبل شيئا منهنّ(فَقَالَتْ) لهم أخته حين رأت من وجدهم به ، وحرصهم عليه( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ) ، ويعني بقوله : ( يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ) : يضمونه لكم. وقوله : ( وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ) ذكر أنها أخذت ، فقيل : قد عرفته ، فقالت : إنما عنيت أنهم للملك ناصحون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما قالت أخته( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ) أخذوها ، وقالوا : إنك قد عَرَفت هذا الغلام ، فدلينا على أهله ، فقالت : ما أعرفه ، ولكني إنما قلت : هم للملك ناصحون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ) قال : فعلقُوها حين قالت : وهم له ناصحون ، قالوا : قد عرفته ، قالت : إنما أردت هم للملك ناصحون.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ) أي لمنزلته عندكم ، وحرصكم على مسرّة الملك ، قالوا : هاتي.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) }
يقول تعالى ذكره : (فَرَدَدْنَا) موسى(إِلَى أُمِّهِ) بعد أن التقطه آل فرعون ، لتقرّ عينها بابنها ، إذ رجع إليها سليما من قَتل فرعون(وَلا تَحْزَن) على فراقه إياها( وَلِتَعْلَمَ
__________
(1) في (اللسان : رمضى) والرمض : حرقة الغيظ. وقد أرمضني هذا الأمر ، فرمضت. ويقال : أرمضني : أوجعني.

(19/534)


أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ ) الذي وعدها إذ قال لها( فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي ) ... الآية ، (حقّ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ ) فقرأ حتى بلغ( لا يَعْلَمُونَ ) ووعدها أنه رادّه إليها وجاعله من المرسلين ، ففعل الله ذلك بها.
وقوله : ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره : ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن وعد الله حقّ ، لا يصدقون بأن ذلك كذلك.

(19/535)


وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلَمَّا بَلَغَ مُوسَى أشده ) ، يعني حان شدة بدنه وقواه ، وانتهى ذلك منه ، وقد بيَّنا معنى الأشدّ فيما مضى بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله : ( واستوى ) يقول : تناهي شبابه ، وتمّ خلقه واستحكم. وقد اختلف في مبلغ عدد سني الاستواء ، فقال بعضهم : يكون ذلك في أربعين سنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : ( واستوى ) قال : أربعين سنة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) قال : ثلاثا وثلاثين سنة.
قوله : ( واستوى ) قال : بلغ أربعين سنة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) قال : بضعا وثلاثين سنة.

(19/535)


وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)

قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) قال : ثلاثا وثلاثين سنة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة( أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ) قال : أربعين سنة ، وأشدّه : ثلاثا وثلاثين سنة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ) قال : كان أبي يقول : الأشدّ : الجلَد ، والاستواء : أربعون سنة.
وقال بعضهم : يكون ذلك في ثلاثين سنة.
وقوله : ( آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ) يعني بالحكم : الفهم بالدين والمعرفة.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ) قال : الفقه والعقل والعمل قبل النبوّة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ) قال : الفقه والعمل قبل النبوة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ) آتاه الله حكما وعلما : وفقها في دينه ودين آبائه ، وعلما بما في دينه وشرائعه وحدوده.
وقوله : ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) يقول تعالى ذكره : كما جزينا موسى على طاعته إيانا وإحسانه بصبره على أمرنا ، كذلك نجزي كلّ من أحسن من رسلنا وعبادنا ، فصبر على أمرنا وأطاعنا ، وانتهى عما نهيناه عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) }
يقول تعالى ذكره : (وَدَخَلَ) موسى(الْمَدِينَةَ) مدينة منف من مصر( عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ) وذلك عند القائلة ، نصف النهار.
واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله دخل موسى هذه المدينة في هذا

(19/536)


الوقت ، فقال بعضهم : دخلها متبعا أثر فرعون ، لأن فرعون ركب وموسى غير شاهد; فلما حضر علم بركوبه فركب واتبع أثره ، وأدركه المقيل في هذه المدينة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كان موسى حين كبر يركب مراكب فرعون ، ويلبس مثل ما يلبس ، وكان إنما يُدعى موسى بن فرعون ، ثم إن فرعون ركب مركبا وليس عنده موسى; فلما جاء موسى قيل له : إن فرعون قد ركب ، فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض يقال لها منف ، فدخلها نصف النهار ، وقد تغلقت أسواقها ، وليس في طرقها أحد ، وهي التي يقول الله : ( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ).
وقال آخرون : بل دخلها مستخفيا من فرعون وقومه ، لأنه كان قد خالفهم في دينهم ، وعاب ما كانوا عليه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لَمَّا بلغ موسى أشده واستوى ، آتاه الله حكما وعلما ، فكانت له من بني إسرائيل شيعة يسمعون منه ويطيعونه ويجتمعون إليه ، فلما استد (1) رأيه ، وعرف ما هو عليه من الحقّ ، رأى فراق فرعون وقومه على ما هم عليه حقا في دينه ، فتكلم وعادى وأنكر ، حتى ذكر منه ، وحتى أخافوه وخافهم ، حتى كان لا يدخل قرية فرعون إلا خائفا مستخفيا ، فدخلها يوما على حين غفلة من أهلها.
وقال آخرون : بل كان فرعون قد أمر بإخراجه من مدينته حين علاه بالعصا ، فلم يدخلها إلا بعد أن كبر وبلع أشدّه. قالوا : ومعنى الكلام : ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها لذكر موسى : أي من بعد نسيانهم خبره وأمره.
* ذكر من قال ذلك :
- حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ) قال : ليس غفلة من ساعة ، ولكن غفلة من ذكر موسى وأمره. وقال فرعون لامرأته : أخرجيه عني ، حين ضرب رأسه بالعصا ، هذا الذي قُتِلتْ فيه
__________
(1) استد رأيه : من السداد! أي أحكم عقله ، وقويت تجاربه.

(19/537)


بنو إسرائيل ، فقالت : هو صغير ، وهو كذا ، هات جمرا ، فأتي بجمر ، فأخذ جمرة فطرحها في فيه فصارت عقدة في لسانه ، فكانت تلك العقدة التي قال الله( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ) قال : أخرجيه عني ، فأخرج ، فلم يدخل عليهم حتى كبر ، فدخل على حين غفلة من ذكره.
وأولى الأقوال في الصحة بذلك أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ... وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ).
واختلفوا في الوقت الذي عُني بقوله : ( عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ) فقال بعضهم : ذلك نصف النهار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن محمد بن المنكدر ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ ) قال : نصف النهار. قال ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قال : يقولون في القائلة ، قال : وبين المغرب والعشاء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ) قال : دخلها بعد ما بلغ أشده عند القائلة نصف النهار.
حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : دخل نصف النهار.
وقوله : ( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ ) يقول : هذا من أهل دين موسى من بني إسرائيل( وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ) من القبط من قوم فرعون( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ ) يقول : فاستغاثه الذي هو من أهل دين موسى على الذي من عدوّه من القبط( فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ) يقول : فلكزه ولهزه في صدره بجمع كفه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا حفص ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جُبَيْر ، قال : أساء موسى من حيث أساء ، وهو شديد الغضب شديد القوّة ، فمرّ برجل من القبط قد تسخر رجلا من المسلمين ، قال : فلما رأى موسى استغاث به ، قال : يا موسى ،

(19/538)


فقال موسى : خلّ سبيله ، فقال : قد هممت أن أحمله عليك( فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ) قال : حتى إذا كان الغد نصف النهار خرج ينظر الخبر ، قال : فإذا ذاك الرجل قد أخذه آخر في مثل حده; قال : فقال : يا موسى ، قال : فاشتدّ غضب موسى ، قال : فأهوى ، قال : فخاف أن يكون إياه يريد ، قال : فقال : ( أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ ) ؟ قال : فقال الرجل : ألا أراك يا موسى أنت الذي قتلت!
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عثام بن عليّ ، قال : ثنا الأعمش ، عن سعيد بن جُبَيْر : ( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ ) قال : رجل من بني إسرائيل يقاتل جبارا لفرعون( فَاسْتَغَاثَهُ ... فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ) فلما كان من الغد ، استصرخ به فوجده يقاتل آخر ، فأغاثه ، فقال : ( أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ ) فعرفوا أنه موسى ، فخرج منها خائفا يترقب ، قال عثام : أو نحو هذا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ) أما الذي من شيعته فمن بني إسرائيل ، وأما الذي من عدوه فقبطي من آل فرعون.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ) يقول : من القبط( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ).
حدثنا العباس بن الوليد ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، قال : ثنا القاسم بن أبي أيوب ، قال : ثني سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قال : لما بلغ موسى أشدّه ، وكان من الرجال ، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة ، حتى امتنعوا كلّ الامتناع ، فبينا هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة ، إذا هو برجلين يقتتلان : أحدهما من بني إسرائيل ، والآخر من آل فرعون ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب موسى واشتد غضبه ، لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل ، وحفظه لهم ، ولا يعلم الناس إلا أنما ذلك من قبل الرضاعة من أم موسى إلا أن يكون الله اطلع موسى من ذلك على علم ما لم يطلع عليه غيره ، فوكز موسى الفرعوني فقتله ، ولم يرهما أحد إلا الله والإسرائيلي ، ف(قَالَ) موسى حين قتل الرجل( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )... الآية.

(19/539)


حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ ) مسلم ، وهذا من أهل دين فرعون كافر( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق ، وشدّة في البطش فغضب بعدوّهما فنازعه( فَوَكَزَهُ مُوسَى ) وكزة قتله منها وهو لا يريد قتله ، ف( قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ ) قال : من قومه من بني إسرائيل ، وكان فرعون من فارس من اصطخر.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بنحوه.
قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن أصحابه( هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ ) إسرائيلي( وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ) قبطي( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ).
وبنحو الذي قلنا أيضا قالوا في معنى قوله : ( فَوَكَزَهُ مُوسَى ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( فَوَكَزَهُ مُوسَى ) قال : بجمع كفه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( فَوَكَزَهُ مُوسَى ) نبي الله ، ولم يتعمد قتله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قتله وهو لا يريد قتله.
وقوله : ( فَقَضَى عَلَيْهِ ) يقول : ففرغ من قتله. وقد بيَّنت فيما مضى أن معنى القضاء : الفراغ بما أغنى عن إعادته ههنا.

(19/540)


قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)

ذكر أنه قتله ثم دفنه في الرمل.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن أصحابه(فوكزه موسى فقضى عليه) ثم دفنه في الرمل.
وقوله : ( قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) يقول تعالى ذكره : قال موسى حين قتل القتيل : هذا القتل من تسبب الشيطان لي بأن هيَّج غضبي حتى ضربت هذا فهلك من ضربتي ، ( إِنَّهُ عَدُوٌّ ) يقول : إن الشيطان عدو لابن آدم(مُضِلٌّ) له عن سبيل الرشاد بتزيينه له القبيح من الأعمال ، وتحسينه ذلك له(مُبِينٌ) يعني أنه يبين عداوته لهم قديما ، وإضلاله إياهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن ندم موسى على ما كان من قتله النفس التي قتلها ، وتوبته إليه منه ومسألته غفرانه من ذلك( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) بقتل النفس التي لم تأمرني بقتلها ، فاعف عن ذنبي ذلك ، واستره عليّ ، ولا تؤاخذني به فتعاقبني عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) قال : بقتلي من أجل أنه لا ينبغي لنبيّ أن يقتل حتى يؤمر ، ولم يُؤمر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : عرف المخرج ، فقال : ( ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ).
وقوله : (فَغَفَرَ لَهُ) يقول تعالى ذكره : فعفا الله لموسى عن ذنبه ولم يعاقبه به ، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يقول : إن الله هو الساتر على المنيبين إليه من ذنوبهم على ذنوبهم ، المتفضل عليهم بالعفو عنها ، الرحيم للناس أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد ما تابوا منها. وقوله : ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) يقول تعالى ذكره : قال موسى ربّ بإنعامك عليّ بعفوك

(19/541)


فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)

عن قتل هذه النفس( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ) يعني المشركين ، كأنه أقسم بذلك.
وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : " فَلا تَجْعَلْنِي ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ " كأنه على هذه القراءة دعا ربه ، فقال : اللهمّ لن أكون ظهيرا ولم يستثن عليه السلام حين قال( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ) فابتلي.
وكان قَتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : ( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ) يقول : فلن أعين بعدها ظالما على فُجره ، قال : وقلما قالها رجل إلا ابتُلي ، قال : فابتلي كما تسمعون.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) }
يقول تعالى ذكره : فأصبح موسى في مدينة فرعون خائفا من جنايته التي جناها ، وقتله النفس التي قتلها أن يُؤخذ فيقتل بها(يَتَرَقَّبُ) يقول : يترقب الأخبار : أي ينتظر ما الذي يتحدّث به الناس ، مما هم صانعون في أمره وأمر قتيله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس بن الوليد ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا أصبغ بن زيد ، قال : ثنا القاسم عن أبي أيوب ، قال : ثنا سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس : ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ) قال : خائفا من قتله النفس ، يترقب أن يؤخذ.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي : ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ) قال : خائفا أن يُؤخذ.
وقوله : ( فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ) يقول تعالى ذكره : فرأى موسى لما دخل المدينة على خوف مترقبا الأخبار عن أمره وأمر القتيل ، فإذا الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس على الفرعونيّ يقاتله فرعونيّ آخر ، فرآه الإسرائيلي فاستصرخه على الفرعونيّ. يقول : فاستغاثه أيضا على الفرعوني ، وأصله من الصُّراخ ، كما يقال : قال بنو فلان : يا صباحاه ، قال له موسى : ( إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) يقول جل ثناؤه : قال موسى للإسرائيلي الذي استصرخه ، وقد صادف موسى نادما على ما سلف منه من قتله بالأمس

(19/542)


القتيل ، وهو يستصرخه اليوم على آخر : إنك أيها المستصرخ لغويّ : يقول : إنك لذو غواية ، مبين. يقول : قد تبينت غوايتك بقتالك أمس رجلا واليوم آخر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا أصبغ بن زيد ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قال : أتي فرعون ، فقيل له : إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلا من آل فرعون ، فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم في ذلك ، قال : ابغوني (1) قاتله ومن يشهد عليه ، لا يستقيم أن نقضي بغير بينة ولا ثَبَت (2) فاطلبوا ذلك ، فبينما هم يطوفون لا يجدون شيئا ، إذ مرّ موسى من الغد ، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعونيّ ، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس ، وكره الذي رأى ، فغضب موسى ، فمد يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم( إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) ، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال هذا ، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس إذ قتل فيه الفرعوني ، فخاف أن يكون بعد ما قال له : ( إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) إياه أراد ، ولم يكن أراده ، إنما أراد الفرعوني ، فخاف الإسرائيلي فحاجّه ، فقال( يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ ) ؟ وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله ، فتتاركا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قَتادة : ( فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ) قال : الاستنصار والاستصراخ واحد.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي : ( فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ) يقول : يستغيثه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما قتل موسى القتيل ، خرج فلحق بمنزله من مصر ، وتحدّث الناس بشأنه ، وقيل : قتل موسى رجلا حتى انتهى ذلك إلى فرعون ، فأصبح موسى غاديا الغَد ، وإذا صاحبه بالأمس معانق رجلا آخر من عدوّه ، فقال له موسى : ( إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) أمس رجلا واليوم آخر ؟.
__________
(1) ابغوني قاتله : هاتوا لي قاتله.
(2) في (اللسان : ثبت) الثبت : بالتحريك : الحجة والبينة.

(19/543)


فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا حفص ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جُبَيْر والشيباني ، عن عكرمة ، قال : الذي استنصره : هو الذي استصرخه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) }
يقول تعالى ذكره : فلما أراد موسى أن يبطش بالفرعونيّ الذي هو عدو له وللإسرائيلي ، قال الإسرائيلي لموسى وظنّ أنه إياه يريد( أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : ( فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ ) : خافه الذي من شيعته حين قال له موسى : ( إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ).
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال موسى للإسرائيليّ : ( إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) ثم أقبل لينصره ، فلما نظر إلى موسى قد أقبل نحوه ليبطش بالرجل الذي يقاتل الإسرائيلي ، (قَاَلَ) الإسرائيلي ، وفَرِق من موسى أن يبطش به من أجل أنه أغلظ له الكلام : ( يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ) فتركه موسى.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن أصحابه ، قال : ندم بعد أن قتل القتيل ، فقال : ( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) قال : ثم استنصره بعد ذلك الإسرائيلي على قبطي آخر ، فقال له موسى : ( إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) فلما أراد أن يبطش بالقبطي ، ظن الإسرائيلي أنه إياه يريد ، فقال : يا موسى( أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ ) ؟.
قال : وقال ابن جُرَيج ، أو ابن أبي نجيح " الطبري يشكّ " وهو في الكتاب ابن أبي نجيح - أن موسى لما أصبح ، أصبح نادما تائبا ، يودّ أن لم يبطش بواحد منهما ، وقد قال للإسرائيلي : ( إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) فعلم الإسرائيلي أن موسى غير ناصره; فلما أراد الإسرائيلي أن يبطش بالقبطي نهاه موسى ، فَفَرِق

(19/544)


وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)

الإسرائيلي من موسى ، فقال : ( أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ ) فسعى بها القبطيّ.
وقوله : ( إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل الإسرائيلي لموسى : إن تريد ما تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض ، وكان من فعل الجبابرة : قتل النفوس ظلما ، بغير حقّ. وقيل : إنما قال ذلك لموسى الإسرائيليّ ؛ لأنه كان عندهم من قتل نفسين : من الجبابرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا هشيم بن بشير ، عن إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي قال : من قتل رجلين فهو جبار; قال : ثم قرأ( أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : ( إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ ) إن الجبابرة هكذا ، تقتل النفس بغير النفس.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، ( إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ ) قال : تلك سيرة الجبابرة أن تقتل النفس بغير النفس.
وقوله : ( وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ) يقول : ما تريد أن تكون ممن يعمل في الأرض بما فيه صلاح أهلها ، من طاعة الله. وذكر عن ابن إسحاق أنه قال في ذلك ما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ) أي ما هكذا يكون الإصلاح.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) }
ذُكِرَ أن قول الإسرائيلي سمعه سامع فأفشاه ، وأعلم به أهل القتيل ، فحينئذ طلب فرعون موسى ، وأمر بقتله; فلما أمر بقتله ، جاء موسى مخبر وخبره بما قد أمر به فرعون في أمره ، وأشار عليه بالخروج من مصر ، بلد فرعون وقومه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/545)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، قال : ثنا القاسم بن أبي أيوب ، قال : ثني سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قال : انطلق الفرعوني الذي كان يقاتل الإسرائيلي إلى قومه ، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول( أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ ) فأرسل فرعون الذباحين لقتل موسى ، فأخذوا الطريق الأعظم ، وهم لا يخافون أن يفوتهم ، وكان رجل من شيعة موسى في أقصى المدينة ، فاختصر طريقا قريبا ، حتى سبقهم إلى موسى ، فأخبره الخبر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : أعلمهم القبطي الذي هو عدو لهما ، فأتمر الملأ ليقتلوه ، فجاء رجل من أقصى المدينة ، وقرأ(إنَّ ... ) إلى آخر الآية ، قال : كنا نحدّث أنه مؤمن آل فرعون.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : ذهب القبطي ، يعني الذي كان يقاتل الإسرائيلي ، فأفشى عليه أن موسى هو الذي قتل الرجل ، فطلبه فرعون وقال : خذوه فإنه صاحبنا ، وقال للذين يطلبونه : اطلبوه في بنيات (1) الطريق ، فإن موسى غلام لا يهتدي الطريق ، وأخذ موسى في بنيات الطريق ، وقد جاءه الرجل فأخبره( إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن أصحابه ، قالوا : لما سمع القبطي قول الإسرائيلي لموسى( أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ ) سعى بها إلى أهل المقتول فقال : إن موسى هو قتل صاحبكم ، ولو لم يسمعه من الإسرائيلي لم يعلمه أحد; فلما علم موسى أنهم قد علموا خرج هاربا ، فطلبه القوم فسبقهم; قال : وقال ابن أبي نجيح : سعى القبطي.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، قال قال الإسرائيلي لموسى : ( أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ ) وقبطي قريب منهما يسمع ، فأفشى عليهما.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمع ذلك عدوّ ، فأفشى عليهما.
__________
(1) بنيات الطريق : تصغير بنات الطريق ، وهي الطرق الصغار ، تتشعب من الطرق الكبار.

(19/546)


وقوله : ( وَجَاءَ رَجُلٌ ) ذُكر أنه مؤمن آل فرعون ، وكان اسمه فيما قيل : سمعان.
وقال بعضهم : بل كان اسمه شمعون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبئّي ، قال : اسمه شمعون الذي قال لموسى : ( إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أصبح الملأ من قوم فرعون قد أجمعوا لقتل موسى فيما بلغهم عنه ، فجاء رجل من أقصى المدينة يسعى يقال له سمعان ، فقال : ( يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قال : ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى إِلَى مُوسَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ).
وقوله : ( مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ) يقول : من آخر مدينة فرعون(يَسْعَى) يقول : يعجل.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى ) قال : يعجل ، ليس بالشدّ.
وقوله : ( قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ) يقول جل ثناؤه : قال الرجل الذي جاءه من أقصى المدينة يسعى لموسى : يا موسى إن أشراف قوم فرعون ورؤساءهم يتآمرون بقتلك ، ويتشاورون ويرتئون فيك; ومنه قول الشاعر :
مَا تَأْتَمِرْ فِينا فأمْ... ركَ فِي يَمِينِكَ أو شِمالكْ (1)
__________
(1) في (اللسان : أمر) : وفي التنزيل : (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) قال أبو عبيدة : أي يتشاورون عليك ليقتلوك. وجعل منه المؤلف قول الشاعر " ما تأتمر فينا " . يريد أن ما تشاور فيه أهل الرأي في أمرنا ، فهو أمر نافذ لا معترض عليه.لكن تفسير المؤلف البيت بقوله : " يعني ما ترتئي ، وتهم به " يجعل المعنى ليس من الائتمار ، بمعنى المشاورة ، ولكن من الائتمار بمعنى الاستبداد بالرأي ، دون مشورة أحد غير نفسه قال الأزهري : ائتمر فلان رأيه : إذا شاور عقله في الصواب الذي يأتيه ، وقد يصيب الذي يأتمر رأيه مرة ، ويخطئ أخرى.

(19/547)


فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)

يعني : ما ترتئي ، وتهمّ به; ومنه قول النمر بن تولب :
أَرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شِيمَةً... وَفِي كُلِّ حَادِثَةٍ يُؤْتَمَرْ (1)
أي : يُتشَاوَرُ وَيُرْتَأَى فِيها.
وقوله : ( فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) يقول : فاخرج من هذه المدينة ، إني لك في إشارتي عليك بالخروج منها من الناصحين.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) }
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 187 : 1). والشيمة : الخلق ، يريد : أحدثوا أخلاقًا لم تعرف من قبل. يشير الشاعر إلى ما حدث من إثارة الشكوك والجدل في مسائل السياسة كالخلافة ، أو العقائد كالقول في القدر أو نحو ذلك. فهذه هي الأخلاق التي أحدثها الناس في الصدر الأول من حياة المسلمين بعد حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والنمر بن تولب شاعر مخضرم. والشاهد في قوله : " يؤتمر " أي يحدث التشاور وتداول الآراء والجدل. ولعل الشاعر رأى مقدمات الخلاف ، وأمارات الفرقة تلوح من خلال الحوادث ، فأنذر بها.

(19/548)


وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) }
يقول تعالى ذكره : فخرج موسى من مدينة فرعون خائفا من قتله النفس أن يقتل به(يَتَرَقَّبُ) يقول : ينتظر الطلب أن يدركه فيأخذه. كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ) خائفًا من قتله النفس يترقب الطلب( قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ) قال : خائفا من قتل النفس ، يترقب أن يأخذه الطلب.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ذُكر لي أنه خرج على وجهه خائفا يترقب ما يدري أي وجه يسلك ، وهو يقول : ( رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ) قال : يترقب مخافة الطلب.
وقوله : ( قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) يقول تعالى ذكره : قال موسى

(19/548)


وهو شاخص عن مدينة فرعون خائفا : ربّ نجني من هؤلاء القوم الكافرين ، الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بك.
وقوله : ( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ ) يقول تعالى ذكره : ولما جعل موسى وجهه نحو مدين ، ماضيا إليها ، شاخصا عن مدينة فرعون ، وخارجا عن سلطانه ، ( قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ) وعنى بقوله : " تلقاء " نحو مدين; ويقال : فعل ذلك من تلقاء نفسه ، يعني به : من قبل نفسه ويقال : داره تلقاء دار فلان : إذا كانت محاذيتها ، ولم يصرف اسم مدين لأنها اسم بلدة معروفة ، كذلك تفعل العرب بأسماء البلاد المعروفة; ومنه قول الشاعر :
رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأَوْكِ تَنزلُوا... وَالعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العُقُولِ الفَادِرِ (1)
وقوله : ( عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ) يقول : عسى ربي أن يبين لي قصد السبيل إلى مدين ، وإنما قال ذلك لأنه لم يكن يعرف الطريق إليها.
وذُكر أن الله قيض له إذ قال : ( رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ملَكا سدده الطريق ، وعرفه إياه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما أخذ موسى في بنيات الطريق جاءه مَلَك على فرس بيده عَنزة; فلما رآه موسى سجد له من الفَرَق قال : لا تسجد لي ولكن اتبعني ، فاتبعه ، فهداه نحو مدين ، وقال موسى وهو متوجه نحو مدين : ( عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ) فانطلق به حتى انتهى به إلى مَدين.
حدثنا العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قال : خرج موسى متوجها نحو مدين ، وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه ، فإنه قال : ( عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ذُكر لي أنه خرج وهو يقول : ( رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فهيأ الله الطريق إلى مَدين ، فخرج من
__________
(1) البيت لجرير ، وقد تقدم الاستشهاد به على الرهبان جمع راهب في (7 : 3) من هذا التفسير. واستشهد به هنا على أن مدين ممنوعة من الصرف لأنها علم على بلدة ، ففيها العلمية والتأنيث.

(19/549)


مصر بلا زاد ولا حذاء ولا ظهر (1) ولا درهم ولا رغيف ، خائفا يترقب ، حتى وقع إلى أمة من الناس يسقون بمَدين.
حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المَروزِيّ ، قال : ثنا الفضل بن موسى ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر ، قال : خرج موسى من مصر إلى مَدْيَنَ ، وبينها وبينها مسيرة ثمان ، قال : وكان يقال نحو من الكوفة إلى البصرة ، ولم يكن له طعام إلا وَرَق الشجر ، وخرج حافيا ، فما وصل إليها حتى وقع خفّ قدمه.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عثام ، قال : ثنا الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : لما خرج موسى من مصر إلى مدين ، وبينه وبينها ثمان ليال ، كان يقال : نَحوٌ من البصرة إلى الكوفة ثم ذكر نحوه.
ومدين كان بها يومئذ قوم شعيب عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ ) ومدين : ماء كان عليه قوم شعيب( قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ).
وأما قوله : ( سَوَاءَ السَّبِيلِ ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله نحو قولنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( سَوَاءَ السَّبِيلِ ) قال : الطريق إلى مدين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة : ( قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ) قال : قصد السبيل.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا عَبَّاد بن راشد ، عن الحسن : ( عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ) قال : الطريق المستقيم.
__________
(1) الظهر : الدابة التي يركب ظهرها ، من جمل ونحوه.

(19/550)


وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلَمَّا وَرَدَ مُوسَى مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً ) يعني جماعة( مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) نعمهم ومواشيهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) يقول : كثرة من الناس يسقون.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( أُمَّةً مِنَ النَّاسِ ) قال : أناسًا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وقع إلى أمة من الناس يسقون بمدين أهل نعم وشاء.
حدثنا عليّ بن موسى وابن بشار ، قالا ثنا أبو داود ، قال : أخبرنا عمران القطان ، قال : ثنا أبو حمزة عن ابن عباس ، في قوله : ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) قال عليّ بن موسى : قال : مثل ماء جوابكم هذا ، يعني المحدثة. وقال ابن بشار : مثل محدثتكم هذه ، يعني جوابكم هذا.
وقوله : ( وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ) يقول : ووجد من دون أمة الناس الذين هم على الماء ، امرأتين تذودان ، يعني بقوله : ( تَذُودَانِ) تَحبِسان غنمهما; يقال منه : ذاد فلان غنمه وماشيته : إذا أراد شيء من ذلك يَشِذّ ويذهب ، فردّه ومنعه يذودها ذَوْدًا.
وقال بعض أهل العربية من الكوفيين : لا يجوز أن يقال : ذدت الرجل بمعنى : حبسته ، إنما يقال ذلك للغنم والإبل.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إني

(19/551)


لبِعُقْرِ حَوْضِي أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ بِعَصَايَ " فقد جعل الذَّود صلى الله عليه وسلم في الناس ، ومن الذود قول سويد بن كراع :
أَبِيتُ عَلَى بَابِ الْقَوَافِي كَأَنَّمَا... أَذُودُ بِهَا سِرْبًا مِنَ الَوَحْشِ نزعا (1)
وقول آخر :
وَقَدْ سَلَبَتْ عَصَاكَ بَنُو تَمِيمٍ... فَمَا تَدْرِي بأيّ عَصًا تَذُودُ (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : (تَذُودَانِ) يقول : تحبسان.
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس( وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ) يعني بذلك أنهما حابستان.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جُبَيْر ، في قوله : ( امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ) قال : حابستين.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ) يقول : تحبسان غنمهما.
واختلف أهل التأويل في الذي كانت عنه تذود هاتان المرأتان ، فقال بعضهم : كانتا تذودان غنمهما عن الماء ، حتى يَصْدُرَ عَنْهُ مواشي الناس ، ثم يسقيان ماشيتهما لضعفهما.
__________
(1) البيت لسويد بن كراع العكلي وكان هجا بني عبد الله بن دارم ، فاستعدوا عليه سعيد بن عثمان ، فأراد ضربه ، فقال سويد قصيدة أولها : (تقول ابنة العوفي ليلى ألا ترى إلى ابن كراع لا يزال مفزعًا) والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن. قال عند قوله تعالى : (ووجد من دونهم امرأتين تذودان) : مجازه : تمنعان وتردان وتضربان. قال سويد بن كراع : " أبيت على باب القوافي... " البيت ، وقد أورد صاحب الأغاني أبيات سويد بن كراع التي منها بيت الشاهد في الجزء (12 : 344) طبعة دار كتب. وفيه " أصادى " في موضع " أذود " قال محققه : صاداه : داراه وساتره. ولا شاهد فيه حينئذ.
(2) البيت من شواهد أبي عبيدة في (مجاز القرآن الورقة 178 ب) قال : تذودان مجازه : تمنعان وتردان وتضربان.

(19/552)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك قوله : ( امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ) قال : تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا وتخلو لهما البئر.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ ) يعني دون القوم تذودان غنمهما عن الماء ، وهو ماء مدين.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تذودان الناس عن غنمهما.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ) قال : أي حابستين شاءهما تذودان الناس عن شائهما.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أصحابه(تَذُودَانِ) قال : تذودان الناس عن غنمهما.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال معناه : تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا من سقي مواشيهم.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لدلالة قوله : ( مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ) على أن ذلك كذلك ، وذلك أنهما إنما شكتا أنهما لا تسقيان حتى يصدر الرعاء ، إذ سألهما موسى عن ذودهما ، ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس ، كان لا شك أنهما كانتا تخبران عن سبب ذودهما عنها الناس ، لا عن سبب تأخر سقيهما إلى أن يُصْدِرَ الرعاء.
وقوله : ( قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ) يقول تعالى ذكره : قال موسى للمرأتين ما شأنكما وأمركما تذودان ماشيتكما عن الناس ، هلا تسقونها مع مواشي الناس والعرب ، تقول للرجل : ما خطبك ؟ بمعنى : ما أمرك وحالك ، كما قال الراجز :
يَا عَجَبًا مَا خَطْبُهُ وَخَطْبِي (1)
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في معاني القرآن (الورقة 187 - 1) قال في تفسير قوله تعالى : (ما خطبكما) : أي ما أمركما وشأنكما ؟ قال : يا عجبا ما خطبه وخطبي. والبيت : من مشطور الرجز لرؤبة ابن العجاج (ديوانه ص 16) من أرجوزة يمدح بها بلال بن أبي بردة ، وهو عامر بن عبد الله بن قيس ، مطلعها أتعتبني والهوى ذو عتب
.

(19/553)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا العباس ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : أخبرنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قال : قال لهما : ( مَا خَطْبُكُمَا ) معتزلتين لا تسقيان مع الناس.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وجد لهما رحمة ، ودخلته فيهما خشية ، لما رأى من ضعفهما ، وغَلَبَةِ الناس على الماء دونهما ، فقال لهما : ما خطبكما : أي ما شأنكما.
وقوله : ( قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ) يقول جل ثناؤه : قالت المرأتان لموسى : لا نسقي ماشيتنا حتى يصدر الرعاء مَوَاشِيهِم ، لأنا لا نطيق أن نسقي ، وإنما نسقي مواشينا ما أفضلَتْ مواشي الرعاء في الحوض ، والرّعاء : جمع راع ، والراعي جمعه رعاء ورعاة ورعيان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قال : لما قال موسى للمرأتين : ( مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) : أي لا نستطيع أن نسقي حتى يسقي الناس ، ثم نَتَّبع فضلاتهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ) قال : تنتظران تسقيان من فضول ما في الحياض حياض الرعاء.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ) امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال( وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) لا يقدر أن يمسّ ذلك من نفسه ، ولا يسقي ماشيته ، فنحن ننتظر الناس حتى إذا فرغوا أسقينا ثم انصرفنا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز سوى أبي جعفر القارئ وعامة قرّاء العراق سوى أبي عمرو : ( يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ) بضم الياء ،

(19/554)


وقرأ ذلك أبو جعفر وأبو عمرو بفتح الياء من يصدر الرعاء عن الحوض. وأما الآخرون فإنهم ضموا الياء ، بمعنى : أصدر الرعاء مواشيهم ، وهما عندي قراءتان متقاربتا المعنى ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله : ( وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) يقولان : لا يستطيع من الكبر والضعف أن يَسْقِيَ ماشيته.
وقوله : ( فَسَقَى لَهُمَا ) ذُكِرَ أنه عليه السلام فتح لهما عن رأس بئر كان عليها حَجَر لا يطيق رفعه إلا جماعة من الناس ، ثم استسقى فسَقى لهما ماشيتهما منه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : فتح لهما عن بئر حجرا على فيها ، فسقى لهما منها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج بنحوه ، وزاد فيه : قال ابن جُرَيج : حجرا كان لا يطيقه إلا عشرة رَهْط.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن شريح ، قال : انتهى إلى حجر لا يرفعه إلا عشرة رجال ، فرفعه وحده.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : رحمهما موسى حين( قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) فأتى إلى البئر فاقتلع صخرة على البئر كان النفر من أهل مَدْيَنَ يجتمعون عليها ، حتى يرفعوها ، فسقى لهما موسى دلوا فأروتا غنمهما ، فرجعتا سريعا ، وكانتا إنما تسقيان من فُضول الحياض.
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس( فَسَقَى لَهُمَا ) فجعل يغرف في الدلو ماء كثيرا حتى كانتا أوّل الرعاء ريا ، فانصرفتا إلى أبيهما بغنمهما.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، وقال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : تصدق عليهما نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فسقى لهما ، فلم يلبث أن أروى غنمهما.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أخذ دلوهما موسى ، ثم تقدّم إلى السقاء بفضل قوّته ، فزاحم القوم على الماء حتى أخَّرهم عنه ، ثم سقى لهما.

(19/555)


فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) }
يقول تعالى ذكره : فسقى موسى للمرأتين ماشيتهما ، ثم تولى إلى ظلّ شجرة ذُكِر أنها سَمُرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( ثُمَّ تَوَلَّى) موسى إلى ظلّ شجرة سَمُرة ، فقال : ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ).
حدثني العباس ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قال : انصرف موسى إلى شجرة ، فاستظلَّ بظلِّها ، ( فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ).
حدثني الحسين بن عمرو العنقزي ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله ، قال : حثثت على جَمَل لي ليلتين حتى صبحت مدين ، فسألت عن الشجرة التي أوى إليها موسى ، فإذا شجرة خضراء تَرفّ ، فأهوى إليها جملي وكان جائعا ، فأخذها جملي ، فعالجها ساعة ، ثم لفظها ، فدعوت الله لموسى عليه السلام ، ثم انصرفت.
وقوله : ( فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) محتاج. وذُكِر أن نبيّ الله موسى عليه السلام قال هذا القول ، وهو بجهد شديد ، وعَرَّض ذلك للمرأتين تعريضا لهما ، لعلهما أن تُطعماه مما به من شدّة الجوع.
وقيل : إن الخير الذي قال نبي الله( إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) محتاج ، إنَّمَا عنى به : شَبْعَةٌ من طعام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : لما هرب موسى من فرعون أصابه جوع شديد ، حتى كانت تُرى أمعاؤه من ظاهر الصِّفاق; فلما سقى للمرأتين ، وأوى إلى الظلّ ، قال : ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ).

(19/556)


حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عنبسة ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) قال : ورد الماء وإنه ليتراءَى خُضرةُ البقل في بطنه من الهُزال ، ( فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) قال : شَبعةُ.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيُّ ، قال : ثنا حَكَّام بن سلم ، عن عنبسة ، عن أبي حُصَين ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) قال : ورد الماء ، وإن خُضرة البقل لتُرى في بطنه من الهُزال.
حدثني نصر بن عبد الرحمن ، قال : ثنا حكام بن سَلْم ، عن عنبسة ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جُبَيْر( إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) قال : شَبْعَةُ يومئذ.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله ، فقال : ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) قال : قال هذا وما معه درهم ولا دينار.
قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد( إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) قال : ما سأل إلا الطعام.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة بن الفضل ، عن سفيان الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : فقال : ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) قال : ما سأل ربه إلا الطعام.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي قال : ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) قال : قال ابن عباس : لقد قال موسى : ولو شاء إنسان أن ينظر إلى خُضْرة أمعائه من شدة الجوع ، وما يسأل الله إلا أكلة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) قال : كان نبي الله بجهد.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن عطاء بن السائب في قوله : ( إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) قال : بلغني أن موسى قالها وأسمع المرأة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني

(19/557)


فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)

الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نُجَيح ، عن مجاهد ، قوله : ( مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) قال : طعام.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) قال : طعام.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) قال : الطعام يَسْتَطْعِم ، لم يكن معه طعام ، وإنما سأل الطعام.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) }
يقول تعالى ذكره : فجاءت موسى إحدى المرأتين اللتين سَقَى لهما تمشي على استحياء من موسى ، قد سترت وجهها بثوبها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو السائب والفضل بن الصباح ، قالا ثنا ابن فضيل ، عن ضرار بن عبد الله بن أبي الهُذَيل ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، في قوله : ( فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) قال : مستترة بكمّ درعها ، أو بكمّ قميصها.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن حماد بن عمرو الأسدي ، عن أبي سِنان ، عن ابن أبي الهُذَيل عن عمر رضي الله عنه ، قال : واضعة يدها على وجهها مستترة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نَوْف : ( فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) قال : قد سترت وجهها بيديها.
قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نَوْف ، بنحوه.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف( فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) قال : قائلة بيديها على وجهها ، ووضع

(19/558)


أبي يده على وجهه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عَمرو بن ميمون( فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) قال : ليست بِسَلْفَع من النساء خرّاجة ولاجة واضعة ثوبها على وجهها ، تقول : ( إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ).
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه( فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) قال : لم تكن سلفعا من النساء خرَّاجة ولاجَة ، قائلة بيدها على وجهها( إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثنا قرة بن خالد ، قال : سمعت الحسن يقول ، في قوله : ( فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) قال : بعيدة من البَذَاء.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) قال : أتته تمشي على استحياء منه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) قال : واضعة يدها على جبينها.
وقوله : ( قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) يقول تعالى ذكره : قالت المرأة التي جاءت موسى تمشي على استحياء : إن أبي يدعوك ليجزيك : تقول : يثيبَك أجر ما سقيت لنا.
وقوله : ( فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ) يقول : فمضى موسى معها إلى أبيها ، فلما جاء أباها وقصّ عليه قصصه مع فرعون وقومه من القبط ، قال له أبوها : (لا تَخَفْ) فقد(نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني : من فرعون وقومه ، لأنه لا سلطان له بأرضنا التي أنت بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : ثنا الأصبغ ، قال : ثنا القاسم ،

(19/559)


قال : ثنا سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس ، قال : استنكر أبو الجاريتين سُرعة صدورهما بغنمهما حُفَّلا بطانا ، فقال : إن لكما اليوم لشأنا.
قال أبو جعفر : احسبه قال : فأخبرتاه الخبر; فلما أتاه موسى كلمه ، ( قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ، ولسنا في مملكته.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما رجعت الجاريتان إلى أبيهما سريعا سألهما ، فأخبرتاه خبر موسى ، فأرسل إليه إحداهما ، فأتته تمشي على استحياء ، وهي تستحي منه( قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) فقام معها ، وقال لها : امضي ، فمشت بين يديه ، فضربتها الريح ، فنظر إلى عجيزتها ، فقال لها موسى : امشي خلفي ، ودُليني على الطريق إن أخطأت. فلما جاء الشيخ وقصّ عليه القصص( قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) قال : قال مُطَرِّف : أما والله لو كان عند نبيّ الله شيء ما تتبع مذقيهما (1) ولكن إنما حمله على ذلك الجَهْد( فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : رجعتا إلى أبيهما في ساعة كانتا لا ترجعان فيها ، فأنكر شأنهما ، فسألهما فأخبرتاه الخبر ، فقال لإحداهما : عجِّلي عليّ به ، فأتته على استحياء فجاءته ، فقالت : ( إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) فقام معها كما ذُكِر لي ، فقال لها : امشي خلفي ، وانعتي لي الطريق ، وأنا أمشي أمامك ، فإنا لا ننظر إلى أدبار النساء; فلما جاءه أخبره الخبر ، وما أخرجه من بلاده( فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) وقد أخبرت أباها بقوله : إنَّا لا ننظر إلى أدبار النساء.
__________
(1) مذقيهما : مثنى مذق ، وهو اللبن يخلط بالماء ، ويشرب. يريد أن موسى عليه السلام ، لم يكن معه مال ولا زاد.

(19/560)


قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ (26) }
يقول تعالى ذكره : قالت إحدى المرأتين اللتين سقى لهما موسى لأبيها حين أتاهُ موسى ، وكان اسم إحداهما صَفُّورا ، واسم الأخرى لَيّا ، وقيل : شَرْفا كذلك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني وهب بن سليمان الرمادي ، عن شعيب الجَبَئِي ، قال : اسم الجاريتين لَيّا ، وصَفُّورَا ، وامرأة موسى صفُّورا ابنة يثرون (1) كاهن مدين ، والكاهن : حبر.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : إحداهما صَفُّورا ابنة يثرون وأختها شَرَفا ، ويقال : ليا ، وهما اللتان كانتا تذودان. وأما أبوهما ففي اسمه اختلاف ، فقال بعضهم : كان اسمه يثرون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمر بن مرّة ، عن أبي عُبيدة ، قال : كان الذي استأجر موسى ابنُ أخي شعيب يثرون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي عُبيدة ، قال : الذي استأجر موسى يثرون ابنُ أخي شعيب عليه السلام .
وقال آخرون : بل اسمه : يَثَرى .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا العلاء بن عبد الجبار ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس قال : الذي استأجر موسى : يثرى صاحب مدين.
حدثني أبو العالية العبدي إسماعيل بن الهيثم ، قال : ثنا أبو قُتيبة ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس ، قال : الذي استأجر موسى : يثرى صاحب مدين.
حدثني أبو العالية العبديّ إسماعيل بن الهيثم ، قال : ثنا أبو قُتيبة ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس ، قال : اسم أبي المرأة : يثرى .
__________
(1) يثرون ويثري : كذا في الأصل. وفي العرائس (قصص الأنبياء ، لأبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري المعروف بالثعلبي المتوفى سنة 427 هـ ص 174 : " ثبرون " ). ولعله تحريف من الناسخ.

(19/561)


وقال آخرون : بل اسمه شعيب ، وقالوا : هو شعيب النبيّ صلى الله عليه وسلم .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا قرّة بن خالد ، قال : سمعت الحسن يقول : يقولون شعيب صاحب موسى ، ولكنه سيد أهل الماء يومئذ.
قال أبو جعفر : وهذا مما لا يُدرك علمه إلا بخبر ، ولا خبر بذلك تجب حجته ، فلا قول في ذلك أولى بالصواب مما قاله الله جل ثناؤه( وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ... قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ) تعني بقولها : استأجره ليرعى عليك ماشيتك.
( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ) تقول : إن خير من تستأجره للرعي القويّ على حفظ ماشيتك والقيام عليها في إصلاحها وصلاحها ، الأمين الذي لا تخاف خيانته ، فيما تأمنه عليه.
وقيل : إنها لما قالت ذلك لأبيها ، استنكر أبوها ذلك من وصفها إياه فقال لها : وما علمك بذلك ؟ فقالت : أما قوّته فما رأيت من علاجه ما عالج عند السقي على البئر ، وأما الأمانة فما رأيت من غضّ البصر عني.
وبنحو ذلك جاءت الأخبار عن أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قال : ( قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ) قال : فأحفظته الغَيْرة أن قال : وما يدريك ما قوّته وأمانته ؟ قالت : أما قوّته ، فما رأيت منه حين سقى لنا ، لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه; وأما أمانته ، فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له ، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه ، ولم ينظر إلي حتى بلغته رسالتك ، ثم قال : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين ، فسُرّي عن أبيها وصدَّقها وظن به الذي قالت.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لموسى( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ) يقول : أمين فيما وَلِيَ ، أمين على ما استُودع.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ،

(19/562)


عن ابن عباس ، قوله : ( قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ) قال : إن موسى لما سَقَى لهما ، ورأت قوته ، وحرّك حجَرا على الركِيّة ، لم يستطعه ثلاثون رجلا فأزاله عن الركية ، وانطلق مع الجارية حين دعته ، فقال لها : امشي خلفي وأنا أمامك ، كراهية أن يرى شيئا من خلفها مما حرّم الله أن ينظر إليه ، وكان يوما فيه ريح.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عبد الرحمن بن أبي نعم ، في قوله : ( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ) قال لها أبوها : ما رأيت من أمانته ؟ قالت : لما دعوته مشيت بين يديه ، فجعلت الريح تضرب ثيابي ، فتلزق بجسدي ، فقال : كوني خلفي ، فإذا بلغت الطريق فاذهبي ، قالت : ورأيته يملأ الحوض بسجل واحد.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( الْقَوِيُّ الأمِينُ ) قال : غضّ طرفه عنهما. قال محمد بن عمرو في حديثه : حين ، أو حتى سقى لهما فصدرتا. وقال الحارث في حديثه : حتى سقى بغير شك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : فتح عن بئر حجرا على فيها ، فسقى لهما بها ، والأمين : أنه غضّ بصره عنهما حين سقى لهما فصدرتا.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو خالد الأحمر وهانئ بن سعيد ، عن الحجاج ، عن القاسم ، عن مجاهد( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ) قال : رفع حجرا لا يرفعه إلا فِئام من الناس.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، قال عمرو بن ميمون ، في قوله : ( الْقَوِيُّ الأمِينُ ) قال : كان يوم ريح ، فقال : لا تمشي أمامي ، فيصفك الريح لي ، ولكن امشي خلفي ودلِّيني على الطريق; قال : فقال لها : كيف عرفت قوته ؟قالت : كان الحجر لا يطيقه إلا عشرة فرفعه وحده.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو معاوية ، عن الحجاج بن أرطأة ، عن الحكم ، عن شريح في قوله : ( الْقَوِيُّ الأمِينُ ) قال : أما قوّته : فانتهى إلى حجر لا يرفعه إلا عشرة ، فرفعه وحده. وأما أمانته : فإنها مشت أمامه فوصفها الريح ، فقال لها : امشي خلفي وصفي لي الطريق.

(19/563)


قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن عمرو ، عن زائدة ، عن الأعمش ، قال : سألت تميم بن إبراهيم : بم عرفت أمانته ؟قال : في طرفه ، بغضّ طرفه عنها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : ( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ) قال : القويّ في الصنعة ، الأمين فيما وَلِيَ.
قال : وذُكر لنا أن الذي رأت من قوّته : أنه لم تلبث ماشيتها حتى أرواها; وأن الأمانة التي رأت منه أنها حين جاءت تدعوه ، قال لها : كوني ورائي ، وكره أن يستدبرها ، فذلك ما رأت من قوّته وأمانته.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله : ( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ) قال : بلغنا أن قوّته كانت سرعة ما أروى غنمهما. وبلغنا أنه ملأ الحوض بدلو (1) واحد. وأما أمانته فإنه أمرها أن تمشي خلفه.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي : ( قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ) وهي الجارية التي دعته ، قال الشيخ : هذه القوة قد رأيت حين اقتلع الصخرة ، أرأيت أمانته ، ما يدريكِ ما هي ؟ قالت : مشيت قدّامه فلم يحبّ أن يخونني في نفسي ، فأمرني أن أمشي خلفه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ) فقال لها : وما عِلْمكِ بقوته وأمانته ؟ فقالت : أما قوّته فإنه كشف الصخرة التي على بئر آل فلان ، وكان لا يكشفها دون سبعة نفر. وأما أمانته فإني لما جئت أدعوه قال : كوني خَلْفَ ظهري ، وأشيري لي إلى منزلك ، فعرفت أن ذلك منه أمانة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ) لما رأت من قوّته وقوله : لها ما قال : أنِ امشي خلفي ، لئلا يرى منها شيئا مما يكره ، فزاده ذلك فيه رغبة.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ
__________
(1) الدلو : الذي يستقى به من البئر ونحوها : يذكر ويؤنث (عن اللسان).

(19/564)


وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) }
يقول تعالى ذكره : (قَالَ) أبو المرأتين اللتين سقى لهما موسى لموسى : ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ) يعني بقوله : ( عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ) : على أن تثيبني من تزويجها رعي ماشيتي ثماني حِجَج ، من قول الناس : آجرك الله فهو يَأْجُرُك ، بمعنى : أثابك الله; والعرب تقول : أَجَرْت الأجير آجره ، بمعنى : أعطيته ذلك ، كما يقال : أخذته فأنا آخذه. وحكى بعض أهل العربية من أهل البصرة أن لغة العرب : أَجَرْت غلامي فهو مأجور ، وآجرته فهو مُؤْجَر ، يريد : أفعلته.
قال : وقال بعضهم : آجره فهو مؤاجر ، أراد فاعلته; وكأن أباها عندي جعل صداق ابنته التي زوجها موسى رعي موسى عليه ماشيته ثمانيَ حِجَج ، والحجَج : السنون.
وقوله : ( فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ) يقول : فإن أتممت الثماني الحجج عشرا التي شرطتها عليك بإنكاحي إياك إحدى ابنتي ، فجعلتها عشر حجج ، فإحسان من عندك ، وليس مما اشترطته عليك بسبب تزويجك ابنتي( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ) باشتراط الثماني الحِجَج عَشْرا عليك( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) في الوفاء بما قلت لك.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) أي في حُسن الصحبة والوفاء بما قلت.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) }
يقول تعالى ذكره : (قَالَ) موسى لأبي المرأتين( ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ) أي هذا الذي قلتَ من أنك تزوّجني أحدى ابنتيك على أن آجرك ثماني حجَج ، واجب بيني وبينك ، على كل واحد منا الوفاء لصاحبه بما أوجب له على نفسه.
وقوله : ( أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ ) يقول : أيّ الأجلين من الثماني الحجج والعشر الحجَج قضيت ، يقول : فرغت منها فوفيتكها رعي غنمك وماشيتك( فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ ) يقول : فليس لك أن تعتدي عليّ ، فتطالبني بأكثر منه ، و " ما " في قوله : ( أَيَّمَا

(19/565)


الأجَلَيْنِ ) صلة يوصل بها أي على الدوام (1) وزعم أهل العربية أن هذا أكثر في كلام العرب من أيّ ، وأنشد قول الشاعر :
وَأَيُّهُمَا مَا أَتَبَعَنَّ فَإِنَّنِي... حَرِيصٌ عَلَى أَثَرِ الَّذِي أَنَا تَابِعُ (2)
وقال عباس بن مرداس :
فَأَيِّي مَا وَأَيُّكَ كَانَ شَرًّا... فَقِيدَ إلى المَقَامَةِ لا يَرَاهَا (3)
وقوله : ( وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) كان ابن إسحاق يرى هذا القول من أبي المرأتين.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال موسى( ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ قَالَ نَعَمْ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) فزوّجه ، وأقام معه يكفيه ، ويعمل له في رعاية غنمه ، وما يحتاج إليه منه.
وزوجة موسى صَفُّورا أو أختها شرفا أو ليَّا :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قال ابن عباس; الجارية التي دعته هي التي تزوّج.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال له( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ) ... إلى آخر الآية ، قال : وأيتهما تريد أن تنكحني ؟ قال : التي دعتك ، قال : ألا وهي بريئة مما دخل نفسك عليها ، فقال : هي عندك كذلك ، فزوّجه.
__________
(1) يظهر أن في عبارة الأصل سقطًا ، يعلم من عبارة الفراء في شرح البيت الآتي. وقوله : " على الدوام " أي أن (ما) الزائدة تلحق بلفظ أي دائمًا ، وقوله وزعم أهل العربية... إلخ : يريد أن أهل العربية قالوا : إن " ما " إما أن تلحق بلفظ أي ، أو تجيء بعدما أضيف إليه " أي " ، وهذا أكثر في كلام العرب كما يعلم من الشاهدين الآتيين بعد.
(2) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (ص 241) على أن (ما) قد تزاد بعد المضاف إلى " أي " أداة الجزاء.قال : قوله (أيما الأجلين) فجعل ما وهي صلة من صلات الجزاء مع أي. وهي في قراءة عبد الله : (أي الأجلين ما قضيت فلا عدوان علي). وهذا أكثر في كلام العرب من الأول. ويتضح من هذا أن عبارة المؤلف قاصرة أو فيها جزء ساقط قبل قوله : " وزعم أهل العربية.... " إلخ.
(3) البيت لعباس بن مرداس. وقد تقدم الاستشهاد به في مواضع. والشاهد هنا في زيادة " ما " بعدما أضيف إليه إي والمقامة : المجلس. وقيد إلى المقامة : دعاء عليه بأن يعمى ، فلا يصل إلى مجلس قومه إلا إذا قيد.

(19/566)


وبنحو الذي قلنا في قوله : ( أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي : ( قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ ) إما ثمانيا ، وإما عشرًا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن عمارة بن غزية ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، وسأله رجل قال( أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ ) قال : فقال القاسم : ما أبالي أيّ ذلك كان ، إنما هو موعد وقضاء.
وقوله : ( وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) يقول : والله على ما أوجب كلّ واحد منا لصاحبه على نفسه بهذا القول ، شهيد وحفيظ.
كالذي حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) قال : شهيد على قول موسى وخَتَنه.
وذكر أن موسى وصاحبه لما تعاقدا بينهما هذا العقد ، أمر إحدى ابنتيه أن تعطي موسى عصًا من العِصِيّ التي تكون مع الرعاة ، فأعطته إياه ، فذكر بعضهم أنها العصا التي جعلها الله له آية.
وقال بعضهم تلك عصا أعطاه إياها جبريل عليه السلام .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : أمر - يعني أبا المرأتين - إحدى ابنتيه أن تأتيه ، يعني أن تأتيَ موسى بعصا ، فأتته بعصًا ، وكانت تلك العصا عصًا استودعها إياه ملك في صورة رجل ، فدفعها إليه ، فدخلت الجارية ، فأخذت العصا ، فأتته بها; فلما رآها الشيخ قال : لا ائتيه بغيرها ، فألقتها تريد أن تأخذ غيرها ، فلا يقع في يدها إلا هي ، وجعل يردّدها ، وكل ذلك لا يخرج في يدها غيرها; فلما رأى ذلك عمد إليها ، فأخرجها معه ، فَرعَى بها. ثم إن الشيخ ندم وقال : كانت وديعة ، فخرج يتلقى موسى ، فلما لقيه قال : اعطني العصا ، فقال موسى : هي عَصَايَ ، فأبى أن يعطيه ، فاختصما ، فرضيا أن يجعلا بينهما أوّل رجل يلقاهما ، فأتاهما ملك يمشي ، فقال : ضعوها في الأرض ، فمن حملها فهي له ، فعالجها الشيخ فلم يطقها ، وأخذ موسى بيده فرفعها ، فتركها له الشيخ ، فرعَى له عشر سنين. قال عبد الله بن عباس : كان موسى أحق بالوفاء.

(19/567)


حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قال - يعني أبا الجارية - لما زوّجها موسى لموسى : أدخل ذلك البيت فخذ عصا ، فتوكأ عليها ، فدخل ، فلما وقف على باب البيت ، طارت إليه تلك العصا ، فأخذها ، فقال : اردُدها وخذ أخرى مكانها ، قال : فردّها ، ثم ذهب ليأخذ أخرى ، فطارت إليه كما هي ، فقال : لا أرددها ، فعل ذلك ثلاثا ، فقال : ارددها ، فقال : لا أجد غيرها اليوم ، فالتفت إلى ابنته ، فقال لابنته : إن زوجك لنبيّ.
* ذكر من قال : التي كانت آية عصًا أعطاها موسى جبرائيل عليه السلام :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، قال : سألت عكرمة قال : أما عصا موسى ، فإنها خرج بها آدم من الجنة ، ثم قبضها بعد ذلك جبرائيل عليه السلام ، فلقي موسى بها ليلا فدفعها إليه.

(19/568)


فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) }
يقول تعالى ذكره : فلما وفى موسى صاحبه الأجل الذي فارقه عليه ، عند إنكاحه إياه ابنته ، وذكر أن الذي وفَّاه من الأجلين ، أتمهما وأكملهما ، وذلك العشر الحجج ، على أن بعض أهل العلم قد روي عنه أنه قال : زاد مع العشر عَشْرا أخرى.
ذكر من قال : الذي قضى من ذلك هو الحِجَج العَشْر :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، قال : سألت ابن عباس : أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قال : خيرهما وأوفاهما.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس سئل : أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أتمهما وأخيَرَهما.
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : ثنا موسى بن عُبَيدة ، عن أخيه ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قال : قضى موسى آخِر الأجلين.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن عبيدة ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرِمة ، سئل

(19/568)


ابن عباس : أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قال : أتمهما وأوفاهما.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن حكيم بن جُبَيْر ، عن سعيد بن جُبَيْر ، قال : قال يهودي بالكوفة وأنا أتجهز للحجّ : إني أراك رجلا تتتبع العلم ، أخبرني أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا أعلم ، وأنا الآن قادم على حَبْر العرب ، يعني ابن عباس ، فسائله عن ذلك; فلما قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك وأخبرته بقول اليهوديّ ، فقال ابن عباس : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن النبيّ إذا وعد لم يخلف ، قال سعيد : فقدمت العراق فلقيت اليهودي ، فأخبرته ، فقال : صدق ، وما أنزل على موسى هذا ، والله العالم.
قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا الأصبغ بن زيد ، عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، قال : سألني رجل من أهل النصرانية : أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا أعلم ، وأنا يومئذ لا أعلم ، فلقيت ابن عباس ، فذكرت له الذي سألني عنه النصراني ، فقال : أما كنت تعلم أن ثمانيا واجب عليه ، لم يكن نبيّ الله نقص منها شيئا ، وتعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عِدَته التي وعده ، فإنه قضى عشر سنين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ ) قال : حدث ابن عباس ، قال : رعى عليه نبيّ الله أكثرها وأطيبها.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيُّ الأجلين قضى موسى ؟ قال : " أَوْفَاهُمَا وَأَتَمَّهُمَا " .
حدثنا أحمد بن محمد الطوسي ، قال : ثنا الحميدي أبو بكر بن عبد الله بن الزُّبير (1) قال : ثنا سفيان ، قال : ثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سألْتُ جبْرَائِيلَ : أَيُّ الأجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى ؟ قَالَ : أَتَمَّهُمَا وَأَكْمَلَهُمَا " .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد : إن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأل جبرائيل : " أَيُّ الأجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى ؟ قَالَ سَوْفَ أَسْاَلُ إسْرَافِيلَ ، فَسَأَلَه فَقَالَ : سَوْفَ أَسْأَلُ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى ، فَسَألَهُ ،
__________
(1) في الخلاصة للخزرجي : عبد الله بن الزبير بن عبد الله (أبو عبيد الله) الأسدي الحميدي المكي أحد الأئمة.

(19/569)


فَقَال : أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا " .
ذكر من قال : قضى العَشْرَ الحجَج وزاد على العشْر عشرا أخرى :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ ) قال : عشر سنين ، ثم مكث بعد ذلك عشرا أخرى.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( قَضَى مُوسَى الأجَلَ ) عشر سنين ، ثم مكث بعد ذلك عشرا أخرى.
حدثني المثنى ، قال : ثنا معاذ بن هشام ، قال : ثنا أبي ، عن قَتادة ، قال : ثنا أنس ، قال : لما دعا نبيّ الله موسى صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما ، قال له صاحبه : كلّ شاة ولدت على غير لونها فلك ولد ، فعمد ، فرفع خيالا على الماء ، فلما رأت الخيال ، فزعت ، فجالت جولة فولدن كلهنّ بُلقا ، إلا شاة واحدة ، فذهب بأولادهنّ ذلك العام.
وقوله : ( وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا ) يقول تعالى ذكره : ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ) شاخصا بهم إلى منزله من مصر( آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ ) يعني بقوله : آنس : ابصر وأحسّ كما قال العجَّاج :
آنَسَ خِرْبَانَ فَضَاءٍ فَانْكَدَرْ... دَانى جَنَاحَيْهِ مِن الطُّورِ فَمَرّ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل ، غير أنا نذكر ههنا بعض ما لم نذكر قبل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ
__________
(1) هذان بيتان من مشطور الرجز للعجاج الراجز (ديوانه طبع ليبسج سنة 1903 ص17) ورقم البيت الأول هو 76 ورقم الثاني هو 74. وفي رواية الأول : " أبصر " في موضع " آنس " وهما بمعنى. والخربان بالكسر جمع خرب كسبب ، وهو ذكر الحبارى ، وقيل : هو الحبارى كلها. ومن جموعه أيضًا : أخراب ، وخراب. وانكدر : أسرع وانقض. والضمير في الفعلين للبازي المذكور في البيت قبله ، وقد شبه الممدوح عمر بن عبيد الله بالبازي ينقض على أعدائه ، كما ينقض البازي على الحبارى ، فيصيدها. وانظر شرح البيت الثاني مطولا في الجزء (9 : 243). وهذه الأرجوزة يمدح بها العجاج عمر بن عبيد الله بن معمر ، وقد ولاه ابن الزبير العراق لمحاربة عبيد الله بن بشير بن الماجوز من الخوارج ، فعهد في حربهم إلى أخيه عثمان ابن عبيد الله بن معمر ، فقتل. (انظر البلاذري مخطوط بدار الكتب المصرية).

(19/570)


نَارًا قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ) : أي أحسست نارا.
وقد بيَّنا معنى الطور فيما مضى بشواهده ، وما فيه من الرواية عن أهل التأويل.
وقوله : ( لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ) يقول : قال موسى لأهله : تَمهَّلُوا وانتظروا : إنّي أبصرت نارا( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا ) يعني من النار( بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ ) يقول : أو آتيكم بقطعة غليظة من الحطب فيها النار ، وهي مثل الجِذْمة من أصل الشجرة; ومنه قول ابن مقبل :
بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا... جَزْلَ الجِذَا غيرَ خَوَّارٍ وَلا دَعِرِ (1)
وفي الجِذوة لغات للعرب ثلاث : جِذوة بكسر الجيم ، وبها قرأت قرّاء الحجاز والبصرة وبعض أهل الكوفة. وهي أشهر اللغات الثلاث فيها ، وجَذوة بفتح الجيم ، وبها قرأ أيضًا بعض قرّاء الكوفة (2) . وهذه اللغات الثلاث وإن كنّ مشهورات في كلام العرب ، فالقراءة بأشهرها أعجب إليّ ، وإن لم أنكر قراءة من قرأ بغير الأشهر منهنّ.
وبنحو الذي قلنا في معنى الجذوة قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ ) يقول : شهاب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( أَوْ جَذْوَةٍ ) والجذوة : أصل شجرة فيها نار.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله : ( إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ ) قال : أصل الشجرة
__________
(1) البيت لتميم بن مقبل (اللسان : جذا) قال : يقال لأصل الشجرة : جذية وجذاة (الأولى بكسر الجيم ، والثانية بفتحها). الأصمعي : جذم كل شيء وجذيه : أصله والجذاء : أصول الشجر العظام العادية ، التي بلي أعلاها. وبقي أسفلها ، قال تميم بن مقبل : " باتت حواطب ليلى... " البيت. اه. والحواطب : جمع حاطبة ، وهي الأمة تجمع الحطب. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن : " جذوة من النار " : أي قطعة غليظة من الحطب ، ليس فيها لهب ، وهي مثل الجذمة ، من أصل الشجرة : قال ابن مقبل : " باتت حواطب ليلى... " البيت. اه.والخوار : الضعيف. والدعر : العود يدخن كثيرًا ولا ينقد وهو الرديء الدخان. وقيل : الدعر من الحطب : البالي.
(2) سقط من قلم الناسخ اللغة الثالثة ، وهي : جذوة (بضم الجيم) وبها قرئ أيضًا.

(19/571)


فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)

في طرفها النار ، فذلك قوله : ( أَوْ جَذْوَةٍ ) قال : السعف فيه النار. قال مَعْمر ، وقال قَتادة( أَوْ جَذْوَةٍ ) : أو شُعلة من النار.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ ) قال : أصل شجرة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ ) قال : أصل شجرة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ ) قال : الجَذوة : العود من الحطب الذي فيه النار ، ذلك الجذوة.
وقوله : ( لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ) يقول : لعلكم تسخنون بها من البرد ، وكان في شتاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) }
يقول تعالى ذكره : فلما أتى موسى النار التي( آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ )( نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأيْمَن ) يعني بالشاطئ : الشط ، وهو جانب الوادي وعدوته ، والشاطئ يجمع شواطئ وشطآن. والشطّ : الشُّطوطَ ، والأيمن : نعت من الشاطئ عن يمين موسى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأيْمَن ) قال ابن عمرو في حديثه : عند الطور. وقال الحارث في حديثه : من شاطئ الوادي الأيمن عند الطور عن يمين موسى.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأيْمَنِ ) قال : شِقّ الوادي عن يمين موسى عند الطور.

(19/572)


وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)

وقوله : ( فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ ) من صلة الشاطئ.
وتأويل الكلام : فلما أتاها نادى الله موسى من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة منه من الشجرة( أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ).
وقيل : إن معنى قوله : (مِنَ الشَّجَرَةِ) : عند الشجرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) قال : نودي من عند الشجرة(أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ).
وقيل : إن الشجرة التي نادى موسى منها ربه : شجرة عَوْسَج. وقال بعضهم : بل كانت شجرة العُلَّيق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : ( الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ) قال : الشجرة عوسج. قال معمر ، عن قَتادة : عصا موسى من العَوْسج; والشجرة من العَوْسج.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض من لا يتهم ، عن بعض أهل العلم( إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ) قال : خرج نحوها ، فإذا هي شجرة من العُلَّيق ، وبعض أهل الكتاب يقول : هي عَوْسجة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : رأيت الشجرة التي نودي منها موسى عليه السلام ، شجرة سَمْراء خضراء ترفّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) }

(19/573)


يقول تعالى ذكره : نودي موسى : ( أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ) فألقاها موسى ، فصارت حية تسعى.
( فَلَمَّا رَآهَا ) موسى( تَهْتَزُّ )يقول : تتحرك وتضطرب( كَأَنَّهَا جَانٌّ ) والجانّ واحد الجِنّان ، وهي نوع معروف من أنواع الحيات ، وهي منها عظام. ومعنى الكلام : كأنها جانّ من الحيات( وَلَّى مُدْبِرًا ) يقول : ولى موسى هاربا منها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَلَّى مُدْبِرًا ) فارا منها ، ( وَلَمْ يُعَقِّبْ ) يقول : ولم يرجع على عقبه.
وقد ذكرنا الرواية في ذلك ، وما قاله أهل التأويل فيما مضى ، فكرهنا إعادته ، غير أنا نذكر في ذلك بعض ما لم نذكره هنالك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَلَمْ يُعَقِّبْ ) يقول : ولم يعقب ، أي لم يلتفت من الفرق.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( وَلَمْ يُعَقِّبْ ) يقول : لم ينتظر.
وقوله : ( يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ ) يقول تعالى ذكره : فنودي موسى : يا موسى أقبل إليّ ولا تخف من الذي تهرب منه( إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ) من أن يضرّك ، إنما هو عصاك.
وقوله : ( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ) يقول : أدخل يدك ، وفيه لغتان : سلكته ، وأسلكته( فِي جَيْبِكَ ) يقول : في جيب قميصك.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ) : أي في جيب قميصك.
وقد بيَّنا فيما مضى السبب الذي من أجله أُمر أن يدخل يده في الجيب دون الكمّ.
وقوله : ( تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) يقول : تخرج بيضاء من غير برص.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا ابن المفضل ، قال : ثنا قرة بن خالد ، عن الحسن ، في قوله : ( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) قال : فخرجت كأنها المصباح ، فأيقن موسى أنه لقي ربه.
وقوله : ( وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ) يقول : واضمم إليك يدك.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال :

(19/574)


قال ابن عباس( وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ) قال : يدك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد( وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ) قال : وجناحاه : الذراع. والعضد : هو الجناح. والكفّ : اليد ، ( اضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ).
وقوله : ( مِنَ الرَّهْبِ ) يقول : من الخوف والفرَق الذي قد نالك من معاينتك ما عاينت من هول الحية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( مِنَ الرَّهْبِ ) قال : الفرَق.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ) : أي من الرعب.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( مِنَ الرَّهْبِ ) قال : مما دخله من الفرق من الحيّة والخوف ، وقال : ذلك الرهب ، وقرأ قول الله : ( يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ) قال : خوفا وطمعا.
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل الحجاز والبصرة : (مِنَ الرَّهَب) بفتح الراء والهاء. وقرأته عامة قرّاء الكوفة : (مِنَ الرُّهْبِ) بضم الراء وتسكين الهاء ، والقول في ذلك أنهما قراءتان متفقتا المعنى مشهورتان في قراء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله : ( فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ ) يقول تعالى ذكره : فهذان اللذان أريتكهما يا موسى من تحول العصا حية ، ويدك وهي سمراء ، بيضاء تلمع من غير برص ، برهانان : يقول : آيتان وحجتان. وأصل البرهان : البيان ، يقال للرجل : يقول القول إذا سئل الحجة عليه : هات برهانك على ما تقول : أي هات تبيان ذلك ومصداقه.

(19/575)


قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ ) العصا واليد آيتان.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله( فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ ) تبيانان من ربك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ ) هذان برهانان.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ ) فقرأ : ( هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) على ذلك آية نعرفها ، وقال : ( برهانان ) آيتان من الله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : (فَذَانِكَ) فقرأته عامة قراء الأمصار ، سوى ابن كثير وأبي عمرو : ( فَذَانِكَ ) بتخفيف النون ، لأنها نون الاثنين ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : " فَذَانِّكَ " بتشديد النون.
واختلف أهل العربية في وجه تشديدها ، فقال بعض نحويي البصرة : ثقل النون من ثقلها للتوكيد ، كما أدخلوا اللام في ذلك. وقال بعض نحويي الكوفة : شددت فرقا بينها وبين النون التي تسقط للإضافة ، لأن هاتان وهذان لا تضاف. وقال آخر منهم : هو من لغة من قال : هذاآ قال ذلك ، فزاد على الألف ألفا ، كذا زاد على النون نونا ليفصل بينهما وبين الأسماء المتمكنة ، وقال في(ذَانِكَ) إنما كانت ذلك فيمن قال : هذان يا هذا ، فكرهوا تثنية الإضافة فأعقبوها باللام ، لأن الإضافة تعقب باللام.وكان أبو عمرو يقول : التشديد في النون في(ذَانِكَ) من لغة قريش.
يقول : ( إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) إلى فرعون وأشراف قومه ، حجة عليهم ، ودلالة على حقيقة نبوّتك يا موسى( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) يقول : إن فرعون وملأه كانوا قوما كافرين.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ

(19/576)


وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)

رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) }
يقول تعالى ذكره : ( قال ) موسى : ( رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ نَفْسًا فَأَخَافُ إن أتيتهم فلم أُبن عن نفسي بحجة( أَنْ يَقْتُلُونِ ) ، لأن في لساني عقدة ، ولا أبين معها ما أريد من الكلام( وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا ) يقول : أحسن بيانا عما يريد أن يبينه( فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا ) يقول : عونا( يُصَدِّقُنِي ) : أي يبين لهم عني ما أخاطبهم به. كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق( وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ) : أي يبين لهم عني ما أكلمهم به ، فإنه يفهم ما لا يفهمون. وقيل : إنما سأل موسى ربه يؤيده بأخيه ، لأن الاثنين إذا اجتمعا على الخير ، كانت النفس إلى تصديقهما ، أسكن منها إلى تصديق خبر الواحد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ) لأن الاثنين أحرى أن يصدّقا من واحد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ) قال عونا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ) : أي عونا.
وقال آخرون : معنى ذلك : كيما يصدقني.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ) يقول : كي يصدّقني.

(19/577)


قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسياط ، عن السدي( فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ) يقول : كيما يصدّقني.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ) يقول : كيما يصدّقني. والردء قي كلام العرب : هو العون ، يقال منه : قد أردأت فلانا على أمره : أي أكفيته وأعنته.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ( يُصَدِّقُنِي ) فقرأته عامة قراء الحجاز والبصرة : " رِدْءًا يُصَدِّقْنِي " بجزم يصدقني. وقرأ عاصم وحمزة : " يَصْدُقُنِي " برفعه ، فمن رفعه جعله صلة للردء ، بمعنى : فأرسله معي ردءًا من صفته يصدّقني; ومَن جزمه جعله جوابا لقوله : فأرسله ، فإنك إذا أرسلته صدّقني على وجه الخبر. والرفع في ذلك أحبّ القراءتين إليّ ، لأنه مسألة من موسى ربه أن يرسل أخاه عونا له بهذه الصفة.
وقوله : ( إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ) يقول : إني أخاف أن لا يصدقون على قولي لهم : إني أرسلت إليكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) }
يقول تعالى ذكره : قال الله لموسى( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ ) ; أي نقوّيك ونعينك بأخيك. تقول العرب إذا أعزّ رجل رجلا وأعانه ومنعه ممن أراده بظلم : قد شدّ فلان على عضد فلان ، وهو من عاضده على أمره : إذا أعانه ، ومنه قول ابن مقبل :
عَاَضدْتُهَا بِعَتُودٍ غَيْرَ مُعْتَلِثٍ... كَأَنَّه وَقْفُ عَاجٍ باتَ مَكْنُونا (1)
__________
(1) البيت لتميم بن مقبل ، قاله المؤلف نقلا عن مجاز القرآن لأبي عبيدة ، قال : (سنشد عضدك بأخيك) : أي سنقويك به ونعينك به. يقال إذا أعز رجل رجلا ومنعه : قد شد فلان على عضد فلان. وهو من عاضدته على أمره ، أي عاونته عليه وآزرته. قال ابن مقبل : " عاضدته.. بات مكنونًا " يعني قوسًا ، أي عاضدها بسهم. اه. انظر المصورة (رقم 26059 بجامعة القاهرة) والعتود : السدرة أو الطلحة ، ولعل سهم ابن مقبل كان من شجر السدر أو الطلح. والمعتك إما من اعتلث الزند إذا لم يور ، فهو حينئذ بكسر اللام ، وإما من اعتلث الرجل زندًا : أخذه من شجر لا يدري أيوري أم يصلد. وقال أبو حنيفة : اعتلث زنده إذا اعترض الشجر اعتراضًا ، فاتخذه مما وجد والغين لغة عنه أيضًا. وهو حينئذ بفتح اللام. والوقف من العاج : كهيئة السوار ، يريد ما في السهم من خطوط سود سمة له كالتي تكون في الوقف من العاج ، وقوله : " بات مكنونا " هذه رواية أبي عبيدة ، ولعل ما في الأصل تحريف من الناسخ. ومعناه أن السهم قد أعد وهيئ ووضع في الكنانة ، وهي جعبة السهام ، وبقي فيها إلى أن ركب في القوس.

(19/578)


يعني بذلك : قوسا عاضدها بسهم. وفي العضُد لغات أربع : أجودها : العَضُد ، ثم العَضْد ، ثم العُضُد ، والعُضْد. يجمع جميع ذلك على أعضاد.
وقوله : ( وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا ) يقول : ونجعل لكما حجة.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( لَكُمَا سُلْطَانًا ) حجة.
حدثنا القاسم قال : قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا ) والسلطان : الحجة.
وقوله : ( فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ) يقول تعالى ذكره : فلا يصل إليكما فرعون وقومه بسوء.وقوله : ( بِآَيَاتِنَا ) يقول تعالى ذكره : ( فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ) فالباء فِي قوله : بآياتنا من صلة غالبون. ومعنى الكلام : أنتما ومن اتبعكما الغالبون فرعون وملآه بآياتنا ؛ أي بحجتنا وسلطاننا الذي نجعله لكما.

(19/579)


فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ (36) }
يقول تعالى ذكره : فلما جاء موسى فرعون وملأه بأدلتنا وحججنا بينات أنها حجج شاهدة بحقيقة ما جاء به موسى من عند ربه ، قالوا لموسى : ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر افتريته من قبلك وتخرّصته كذبا وباطلا( وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا ) الذي تدعونا إليه من عبادة من تدعونا إلى عبادته في أسلافنا وآبائنا الأولين الذين مضوا قبلنا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) }

(19/579)


وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

يقول تعالى ذكره : ( وَقَالَ مُوسَى ) مجيبا لفرعون : ( رَبِّي أَعْلَمُ ) بالمحق منا يا فرعون من المبطل ، ومن الذي جاء بالرشاد إلى سبيل الصواب والبيان عن واضح الحجة من عنده ، ومن الذي له العقبى المحمودة في الدار الآخرة منا ، وهذه معارضة من نبيّ الله موسى عليه السلام لفرعون ، وجميل مخاطبة ، إذ ترك أن يقول له : بل الذي غرّ قومه وأهلك جنوده ، وأَضَلّ أتباعه أنت لا أنا ، ولكنه قال : ( رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ) ثم بالغ في ذمّ عدوّ الله بأجمل من الخطاب فقال : ( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) يقول : إنه لا ينجح ولا يدرك طلبتهم الكافرون بالله تعالى ، يعني بذلك فرعون إنه لا يفلح ولا ينجح لكفره به.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) }
يقول تعالى ذكره : وقال فرعون لأشراف قومه وسادتهم : ( يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) فتعبدوه ، وتصدّقوا قول موسى فيما جاءكم به من أن لكم وله ربا غيري ومعبودا سواي( فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ ) يقول : فاعمل لي آجرا ، وذُكر أنه أوّل من طبخ الآجر وبنى به.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ ) قال : على المدَر يكون لَبِنا مطبوخا.
قال ابن جُرَيج : أوّل من أمر بصنعة الآجرّ وبنى به فرعون.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : ( فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ ) قال : فكان أوّل من طبخ الآجرّ يبني به الصرح.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : ( فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ ) قال : المطبوخ الذي يوقد عليه هو من طين يبنون به البنيان.
وقوله : ( فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا ) يقول : ابنِ لي بالآجرّ بناء ، وكل بناء مسطح فهو صرح كالقصر. ومنه قول الشاعر :

(19/580)


وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)

بِهِنَّ نَعامٌ بَنَاهَا الرِّجَا... لُ تَحْسَبُ أعْلامَهُنَّ الصُّرُوحَا (1)
يعني بالصروح : جمع صرح.
وقوله : ( لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) يقول : انظر إلى معبود موسى ، الذي يعبده ، ويدعو إلى عبادته( وَإِنِّي لأظُنُّهُ ) فيما يقول من أن له معبودا يعبده في السماء ، وأنه هو الذي يؤيده وينصره ، وهو الذي أرسله إلينا من الكاذبين; فذكر لنا أن هامان بنى له الصرح ، فارتقى فوقه.
فكان من قصته وقصة ارتقائه ما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قال فرعون لقومه : ( يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي ) أذهب في السماء ، فأنظر( إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) فلما بُنِي له الصرح ، ارتقى فوقه ، فأمر بِنُشابة فرمى بها نحو السماء ، فردّت إليه وهي متلطخة دما ، فقال : قد قتلت إله موسى ، تعالى الله عما يقولون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) }
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي يصف طرق المفازة (اللسان : نعم). قال : النعامة : كل بناء أو ظلة أو علم يهتدي به من أعلام المفاوز. وقيل : كل بناء على الجبل كالظلة والعلم. والجمع : نعام. قال أبو ذؤيب يصف طرق المفازة : " بهن نعام... " البيت قال : وروى الجوهري عجز * تلقى النقائض فيه السريحا *
قال : والنقائض : الهزلي من الإبل. اه. وفي (اللسان : نقض) النفيضة نحو الطليعة ، وهم الجماعة يبعثون في الأرض متجسسين ، لينظروا : هل فيها عدو وخوف ؟ والجمع النفائض. هذا تفسير الأصمعي. وهكذا رواه أبو عمرو بالفاء إلا أنه قال في تفسيره : إنها الهزلي من الإبل. قال ابن بري : النعام : خشبات يستظل تحتها. والرجال : الرجالة. والسريح : سيور تشد بها النعال ، يريد أن نعال النقائض تقطعت. والصروح : جمع صرح ، وهو كما في (اللسان : صرح) بيت واحد يبنى منفردًا ضخمًا طويلا في السماء. قال أبو ذؤيب : عَلَى طُرُقِ كَنُحُورِ الظَّبَا ... ءِ تَحْسَبُ آرَامَهُنَّ الصُّرُحَا
وقال الزجاج في قوله تعالى : (قيل لها ادخلي الصرح) قال : الصرح في اللغة : القصر ، والصحن يقال : هذه صرحة الدار وقارعتها : أي ساحتها وعرصتها. وقال بعض المفسرين : الصرح : بلاط اتخذ لها من قوارير. والصرح : الأرض المملسة. والصرح متن من الأرض مستو. اه. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن. الصرح : البناء والقصر. ولم يزد ، وروى البيت كرواية صاحب اللسان.

(19/581)


وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

يقول تعالى ذكره : ( وَاسْتَكْبَرَ ) فرعون( وَجُنُودُهُ ) في أرض مصر عن تصديق موسى واتباعه على ما دعاهم إليه من توحيد الله ، والإقرار بالعبودية له بغير الحقّ ، يعني تَعدِّيًا وعتوًّا على ربهم( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ) يقول : وحسبوا أنهم بعد مماتهم لا يبعثون ، ولا ثواب ، ولا عقاب ، فركبوا أهواءهم ، ولم يعلموا أن الله لهم بالمرصاد ، وأنه لهم مجاز على أعمالهم الخبيثة.
وقوله : ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ ) يقول تعالى ذكره : فجمعنا فرعون وجنوده من القبط( فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ) يقول : فألقيناهم جميعهم في البحر فغرقناهم فيه ، كما قال أبو الأسود الدؤلي :
نَظَرْتُ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنَبَذْتُهُ... كَنَبْذِكَ نَعْلا أَخْلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا (1)
وذكر أن ذلك بحر من وراء مصر ، كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : ( فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ) قال : كان اليم بحرا يقال له إساف من وراء مصر غرّقهم الله فيه.
وقوله : ( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) يقول تعالى ذكره : فانظر يا محمد بعين قلبك : كيف كان أمر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بربهم ، وردّوا على رسوله نصيحته ، ألم نهلكهم فَنُوَرِّثُ ديارهم وأموالهم أولياءنا ، ونخوّلهم ما كان لهم من جنات وعيون وكنوز ، ومقام كريم ، بعد أن كانوا مستضعفين ، تقتل أبناؤهم ، وتُستحيا نساؤهم ، فإنا كذلك بك وبمن آمن بك وصدّقك فاعلون مخوّلوك وإياهم ديار من كذّبك ، وردّ عليك ما أتيتهم به من الحقّ وأموالهم ، ومهلكوهم قتلا بالسيف ، سنة الله في الذين خلوا من قبل.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) }
__________
(1) البيت لأبي الأسود الدؤلي ، كما قاله المؤلف وهو منقول عن مجاز القرآن لأبي عبيدة (الورقة 180ب) قال : (فأخذناه وجنوده) أي فجمعناه وجنوده. (فنبذناهم في اليم) : أي فألقيناهم في البحر ، وأهلكناهم وغرقناهم. قال أبو الأسود الدؤلي : " نظرت إلى عنوانه.. " البيت. اه. وفي (اللسان : نبذ) النبذ طرحك الشيء من يدك أو وراءك ونبذت الشيء : إذا رميته وأبعدته.

(19/582)


وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)

يقول تعالى ذكره : وجعلنا فرعون وقومه أئمة يأتمّ بهم أهل العتوّ على الله والكفر به ، يدعون الناس إلى أعمال أهل النار( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ ) يقول جلّ ثناؤه : ويوم القيامة لا ينصرهم إذا عذّبهم الله ناصر ، وقد كانوا في الدنيا يتناصرون ، فاضمحلت تلك النصرة يومئذ.
وقوله : ( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ) يقول تعالى ذكره : وألزمنا فرعون وقومه في هذه الدنيا خزيا وغضبا منا عليهم ، فحتمنا لهم فيها بالهلاك والبوار والثناء السَّيِّئ ، ونحن متبعوهم لعنة أخرى يوم القيامة ، فمخزوهم بها الخزي الدائم ، ومهينوهم الهوان اللازم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : ( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قال : لعنوا في الدنيا والآخرة ، قال : هو كقوله : ( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ) لعنة أخرى ، ثم استقبل فقال : ( هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ) وقوله : ( هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ) يقول تعالى ذكره : هم من القوم الذين قبحهم الله ، فأهلكهم بكفرهم بربهم ، وتكذيبهم رسوله موسى عليه السلام ، فجعلهم عبرة للمعتبرين ، وعظة للمتعظين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الأمم التي كانت قبله ، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين( بَصَائِرَ لِلنَّاسِ ) يقول : ضياء لبني إسرائيل فيما بهم إليه الحاجة من أمر دينهم( وَهُدًى ) يقول : وبيانا لهم ورحمة لمن عمل به منهم( لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) يقول : ليتذكروا نعم الله بذلك عليهم ، فيشكروه عليها ولا يكفروا.

(19/583)


وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد وعبد الوهاب ، قالا ثنا عوف ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض بعد ما أنزلت التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخوا قردة ، ألم تر أن الله يقول : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ).

(19/584)


وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( وَمَا كُنْتَ ) يا محمد( بِجَانِبِ ) غربي الجبل( إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ ) يقول : إذ فرضنا إلى موسى الأمر فيما ألزمناه وقومه ، وعهدنا إليه من عهد( وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) يقول : وما كنت لذلك من الشاهدين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَمَا كُنْتَ ) يا محمد( بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ ) يقول : بجانب غربي الجبل( إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : غربي الجبل.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا الضحاك بن مخلد ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن علي بن مدرك ، عن أبي زُرعة بن عمرو ، قال : إنكم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قد أجبتم قبل أن تسألوا ، وقرأ : ( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) }

(19/584)


وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)

يعني تعالى ذكره بقوله : ( وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا ) ولكنا خلقنا أمما فأحدثناها من بعد ذلك( فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) وقوله : ( وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ) يقول : وما كنت مقيما في أهل مدين ، يقال : ثويت بالمكان أثْوِي به ثَواء ، قال أعشى ثعلبة :
أَثْوَى وَقَصَّرَ لَيْلَهُ لِيُزَوَّدُا... فَمَضَى وَأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدَا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ) قال : الثاوي : المقيم( تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ) يقول : تقرأ عليهم كتابنا( وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) يقول : لم تشهد شيئا من ذلك يا محمد ، ولكنا كنا نحن نفعل ذلك ونرسل الرسل.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) }
يقول تعالى ذكره : وما كنت يا محمد بجانب الجبل إذ نادينا موسى بأن( سَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ ) ... الآية.
كما حدثنا عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن عليّ بن مدرك ، عن أبي زُرْعة ، في قول الله : ( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ) قال : نادى يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني ،
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (اللسان : ثوى. والديوان طبع القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ص227). وهو من قصيدة قالها لكسرى حين أراد منهم رهائن لما أغار الحارث بن وعلة على بعض السواد. وفي البيت : ليلة... فمضت. في موضع ليلة... ومضى. وفي رواية مجاز القرآن لأبي عبيدة : فمضى ورواية الديوان أحسن ، لقوله بعده : " ومضى لحاجته " . قال شارح الديوان : ثوى وأثوى بمعنى واحد ، أي أقام. وقصر : توانى. وأخلف فلانًا وجد موعده خلفًا (بكسر الخاء) أي مختلفًا يقول : عدل عن سفره ، فأقام وتخلف ليلة ليتزود من قتيلة ، فمضت الليلة ، وأخلفته قتيلة الموعد.

(19/585)


وأجبتكم قبل أن تدعوني.
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ) قال : نُودوا : يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني ، واستجبت لكم قبل أن تَدْعُوني.
حدثني ابن وكيع ، قال : ثنا حرملة بن قيس النخعيّ ، قال : سمعت هذا الحديث من أبي زُرْعة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ) قال : نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني ، واستجبت لكم قبل أن تدعوني.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا معتمر عن سليمان ، وسفيان عن سليمان ، وحجاج ، عن حمزة الزيات ، عن الأعمش ، عن عليّ بن مدرك ، عن أبي زُرْعة بن عمرو ، عن أبي هريرة ، في قوله : ( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ) قال : نُودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني ، واستجبت لكم قبل أن تدعوني ، قال : وهو قوله : حين قال موسى( وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ ) ... الآية.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج مثل ذلك.
وقوله : ( وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) يقول تعالى ذكره : لم تشهد شيئا من ذلك يا محمد فتعلمه ، ولكنا عرفناكه ، وأنزلنا إليك ، فاقتصصنا ذلك كله عليك في كتابنا ، وابتعثناك بما أنزلنا إليك من ذلك رسولا إلى من ابتعثناك إليه من الخلق رحمة منا لك ولهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا ) ... الآية.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) قال : كان رحمة من ربك النبوّة.
وقوله : ( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ) يقول تعالى ذكره : ولكن أرسلناك بهذا الكتاب وهذا الدين لتنذر قوما لم يأتهم من قبلك نذير ، وهم العرب الذين بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعثه الله إليهم رحمة لينذرهم بأسه على عبادتهم الأصنام ، وإشراكهم به الأوثان والأنداد.
وقوله : ( لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) يقول : ليتذكروا خطأ ما هم عليه مقيمون من كفرهم بربهم ، فينيبوا إلى الإقرار لله بالوحدانية ، وإفراده بالعبادة دون كلّ ما سواه من الآلهة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/586)


وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)

* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد( وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) قال : الذي أنزلنا عليك من القرآن( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) }
يقول تعالى ذكره : ولولا أن يقول هؤلاء الذين أرسلتك يا محمد إليهم ، لو حلّ بهم بأسنا ، أو أتاهم عذابنا من قبل أن نرسلك إليهم على كفرهم بربهم ، واكتسابهم الآثام ، واجترامهم المعاصي : ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا من قبل أن يحلّ بنا سخطك ، وينزل بنا عذابك فنتبع أدلتك ، وآي كتابك الذي تنزله على رسولك ونكون من المؤمنين بألوهيتك ، المصدقين رسولك فيما أمرتنا ونهيتنا ، لعاجلناهم العقوبة على شركهم من قبل ما أرسلناك إليهم ، ولكنا بعثناك إليهم نذيرا بأسنا على كفرهم ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. والمصيبة في هذا الموضع : العذاب والنقمة. ويعني بقوله : ( بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) بما اكتسبوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) }
يقول تعالى ذكره : فلما جاء هؤلاء الذين لم يأتهم من قبلك يا محمد نذير فبعثناك إليهم نذيرا( الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا ) ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة من الله إليهم ، قالوا تمرّدًا على الله ، وتماديا في الغيّ : هلا أوتي هذا الذي أرسل إلينا ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما أوتي موسى بن عمران من الكتاب ؟ يقول الله تبارك وتعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لقومك من قريش ، القائلين لك( لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ) أو لم يكفر الذين علموا هذه الحجة من اليهود بما أوتي موسى منْ قبلك.

(19/587)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : يهود تأمر قريشا أن تسأل محمدا مثل ما أوتي موسى ، يقول الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل لقريش يقولوا لهم : أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ) قال : اليهود تأمر قريشا ، ثم ذكر نحوه " قَالُوا سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا " .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : " وَقَالُوا سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا " بمعنى : أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ، وقالوا له ولمحمد صلى الله عليه وسلم في قول بعض المفسرين ، وفي قول بعضهم لموسى وهارون عليهما السلام ، وفي قول بعضهم : لعيسى ومحمد ساحران تعاونا. وقرأ عامة قرّاء الكوفة : ( قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) بمعنى : وقالوا للتوراة والفرقان في قول بعض أهل التأويل ، وفي قول بعضهم للإنجيل والفُرقان.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك على قدر اختلاف القرّاء في قراءته.
* ذكر من قال : عُنِيَ بالساحرين اللذين تظاهرا محمد وموسى صلى الله عليهما :
حدثنا سليمان بن محمد بن معدي كرب الرعيني ، قال : ثنا بقية بن الوليد ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي حمزة قال : سمعت مسلم بن يسار ، يحدّث عن ابن عباس ، في قول الله " ساحران تظاهرا " قال : موسى ومحمد.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال. ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، قال : سمعت مسلم بن يسار ، قال : سألت ابن عباس ، عن هذه الآية " ساحران تظاهرا " قال : موسى ومحمد.
حدثنا ابن المثنى ، قال. ثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن أبي حمزة ، عن مسلم بن يسار ، أن ابن عباس ، قرأ " سَاحِرَانِ " قال موسى ومحمد عليهما السلام.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن شعبة ، عن كيسان أبي حمزة ، عن مسلم

(19/588)


بن يسار ، عن ابن عباس ، مثله.
* ومن قال : موسى وهارون عليهما السلام :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله " ساحران تظاهرا " قال يهودُ : لموسى وهارون.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) قول يهودَ لموسى وهارون عليهما السلام.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن سعيد بن جُبَيْر وأبي رزين أن أحدهما قرأ : " سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا " ، والآخر : " سِحْرَانِ " . قال : الذي قرأ " سِحْرَانِ " قال : التوراة والإنجيل. وقال : الذي قرأ : " سَاحِرَان " قال : موسى وهارون.
وقال آخرون : عنوا بالساحرين عيسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين. قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الحسن ، قوله : " سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا " قال عيسى ومحمد ، أو قال موسى صلى الله عليه وسلم .
* ذكر من قال : عنوا بذلك التوراة والفرقان ، ووجه تأويله إلى قراءة من قرأ " سِحْرَانِ تَظَاهَرَا " :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال ثنى معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " سِحْرَانِ تَظَاهَرَا " يقول : التوراة والقرآن.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمى ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) يعني : التوراة والفرقان.
حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) قال : كتاب موسى ، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* ذكر من قال : عنوا به التوراة والإنجيل :
حدثنا ابن وكيع ، قال ثنا ابن علية ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، قال : كنت إلى جنب ابن عباس وهو يتعوذ بين الركن والمقام ، فقلت كيف تقرأ " سِحْرَانِ " ،

(19/589)


أو " ساحِران " ؟فلم يردّ عليّ شيئا ، فقال عكرِمة : ساحران ، وظننت أنه لو كره ذلك أنكره عليّ . قال حميد فلقيت عكرِمة بعد ذلك فذكرت ذلك له ، وقلت كيف كان يقرؤها ؟ قال : كان يقرأ " سِحْرَانِ تَظَاهَرَا " أي : التوراة والإنجيل.
* ذكر من قال : عنوا به الفرقان والإنجيل :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد ، عن الضحاك ، أنه قرأ( سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) يعنون الإنجيل والفرقان.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) قالت ذلك أعداء الله اليهود للإنجيل والفرقان ، فمن قال " سَاحِرَانِ " فيقول : محمد ، وعيسى ابن مريم.
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب ، قراءة من قرأه( قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) بمعنى : كتاب موسى وهو التوراة ، وكتاب عيسى وهو الإنجيل.
وإنما قلنا : ذلك أولى القراءتين بالصواب ، لأن الكلام من قبله جرى بذكر الكتاب ، وهو قوله : ( قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ) والذي يليه من بعده ذكر الكتاب ، وهو قوله : ( فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ ) فالذي بينهما بأن يكون من ذكره أولى وأشبه بأن يكون من ذكر غيره. وإذ كان ذلك هو الأولى بالقراءة ، فمعلوم أن معنى الكلام : قل يا محمد ، أو لم يكفر هؤلاء اليهود بما أوتي موسى من قبل ؟ وقالوا لما أوتي موسى (1) من الكتاب وما أوتيته أنت : سحران تعاونا ؟
وقوله : ( وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ) يقول تعالى ذكره : وقالت اليهود : إنا بكلّ كتاب في الأرض من توراة وإنجيل ، وزبور وفرقان كافرون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل ، وخالفه فيه مخالفون.
* ذكر من قال مثل الذي قلنا في ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ) قالوا : نكفر أيضا بما أوتي محمد.
__________
(1) لعله : لما أوتي عيسى... إلخ.

(19/590)


قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ) قال اليهود أيضا : نكفر بما أوتي محمد أيضا.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقالوا إنا بكلّ الكتابين الفرقان والإنجيل كافرون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد ، عن الضحاك( وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ) يقول : بالإنجيل والقرآن.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ) يعنون الإنجيل والفرقان.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ) قال : هم أهل الكتاب ، يقول : بالكتابين : التوراة والفرقان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ) الذي جاء به موسى ، والذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للقائلين للتوراة والإنجيل : هما سحران تظاهرا : ائتوا بكتاب من عند الله ، هو أهدى منهما لطريق الحقّ ، ولسبيل الرشاد( أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) في زعمكم أن هذين الكتابين سحران ، وأن الحقّ في غيرهما.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : فقال الله تعالى( قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا ) ... الآية.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، فقال الله( قُلْ

(19/591)


فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)

فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا ) من هذين الكتابين; الذي بعث به موسى ، والذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) }
يقول تعالى ذكره : فإن لم يجبك هؤلاء القائلون للتوراة والإنجيل : سحران تظاهرا ، الزاعمون أن الحقّ في غيرهما من اليهود يا محمد ، إلى أن يأتوك بكتاب من عند الله ، هو أهدى منهما ، فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ، وأن الذي ينطقون به ويقولون في الكتابين ، قول كذب وباطل ، لا حقيقة له ، ولعل قائلا أن يقول : أو لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم أن ما قال القائلون من اليهود وغيرهم في التوراة والإنجيل من الإفك والزور ، المسموهما سحرين باطل من القول ، إلا بأن لا يجيبوه إلى إتيانهم بكتاب هو أهدى منهما ؟
قيل : هذا كلام خرج مخرج الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد به المقول لهم : ( أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ) من كفار قريش ، وذلك أنه قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لمشركي قريش : أو لم يكفر هؤلاء الذين أمروكم أن تقولوا : هلا أوتي محمد مثل ما أوتي موسى - بالذي أوتي موسى - من قبل هذا القرآن ؟ ويقولوا للذي أنزل عليه وعلى عيسى( سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) فقولوا لهم إن كنتم صادقين أن ما أوتي موسى وعيسى سحر ، فأتوني بكتاب من عند الله ، هو أهدى من كتابيهما ، فإن هم لم يجيبوكم إلى ذلك فأعلموا أنهم كذبة ، وأنهم إنما يتبعون في تكذيبهم محمدا ، وما جاءهم به من عند الله أهواء أنفسهم ، ويتركون الحق وهم يعلمون.
يقول تعالى ذكره : " وَمَنْ أَضَلُّ " عن طريق الرشاد ، وسبيل السداد ممن اتبع هوى نفسه بغير بيان من عند الله ، وعهد من الله ، ويترك عهد الله الذي عهده إلى خلقه في وحيه وتنزيله : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) يقول تعالى ذكره : إن الله لا يوفق لإصابة الحقّ وسبيل الرشد القوم الذين خالفوا أ مر الله وتركوا طاعته ، وكذّبوا رسوله ، وبدّلوا عهده ، واتبعوا أهواء أنفسهم إيثارا منهم لطاعة الشيطان على طاعة ربهم.

(19/592)


وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) }
يقول تعالى ذكره : ولقد وصلنا يا محمد ، لقومك من قريش ولليهود من بني إسرائيل القول بأخبار الماضين والنبأ عما أحللنا بهم من بأسنا ، إذ كذّبوا رسلنا ، وعما نحن فاعلون بمن اقتفى آثارهم ، واحتذى في الكفر بالله ، وتكذيب رسله مثالهم ، ليتذكروا فيعتبروا ويتعظوا. وأصله من : وصل الحبال بعضها ببعض; ومنه قول الشاعر :
فَقُلْ لِبَنِي مَرْوَانَ مَا بَالُ ذِمَّةٍ... وَحَبْلٍ ضَعِيفٍ مَا يَزَالُ يُوصَلُ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وإن اختلفت ألفاظهم ببيانهم عن تأويله ، فقال بعضهم : معناه : بيّنا. وقال بعضهم : معناه : فصلنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ ) قال : فصلنا لهم القول.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ ) قال : وصل الله لهم القول في هذا القرآن ، يخبرهم كيف صنع بمن مضي ، وكيف هو صانع( لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا محمد بن عيسى أبو جعفر ، عن سفيان بن عيينة : وصلنا : بيَّنا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ) الخبر ، خبر الدنيا بخبر الآخرة ، حتى كأنهم عاينوا الآخرة ، وشهدوها في الدنيا ، بما نريهم من الآيات في الدنيا وأشباهها. وقرأ : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ) وقال : إنا سوف ننجزهم ما وعدناهم في الآخرة كما أنجزنا للأنبياء ما وعدناهم نقضي بينهم وبين قومهم.
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة ، الورقة 181ب) قال : (ولقد وصلنا لهم القول) أي أتممناه. وفي (اللسان : وصل). وفي التنزيل العزيز : (ولقد وصلنا لهم القول) : أي وصلنا ذكر الأنبياء وأقاصيص من مضى : بعضها ببعض. والذمة : العهد. والحبل : العهد. وقوله " ما يزال يوصل " أي قد رث وبلي ، ويجدد ما بلي منه ، حتى كثر فيه الترقيع.

(19/593)


واختلف أهل التأويل ، فيمن عنى بالهاء والميم من قوله : ( وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ) فقال بعضهم : عنى بهما قريشا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ ) قال : قريش.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ ) قال : لقريش.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) قال : يعني محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : عنى بهما اليهود.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر بن آدم ، قال : ثنا عفان بن مسلم ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، قال : ثنا عمرو بن دينار ، عن يحيى بن جعدة ، عن رفاعة القرظي ، قال : نزلت هذه الآية في عشرة أنا أحدهم( وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ).
حدثنا ابن سنان ، قال : ثنا حيان ، قال : ثنا حماد ، عن عمرو ، عن يحيى بن جعدة ، عن عطية القُرَظِيّ قال : نزلت هذه الآية( وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) حتى بلغ : ( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) في عشرة أنا أحدهم ، فكأن ابن عباس أراد بقوله : يعني محمدا ، لعلهم يتذكرون عهد الله في محمد إليهم ، فيقرّون بنبوّته ويصدّقونه.
وقوله : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) يعني بذلك تعالى ذكره قوما من أهل الكتاب آمنوا برسوله وصدقوه ، فقال الذين آتيناهم الكتاب من قبل هذا القرآن ، هم بهذا القرآن يؤمنون. فيقرّون أنه حق من عند الله ، ويكذّب جهلة الأميين ، الذين لم يأتهم من الله كتاب.

(19/594)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : تعالى : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) قال : يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ ) ... إلى قوله : ( لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) في مسلمة أهل الكتاب.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ ) ... إلى قوله : ( الجاهلين ) قال : هم مسلمة أهل الكتاب.
قال ابن جُرَيج : أخبرني عمرو بن دينار : أن يحيى بن جعدة أخبره ، عن عليّ بن رفاعة ، قال : خرج عشرة رهط من أهل الكتاب ، منهم أبو رفاعة ، يعني أباه ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فآمنوا ، فأوذوا ، فنزلت : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ ) قبل القرآن.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) قال : كنا نُحدَّث أنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحقّ ، يأخذون بها ، وينتهون إليها ، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فآمنوا به ، وصدّقوا به ، فأعطاهم الله أجرهم مرتين ، بصبرهم على الكتاب الأوّل ، واتباعهم محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وصبرهم على ذلك ، وذكر أن منهم سلمان ، وعبد الله بن سلام.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) ... إلى قوله : ( مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) ناس من أهل الكتاب آمنوا بالتوراة والإنجيل ، ثم أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، فآمنوا به. فآتاهم الله أجرهم مرّتين بما صبروا : بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ، وباتباعهم إياه حين بعث ، فذلك قوله : ( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ).

(19/595)


وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) }
يقول تعالى ذكره : ( وَإِذَا يُتْلَى ) هذا القرآن على الذين آتيناهم الكتاب من قيل نزول هذا القرآن( قَالُوا آمَنَّا بِهِ ) يقول : يقولون : صدّقتا به( إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا ) يعني من عند ربنا نزل ، ( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ أي نزول هذا القرآن( مُسْلِمِينَ ) ، وذلك أنهم كانوا مؤمنين بما جاء به الأنبياء قبل مجيء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم من الكتب ، وفي كتبهم صفة محمد ونعته ، فكانوا به وبمبعثه وبكتابه مصدّقين قبل نزول القرآن ، فلذلك قالوا : ( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) }
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفت صفتهم( يُؤْتَوْنَ ) ثواب عملهم( مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ).
واختلف أهل التأويل في معنى الصبر الذي وعد الله ما وعد عليه ، فقال بعضهم :
وعدهم ما وعد جلّ ثناؤه بصبرهم على الكتاب الأوّل ، واتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، وصبرهم على ذلك. وذلك قول قَتادة ، وقد ذكرناه قبل.
وقال آخرون : بل وعدهم بصبرهم بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ، وباتباعهم إياه حين بعث ، وذلك قول الضحاك بن مزاحم ، وقد ذكرناه أيضا قبل ، وممن وافق قَتادة على قوله : عبد الرحمن بن زيد.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب. قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) على دين عيسى ، فلما جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم أسلموا ، فكان لهم أجرهم مرَّتين بما صبروا أوّل مرّة ، ودخلوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الإسلام.
وقال قوم في ذلك بما حدثنا به ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : إن قوما كانوا مشركين أسلموا ، فكان قومهم يؤذونهم ، فنزلت : ( أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ) وقوله : ( وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) يقول : ويدفعون بحسنات أفعالهم التي يفعلونها سيئاتهم( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) من الأموال(يُنْفِقٌونَ)

(19/596)


وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)

في طاعة الله ، إما في جهاد في سبيل الله ، وإما في صدقة على محتاج ، أو في صلة رحم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) قَالَ اللَّهُ(أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ) وأحسن الله عليهم الثناء كما تسمعون ، فقال : ( وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) }
يقول تعالى ذكره : وإذا سمع هؤلاء القوم الذين آتيناهم الكتاب اللغو ، وهو الباطل من القول.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) لا يجارون أهل الجهل والباطل في باطلهم ، أتاهم من أمر الله ما وقذهم عن ذلك.
وقال آخرون : عُنِي باللغو في هذا الموضع : ما كان أهل الكتاب ألحقوه في كتاب الله مما ليس هو منه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا ) ... إلى آخر الآية ، قال : هذه لأهل الكتاب ، إذا سمعوا اللغو الذي كتب القوم بأيديهم مع كتاب الله ، وقالوا : هو من عند الله ، إذا سمعه الذين أسلموا ، ومرّوا به يتلونه ، أعرضوا عنه ، وكأنهم لم يسمعوا ذلك قبل أن يؤمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأنهم كانوا مسلمين على دين عيسى ، ألا ترى أنهم يقولون : ( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ).
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن منصور ، عن مجاهد( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) قال : نزلت في قوم كانوا مشركين فأسلموا ، فكان قومهم يؤذونهم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جويرية ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله : ( وَإِذَا

(19/597)


إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)

سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ) قال : كان ناس من أهل الكتاب أسلموا ، فكان المشركون يؤذونهم ، فكانوا يصفحون عنهم ، يقولون : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ).
وقوله : ( أَعْرَضُوا عَنْهُ ) يقول : لم يصغوا إليه ولم يستمعوه( وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ) وهذا يدل على أن اللغو الذي ذكره الله في هذا الموضع ، إنما هو ما قاله مجاهد ، من أنه سماع القوم ممن يؤذيهم بالقول ما يكرهون منه في أنفسهم ، وأهم أجابوهم بالجميل من القول( لَنَا أَعْمَالُنَا ) قد رضينا بها لأنفسنا ، ( وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ) قد رضيتم بها لأنفسكم. وقوله : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) يقول : أمنة لكم منا أن نُسَابَّكم ، أو تسمعوا منا ما لا تحبون( لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) يقول : لا نريد محاورة أهل الجهل ومسابَّتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّكَ ) يا محمد( لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) هدايته( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) أن يهديه من خلقه ، بتوفيقه للإيمان به وبرسوله. ولو قيل : معناه : إنك لا تهدي من أحببته لقرابته منك ، ولكن الله يهدي من يشاء ، كان مذهبا( وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) يقول جل ثناؤه : والله أعلم من سبق له في علمه أنه يهتدي للرشاد ، ذلك الذي يهديه الله فيسدده ويوفقه.
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل امتناع أبي طالب عمه من إجابته ، إذ دعاه إلى الإيمان بالله ، إلى ما دعاه إليه من ذلك.
* ذكر الرواية بذلك :
حدثنا أبو كُرَيب والحسين بن عليّ الصُّدائي ، قالا ثنا الوليد بن القاسم ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه عند الموت : " قُلْ لا إِلَهَ إِلا الله أَشْهَد لَكَ بِها يَوْمَ القِيامَةِ " قال : لولا أن تعيرني قريش لأقررت عينك ، فأنزل الله : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) ... الآية.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن يزيد بن كيسان ، قال : ثني أبو حازم الأشجعي ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه :

(19/598)


" قُلْ لا إِله إلا اللهُ " ثم ذكر مثله.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن يزيد بن كيسان سمع أبا حازم الأشجعي ، يذكر عن أبي هريرة قال : لما حضرتْ وفاة أبي طالب ، أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عَمَّاهُ ، قُلْ لا إلَهَ إلا الله " فذكر مثله ، إلا أنه قال : لولا أن تعيرني قريش ، يقولون : ما حمله عليه إلا جزع الموت.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحو حديث أبي كُرَيب الصُّدائي.
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : ثني يونس ، عن الزهري قال : ثني سعيد بن المسيب ، عن أبيه ، قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد عنده أبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أُمَيَّة بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عَمّ ، قُلْ لا إلَهَ إلا اللهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِها عِنْدَ اللهِ " فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمَيَّه : يا أبا طالب : أترغب عن ملَّة عبد المطَّلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ، ويعيد له تلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَمَا وَاللهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ " ، فأنزل الله( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) ، وأنزل الله في أبي طالب ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي ) ... الآية.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه ، بنحوه
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن أبي سعيد بن رافع ، قال : قلت لابن عمر : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) نزلت في أبي طالب ؟ قال : نعم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) قال : قول محمد لأبي طالب : " قُلْ : كَلمةَ الإخْلاص أُجَادِلُ عَنْكَ بِها يَوْمَ القِيَامَةِ " قال محمد بن عمرو في حديثه : قال : يا ابن أخي ملة الأشياخ ،

(19/599)


وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)

أو سنة الأشياخ. وقال الحارث في حديثه : قال يا ابن أخي ملة الأشياخ.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) قال : قال محمد لأبي طالب : " اشْهَدْ بكَلمَةِ الإخْلاصِ أُجَادلْ عَنْكَ بِها يَوْمَ القِيَامَةِ " قال : أي ابن أخي ملة الأشياخ ، فأنزل الله( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) قال : نزلت هذه الآية في أبي طالب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) ذُكر لنا أنها نزلت في أبي طالب ، قال الأصم (1) عند موته يقول لا إله إلا الله لكيما تحلّ له بها الشفاعة ، فأبى عليه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء ، عن عامر : لما حضر أبا طالب الموت ، قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : " يا عَمَّاهُ ، قُلْ : لا إلَهَ إلا اللهُ أشْهَدُ لكَ بِها يَوْمَ القِيامَةِ " فقال له : يا ابن أخي ، إنه لولا أن يكون عليك عار لم أبال أن أفعل ، فقال له ذلك مرارا. فلما مات اشتدّ ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا : ما تنفع قرابة أبي طالب منك ، فقال : " بَلى ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِه إنَّه السَّاعَةَ لَفِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ عَلَيْهِ نَعْلان مِنْ نَارٍ تغْلِي مِنْهُما أُمُّ رأسِهِ ، وما مِنْ أهل النَّارِ مِنْ إِنْسانٍ هُوَ أَهْوَنُ عَذابًا مِنْهُ ، وَهُوَ الَّذِي أَنزل الله فيه( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) " .
وقوله : ( وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) يقول : وهو أعلم بمن قضى له الهدى.
كالذي حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) قال بمن قدّر له الهدى والضلالة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ
__________
(1) الذي في الدر عن قتادة قال : التمس منه عند موته أن يقول.. إلخ.

(19/600)


رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) }
يقول تعالى ذكره : وقالت كفار قريش : إن نتبع الحقّ الذي جئتنا به معك ، ونتبرأ من الأنداد والآلهة ، يتخطفنا الناس من أرضنا بإجماع جميعهم على خلافنا وحربنا ، يقول الله لنبيه : فقل : ( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا ) يقول : أو لم نوطئ لهم بلدا حرّمنا على الناس سفك الدماء فيه ، ومنعناهم من أن يتناولوا سكانه فيه بسوء ، وأمنا على أهله من أن يصيبهم بها غارة ، أو قتل ، أو سباء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، أن الحارث بن نوفل ، الذي قال : ( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) وزعموا أنهم قالوا : قد علمنا أنك رسول الله ، ولكنا نخاف أن نتخطف من أرضنا ، ( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ ) الآية.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) قال : هم أناس من قريش قالوا لمحمد : إن نتبعك يتخطفنا الناس ، فقال الله : ( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) : قال : كان يغير بعضهم على بعض.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) قال الله : ( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يقول : أو لم يكونوا آمنين في حرمهم لا يغزون فيه ولا يخافون ، يجبى إليه ثمرات كل شيء.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا ) قال : كان أهل الحرم آمنين يذهبون حيث شاءوا ، إذا

(19/601)


وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)

خرج أحدهم فقال : إني من أهل الحرم لم يُتَعَرَّض له ، وكان غيرهم من الناس إذا خرج أحدهم قتل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا ) قال : آمناكم به ، قال هي مكة ، وهم قريش.
وقوله : ( يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يقول يجمع إليه ، وهو من قولهم : جبيت الماء في الحوض : إذا جمعته فيه ، وإنما أريد بذلك : يحمل إليه ثمرات كلّ بلد.
كما حدثنا أبو كُرَيب ، قال ثنا ابن عطية ، عن شريك ، عن عثمان بن أبي زرعة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في( يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ) قال : ثمرات الأرض.
وقوله : ( رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول : ورزقا رزقناهم من لدنا ، يعني : من عندنا( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره : ولكن أكثر هؤلاء المشركين القائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) لا يعلمون أنا نحن الذين مكَّنا لهم حرما آمنا ، ورزقناهم فيه ، وجعلنا الثمرات من كلّ أرض تجبي إليهم ، فهم بجهلهم بمن فعل ذلك بهم يكفرون ، لا يشكرون من أنعم عليهم بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) }
يقول تعالى ذكره : ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ ) أبطرتها( مَعِيشَتَهَا ) فبطرت ، وأشِرت ، وطَغَت ، فكفرت ربها.
وقيل : بطرت معيشتها ، فجعل الفعل للقرية ، وهو في الأصل للمعيشة ، كما يقال : أسفهك رأيك فَسفِهته ، وأبطرك مالك فبطرته ، والمعيشة منصوبة على التفسير.
وقد بيَّنا نظائر ذلك في غير موضع من كتابنا هذا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ) قال : البطر : أَشَرُ أهل الغفلة وأهل الباطل والركوب لمعاصي الله ، وقال : ذلك البطر في النعمة( فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ

(19/602)


وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)

إِلا قَلِيلا ) يقول : فتلك دور القوم الذين أهلكناهم بكفرهم بربهم ، ومنازلهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا يقول : خربت من بعدهم ، فلم يعمر منها إلا أقلها ، وأكثرها خراب. ولفظ الكلام وإن كان خارجا على أن مساكنهم قد سُكِنت قليلا فإن معناه : فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا منها ، كما يقال : قضيت حقك إلا قليلا منه.
وقوله : ( وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) يقول : ولم يكن لما خرّبنا من مساكنهم منهم وإرث ، وعادت كما كانت قبل سُكناهم فيها ، لا مالك لها إلا الله ، الذي له ميراث السماوات والأرض.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) }
يقول تعالى ذكره : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ ) يا محمد( مُهْلِكَ الْقُرَى ) التي حوالي مكة في زمانك وعصرك( حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا ) يقول : حتى يبعث في مكة رسولا وهي أمّ القرى ، يتلو عليهم آيات كتابنا ، والرسول : محمد صلى الله عليه وسلم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا ) وأمّ القرى مكة ، وبعث الله إليهم رسولا محمدا صلى الله عليه وسلم .
وقوله : ( وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) يقول : ولم نكن لنهلك قرية وهي بالله مؤمنة إنما نهلكها بظلمها أنفسها بكفرها بالله ، وإنما أهلكنا أهل مكة بكفرهم بربهم وظلم أنفسهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) قال : الله لم يهلك قرية بإيمان ، ولكنه يهلك القرى بظلم إذا ظلم أهلها ، ولو كانت قرية آمنت لم يهلكوا

(19/603)


مع من هلك ، ولكنهم كذّبوا وظلموا ، فبذلك أُهلكوا.

(19/604)


وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) }
يقول تعالى ذكره : وما أعطيتم أيها الناس من شيء من الأموال والأولاد ، فإنما هو متاع تتمتعون به في هذه الحياة الدنيا ، وهو من زينتها التي يتزين به فيها ، لا يغني عنكم عند الله شيئا ، ولا ينفعكم شيء منه في معادكم ، وما عند الله لأهل طاعته وولايته خير مما أوتيتموه أنتم في هذه الدنيا من متاعها وزينتها(وأبقى) ، يقول : وأبقى لأهله ؛ لأنه دائم لا نفاد له.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، في قوله : ( وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) قال : خيرٌ ثوابا ، وأبقى عندنا.
يقول تعالى ذكره(أَفَلا تَعْقِلُونَ) : أفلا عقول لكم أيها القوم تتدبرون بها فتعرفون بها الخير من الشرّ ، وتختارون لأنفسكم خير المنزلتين على شرّهما ، وتؤثرون الدائم الذي لا نفاد له من النعيم ، على الفاني الذي لا بقاء له.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) }
يقول تعالى ذكره : أفمن وعدناه من خلقنا على طاعته إيانا الجنة ، فآمن بما وعدناه وصدّق وأطاعنا ، فاستحقّ بطاعته إيانا أن ننجز له ما وعدناه ، فهو لاق ما وعد ، وصائر إليه كمن متَّعناه في الدنيا متاعها ، فتمتع به ، ونسي العمل بما وعدنا أهل الطاعة ، وترك طلبه ، وآثر لذّة عاجلة على آجلة ، ثم هو يوم القيامة إذا ورد على الله من المحضرين ، يعني من المُشْهدينَ عذاب الله ، وأليم عقابه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قتاده ، قوله : ( أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ ) قال : هو المؤمن سمع كتاب الله فصدّق به وآمن بما وعد الله

(19/604)


فيه( كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) هو هذا الكافر ليس والله كالمؤمن( ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) : أي في عذاب الله.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ووقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال ابن عمرو في حديثه : قوله : ( مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) قال : أحضروها. وقال الحارث في حديثه : ( ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) أهل النار ، أحضروها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) قال : أهل النار ، أحضروها.
واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية ، فقال بعضهم نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفي أبي جهل بن هشام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي ، قال : ثنا شعبة ، عن أبان بن تغلب ، عن مجاهد( أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) قال نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفي أبي جهل بن هشام.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج( أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ ) قال : النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : نزلت في حمزة وعلي رضي الله عنهما ، وأبي جهل لعنه الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا بدل بن المحبر التغلبي (1) قال : ثنا شعبة ، عن أبان بن تغلب ، عن مجاهد( أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) قال : نزلت في حمزة وعلي بن أبي طالب ، وأبي جهل.
حدثنا عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة عن أبان بن تغلب ، عن مجاهد ، قال :
__________
(1) في الخلاصة للخزرجي : بدل بن المحبر ، بضم الميم وفتح المهملة والموحدة ، اليربوعي ، أبو المنير (كمطيع) البصري. قال أبو حاتم : صدوق. توفي في حدود سنة خمس عشرة ومئتين.

(19/605)


وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)

نزلت في حمزة وأبي جهل.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) }
يقول تعالى ذكره : ويوم ينادي ربّ العزّة الذين أشركوا به الأنداد والأوثان في الدنيا ، فيقول لهم : ( أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) أنهم لي في الدنيا شركاء( قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) يقول : قال الذين وجب عليهم غضب الله ولعنته ، وهم الشياطين الذين كانوا يغوون بني آدم : ( رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : ( هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ) قال : هم الشياطين.
وقوله : ( تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ ) يقول : تبرأنا من ولايتهم ونصرتهم إليك( مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ) يقول : لم يكونوا يعبدوننا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) }
يقول تعالى ذكره : وقيل للمشركين بالله الآلهة والأنداد في الدنيا : ( ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ) الذين كنتم تدعون من دون الله( فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) يقول : فلم يجيبوهم( وَرَأَوُا الْعَذَابَ ) يقول : وعاينوا العذاب( لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ) يقول : فودّوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين للحقّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ (66) }

(19/606)


فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)

يقول تعالى ذكره : ويوم ينادي الله هؤلاء المشركين ، فيقول لهم : ( مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ) فيما أرسلناهم به إليكم ، من دعائكم إلى توحيدنا ، والبراءة من الأوثان والأصنام( فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ ) يقول : فخفيت عليهم الأخبار ، من قولهم : قد عمي عني خبر القوم : إذا خفي. وإنما عُنِي بذلك أنهم عميت عليهم الحجة ، فلم يدروا ما يحتجون ؛ لأن الله تعالى قد كان أبلغ إليهم في المعذرة ، وتابع عليهم الحجة ، فلم تكن لهم حجة يحتجون بها ، ولا خبر يخبرون به ، مما تكون لهم به نجاة ومخلص.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ ) قال : الحجج ، يعني الحجة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ ) قال : الحجج.
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ) قال : بلا إله إلا الله ، التوحيد.
وقوله : ( فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ) بالأنساب والقرابة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ) قال : لا يتساءلون بالأنساب ، ولا يتماتون بالقرابات ، إنهم كانوا في الدنيا إذا ألتقوا تساءلوا وتماتوا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ) قال : بالأنساب.
وقيل معنى ذلك : فعميت عليهم الحجج يومئذ ، فسكتوا ، فهم لا يتساءلون في حال سكوتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) }

(19/607)


وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)

يقول تعالى ذكره : ( فَأَمَّا مَنْ تَابَ ) من المشركين ، فأناب وراجع الحقّ ، وأخلص لله الألوهة ، وأفرد له العبادة ، فلم يشرك في عبادته شيئا( وَآمَنَ ) يقول : وصدّق بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم( وَعَمِلَ صَالِحًا ) يقول : وعمل بما أمره الله بعمله في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم( فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ) يقول : فهو من المنجحين المدركين طَلِبتهم عند الله ، الخالدين في جنانه ، وعسى من الله واجب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) }
يقول تعالى ذكره : ( وَرَبُّكَ ) يا محمد( يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ) أن يخلقه( وَيَخْتَارُ ) لولايته الخيرة من خلْقه ، ومن سبقت له منه السعادة. وإنما قال جلّ ثناؤه : ( وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) والمعنى : ما وصفت ، لأن المشركين كانوا فيما ذكر عنهم يختارون أموالهم ، فيجعلونها لآلهتهم ، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وربك يا محمد يخلق ما يشاء أن يخلقه ، ويختار للهداية والإيمان والعمل الصالح من خلْقه ، ما هو في سابق علمه أنه خيرتهم ، نظير ما كان من هؤلاء المشركين لآلهتهم خيار أموالهم ، فكذلك اختياري لنفسي. واجتبائي لولايتي ، واصطفائي لخدمتي وطاعتي ، خيار مملكتي وخلقي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) قال : كانوا يجعلون خير أموالهم لآلهتهم في الجاهلية. فإذا كان معنى ذلك كذلك ، فلا شكّ أن " ما " من قوله : ( وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) في موضع نصب ، بوقوع يختار عليها ، وأنها بمعنى الذي.
فإن قال قائل : فإن كان الأمر كما وصفت ، من أن " ما " اسم منصوب بوقوع قوله : ( يَخْتَارُ ) عليها ، فأين خبر كان ؟ فقد علمت ذلك كان كما قلت ، أن في كان ذكرا من ما ، ولا بد لكان إذا كان كذلك من تمام ، وأين التمام ؟ قيل : إن العرب

(19/608)


تجعل لحروف الصفات إذا جاءت الأخبار بعدها ، أحيانا ، أخبارا ، كفعلها بالأسماء إذا جاءت بعدها أخبارها ، ذكر الفرَّاء أن القاسم بن معن أنشده قول عنترة :
أمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ العَيْنِ تَذْرِيفُ... لَوْ كَانَ ذَا مِنْكَ قَبْلَ اليَوْمِ مَعْرُوفُ (1)
فرفع معروفا بحرف الصفة ، وهو لا شك خبر لذا ، وذُكر أن المفضل أنشده ذلك :
لوْ أَنَّ ذَا مِنْكَ قبلَ اليوْمِ مَعْرُوفُ
ومنه أيضا قول عمر بن أبي ربيعة :
قُلْتُ أَجِيبِي عَاشِقًا... بِحُبِّكُمْ مُكَلَّفُ... فيهَا ثَلاث كالدُّمَى... وكاعِبٌ وَمُسْلِفُ (2)
__________
(1) البيت من شعر عنترة بن عمرو بن شداد العبسي (مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ص 394) والرواية فيه رواية المفضل التي أشار إليها المؤلف : أَمِنْ سُهَيَّةَ دَمْعُ الْعَيْنِ تَذْرِيفُ ... لَوْ كَانَ مِنكِ قَبْلَ الْيَومِ مَعْرُوفُ
قال شارحه : سهية ، وقيل سمية : امرأة أبيه. روى صاحب الأغاني بسنده عن علي بن سليمان الأخفش الأصغر قال : أخبرنا أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري ، عن محمد بن حبيب ، قال أبو سعيد : وذكر ذلك أبو عمرو الشيباني ، قالا : كان عنترة قبل أن يدعيه أبوه ، حرشت عليه امرأة أبيه. وقالت إنه... عن نفسي ، فغضب من ذلك شداد (شداد أبوه في بعض الروايات) غضبًا شديدًا. وضربه ضربًا مبرحًا ، وضربه بالسيف ، فوقعت عليه امرأة أبيه ، وكفته عنه ، فلما رأت ما به من الجراح بكت ، وقوله " مذروف " : من ذرفت عليه عينه تذرف ذريفًا ، وذرفانًا : وهو قطر يكاد يتصل. وقوله " لو أن ذا منك قبل اليوم معروف " : أي قد أنكرت هذا الحنو والإشفاق منك ؛ لأنه لو كان معروفًا قبل ذلك لم ينكره اه. وعلى هذه الرواية لا شاهد في البيت. أما على رواية المؤلف ، وهي التي نقلها الفراء عن القاسم بن معن القاضي ، فإنه جعل قوله " لو كان ذا منك قبل اليوم معروف " برفع معروف على أنه خبر بعد الصفة. أي الجار والمجرور " منك " ، التي هي خبر عن ذا ، قال : " لأن العرب تجعل لحروف الصفات إذا جاءت الأخبار بعدها أخبارًا ، كفعلها بالأسماء إذا جاءت بعدها أخبارها " ... ثم أنشد البيت وقال : " فرفع معروفًا بحرف الصفة وهو لا شك خبر لذا " اه. قلت : وكأن مراده أن حرف الصفة موضوع موضع ضمير مبتدأ ، ومعروف : خبره ، وكأنه قال : لو كان ذا هو معروف أو نحو ذلك. وفي هذا التعبير من التعسف ما فيه. ولو قال إن " معروف " خبر عن مبتدأ محذوف تقديره : هو منك معروف ، والجملة خبر كان ، لكان أوضح تعبيرًا ولم أجد البيت ولا توجيه إعرابه في معاني القرآن للفراء.
(2) البيتان لعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي شاعر الغزل زمن بني أمية ، كما قال المؤلف. ومكلف : من الكلف بالشيء وهو الحب والولوع بالشيء ، كلف بالشيء كلفًا فهو كلف ومكلف : لهج به. وثلاث أي جوار أو نساء. والدمى : جمع دمية ، وهي التمثال من العاج أو الرخام أو نحوهما. والكاعب : الفتاة التي تكعب ثديها وبرر والمسلف : قال في (اللسان : سلف) : المسلف من النساء : النصف. وقيل : هي التي بلغت خمسًا وأربعين ونحوها ، وهو وصف خص به الإناث ، قال عمر بن أبي ربيعة " فيها ثلاث... " إلخ البيت : ومحل الشاهد في البيت أن قوله : مكلف بالرفع على أنه خبر ، لأنه وقع بعد حرف الجر الذي وضع موضع المبتدأ ، كأنه قال : أجيبي عاشقًا هو مكلف. وهو في معنى الشاهد الذي قبله من قول عنترة " لو كان ذا منك قبل اليوم معروف " . اه.

(19/609)


فمكلَّف من نعت عاشق ، وقد رفعه بحرف الصفة ، وهو الباء ، في أشباه لما ذكرنا بكثير من الشواهد ، فكذلك قوله : ( وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) رُفعت الخيرة بالصفة ، وهي لهم ، إن كانت خبرا لما ، لما جاءت بعد الصفة ، ووقعت الصفة موقع الخبر ، فصار كقول القائل : كان عمر وأبوه قائم ، لا شكّ أن قائما لو كان مكان الأب ، وكان الأب هو المتأخر بعده ، كان منصوبا ، فكذلك وجه رفع الخيرة ، وهو خبر لما.
فإن قال قائل : فهل يجوز أن تكون " ما " في هذا الموضع جحدا ، ويكون معنى الكلام : وربك يخلق ما يشاء أن يخلقه ، ويختار ما يشاء أن يختاره ، فيكون قوله : ( وَيَخْتَارُ ) نهاية الخبر عن الخلق والاختيار ، ثم يكون الكلام بعد ذلك مبتدأ بمعنى : لم تكن لهم الخيرة : أي لم يكن للخلق الخيرة ، وإنما الخيرة لله وحده ؟
قيل : هذا قول لا يخفي فساده على ذي حجا ، من وجوه ، لو لم يكن بخلافه لأهل التأويل قول ، فكيف والتأويل عمن ذكرنا بخلافه; فأما أحد وجوه فساده ، فهو أن قوله : ( مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) لو كان كما ظنه من ظنه ، من أن " ما " بمعنى الجحد ، على نحو التأويل الذي ذكرت ، كان إنما جحد تعالى ذكره ، أن تكون لهم الخيرة فيما مضى قبل نزول هذه الآية ، فأما فيما يستقبلونه فلهم الخيرة ، لأن قول القائل : ما كان لك هذا ، لا شكّ إنما هو خبر عن أنه لم يكن له ذلك فيما مضى. وقد يحوز أن يكون له فيما يستقبل ، وذلك من الكلام لا شكّ خلف. لأن ما لم يكن للخلق من ذلك قديما ، فليس ذلك لهم أبدا. وبعد ، لو أريد ذلك المعنى ، لكان الكلام : فليس. وقيل : وربك يخلق ما يشاء ويختار ، ليس لهم الخيرة ، ليكون نفيا عن أن يكون ذلك لهم فيما قبل وفيما بعد.
والثاني : أن كتاب الله أبين البيان ، وأوضح الكلام ، ومحال أن يوجد فيه شيء غير مفهوم المعنى ، وغير جائز في الكلام أن يقال ابتداء : ما كان لفلان الخيرة ، ولما يتقدم قبل ذلك كلام يقتضي ذلك; فكذلك قوله : ( وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) ولم يتقدم قبله من الله تعالى ذكره خبر عن أحد ، أنه ادعى أنه كان له الخيرة ، فيقال له : ما كان لك الخيرة ،

(19/610)


وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

وإنما جرى قبله الخبر عما هو صائر إليه أمر من تاب من شركه ، وآمن وعمل صالحا ، وأتبع ذلك جلّ ثناؤه الخبر عن سبب إيمان من آمن وعمل صالحا منهم ، وأن ذلك إنما هو لاختياره إياه للإيمان ، وللسابق من علمه فيه اهتدى. ويزيد ما قلنا من ذلك إبانة قوله : ( وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ) فأخبر أنه يعلم من عباده السرائر والظواهر ، ويصطفى لنفسه ويختار لطاعته من قد علم منه السريرة الصالحة ، والعلانية الرضية.
والثالث : أن معنى الخيرة في هذا الموضع : إنما هو الخيرة ، وهو الشيء الذي يختار من البهائم والأنعام والرجال والنساء ، يقال منه : أُعطي الخِيَرة والخَيْرة ، مثل الطِّيرة والطّيْرة ، وليس بالاختيار ، وإذا كانت الخيرة ما وصفنا ، فمعلوم أن من أجود الكلام أن يقال : وربك يخلق ما يشاء ، ويختار ما يشاء ، لم يكن لهم خير بهيمة أو خير طعام ، أو خير رجل أو امرأة.
فإن قال : فهل يجوز أن تكون بمعنى المصدر ؟ قيل : لا وذلك أنها إذا كانت مصدرا كان معنى الكلام : وربك يخلق ما يشاء ويختار كون الخيرة لهم. إذا كان ذلك معناه ، وجب ألا تكن الشرار لهم من البهائم والأنعام; إذا لم يكن لهم شرار ذلك وجب ألا يكون لها مالك ، وذلك ما لا يخفى خطؤه ، لأن لخيارها ولشرارها أربابا يملكونها بتمليك الله إياهم ذلك ، وفي كون ذلك كذلك فساد توجيه ذلك إلى معنى المصدر.
وقوله : سبحانه وتعالى : ( عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يقول تعالى ذكره تنزيها لله وتبرئة له ، وعلوا عما أضاف إليه المشركون من الشرك ، وما تخرّصوه من الكذب والباطل عليه.
وتأويل الكلام : سبحان الله وتعالى عن شركهم. وقد كان بعض أهل العربية يوجهه إلى أنه بمعنى : وتعالى عن الذي يشركون به.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) }
يقول تعالى ذكره : وربك يا محمد يعلم ما تخفي صدور خلقه; وهو من : أكننت الشيء في صدري : إذا أضمرته فيه ، وكننت الشيء : إذا صنته ، ( وَمَا يُعْلِنُونَ ) : يقول : وما يبدونه بألسنتهم وجوارحهم ، وإنما يعني بذلك أن اختيار من يختار منهم للإيمان به على علم منه بسرائر أمورهم وبواديها ، وأنه يختار للخير أهله ،

(19/611)


فيوفقهم له ، ويولي الشرّ أهله ، ويخليهم وإياه ، وقوله : ( وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) يقول تعالى ذكره : وربك يا محمد ، المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، ولا معبود تجوز عبادته غيره( لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى ) يعني : في الدنيا( وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ ) يقول : وله القضاء بين خلقه( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يقول : وإليه تردون من بعد مماتكم ، فيقضي بينكم بالحقّ.

(19/612)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) }
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله : أيها القوم أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل دائما لا نهار إلى يوم القيامة يعقبه. والعرب تقول لكلّ ما كان متصلا لا ينقطع من رخاء أو بلاء أو نعمة : هو سرمد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( سَرْمَدًا ) : دائما لا ينقطع.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال ثنى حجاج ، ثني حجاج ، عن ابن أبي جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا ) يقول : دائما.
وقوله : ( مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ ) يقول : من معبود غير المعبود الذي له عبادة كل شيء يأتيكم بضياء النهار ، فتستضيئون به.( أَفَلا تَسْمَعُونَ ) يقول : أفلا ترعون ذلك سمعكم وتفكرون فيه فتتعظون ، وتعلمون أن ربكم هو الذي يأتي بالليل ويذهب بالنهار إذا شاء ، وإذا شاء أتى بالنهار وذهب بالليل ، فينعم باختلافهما كذلك عليكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا

(19/612)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)

تُبْصِرُونَ (72) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ ) يا محمد لمشركي قومك( أَرَأَيْتُمْ ) أيها القوم( إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا ) دائما لا ليل معه أبدا( إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ ) من معبود غير المعبود الذي له عبادة كلّ شيء( يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ) فتستقرون وتهدءون فيه( أَفَلا تُبْصِرُونَ ) يقول : أفلا ترون بأبصاركم اختلاف الليل والنهار عليكم ؛ رحمة من الله لكم ، وحجة منه عليكم ، فتعلموا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا لمن أنعم عليكم بذلك دون غيره ، ولمن له القدرة التي خالف بها بين ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) }
يقول تعالى ذكره : ( وَمِنْ رَحْمَتِهِ ) بكم أيها الناس( جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) فخالف بينهما ، فجعل هذا الليل ظلاما( لِتَسْكُنُوا فِيهِ ) وتهدءوا وتستقرّوا لراحة أبدانكم فيه من تعب التصرّف الذي تتصرّفون نهارا لمعايشكم. وفي الهاء التي في قوله : ( لِتَسْكُنُوا فِيهِ ) وجهان : أحدهما : أن تكون من ذكر الليل خاصة ، ويضمر للنهار مع الابتغاء هاء أخرى. والثاني : أن تكون من ذكر الليل والنهار ، فيكون وجه توحيدها وهي لهما وجه توحيد العرب في قولهم : إقبالك وإدبارك يؤذيني ؛ لأن الإقبال والإدبار فعل ، والفعل يوحَّدُ كثيره وقليله. وجعل هذا النهار ضياء تبصرون فيه ، فتتصرّفون بأبصاركم فيه لمعايشكم ، وابتغاء رزقه الذي قسمه بينكم بفضله الذي تفضل عليكم.
وقوله : ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) يقول تعالى ذكره : ولتشكروه على إنعامه عليكم بذلك ، فعل ذلك بكم لتفردوه بالشكر ، وتخلصوا له الحمد ، لأنه لم يشركه في إنعامه عليكم بذلك شريك ، فلذلك ينبغي أن لا يكون له شريك في الحمد عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنزعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) }

(19/613)


يعني تعالى ذكره : ويوم ينادي ربك يا محمد هؤلاء المشركين فيقول لهم : ( أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) أيها القوم في الدنيا أنهم شركائي.
وقوله : ( وَنزعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ) وأحضرنا من كلّ جماعة شهيدها وهو نبيها الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما أتاهم به عن الله من الرسالة. وقيل : ( ونزعنا ) من قوله : نزع فلان بحجة كذا ، بمعنى : أحضرها وأخرجها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَنزعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ) وشهيدُها : نبيّها ، يشهد عليها أنه قد بَلَّغ رسالة ربه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا; عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد; قوله : ( وَنزعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ) قال : رسولا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بنحوه.
وقوله : ( فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) يقول : فقلنا لأمة كلّ نبيّ منهم التي ردّت نصيحته ، وكذّبت بما جاءها به من عند ربهم ، إذ شهد نبيها عليها بإبلاغه إياها رسالة الله : ( هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) يقول : فقال لهم : هاتوا حجتكم على إشراككم بالله ما كنتم تشركون مع إعذار الله إليكم بالرسل (1) وإقامته عليكم بالحجج.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) أي بيّنتكم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) قال : حجتكم لما كنتم تعبدون وتقولون.
__________
(1) في الأصل : للرسل ، باللام.

(19/614)


إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) قال : حجتكم بما كنتم تعبدون.
وقوله : ( فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ) يقول : فعلموا حينئذ أن الحجة البالغة لله عليهم ، وأن الحق لله ، والصدق خبره ، فأيقنوا بعذاب من الله لهم دائم( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) يقول : واضمحل فذهب الذي كانوا يُشركون بالله في الدنيا ، وما كانوا يتخرّصون ، ويكذبون عليّ بهم ، فلم ينفعهم هنالك بل ضرّهم وأصلاهم نار جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) }
يقول تعالى ذكره : ( إِنَّ قَارُونَ ) وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب( كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ) يقول : كان من عشيرة موسى بن عمران النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو ابن عمه لأبيه وأمه ، وذلك أن قارون هو قارون بن يصهر بن قاهث ، وموسى : هو موسى بن عمران بن قاهث ، كذا نسبه ابن جُرَيج.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ) قال : ابن عمه ابن أخي أبيه ، فإن قارون بن يصفر ، هكذا قال القاسم ، وإنما هو يصهر بن قاهث ، وموسى بن عومر بن قاهث ، وعومر بالعربية : عمران.
وأما ابن إسحاق فإن ابن حميد حدثنا قال : ثنا سلمة عنه ، أن يصهر بن قاهث تزوّج سميت (1) بنت بتاويت بن بركنا بن بقشان بن إبراهيم ، فولدت له عمران بن يصهر ، وقارون بن يصهر ، فنكح عمران بخنت بنت شمويل بن بركنا بن بقشان بن بركنا ، فولدت له هارون بن عمران ، وموسى بن عمران صفي الله ونبيه; فموسى على ما ذكر ابن إسحاق ابن أخي قارون ، وقارون هو عمه أخو أبيه لأبيه ولأمه. وأكثر أهل
__________
(1) في كتاب العرائس (قصص الأنبياء للثعلبي المفسر) سميت بنت يتادم بن بركيا بن يشعان بن إبراهيم. وفي صفحة 213 طبعة الحلبي : عن ابن إسحاق : تزوج يصهر بن قاهث " سمين بنت ماريب بن بركيا ابن يقشان بن إبراهيم " وفي أسماء العبرانيين اختلاف كثير بين العلماء.

(19/615)


العلم في ذلك على ما قاله ابن جُرَيج.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن إبراهيم ، في قوله : ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ) قال : كان ابن عمّ موسى.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن سماك بن حرب ، قال : ثنا سعيد عن قَتادة( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ) : كنا نحدّث أنه كان ابن عمه أخي أبيه ، وكان يسمى المنوّر من حُسن صوته بالتوراة ، ولكن عدوّ الله نافق ، كما نافق السامري ، فأهلكه البغي.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن سماك ، عن إبراهيم( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ) قال : كان ابن عمه فبغى عليه.
قال : ثنا يحيى القطان ، عن سفيان ، عن سماك ، عن إبراهيم ، قال : كان قارون ابن عمّ موسى.
قال : ثنا أبو معاوية ، عن ابن أبي خالد ، عن إبراهيم( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ) قال : كان ابن عمه.
حدثني بشر بن هلال الصواف ، قال : ثنا جعفر بن سليمان الضُّبَعِيُّ ، عن مالك بن دينار ، قال : بلغني أن موسى بن عمران كان ابن عمّ قارون.
وقوله : ( فَبَغَى عَلَيْهِمْ ) يقول : فتجاوز حده في الكبر والتجبر عليهم.
وكان بعضهم يقول : كان بغيه عليهم زيادة شبر أخذها في طول ثيابه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن سعيد الكندي وأبو السائب وابن وكيع قالوا : ثنا حفص بن غياث ، عن ليث ، عن شَهر بن حَوْشب : ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ) قال : زاد عليهم في الثياب شبرا.
وقال آخرون : كان بغيه عليهم بكثرة ماله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : إنما بغى عليهم بكثرة ماله.

(19/616)


وقوله : ( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) يقول تعالى ذكره : وآتينا قارون من كنوز الأموال ما إن مفاتحه ، وهي جمع مفتح ، وهو الذي يفتح به الأبواب.
وقال بعضهم : عنى بالمفاتح في هذا الموضع : الخزائن لِتُثْقِل العصبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ما قلنا في معنى مفاتح :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن خيثمة ، قال : كانت مفاتح قارون تحمل على ستين بغلا كلّ مفتاح منها باب كنز معلوم مثل الأصبع من جلود.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، قال : كانت مفاتح كنوز قارون من جلود كل مفتاح مثل الأصبع ، كل مفتاح على خزانة على حدة ، فإذا ركب حملت المفاتيح على ستين بغلا أغرّ محجَّل.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن خيثمة ، في قوله : ( مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) قال : نجد مكتوبا في الإنجيل مفاتح قارون وقر ستين بغلا غرّا محجلة ، ما يزيد كل مفتاح منها على أصبع ، لكل مفتاح منها كنز.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن حميد ، عن مجاهد ، قال : كانت المفاتح من جلود الإبل.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) قال : مفاتح من جلود كمفاتح العيدان.
وقال قوم : عني المفاتح في هذا الموضع : خزائنه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، في قوله : ( مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) قال : كانت خزائنه تحمل على أربعين بغلا.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبي حجير ، عن الضحاك( مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ ) قال : أوعيته.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) قال أهل التأويل.

(19/617)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : ثنا أبو روق ، عن الضحاك عن ابن عباس ، في قوله : ( لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) قال : لتثقل بالعصبة.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) يقول : تثقل. وأما العصبة فإنها الجماعة.
واختلف أهل التأويل في مبلغ عددها الذي أريد في هذا الموضع; فأما مبلغ عدد العصبة في كلام العرب فقد ذكرناه فيما مضى باختلاف المختلفين فيه ، والرواية في ذلك ، والشواهد على الصحيح من قولهم في ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، فقال بعضهم : كانت مفاتحه تنوء بعصبة; مبلغ عددها أربعون رجلا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، قوله : ( لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) قال : أربعون رجلا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد عن قَتادة( لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) قال : ذكر لنا أن العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) يزعمون أن العصبة أربعون رجلا ينقلون مفاتحه من كثرة عددها.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) قال : أربعون رجلا.
وقال آخرون : ستون ، وقال : كانت مفاتحه تحمل على ستين بغلا.
حدثنا كذلك ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن الأعمش ، عن خيثمة.
وقال آخرون : كات تحمل على ما بين ثلاثة إلى عشرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا جابر بن نوح ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس( لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) قال : العصبة : ثلاثة.

(19/618)


حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : ثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس( لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) قال : العصبة : ما بين الثلاثة إلى العشرة.
وقال آخرون : كانت تحمل ما بين عشرة إلى خمسة عشر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) قال : العُصْبة : ما بين العشرة إلى الخمسة عشر.
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) قال : العصبة : خمسة عشر رجلا.
وقوله : ( أُولِي الْقُوَّةِ ) يعني : أولي الشدة. وقال مجاهد في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( أُولِي الْقُوَّةِ ) قال : خمسَة عَشَر.
فإن قال قائل : وكيف قيل : ( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) وكيف تنوء المفاتح بالعصبة ، وإنما العصبة هي التي تنوء بها ؟ قيل : اختلف في ذلك أهل العلم بكلام العرب ، فقال بعض أهل البصرة : مجاز ذلك : ما إن العصبة ذوي القوّة لتنوء بمفاتح نعمه. قال : ويقال في الكلام : إنها لتنوء بها عجيزتها ، وإنما هو : تنوء بعجيزتها كما ينوء البعير بحمله ، قال : والعرب قد تفعل مثل هذا ، قال الشاعر :
فَدَيْتُ بِنَفْسِهِ نَفْسِي وَمالي... وَما آلُوكَ إلا ما أُطِيقُ (1)
والمعنى : فديت بنفسي وبمالي نفسه.
__________
(1) البيت : من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ، (الورقة 182 ب) عن تفسير قوله تعالى : (ما إن مفاتحه لتنوء) قال : أي مفاتح خزائنه. ومجازه : ما إن العصبة ذوي القوة لتنوء بها عجيزتها ، وإنما هي تنوء بعجيزتها ، كما ينوء البعير بحمله. والعرب قد تفعل مثل هذا قال : " فديت بنفسه نفسي.. " البيت ، والمعنى : فديت بنفسي ومال نفسه. وقوله : " وما آلوك... " إلخ هذا التفات من الغيبة إلى الخطب. ومعناه : ما أستطيع. والعرب تقول : أتاني فلان في حاجة فما استطعت رده. وأتاني في حاجة فألوت فيها : أي اجتهدت. (اللسان : أَلا يألو).
قلت : وجعل المؤلف البيت في القلب نظير الآية (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة) أي ما إن العصبة أولي القوة تنوء وتعجز عن حمله ، كما قال أبو عبيدة.

(19/619)


وقال آخر :
وَتَرْكَبُ خَيْلا لا هَوَادَةَ بَيْنَها... وَتَشْقَى الرِّمَاحُ بالضَّياطِرَةِ الحُمْرِ (1)
وإنما تشقى الضياطرة بالرماح. قال : والخيل ههنا : الرجال.
وقال آخر منهم : ( مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ ) قال : وهذا موضع لا يكاد يبتدأ فيه " إن " ، وقد قال : ( إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ) وقوله : ( لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) إنما العصبة تنوء بها; وفي الشعر :
تَنُوءُ بِها فَتُثْقِلُها عَجِيزَتُها (2)
وليست العجيزة تنوء بها ، ولكنها هي تنوء بالعجيزة; وقال الأعشى :
ما كُنْتَ في الحَرْبِ العَوَانِ مُغَمَّرًا... إذْ شَبَّ حَرُّ وَقُودِها أجْذَالَها (3)
__________
(1) البيت لخداش بن زهير (اللسان : ضطر) والضياطرة : جمع ضيطر ، كالضيطري والجمع : ضياطر وضياطرة. وهم العظماء من الرجال ؛ وفي كلام علي عليه السلام : من يعذرني مع هؤلاء الضياطرة ، وهم الضخام الذين لا غناء عندهم. قال في اللسان : وقول خداش بن زهير : " ونركب خيلا... البيت " : قال ابن سيده : يجوز أن يكون عنى أن الرماح تشقى بهم ، أي لأنهم لا يحسنون حملها ، ولا الطعن بها. (قلت : وعلى هذا التوجيه ، لا شاهد في البيت). ويجوز أن يكون على القلب ، أي : تشقى الضياطرة الحمر بالرماح ، يعني أنهم يقتلون بها. والهوادة : المصالحة والموادعة. قلت : وعلى التوجيه الثاني من كلام ابن سيده ، يصح الاستشهاد بالبيت ، لما فيه من القلب. قال أبو عبيدة : وإنما يشقى الضياطرة بالرماح. اه. قلت : وهو شاذ كالذي قبله
(2) لم أقف على هذا الشعر.
(3) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ص31) وهو من قصيدة يمدح بها قيس بن معد يكرب. والحرب العوان : التي قوتل فيها مرة ثانية بعد الأولى ، كأنهم جعلوا الأولى بكرًا. والمغمر : الذي لم يجرب الأمور.
وشب النار : أوقدها. والأجذال : جمع جذلى (بكسر الجيم وسكون الذال) وهو ما عظم من أصول الشجر المقطع ، يجعل حطبًا ووقودًا للنار. والبيت خطاب للممدوح يقول له الشاعر : أقسم بمن جعل الشهور علامة ومواقيت للناس (في البيت الذي قبل البيت) أنك لم تكن في الحرب الشديدة جاهلا بإرادتها على الأعداء حين أوقد حرها الأجذال والحطب. وقد جعل الشاعر الحر هو الذي أوقد الأجذال. وفي هذا قلب للمعنى ، والأصل : إذا شبت الأجذال حر الحرب. وعلى هذا القلب استشهد به المؤلف ، وهو كالشاهدين قبله.

(19/620)


وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يُنكر هذا الذي قاله هذا القائل ، وابتداء إن بعد ما ، ويقول : ذلك جائز مع ما ومن ، وهو مع ما ومَنْ أجود منه مع الذي ، لأن الذي لا يعمل في صلته ، ولا تعمل صلته فيه ، فلذلك جاز ، وصارت الجملة عائد " ما " ، إذ كانت لا تعمل في " ما " ، ولا تعمل " ما " فيها; قال : وحسن مع " ما " و " من " ، لأنهما يكونان بتأويل النكرة إن شئت ، والمعرفة إن شئت ، فتقول : ضربت رجلا ليقومن ، وضربت رجلا إنه لمحسن ، فتكون " من " و " ما " تأويل هذا ، ومع " الذي " أقبح ، لأنه لا يكون بتأويل النكرة.
وقال آخر منهم في قوله : ( لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) : نَوْءُها بالعصبة : أن تُثْقلهم; وقال : المعنى : إن مفاتحه لَتُنِيءُ العصبة : تميلهن من ثقلها ، فإذا أدخلت الباء قلت : تنوء بهم ، كما قال : ( آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) قال والمعنى : ائتوني بقطر أفرغ عليه; فإذا حذفت الباء ، زدت على الفعل ألفا في أوله; ومثله : ( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ ) معناه : فجاء بها المخاض; وقال : قد قال رجل من أهل العربية : ما إن العصبة تنوء بمفاتحه ، فحوّل الفعل إلى المفاتح ، كما قال الشاعر :
إنَّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُه... تَحْلَى بهِ العَيْنُ إذَا مَا تَجْهَرُهْ (1)
وهو الذي يحلى بالعين ، قال : فإن كان سمع أثرًا بهذا ، فهو وجه ، و إلا فإن الرجل جهل المعنى ، قال : وأنشدني بعض العرب :
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة الورقة 242) وقد تقدم الاستشهاد به في (3 : 312) من هذا التفسير ، على مثل ما استشهد به هنا ، مع أبيات أخر. وقلنا في تفسيره هناك : جهرت فلانًا العين تجهره : نظرت إليه فرأته عظيمًا ، فحلى هو فيها. هذا هو أصل المعنى ، ولكن الشاعر قلب المعنى. فجعل العين تحلى بالمرئي إذا رأته ، فهو كالشاهدين اللذين قبله. وقال الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة 24059) في التعليق على قول الله تعالى : (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) : ونوءها بالعصبة أن تثقلهم. والعصبة هاهنا : أربعون رجلا. ومفاتحه : خزائنه. والمعنى : ما إن مفاتحه لتنيء العصبة أي تميلهم من ثقلها ؛ فإذا دخلت الباء قلت : تنوء بهم كما قال : (آتوني أفرغ عليه قطرًا) والمعنى : ائتوني بقطر أفرغ عليه. فإذا حذفت الباء رددت في الفعل ألفًا في أوله. ومثله : (فأجاءها المخاض). معناه : فجاء بها المخاض. وقد قال رجل من أهل العربية : إن المعنى : ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه فحول الفعل إلى المفاتح ، كما قال الشاعر : " إن سراجًا... " البيت ، وهو الذي يحلى بالعين. فإذا كان سمع بهذا أثرًا ، فهو وجه ، وإلا فإن الرجل جهل المعنى. اه.

(19/621)


حتى إذَا ما الْتَأَمَتْ مَوَاصِلُهْ... ونَاءَ في شقّ الشَّمالِ كَاهِلُهْ (1)
يعني : الرامي لما أخذ القوس ، ونزع مال عليها. قال : ونرى أن قول العرب : ما ساءك ، وناءك من ذلك ، ومعناه : ما ساءك وأناءك من ذلك ، إلا أنه ألقى الألف لأنه متبع لساءك ، كما قالت العرب : أكلت طعاما فهنأني ومرأني ، ومعناه : إذا أفردت وأمرأني ؛ فحذفت منه الألف لما أتبع ما ليس فيه ألف.
وهذا القول الآخر في تأويل قوله : ( لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ ) أولى بالصواب من الأقوال الأخر ، لمعنيين : أحدهما : أنه تأويل موافق لظاهر التنزيل. والثاني : أن الآثار التي ذكرنا عن أهل التأويل بنحو هذا المعنى جاءت ، وإن قول من قال : معنى ذلك : ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه ، إنما هو توجيه منهم إلى أن معناه : ما إن العصبة لتنهض بمفاتحه; وإذا وجه إلى ذلك لم يكن فيه من الدلالة على أنه أريد به الخبر عن كثرة كنوزه ، على نحو ما فيه ، إذا وجه إلى أن معناه : إن مفاتحه تثقل العصبة وتميلها ، لأنه قد تنهض العصبة بالقليل من المفاتح وبالكثير. وإنما قصد جلّ ثناؤه الخبر عن كثرة ذلك ، وإذا أريد به الخبر عن كثرته ، كان لا شكّ أن الذي قاله مَن ذكرنا قوله ، من أن معناه : لتنوء العصبة بمفاتحه ، قول لا معنى له ، هذا مع خلافه تأويل السلف في ذلك.
وقوله : ( إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) يقول : إذ قال قومه : لا تبغ ولا تَبْطَر فرحا ، إن الله لا يحبّ من خلقه الأشِرِين البَطِرين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) يقول : المرحين.
__________
(1) البيتان مما أنشده بعض العرب ، الفراء (انظر معاني القرآن له ص 242 ، واللسان : ناء) قال الفراء بعد الذي نقلناه من قوله في الشاهد السابق : ولقد أنشدني بعض العرب : حتى إذا ما التأمت مواصله ... وناء في شق الشمال كاهله
يعني : الرامي لما أخذ القوس ونزع ، مال على شقه ، فذلك نوءه عليها. ونرى أن قول العرب : " ما ساءك وناءك " من ذلك ، ومعناه : ساءك وأناءك ، إلا أنه ألقى الألف ، لأنه متبع لساءك ، كما قالت العرب : أكلت طعامًا ، فهنأني ومرأني. ومعناه إذا أفردت : وأمرأني فحذفت منه الألف ، لما أن أتبع ما لا ألف فيه.

(19/622)


وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، في قوله : ( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) قال : المُتبذِّخين الأشِرين البَطِرين ، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن جابر ، قال : سمعت مجاهدا يقول في هذه الآية( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) قال : الأشِرين البَطِرين البَذِخين.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوام ، عن مجاهد ، في قوله : ( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) قال : يعني به البغي.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) قال : المتبذخين الأشرين ، الذين لا يشكرون الله فيما أعطاهم.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله; إلا أنه قال : المتبذخين.
حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي ، قال : ثني شبابة ، قال ثني ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) قال : الأشرين البطرين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتاده ، إذ قال له قومه( لا تَفْرَحْ ) : أي لا تمرح( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) : أي إن الله لا يحب المرحين.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريح ، عن مجاهد( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) قال : الأشرين البطرين ، الذين لا يشكرون الله فيما أعطاهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوام ، عن مجاهد ، في قوله : ( إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) قال : هو فرح البَغْي.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) }

(19/623)


يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل قوم قارون له : لا تبغ يا قارون على قومك بكثرة مالك ، والتمس فيما آتاك الله من الأموال خيرات الآخرة ، بالعمل فيها بطاعة الله في الدنيا وقوله : ( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) يقول : ولا تترك نصيبك وحظك من الدنيا ، أن تأخذ فيها بنصيبك من الآخرة ، فتعمل فيه بما ينجيك غدا من عقاب الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) يقول : لا تترك أن تعمل لله في الدنيا.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن ابن عباس( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) قال : أن تعمل فيها لآخرتك.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا قرة بن خالد ، عن عون بن عبد الله( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) قال : إن قوما يضعونها على غير موضعها. ولا تنس نصيبك من الدنيا : تعمل فيها بطاعة الله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) قال : العمل بطاعته.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : تعمل في دنياك لآخرتك.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) قال : العمل فيها بطاعة الله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدننا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن عيسى الجُرَشِيّ ، عن مجاهد : ( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) قال : أن تعمل في دنياك لآخرتك.

(19/524)


حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن مجاهد ، قال : العمل بطاعة الله : نصيبه من الدنيا ، الذي يُثاب عليه في الآخرة.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) قال : لا تنس أن تقدم من دنياك لآخرتك ، فإنما تجد في آخرتك ما قدمت في الدنيا ، فيما رزقك الله.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تترك أن تطلب فيها حظك من الرزق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : ( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) : قال الحسن : ما أحلّ الله لك منها ، فإن لك فيه غنى وكفاية.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا محمد بن حميد المعمري ، عن معمر ، عن قَتادة : ( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) قال : طلب الحلال.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا حفص ، عن أشعث ، عن الحسن : ( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) : قال : قدِّم الفضل ، وأمسك ما يبلغك.
القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : الحلال فيها.
وقوله : ( وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) يقول : وأحسن في الدنيا إنفاق مالك الذي آتاكه الله ، في وجوهه وسبله ، كما أحسن الله إليك ، فوسع عليك منه ، وبسط لك فيها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) قال : أحسن فيما رزقك الله.
(ولا تبغ الفساد في الأرض) يقول : ولا تلتمس ما حرّم الله عليك من البغي على قومك.
(إِن الله لا يحب المفسدين) يقول : إن الله لا يحبّ بغاة البغي والمعاصي.

(19/625)


قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي

(19/625)


أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) }
يقول تعالى ذكره : قال قارون لقومه الذين وعظوه : إنما أوتيتُ هذه الكنوز على فضل علم عندي ، علمه الله مني ، فرضي بذلك عني ، وفضلني بهذا المال عليكم ، لعلمه بفضلي عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ) قال : على خُبْرٍ عندي.
قال : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ) قال : لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا ، وقرأ : ( أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ) ... الآية.
وقد قيل : إن معنى قوله : ( عِنْدِي ) بمعنى : أرى ، كأنه قال : إنما أوتيته لفضل علمي ، فيما أرى.
وقوله : ( أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ) يقول جل ثناؤه : أو لم يعلم قارون حين زعم أنه أوتي الكنوز لفضل علم عنده علمته أنا منه ، فاستحقّ بذلك أن يُؤتى ما أُوتي من الكنوز ، أن الله قد أهلك من قبله من الأمم من هو أشد منه بطشا ، وأكثر جمعا للأموال ; ولو كان الله يؤتي الأموال من يؤتيه لفضل فيه وخير عنده ، ولرضاه عنه ، لم يكن يهلك من اهلك من أرباب الأموال الذين كانوا أكثر منه مالا لأن من كان الله عنه راضيا ، فمحال أن يهلكه الله ، وهو عنه راضٍ ، وإنما يهلك من كان عليه ساخطا.
وقوله : ( وَلا يُسْأَلُ

(19/626)


فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)

عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) قيل : إن معنى ذلك أنهم يدخلون النار بغير حساب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا سفيان ، عن عمر ، عن قَتادة( وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) قال : يُدْخلون النار بغير حساب.
وقيل : معنى ذلك : أن الملائكة لا تسأل عنهم ، لأنهم يعرفونهم بسيماهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) كقوله : ( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ) زرقا سود الوجوه ، والملائكة لا تسأل عنهم قد عرفتهم.
وقيل معنى ذلك : ولا يسأل عن ذنوب هؤلاء الذين أهلكهم الله من الأمم الماضية المجرمون فيم أهلكوا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب( وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) قال : عن ذنوب الذين مضوا فيم أهلكوا ؟ فالهاء والميم في قوله : ( عَنْ ذُنُوبِهِمُ ) على هذا التأويل لمن الذي في قوله : ( أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً ) وعلى التأويل الأول الذي قاله مجاهد وقَتادة للمجرمين ، وهي بأن تكون من ذكر المجرمين أولى ؛ لأن الله تعالى ذكره غير سائل عن ذنوب مذنب غير من أذنب ، لا مؤمن ولا كافر. فإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنه لا معنى لخصوص المجرمين ، لو كانت الهاء والميم اللتان في قوله : ( عَنْ ذُنُوبِهِمُ ) لمن الذي في قوله : ( مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً ) من دون المؤمنين ، يعني لأنه غير مسئول عن ذلك مؤمن ولا كافر ، إلا الذين ركبوه واكتسبوه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) }
يقول تعالى ذكره : فخرج قارون على قومه في زينته ، وهي فيما ذكر ثياب الأرجوان.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا طلحة بن عمرو ، عن أبي الزبير ،

(19/627)


عن جابر( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) قال : في القرمز.
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) قال : في ثياب حمر.
حدثنا ابن وكيع ، قال ثنا أبو خالد الأحمر ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) قال : على براذين بيض ، عليها سروج الأرجوان ، عليهم المعصفرات.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) قال : عليه ثوبان معصفران.
وقال ابن جُرَيج : على بغلة شهباء عليها الأرجوان ، وثلاث مائة جارية على البغال الشهب ، عليهن ثياب حمر.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ويحيى بن يمان ، عن مبارك ، عن الحسن( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) قال : في ثياب حمر وصفر.
حدثنا ابن المثني ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، أنه سمع إبراهيم النخعي ، قال في هذه الآية( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) قال : في ثياب حمر.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن إبراهيم النخعيّ ، مثله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا غندر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن إبراهيم مثله.
حدثنا محمد بن عمرو بن علي المقدمي ، قال : ثنا إسماعيل بن حكيم ، قال : دخلنا على مالك بن دينار عشية ، وإذا هو في ذكر قارون ، قال : وإذا رجل من جيرانه عليه ثياب معصفرة ، قال : فقال مالك : ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) قال : في ثياب مثل ثياب هذا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) : ذكر لنا أنهم خرجوا على أربعة آلاف دابة ، عليهم وعلى دوابهم الأرجوان.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) قال : خرج في سبعين ألفا ، عليهم المعصفرات ، فيما كان أبي يذكر

(19/528)


وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)

لنا.
( قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ ) يقول تعالى ذكره : قال الذين يريدون زينة الحياة الدنيا من قوم قارون : يا ليتنا أُعطينا مثل ما أعطي قارون من زينتها( إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) يقول : إن قارون لذو نصيب من الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ (80) }
يقول تعالى ذكره : وقال الذين أوتوا العلم بالله ، حين رأوا قارون خارجا عليهم في زينته ، للذين قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون : ويلكم اتقوا الله وأطيعوه ، فثواب الله وجزاؤه لمن آمن به وبرسله ، وعمل بما جاءت به رسله من صالحات الأعمال في الآخرة ، خير مما أوتي قارون من زينته وماله لقارون. وقوله : ( وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ ) يقول : ولا يلقاها : أي ولا يوفَّق لقيل هذه الكلمة ، وهي قوله : ( ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ) والهاء والألف كناية عن الكلمة. وقال : ( إِلا الصَّابِرُونَ ) يعني بذلك : الذين صبروا عن طلب زينة الحياة الدنيا ، وآثروا ما عند الله من جزيل ثوابه على صالحات الأعمال على لذّات الدنيا وشهواتها ، فجدّوا في طاعة الله ، ورفضوا الحياة الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) }
يقول تعالى ذكره : فخسفنا بقارون وأهل داره. وقيل : وبداره ، لأنه ذكر أن موسى إذ أمر الأرض أن تأخذه أمرها بأخذه ، وأخذ من كان معه من جلسائه في داره ، وكانوا جماعة جلوسا معه ، وهم على مثل الذي هو عليه من النفاق والمؤازرة على أذى موسى.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت الزكاة أتى قارون موسى ، فصالحه على كلّ ألف دينار دينارا ، وكلّ ألف شيء شيئا ، أو قال : وكلّ ألف شاة شاة " الطبريّ يشكّ " قال : ثم أتى بيته فحسبه فوجده كثيرا ، فجمع بني إسرائيل ، فقال : يا بني إسرائيل ، إن موسى قد أمركم بكلّ شيء فأطعتموه ، وهو الآن يريد أن يأخذ من أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا وأنت سيدنا ، فمرنا بما شئت ، فقال : آمركم

(19/629)


أن تجيئوا بفلانة البغي ، فتجعلوا لها جعلا فتقذفه بنفسها ، فدعوها فجعل لها جعلا على أن تقذفه بنفسها ، ثم أتى موسى ، فقال لموسى : إن بني إسرائيل قد اجتمعوا لتأمرهم ولتنهاهم ، فخرج إليهم وهم في براح من الأرض ، فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ، ومن افترى جلدناه ، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة ، ومن زنى وله امرأة جلدناه حتى يموت ، أو رجمناه حتى يموت " الطبري يشكّ " فقال له قارون : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت أنا ، قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة. قال : ادعوها ، فإن قالت ، فهو كما قالت; فلما جاءت قال لها موسى : يا فلانة ، قالت : يا لبيك ، قال : أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء ؟ قالت : لا وكذبوا ، ولكن جعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي; فوثب ، فسجد وهو بينهم ، فأوحى الله إليه : مُر الأرض بما شئت ، قال : يا أرض خذيهم! فأخذتهم إلى أقدامهم. ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى ركبهم. ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى حقيهم (1) ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى أعناقهم ؛ قال : فجعلوا يقولون : يا موسى يا موسى ، ويتضرّعون إليه. قال : يا أرض خذيهم ، فانطبقت عليهم ، فأوحى الله إليه : يا موسى ، يقول لك عبادي : يا موسى ، يا موسى فلا ترحمهم ؟ أما لو إياي دعوا ، لوجدوني قريبا مجيبا; قال : فذلك قول الله : ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) وكانت زينته أنه خرج على دوابّ شقر عليها سروج حمر ، عليهم ثياب مصبغة بالبهرمان (2) .
( قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ ) ... إلى قوله : ( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) يا محمد( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ).
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : لما أمر الله موسى بالزكاة ، قال : رموه بالزنا ، فجزع من ذلك ، فأرسلوا إلى امرأة كانت قد أعطوها حكمها ، على أن ترميه بنفسها; فلما جاءت عظم عليها ، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل ، وأنزل التوراة على موسى إلا صدقتِ. قالت : إذ قد استحلفتني ، فإني أشهد أنك بريء ، وأنك رسول الله ، فخرّ ساجدا
__________
(1) الحقو : معقد الإزار. جمعه : أحق ، وأحقاء ، وحقي (بشد الياء) وحقاء (اللسان : حقا).
(2) البهرمان ، بفتح الباء والراء : العصفر أو ضرب منه (اللسان : بهرم).

(19/630)


يبكي ، فأوحى الله تبارك وتعالى : ما يبكيك ؟ قد سلطناك على الأرض ، فمُرها بما شئت ، فقال : خذيهم ، فأخذتهم إلى ما شاء الله ، فقالوا : يا موسى ، يا موسى ، فقال : خذيهم ، فأخذتهم إلى ما شاء الله ، فقالوا : يا موسى ، يا موسى ، فخسفتهم. قال : وأصاب بني إسرائيل بعد ذلك شدة وجوع شديد ، فأتوا موسى ، فقالوا : ادع لنا ربك; قال : فدعا لهم ، فأوحى الله إليه : يا موسى ، أتكلمني في قوم قد أظلم ما بيني وبينهم خطاياهم ، وقد دعوك فلم تجبهم ، أما إياي لو دعوا لأجبتهم.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ ) قال : قيل للأرض خذيهم ، فأخذتهم إلى أعقابهم; ثم قيل لها : خذيهم ، فأخذتهم إلى ركبهم; ثم قيل لها : خذيهم ، فأخذتهم إلى أحقائهم; ثم قيل لها : خذيهم ، فأخذتهم إلى أعناقهم ; ثم قيل لها : خذيهم ، فخسف بهم ، فذلك قوله : ( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ ).
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا علي بن هاشم بن البريد ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، في قوله : ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ) قال : كان ابن عمه ، وكان موسى يقضي في ناحية بني إسرائيل ، وقارون في ناحية ، قال : فدعا بغية كانت في بني إسرائيل ، فجعل لها جعلا على أن ترمي موسى بنفسها ، فتركته إذا كان يوم تجتمع فيه بنو إسرائيل إلى موسى ، أتاه قارون فقال : يا موسى ما حد من سرق ؟ قال : أن تنقطع يده ، قال : وإن كنت أنت ؟ قال : نعم ; قال. فما حد من زنى ؟ قال : أن يرجم ، قال : وإن كنت أنت ؟ قال : نعم; قال : فإنك قد فعلت ، قال : ويلك بمن ؟ قال : بفلانة ، فدعاها موسى ، فقال : أنشدك بالذي أنزل التوراة ، أصدق قارون ؟ قالت : اللهمّ إذ نشدتني ، فإني أشهد أنك برئ ، وانك رسول الله ، وأن عدو الله قارون جعل لي جعلا على أن أرميك بنفسي; قال : فوثب موسى ، فخر ساجدا لله ، فأوحى الله إليه أن ارفع رأسك ، فقد أمرت الأرض أن تطيعك ، فقال موسى : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم حتى بلغوا الحقو ، قال : يا موسى; قال : خذيهم ، فأخذتهم حتى بلغوا الصدور ، قال : يا موسى ، قال : خذيهم ، قال : فذهبوا. قال : فأوحى الله إليه يا موسى : استغاث بك فلم تغثه ، أما لو استغاث بي لأجبته ولأغثته.
حدثنا بشر بن هلال الصوّاف ، قال : ثنا جعفر بن سليمان الضبعيّ ، قال : ثنا عليّ بن

(19/631)


زيد بن جدعان ، قال : خرج عبد الله بن الحارث من الدار ، ودخل المقصورة; فلما خرج منها ، جلس وتساند عليها ، وجلسنا إليه ، فذكر سليمان بن داود( قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) ... إلى قوله : ( إِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ثم سكت عن ذكر سليمان ، فقال : ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ) وكان قد أوتي من الكنوز ما ذكر الله في كتابه( مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) ، ( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ) قال : وعادى موسى ، وكان مؤذيا له ، وكان موسى يصفح عنه ويعفو ، للقرابة ، حتى بنى دارا ، وجعل باب داره من ذهب ، وضرب على جدرانه صفائح الذهب ، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون عليه ويروحون ، فيطعمهم الطعام ، ويحدّثونه ويضحكونه ، فلم تدعه شقوته والبلاء ، حتى أرسل إلى امرأة من بني إسرائيل مشهورة بالخنا ، مشهورة بالسب ، فأرسل إليها فجاءته ، فقال لها : هل لك أن أموّلك وأعطيك ، وأخلطك في نسائي ، على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي ، فتقولي : يا قارون ، ألا تنهى عني موسى ، قالت : بلى. فلما جلس قارون ، وجاء الملأ من بني إسرائيل ، أرسل إليها ، فجاءت فقامت بين يديه ، فقلب الله قلبها ، وأحدث لها توبة ، فقالت في نفسها : لأن أحدث اليوم توبة ، أفضل من أن أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكذّب عدو الله له. فقالت : إن قارون قال لي : هل لك أن أموّلك وأعطيك ، وأخلطك بنسائي ، على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي ، فتقولي : يا قارون ألا تنهى عني موسى ، فلم أجد توبة أفضل من أن لا أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكذب عدو الله; فلما تكلمت بهذا الكلام ، سقط في يدي قارون ، ونكس رأسه ، وسكت الملأ وعرف أنه قد وقع في هلكة ، وشاع كلامها في الناس ، حتى بلغ موسى; فلما بلغ موسى اشتدّ غضبه ، فتوضأ من الماء ، وصلى وبكى ، وقال : يا ربّ عدوك لي مؤذ ، أراد فضيحتي وشيني ، يا ربّ سلطني عليه. فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت تطعك. فجاء موسى إلى قارون; فلما دخل عليه ، عرف الشرّ في وجه موسى له ، فقال : يا موسى ارحمني; قال : يا أرض خذيهم ، قال : فاضطربت داره ، وساخت بقارون وأصحابه إلى الكعبين ، وجعل يقول : يا موسى ، فأخذتهم إلى ركبهم ، وهو يتضرّع إلى موسى : يا موسى ارحمني; قال : يا أرض خذيهم ، قال فاضطربت داره وساخت وخُسف بقارون وأصحابه إلى سررهم ، وهو يتضرّع إلى موسى : يا موسى ارحمني; قال : يا أرض خذيهم ، فخسف به وبداره وأصحابه. قال : وقيل لموسى صلى الله عليه وسلم : يا موسى ما أفظك ، أما وعزّتي لو إياي نادى لأجبته.
حدثني بشر بن هلال ، قال : ثنا جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران الجوني ، قال : بلغني أنه قيل لموسى : لا أعبد الأرض لأحد بعدك أبدا.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، وعبد الحميد الحماني ، عن سفيان ، عن الأغر بن الصباح ، عن خليفة بن حصين ، قال عبد الحميد ، عن أبي نصر ، عن ابن عباس ، ولم يذكر ابن مهدي أبا نصر( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ ) قال : الأرض السابعة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : بلغنا أنه يخسف به كلّ يوم مائة قامة ، ولا يبلغ أسفل الأرض إلى يوم القيامة ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا زيد بن حبان ، عن جعفر بن سليمان ، قال : سمعت مالك بن دينار ، قال : بلغني أن قارون يخسف به كلّ يوم مائة قامة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ ) ذكر لما أنه يخسف به كلّ يوم قامة ، وأنه يتجلجل فيها ، لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة.
وقوله : ( فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) يقول : فلم يكن له جند يرجع إليهم ، ولا فئة ينصرونه لما نزل به من سخطه ، بل تبرءوا منه.
(وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) يقول : ولا كان هو ممن ينتصر من الله إذا أحل به نقمته ، فيمتنع لقوته منها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : ( فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ ) أي جند ينصرونه ، وما عنده منعة يمتنع بها من الله.
وقد بيَّنا معنى الفئة فيما مضى وأنها الجماعة من الناس ، وأصلها الجماعة التي يفيء إليها الرجل عند الحاجة إليهم ، للعون على العدوّ ، ثم تستعمل ذلك العرب في كل جماعة كانت عونا للرجل ، وظهرا له; ومنه قول خفاف :
فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُمْ حَيًّا لَقَاحًا... وَجَدّكَ بينَ نَاضِحَةٍ وَحَجْرِ... أشَدَّ على صُرُوفِ الدَّهْرِ آدًا... وأكبرَ منهُمُ فِئَةً بِصَبْرِ (1)
__________
(1) البيتان من شعر خفاف بن ندبة ، وهما من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (183ب) قال عند قوله تعالى : (فما كان له من فئة) أي من أعوان وظهر ، قال خفاف : فلم أر مثلهم حيًّا لقاحًا... " البيتين. وفي (اللسان : لقح) : وحي لقاح : لم يدينوا للملوك ، ولم يملكوا ، ولم يصبهم في الجاهلية سباء ، وقال ثعلب : الحي اللقاح : مشتق من لقاح الناقة ، لأن الناقة إذا لقحت لم تطاوع الفحل. وناضحة بالضاد : لعله تحريف ناصحة ، وهي كما في معجم البلدان : ماء لمعاوية بن حزن بنجد. وحجر (بفتح فسكون) : قصبة اليمامة. والآد والأيد : القوة. والفئة : الجماعة من الناس ، وهو من الكلمات الثنائية الوضع.

(19/632)


وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) }
يقول تعالى ذكره : وأصبح الذين تمنَّوا مكانه بالأمس من الدنيا ، وغناه وكثرة ماله ، وما بسط له منها بالأمس ، يعني قبل أن ينزل به ما نزل من سخط الله وعقابه ، يقولون : ويكأنّ الله
اختلف في معنى( وَيْكَأَنَّ اللَّهَ ) فأما قَتادة ، فإنه رُوي عنه في ذلك قولان : أحدهما ما :
حدثنا به ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن خالد بن عثمة ، قال : ثنا سعيد بن بشير ، عن قَتادة ، قال في قوله : ( وَيْكَأَنَّهُ ) قال : ألم تر أنه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَيْكَأَنَّهُ ) أولا ترى أنه.
وحدثني إسماعيل بن المتوكل الأشجعي ، قال : ثنا محمد بن كثير ، قال : ثني معمر ، عن قَتادة( وَيْكَأَنَّهُ ) قال : ألم تر أنه.
والقول الآخر : ما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : ( وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ) قال : أو لم يعلم أن الله( وَيْكَأَنَّهُ ) أو لا يعلم أنه.
وتأول هذا التأويل الذي ذكرناه عن قَتادة في ذلك أيضا بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة ، واستشهد لصحة تأويله ذلك كذلك ، بقول الشاعر :
سألَتانِي الطَّلاقَ أنْ رأتانِي... قَلَّ مالي ، قَدْ جِئْتُما بِنُكْرِ... وَيْكأن مَنْ يَكُنْ لَهُ نشب يُحْ... بَبْ وَمن يَفْتَقِرْ يعِش عَيْشَ ضَرّ (1)
__________
(1) البيتان لزيد بن عمرو بن نفيل (خزانة الأدب الكبرى للبغدادي 3 : 95 - 97) وقبلهما بيت ثالث وهو : تَلْكَ عرْسَايَ تَنْطِقَانِ عَلَى عَمْـ ... ـدٍ إلى الْيَوْمِ قَوْل زُورٍ وَهِتْر
الشاعر ينكر حال زوجيه معه بعد أن كبر وافتقر. وفي البيت الثاني : " أن رأتا مالي قليلا... " إلخ والعرس : الزوجة. والهتر بفتح الهاء : مصدر هتر يهتره هترا من باب نصر : إذا مزق عرضه. وبكسر الهاء : الكذب ، والداهية ، والأمر العجب. والسقط من الكلام ، والخطأ فيه. وبالضم : ذهاب العقل من كبر ، أو مرض ، أو حزن. والنكر : الأمر القبيح المنكر. والنشب : المال الأصيل ، من الناطق والصامت. والشاهد في قوله : " ويكأنه " فقد اختلف فيها البصريون والكوفيون أهي كلمة واحدة أم كلمتان ؟ فقال سيبويه : سألت الخليل عن قوله تعالى : (ويكأنه لا يفلح الكافرون) وعن قوله : (ويكأن الله) فزعم أنها : " وي " مفصولة من " كأن " . والمعنى على أن القوم انتبهوا ، فتكلموا على قدر علمهم ، أو نبهوا ، فقيل لهم : أما يشبه أن هذا عندكم هكذا ؟ وقال الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة الورقة 243) : " ويكأن... " في كلام العرب تقرير كقول الرجل : أما ترى إلى صنع الله ؟ وأنشدني : " ويكأن من يكن... " البيت. وأخبرني شيخ من أهل البصرة قال : سمعت أعرابية تقول لزوجها : أين ابنك ، ويلك ؟ فقال : " ويكأنه وراء البيت ، معناه أما ترينه وراء البيت... إلى آخر ما نقله عنه المؤلف. قلت : والذي قاله الخليل وسيبويه من حيث اللفظ أقرب إلى الصواب ، لأن الكلمة مركبة من ثلاثة أشياء : وي ، والكاف وأن. والذي قال الفراء من جهة المعنى حسن واضح.

(19/634)


وقال بعض نحويي الكوفة : " ويكأنّ " في كلام العرب : تقرير ، كقول الرجل : أما ترى إلى صُنع الله وإحسانه ، وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها : أين ابننا ؟ فقال : ويكأنه وراء البيت. معناه : أما ترينه وراء البيت ؟ قال : وقد يذهب بها بعض النحويين إلى أنها كلمتان ، يريد : ويك أنه ، كأنه أراد : ويلك ، فحذف اللام ، فتجعل " أن " مفتوحة بفعل مضمر ، كأنه قال : ويلك اعلم أنه وراء البيت ، فأضمر " اعلم " .
قال : ولم نجد العرب تعمل الظن مضمرا ، ولا العلم وأشباهه في " أن " ، وذلك أنه يبطل إذا كان بين الكلمتين ، أو في آخر الكلمة ، فلما أضمر جرى مجرى المتأخر; ألا ترى أنه لا يجوز في الابتداء أن يقول : يا هذا أنك قائم ، ويا هذا أن قمت ، يريد : علمت ، أو أعلم ، أو ظننت ، أو أظنّ ، وأما حذف اللام من قولك : ويلك حتى تصير : ويك ، فقد تقوله : العرب ، لكثرتها في الكلام ، قال عنترة :
وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَها... قَوْلُ الفَوَارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ (1)
__________
(1) البيت لعنترة بن عمرو بن شداد العبسي ، من معلقته (مختار الشعر الجاهلي بشعر مصطفى السقا ص 379) قال شارحه : يريد أن تعويل أصحابه عليه ، والتجاءهم إليه شفى نفسه ، ونفى غمه. اه. ووي : كلمة يقولها المتعجب من شيء ، وهي بدائية ثنائية الوضع. لأنها من أسماء الأصوات ثم صارت اسم فعل وقد تدخلها كاف الخطاب ، وقد يزيدون عليها لامًا ، فتصير ويل أو الحاء ، فتصير ويح ، وتستعمل الأولى في الإِنذار بالشر ، والثانية في الإِشعار بالرحمة ، فيقال ويلك ، وويحك ، وويسك وويبك : مثل ويلك. وروايته البيت هنا كروايته في معاني القرآن للفراء (ص 243) فقد نقله في كلامه الذي نقله المؤلف ، وذكر فيه هذا الشاهد ، وفي مختار الشعر قيل : الفوارس : في موضع : قول الفوارس وهما بمعنى.

(19/635)


قال : وقال آخرون : إن معنى قوله : ( وَيْكَأَنَّ ) : " وي " منفصلة من كأنّ ، كقولك للرجل : وَيْ أما ترى ما بين يديك ؟ فقال : " وي " ثم استأنف ، كأن الله يبسط الرزق ، وهي تعجب ، وكأنّ في معنى الظنّ والعلم ، فهذا وجه يستقيم. قال : ولم تكتبها العرب منفصلة ، ولو كانت على هذا لكتبوها منفصلة ، وقد يجوز أن تكون كَثُر بها الكلام ، فوصلت بما ليست منه .
وقال آخر منهم : إن " ويْ " : تنبيه ، وكأنّ حرفٌ آخر غيره ، بمعنى : لعل الأمر كذا ، وأظنّ الأمر كذا ، لأن كأنّ بمنزلة أظنّ وأحسب وأعلم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة : القول الذي ذكرنا عن قَتادة ، من أن معناه : ألم تر ، ألم تعلم ، للشاهد الذي ذكرنا فيه من قول الشاعر ، والرواية عن العرب; وأن " ويكأنّ " في خطّ المصحف حرف واحد. ومتى وجه ذلك إلى غير التأويل الذي ذكرنا عن قَتادة ، فإنه يصير حرفين ، وذلك أنه إن وجه إلى قول من تأوّله بمعنى : ويلك اعلم أن الله ؛ وجب أن يفصل " ويك " من " أن " ، وذلك خلاف خط جميع المصاحف ، مع فساده في العربية ، لما ذكرنا. وإن وجه إلى قول من يقول : " وي " بمعنى التنبيه ، ثم استأنف الكلام بكأن ، وجب أن يفصل " وي " من " كأن " ، وذلك أيضا خلاف خطوط المصاحف كلها (1) .
فإذا كان ذلك حرفا واحدا ، فالصواب من التأويل : ما قاله قَتادة ، وإذ كان ذلك هو الصواب ، فتأويل الكلام : وأصبح الذين تمنوا مكان قارون وموضعه من الدنيا بالأمس ، يقولون لما عاينوا ما أحلّ الله به من نقمته : ألم تريا هذا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ، فيوسع عليه ، لا لفضل منزلته عنده ، ولا لكرامته عليه ، كما كان بسط من ذلك لقارون ، لا لفضله ولا لكرامته عليه( وَيَقْدِرُ ) يقول : ويضيق على من يشاء من خلقه ذلك ، ويقتر عليه ، لا لهوانه ، ولا لسخطه عمله.
وقوله : ( لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ) يقول : لولا أن تفضل علينا ، فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس( لَخَسَفَ بِنَا ).
__________
(1) قلت : العجب من المؤلف على إمامته وعلو كعبه في العلم كيف يجعل رسم المصاحف دليلا على المعنى ، مع أن المصاحف مختلفة رسمها اختلافًا بينًا ، وليس لاختلاف المعاني أي دخل في ذلك الرسم ، وإنما وجد إلى أسباب أخرى.

(19/636)


تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى شيبة : " لخُسِفَ بِنَا " بضم الخاء ، وكسر السين وذُكر عن شيبة والحسن : ( لَخَسَفَ بِنَا ) بفتح الخاء والسين ، بمعنى : لخسف الله بنا.
وقوله : ( وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) يقول : ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون ، فَتُنجِح طلباتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) }
يقول تعالى ذكره : تلك الدار الآخرة نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرا عن الحقّ في الأرض وتجبرا عنه ولا فسادا. يقول : ولا ظلم الناس بغير حقّ ، وعملا بمعاصي الله فيها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، عن زياد بن أبي زياد ، قال : سمعت عكرمة يقول : ( لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا ) قال : العلو : التجبر.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مسلم البطين( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا ) قال : العلو : التكبر في الحقّ ، والفساد : الأخذ بغير الحق.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مسلم البطين : ( لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ ) قال : التكبر في الأرض بغير الحقّ( وَلا فَسَادًا ) أخذ المال بغير حق.
قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن حُبَير : ( لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ ) قال : البغي.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : ( لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ ) قال : تعظُّما وتجبرا( وَلا فَسَادًا ) : عملا بالمعاصي.

(19/637)


مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أشعث السمان ، عن أبي سلمان الأعرج ، عن عليّ رضي الله عنه قال : إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه ، فيدخل في قوله : ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ).
وقوله : ( وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) يقول تعالى ذكره : والجنة للمتقين ، وهم الذين اتقوا معاصي الله ، وأدّوا فرائضه.
وبنحو الذي قلنا في معنى العاقبة قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : ( وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) أي الجنة للمتقين.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) }
يقول تعالى ذكره : من جاء الله يوم القيامة بإخلاص التوحيد ، فله خير ، وذلك الخير هو الجنة والنعيم الدائم ، ومن جاء بالسيئة ، وهى الشرك بالله.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد قال ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ) أي : له منها حظّ خير ، والحسنة : الإخلاص ، والسيئة : الشرك.
وقد بيَّنا ذلك باختلاف المختلفين ، ودللنا على الصواب من القول فيه.
وقوله : ( فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ) يقول : فلا يثاب الذين عملوا السيئات على أعمالهم السيئة( إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يقول : إلا جزاء ما كانوا يعملون.

(19/638)


إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) }
يقول تعالى ذكره : إن الذي أنزل عليك يا محمد القرآن.
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ) قال : الذي أعطاك القرآن.

(19/638)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ) قال : الذي أعطاكه.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) فقال بعضهم : معناه : لمصيرك إلى الجنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : ثنا عتاب بن بشر ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : إلى معدنك من الجنة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن رجل ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قال : إلى الجنة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن إبراهيم بن حبان ، سمعت أبا جعفر ، عن ابن عباس ، عن أبي سعيد الخدرّي( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : معاده آخرته الجنة.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبى مالك ، في( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : إلى الجنة ليسألك عن القرآن.
حدثنا أبو كُرَيب وابن وكيع ، قالا ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي صالح ، قال : الجنة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن السدى ، عن أبي صالح : ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : إلى الجنة.
حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك ، قال يردّك إلى الجنة ، ثم يسألك عن القرآن.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد ، قالا إلى الجنة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تُمَيْلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة وعطاء ومجاهد وأبي قَزَعة والحسن ، قالوا : يوم القيامة.
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : يجيء بك يوم القيامة.

(19/639)


قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الحسن والزهري ، قالا معاده يوم القيامة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : يجيء بك يوم القيامة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عون ، عن الحسن ، في قوله : ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : معادك من الآخرة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، في قوله : ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : كان الحسن يقول : إي والله ، إن له لمعادا يبعثه الله يوم القيامة ، ويدخله الجنة.
وقال آخرون : معنى ذلك : لرادّك إلى الموت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، قال : ثنا محمد بن عبد الله الزبيري ، قال : ثنا سفيان بن سعيد الثوري ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس : ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : الموت.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن رجل ، عن ابن عباس ، قال : إلى الموت.
قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، عن سعيد : ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : إلى الموت.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن السدي عمن سمع ابن عباس ، قال إلى الموت.
حدثنا أبو كُرَيب وابن وكيع ، قالا ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جُبَيْر ، قال : إلى الموت.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن رجل ، عن سعيد بن جُبَيْر في قوله : ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : الموت.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عدي بن

(19/640)


ثابت ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قالا إلى الموت ، أو إلى مكة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لرَادّك إلى الموضع الذي خرجت منه ، وهو مكة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يعلى بن عبيد ، عن سفيان العصفري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : إلى مكة.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : يقول : لرادك إلى مكة ، كما أخرجك منها.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، قال : أخبرنا يونس بن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، قال : مولده بمكة.
حدثنا ابن وكيع ، قال ثنا أبي عن يونس بن أبي إسحاق ، قال : سمعت مجاهدًا يقول : ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : إلى مولدك بمكة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا يونس بن عمرو ، وهو ابن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، في قوله : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : إلى مولدك بمكة.
حدثني الحسين بن علي الصدائي ، قال : ثنا أبي ، عن الفضيل بن مرزوق ، عن مجاهد أبي الحجاج ، في قوله : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) قال : إلى مولده بمكة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني عيسى بن يونس ، عن أبيه ، عن مجاهد قال : إلى مولدك بمكة.
والصواب من القول في ذلك عندي : قول من قال : لرادّك إلى عادتك من الموت ، أو إلى عادتك حيث ولدت ، وذلك أن المعاد في هذا الموضع : المفعل من العادة ، ليس من العود ، إلا أن يوجه موجه تأويل قوله : ( لَرَادُّكَ ) لمصيرك ، فيتوجه حينئذ قوله : ( إِلَى مَعَادٍ ) إلى معنى العود ، ويكون تأويله : إن الذي فرض عليك القرآن لمصيرك إلى أن تعود إلى مكة مفتوحة لك.
فإن قال قائل : فهذه الوجوه التي وصفت في ذلك قد فهمناها ، فما وجه تأويل من تأوّله بمعنى : لرادك إلى الجنة ؟ قيل : ينبغي أن يكون وجه تأويله ذلك كذلك على

(19/641)


وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)

هذا الوجه الآخر ، وهو لمصيرك إلى أن تعود إلى الجنة.
فإن قال قائل : أو كان أُخرج من الجنة ، فيقال له : نحن نعيدك إليها ؟ قيل : لذلك وجهان : أحدهما : أنه إن كان أبوه آدم صلى الله عليهما أخرج منها ، فكأن ولده بإخراج الله إياه منها ، قد أخرجوا منها ، فمن دخلها فكأنما يرد إليها بعد الخروج. والثاني أن يقال : إنه كان صلى الله عليه وسلم دخلها ليلة أُسرِي به ، كما رُوي عنه أنه قال : " دَخَلْتُ الجَنَّةَ ، فرأيْتُ فِيها قَصْرًا ، فَقُلْتُ : لِمَنْ هَذَا ؟ فقالوا : لِعُمَرَ بنِ الخطَّابِ " ، ونحو ذلك من الأخبار التي رويت عنه بذلك ، ثم رد إلى الأرض ، فيقال له : إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك لمصيرك إلى الموضع الذي خرجت منه من الجنة ، إلى أن تعود إليه ، فذلك إن شاء الله قول من قال ذلك.
وقوله : ( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : ربي أعلم من جاء بالهُدى الذي مَنْ سلكه نجا ، ومن هو في جَوْر عن قصد السبيل منا ومنكم. وقوله : ( مُبِين ) ؛ يعني أنه يبين للمفكر الفَهم إذا تأمَّله وتدبَّره ، أنه ضلال وجور عن الهدى.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) }
يقول تعالى ذكره : وما كنت ترجو يا محمد أن ينزل عليك هذا القرآن ، فتعلم الأنباء والأخبار عن الماضين قبلك ، والحادثة بعدك ، مما لم يكن بعد ، مما لم تشهده ولا تشهده ، ثم تتلو ذلك على قومك من قريش ، إلا أن ربك رحمك ، فأنزله عليك ، فقوله : ( إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) استثناء منقطع.
وقوله : ( فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ) يقول : فاحمد ربك على ما أنعم به عليك من رحمته إياك ، بإنزاله عليك هذا الكتاب ، ولا تكوننّ عونا لمن كفر بربك على كفره به. وقيل : إن ذلك من المؤخَّر الذي معناه التقديم ، وإن معنى اللام : إن الذي فرض عليك القرآن ، فأنزله عليك ، وما كنت ترجو أن ينزل عليك ، فتكون نبيا قبل ذلك ، لرادّك إلى معاد.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ

(19/642)


وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) }
يقول تعالى ذكره : ولا يصرفنَّك عن تبليغ آيات الله وحججه بعد أن أنزلها إليك ربك يا محمد هؤلاء المشركون بقولهم : ( لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ) وادع إلى ربك وبلغ رسالته إلى من أرسلك إليه بها( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يقول : ولا تتركنّ الدعاء إلى ربك ، وتبليغ المشركين رسالته ، فتكون ممن فعل فِعل المشركين بمعصيته ربه ، وخلافه أمره.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) }
يقول تعالى ذكره : ولا تعبد يا محمد مع معبودك الذي له عبادة كلّ شيء معبودا آخر سواه. وقوله : ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) يقول : لا معبود تصلح له العبادة إلا الله الذي كلّ شيء هالك إلا وجهه.
واختلف في معنى قوله : ( إِلا وَجْهَهُ ) فقال بعضهم : معناه : كلّ شيء هالك إلا هو.
وقال آخرون : معنى ذلك : إلا ما أريد به وجهه ، واستشهدوا لتأويلهم ذلك كذلك بقول الشاعر :
أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيهُ... رَبُّ العِبادِ إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ (1)
وقوله : ( لَهُ الْحُكْمُ ) يقول : له الحكم بين خلقه دون غيره ، ليس لأحد غيره معه فيهم حكم( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يقول : وإليه تردون من بعد مماتكم ، فيقضي بينكم بالعدل ، فيجازي مؤمنيكم جزاءهم ، وكفاركم ما وعدهم.
تفسير سورة العنكبوت
__________
(1) البيت من الأبيات الخمسين التي استشهد بها سيبويه ولا يعرف قائلها. وهو شاهد عند النحاة على أن أصله " أستغفر الله من ذنب " ثم أسقط الجار ، فاتصل المجرور بالفعل ، فنصب مفعولا به. واستشهد به المؤلف هنا تبعا للفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة ، الورقة 244) قال : (كل شيء هالك إلا وجهه) إلا هو. وقال الشعر : " أستغفر الله... " البيت أي أوجه عملي.

(19/643)


الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ }
قال أبو جعفر : وقد بيَّنا معنى قول الله تعالى ذكره : (الم) وذكرنا أقوال أهل التأويل في تأويله ، والذي هو أولى بالصواب من أقوالهم عندنا بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) فإن معناه : أظنَّ الذين خرجوا يا محمد من أصحابك من أذى المشركين إياهم أن نتركهم بغير اختبار ولا ابتلاء امتحان ، بأن قالوا : آمنا بك يا محمد فصدّقناك فيما جئتنا به من عند الله ، كلا لنختبرهم ، ليتبين الصادق منهم من الكاذب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) قال : يُبْتَلُونَ في أنفسهم وأموالهم.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي : لا يبتلون.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد ، في قوله : (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) قال : لا يُبْتَلونَ.
فإن الأولى منصوبة بحسب ، والثانية منصوبة في قول بعض أهل العربية بتعلق

(19/7)


وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)

يتركوا بها وأن معنى الكلام على قوله : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ) لأن يقولوا آمنا ؛ فلما حذفت اللام الخافضة من لأن نصبت على ما ذكرت. وأما على قول غيره فهي في موضع خفض بإضمار الخافض ، ولا تكاد العرب تقول تركت فلانا أن يذهب ، فتدخل أن في الكلام ، وإنما تقول تركته يذهب ، وإنما أدخلت أن هاهنا لاكتفاء الكلام بقوله : (أنْ يُتْرَكُوا) إذ كان معناه : أحسب الناس أن يتركوا وهم لا يفتنون من أجل أن يقولوا آمنا ، فكان قوله : (أنْ يُتْرَكُوا) مكتفية بوقوعها على الناس ، دون أخبارهم. وإن جعلت " أن " في قوله : (أنْ يَقُولُوا) منصوبة بنية تكرير أحسب ، كان جائزا ، فيكون معنى الكلام : أحسب الناس أن يتركوا أحسبوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) }
يقول تعالى ذكره : ولقد اختبرنا الذين من قبلهم من الأمم ، ممن أرسلنا إليهم رسلنا ، فقالوا مثل ما قالته أمتك يا محمد بأعدائهم ، وتمكيننا إياهم من أذاهم ، كموسى إذا أرسلناه إلى بني إسرائيل ، فابتليناهم بفرعون وملئهم ، وكعيسى إذ أرسلناه إلى بني إسرائيل ، فابتلينا من اتبعه بمن تولى عنه ، فكذلك ابتلينا أتباعك بمخالفيك من أعدائك( فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ) منهم في قيلهم آمنا( وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) منهم في قيلهم ذلك ، والله عالم بذلك منهم قبل الاختبار ، وفي حال الاختبار ، وبعد الاختبار ، ولكن معنى ذلك : ولَيُظْهِرَنَّ الله صدق الصادق منهم في قيله آمنا بالله من كذب الكاذب منهم بابتلائه إياه بعدوّه ، ليعلم صدقه من كذبه أولياؤه ، على نحو ما قد بيَّناه فيما مضى قبلُ.
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين عذّبهم المشركون ، ففتن بعضهم ، وصبر بعضهم على أذاهم حتى أتاهم الله بفرج من عنده.
* ذكر الرواية بذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول : نزلت ، يعني هذه الآية( الم أَحَسِبَ

(19/8)


أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)

النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا ...) إلى قوله : ( وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) في عمَّار بن ياسر ، إذ كان يعذّب في الله.
وقال آخرون : بل نزل ذلك من أجل قوم كانوا قد أظهروا الإسلام بمكة ، وتخلفوا عن الهجرة ، والفتنة التي فتن بها هؤلاء القوم على مقالة هؤلاء ، هي الهجرة التي امتحنوا بها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن مطر ، عن الشعبيِّ ، قال : إنها نزلت ، يعني( الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ) الآيتين في أناس كانوا بمكة أقرّوا بالإسلام ، فكتب إليهم أصحاب محمد نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة : إنه لا يقبل منكم إقرارًا بالإسلام حتى تهاجروا ، فخرجوا عامدين إلى المدينة ، فاتبعهم المشركون ، فردّوهم ، فنزلت فيهم هذه الآية ، فكتبوا إليهم : إنه قد نزلت فيكم آية كذا وكذا ، فقالوا : نخرج ، فإن اتبعنا أحد قاتلناه ، قال : فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ثَمَّ ، فمنهم من قتل ، ومنهم من نجا ، فأنزله الله فيهم( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا) قال : ابتلينا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) قال : ابتلينا الذين من قبلهم.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد ، مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله :
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) }

(19/9)


مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)

يقول تعالى ذكره : أم حَسِبَ الذين يشركون بالله فيعبدون معه غيره ، وهم المعنيون بقوله : ( الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا ) يقول : أن يعجزونا فيفوتونا بأنفسهم ، فلا نقدر عليهم فننتقم منهم لشركهم بالله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ) أي : الشرك أن يسبقونا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(أنْ يَسْبقُونا) أن يعجزونا.
وقوله : ( سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) يقول تعالى ذكره : ساء حكمهم الذي يحكمون بأن هؤلاء الذين يعملون السيئات يسبقوننا بأنفسهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) }
يقول تعالى ذكره : من كان يرجو الله يوم لقائه ، ويطمع في ثوابه ، فإن أجل الله الذي أجله لبعث خلقه للجزاء والعقاب لآت قريبا ، (وهو السميع) يقول : والله الذي يرجو هذا الراجي بلقائه ثوابه ، السميع لقوله : آمنا بالله ، العليم بصدق قيله ، إنه قد آمن من كذبه فيه ، وقوله : ( وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ) يقول : ومن يجاهد عدوَّه من المشركين فإنما يجاهد لنفسه ؛ لأنه يفعل ذلك ابتغاء الثواب من الله على جهاده ، والهرب من العقاب ، فليس بالله إلى فعله ذلك حاجة ، وذلك أن الله غنيّ عن جميع خلقه ، له الملك والخلق والأمر.

(19/10)


وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) }
يقول تعالى ذكره : والذين آمنوا بالله ورسوله ، فصحّ إيمانهم عند ابتلاء الله إياهم

(20/10)


وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

وفتنته لهم ، ولم يرتدّوا عن أديانهم بأذى المشركين إياهم( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) التي سلفت منهم في شركهم( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يقول : ولنثيبنهم على صالحات أعمالهم في إسلامهم ، أحسن ما كانوا يعملون في حال شركهم مع تكفيرنا سيئات أعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) }
يقول تعالى ذكره : ( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ ) فيما أنزلنا إلى رسولنا(بِوَالِدَيْهِ) أن يفعل بهما(حُسْنا).
واختلف أهل العربية في وجه نصب الحسن ، فقال بعض نحويِّي البصرة : نُصب ذلك على نية تكرير وصيّنا. وكأن معنى الكلام عنده : ووصينا الإنسان بوالديه ، ووصيناه حسنا. وقال : قد يقول الرجل وصيته خيرا : أي بخير.
وقال بعض نحويي الكوفة : معنى ذلك : ووصينا الإنسان أن يفعل حُسنا ، ولكن العرب تسقط من الكلام بعضه إذا كان فيما بقي الدلالة على ما سقط ، وتعمل ما بقي فيما كان يعمل فيه المحذوف ، فنصب قوله : (حُسْنا) وإن كان المعنى ما وصفت وصينا ؛ لأنه قد ناب عن الساقط ، وأنشد في ذلك :
عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إذْ تَشْكُونا... وَمِن أبي دَهْماءَ إذْ يُوصِينا
خَيْرًا بها كأنَّنا جافُونا (1)
وقال : معنى قوله : يوصينا خيرا : أن نفعل بها خيرا ، فاكتفى بيوصينا منه ، وقال : ذلك نحو قوله : (فَطَفِق مَسْحا) أي يمسح مسحا.
وقوله : ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ) يقول : (ووصينا الإنسان) ، فقلنا له : إن جاهداك والداك لتشرك بي ما ليس لك به علم أنه ليس
__________
(1) هذه أبيات ثلاثة من مشطور السريع ، وهي من شواهد الفراء في معاني القرآن (ص 178) قال : والعرب تقول : أوصيك به خيرًا ، وآمرك به خيرًا ، وكأن معناه : آمرك أن تفعل به ، ثم تحذف أن ، فتوصل الخير بالوصية ، وبالأمر ، قال الشاعر : " عجبت ... " الأبيات.

(20/11)


وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)

لي شريك ، فلا تطعهما فتشرك بي ما ليس لك به علم ابتغاء مرضاتهما ، ولكن خالفهما في ذلك(إليّ مرجعكم) يقول تعالى ذكره : إليّ معادكم ومصيركم يوم القيامة( فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول : فأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال وسيئاتها ، ثم أجازيكم عليها المحسن بالإحسان ، والمسيء بما هو أهله.
وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب سعد بن أبي وقاص.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ...) إلى قوله : ( فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال : نزلت في سعد بن أبي وَقَّاص لما هاجر ، قالت أمه : والله لا يُظِلُّني بيت حتى يرجع ، فأنزل الله في ذلك أن يحْسِن إليهما ، ولا يطيعَهما في الشرك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) }
يقول تعالى ذكره : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) بالله ورسوله( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) من الأعمال ، وذلك أن يُؤَدُّوا فرائض الله ، ويجتنبوا محَارمه( لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) في مَدْخل الصالحين ، وذلك الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) }
يقول تعالى ذكره : ومن الناس من يقول : أقررنا بالله فوحَّدناه ، فإذَا آذاه المشركون في إقراره بالله ، جعل فتنة الناس إياه في الدنيا ، كعذاب الله في الآخرة ، فارتدّ عن إيمانه بالله ، راجعا على الكفر به( وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ) يا محمد أهل الإيمان به(لَيَقُولُنَّ) هؤلاء المرتدّون عن إيمانهم ، الجاعلون فتنة الناس كعذاب الله(إنَّا كُنَّا) أيها المؤمنون(مَعَكُمْ) ننصركم على أعدائكم ، كذبا وإفكا ، يقول الله : ( أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ ) أيها القوم من كلّ أحد( بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ) جميع خلقه ، القائلين آمنا بالله

(20/12)


وغَيرِهم ، فإذا أُوذِي في الله ارتد عن دين الله فكيف يخادع من كان لا يخفى عليه خافية ، ولا يستتر عنه سرا ولا علانية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ) قال : فتنته أن يرتدّ عن دين الله إذا أوذي في الله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ...) إلى قوله : ( وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ) قال : أناس يؤمنون بألسنتهم ، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا ، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة.
حُدِّثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : قوله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ ...) الآية ، نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون ، فإذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين ، رجعوا إلى الكفر مخافة من يؤذيهم ، وجعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ) قال : هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر ، وجعل فتنة الناس كعذاب الله.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الإيمان كانوا بمكة ، فخرجوا مهاجرين ، فأدركوا وأُخذوا فأعطوا المشركين لما نالهم أذاهم ما أرادوا منهم.
* ذكر الخبر بذلك :
حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، قال : ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : ثنا محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بإسلامهم ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم وقتل بعض ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا ،

(20/13)


وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)

فاستغفروا لهم ، فنزلت( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ...) إلى آخر الآية ، قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية أن لا عذر لهم ، فخرجوا. فلحقهم المشركون ، فأعطوهم الفتنة ، فنزلت فيهم هذه الآية( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ...) إلى آخر الآية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فخرجوا وأيسوا من كلّ خير ، ثم نزلت فيهم( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فكتبوا إليهم بذلك : إن الله قد جعل لكم مخرجا ، فخرجوا ، فأدركهم المشركون ، فقاتلوهم ، حتى نجا من نجا ، وقُتل من قُتل.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ ...) إلى قوله : ( وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ) قال : هذه الآيات أنزلت فِي القوم الذين ردّهم المشركون إلى مكة ، وهذه الآيات العشر مدنية إلى ههنا وسائرها مكي.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) }
يقول تعالى ذكره : وليعلمنّ الله أولياء الله ، وحزبه أهل الإيمان بالله منكم أيها القوم ، وليعلمنّ المنافقين منكم حتى يميزوا كلّ فريق منكم من الفريق الآخر ، بإظهار الله ذلك منكم بالمحن والابتلاء والاختبار وبمسارعة المسارع منكم إلى الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام ، وتثاقل المتثاقل منكم عنها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) }
يقول تعالى ذكره : وقال الذين كفروا بالله من قريش للذين آمنوا بالله منهم(اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) يقول : قالوا : كونوا على مثل ما نحن عليه من التكذيب بالبعث بعد الممات وجحود الثواب والعقاب على الأعمال(وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) يقول : قالوا فإنكم إن اتبعتم سبيلنا في ذلك ، فبعثتم من بعد الممات ، وجوزيتم على الأعمال ، فإنا

(20/14)


نتحمل آثام خطاياكم حينئذ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ) قال : قول كفار قريش بمكة لمن آمن منهم ، يقول : قالوا : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فاتبعونا إن كان عليكم شيء فهو علينا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) هم القادة من الكفار ، قالوا لمن آمن من الأتباع : اتركوا دين محمد واتبعوا ديننا ، وهذا أعني قوله : ( اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ) وإن كان خرج مخرج الأمر ، فإن فيه تأويل الجزاء ، ومعناه ما قلت : إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم ، كما قال الشاعر :
فَقُلْت ادْعِي وأدْع فإنَّ أنْدَى... لِصَوْتٍ أنْ يُنادِيَ دَاعيانِ (1)
يريد : ادعي ولأدع ، ومعناه : إن دعوت دعوت.
وقوله : ( وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) وهذا تكذيب من الله للمشركين القاتلين للذين آمنوا( اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ) يقول جلّ
__________
(1) البيت لدثار بن شيبان النمري (اللسان : ندى) قال : وفلان أندى صوتًا من فلان : أي أبعد مذهبًا ، وأرفع صوتًا. وأنشد الأصمعي لدثار بن شيبان النمري : تقول خليلتي لما اشتكينا ... سيدركنا بنو القرم الهجان
فقلت ادعي وأدع فإن أندى ... لصوت أن ينادي داعيان
وفي فرائد القلائد ، وهي شرح الشواهد الصغير للعيني في باب إعراب الفعل ، قاله الأعشى أو الحطيئة ، فيما زعم ابن يعيش ، أو ربيعة ، حشم فيما زعم الزمخشري أو دثار بن شيبان النمري ، فيما زعم ابن بري. والشاهد في " ادعوا " حيث نصب الواو فيه بتقدير " أن " بعد واو الجمع ، أي وأن أدعو. ويروى " وادع " على الأمر ، بحذف اللام ، إذ أصله : ولأدع. اهـ. وهذا التوجيه الثاني هو توجيه الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة رقم 14059 ص 244) قال : وقوله (اتبعوا سبيلنا ولنحمل) : هو أمر فيه تأويل جزاء ، كما أن قوله (ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم) نهى فيه تأويل الجزاء ، وهو كثير في كلام العرب. قال الشاعر : " فقلت ادعي وأدع " ... البيت. أراد ادعي ولأدع ، فإن أندى ، فكأنه قال : إن دعوت دعوت. اهـ. وقد نقله المؤلف بحذافيره.

(20/15)


وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)

ثناؤه : وكذبوا في قيلهم ذلك لهم ، ما هم بحاملين من آثام خطاياهم من شيء ، إنهم لكاذبون فيما قالوا لهم ووعدوهم ، من حمل خطاياهم إن هم اتبعوهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) }
يقول تعالى ذكره : وليحملنّ هؤلاء المشركون بالله القائلون للذين آمنوا به اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم أوزار أنفسهم وآثامها ، وأوزار من أضلوا وصدّوا عن سبيل الله مع أوزارهم ، وليسألن يوم القيامة عما كانوا يكذّبونهم في الدنيا بوعدهم إياهم الأباطيل ، وقيلهم لهم : اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم فيفترون الكذب بذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ ) أي أوزارهم( وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ) يقول : أوزار من أضلوا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ) . وقرأ قوله : ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) قال : فهذا قوله : ( وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) }
وهذا وعيد من الله تعالى ذكره هؤلاء المشركين من قريش ، القائلين للذين آمنوا : اتبعوا سبيلَنا ، ولنحمل خطاياكم ، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا يحزننك يا محمد ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى ، فإني وإن أمليت لهم فأطلت إملاءهم ، فإن مصير أمرهم إلى البوار ، ومصير أمرك وأمر أصحابك إلى العلوّ والظفر بهم ، والنجاة مما يحلّ بهم من العقاب ، كفعلنا ذلك بنوح ، إذ أرسلناه إلى قومه ، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد ، وفراق الآلهة والأوثان ، فلم يزدهم ذلك من دعائه إياهم إلى الله من الإقبال إليه ، وقبول ما أتاهم به من النصيحة من عند الله إلا فرارا.

(20/16)


وذُكر أنه أُرسل إلى قومه وهو ابن ثلاث مئة وخمسين سنة.
كما حدثنا نصر بن عليّ الْجَهْضَمِيّ ، قال : ثنا نوح بن قيس ، قال : ثنا عون بن أبي شداد ، قال : إن الله أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاث مئة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مئة سنة ، فأخذهم الطوفان ، يقول تعالى ذكره : فأهلكهم الماء الكثير ، وكلّ ماء كثير فاش طامٌّ ؛ فهو عند العرب طوفان ، سيلا كان أو غيره ، وكذلك الموت إذا كان فاشيا كثيرا ، فهو أيضا عندهم طوفان ؛ ومنه قول الراجز :
أَفْنَاهُْم طُوفان مَوْتٍ جارِفِ (1)
وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ ) قال : هو الماء الذي أرسل عليهم.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : الطوفان : الغرق.
وقوله : (وَهُمْ ظالِمُونَ) يقول : وهم ظالمون أنفسهم بكفرهم.
__________
(1) هذا بيت من مشطور الرجز ، وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 184 - أ) قال : الطوفان : مجازه كل ماء طام فاش ، من سبيل كان أم من غيره وهو كذلك من الموت إذا كان جارفًا فاشيًا كثيرًا. قال : " أفناهم الطوفان ... " البيت. ونقله المؤلف بحروفه. وفي (اللسان : طوف) : والطوفان الماء الذي يغشى كل مكان. وقيل : الطوفان من كل شيء : ما كان كثيرًا محيطًا مطيفًا بالجماعة كلها ، كالغرق الذي يشتمل على المدن الكثيرة ؛ والقتل الذريع والموت الجارف ، يقال له : طوفان. وبذك كله فسر قوله تعالى : (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون)

(20/17)


فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) }
يقول تعالى ذكره : فأنجينا نوحا وأصحاب سفينته ، وهم الذين حملهم في سفينته من ولده وأزواجهم.

(20/17)


وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)

وقد بيَّنا ذلك فيما مضى قبل ، وذكرنا الروايات فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
( وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) يقول : وجعلنا السفينة التي أنجيناه وأصحابه فيها عبرة وعظة للعالمين ، وحجة عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ ...) الآية. قال : أبقاها الله آية للناس بأعلى الجوديّ.
ولو قيل : معنى( وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) وجعلنا عقوبتنا إياهم آية للعالمين ، وجعل الهاء والألف في قوله : (وَجَعَلْناها) كناية عن العقوبة أو السخط ، ونحو ذلك ، إذ كان قد تقدم ذلك في قوله : ( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) كان وجها من التأويل.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر أيضا يا محمد إبراهيم خليل الرحمن ، إذ قال لقومه : اعبدوا الله أيها القوم دون غيره من الأوثان والأصنام ، فإنه لا إله لكم غيره ، (واتقوه) يقول : واتقوا سخطه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ما هو خير لكم مما هو شرّ لكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل خليله إبراهيم لقومه : إنما تعبدون أيها القوم من دون الله أوثانا ، يعني مُثُلا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا ) أصناما.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) فقال بعضهم : معناه :

(20/18)


وتصنعون كذبا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) يقول : تصنعون كذبا.
وقال آخرون : وتقولون كذبا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس( وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) يقول : وتقولون إفكا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) يقول : تقولون كذبا.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وتنحِتون إفكا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس قوله : ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) قال : تنحِتون تصوّرون إفكا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) أي : تصنعون أصنامًا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) الأوثان التي ينحتونها بأيديهم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : وتصنعون كذبًا. وقد بيَّنا معنى الخلق فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. فتأويل الكلام إذن : إنما تعبدون من دون الله أوثانا ، وتصنعون كذبا وباطلا. وإنما في قوله : (1) (إفْكًا) مردود على إنما ، كقول القائل : إنما تفعلون كذا ، وإنما تفعلون كذا. وقرأ جميع قرّاء الأمصار : ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ) بتخفيف الخاء من قوله : (وَتَخْلُقُونَ) وَضَمَّ اللام : من الخَلْق. وذُكر عن أبي عبد الرحمن السُلميّ أنه قرأ( وَتَخَلِّقُونَ إِفْكًا ) بفتح الخاء وتشديد اللام ، من التخليق.
__________
(1) لعل مراده : وإنما المقدرة في قوله إفكًا : مردود .. إلخ ، والمقصود منه واضح.

(20/19)


وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا ) يقول جلّ ثناؤه : إن أوثانكم التي تعبدونها ، لا تقدر أن ترزقكم شيئا( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ ) يقول : فالتمسوا عند الله الرزق لا من عند أوثانكم ، تدركوا ما تبتغون من ذلك(وَاعْبُدُوهُ) يقول : وذلوا له(وَاشْكُرُوا لهُ) على رزقه إياكم ، ونعمه التي أنعمها عليكم ، يقال : شكرته وشكرتُ له ، أفصح من شكرته. وقوله : (إلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يقول : إلى الله تُرَدّون من بعد مماتكم ، فيسألكم عما أنتم عليه من عبادتكم غيره وأنتم عباده وخلقه ، وفي نعمه تتقلَّبون ، ورزقه تأكلون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) }
يقول تعالى ذكره : وإن تكذِّبوا أيها الناس رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما دعاكم إليه من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم ، والبراءة من الأوثان ، فقد كَذَّبت جماعات من قبلكم رسلَها فيما دعتهم إليه الرسل من الحقّ ، فحلّ بها من الله سخطه ، ونزل بها من عاجل عقوبته ، فسبيلكم سبيلها فيما هو نازل بكم بتكذيبكم إياه( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) يقول : وما على محمد إلا أن يبلِّغكم عن الله رسالته ، ويؤدي إليكم ما أَمَره بأدائه إليكم ربُّه. ويعني بالبلاغ المبين : الذي يُبِين لمن سمعه ما يراد به ، ويفهم به ما يعني به.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) }
يقول تعالى ذكره : أولم يروا كيف يستأنف الله خلق الأشياء طفلا صغيرا ، ثم غلاما يافعا ، ثم رجلا مجتمعا ، ثم كهلا يقال منه : أبدأ وأعاد وبدأ وعاد ، لغتان بمعنى واحد. وقوله : (ثُمَّ يُعِيدُه) يقول : ثم هو يعيده من بعد فنائه وبلاه ، كما بدأه أوّل مرّة

(20/20)


يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)

خلقا جديدا ، لا يتعذّر عليه ذلك( إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) سهل كما كان يسيرًا عليه إبداؤه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، في قوله : ( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) : بالبعث بعد الموت.
وقوله : ( قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ) يقول تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للمنكرين للبعث بعد الممات ، الجاحدين الثواب والعقاب : ( سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ ) الله الأشياء وكيف أنشأها وأحدثها ؛ وكما أوجدها وأحدثها ابتداء ، فلم يتعذّر عليه إحداثها مُبدئا ، فكذلك لا يتعذّر عليه إنشاؤها معيدا( ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ ) يقول : ثم الله يبدئ تلك البدأة الآخرة بعد الفناء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ) خلق السموات والأرض( ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ ) : أى البعث بعد الموت.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ ) قال : هي الحياة بعد الموت ، وهو النشور.
وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يقول تعالى ذكره : إن الله على إنشاء جميع خلقه بعد إفنائه كهيئته قبل فنائه ، وعلى غير ذلك مما يشاء فعله قادر لا يعجزه شيء أراده.
القول في تأويل قوله تعالى : { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) }

(20/21)


يقول تعالى ذكره : ( ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ ) خلقه من بعد فنائهم ، فـ( يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) منهم على ما أسلف من جرمه في أيام حياته ، ( وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ ) منهم ممن تاب وآمن وعمل صالحا(وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) يقول : وإليه ترجعون وتردّون.
وأما قوله : ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ) فإن ابن زيد قال في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ) قال : لا يُعجزه أهل الأرضين في الأرضين ، ولا أهل السموات في السموات إن عصوه ، وقرأ( مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ).
وقال في ذلك بعض أهل العربية من أهل البصرة : ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا ) من(فِي السَّمَاءِ) مُعْجِزِينَ قال : وهو من غامض العربية للضمير الذي لم يظهر في الثاني ، قال : ومثله قول حسان بن ثابت :
أمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُه سَواءُ? (1)
أراد : ومن ينصره ويمدحه ، فأضمر " مَنْ " . قال : وقد يقع في وهم السامع أن النصر والمدح لمنْ هذه الظاهرة ، ومثله في الكلام : أكرمْ من أتاك وأتى أباك ، وأكرم من أتاك ولم يأت زيدا. تريد : ومن لم يأت زيدا ، فيكتفي باختلاف الأفعال من إعادة(مَنْ) ، كأنه قال : أمَن يهجو ، ومن يمدحه ، ومن ينصره. ومنه قول الله عزّ وجلّ :
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت وقد تقدم الاستشهاد به ، وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 244 من مصورة الجامعة) قال : وقوله : (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء) يقول القائل : وكيف وصفهم أنهم لا يعجزون في الأرض ولا في السماء ، وليسوا من أهل السماء ؟ فالمعنى ، والله أعلم ، ما أنتم بمعجزين في الأرض ، ولا من السماء بمعجز. وهو من غامض العربية ، للضمير الذي لم يظهر في الثاني. ومثله قول حسان : " فمن يهجو ... " البيت. أراد : ومن ينصره ويمدحه ، فأضمر " من " ، وقد يقع في وهم السامع أن المدح والنصر لمن هذه الظاهرة. ومثله في الكلام : أكرم من أتاك وأتى أباك ، وأكرم من أتاك ولم يأت زيدًا ؛ تريد : ومن لم يأت زيدًا. اهـ.

(20/22)


وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)

( وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ) وهذا القول أصحّ عندي في المعنى من القول الآخر ، ولو قال قائل : معناه : ولا أَنتم بمعجزين في الأرض ، ولا أنتم لو كنتم في السماء بمعجزين كان مذهبا.
وقوله : ( وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) يقول : وما كان لكم أيها الناس من دون الله من وليّ يلي أموركم ، ولا نصير ينصركم منه الله إن أراد بكم سوءا ولا يمنعكم منه إن أحل بكم عقوبته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) }
يقول تعالى ذكره : والذين كفروا حُجَجَ الله ، وأنكروا أدلته ، وجحدوا لقاءه والورود عليه ، يوم تقوم الساعة : ( أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ) يقول تعالى ذكره : أولئك يئسوا من رحمتي في الآخرة لما عاينوا ما أعدّ لهم من العذاب ، وأولئك لهم عذاب مُوجِع.
فإن قال قائل : وكيف اعْترض بهذه الآيات من قوله : ( وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ...) إلى قوله : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) وترك ضمير قوله : ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ) وهو من قصة إبراهيم. وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ...) إلى قوله : ( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .
قيل : فعل ذلك كذلك ، لأن الخبر عن أمر نوح وإبراهيم وقومهما ، وسائر مَنْ ذَكَر الله من الرسل والأمم في هذه السورة وغيرها ، إنما هو تذكير من الله تعالى ذكره به الَّذِينَ يبتدئ بذكرهم قبل الاعتراض بالخبر ، وتحذير منه لهم أن يحلّ بهم ما حلّ بهم ، فكأنه قيل في هذا الموضع : فاعبدوه واشكروا له إليه ترجعون ، فكذّبتم أنتم معشر قريش رسولكم محمدا ، كما كذّب أولئك إبراهيم ، ثم جَعَل مكان : فكذّبتم : وإن تكذبوا فقد كَذَّب أمم من قبلكم ، إذ كان ذلك يدل على الخبر عن تكذيبهم رسولَهم ، ثم عاد إلى الخبر عن إبراهيم وقومه ، وتتميم قصته وقصتهم بقوله : ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ).

(20/23)


فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) }

(20/23)


وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)

يقول تعالى ذكره : فلم يكن جواب قوم إبراهيم له إذ قال لهم : ( اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) إلا أن قال بعضهم لبعض : ( اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ )بالنار ، ففعلوا ، فأرادوا إحراقه بالنار ، فأضرموا له النار ، فألقَوه فيها ، فأنجاه الله منها ، ولم يسلطها عليه ، بل جعلها عليه بَرْدا وسلاما.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( فَمَا كَانَ جَوَابَ ) قوم إبراهيم( إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ) قال : قال كعب : ما حرقت منه إلا وثاقه( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يقول تعالى ذكره : إن في إنجائنا لإبراهيم من النار ، وقد ألقي فيها وهي تَسَعر ، وتصييرها عليه بردا وسلاما ، لأدلة وحججا لقوم يصدّقون بالأدلة والحجج إذا عاينوا ورأوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل إبراهيم لقومه : (وَقَالَ) إبراهيم لقومه : يا قوم( إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا ) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) فقرأته عامة قرّاء المدينة والشأم وبعض الكوفيين : (مَوَدَّةً) بنصب " مودة " بغير إضافة(بَيْنَكُمْ) بنصبها. وقرأ ذلك بعض الكوفيين : (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) بنصب " المودّة " وإضافتها إلى قوله : (بَيْنِكُمْ) ، وخفض(بَيْنِكُمْ). وكأن هؤلاء الذين قرءوا قوله : (مَوَدَّةَ) نصبا ، وجَّهوا معنى الكلام إلى : (إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ) أيها القوم(أَوْثَانًا مَّوَدَّةً بَيْنَكُمْ) ، فجعلوا إنما حرفا واحدا ، وأوقعوا قوله : (اتخَذْتُمْ) على الأوثان ، فنصبوها بمعنى : اتخذتموها مودّة بينكم في الحياة الدنيا ، تتحابُّون على عبادتها ، وتتوادّون على خدمتها ، فتتواصلون عليها ، وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة والبصرة : (مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ) برفع المودة وإضافتها إلى البَيْنِ ، وخفض البين ، وكأن الذين قرءوا ذلك كذلك ، جعلوا " إنَّ مَا " حرفين ، بتأويل : إن الذين اتخذتم من دون الله أوثانا إنما هو مودّتكم للدنيا ، فرفعوا " مَوَدَّةُ " على خبر إن. وقد يجوز أن يكونوا على قراءتهم ذلك رفعا بقوله : " إنما " أن تكون حرفا واحدا ، ويكون

(20/24)


فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)

الخبر متناهيا عند قوله : ( إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا ) ثم يبتدئُ الخبر فيقال : ما مودتكم تلك الأوثان بنافعتكم ، إنما مودّة بينكم في حياتكم الدنيا ، ثم هي منقطعة ، وإذا أريد هذا المعنى كانت المودّة مرفوعة بالصفة بقوله : ( فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) وقد يجوز أن يكونوا أرادوا برفع المودّة ، رفعها على ضمير هي.
وهذه القراءات الثلاث متقاربات المعاني ، لأن الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها ، اتخذوها مودة بينهم ، وكانت لهم في الحياة الدنيا مودة ، ثم هي عنهم منقطعة ، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب ، لتقارب معاني ذلك ، وشهرة القراءة بكلّ واحدة منهنّ في قرّاء الأمصار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) قال : صارت كل خُلَّة في الدنيا عداوة على أهلها يوم القيامة إلا خُلَّة المتقين.
وقوله : ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) يقول تعالى ذكره : ثم يوم القيامة أيها المتوادّون على عبادة الأوثان والأصنام ، والمتواصلون على خدماتها عند ورودكم على ربكم ، ومعاينتكم ما أعدّ الله لكم على التواصل ، والتوادّ في الدنيا من أليم العذاب ، ( يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ) يقول : يتبرأ بعضكم من بعض ، ويلعن بعضُكم بعضا.
وقوله : ( وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ ) يقول جلّ ثناؤه : ومصير جميعكم أيها العابدون الأوثان وما تعبدون ، النار( وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ) يقول : وما لكم أيها القوم المتخذو الآلهة ، من دون الله( مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ ) من أنصار ينصرونكم من الله حين يصليكم نار جهنم ، فينقذونكم من عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) }
يقول تعالى ذكره : فصدّق إبراهيم خليل الله لوط( وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي )

(20/25)


يقول : وقال إبراهيم : إني مهاجر دار قومي إلى ربي إلى الشام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) قال : صدق لوط( وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ) قال : هو إبراهيم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) أي فصدّقه لوط( وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ) قال : هاجَرا جميعا من كوثى ، وهي من سواد الكوفة إلى الشام. قال : وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " إنها سَتَكُون هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ يَنْحازُ أهْلُ الأرْضِ إلى مُهاجَر إبْراهِيمَ وَيَبْقَي فِي الأرْضِ شِرَارُ أهْلِها ، حتى تَلْفِظَهُمْ وَتَقْذرَهم ، وَتحْشُرَهُمُ النَّاُر مَعَ القِرَدَةِ والخَنازِيرِ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) قال : صدّقه لوط ، صدق إبراهيم ، قال : أرأيت المؤمنين ، أليس آمنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به ؟ قال : فالإيمان : التصديق. وفي قوله : ( إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ) قال : كانت هِجْرته إلى الشأم.
وقال ابن زيد في حديث الذئب الذي كلم الرجل ، فأخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فآمَنْتُ لَه أنا وأبُو بَكْرٍ وعُمَر " ، وليس أبو بكر ولا عمر معه يعني : آمنت له : صدّقته.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ) قال : إلى حَرَّان ، ثم أُمر بعد بالشأم الذي هاجر إبراهيم ، وهو أوّل من هاجَر يقول : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ ) إبْرَاهِيمُ(إنّي مُهاجِرٌ...) الآية.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ) إبراهيم القائل : ( إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ).
وقوله : ( إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) يقول : إن ربي هو العزيز الذي لا يذِلّ من

(20/26)


وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)

نَصَره ، ولكنه يمنعه ممن أراده بسوء ، وإليه هجرته ، الحكيم في تدبيره خلقه ، وتصريفه إياهم فيما صرفهم فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) }
يقول تعالى ذكره : ورزقناه من لدنا إسحاق ولدا ، ويعقوبَ من بعده وَلَدَ وَلَدٍ.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) قال : هما ولدا إبراهيم.
وقوله : ( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) بمعنى الجمع ، يراد به الكُتُب ، ولكنه خُرِّج مَخْرج قولهم : كثر الدرهم والدينار عند فلان.
وقوله : ( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ) يقول تعالى ذكره : وأعطيناه ثواب بلائه فينا في الدنيا(وَإنَّهُ) مع ذلك( فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) فله هناك أيضا جزاء الصالحين ، غير منتقص حَظُّه بما أعطى في الدنيا من الأجر على بلائه في الله عما له عنده في الآخرة.
وقيل : إن الأجر الذي ذكره الله عزّ وجلّ أنه آتاه إبراهيم في الدنيا هو الثناء الحسن ، والولد الصالح.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ) قال : الثناء.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ليث قال : أرسل مجاهد رجلا يقال له : قاسم ، إلى عكرِمة يسأله عن قوله : ( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) قال : قال : أجره في الدنيا ، أن كل ملة تتولاه ، وهو عند الله من الصالحين ، قال : فرجع إلى مجاهد ، فقال : أصاب.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن مندل ، عمن ذكره ، عن ابن عباس( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ) قال : الولد الصالح والثناء.

(20/27)


وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)

حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ) يقول : الذكر الحسن.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ) قال : عافية وعملا صالحا ، وثناء حسنا ، فلست بلاق أحدا من الملل إلا يرى إبراهيم ويتولاه( وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر لوطا إذ قال لقومه : (إِنَّكُمْ لَتَأتُونَ) الذُّكْرَانَ(مَا سَبَقَكُمْ بِهَا) يعني بالفاحشة التي كانوا يأتونها ، وهي إتيان الذكران(مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم ، قالا ثنا إسماعيل بن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار ، في قوله : ( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ) قال : ما نزا ذَكَرٌ على ذكَر حتى كان قوم لوط.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل لوط لقومه(أَئِنَّكُمْ) أيها القوم ، (لَتأْتُونَ الرّجالَ) في أدبارهم(وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) يقول : وتقطعون المسافرين عليكم بفعلكم الخبيث ، وذلك أنهم فيما ذُكر عَنْهم كانوا يفعلون ذلك بمن مرّ عليهم من المسافرين ، من ورد بلادهم من الغرباء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) قال : السبيل : الطريق. المسافر إذا مرّ بهم ، وهو ابن السبيل قَطَعوا به ، وعملوا

(20/28)


به ذلك العمل الخبيث.
وقوله : ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) اختلف أهل التأويل في المنكر الذي عناه الله ، الذي كان هؤلاء القوم يأتونه في ناديهم ، فقال بعضهم : كان ذلك أنهم كانوا يتضارطُون في مجالسهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، قال : ثنا محمد بن ربيعة ، قال : ثنا رَوْح بن عُطيفة الثقفيّ ، عن عمرو بن مصعب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، في قوله : ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) قال : الضراط.
وقال آخرون : بل كان ذلك أنهم كانوا يحذفون من مر بهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب وابن وكيع قالا ثنا أبو أسامة ، عن حاتم بن أبي صغيرة ، عن سماك بن حرب ، عن أبي صالح ، عن أمّ هانئ ، قالت : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قوله : ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) قالَ : " كانوا يَحْذِفُونَ أهْل الطَّرِيقِ وَيَسْخَرونَ مِنْهُمْ " فهو المنكر الذي كانوا يأتون.
حدثنا الربيع ، قال : ثنا أسد ، قال : ثنا أبو أُسامة ، بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله.
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : ثنا سليم بن أخضر ، قال : ثنا أبو يونس القُشَيري ، عن سِماك بن حرب ، عن أبي صالح مولى أمّ هانئ ، أن أمّ هانئ سُئلت عن هذه الآية( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) فقالت : سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " كانُوا يَحْذِفُون أهْلَ الطَّرِيقِ ، وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عمر بن أبي زائدة ، قال : سمعت عكرِمة يقول في قوله : ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) قال : كانوا يُؤذْون أهل الطريق يحذفون من مَرَّ بهم.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن عمر بن أبي زائدة ، قال : سمعت عكرِمة قال : الحذف.
حدثنا موسى ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( وَتَأْتُونَ فِي

(20/29)


نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) قال : كان كلّ من مرّ بهم حذفوه ، فهو المنكر.
حدثنا الربيع ، قال : ثنا أسد ، قال : ثنا سعيد بن زيد ، قال : ثنا حاتم بن أبي صغيرة ، قال : ثنا سماك بن حرب ، عن باذام ، عن أبي صالح مولى أمّ هانئ ، عن أمّ هانئ ، قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) قال : " كانُوا يَجْلِسُونَ بالطَّرِيقِ ، فَيَحْذِفُونَ أبْناءَ السَّبِيلِ ، وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ " .
وقال بعضهم : بل كان ذلك إتيانهم الفاحشة في مجالسهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : كان يأتي بعضهم بعضا في مجالسهم ، يعني قوله : ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ).
حدثنا سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا ثابت بن محمد الليثيّ ، قال : ثنا فضيل بن عياض ، عن منصور بن المعتمر ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) قال : كان يجامع بعضهم بعضا في المجالس.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) قال : كان يأتي بعضهم بعضا في المجالس.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : كانوا يجامعون الرجال في مجالسهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) قال : المجالس ، و(المنكَرَ) : إتيانهم الرجال.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) قال : كانوا يأتون الفاحشة في ناديهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) قال : ناديهم : المجالس ، و(المنكر) : عملهم الخبيث الذي كانوا يعملونه ، كانوا يعترضون بالراكب ، فيأخذونه ويركبونه. وقرأ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) ، وقرأ( مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ).

(20/30)


قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) يقول : في مجالسكم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : وتحذفون في مجالسكم المارّة بكم ، وتسخَرون منهم ؛ لما ذكرنا من الرواية بذلك عن رسول صلى الله عليه وسلم .
وقوله : ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) يقول تعالى ذكره : فلم يكن جواب قوم لُوط إذ نهاهم عما يكرهه الله من إتيان الفواحش التي حرمها الله إلا قيلهم : ( ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ ) الذي تعدنا ، (إن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما تقول ، والمنجزين لما تعد.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) }

(20/31)


وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى ) من الله بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب( قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ ) يقول : قالت رسل الله لإبراهيم : إنا مهلكو أهل هذه القرية ، قرية سَدُوم ، وهي قرية قوم لوط( إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ) يقول : إن أهلها كانوا ظالمي أنفسهم ؛ بمعصيتهم الله ، وتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى ...) إلى قوله : ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا ) قال : فجادل إبراهيم الملائكة في قوم لوط أن يتركوا ، قال : فقال أرأيتم إن كان فيها عشرة أبيات من المسلمين أتتركونهم ؟ فقالت الملائكة : ليس فيها عشرة أبيات ، ولا خمسة ، ولا أربعة ، ولا ثلاثة ، ولا اثنان ، قال : فحَزِن على لوط وأهل بيته ، فقال : ( إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) فذلك قوله : ( يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ) فقالت الملائكة : ( يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) فبعث الله إليهم جبرائيل صلى الله عليه وسلم ، فانتسف

(20/31)


قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)

المدينة وما فيها بأحد جناحيه ، فجعل عاليها سافلها ، وتتبعهم بالحجارة بكل أرض.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) }
يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم للرسل من الملائكة إذ قالوا له : ( إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ) فلم يستثنوا منهم أحدا ، إذ وصفوهم بالظلم : (إنَّ فِيهَا لُوطًا) ، وليس من الظالمين ، بل هو من رسل الله ، وأهل الإيمان به ، والطاعة له ، فقالت الرسل له : ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا ) من الظالمين الكافرين بالله منك ، وإن لوطا ليس منهم ، بل هو كما قلت من أولياء الله ، ( لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ ) من الهلاك الذي هو نازل بأهل قريته( إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) الذين أبقتهم الدهور والأيام ، وتطاولت أعمارهم وحياتهم ، وإنها هالكة من بين أهل لوط مع قومها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) }
يقول تعالى ذكره : ( وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا ) من الملائكة(سِيءَ بِهِمْ) يقول : ساءته الملائكة بمجيئهم إليه ، وذلك أنهم تَضَيفوه ، فساءوه بذلك ، فقوله : (سِيءَ بِهِمْ) : فُعِلَ بهم مِنْ ساءه بذلك.
وذُكر عن قتادة أنه كان يقول : ساء ظنه بقومه ، وضاق بضيفه ذَرْعا.
حدثنا بذلك الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا مَعمَر عنه(وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعا) يقول : وضاق ذرعه بضيافتهم لما علم من خُبث فعل قومه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا ) قال : بالضيافة مخافة عليهم مما يعلم من شرّ قومه.
وقوله : ( وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ ) يقول تعالى ذكره : قالت الرسل للوط :

(20/32)


إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

لا تخف علينا أن يصل إلينا قومك ، ولا تحزَن مما أخبرناك من أنَّا مهلكوهم ، وذلك أن الرسل قالت له : ( يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) ، (إنَّا مُنَجُّوكَ) من العذاب الذي هو نازل بقومك(وَأَهْلَكَ) يقول : ومنجو أهلِك معك(إلا امْرَأتَكَ) فإنها هالكة فيمن يهلك من قومها ، كانت من الباقين الذين طالت أعمارهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّا مُنزلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل الرسل للوط : (إنَّا مُنزلُونَ) يا لُوط(عَلى أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ) سَدُوم(رِجْزًا مِنَ السَّماءِ) يعني عذابا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( إِنَّا مُنزلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا ) : أي عذابا.
وقد بيَّنا معنى الرجز وما فيه من أقوال أهل التأويل فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله : ( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) يقول : بما كانوا يأتون من معصية الله ، ويركبون من الفاحشة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) }
يقول تعالى ذكره : ولقد أبقينا من فَعْلتنا التي فَعَلْنا بهم آية ، يقول : عبرة بينة وعظة واعظة ، (لِقَومٍ يَعْقِلُونَ) عن الله حُجَجه ، ويتفكرون في مواعظه ، وتلك الآية البينة هي عندي عُفُوُّ آثارهم ، ودروس معالمهم.
وذُكر عن قَتادة في ذلك ما :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) قال : هي الحجارة التي أُمطرت عليهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً ) قال : عِبرة.

(20/33)


وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ (36) }
يقول تعالى ذكره : وأرسلت إلى مَدْين أخاهم شعيبا ، فقال لهم : ( يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) وحده ، وذِلُّوا له بالطاعة ، واخضعوا له بالعبادة( وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ ) يقول : وارجوا بعبادتكم إياي جزاءَ اليوم الآخر ، وذلك يوم القيامة( وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ ) يقول : ولا تكثِروا في الأرض معصية الله ، ولا تقيموا عليها ، ولكن توبوا إلى الله منها وأنيبوا.
وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب يتأوّل قوله : ( وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ ) بمعنى : واخشَوا اليوم الآخر ، وكان غيره من أهل العلم بالعربية يُنكر ذلك ويقول : لم نجد الرجاء بمعنى الخوف في كلام العرب إلا إذا قارنه الجَحْد.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) }
يقول تعالى ذكره : فكذّب أهل مَدينَ شعيبا فيما أتاهم به عن الله من الرسالة ، فأخذتهم رَجْفة العَذاب( فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) جُثوما ، بعضُهم على بعض مَوْتَى.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) : أي ميتين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) }
يقول تعالى ذكره : واذكروا أيها القوم عادا وثمود ، ( وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ ) خرابها وخلاؤُها منهم بوقائعنا بهم ، وحلول سَطْوتنا بجميعهم( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ) يقول : وحسَّن لهم الشيطان كفرهم بالله ، وتكذيبَهم رسله( فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) يقول : فردّهم بتزيينه لهم ، ما زيَّن لهم من الكفر عن سبيل الله ، التي هي الإيمان

(20/34)


به ورسله ، وما جاءوهم به من عند ربهم( وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) يقول : وكانوا مستبصرين في ضلالتهم ، مُعْجبين بها ، يحسبون أنهم على هدى وصواب ، وهم على الضلال.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) يقول : كانوا مستبصرين في دينهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(وكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) في الضلالة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وكانُوا مسْتَبْصِرِينَ) في ضلالتهم مُعْجَبين بها.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : (وكانُوا مُسْتَبْصِرينَ) يقول : في دينهم.

(20/35)


وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) }
يقول تعالى ذكره : واذكر يا محمد ، قارون وفرعون وهامان ، ولقد جاء جميعهم موسى بالبيِّنات ، يعني بالواضحات من الآيات ، ( فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ ) عن التصديق من الآيات ، وعن اتباع موسى صلوات الله عليه( وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ) يقول تعالى ذكره : وما كانوا سابقينا بأنفسهم ، فيفوتوننا ، بل كنا مقتدرين عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) }
يقول تعالى ذكره : فأخذنا جميع هذه الأمم التي ذكرناها لك يا محمد بعذابنا

(20/35)


( فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا ) وهم قوم لُوط الذين أمطر الله عليهم حجارة من سجِّيلٍ مَنضُود ، والعرب تسمي الريح العاصف التي فيها الحصى الصغار أو الثلج أو البرد والجليد حاصبا ، ومنه قول الأخطل :
وَلقدْ عَلِمْتُ إذا العِشارُ تَرَوَّحَتْ... هَدَجَ الرّئالِ يَكُبُّهُنَّ شَمالا
تَرْمي العِضَاهَ بحاصِبٍ مِن ثَلْجِها... حتى يَبِيتَ على العِضَاهِ جُفالا (1)
وقال الفرزدق :
مُسْتَقْبِلِينَ شَمالَ الشَّأْمِ تَضْرِبُنا... بحاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ (2)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : ( فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا ) قوم لوط.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا ) وهم قوم لوط( وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ).
اختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بذلك ، فقال بعضهم : هم ثمود قوم صالح.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : ( وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ) ثمود.
وقال آخرون : بل هم قوم شعيب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ) قوم شعيب.
__________
(1) البيتان للأخطل ، وقد سبق الاستشهاد بهما في غير هذا الموضع من التفسير انظره في (15 : 124).
(2) البيت للفرزدق ، وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة الورقة رقم 185) قال : (أرسلنا عليه حاصبًا) : أي ريحا عاصفًا فيها حصى ، ويكون في كلام العرب الحاصب من الجليد ونحوه أيضًا. وقال الفرزدق : " مستقبلين شمال الشام ... " البيت. اهـ.

(20/36)


والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله قد أخبر عن ثمود وقوم شعيب من أهل مدين أنه أهلكهم بالصيحة في كتابه في غير هذا الموضع ، ثم قال جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم : فمن الأمم التي أهلكناهم من أرسلنا عليهم حاصبا ، ( وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ) ، فلم يخصص الخبر بذلك عن بعض مَنْ أخذته الصيحة من الأمم دون بعض ، وكلا الأمتين أعني ثمود ومَدين قد أخذتهم الصَّيحة. وقوله : ( وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ ) يعني بذلك قارون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : ( وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ ) قارون( وَمِنْهُم مَّنْ أغْرَقْنا ) يعني : قوم نوح وفرعون وقومه.
واختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : عُني بذلك : قوم نوح عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : ( وَمِنْهُم مَّنْ أغْرَقْنَا ) قوم نُوح.
وقال آخرون : بل هم قوم فرعون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَمِنْهُم مَّنْ أغْرَقْنا ) قوم فرعون.
والصواب من القول في ذلك ، أن يُقال : عُني به قوم نوح وفرعونُ وقومه ؛ لأن الله لم يخصص بذلك إحدى الأمتين دون الأخرى ، وقد كان أهلكهما قبل نزول هذا الخبر عنهما ، فهما مَعْنيتان به.
وقوله : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) يقول تعالى ذكره : ولم يكن الله ليهلك هؤلاء الأمم الذين أهلكهم ، بذنوب غيرهم ، فيظلمَهم بإهلاكه إياهم بغير استحقاق ، بل إنما أهلكهم بذنوبهم ، وكفرهم بربهم ، وجحودهم نعمه عليهم ،

(20/37)


مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)

مع تتابع إحسانه عليهم ، وكثرة أياديه عندهم ، ( وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) بتصرّفهم في نعم ربهم ، وتقلبهم في آلائه وعبادتهم غيره ، ومعصيتهم من أنعم عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) }
يقول تعالى ذكره : مثل الذين اتخذوا الآلهة والأوثان من دون الله أولياء يرجون نَصْرها ونفعها عند حاجتهم إليها في ضعف احتيالهم ، وقبح رواياتهم ، وسوء اختيارهم لأنفسهم ، ( كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ ) في ضعفها ، وقلة احتيالها لنفسها ، ( اتَّخَذَتْ بَيْتًا ) لنفسها ، كيما يُكِنهَا ، فلم يغن عنها شيئا عند حاجتها إليه ، فكذلك هؤلاء المشركون لم يغن عنهم حين نزل بهم أمر الله ، وحلّ بهم سخطه أولياؤُهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئا ، ولم يدفعوا عنهم ما أحلّ الله بهم من سخطه بعبادتهم إياهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ...) إلى آخر الآية ، قال : ذلك مثل ضربه الله لمن عبد غيره ، إن مثله كمثل بيت العنكبوت.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ ) قال : هذا مثل ضربه الله للمشرك مَثل إلهه الذي يدعوه من دون الله كمثل بيت العنكبوت واهن ضعيف لا ينفعه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ) قال : هذا مثل ضربه الله ، لا يغني أولياؤهم عنهم شيئا ، كما لا يغني العنكبوت بيتها هذا.
وقوله : ( وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ ) يقول : إن أضعف البيوت( لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره : لو كان هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء ، يعلمون

(20/38)


إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)

أن أولياءهم الذين اتخذوهم من دون الله في قلة غنائهم عنهم ، كغناء بيت العنكبوت عنها ، لكنهم يجهلون ذلك ، فيحسبون أنهم ينفعونهم ويقرّبونهم إلى الله زلفى.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ (43) }
اختلف القرّاء في قراءة قوله : (إنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَدْعُونَ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار(تَدْعُونَ) بالتاء بمعنى الخطاب لمشركي قريش(إنَّ اللهَ) أيها الناس ، (يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ إلَيْهِ مِن دُونِهِ مِن شَيءٍ). وقرأ ذلك أبو عمرو : (إنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ) بالياء بمعنى الخبر عن الأمم ، إن الله يعلم ما يدعوا هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم(مِنْ دُونِهِ مِن شَيء).
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، قراءة من قرأ بالتاء ؛ لأن ذلك لو كان خبرا عن الأمم الذين ذكر الله أنه أهلكهم ، لكان الكلام : إنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما كانوا يدعون ، لأن القوم في حال نزول هذا الخبر على نبيّ الله لم يكونوا موجودين ، إذ كانوا قد هلكوا فبادوا ، وإنما يقال : (إنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَدْعُونَ) إذا أريد به الخبر عن موجودين ، لا عمن قد هلك.
فتأويل الكلام إذ كان الأمر كما وصفنا : (إنَّ اللهَ يَعْلَمُ) أيها القوم ، حال ما تعبدون(مِن دُونِهِ مِن شَيء) ، وأن ذلك لا ينفعكم ولا يضرّكم ، إن أراد الله بكم سوءا ، ولا يغني عنكم شيئا ، وإن مثله في قلة غنائه عنكم ، مَثَلُ بيت العنكبوت في غَنائه عنها.
وقوله : (وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) يقول : والله العزيز في انتقامه ممن كفر به ، وأشرك في عبادته معه غيره فاتقوا أيها المشركون به ، عقابه بالإيمان به قبل نزوله بكم ، كما نزل بالأمم الذين قصّ الله قصصهم في هذه السورة عليكم ، فإنه إن نزل بكم عقابُه لم تغن عنكم أولياؤكم الذين اتخذتموهم من دونه أولياء ، كما لم يُغْنِ عنهم من قبلكم أولياؤهم الذين اتخذوهم من دونه ، الحكيم في تدبيره خلقه (1) فمُهلك من استوجب الهلاك في الحال التي هلاكه صلاح ، والمؤخر من أخَّر هلاكه من كفرة خلقه به إلى الحين الذي في هلاكه الصلاح.
وقوله : ( وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ) يقول تعالى ذكره : وهذه الأمثال ، وهي
__________
(1) العبارة من أول قوله " كما لم يغن عنهم ... إلى هنا " : عسرة الفهم. فلتتأمل.

(20/39)


خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)

الأشباه والنظائر(نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ) يقول : نمثلها ونشبهها ونحتجّ بها للناس ، كما قال الأعشى :
هَلْ تَذْكُرُ العَهْدَ مِنْ تَنَمَّصَ إذْ... تَضْرِبُ لي قاعِدًا بِها مَثَلا (1)
( وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ) يقول تعالى ذكره : وما يعقل أنه أصيب بهذه الأمثال التي نضربها للناس منهم الصواب والحقّ فيما ضربت له مثلا(إلا الْعَالِمُونَ) بالله وآياته.
القول في تأويل قوله تعالى : { خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : خلق الله يا محمد ، السموات والأرض وحده منفردا بخلقها ، لا يشركه في خلقها شريك(إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) يقول : إن في خلقه ذلك لحجة لمن صدق بالحجج إذا عاينها ، والآيات إذا رآها.
القول في تأويل قوله تعالى : { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم(اتْلُ) يعني : اقرأ(مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ) يعني : ما أنزل إليك من هذا القرآن(وَأَقِمِ الصَّلاةَ) يعني : وأدّ الصلاة التي فرضها الله عليك بحدودها( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) اختلف أهل التأويل في معنى الصلاة التي ذُكرت في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عنى بها القرآن الذي يقرأ في موضع الصلاة ، أو في الصلاة.
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ص 237) وفيه " في " في موضع " من " و " في " أوجه. وتنمص ، بفتح أوله وثانيه ، بعده ميم مشددة مضمومة. وصاد مهملة : موضع. هكذا ذكره أبو حاتم ، وأنشد للأعشى : هل تعرف الدر في تنمص إذ ... تضرب لي قاعدًا بها مثلا
وتنمص في ديار حمير ، لأنه مدح بها ذا فائش الحميري ، وزعم أنه قال له : ما لك لا تمدحني ، وضرب له مثلا. (انظر معجم ما استعجم للبكري. ترتيب مصطفى السقا ص 322). والبيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (185 - أ) وروايته : هل تذكر العهد في تنمص. والمؤلف استشهد به عند قوله تعالى : (وتلك الأمثال نضربها للناس). قال أبو عبيدة : مجازه : هذه الأشباه والنظائر نحتج بها.

(20/40)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أبي الوفاء ، عن أبيه ، عن ابن عمر( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) قال : القرآن الذي يقرأ في المساجد.
وقال آخرون : بل عنى بها الصلاة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) يقول : في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن العلاء بن المسيب ، عمن ذكره ، عن ابن عباس ، في قول الله : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بُعدا.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا خالد ، قال : قال العلاء بن المسيب ، عن سمرة بن عطية ، قال : قيل لابن مسعود : إن فلانا كثير الصلاة ، قال : فإنها لا تنفع إلا من أطاعها.
قال ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن ابن مسعود ، قال : من لم تأمره صلاته بالمعروف ، وتنهه عن المنكر ، لم يزدد بها من الله إلا بعدا.
قال ثنا الحسين ، قال : ثنا عليّ بن هاشم بن البريد ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا صَلاةَ لِمَن لَمْ يُطِعِ الصَّلاةَ ، وَطاعَةُ الصَّلاةِ أنْ تَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنكَرِ " قال : قال سفيان : ( قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ ) قال : فقال سفيان : إي والله ، تأمره وتنهاه.
قال علي : وحدثنا إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ صَلى صَلاةً لَمْ تَنْهَهُ عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِها مِنَ اللهِ إلا بُعْدًا " .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : الصلاة إذا لم تنه عن الفحشاء والمنكر ، قال : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم يزدد

(20/41)


من الله إلا بعدا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة والحسن ، قالا من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فإنه لا يزداد من الله بذلك إلا بعدا.
والصواب من القول في ذلك أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، كما قال ابن عباس وابن مسعود ، فإن قال قائل : وكيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر إن لم يكن معنيا بها ما يتلى فيها ؟ قيل : تنهى من كان فيها ، فتحول بينه وبين إتيان الفواحش ، لأن شغله بها يقطعه عن الشغل بالمنكر ، ولذلك قال ابن مسعود : من لم يطع صلاته لم يزدد من الله إلا بعدا. وذلك أن طاعته لها إقامته إياها بحدودها ، وفي طاعته لها مزدجر عن الفحشاء والمنكر.
حدثنا أبو حميد الحمصي ، قال : ثنا يحيى بن سعيد العطار ، قال : ثنا أرطاة ، عن ابن عون ، في قول الله( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) قال : إذا كنت في صلاة ، فأنت في معروف ، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر ، و(الفَحْشَاءِ) : هو الزنا ، و(المُنْكَر) : معاصي الله ، ومن أتى فاحشة أو عَصَى الله في صلاته بما يفسد صلاته ، فلا شكّ أنه لا صلاة له.
وقوله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ولذكر الله إياكم أفضل من ذكركم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن ربيعة ، قال : قال لي ابن عباس : هل تدري ما قوله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : قلت : نعم ، قال : فما هو ؟ قال : قلت : التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة ، وقراءة القرآن ونحو ذلك ، قال : لقد قلت قولا عجبا وما هو كذلك ، ولكنه إنما يقول : ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه ، إذا ذكرتموه(أَكْبَرُ) من ذكركم إياه.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن ابن ربيعة ، عن ابن عباس قال : ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء ، عن عبد الله بن ربيعة ، قال : سألني ابن عباس ، عن قول الله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) فقلت : ذكره بالتسبيح والتكبير

(20/42)


والقرآن حسن ، وذكره عند المحارم فيحتجز عنها. فقال : لقد قلت قولا عجيبا وما هو كما قلت ، ولكن ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن ربيعة ، عن ابن عباس(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : ذكر الله للعبد أفضل من ذكره إياه.
حدثنا محمد بن المثنى وابن وكيع ، قال ابن المثنى : ثني عبد الأعلى وقال ابن وكيع : ثنا عبد الأعلى قال : ثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : كنت قاعدا عند ابن عباس ، فجاءه رجل ، فسأل ابن عباس عن ذكر الله أكبر ، فقال ابن عباس : الصلاة والصوم ، قال : ذاك ذكر الله ، قال رجل : إني تركت رجلا في رحلي يقول غير هذا ، قال : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : ذكر الله العباد أكبر من ذكر العباد إياه ، فقال ابن عباس : صدق والله صاحبك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : حدثني عن قول الله(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن داود ، عن عكرمة(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : ذكر الله للعبد أفضل من ذكره إياه.
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا ابن فضيل ، قال : ثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : هو قوله : (فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ) وذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(وَلَذِكْرُ اللهِ) لعباده إذا ذكروه(أكْبَرُ) من ذكركم إياه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ) قال : ذكر الله عبده أكبر من ذكر العبد ربه في الصلاة أو غيرها.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، عن داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى ، عن ابن عباس ، قال : ذكر الله إياكم ، إذا ذكرتموه ، أكبر من

(20/43)


ذكركم إياه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تُمَيْلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عامر ، عن أبي قرة ، عن سلمان ، مثله.
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا أبو أسامة ، قال : ثني عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح بن أبي عَريب ، عن كثير بن مرّة الحضرميّ ، قال : سمعت أبا الدرداء يقول : ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها إلى مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير من أن تغزوا عدوّكم ، فتضربوا أعناقهم ، وخير من إعطاء الدنانير والدراهم ؟ قالوا : ما هو ؟ قال : ذكركم ربكم ، وذكر الله أكبر.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، عن أبي قرة ، عن سلمان(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : قال ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
قال : ثني أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، قال : سألت أبا قرة ، عن قوله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة قالا ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
قال : ثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن عطية ، عن ابن عباس قال : هو كقوله : (اذْكُرُونِي أذْكرْكُمْ) فذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
قال : ثنا حسن بن عليّ ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن شقيق ، عن عبد الله(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لربه.
قال : ثنا أبو يزيد الرازي ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن شعبة ، قال : ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولذكركم الله أفضل من كلّ شيء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا عمر بن أبي زائدة ، عن العيزار بن حريث ، عن رجل ، عن سلمان أنه سئل : أيّ العمل أفضل ؟ قال : أما تقرأ القرآن(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) : لا شيء أفضل من ذكر الله.
حدثنا ابن حميد أحمد بن المغيرة الحمصي ، قال : ثنا عليّ بن عياش ، قال : ثنا

(20/44)


الليث ، قال : ثني معاوية ، عن ربيعة بن يزيد ، عن إسماعيل بن عبيد الله ، عن أمّ الدرداء ، أنها قالت : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) فإن صليت فهو من ذكر الله ، وإن صمت فهو من ذكر الله ، وكلّ خير تعمله فهو من ذكر الله ، وكل شرّ تجتنبه فهو من ذكر الله ، وأفضل ذلك تسبيحُ الله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : لا شيء أكبر من ذكر الله ، قال : أكبر الأشياء كلها ، وقرأ(أقِمِ الصلاةَ لِذِكْرِي) قال : لذكر الله وإنه لم يصفه عند القتال إلا أنه أكبر.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن الأعمش ، عن أبي إسحاق ، قال : قال رجل لسلمان : أي العمل أفضل ، ؟ قال : ذكر الله.
وقال آخرون : هو محتمل للوجهين جميعا ، يعنون القول الأوّل الذي ذكرناه والثاني.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن خالد ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس في قوله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : لها وجهان : ذكر الله أكبر مما سواه ، وذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : ثنا خالد الحذّاء ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس في قوله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : لها وجهان : ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ، وذكر الله عند ما حُرم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لذكر الله العبد في الصلاة ، أكبر من الصلاة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السُّدِّي ، عن أبي مالك في قوله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : ذكر الله العبد في الصلاة ، أكبر من الصلاة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وللصلاة التي أتيت أنت بها ، وذكرك الله فيها ، أكبر مما نهتك الصلاة من الفحشاء والمنكر.
حدثني أحمد بن المغيرة الحمصي ، قال : ثنا يحيى بن سعيد العطار ، قال : ثنا أرطاة ، عن ابن عون ، في قول الله( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) والذي

(20/45)


أنت فيه من ذكر الله أكبر.
قال أبو جعفر : وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل ، قول من قال : ولذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه.
وقوله : ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) يقول : والله يعلم ما تصنعون أيها الناس في صلاتكم ، من إقامة حدودها ، وترك ذلك وغيره من أموركم ، وهو مجازيكم على ذلك ، يقول : فاتقوا أن تضيعوا شيئا من حدودها ، والله أعلم.

(20/46)


وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) }
يقول تعالى ذكره : (وَلا تُجَادِلُوا) أيها المؤمنون بالله وبرسوله اليهود والنصارى ، وهم(أَهْلَ الكِتابِ إلا بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يقول : إلا بالجميل من القول ، وهو الدعاء إلى الله بآياته ، والتنبيه على حُججه.
وقوله : (إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : إلا الذين أبوا أن يقرّوا لكم بإعطاء الجزية ، ونصبوا دون ذلك لكم حربا ، فإنهم ظلمة ، فأولئك جادلوهم بالسيف حتى يسلموا ، أو يعطوا الجزية.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن سهل ، قال : ثنا يزيد ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد في قوله : ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) قال : من قاتل ولم يُعط الجزية.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ، بنحوه. إلا أنه قال : من قاتلك ولم يعطك الجزية.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال : إن قالوا شرّا ؛ فقولوا خيرا ، ( إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فانتصروا منهم.

(20/46)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : (إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) قال : قالوا : مع الله إله ، أو له ولد ، أو له شريك ، أو يد الله مغلولة ، أو الله فقير ، أو آذوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، قال : هم أهل الكتاب.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) قال : أهل الحرب ، من لا عهد له جادله بالسيف.
وقال آخرون : معنى ذلك : (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتابِ) الذين قد آمنوا به ، واتبعوا رسوله فيما أخبروكم عنه مما في كتبهم( إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) فأقاموا على كفرهم ، وقالوا : هذه الآية محكمة ، وليست بمنسوخة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال : ليست بمنسوخة ، لا ينبغي أن تجادل من آمن منهم ، لعلهم يحسنون شيئا في كتاب الله ، لا تعلمه أنت فلا تجادله ، ولا ينبغي أن تجادل إلا الذين ظلموا ، المقيمَ منهم على دينه. فقال : هو الذي يُجادَلُ ، ويقال له بالسيف (1) قال : وهؤلاء يهود. قال : ولم يكن بدار الهجرة من النصارى أحد ، إنما كانوا يهودا هم الذي كلَّموا وحالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغدرت النضير يوم أُحد ، وغدرت قُريظة يوم الأحزاب.
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية قبل أن يؤمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقتال ، وقالوا : هي منسوخة ، نسخها قوله : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَلا تُجَادِلُوا
__________
(1) يقال له بالسيف : أي يرفع عليه السيف. قال في (اللسان : قول) : والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال ، وتطلقه على غير الكلام واللسان ، فتقول : قال بيده : أي أخذ ، وقال برجله : أي مشى. وقال الشاعر وقالت له العينان سمعًا وطاعةً
أي أومأت. وقال بثوب : أي رفعه. وكل ذلك على المجاز والاتساع. وفي الأصل : و " يقال له : السبت " تحريف من الناسخ.

(20/47)


أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ثم نسخ بعد ذلك ، فأمر بقتالهم في سورة براءة ، ولا مجادلة أشدّ من السيف ، أن يقاتلوا حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يقرّوا بالخراج.
وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قول من قال : عني بقوله : (إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) : إلا الذين امتنعوا من أداء الجزية ، ونصبوا دونها الحرب.
فإن قال قائل : أو غير ظالم من أهل الكتاب إلا من لم يؤدّ الجزية ؟ قيل : إن جميعهم ، وإن كانوا لأنفسهم بكفرهم بالله ، وتكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، ظلمة ، فإنه لم يعن بقوله : (إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) . ظلم أنفسهم. وإنما عنى به : إلا الذين ظلموا منهم أهل الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن أولئك جادلوهم بالقتال.
وإنما قلنا : ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب ؛ لأن الله تعالى ذكره أذن للمؤمنين بجدال ظلمة أهل الكتاب ، بغير الذي هو أحسن بقوله : (إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فمعلوم إذ كان قد أذن لهم في جدالهم ، أن الذين لم يؤذن لهم في جدالهم إلا بالتي هي أحسن ، غير الذين أذن لهم بذلك فيهم ، وأنهم غير المؤمن ؛ لأن المؤمن منهم غير جائز جداله إلا في غير الحقّ ، لأنه إذا جاء بغير الحق ، فقد صار في معنى الظلمة في الذي خالف فيه الحقّ ، فإذ كان ذلك كذلك ، تبين أن ألا معنى لقول من قال : عنى بقوله : ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ ) أهل الإيمان منهم ، وكذلك لا معنى لقول من قال : نزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال ، وزعم أنها منسوخة ؛ لأنه لا خبر بذلك يقطع العذر ، ولا دلالة على صحته من فطرة عقل.
وقد بيَّنا في غير موضع من كتابنا ، أنه لا يجوز أن يحكم على حكم الله في كتابه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها ، من خبر أو عقل.
وقوله : ( وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله ، الذين نهاهم أن يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن : إذا حدثكم أهل الكتاب أيها القوم عن كتبهم ، وأخبروكم عنها بما يمكن ويجوز أن يكونوا فيه صادقين ، وأن يكونوا فيه كاذبين ، ولم تعلموا أمرهم وحالهم في ذلك ، فقولوا لهم( آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ ) مما في التوراة والإنجيل ، ( وَإِلَهُنَا

(20/48)


وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)

وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ) يقول : ومعبودنا ومعبودكم واحد( وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) يقول : ونحن له خاضعون متذللون بالطاعة فيما أمرنا ونهانا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الرواية بذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عثمان بن عمر ، قال : أخبرنا عليّ ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ، فيفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتابِ وَلا تُكَذّبُوُهْم ، (وَقُولُوا آمَنَّا بالَّذِي أُنزلَ إلَيْنا وأُنزلَ إلَيْكُمْ وَإلَهُنَا وإلهُكُمْ وَاحِدٌ ، وَنحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) " .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن سعد بن إبراهيم ، عن عطاء بن يسار قال : كان ناس من اليهود يحدثون ناسا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لا تُصَدِّقُوهُمْ وَلا تُكَذّبُوهُمْ ، (وَقُولُوا آمَنَّا بالَّذِي أُنزلَ إلَيْنا وأُنزلَ إلَيْكُمْ) " .
قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا سفيان ، عن سليمان ، عن عمارة بن عمير ، عن حريث بن ظهير ، عن عبد الله قال : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تكذبوا بحقّ أو تصدّقوا بباطل ، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال (1) .
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني به محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ). قال : قالوا : مع الله إله ، أو له ولد ، أو له شريك ، أو يد الله مغلولة ، أو الله فقير ، أو آذوا محمدا ، ( وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ ) لمن لم يقل هذا من أهل الكتاب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ
__________
(1) تالية اسم فاعل من تلاه يتلوه : إذا تبعه. يريد : داعية تدعوه إلى الاستمساك بدينه. وتالية المال : لعل المراد به : التابعة التي تتبع أمهاتها من صغار الإبل ونحوها.

(20/49)


وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ (47) }
يقول تعالى ذكر : كما أنزلنا الكتب على مَن قبلك يا محمد من الرسل(كَذلكَ أنزلْنَا إلَيْكَ) هذا(الكِتابَ فالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ) من قبلك من بني إسرائيل(يُؤْمِنُون بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) يقول : ومن هؤلاء الذين هم بين ظهرانيك اليوم ، من يؤمن به ، كعبد الله بن سلام ، ومن آمن برسوله من بني إسرائيل.
وقوله : ( وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ ) يقول تعالى ذكره : وما يجحد بأدلتنا وحججنا إلا الذي يجحد نعمنا عليه ، وينكر توحيدنا وربوبيتنا على علم منه عنادا لنا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ ) قال : إنما يكون الجحود بعد المعرفة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) }
يقول تعالى ذكره : (وَما كُنْتَ) يا محمد(تَتْلُوا) يعني : تقرأ(مِنْ قَبْلِهِ) يعني : من قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك(مِنْ كِتَابٍ وَلا تخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) يقول : ولم تكن تكتب بيمينك ، ولكنك كنت أمِّيًّا(إذًا لارْتابَ المُبْطِلَونَ) يقول : ولو كنت من قبل أن يُوحَى إليك تقرأ الكتاب ، أو تخطه بيمينك ، (إذًا لارْتَابَ) يقول : إذن لشكّ - بسبب ذلك في أمرك ، وما جئتهم به من عند ربك من هذا الكتاب الذي تتلوه عليهم - المبطلون القائلون إنه سجع وكهانة ، وإنه أساطير الأوّلين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) قال : كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أمِّيا ؛ لا يقرأ شيئا ولا يكتب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) قال : كان نبيّ الله لا يقرأ كتابا قبله ، ولا يخطه بيمينه ، قال : كان أُمِّيا ، والأمّي : الذي لا يكتب.

(20/50)


بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن إدريس الأودي ، عن الحكم ، عن مجاهد( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) قال : كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يخطّ بيمينه ، ولا يقرأ كتابا ، فنزلت هذه الآية.
وبنحو الذي قلنا أيضا في قوله : (إذًا لارْتابَ المُبْطِلُونَ) قالوا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(إذًا لارْتابَ المُبْطِلُونَ) إذن لقالوا : إنما هذا شيء تعلَّمه محمد صلى الله عليه وسلم وكتبه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (إذًا لارْتابَ المُبْطِلُون) قال : قريش.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ (49) }
اختلف أهل التأويل في المعنى بقوله : ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) فقال بعضهم : عنى به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : معنى الكلام : بل وجود أهل الكتاب في كتبهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يكتب ولا يقرأ ، وأنه أمّي ، آيات بينات في صدورهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) قال : كان الله تعالى أنزل في شأن محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل لأهل العلم ، وعلمه لهم ، وجعله لهم آية ، فقال لهم : إن آية نبوّته أن يخرج حين يخرج لا يعلم كتابا ، ولا يخطه بيمينه ، وهي الآيات البينات.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ) قال : كان نبي الله لا يكتب

(20/51)


وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

ولا يقرأ ، وكذلك جعل الله نعته في التوراة والإنجيل ، أنه نبيّ أمّي لا يقرأ ولا يكتب ، وهي الآية البينة في صدور الذين أوتوا العلم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) من أهل الكتاب ، صدّقوا بمحمد ونعته ونبوّته.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ) قال : أنزل الله شأن محمد في التوراة والإنجيل لأهل العلم ، بل هو آية بينة في صدور الذين أوتوا العلم ، يقول : النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون : عنى بذلك القرآن ، وقالوا : معنى الكلام : بل هذا القرآن آيات بيِّنات في صدور الذين أوتوا العلم ، من المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، قال : قال الحسن ، في قوله : ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) القرآن آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ، يعني المؤمنين.
وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : عنى بذلك : بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتابا ، ولا تخطه بيمينك ، آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب.
وإنما قلت ذلك أولى التأويلين بالآية ؛ لأن قوله : ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) بين خبرين من أخبار الله عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو بأن يكون خبرًا عنه ، أولى من أن يكون خبرا عن الكتاب الذي قد انقضى الخبر عنه قبل.
وقوله : ( وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ) يقول تعالى ذكره : ما يجحد نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وأدلته ، ويُنكر العلم الذي يعلم من كتب الله ، التي أنزلها على أنبيائه ، ببعث محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته ومبعثه إلا الظالمون ، يعني : الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله عزّ وجلّ.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) }

(20/52)


أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)

يقول تعالى ذكره : وقالت المشركون من قريش : هلا أنزل على محمد آية من ربه ، تكون حجة لله علينا ، كما جعلت الناقة لصالح ، والمائدة آية لعيسى ، قل يا محمد : إنما الآيات عند الله ، لا يقدر على الإتيان بها غيره(وَإنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) وإنما أنا نذير لكم ، أنذركم بأس الله وعقابه على كفركم برسوله. وما جاءكم به من عند ربكم(مُبِينٌ) يقول : قد أبان لكم إنذاره.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) }
يقول تعالى ذكره : أولم يكف هؤلاء المشركين يا محمد ، القائلين : لولا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آية من ربه ، من الآيات والحجج(أنَّا أنزلْنا عَلَيْكَ) هذا(الكِتابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) يقول : يُقرأ عليهم ، (إنَّ فِي ذلكَ لَرَحْمَةٌ) يقول : إن في هذا الكتاب الذي أنزلنا عليهم لرحمة للمؤمنين به وذكرى يتذكرون بما فيه من عبرة وعظة.
وذُكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انتسخوا شيئا من بعض كتب أهل الكتاب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عمرو بن دينار ، عن يحيى بن جعدة أن ناسا من المسلمين أتوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بكتب ، قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود ، فلما أن نظر فيها ألقاها ، ثم قال : " كفى بها حماقة قوم - أو ضلالة قوم - أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم ، إلى ما جاء به غير نبيهم ، إلى قوم غيرهم " ، فنزلت : ( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد ، للقائلين لك : لولا أنزل عليك آية من ربك ، الجاحدين بآياتنا من قومك : كفى الله يا هؤلاء بيني

(20/53)


وبينكم ، شاهدا لي وعليّ ؛ لأنه يعلم المحقّ منا من المبطل ، ويعلم ما في السموات وما في الأرض ، لا يخفى عليه شيء فيهما ، وهو المجازي كل فريق منا بما هو أهله ، المحق على ثباته على الحقّ ، والمبطل على باطله بما هو أهله ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا بالْبَاطِلِ) يقول : صدقوا بالشرك ، فأقرّوا به وكفروا به ، يقول : وجحدوا الله(أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ) يقول : : هم المغبونون في صفقتهم.
وبنحو الذي قلنا في قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بالْبَاطِلِ) قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَالَّذِينَ آمَنُوا بالْبَاطِلِ) : الشرك.

(20/54)


وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) }
يقول تعالى ذكره : ويستعجلك يا محمد هؤلاء القائلون من قومك : لولا أنزل عليه آية من ربه بالعذاب ويقولون : ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ) ولولا أجل سميته لهم فلا أهلكهم حتى يستوفوه ويبلغوه ، لجاءهم العذاب عاجلا. وقوله : ( وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) يقول : وليأتينهم العذاب فجأة ، وهم لا يشعرون بوقت مجيئه قبل مجيئه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ) قال : قال ناس من جهلة هذه الأمة( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) }
يقول تعالى ذكره : يستعجلكَ يا محمد هؤلاء المشركون بمجيء العذاب ونزوله بهم ، والنار بهم محيطة ، لم يبق إلا أن يدخلوها. وقيل : إن ذلك هو البحر.

(20/54)


يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، قال : سمعت عكرمة يقول في هذه الآية( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) قال : البحر.
أخبرنا ابن وكيع ، قال : ثنا غندر ، عن شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة ، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) }
يقول تعالى ذكره : ( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) يوم يغشى الكافرين العذاب ، من فوقهم في جهنم ، ومن تحت أرجلهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) : أي في النار.
وقوله : ( وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول جلّ ثناؤه : ويقول الله لهم : ذوقوا ما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله ، وما يسخطه فيها. وبالياء في(وَيقُولُ ذُوقُوا) قرأت عامة قرّاء الأمصار خلا أبي جعفر ، وأبي عمرو ، فإنهما قرآ ذلك بالنون : (وَنَقُولُ). والقراءة التي هي القراءة عندنا بالياء ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) }
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من عباده : يا عبادي الذين وحَّدوني ، وآمنوا بي ، وبرسولي محمد صلى الله عليه وسلم(إنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ).
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أريد من الخبر عن سعة الأرض ، فقال بعضهم : أريد بذلك أنها لم تضق عليكم فتقيموا بموضع منها لا يحلّ لكم المُقام فيه ، ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله ، فلم تقدروا على تغييره ، فاهرُبوا منه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير في قوله : (إنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ) قال : إذا عُمِل فيها بالمعاصي ، فاخرج منها.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أبي

(20/55)


خالد ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : (إنَّ أرْضِي وَاسِعَةٌ) قال : إذا عمل فيها بالمعاصي ، فاخرج منها.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا جرير ، عن ليث ، عن رجل ، عن سعيد بن جُبَير قال : اهرُبوا ؛ فإن أرضي واسعة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن شريك ، عن منصور ، عن عطاء قال : إذا أمِرتم بالمعاصي فاهربوا ، فإن أرضي واسعة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا شريك ، عن منصور ، عن عطاء(إنَّ أرْضِي وَاسِعَةٌ) قال : مجانبة أهل المعاصي.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (إنَّ أرْضِي وَاسِعَةٌ) ، فهاجروا وجاهدوا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) فقلت : يريد بهذا من كان بمكة من المؤمنين ، فقال : نعم.
وقال آخرون : معنى ذلك : إن ما أخرج من أرضي لكم من الرزق واسع لكم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثني زيد بن الحباب ، عن شدّاد بن سعيد بن مالك أبي طلحة الراسبي ، عن غَيْلان بن جرير المِعْولي ، عن مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير العامري في قول الله : (إنَّ أرْضِي وَاسِعَةٌ) : قال : إن رزقي لكم واسع.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا زيد بن حُباب ، عن شدّاد ، عن غَيلان بن جرير ، عن مُطَرِّف بن الشِّخِّير(إنَّ أرْضِي وَاسِعَةٌ) قال : رزقي لكم واسع.
وأولى القولين بتأويل الآية ، قول من قال : معنى ذلك : إن أرضي واسعة ، فاهربوا ممن منعكم من العمل بطاعتي ؛ لدلالة قوله : ( فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) على ذلك ، وأن ذلك هو أظهر معنييه ، وذلك أن الأرض إذا وصفها بِسعَة ، فالغالب من وصفه إياها بذلك لا تضيق جميعها على من ضاق عليه منها موضع ، لا أنه وصفها بكثرة الخير والخصب.

(20/56)


كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)

وقوله : ( فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) يقول : فأخلصوا لي عبادتكم وطاعتكم ، ولا تطيعوا في معصيتي أحدا من خلقي.
القول في تأويل قوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) }
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب نبيه : هاجِرُوا من أرض الشرك ، من مكة إلى أرض الإسلام المدينة ، فإن أرضي واسعة ، فاصبروا على عبادتي ، وأخلِصوا طاعتي ، فإنكم ميتون وصائرون إليّ ؛ لأن كل نفس حية ذائقة الموت ، ثم إلينا بعد الموت تُرَدّون ، ثم أخبرهم جلّ ثناؤه عما أعدّ للصابرين منهم على طاعته من كرامته عنده ، فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ، يعني : صدقوا الله ورسوله فيما جاء به من عند الله ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول : وعملوا بما أمرهم الله فأطاعوه فيه ، وانتهوا عما نهاهم عنه( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا ) يقول : لننزلنهم من الجنة عَلالي.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة ، وبعض الكوفيين : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) بالباء ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة بالثاء(لَنَثْوِيَنَّهُمْ).
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وذلك أن قوله : (لَنُبِّوَئَّنُهْم) من بوأته منزلا أي أنزلته ، وكذلك لنثوينهم ، إنما هو من أثويته مسكنا ، إذا أنزلته منزلا من الثواء ، وهو المقام.
وقوله : ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) يقول : تجري من تحت أشجارها الأنهار(خَالِدِينَ فِيهَا) يقول : ماكثين فيها إلى غير نهاية ، (نِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ) يقول : نعم جزاء العاملين بطاعة الله هذه الغرفُ التي يُثْوِيهُمُوها الله في جنَاته ، تجرى من تحتها الأنهار ، الذين صبروا على أذى المشركين في الدنيا ، وما كانوا يَلْقون منهم ، وعلى العمل بطاعة الله وما يرضيه ، وجهاد أعدائه(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في أرزاقهم وجهاد أعدائهم ، فلا يَنْكُلون عنهم ، ثقة منهم بأن الله مُعْلِي كلمته ، ومُوهِن كيد الكافرين ، وأن ما قُسِم لهم

(20/57)


وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)

من الرزق فلن يَفُوتَهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) }
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله ، من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : هاجروا وجاهدوا في الله أيها المؤمنون أعداءه ، ولا تخافوا عيلة ولا إقتارا ، فكم من دابة ذات حاجة إلى غذاء ومطعم ومشرب(لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) ، يعني : غذاءها لا تحمله ، فترفعه في يومها لغدها لعجزها عن ذلك( اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ) يوما بيوم(وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم : نخشى بفراقنا أوطاننا العَيْلة(العَلِيمُ) ما في أنفسكم ، وما إليه صائر أمركم ، وأمر عدوّكم ، من إذلال الله إياهم ، ونُصرتكم عليهم ، وغير ذلك من أموركم ، لا يخفى عليه شيء من أمور خلقه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ ) قال : الطيرُ والبهائم لا تحمل الرزق.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران ، عن أبي مُجَلِّز في هذه الآية( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ) قال : من الدوابّ ما لا يستطيع أن يدّخر لغد ، يُوَفَّق لرزقه كلّ يوم حتى يموت.
حدثنا ابن وكيع قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن عليّ بن الأقمر( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ) قال : لا تدخر شيئا لغد.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) }
يقول تعالى ذكره : ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله ، من خلق السموات والأرض فَسَوّاهن ، وسخَّر الشمس والقمر لعباده ، يجريان دائبين لمصالح خلق الله ، ليقولنّ : الذي خلق ذلك وفَعَلَه الله.(فَأنَّى يُؤْفَكُونَ) يقول جلّ ثناؤه :

(20/58)


اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)

فأنى يُصْرفون عمن صنع ذلك ، فيعدلون عن إخلاص العبادة له.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(فَأنَّى يُؤْفَكُونَ) : أي يعدلون.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) }
يقول تعالى ذكره : الله يوسع من رزقه لمن يشاء من خلقه ، ويضيق فيُقتِّر لمن يشاء منهم ، يقول : فأرزاقكم وقسمتها بينكم أيها الناس بيدي ، دون كل أحد سواي ، أبسط لمن شئت منها ، وأقتر على من شئت ، فلا يخلفنكم عن الهجرة وجهاد عدوّكم خوف العيلة( إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) يقول : إن الله عليم بمصالحكم ، ومن لا يصلُح له إلا البسط في الرزق ، ومن لا يصلح له إلا التقتير عليه ، وهو عالم بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك من نزل من السماء ماء ، وهو المطر الذي ينزله الله من السحاب(فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ) يقول : فأحيا بالماء الذي نزل من السماء الأرض ، وإحياؤها : إنباته النبات فيها(مِنْ بَعْدِ مَوْتها) من بعد جدوبها وقحوطها.
وقوله : (لَيَقُولُنَّ اللهَ) يقول : ليقولنّ الذي فعل ذلك الله ، الذي له عبادة كل شيء.
وقوله : (قُلِ الحَمْدُ لِلهِ) يقول : وإذا قالوا ذلك ، فقل : الحمد لله( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) يقول : بل أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعقلون ما لهم فيه النفع من أمر دينهم ، وما فيه الضرّ ، فهم لجهلهم يحسبون أنهم لعبادتهم الآلهة دون الله ، ينالون بها عند الله زُلْفة وقربة ، ولا يعلمون أنهم بذلك هالكون ، مستوجبون الخلود في النار.

(20/59)


وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ

(20/59)


وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) }
يقول تعالى ذكره : ( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) التي يتمتع منها هؤلاء المشركون( إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ) يقول : إلا تعليل النفوس بما تلتذّ به ، ثم هو مُنْقَضٍ عن قريب ، لا بقاء له ولا دوام( وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ) يقول : وإن الدار الآخرة لفيها الحياة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع ولا موت معها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) حياة لا موت فيها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قالا ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نحيح ، عن مجاهد ، قوله : (لَهِيَ الحَيَوانُ) قال : لا موتَ فيها.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ) يقول : باقية.
وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يقول : لو كان هؤلاء المشركون يعلمون أن ذلك كذلك ، لقَصَّروا عن تكذيبهم بالله ، وإشراكهم غيره في عبادته ، ولكنهم لا يعلمون ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) }
يقول تعالى ذكره : فإذا ركب هؤلاء المشركون السفينة في البحر ، فخافوا الغرق والهلاك فيه( دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) يقول : أخلصوا لله عند الشدّة التي نزلت بهم التوحيد ، وأفردوا له الطاعة ، وأذعنوا له بالعبودة ، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم ، ولكن بالله الذي خلقهم( فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ ) يقول : فلما خلصهم مما كانوا فيه وسلَّمهم ، فصاروا إلى البرّ ، إذا هم يجعلون مع الله شريكا في عبادتهم ، ويدعون الآلهة والأوثان معه أربابا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) فالخلق كلهم يقرّون لله أنه ربهم ، ثم يشركون بعد ذلك.

(20/60)


لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)

القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) }
يقول تعالى ذكره : فلما نجى الله هؤلاء المشركين مما كانوا فيه في البحر ، من الخوف والحذر من الغرق إلى البرّ ، إذا هم بعد أن صاروا إلى البرّ يشركون بالله الآلهة والأنداد.(لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْناهُمْ) يقول : ليجحدوا نعمة الله التي أنعمها عليهم في أنفسهم وأموالهم.
(وَلِيَتَمَتَّعُوا) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : (وَلِيَتَمَتَّعُوا) بكسر اللام ، بمعنى : وكي يتمتعوا آتيناهم ذلك. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : (وَلْيَتَمَتَّعُوا) بسكون اللام على وجه الوعيد والتوبيخ : أي اكفروا فإنكم سوف تعلمون ماذا يَلْقون من عذاب الله بكفرهم به.
وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأه بسكون اللام ، على وجه التهديد والوعيد ، وذلك أن الذين قرءوه بكسر اللام ، زعموا أنهم إنما اختاروا كسرها عطفا بها على اللام التي في قوله : (لِيَكْفُرُوا) ، وأن قوله : (لِيَكْفُرُوا) لما كان معناه : كي يكفروا ، كان الصواب في قوله : (وَلِيَتَمَتَّعُوا) أن يكون : وكي يتمتعوا ، إذ كان عطفا على قوله : (لِيَكْفُرُوا) عندهم ، وليس الذي ذهبوا من ذلك بمذهب ؛ وذلك لأن لام قوله : (لِيَكْفُرُوا) صلُحت أن تكون بمعنى كي ؛ لأنها شرط ، لقوله : إذا هم يشركون بالله كي يكفروا بما آتيناهم من النعم ، وليس ذلك كذلك في قوله : (وَلِيَتَمَتَّعُوا) لأن إشراكهم بالله كان كفرا بنعمته ، وليس إشراكهم به تمتعا بالدنيا ، وإن كان الإشراك به يسهل لهم سبيل التمتع بها ، فإذ كان ذلك كذلك فتوجيهه إلى معنى الوعيد أولى وأحقّ من توجيهه إلى معنى : وكي يتمتعوا ، وبعد فقد ذكر أن ذلك في قراءة أُبيّ(وَتَمَتَّعُوا) وذلك دليل على صحة من قرأه بسكون اللام بمعنى الوعيد.
وقوله : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ) يقول تعالى ذكره ، مذكرا هؤلاء المشركين من قريش ، القائلين : لولا أنزل عليه آية من ربه ، نِعْمَتَه عليهم التي خصهم بها دون سائر الناس غيرهم ، مع كفرهم بنعمته وإشراكهم في عبادته الآلهة والأنداد : أولم ير هؤلاء المشركون من قريش ، ما خصصناهم به من نعمتنا عليهم ، دون سائر

(20/61)


وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)

عبادنا ، فيشكرونا على ذلك ، وينزجروا عن كفرهم بنا ، وإشراكهم ما لا ينفعنا ، ولا يضرّهم في عبادتنا أنا جعلنا بلدهم حرما ، حرّمنا على الناس أن يدخلوه بغارة أو حرب ، آمنا يأمن فيه من سكنه ، فأوى إليه من السباء ، والخوف ، والحرام الذي لا يأمنه غيرهم من الناس ، ( وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) يقول : وتُسْلَب الناس من حولهم قتلا وسباء.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، في قوله : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) قال : كان لهم في ذلك آية ، أن الناس يُغزَون ويُتَخَطَّفون وهم آمنون.
وقوله : ( أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ ) يقول : أفبالشرك بالله يقرّون بألوهة الأوثان بأن يصدّقوا ، وبنعمة الله التي خصهم بها من أن جعل بلدهم حرما آمنا يكفرون ، يعني بقوله : (يكفرون) : يجحدون.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُون ) : أي بالشرك( وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ) : أي يجحدون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) }
يقول تعالى ذكره : ومن أظلم أيها الناس ممن اختلق على الله كذبا ، فقالوا إذا فعلوا فاحشة : وجدنا عليها آباءنا ، والله أمرنا بها ، والله لا يأمر بالفحشاء( أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ ) يقول : أو كذّب بما بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من توحيده ، والبراءة من الآلهة والأنداد لما جاءه هذا الحقّ من عند الله( أليس في جهنم مثوى للكافرين ) يقول : أليس في النار مَثْوًى ومَسْكَن لمن كفر بالله ، وجحد توحيده وكذّب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا تقرير ، وليس باستفهام ، إنما هو كقول جرير :
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكبَ المَطايا... وأنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاح (1)
__________
(1) البيت لجرير بن عطية الخطفي ، من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان (ديوانه طبعة الصاوي بالقاهرة ص 98) والمطايا : جمع مطية ، وهي الإبل يركب مطاها ، أي ظهرها في الأسفار. والراح : جمع راحة اليد. والبيت شاهد عند المؤلف وعند أبي عبيدة على أن المراد بالاستفهام فيه التقرير ، لا حقيقة الاستفهام. والتقرير : حمل المخاطب على أن يتقرر بالمسئول عنه ويعترف به. قال أبو عبيدة في مجاز القرآن ، الورقة (186 - أ) عند قوله تعالى : (أليس في جهنم مثوى للكافرين) مجازه مجاز الإيجاب ، لأن هذه الألف تكون للاستفهام والإيجاب ، فهي هنا للإيجاب. وقال جرير : " ألستم ... " البيت ، فهذا لم يشك ، ولكن أوجب لهم أنهم كذلك ، ولولا ذلك ما أثابوه ، والرجل يعاتب عبده ويقول : أفعلت كذا ؟ وهو لا يشك. ويروى أن عبد الملك لما سمع هذا البيت أجابه بقوله : نعم نحن كذلك.

(20/62)


وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

إنما أخبر أن للكافرين بالله مَسْكَنا في النار ، ومنزلا يَثْوُونَ فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) }
يقول تعالى ذكره : والذين قاتلوا هؤلاء المفترين على الله كذبا من كفار قريش ، المكذّبين بالحقّ لما جاءهم فينا ، مُبتغين بقتالهم علوّ كلمتنا ، ونُصرة ديننا(لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) يقول : لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة ، وذلك إصابة دين الله الذي هو الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم(وَإنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ) يقول : وإن الله لمع من أحسن من خلقه ، فجاهد فيه أهل الشرك ، مُصَدّقا رسوله فيما جاء به من عند الله بالعون له ، والنصرة على من جاهد من أعدائه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينَا) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) فقلت له : قاتلوا فينا ، قال : نعم.
آخر تفسير سورة العنكبوت

(20/63)


تفسير سورة الروم

(20/64)


الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)

بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) }
قال أبو جعفر : قد بيَّنا فيما مضى قبلُ معنى قوله : (الم) وذكرنا ما فيه من أقوال أهل التأويل ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله : ( غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ ) اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار(غُلِبَتِ الرُّومُ) بضمّ الغين ، بمعنى أن فارس غَلَبت الروم.
وروي عن ابن عمر وأبي سعيد في ذلك ما حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن الحسن الجفريّ ، عن سليط ، قال : سمعت ابن عمر يقرأ(الم غَلَبَتِ الرُّومُ) فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ، على أيّ شيء غَلَبوا ؟ قال : على ريف الشام.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا الذي لا يجوز غيره( الم غُلِبَتِ الرُّومُ ) بضم الغين ؛ لإجماع الحجة من القرّاء عليه. فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : غلبت فارس الروم( فِي أَدْنَى الأرْضِ ) من أرض الشام إلى أرض فارس( وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ ) يقول : والروم من بعد غلبة فارس إياهم(سَيَغْلِبُونَ) فارس( فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ) غلبتهم فارس(وَمِنْ بَعْدُ) غلبتهم إياها ، يقضي في خلقه ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ويظهر من شاء منهم على من أحبّ إظهاره عليه( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ) يقول : ويوم يغلب الروم فارس يفرح المؤمنون بالله ورسوله بنصر الله إياهم على المشركين ، ونُصْرة الروم على فارس(يَنْصُرُ) اللهُ تعالى ذكره(مَنْ يَشاءُ) من خلقه ، على من يشاء ، وهو نُصرة المؤمنين على المشركين ببدر ، (وَهُوَ العَزِيزُ) يقول : والله الشديد في انتقامه من أعدائه ، لا يمنعه من ذلك مانع ، ولا يحول بينه وبينه حائل ،

(20/66)


(الرَّحِيمُ) بمن تاب من خلقه ، وراجع طاعته أن يعذّبه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن سعيد - أو ، سعيد الثعلبي ، الذي يقال له أبو سعد من أهل طَرَسُوس - قال : ثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن سفيان بن سعيد الثوري ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : كان المسلمون يُحبون أن تغلب الرومُ أهل الكتاب ، وكان المشركون يحبون أن يغلب أهل فارس ؛ لأنهم أهل أوثان ، قال : فذكروا ذلك لأبي بكر ، فذكره أبو بكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : " أَمَا إنَّهُمْ سَيُهْزَمُونَ " ، قال : فذكر ذلك أبو بكر للمشركين ، قال : فقالوا : أفنجعل بيننا وبينكم أجلا فإن غلبوا كان لك كذا وكذا ، وإن غلبنا كان لنا كذا وكذا ، وقال : فجعلوا بينهم وبينه أجلا خمس سنين ، قال : فمضت فلم يُغلَبوا ، قال : فذكر ذلك أبو بكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له : " أَفَلا جَعَلْتَهُ دُونَ العَشْرِ " ، قال سعيد : والبضْع ما دون العشر ، قال : فَغَلَبَ الروم ، ثم غلبت ، قال : فذلك قوله : ( الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ) قال : البضع : ما دون العشر ، ( لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ) قال سفيان : فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، قال : ثنا موسى بن هارون البرديّ ، قال : ثنا معن بن عيسى ، قال : ثنا عبد الله بن عبد الرحمن ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت( الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ ...) الآية ، ناحب أبو بكر قريشا ، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له : إني قد ناحبتهم ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : " هَلا احْتَطْتَ ، فإنَّ البِضْع ما بينَ الثلاثِ إلى التِّسْعِ " . قال الجمحي : المناحبة : المراهنة ، وذلك قبل أن يكون تحريم ذلك.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( الم غُلِبَتِ الرُّومُ ...) إلى قوله : ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ) قال : قد مضى ، كان ذلك في أهل فارس والروم ، وكانت فارس قد غلبتهم ، ثم غلبت الروم بعد ذلك ، ولقي نبيّ الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب ، يوم التقت

(20/68)


الروم وفارس ، فنصر الله النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين على مشركي العرب ، ونصر أهل الكتاب على مشركي العجم ، ففرح المؤمنون بنصر الله إياهم ، ونصر أهل الكتاب على العجم. قال عطية : فسألت أبا سعيد الخدريّ عن ذلك ، فقال : التقينا مع محمد رسول صلى الله عليه وسلم ومشركي العرب ، والتقت الروم وفارس ، فنصرنا الله على مشركي العرب ، ونصر الله أهل الكتاب على المجوس ، ففرحنا بنصر الله إيانا على المشركين ، وفرحنا بنصر الله أهل الكتاب على المجوس ، فذلك قوله : ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ).
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : ( الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ) غلبتهم فارس ، ثم غلبت الروم.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود ، قال : قد مضى( الم غُلِبَتِ الرُّومُ ).
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد( الم غُلِبَتِ الرُّومُ ...) إلى قوله : ( أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) قال : ذَكَر غَلَبة فارس إياهم ، وإدالة الروم على فارس ، وفرحَ المؤمنون بنصر الروم أهل الكتاب على فارس من أهل الأوثان.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن عكرِمة ، أن الروم وفارس اقتتلوا في أدنى الأرض ، قالوا : وأدنى الأرض يومئذ أَذْرعات ، بها التقَوا ، فهُزِمت الروم ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة ، فشقَّ ذلك عليهم ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميُّون من المجوس على أهل الكتاب من الروم ، ففرح الكفار بمكة وشمتوا ، فلقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنكم أهل الكتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أمِّيُّون ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ

(20/69)


عليكم ، فأنزل الله( الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ...) الآيات ، فخرج أبو بكر الصدّيق إلى الكفَّار ، فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا ؟ فلا تفرحوا ، ولا يقرّنّ الله أعينكم ، فوالله ليظهرنّ الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقام إليه أُبيّ بن خلف ، فقال : كذبت يا أبا فضيل ، فقال له أبو بكر رضي الله عنه : أنت أكذب يا عدوّ الله ، فقال : أناحبك عشر قلائص مني ، وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمتُ ، وإن ظهرت فارس على الروم غرمتَ إلى ثلاث سنين ، ثم جاء أبو بكر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : " مَا هَكذَا ذَكَرْتُ ، إنَّما البِضْعُ ما بينَ الثَّلاثِ إلى التِّسْعِ ، فَزَايِدْهُ فِي الخَطَرِ ، ومادّه فِي الأجَلِ " . فخرج أبو بكر فلقي أُبَيًّا ، فقال : لعلك ندمت ، فقال : لا فقال : أزايدك في الخطر ، وأمادّك في الأجل ، فاجعلها مئة قلوص لمئة قلوص إلى تسع سنين ، قال : قد فعلت.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرِمة قال : كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال ، فدعاها كسرى ، فقال : إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك ، فأشيري عليّ أيهم أستعمل ، فقالت : هذا فلان ، وهو أروغ من ثعلب ، وأحذر من صرد ، وهذا فرخان ، وهو أنفذ من سنان ، وهذا شهربراز ، وهو أحلم من كذا ، فاستعمل أيهم شئت ، قال : إني قد استعملت الحليم ، فاستعمل شهربراز ، فسار إلى الروم بأهل فارس ، وظهر عليهم ، فقتلهم ، وخرّب مدائنهم ، وقطع زيتونهم. قال أبو بكر : فحدّثت بهذا الحديث عطاء الخراساني فقال : أما رأيت بلاد الشام ؟ قلت : لا قال : أما إنك لو رأيتها لرأيت المدائن التي خرّبت ، والزيتون الذي قُطع ، فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته.
قال عطاء الخراساني : ثني يحيى بن يعمر ، أن قيصر بعث رجلا يُدعى قطمة بجيش من الروم ، وبعث كسرى شهربراز ، فالتقيا بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى الشام إليكم ، فلقيت فارس الروم ، فغلبتهم فارس ، ففرح بذلك كفار قريش ، وكرهه المسلمون ، فأنزل الله(الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ ...) الآيات ، ثم ذكر مثل حديث عكرِمة ، وزاد : فلم يزل شهربراز يطؤهم ، ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج ، ثم مات

(20/70)


كسرى ، فبلغهم موته ، فانهزم شهربراز وأصحابه ، وأوعبت عليهم الروم عند ذلك ، فأتبعوهم يقتلونهم قال : وقال عكرِمة في حديثه : لما ظهرت فارس على الروم جلس فرخان يشرب ، فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى ، فبلغت كسرى ، فكتب إلى شهربُراز : إذا أتاك كتابي فابعث إليّ برأس فرخان. فكتب إليه : أيها الملك ، إنك لن تجد مثل فرخان ، إن له نكاية وضربا في العدوّ ، فلا تفعل. فكتب إليه : إن في رجال فارس خلفا منه ، فعجِّل إليّ برأسه ، فراجعه ، فغضب كسرى ، فلم يجبه ، وبعث بريدا إلى أهل فارس ، إني قد نزعت عنكم شهربراز ، واستعملت عليكم فرخان ، ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة : إذا ولي فرخان المُلك ، وانقاد له أخوه ، فأعطه هذه ؛ فلما قرأ شهربراز الكتاب قال : سمعا وطاعة ، ونزل عن سريره وجلس فرخان ، ودفع الصحيفة إليه ، قال : ائتوني بشهربراز ، فقدّمه ليضرب عنقه ، قال : لا تعجل حتى أكتب وصيتي ، قال : نعم ، فدعا بالسَّفط ، فأعطاه ثلاث صحائف ، وقال : كل هذا راجعت فيك كسرى ، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد ، فردَّ الملك ، وكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم : إن لي إليك حاجة لا يحملها البريد ، ولا تبلغها الصحف ، فالقني ، ولا تلقني إلا في خمسين روميا ، فإني ألقاك في خمسين فارسيا ، فأقبل قيصر في خمس مئة ألف رومي ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق ، وخاف أن يكون قد مكر به ، حتى أتته عيونه أن ليس معه إلا خمسون رجلا ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ، مع كل واحد منهما سكين ، فدعيا ترجمانا بينهما ، فقال شهربراز : إن الذين خرّبوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا ، وإن كسرى حسدنا ، فأراد أن أقتل أخي ، فأبيت ، ثم أمر أخي أن يقتلني ، فقد خلعناه جميعا ، فنحن نقاتله معك. فقال : قد أصبتما ، ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السرّ بين اثنين ، فإذا جاوز اثنين فشا. قال : أجل ، فقتلا الترجمان جميعا بسكينيهما ، فأهلك الله كسرى ، وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُدَيبية ، ففرح ومن معه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( الم غُلِبَتِ الرُّومُ ) قال : غلبتهم فارس على أدنى الشام( وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ...) الآية ، قال : لما أنزل الله هؤلاء الآيات صدّق المسلمون ربهم ، وعلموا أن الروم سيظهرون على فارس ، فاقتمروا هم والمشركون خمس قلائص خمس قلائص ، وأجلوا بينهم خمس سنين ،

(20/71)


فولي قمار المسلمين أبو بكر رضي الله عنه ، وولي قمار المشركين أُبيّ بن خلف ، وذلك قبل أن ينهى عن القمار ، فحل الأجل ، ولم يظهر الروم على فارس ، وسأل المشركون قمارهم ، فذكر ذلك أصحاب النبيّ للنبي صلى الله عليه وسلم قال : " لَمْ تكُونُوا أَحِقَّاءَ أنْ تُؤجِّلُوا دُونَ العَشْرِ ، فإنَّ البِضْعَ ما بينَ الثلاثِ إلى العَشْرِ ، وَزَايِدوهُمْ فِي القِمار ، وَمادُّوهُمْ فِي الأجَلِ " ، ففعلوا ذلك ، فأظهر الله الروم على فارس عند رأس البِضْع سنينَ من قمارهم الأوّل ، وكان ذلك مرجعه من الحديبية ، ففرح المسلمون بصلحهم الذي كان ، وبظهور أهل الكتاب على المجوس ، وكان ذلك مما شدّد الله به الإسلام وهو قوله : ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ...) الآية.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ في قوله : ( الم غُلِبَتِ الرُّومُ ...) إلى قوله : ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ) قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر الناس بمكة أن الروم ستغلب ، قال : فنزل القرآن بذلك ، قال : وكان المسلمون يحبون ظهور الروم على فارس ؛ لأنهم أهل الكتاب.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا المحاربي ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر ، عن عبد الله قال : كانت فارس ظاهرة على الروم ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ؛ لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت( الم غُلِبَتِ الرُّومُ ) إلى(فِي بِضْعِ سِنِينَ) قالوا : يا أبا بكر ، إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين ، قال : صدق. قالوا : هل لك أن نقامرك ؟ فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين ، فمضت السبع ولم يكن شيء ، ففرح المشركون بذلك ، وشقّ على المسلمين ، فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم : فقال : " مَا بضْعُ سِنينَ عنْدَكُمْ ؟ " قالوا : دون العشر. قال : " اذْهَبْ ، فزَايِدْهُمْ وازْدَدْ سَنَتَيْن " قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المسلمون بذلك ، فأنزل الله : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ ...) إلى قوله : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ).
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن الأعمش ومطر ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : مضت الروم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( الم

(20/72)


غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ ) قال : أدنى الأرض : الشأم ، (وَهُمْ منْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) قال : كانت فارس قد غلبت الروم ، ثم أديل الروم على فارس ، وذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الرُّوم سَتَغْلِبُ فارِسًا " ، فقال المشركون : هذا مما يتخرّص محمد ، فقال أبو بكر : تناحبونني ؟ - والمناحبة : المجاعلة - قالوا : نعم. فناحبهم أبو بكر ، فجعل السنين أربعا أو خمسا ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الْبِضْعَ فِيمَا بَيْنَ الثَّلاثِ إِلَى التِّسْعِ ، فارْجعْ إلى القَوْمِ ، فَزِدْ فِي المُناحَبَةِ " ، فرجع إليهم. قالوا : فناحبهم فزاد. قال : فغَلبت الروم فارسا ، فذلك قول الله : ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ ) يوم أديلت الروم على فارس.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا معاوية بن عمرو ، عن أبي إسحاق الفزاري ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس( الم غُلِبَتِ الرُّومُ ) قال : غُلبت وغَلبت ؛ فأما الذين قرءوا ذلك : (غَلَبَتِ الرُّومُ) بفتح الغين ، فإنهم قالوا : نزلت هذه الآية خبرا من الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن غلبة الروم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن سليمان - يعني الأعمش - عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : لما كان يوم ظهر الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ، فنزلت(الم غُلِبَتِ الرُّومُ ) على فارس.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن حماد ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن سليمان ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : لما كان يوم بدر ، غلبت الروم على فارس ، ففرح المسلمون بذلك ، فأنزل الله(الم غُلِبَتِ الرُّومُ ...) إلى آخر الآية.
حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : لما كان يوم بدر ، ظهرت الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ؛ لأنهم أهل كتاب ، فأنزل الله( الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ ) قال : كانوا قد غلبوا قبل ذلك ، ثم قرأ حتى بلغ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ).
وقوله : (فِي أَدْنَى الأرْضِ) قد ذكرت قول بعضهم فيما تقدّم قبل ، وأذكر

(20/73)


قول من لم يذكر قوله.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : (فِي أَدْنَى الأرْضِ) يقول : في طرف الشام. ومعنى قوله أدنى : أقرب ، وهو أفعل من الدنوّ والقرب. وإنما معناه : في أدنى الأرض من فارس ، فترك ذكر فارس استغناء بدلالة ما ظهر من قوله : (فِي أَدْنَى الأرْضِ) عليه منه. وقوله : (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) يقول : والروم من بعد غلبة فارس إياهم سيغلبون فارس.
وقوله : (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) مصدر من قول القائل : غلبته غلبة ، فحذفت الهاء من الغلبة. وقيل : من بعد غلبهم ، ولم يقل : من بعد غلبتهم للإضافة ، كما حذفت من قوله : (وَإقامِ الصَّلاةِ) للإضافة. وإنما الكلام : وإقامة الصلاة.
وأما قوله : (سَيَغْلِبُونَ) فإن القرّاء أجمعين على فتح الياء فيها ، والواجب على قراءة من قرأ : (الم غَلَبَتِ الرُّومُ) بفتح الغين ، أن يقرأ قوله : (سَيُغْلَبُونَ) بضم الياء ، فيكون معناه : وهم من بعد غلبتهم فارس سيغلبهم المسلمون ، حتى يصحّ معنى الكلام ، وإلا لم يكن للكلام كبير معنى إن فتحت الياء ، لأن الخبر عما قد كان يصير إلى الخبر عن أنه سيكون ، وذلك إفساد أحد الخبرين بالآخر.
وقوله : (فِي بضْعِ سِنِينَ) قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في معنى البضع فيما مضى ، وأتينا على الصحيح من أقوالهم ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقد حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا خلاد بن أسلم الصفار ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قلت له : ما البضع ؟ قال : زعم أهل الكتاب أنه تسع أو سبع.
وأما قوله : ( لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ) فإن القاسم حدثنا ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج قوله : (لِلهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ) دولة فارس على الروم ، (وَمِنْ بَعْدُ) دولة الروم على فارس.
وأما قوله : ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ ) فقد ذكرنا الرواية في تأويله قبل ، وبيَّنا معناه.

(20/74)


القول في تأويل قوله تعالى : { وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ

(20/74)


أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) }
يقول تعالى ذكره : وعد الله جلّ ثناؤه ، وعد أن الروم ستغلب فارس من بعد غلبة فارس لهم ، ونصب(وَعْدَ اللهِ) على المصدر من قوله : ( وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ) لأن ذلك وعد من الله لهم أنهم سيغلبون ، فكأنه قال : وعد الله ذلك المؤمنين وعدا ، (لا يُخلف اللهُ وَعْدَهُ) يقول تعالى ذكره : إن الله يفي بوعده للمؤمنين أن الروم سيغلبون فارس ، لا يخلفهم وعده ذلك ؛ لأنه ليس في مواعيده خلف(ولكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يعْلَمُونَ) يقول : ولكنّ أكثر قريش الذين يكذّبون بأن الله منجز وعده المؤمنين ، من أن الروم تغلب فارس ، لا يعلمون أن ذلك كذلك ، وأنه لا يجوز أن يكون في وعد الله إخلاف.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) }
يقول تعالى ذكره : يعلم هؤلاء المكذّبون بحقيقة خبر الله أن الروم ستغلب فارس ، ظاهرا من حياتهم الدنيا ، وتدبير معايشهم فيها ، وما يصلحهم ، وهم عن أمر آخرتهم ، وما لهم فيه النجاة من عقاب الله هنالك ، غافلون ، لا يفكرون فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا أبو تُمَيْلة يحيى بن واضح الأنصاري ، قال : ثنا الحسين بن واقد ، قال : ثنا يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : (يَعْلَمُونَ ظاهِرا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا) يعني معايشهم ، متى يحصدون ومتى يغرسون.
حدثني أحمد بن الوليد الرمليّ ، قال ثنا : عمرو بن عثمان بن عمر ، عن عاصم بن عليّ ، قال : ثنا أبو تميلة ، قال : ثنا ابن واقد ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : (يعلَمونَ ظاهِرًا من الحَياةِ الدُّنْيا) قال : متى يَزْرَعون ، متى يَغْرِسون.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثني شرقي ، عن عكرمة في قوله : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال : هو السراج أو نحوه.

(20/75)


حدثنا أبو هريرة محمد بن فراس الضبعي ، قال : ثنا أبو قُتَيبة ، قال : ثنا شعبة ، عن شرقي ، عن عكرِمة في قوله : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) : قال السراجون.
حدثنا أحمد بن الوليد الرملي ، قال : ثنا سليمان بن حرب ، قال : ثنا شعبة ، عن شرقي ، عن عكرِمة في قوله : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال : الخرازون والسراجون.
حدثنا بشر بن آدم ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال : معايشهم ، وما يصلحهم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله.
حدثني بشر بن آدم ، قال : ثنا الضحاك بن مخلد ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن عكرِمة ، وعن منصور ، عن إبراهيم( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال : معايشهم.
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : ( ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يعني الكفار ، يعرفون عمران الدنيا ، وهم في أمر الدين جهال.
حدثني ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن عكرِمة( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال : معايشهم ، وما يصلحهم.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم مثله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) من حرفَتها وتصرّفها وبغيتها ، ( وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ).
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن ، قال : يعلمون متى زرعهم ، ومتى حصادهم.
قال : ثنا حفص بن راشد الهلالي ، عن شعبة ، عن شرقي ، عن عكرِمة( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال : السراج ونحوه.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : صرفها في معيشتها.

(20/76)


أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) (1) .
وقال آخرون في ذلك ما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد في قوله : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال : تسترق الشياطين السمع ، فيسمعون الكلمة التي قد نزلت ينبغي لها أن تكون في الأرض ، قال : ويرمون بالشُّهب ، فلا ينجو أن يحترق ، أو يصيبه شرر منه ، قال : فيسقط فلا يعود أبدا ، قال : ويرمي بذاك الذي سمع إلى أوليائه من الإنس ، قال : فيحملون عليه ألف كذبة ، قال : فما رأيت الناس يقولون : يكون كذا وكذا ، قال : فيجيء الصحيح منه كما يقولون ، الذي سمعوه من السماء ، ويعقبه من الكذب الذي يخوضون فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) }
يقول تعالى ذكره : أولم يتفكَّر هؤلاء المكذّبون بالبعث يا محمد من قومك في خلق الله إياهم ، وأنه خلقهم ولم يكونوا شيئا ، ثم صرفهم أحوالا وقارات حتى صاروا رجالا فيعلموا أن الذي فعل ذلك قادر أن يعيدهم بعد فنائهم خلقا جديدا ، ثم يجازي المحسن منهم بإحسانه ، والمسيء بإساءته لا يظلم أحدا منهم ، فيعاقبه بجرم غيره ، ولا يحرم أحدا منهم جزاء عمله ، لأنه العدل الذي لا يجور( مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ) إلا بالعدل ، وإقامة الحقّ ، (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) يقول : وبأجل مؤقت مسمى ، إذا بلغت ذلك الوقت أفنى ذلك كله ، وبدّل الأرض غير الأرض والسموات ، وبرزوا لله الواحد القهَّار ، وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم جاحدون منكرون ؛ جهلا منهم بأن معادهم إلى الله بعد فنائهم ، وغفلة منهم عن الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا
__________
(1) كذا في النسخ ، ولم يذكر التفسير ، ولعله سقط من قلم الناسخ ، أو لعله كلمة " نحوه " أو " مثله " ، وكثيرًا ما يتركها.

(20/77)


أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)

أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) }
يقول تعالى ذكره : أولم يسر هؤلاء المكذّبون بالله ، الغافلون عن الآخرة من قريش في البلاد التي يسلكونها تجرا ، فينظروا إلى آثار الله فيمن كان قبلهم من الأمم المكذّبة ، كيف كان عاقبة أمرها في تكذيبها رسلها ، فقد كانوا أشدّ منهم قوّة ، (وَأَثَارُوا الأرْضَ) : يقول : واستخرجوا الأرض ، وحرثوها وعمروها أكثر مما عمر هؤلاء ، فأهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم رسلهم ، فلم يقدروا على الامتناع ، مع شدّة قواهم مما نزل بهم من عقاب الله ، ولا نفعتهم عمارتهم ما عمروا من الأرض ، إذ(جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَينَاتِ) من الآيات ، فكذّبوهم ، فأحلّ الله بهم بأسه ، (فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ) بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله ، وجحودهم آياته ، (وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بمعصيتهم ربهم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : (وَأَثَارُوا الأرْضَ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ) قال : ملكوا الأرض وعمروها.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(وَأَثَارُوا الأرْضَ) قال : حرثوها.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(أَولَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضَ ...) إلى قوله : (وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوها) كقوله : (وَآثارًا فِي الأرْضِ) ، وقوله : (وَعَمَرُوها) أكثر مما عمر هؤلاء(وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالْبَيِّناتِ).
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) }
يقول تعالى ذكره : ثم كان آخر أمر من كفر من هؤلاء الذين أثاروا الأرض

(20/78)


اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)

وعمروها ، وجاءتهم رسلهم بالبينات بالله ، وكذّبوا رسلهم ، فأساءوا بذلك من فعلهم.
(السُّوأَى) : يعني الخُلَّة التي هي أسوأ من فعلهم ؛ أما في الدنيا ، فالبوار والهلاك ، وأما في الآخرة فالنار لا يخرجون منها ، ولا هم يستعتبون.
وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى ) : الذين أشركوا السوءَى : أي النار.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى ) يقول : الذين كفروا جزاؤهم العذاب.
وكان بعض أهل العربية يقول : السوأى في هذا الموضع : مصدر ، مثل البُقوى ، وخالفه في ذلك غيره فقال : هي اسم.
وقوله : (أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ) يقول : كانت لهم السوأى ، لأنهم كذّبوا في الدنيا بآيات الله ، (وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ). يقول : وكانوا بحجج الله وهم أنبياؤه ورسله يسخرون.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره : الله تعالى يبدأ إنشاء جميع الخلق منفردا بإنشائه من غير شريك ولا ظهير ، فيحدثه من غير شيء ، بل بقدرته عزّ وجل ، ثم يعيد خلقا جديدا بعد إفنائه وإعدامه ، كما بدأه خلقا سويا ، ولم يك شيئا(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يقول : ثم إليه من بعد إعادتهم خلقا جديدا يردّون ، فيحشرون لفصل القضاء بينهم و( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) }
يقول تعالى ذكره : ويوم تجيء الساعة التي فيها يفصل الله بين خلقه ، وينشر

(20/79)


فيها الموتى من قبورهم ، فيحشرهم إلى موقف الحساب(يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) يقول : ييأس الذين أشركوا بالله ، واكتسبوا في الدنيا مساوئ الأعمال من كلّ شرّ ، ويكتئبون ويتندمون ، كما قال العجاج :
يا صَاحِ هلْ تعْرِفُ رَسمًا مُكْرَسا... قالَ نَعَمْ أعْرِفُهُ وأبْلَسا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (يُبْلِسُ). قال : يكتئب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي في النار.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ) قال : المبلس : الذي قد نزل به الشرّ ، إذا أبلس الرجل ، فقد نزل به بلاء.
وقوله : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ ) يقول تعالى ذكره : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) لم يكن لهؤلاء المجرمين الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم(مِن شُرَكَائِهِمْ) الذين كانوا يتبعونهم ، على ما دعوهم إليه من الضلالة ، فيشاركونهم في الكفر بالله ، والمعاونة على أذى رسله ، (شُفَعَاءُ) يشفعون لهم عند الله ، فيستنقذوهم من عذابه ، ( وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ) يقول : وكانوا بشركائهم في الضلالة والمعاونة في الدنيا على أولياء الله(كَافِرِينَ) ، يجحدون ولايتهم ، ويتبرّءون منهم ، كما قال جلّ ثناؤه : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً
__________
(1) البيتان من الرجز للعجاج (ديوانه طبع ليبسج سنة 1903 ص 31) ومعاني القرآن للفراء (الورقة 247) و (مجاز القرآن لأبي عبيدة الورقة 186 - ب) قال أبو عبيدة في تفسير قوله تعالى : (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) : أي يتندمون ، ويكأبون وييأسون قال * " يا صاح ... " البيتان. وفي (اللسان : كرس) : ورسم مكرس (اسم مفعول) ومكرس (اسم فاعل) وهو الذي قد بعرت فيه الإبل وبولت ، فركب بعضه بعضًا. وقال في (بلس) : أبلس الرجل : قطع به ، عن ثعلب. وأبلس : سكت ؛ وأبلس من رحمة الله : أي يئس وندم.

(20/80)


وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)

فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) }
يقول تعالى ذكره : ويوم تجيء الساعة التي يحشر فيها الخلق إلى الله يومئذ ، يقول في ذلك اليوم(يَتَفَرَّقُونَ) يعني : يتفرّق أهل الإيمان بالله ، وأهل الكفر به ، فأما أهل الإيمان ، فيؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، وأما أهل الكفر فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، فهنالك يميز الله الخبيث من الطيِّب.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة في قوله : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ) قال : فرقة والله ، لا اجتماع بعدها(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول : وعملوا بما أمرهم الله به ، وانتهوا عما نهاهم عنه( فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ) يقول : فهم في الرياحين والنباتات الملتفة ، وبين أنواع الزهر في الجنان يُسرون ، ويلذّذون بالسماع وطيب العيش الهنيّ ، وإنما خصّ جلّ ثناؤه ذكر الروضة في هذا الموضع ، لأنه لم يكن عند الطرفين أحسن منظرا ، ولا أطيب نشرا من الرياض ، ويدل على أن ذلك كذلك قول أعشي بني ثعلبة :
ما رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الحُسْن مُعْشِبَةٌ... خَضْرَاءُ جادَ عَلَيْها مُسْبِلٌ هَطِلُ
يُضَاحكُ الشَّمس منها كَوْكَبٌ شَرِقٌ... مُؤَزَرٌ بعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
يَوْما بأطْيَبَ مِنْها نَشْرَ رائحَةٍ... وَلا بأحْسَنَ مِنْها إذ دَنا الأصُلُ (1)
__________
(1) الأبيات الثلاثة لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ص 57) والرواية فيه : من رياض الحزن. وهو المرتفع من الأرض. وأورد أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 187) البيت الأول والثالث. والرواية فيه : من رياض الحزم. وهو بمعنى الحزن أي الغليظ من الأرض. قال أبو عبيدة : (في روضة يحبرون) : مجازه يفرحون ويسرون. وليس شيء أحسن عند العرب من الرياض المعشبة ، ولا أطيب ريحًا ؛ قال الأعشى : " ما روضة ... " إلخ. اهـ. قلت : ورواية الحزن أو الحزم أحسن الروايات ، ورياض الحزن أطيب من رياض المنخفضات ، لأن الريح تهب عليها فتهيج رائحتها ، ولأن الأقدام لا تطؤها ، ولأن الشمس تضربها من جميع نواحيها فيزكو زرعها وينضر. والمسبل : المطر. والهطل : الغزير ، والكوكب النور والشرق : الزاهي والمؤزر الذي حوله نبات آخر ، فهو كالإزار له. والمكتهل : الذي قد بلغ وتم. والنشر : تضوع الرائحة. والأصل : جمع أصيل ، وهو وقت الغروب أو قبيله بقليل ، حين تصفر الشمس وتدنو من الغروب.

(20/81)


فأعلمهم بذلك تعالى ، أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات من المنظر الأنيق ، واللذيذ من الأراييح ، والعيش الهنيّ فيما يحبون ، ويسرُون به ، ويغبطون عليه. و(الحبرة) عند العرب : السرور والغبطة ، قال العجاج :
فالْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أعْطَى الحَبَرْ... مَوَالِيَ الحَقَّ إِنَّ المَوْلى شَكَرْ (1)
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : فهم في روضة يكرمون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) قال : يكرمون.
وقال آخرون : معناه : ينعمون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (يُجْبَرُونَ) قال : ينعمون.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة في قوله : (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) قال : ينعمون.
وقال آخرون : يلذذون بالسماع والغناء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن موسى الحرسي ، قال : ثني عامر بن يساف ، قال : سألت يحيى بن أبي كثير ، عن قول الله : (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) قال : الحبرة : اللذة والسماع.
__________
(1) البيتان للعجاج ( ديوانه طبع ليبسج سنة 1903 ص 15 ) من أرجوزة يمدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر ) و ( مجاز القرآن لأبي عبيدة الورقة 187 - ب ) وقد أورده عطفًا على قول الأعشى الذي قبله. وفي ( اللسان : حبر ) : الحبر ( بفتح فسكون والحبر ) بفتحتين والحبرة ( بفتح فسكون ) والحبور : كله السرور. قال العجاج : " فالحمد لله ... " البيت من قولهم : حبرني هذا الأمر حبرًا ، أي سرني ، وقد حرك الباء فيهما ، وأصله التسكين. وأحبرني الأمر : سرني ويروى الشبر ا هـ .

(20/82)


حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي ، قال : ثنا ضمرة بن ربيعة ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير في قوله : (يُحْبَرُونَ) قال : السماع في الجنة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، مثله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن عامر بن يساف ، عن يحيى بن أبي كثير ، مثله.
وكل هذه الألفاظ التي ذكرنا عمن ذكرناها عنه تعود إلى معنى ما قلنا.

(20/83)


وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) }
يقول تعالى ذكره : وأما الذين جحدوا توحيد الله ، وكذبوا رسله ، وأنكروا البعث بعد الممات والنشور للدار الآخرة ، فأولئك في عذاب الله محضرون ، وقد أحضرهم الله إياها ، فجمعهم فيها ليذوقوا العذاب الذي كانوا في الدنيا يكذّبون (1) .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) }
يقول تعالى ذكره : فسبحوا الله أيها الناس : أي صلوا له(حِينَ تُمْسُونَ) ، وذلك صلاة المغرب ، (وَحِينَ تُصْبَحُونَ) ، وذلك صلاة الصبح(وَلهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) يقول : وله الحمد من جميع خلقه دون غيره(فِي السَّمَوَاتِ) من سكانها من الملائكة ، (وَالأرْضَ) من أهلها ، من جميع أصناف خلقه فيها ، (وَعَشِيًّا) يقول : وسَبِّحوه أيضا عشيا ، وذلك صلاة العصر(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) يقول : وحين تَدْخلون في وقت الظهر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رَزين ، قال :
__________
(1) كذا في الأصل بحذف ضمير الربط. أي يكذبون به.

(20/83)


سأل نافع بن الأزرق ابن عباس : هل نجد (1) ميقات الصلوات الخمس في كتاب الله ؟ قال : نعم(فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) المغرب(وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر(وَعَشِيًّا) العصر(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهر ، قال : ( وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رَزين ، قال : سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الصلوات الخمس في القرآن ، قال : نعم ، فقرأ(فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) قال : صلاة المغرب(وَحِينَ تُصْبِحُونَ) قال : صلاة الصبح(وَعَشِيًّا) قال : صلاة العصر(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر ، ثم قرأ : ( وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ).
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن الحكم بن أبي عياض ، عن ابن عباس ، قال : جمعت هاتان الآيتان مواقيت الصلاة(فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) قال : المغرب والعشاء(وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر(وَعَشِيًّا) العصر(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهر.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن الحكم ، عن أبي عياض ، عن ابن عباس ، بنحوه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن ليث ، عن الحكم ، عن أبي عياض ، عن ابن عباس في قوله : (فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ...) إلى قوله : (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) قال : جمعت الصلوات(فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) المغرب والعشاء(وَحِينَ تُصْبِحُونَ) صلاة الصبح(وَعَشِيًّا) صلاة العصر(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا إسحاق بن سليمان الرازي ، عن أبي سنان ، عن ليث ، عن مجاهد(فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) المغرب والعشاء(وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر(وَعَشِيًّا) العصر(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهر ، وكلّ سجدة في القرآن فهي صلاة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) لصلاة المغرب(وَحِينَ تُصْبِحُونَ) لصلاة الصبح(وَعشَيًّا) لصلاة العصر
__________
(1) (هل تجد) : ساقطة من الأصل ، وأوردها الشوكاني في تفسيره فتح القدير (4 : 114) وسقط منه بعدها كلمة " ميقات " التي أوردها المؤلف هنا .

(20/84)


يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

(وَحِينَ تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر أربع صلوات.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ) قال : (حِينَ تُمْسُونَ) : صلاة المغرب ، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) : صلاة الصبح ، وعشيا : صلاة العصر ، وحين تظهرون : صلاة الظهر.
القول في تأويل قوله تعالى : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) }
يقول تعالى ذكره : صَلّوا في هذه الأوقات التي أمركم بالصلاة فيها أيها الناس ، الله الذي يخرج الحيّ من الميت ، وهو الإنسان الحيّ من الماء الميت ، ويخرج الماء الميت من الإنسان الحيّ(ويُحيي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) فينبتها ، ويخرج زرعها بعد خرابها وجدوبها(وَكَذَلكَ تُخْرَجُونَ) يقول : كما يحيي الأرض بعد موتها ، فيخرج نباتها وزرعها ، كذلك يحييكم من بعد مماتكم ، فيخرجكم أحياء من قبوركم إلى موقف الحساب.
وقد بيَّنا فيما مضى قبل تأويل قوله : ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) ، وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع ، غير أنا نذكر بعض ما لم نذكر من الخبر هنالك إن شاء الله.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) قال : يخرج من الإنسان ماء ميتا (1) فيخلق منه بشرا ، فذلك الميت من الحي ، ويخرج الحي من الميت ، فيعني بذلك أنه يخلق من الماء بشرًا فذلك الحي من الميت.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، عن الحسن قوله : ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا جرير ، وأبو معاوية عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن
__________
(1) قوله " ماء ميتًا " بحسب الظاهر للأعين المجردة ؛ فأما بعد اختراع المجهر المكبر ، فقد علم أن ماء الرجل ليس بميت. والله سبحانه يخرج النبات الحي من الأرض الميتة ، وأمثلة المفسرين القدماء تحتاج إلى تحقيق.

(20/85)


وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)

عبد الله( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ) قال : النُّطْفة ماء الرجل ميتة وهو حيّ ، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) }
يقول تعالى ذكره : ومن حُججه على أنه القادر على ما يشاء أيها الناس من إنشاء وإفناء ، وإيجاد وإعدام ، وأن كل موجود فخلقه خلقة أبيكم من تراب ، يعني بذلك خلق آدم من تراب ، فوصفهم بأنه خلقهم من تراب ، إذ كان ذلك فعله بأبيهم آدم كنحو الذي قد بيَّنا فيما مضى من خطاب العرب من خاطبت بما فعلت بسلفه من قولهم : فعلنا بكم وفعلنا.
وقوله : (ثُمَّ إِذَا أنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ) يقول : ثم إذا أنتم معشر ذرّية من خلقناه من تراب(بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ) ، يقول : تتصرفون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَمِنْ آياتِهِ أنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) خلق آدم عليه السلام من تراب(ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ) يعني : ذرّيته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) }
يقول تعالى ذكره : ومن حججه وأدلته على ذلك أيضا خلقه لأبيكم آدم من نفسه زوجة ليسكن إليها ، وذلك أنه خلق حوّاء من ضلع من أضلاع آدم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) خلقها لكم من ضلع من أضلاعه.
وقوله : (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) يقول : جعل بينكم بالمصاهرة والختونة مودة تتوادّون بها ، وتتواصلون من أجلها ، (وَرَحْمَةً) رحمكم بها ، فعطف بعضكم بذلك على بعض(إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يقول تعالى ذكره : إن في فعله

(20/86)


وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)

ذلك لعبرا وعظات لقوم يتذكرون في حجج الله وأدلته ، فيعلمون أنه الإله الذي لا يُعجزه شيء أراده ، ولا يتعذّر عليه فعل شيء شاءه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) }
يقول تعالى ذكره : ومن حججه وأدلته أيضا على أنه لا يُعجزه شيء ، وأنه إذا شاء أمات من كان حيا من خلقه ، (ثُمَّ إذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) وأعاده كما كان قبل إماتته إياه خلقه السموات والأرض من غير شيء أحدث ذلك منه ، بل بقدرته التي لا يمتنع معها عليه شيء أراده(وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) يقول : واختلاف منطق ألسنتكم ولغاتها(وَأَلْوَانِكُمْ) يقول : واختلاف ألوان أجسامكم(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ للْعالِمِينَ) يقول : إن في فعله ذلك كذلك لعبرا وأدلة لخلقه الذين يعقلون أنه لا يعييه إعادتهم لهيئتهم التي كانوا بها قبل مماتهم من بعد فنائهم ، وقد بيَّنا معنى(الْعَالِمِينَ) فيما مضى قبل.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) }
يقول تعالى ذكره : ومن حججه عليكم أيها القوم ، تقديره الساعات والأوقات ، ومخالفته بين الليل والنهار ، فجعل الليل لكم سكنا تسكنون فيه ، وتنامون فيه ، وجعل النهار مضيئا لتصرّفكم في معايشكم والتماسكم فيه من رزق ربكم(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) يقول تعالى ذكره : إن في فعل الله ذلك كذلك ، لعبرا وذكرى وأدلة على أن فاعل ذلك لا يُعجزه شيء أراده(لِقَوْمٍ يِسْمَعُونَ) مواعظ الله ، فيتعظون بها ، ويعتبرون فيفهمون حجج الله عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) }
يقول تعالى ذكره : ومن حججه(يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا) لكم إذا كنتم سفْرا ، أن

(20/87)


تُمطروا فتتأذّوا به(وطَمَعًا) لكم ، إذا كنتم في إقامة ، أن تمطروا ، فتحيوا وتخصبوا(وَيُنزلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً) يقول : وينزل من السما مطرا ، فيحيي بذلك الماء الأرض الميتة ؛ فتنبت ويخرج زرعها بعد موتها ، يعني جدوبها ودروسها(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ) يقول : إن في فعله ذلك كذلك لعبرا وأدلة(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) عن الله حججه وأدلته.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، فى قوله : ( وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ) قال : خوفا للمسافر ، وطمعا للمقيم. واختلف أهل العربية في وجه سقوط " أن " في قوله : ( يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ) فقال بعض نحويي البصرة : لم يذكر هاهنا " أن " ؛ لأن هذا يدلّ على المعنى ، وقال الشاعر :
ألا أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرَ الوَغَى... وأنْ أشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَل أنْتَ مُخْلِدي (1)
قال : وقال :
لَوْ قُلْتُ ما فِي قَوْمِها لَمْ تِيثَمِ... يَفْضُلُها في حَسَبٍ وَمِيسمِ (2)
__________
(1) البيت لطرفة بن العبد البكري من معلقته (مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة الحلبي ص 317). ورواية البيت عند البصريين أحضر بالرفع ، لأنه لما أضمر (أن) قبله ذهب عملها ، لأنها لا تعمل عندهم وهي مضمرة إلا في المواضع العشرة المخصوصة. وعند الكوفيين أحضر بالنصب ، لأنها وإن أضمرت فكأنها موجودة لقوة الدلالة عليها ؛ فكأنه قال : أن أحضر. والوغى : الحرب. وأصله أصوات المحاربين فيها. يقول : أيها الإنسان الذي يلومني على شهودي الحرب ، وتحصيل اللذات ، هل تخلدني في الدنيا إذا كففت عن الحرب ؟ وقوله تعالى : (ومن آياته يريكم البرق ...) إلخ إما أن يتعلق (من آياته) بـ (يريكم) ، فيكون في موضع نصب ، ومن لابتداء الغاية أو " يريكم " على إضمار (أن) كما قال طرفة : " ألا أيهذا ... " البيت برفع أحضر ، كرواية البصريين ، والتقدير : أن أحضر ، فلما حذف (أن) ارتفع الفعل ، فيكون التقدير : ومن آياته إراءتكم إياكم البرق .
(2) البيت من الرجز لحكيم بن معية الربعي التميمي ، وهو راجز إسلامي كان في زمن العجاج ، وقد نسبه إليه سيبويه في الكتاب (خزانة الأدب الكبرى للبغدادي 2 : 311). وأنشده الفراء في معاني القرآن عند قوله تعالى : (من الذين هادوا يحرفون الكلم) على أحد وجهين وذلك من كلام العرب أن يضمروا (مَنْ بفتح الميم) في مبتدأ الكلام (بمن بكسر الميم) ، فيقولون : منا يقول ذاك ومنا لا يقوله ؛ وذلك أن (من بالكسر) بعض لما هي منه فلذلك أدت عن المعنى المتروك ؛ قال الله تعالى : (وما منا إلا له مقام معلوم) وقال (وإن منكم إلا واردها). ولا يجوز إضمار (من) بالفتح في شيء من الصفات (حروف الجر) إلا على هذا الذي نبأتك به ، وقد قالها الشاعر في (في) ولست أشتهيها. قال : لو قلت ... البيت. وإنما جاز لك لأنك تجد معنى من (بالكسر) من أنه بعض ما أضيفت إليه ألا ترى أنك تقول : فينا الصالحون ، وفينا دون ذلك ، فكأنك قلت : منا. وقال الفراء في قوله تعالى (ومن آياته يريكم البرق). فمن أضمر (أن) فهي موضع اسم مرفوع ، كما قال : (ومن آياته منامكم) فإذا حذفت أن ، جعلت من (بالكسر) مؤدية عن اسم متروك يكون الفعل (في) صلة له ، كقول الشاعر " وما الدهر إلا تارتان ... " إلخ البيت. كأن أراد : فمنها ساعة أموتها ، وساعة أعيشها. وكذلك ، ومن آياته آية للبرق ، وآية لكذا. وإن شئت : يريكم من آياته البرق ، فلا تضمر أن ولا غيره. ا هـ .

(20/88)


وقال : يريد ما في قومها أحد ، وقال بعض نحويي الكوفيين : إذا أظهرت " أن " فهي في موضع رفع ، كما قال : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ - وَمَنَامُكُمْ) فإذا حذفت جعلت(مِنْ) مؤدّية عن اسم متروك ، يكون الفعل صلة ، كقول الشاعر :
وَما الدَّهْرُ إلا تارَتانِ فَمِنْهُما... أموتُ وأُخْرَى أبْتَغي العَيْش أَكْدحُ (1)
كأنه أراد : فمنهما ساعة أموتها ، وساعة أعيشها ، وكذلك : (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ) آية البرق ، وآية لكذا ، وإن شئت أردت : ويريكم من آياته البرق ، فلا تضمر " وأن " ولا غيره. وقال بعض من أنكر قول البصري : إنما ينبغي أن تحذف " أن " من الموضع الذي يدلّ على حذفها ، فأما في كلّ موضع فلا فأما مع أحضر الوغى ، فلما كان : زجرتك أن تقوم ، وزجرتك لأنْ تقوم ، يدلّ على الاستقبال جاز حذف " أن " ؛ لأن الموضع معروف لا يقع في كلّ الكلام ، فأما قوله : ومن آياته أنك قائم ، وأنك تقوم ، وأن تقوم ، فهذا الموضع لا يحذف ، لأنه لا يدلّ على شيء واحد.
والصواب من القول في ذلك أن " من " في قوله : (وَمِنْ آياتِهِ) تدل على المحذوف ، وذلك أنها تأتي بمعنى التبعيض. وإذا كانت كذلك ، كان معلوما أنها تقتضي البعض ، فلذلك تحذف العرب معها الاسم ؛ لدلالتها عليه.
__________
(1) البيت لتميم بن أبي مقبل ، وهو شاعر إسلامي (خزانة الأدب الكبرى للبغدادي) 2 : 308 (وهو شاهد على أن جملة أموت صفة لموصوف محذوف أي تارة أموت فيها أو أموتها ، وتارة أخرى أبتغي العيش فيها. هكذا قدره سيبويه. وقال الفراء في (معاني القرآن ، الورقة 247 ) : كأنه أراد : فمنها ساعة أموتها ، وساعة أعيشها. وكذلك : ومن آياته آية للبرق ، وآية لكذا ، وإن شئت : يريكم من آياته البرق ، فلا تضمر (أن) ولا غيره. ا هـ . وأنشد البيت الزجاج في تفسيره ، عند قوله تعالى : (من الذين هادوا يحرفون الكلم) أي قوم يحرفون ، كهذا البيت. والمعنى منهما : تارة أموت فيها. فحذف تارة ، وأقام الجملة التي هي صفة نائبة عنها ... إلخ.

(20/89)


وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) }

(20/89)


وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

يقول تعالى ذكره : ومن حججه أيها القوم على قُدرته على ما يشاء ، قيام السماء والأرض بأمره خضوعا له بالطاعة بغير عمد ترى( ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) يقول : إذا أنتم تخرجون من الأرض ، إذا دعاكم دعوة مستجيبين لدعوته إياكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ) قامتا بأمره بغير عمد( ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) قال : دعاهم فخرجوا من الأرض.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (إِذَا أنتُمْ تَخْرُجُونَ) يقول : من الأرض.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) }
يقول تعالى ذكره : من في السموات والأرض من ملك وجنّ وإنس عبيد وملك(كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) يقول : كلّ له مطيعون ، فيقول قائل : وكيف قيل(كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) وقد علم أن أكثر الإنس والجنّ له عاصون ؟ فنقول : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فنذكر اختلافهم ، ثم نبين الصواب عندنا في ذلك من القول ، فقال بعضهم : ذلك كلام مخرجه مخرج العموم ، والمراد به الخصوص ، ومعناه : (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) في الحياة والبقاء والموت ، والفناء والبعث والنشور ، لا يمتنع عليه شيء من ذلك ، وإن عصاه بعضهم في غير ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وَمِنْ آيَاتِهِ أن تَقُومَ السَّماءُ والأرْضُ بِأمْرِهِ ...) إلى(كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) يقول : مطيعون ، يعني الحياة والنشور والموت ، وهم عاصون له فيما سوى

(20/90)


ذلك من العبادة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) بإقرارهم بأنه ربهم وخالقهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) : أي مطيع مقرٌّ بأن الله ربه وخالقه.
وقال آخرون : هو على الخصوص ، والمعنى : (وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) من ملك وعبد مؤمن لله مطيع دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس. قال : أخبرنا ابن وهب. قال : قال ابن زيد في قوله : (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) قال : كلّ له مطيعون ، المطيع : القانت. قال : وليس شيء إلا وهو مطيع ، إلا ابن آدم ، وكان أحقهم أن يكون أطوعهم لله. وفي قوله : (وَقُومُوا لِلهِ قانِتِينَ).
قال : هذا في الصلاة. لا تتكلموا في الصلاة ، كما يتكلم أهل الكتاب في الصلاة. قال : وأهل الكتاب يمشي بعضهم إلى بعض في الصلاة. قال : ويتقابلون في الصلاة ، فإذا قيل لهم في ذلك ، قالوا : لكي تذهب الشحناء من قلوبنا ، تسلم قلوب بعضنا لبعض ، فقال الله : وقوموا لله قانتين لا تزولوا كما يزولون. قانتين : لا تتكلموا كما يتكلمون. قال : فأما ما سوى هذا كله في القرآن من القنوت فهو الطاعة ، إلا هذه الواحدة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ، وهو أن كلّ من في السماوات والأرض من خلق لله مطيع في تصرّفه فيما أراد تعالى ذكره ، من حياة وموت ، وما أشبه ذلك ، وإن عصاه فيما يكسبه بقوله ، وفيما له السبيل إلى اختياره وإيثاره على خلافه.
وإنما قلت : ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك ؛ لأن العصاة من خلقه فيما لهم السبيل إلى اكتسابه كثير عددهم ، وقد أخبر تعالى ذكره عن جميعهم أنهم له قانتون ، فغير جائز أن يخبر عمن هو عاص أنه له قانت فيما هو له عاص. وإذا كان ذلك كذلك ، فالذي فيه عاص هو ما وصفت ، والذي هو له قانت ما بينت.
وقوله : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) يقول تعالى ذكره : والذي له هذه الصفات تبارك وتعالى ، هو الذي يبدأ الخلق من غير أصل فينشئه ويوجده ، بعد أن لم

(20/91)


يكن شيئا ، ثم يفنيه بعد ذلك ، ثم يعيده ، كما بدأه بعد فنائه ، وهو أهون عليه.
اختلف أهل التأويل في معنى قوله : (وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ) فقال بعضهم : معناه : وهو هين عليه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن سعيد العطار ، عن سفيان ، عمن ذكره ، عن منذر الثوري ، عن الربيع بن خيثم(وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ) قال : ما شيء عليه بعزيز.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) يقول : كلّ شيء عليه هين.
وقال آخرون : معناه : وإعادة الخلق بعد فنائهم أهون عليه من ابتداء خلقهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : (وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ) قال : يقول : أيسر عليه.
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) قال : الإعادة أهون عليه من البداءة ، والبداءة عليه هين.
حدثني ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرِمة قرأ هذا الحرف ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) قال : تعجب الكفار من إحياء الله الموتى ، قال : فنزلت هذه الآية : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) إعادة الخلق أهون عليه من إبداء الخلق.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا غندر ، عن شعبة ، عن سماك ، عن عكرِمة ، بنحوه. إلا أنه قال : إعادة الخلق أهون عليه من ابتدائه.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْه) : يقول : إعادته أهون عليه من بدئه ، وكلّ على الله هين. وفي بعض القراءة : (وكلٌ على الله هين).
وقد يحتمل هذا الكلام وجهين ، غير القولين اللذين ذكرت ، وهو أن يكون معناه :

(20/92)


وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، وهو أهون على الخلق ؛ أي إعادة الشيء أهون على الخلق من ابتدائه. والذي ذكرنا عن ابن عباس في الخبر الذي حدثني به ابن سعد قول أيضا له وجه.
وقد وجَّه غير واحد من أهل العربية قول ذي الرمة :
أخي قَفَرَاتٍ دَبَّيَتْ فِي عظامه... شُفافات أعْجاز الكَرَى فهوَ أخْضَعَ (1)
إلى أنه بمعنى خاضع. وقول الآخر :
لَعَمْرُكَ إنَّ الزِّبْرَقانَ لَباذِلٌ... لَمعْروفِه عِنْدَ السِّنِينَ وأفْضَلُ
كَرِيمٌ لَه عَنْ كُلّ ذَمّ تَأَخُّرٌ... وفِي كُلّ أسْبابِ المَكارِمِ أوَّلُ (2)
إلى أنه بمعنى : وفاضل. وقول معن :
لَعَمْرُكَ ما أْدِري وإنّي لأوْجَلُ... على أيِّنا تَعْدُو المَنِيَّةُ أوَّلُ (3)
إلى أنه بمعنى : وإني لوجل. وقول الآخر :
تَمَنَّى مُرَيْءُ القَيْسِ مَوْتي وإنْ أمُتْ... فَتِلكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيها بأوْحَدِ (4)
__________
(1) البيت في ديوان ذي الرمة (طبع جامعة كيمبردج سنة 1919 ص 348). قال في شرحه : شفافات : بقايا أعجاز الكرى ، أواخر النوم ، فاستعار له المنهل. فكأنه قد سكر ، فهو أخضع.
(2) البيتان لم أقف على قائلهما. والزبرقان بن بدر من سادات بني تميم. والسنون جمع سنة ، والمراد بها الجدب والقحط. والشاهد في قول الشاعر " وأفضل " فإنه بمعنى " فاضل " ولا تفضيل فيه ، كما قال المؤلف : على أنه يمكن تخريج البيت على معنى التفضيل ، كما يأتي في الشواهد الأخرى ، أي وهو أفضل من غيره على كل حال.
(3) البيت لمعن بن أوس المزني (ذيل الأمالي لأبي علي القالي ص 218). واستشهد به المؤلف على أن قوله : " لأوجل " : أي لوجل ، وانظر شرح البيت وإعرابه في خزانة الأدب الكبرى للبغدادي (3 : 505 - 506).
(4) البيت لمالك بن القين الخزرجي الأنصاري ، حققه الأستاذ عبد العزيز الميمني في شرح ذيل الأمالي ص 104 (وهو من ثلاثة أبيات كتب بها يزيد بن عبد الملك إلى أخيه هشام وقد بلغه أنه يتمنى موته. وقيل : كتب بها الوليد إلى أخيه سليمان) كما في مروج الذهب للمسعودي (ورواية صدر البيت الأول مخالفة لما في ذيل الأمالي ص 218) والأبيات الثلاثة هي : تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ
فَمَا عَيْشُ مَنْ يَرْجُو رَدَايَ بِضَائرِي ... وَمَا عَيْشُ مَنْ يَرْجُو رَدَايَ بِمُخْلَدِ
فَقُلْ للَّذِي يَبْغي خِلافَ الَّذِي مَضَى ... تَجَهَّزْ لأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدِ
وقوله : " خلاف الذي مضى " : يريد : أن يخلف على ميراثه أو محله. وقد استشهد المؤلف على أن قوله " بأوحد " معناه واحد ، مثل قول الله تعالى : (وهو أهون عليه) : أي هين عليه ، فالصيغة وإن كانت صيغة أفعل التي للتفضيل إلا أنه لا تفضيل هنا ، وإنما هو لمجرد الوصف بدون تفضيل. وإنما ذكر يزيد هذه الأبيات على سبيل التمثل بها وليست من شعره. قال القالي : فرد عليه هشام بيتين وهما : وَمَنْ لا يُغْمِض عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ ... وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهُوَ عَاتِبُ
وَمَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ ... يَجِدْهَا وَلا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ
ثم قال : فرد عليه يزيد بقصيدة معن بن أوس التي يقول فيها : لَعَمْرُكَ ما أدْرِي وَإِنّي لأَوْجَلُ ... عَلى أينا تَعْدُو المَنِيَّةُ أوَّلُ
وقد بين البغدادي في خزانة الأدب الكبرى (500 - 502) أن هذا الشاهد وما ماثله يمكن أن يحمل على التفضيل لا على مجرد الوصف ، فراجعه ثمة.

(20/93)


إلى أنه بمعنى : لست فيها بواحد. وقول الفرزدق :
إنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّماءَ بَنى لَنا... بَيْتا دَعائمُهُ أعَزُّ وأطْوَلُ (1)
إلى أنه بمعنى : عزيزة طويلة.
قالوا : ومنه قولهم في الأذان : الله أكبر ؛ بمعنى : الله كبير ؛ وقالوا : إن قال قائل : إن الله لا يوصف بهذا ، وإنما يوصف به الخلق ، فزعم أنه وهو أهون على الخلق ، فإن الحجة عليه قول الله : (وكانَ ذلكَ على الله يَسِيرًا) ، وقوله : (وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُما) أي : لا يثقله حفظهما.
وقوله : (وَلَهُ المَثَلُ الأعْلَى) يقول : ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض ، وهو أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له ، ليس كمثله شيء ، فذلك المثل الأعلى ، تعالى ربنا وتقدّس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : (وَلَهُ المَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَوَاتِ) يقول : ليس كمثله شيء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (وَلَهُ المَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَوَاتِ والأرْضِ) مثله أنه لا إله إلا هو ، ولا ربّ غيره.
__________
(1) البيت للفرزدق (ديوانه طبعة الصاوي بالقاهرة ص 714) وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 187 - ب) قال أبو عبيدة : أي عزيزة طويلة. فإن احتج فقال : إن الله عز وجل لا يوصف بهذا ، وإنما يوصف الخلق ، فزعم أن (وهو أهون عليه) على الخلق ؛ فإن الحجة عليه قول الله عز وجل : (وكان ذلك على الله يسيرًا). وفي آية أخرى : (ولا يئوده حفظهما) أي لا يثقله.

(20/94)


ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)

وقوله : (وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) يقول تعالى ذكره : وهو العزيز في انتقامه من أعدائه ، الحكيم في تدبيره خلقه ، وتصريفهم فيما أراد من إحياء وإماتة ، وبعث ونشر ، وما شاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) }
يقول تعالى ذكره : مثل لكم أيها القوم ربكم مثلا من أنفسكم ، (هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) يقول : من مماليككم من شركاء ، فيما رزقناكم من مال ، فأنتم فيه سواء وهم. يقول : فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء في عبادتكم إياي ، وأنتم وهم عبيدي ومماليكي ، وأنا مالك جميعكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ) قال : مثل ضربه الله لمن عدل به شيئا من خلقه ، يقول : أكان أحدكم مشاركا مملوكه في فراشه وزوجته ؟! فكذلكم الله لا يرضى أن يعدل به أحد من خلقه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ) قال : هل تجد أحدا يجعل عبده هكذا في ماله ، فكيف تعمد أنت وأنت تشهد أنهم عبيدي وخلقي ، وتجعل لهم نصيبا في عبادتي ، كيف يكون هذا ؟ قال : وهذا مثل ضربه الله لهم ، وقرأ : ( كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ).
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) فقال بعضهم : معنى ذلك : تخافون هؤلاء الشركاء ، مما ملكت أيمانكم ، أن يرثوكم أموالكم من بعد وفاتكم ، كما يرث بعضكم بعضا.

(20/95)


بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)

* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قال : في الآلهة ، وفيه يقول : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تخافون هؤلاء الشركاء مما ملكت أيمانكم أن يقاسموكم أموالكم ، كما يقاسم بعضكم بعضا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت عمران ، قال : قال أبو مجلز : إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك ، وليس له ذلك ، كذلك الله لا شريك له.
وأولى القولين بالصواب في تأويل ذلك ، القول الثاني ؛ لأنه أشبههما بما دلّ عليه ظاهر الكلام ، وذلك أن الله جلّ ثناؤه وبخ هؤلاء المشركين ، الذين يجعلون له من خلقه آلهة يعبدونها ، وأشركوهم في عبادتهم إياه ، وهم مع ذلك يقرّون بأنها خلقه وهم عبيده ، وغيرهم بفعلهم ذلك ، فقال لهم : هل لكم من عبيدكم شركاء فيما خوّلناكم من نعمنا ، فهم سواء ، وأنتم في ذلك تخافون أن يقاسموكم ذلك المال الذي هو بينكم وبينهم ، كخيفة بعضكم بعضا أن يقاسمه ما بينه وبينه من المال شركة ، فالخيفة التي ذكرها تعالى ذكره بأن تكون خيفة مما يخاف الشريك من مقاسمة شريكه المال الذي بينهما إياه ، أشبه من أن تكون خيفة منه بأن يرثه ؛ لأن ذكر الشركة لا يدلّ على خيفة الوراثة ، وقد يدلّ على خيفة الفراق والمقاسمة.
وقوله : (كَذَلكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يقول تعالى ذكره : كما بيَّنا لكم أيها القوم حججنا في هذه الآيات من هذه السورة على قدرتنا على ما نشاء من إنشاء ما نشاء ، وإفناء ما نحبّ ، وإعادة ما نريد إعادته بعد فنائه ، ودللنا على أنه لا تصلح العبادة إلا للواحد القهار ، الذي بيده ملكوت كلّ شيء كذلك نبين حججنا في كل حقّ لقوم يعقلون ، فيتدبرونها إذا سمعوها ، ويعتبرون فيتعظون بها.
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) }
يقول تعالى ذكره : ما ذلك كذلك ، ولا أشرك هؤلاء المشركون في عبادة الله

(20/96)


فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)

الآلهة والأوثان ؛ لأن لهم شركاء فيما رزقهم الله من ملك أيمانهم ، فهم وعبيدهم فيه سواء ، يخافون أن يقاسموهم ما هم شركاؤهم فيه ، فرضوا لله من أجل ذلك بما رضوا به لأنفسهم ، فأشركوهم في عبادته ، ولكن الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله ، اتبعوا أهواءهم ، جهلا منهم لحقّ الله عليهم ، فأشركوا الآلهة والأوثان في عبادته ، (فَمَنْ يهْدِي مَنْ أضَلَّ اللهُ) يقول : فمن يسدّد للصواب من الطرق ، يعني بذلك من يوفق للإسلام مَن أضلّ الله عن الاستقامة والرشاد(وَما لَهُمْ منْ ناصرِينَ) يقول : وما لمن أضلّ الله من ناصرين ينصرونه ، فينقذونه من الضلال الذي يبتليه به تعالى ذكره.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) }
يقول تعالى ذكره : فسدّد وجهك نحو الوجه الذي وجهك إليه ربك يا محمد لطاعته ، وهي الدين ، (حَنِيفًا) يقول : مستقيما لدينه وطاعته(فِطرةَ اللهِ التي فَطَر النَّاسَ عَلَيْهَا) يقول : صنعة الله التي خلق الناس عليها ونصبت " فطرة " على المصدر من معنى قوله : (فَأقِم وَجْهَكَ للدّينِ حَنِيفًا) وذلك أن معنى ذلك : فطر الله الناس على ذلك فطرة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَر النَّاسَ عَلَيْها) قال : الإسلام مُذ خلقهم الله من آدم جميعا ، يقرّون بذلك ، وقرأ : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ) قال : فهذا قول الله : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ) بعد.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(فِطْرَةَ اللهِ) قال : الإسلام.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا يونس بن أبي صالح ،

(20/97)


عن يزيد بن أبي مريم ، قال : مرّ عمر بمُعاذ بن جبل ، فقال : ما قوام هذه الأمة ؟ قال معاذ : ثلاث ، وهنّ المنجيات : الإخلاص ، وهو الفطرة(فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) ، والصلاة : وهي الملة ، والطاعة : وهي العصمة. فقال عمر : صدقت.
حدثني يعقوب ، قال : ثني ابن علية ، قال : ثنا أيوب ، عن أبي قلابة أن عمر قال لمعاذ : ما قوام هذه الأمة ؟ ثم ذكر نحوه.
وقوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) يقول : لا تغيير لدين الله ؛ أي لا يصلح ذلك ، ولا ينبغي أن يفعل.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللهِ) قال : لدينه.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ليث قال : أرسل مجاهد رجلا يقال له : قاسم ، إلى عكرِمة يسأله عن قول الله : (لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللهِ) إنما هو الدين ، وقرأ : (لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللهِ ذلكَ الدّينُ القَيِّمُ).
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا زيد بن حباب ، عن حسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرِمة(فطْرَةَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال : الإسلام.
قال : ثني أبي ، عن نضر بن عربي ، عن عكرمة(لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللهِ) قال : لدين الله.
قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : لدين الله.
قال : ثنا أبي ، عن عبد الجبار بن الورد ، عن القاسم بن أبي بزّة ، قال : قال مجاهد ، فسل عنها عكرِمة ، فسألته ، فقال عكرِمة : دين الله تعالى ما له أخزاه الله ؟! ألم يسمع إلى قوله : (فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) ؟
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) : أي لدين الله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا حفص بن غياث ، عن ليث ، عن عكرِمة ، قال :

(20/98)


مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

لدين الله.
قال : ثنا ابن عيينة ، عن حميد الأعرج ، قال : قال سعيد بن جُبَير(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) قال : لدين الله.
قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) قال : لدين الله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) قال : دين الله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن مسعر وسفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن إبراهيم ، قال : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) قال : لدين الله.
قال : ثنا أبي ، عن جعفر الرازي ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : لدين الله.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تغيير لخلق الله من البهائم ، بأن يخصي الفحول منها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن رجل ، سأل ابن عباس عن خصاء البهائم ، فكرهه ، وقال : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ).
قال : ثنا ابن عيينة ، عن حميد الأعرج ، قال : قال عكرِمة : الإخصاء.
قال : ثنا حفص بن غياث ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : الإخصاء.
وقوله : (ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ) يقول تعالى ذكره : إن إقامتك وجهك للدين حنيفا ، غير مغير ولا مبدّل ، هو الدين القيم ، يعني : المستقيم الذي لا عوج فيه عن الاستقامة من الحنيفية إلى اليهودية والنصرانية ، وغير ذلك من الضلالات والبدع المحدثة.
وقد وجَّه بعضهم معنى الدين في هذا الموضع إلى الحساب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو ليلى ، عن بريدة(ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ) قال : الحساب القيم.
(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يقول تعالى ذكره : ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الدين الذي أمرتك يا محمد به بقولي(فَأقمْ وَجْهَكَ للدِّينِ حَنِيفا) هو الدين الحقّ دون سائر الأديان غيره.
القول في تأويل قوله تعالى : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ

(20/99)


وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) }
يعني تعالى ذكره بقوله : (مُنِيِبِين إلَيْهِ) تائبين راجعين إلى الله مقبلين.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (مُنِيبينَ إلَيْهِ) قال : المنيب إلى الله : المطيع لله ، الذي أناب إلى طاعة الله وأمره ، ورجع عن الأمور التي كان عليها قبل ذلك ، كان القوم كفارا ، فنزعوا ورجعوا إلى الإسلام.
وتأويل الكلام : فأقم وجهك يا محمد للدين حنيفا ، منيبين إليه ، إلى الله ، فالمنيبون حال من الكاف التي في وجهك.
فإن قال قائل : وكيف يكون حالا منها ، والكاف كناية عن واحد ، والمنيبون صفة لجماعة ؟ قيل : لأن الأمر من الكاف كناية اسمه من الله في هذا الموضع أمر منه له ولأمته ، فكأنه قيل له : فأقم وجهك أنت وأمتك للدين حنيفا لله ، منيبين إليه.
وقوله : (واتَّقُوهُ) يقول جلّ ثناؤه : وخافوا الله وراقبوه ، أن تفرّطوا في طاعته ، وتركبوا معصيته(وَلا تَكُونَوا مِنَ المُشْرِكِينَ) يقول : ولا تكونوا من أهل الشرك بالله بتضييعكم فرائضه ، وركوبكم معاصيه ، وخلافكم الدين الذي دعاكم إليه.
وقوله : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا) يقول : ولا تكونوا من المشركين الذين بدّلوا دينهم ، وخالفوه ففارقوه(وكانوا شِيَعًا) يقول : وكانوا أحزابا فرقا كاليهود والنصارى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعا) : وهم اليهود والنصارى.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعا) إلى آخر الآية ، قال : هؤلاء يهود ، فلو وجِّه قوله : (مِنَ الِّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) إلى أنه خبر مستأنف منقطع عن قوله : (وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ) ، وأن معناه : (من الذين فرّقوا دِينَهُم وكانُوا شيَعا) أحزابا ، (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) كان وجها يحتمله الكلام.

(20/100)


وقوله : (كُلُّ حِزْبٍ بمَا لَديْهِمْ فَرِحُونَ) يقول : كل طائفة وفرقة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم الحقّ ، فأحدثوا البدع التي أحدثوا(بِمَا لَديْهم فَرِحُونَ) يقول : بما هم به متمسكون من المذهب ، فرحون مسرورون ، يحسبون أن الصواب معهم دون غيرهم.

(20/101)


وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) }
يقول تعالى ذكره : وإذا مسّ هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر ضرّ ، فأصابتهم شدة وجدوب وقحوط(دَعَوْا رَبَّهُمْ) يقول : أخلصوا لربهم التوحيد ، وأفردوه بالدعاء والتضرّع إليه ، واستغاثوا به(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ، تائبين إليه من شركهم وكفرهم(ثُمَّ إِذَا أذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) يقول : ثم إذا كشف ربهم تعالى ذكره عنهم ذلك الضرّ ، وفرّجه عنهم ، وأصابهم برخاء وخصب وسعة ، (إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يقول : إذا جماعة منهم(بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) يقول : يعبدون معه الآلهة والأوثان.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) }
يقول تعالى ذكره متوعدا لهؤلاء المشركين الذين أخبر عنهم أنه إذا كشف الضرّ عنهم كفروا به : ليكفروا بما أعطيناهم ، يقول : إذا هم بربهم يشركون ، كي يكفروا : أي يجحدوا النعمة التي أنعمتها عليهم ، بكشفي عنهم الضرّ الذي كانوا فيه ، وإبدالي ذلك لهم بالرخاء والخصب والعافية ، وذلك الرخاء والسعة هو الذي آتاهم تعالى ذكره : الذي قال : (بِمَا آتَيْنَاهُمْ) وقوله : (فَتَمَتَّعُوا) يقول : فتمتعوا أيها القوم ، بالذي آتيناكم من الرخاء والسعة في هذه الدنيا(فَسَوْف تَعْلَمُونَ) إذا وردتم على ربكم ما تلقون من عذابه ، وعظيم عقابه على كفركم به في الدنيا.
وقد قرأ بعضهم : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) بالياء ، بمعنى : ليكفروا بما آتيناهم ، فقد تمتعوا ، على وجه الخبر ، فسوف يعلمون.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ أَنزلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) }

(20/101)


وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)

يقول تعالى ذكره : أم أنزلنا على هؤلاء الذين يشركون في عبادتنا الآلهة والأوثان كتابا بتصديق ما يقولون ، وبحقيقة ما يفعلون(فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) يقول : فذلك الكتاب ينطق بصحة شركهم ، وإنما يعني جلّ ثناؤه بذلك : أنه لم ينزل بما يقولون ويفعلون كتابا ، ولا أرسل به رسولا وإنما هو شيء افتعلوه واختلقوه ؛ اتباعا منهم لأهوائهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : ( أَمْ أَنزلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ) يقول : أم أنزلنا عليهم كتابا فهو ينطق بشركهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) }
يقول تعالى ذكره : إذا أصاب الناس منا خصب ورخاء وعافية في الأبدان والأموال ، فرحوا بذلك ، وإن تصبهم منا شدّة من جدب وقحط وبلاء في الأموال والأبدان(بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيهمْ) يقول : بما أسلفوا من سيئ الأعمال بينهم وبين الله ، وركبوا من المعاصي(إذَا هُمْ يَقْنطُونَ) يقول : إذا هم ييأسون من الفرج ، والقنوط : هو الإياس ، ومنه قول حميد الأرقط.
قَدْ وَجَدُوا الحَجَّاجَ غَيرَ قَانِطِ (1)
وقوله : (إذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) هو جواب الجزاء ؛ لأن " إذا " نابت عن الفعل بدلالتها عليه ، فكأنه قيل : وإن تصبهم سيئة بما قدّمت أيديهم وجدتهم يقنطون ، أو تجدهم ، أو رأيتهم ، أو تراهم. وقد كان بعض نحويي البصرة يقول : إذا كانت " إذا " جوابا لأنها
__________
(1) البيت لحميد الأرقط (مجاز القرآن لأبي عبيدة ، الورقة 188 - ب) قال : (إذا هو يقنطون) : أي ييئسون ، قال حميد الأرقط : " قد وجدوا ... " البيت. وفي (اللسان : قنط) : القنوط : اليأس. وفي التهذيب : اليأس من الخير. وقيل : أشد اليأس من الشيء. وقنط يقنط ويقنط (كضرب ونصر) وقنط قنطًا كتعب فهو قنط ، وقرئ : (ولا تكن من القانطين). وأما قنط يقنط (بالفتح فيهما) وقنط يقنط (بالكسر فيهما) فإنما هو على الجمع بين اللغتين. كما قاله الأخفش.

(20/102)


أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)

متعلقة بالكلام الأوّل بمنزلة الفاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) }
يقول تعالى ذكره : أولم ير هؤلاء الذين يفرحون عند الرخاء يصيبهم والخصب ، وييأسون من الفرج عند شدّة تنالهم ، بعيون قلوبهم ، فيعلموا أن الشدّة والرخاء بيد الله ، وأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده فيوسعه عليه ، ويقدر على من أراد فيضيقه عليه(إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤمِنُونَ) يقول : إن في بسطه ذلك على من بسطه عليه ، وقدره على من قدره عليه ، ومخالفته بين من خالف بينه من عباده في الغنى والفقر ، لدلالة واضحة لمن صدّق حجج الله وأقرّ بها إذا عاينها ورآها.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فأعط يا محمد ذا القرابة منك حقه عليك من الصلة والبرّ ، والمسكين وابن السبيل ، ما فرض الله لهما في ذلك.
كما حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا غندر ، عن عوف ، عن الحسن(فآت ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسكينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) قال : هو أن توفيهم حقهم إن كان عند يسر ، وإن لم يكن عندك ؛ فقل لهم قولا ميسورا ، قل لهم الخير.
وقوله : ( ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره : إيتاء هؤلاء حقوقهم التي ألزمها الله عباده ، خير للذين يريدون الله بإتيانهم ذلك(وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) يقول : ومن يفعل ذلك مبتغيا وجه الله به ، فأولئك هم المنجحون ، المدركون طلباتهم عند الله ، الفائزون بما ابتغوا والتمسوا بإيتائهم إياهم ما آتوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) }
يقول تعالى ذكره : وما أعطيتم أيها الناس ، بعضكم بعضا من عطية ؛ لتزداد في

(20/103)


أموال الناس برجوع ثوابها إليه ، ممن أعطاه ذلك ، (فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ) ، يقول : فلا يزداد ذلك عند الله ، لأن صاحبه لم يعطه من أعطاه مبتغيا به وجهه(وَما آتَيْتمْ مِنْ زَكاةٍ) يقول : وما أعطيتم من صدقة تريدون بها وجه الله ، (فَأُوْلَئِكَ) يعني الذين يتصدّقون بأموالهم ، ملتمسين بذلك وجه الله(هُمُ المُضْعِفُونَ) يقول : هم الذين لهم الضعف من الأجر والثواب. من قول العرب : أصبح القوم مسمِنين معطِشين ، إذا سمنت إبلهم وعطشت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبا لِيَرْبُوَ فِي أمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ) قال : هو ما يعطي الناس بينهم بعضهم بعضا ، يعطي الرجل الرجل العطية ، يريد أن يعطى أكثر منها.
حدثنا ابن بشارة ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور بن صفية ، عن سعيد بن جُبَير(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبا لِيَرْبُوَ فِي أمْوالِ النَّاسِ) قال : هو الرجل يعطي الرجل العطية ليثيبه.
قال : ثنا يحيى ، قال ثنا سفيان ، عن منصور بن صفية ، عن سعيد بن جُبَير ، مثله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن منصور بن صفية ، عن سعيد بن جُبَير(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبا لِيَرْبُوَ فِي أموَال النَّاس فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ) قال : الرجل يعطي ليثاب عليه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبا لِيَرْبُو فِي أمْوَال النَّاسِ) قال : الهدايا.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : هي الهدايا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبا لِيَرْبُو فِي أمْوَالِ النَّاسِ) قال : يعطي ماله يبتغي أفضل منه.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن ابن أبي خالد ، عن إبراهيم ، قال :

(20/104)


هو الرجل يهدي إلى الرجل الهدية ؛ ليثيبه أفضل منها.
قال : ثنا محمد بن حميد المعمري ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : هو الرجل يعطي العطية ، ويهدي الهدية ، ليثاب أفضل من ذلك ، ليس فيه أجر ولا وزر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبا لِيرْبُوَ فِي أمْوَالِ النَّاس فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ) قال : ما أعطيت من شيء تريد مثابة الدنيا ، ومجازاة الناس ذاك الربا الذي لا يقبله الله ، ولا يجزي به.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبا لِيَرْبُوَ فِي أمْوَالِ النَّاسِ) فهو ما يتعاطى الناس بينهم ويتهادون ، يعطي الرجل العطية ؛ ليصيب منه أفضل منها ، وهذا للناس عامة.
وأما قوله : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) فَهذَا للنبيّ خاصة ، لم يكن له أن يعطي إلا لله ، ولم يكن يعطي ليعطى أكثر منه.
وقال آخرون : إنما عنى بهذا الرجل : يعطي ماله الرجل ليعينه بنفسه ، ويخدمه ، ويعود عليه نفعه ، لا لطلب أجر من الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ومحمد بن فضيل ، عن زكريا ، عن عامر(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبا لِيَرْبُوَ فِي أمْوَال النَّاسِ) قال : هو الرجل يلزق بالرجل ، فيخفّ له ويخدمه ، ويسافر معه ، فيجعل له ربح بعض ماله ليجزيه ، وإنما أعطاه التماس عونه ، ولم يرد وجه الله.
وقال آخرون : هو إعطاء الرجل ماله ليكثر به مال من أعطاه ذلك ، لا طلب ثواب الله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي حصين ، عن ابن عباس(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أمْوَال النَّاسِ) قال : ألم تر إلى الرجل يقول للرجل : لأموّلنك ، فيعطيه ، فهذا لا يربو عند الله ؛ لأنه يعطيه لغير الله ليثري ماله.
قال ثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : سمعت إبراهيم النخعي يقول في قوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أمْوَال النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللهِ) قال : كان هذا في الجاهلية ، يعطي أحدهم ذا القرابة

(20/105)


اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)

المال يكثر به ماله.
وقال آخرون : ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة ، وأما لغيره فحلال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبي روّاد ، عن الضحاك(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِبا لِيَرْبُوَ فِي أمْوَال النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ) هذا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، هذا الربا الحلال.
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك ؛ لأنه أظهر معانيه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة وبعض أهل مكة ، (لِيَرْبُو) بفتح الياء من يربو ، بمعنى : وما آتيتم من ربا ليربو ذلك الربا في أموال الناس ، وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة : (لِتَرْبُوا) بالتاء من تربوا وضمها ، بمعنى : وما آتيتم من ربا لتربوا أنتم في أموال الناس.
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار مع تقارب معنييهما ؛ لأن أرباب المال إذا أربوا ربا المال ، وإذا ربا المال فبإرباء أربابه إياه ربا ، فإذا كان ذلك كذلك ، فبأيّ القراءتين قرأ القارئ فمصيب.
وأما قوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضعِفُونَ) فإن أهل التأويل قالوا في تأويله نحو الذي قلنا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدون وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ) قال : هذا الذي يقبله الله ويضعفه لهم عشر أمثالها ، وأكثر من ذلك.
حدثنا عن عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، قال : قال ابن عباس قوله : (وَما آتيتُمْ مِنْ رِبا ليَرْبُوَ فِي أمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ) قال : هي الهبة ، يهب الشيء يريد أن يُثاب عليه أفضل منه ، فذلك الذي لا يربو عند الله ، لا يؤجر فيه صاحبه ، ولا إثم عليه(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) قال : هي الصدقة تريدون وجه الله(فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفونَ) قال معمر : قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ

(20/106)


ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) }
يقول تعالى ذكره للمشركين به ، معرّفهم قبح فعلهم ، وخبث صنيعهم : الله أيها القوم الذي لا تصلح العبادة إلا له ، ولا ينبغي أن تكون لغيره ، هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا ، ثم رزقكم وخوّلكم ، ولم تكونوا تملكون قبل ذلك ، ثم هو يميتكم من بعد أن خلقكم أحياء ، ثم يحييكم من بعد مماتكم لبعث القيامة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) للبعث بعد الموت.
وقوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) يقول تعالى ذكره : هل من آلهتكم وأوثانكم التي تجعلونهم لله في عبادتكم إياه شركاء من يفعل من ذلكم من شيء ، فيخلق ، أو يرزق ، أو يميت ، أو ينشر ، وهذا من الله تقريع لهؤلاء المشركين. وإنما معنى الكلام أن شركاءهم لا تفعل شيئا من ذلك ، فكيف يعبد من دون الله من لا يفعل شيئا من ذلك ، ثم برأ نفسه تعالى ذكره عن الفرية التي افتراها هؤلاء المشركون عليه بزعمهم أن آلهتهم له شركاء ، فقال جلّ ثناؤه(سبحانه) أي تنزيها لله وتبرئة(وَتَعالى) يقول : وعلوّا له(عَمَّا يُشْرِكُونَ) يقول : عن شرك هؤلاء المشركين به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) لا والله(سُبْحانَهُ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) يسبح نفسه إذ قيل عليه البهتان.
القول في تأويل قوله تعالى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) }
يقول تعالى ذكره : ظهرت المعاصي في برّ الأرض وبحرها بكسب أيدي الناس ما نهاهم الله عنه.

(20/107)


واختلف أهل التأويل في المراد من قوله : (ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ) فقال بعضهم : عنى بالبرّ ، الفلوات ، وبالبحر : الأمصار والقُرى التي على المياه والأنهار.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب قال : ثنا عثام ، قال : ثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد(وَإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ...) الآية ، قال : إذا وَلي سعى بالتعدّي والظلم ، فيحبس الله القطر ، فَـ(يُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ) قال : ثم قرأ مجاهد : (ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ ...) الآية ، قال : ثم قال : أما والله ما هو بحركم هذا ، ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة(ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ) قال : أما إني لا أقول بحركم هذا ، ولكن كلّ قرية على ماء جار.
قال : ثنا يزيد بن هارون ، عن عمرو بن فروخ ، عن حبيب بن الزبير ، عن عكرِمة(ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ) قال : إن العرب تسمي الأمصار بحرا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النَّاسِ) قال : هذا قبل أن يَبعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، امتلأت ضلالة وظلما ، فلما بعث الله نبيه رجع راجعون من الناس.
قوله : (ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ) أما البرّ فأهل العمود ، وأما البحر فأهل القرى والريف.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ) قال : الذنوب ، وقرأ(لِيُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا قرة ، عن الحسن في قوله : (ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النَّاسِ) قال : أفسدهم الله بذنوبهم ، في بحر الأرض وبرها بأعمالهم الخبيثة.
وقال آخرون : بل عنى بالبرّ : ظهر الأرض ، الأمصار وغيرها ، والبحر : البحر المعروف.

(20/108)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد(ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ) قال : في البرّ : ابن آدم الذي قتل أخاه ، وفي البحر : الذي كان يأخذ كلّ سفينة غصبا.
حدثني يعقوب ، قال : قال أبو بشر - يعني : ابن علية - : قال : سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قوله : (ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النَّاسِ) قال : بقتل ابن آدم ، والذي كان يأخذ كل سفينة غصبا.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية(ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرّ والبَحْرِ) قال : قلت : هذا البرّ ، والبحر أيّ فساد فيه ؟ قال : فقال : إذا قلّ المطر ، قل الغوص.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (ظَهَرَ الفَسادُ فِي البرّ) قال : قتل ابن آدم أخاه ، (وَالْبَحْر) قال : أخذ الملك السفن غصبا.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن الله تعالى ذكره ، أخبر أن الفساد قد ظهر في البرّ والبحر عند العرب في الأرض القفار ، والبحر بحران : بحر ملح ، وبحر عذب ، فهما جميعا عندهم بحر ، ولم يخصص جلّ ثناؤه الخبر عن ظهور ذلك في بحر دون بحر ، فذلك على ما وقع عليه اسم بحر عذبا كان أو ملحا. إذا كان ذلك كذلك ، دخل القرى التي على الأنهار والبحار.
فتأويل الكلام إذن إذ كان الأمر كما وصفت ، ظهرت معاصي الله في كل مكان من برّ وبحر(بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النَّاسِ) : أي بذنوب الناس ، وانتشر الظلم فيهما.
وقوله : (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) يقول جل ثناؤه : ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوا ، ومعصيتهم التي عصوا(لَعَلَّهُمْ يَرجِعُونَ) يقول : كي ينيبوا إلى الحقّ ، ويرجعوا إلى التوبة ، ويتركوا معاصي الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(20/109)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن الحسن(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قال : يتوبون.
قال : ثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يوم بدر لعلهم يتوبون.
قال : ثنا أبو أُسامة ، عن زائدة ، عن منصور ، عن إبراهيم(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قال : إلى الحقّ.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) : لعلّ راجعا أن يرجع ، لعل تائبا أن يتوب ، لعلّ مستعتبا أن يستعتب.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا قرة ، عن الحسن(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قال : يرجع من بعدهم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : (لِيُذِيقَهُمْ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار(لِيُذِيقَهُمْ) بالياء ، بمعنى : ليذيقهم الله بعض الذي عملوا ، وذُكر أن أبا عبد الرحمن السلمي قرأ ذلك بالنون على وجه الخبر من الله عن نفسه بذلك.

(20/110)


قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك : سيروا في البلاد ، فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله من قبلكم ، وكذّبوا رسلَه ، كيف كان آخر أمرهم ، وعاقبة تكذيبهم رُسلَ الله وكفرهم ، ألم نهلكهم بعذاب منا ، ونجعلهم عبرة لمن بعدهم ، (كان أكثرهم مشركين) ، يقول : فَعَلنا ذلك بهم ؛ لأن أكثرهم كانوا مشركين بالله مثلَهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) }
يقول تعالى ذكره : فوجِّه وجْهَك يا محمد ، نحو الوجه الذي وجَّهك إليه ربك(للدّين

(20/110)


مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)

القَيِّمِ) لطاعة ربك ، والمِلةِ المستقيمةِ التي لا اعوجاج فيها عن الحقِّ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره : من قبل مجيء يوم من أيام الله لا مردّ له لمجيئه ؛ لأن الله قد قضى بمجيئه فهو لا محالة جاء(يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) يقول : يوم يجيء ذلك اليوم يصدّع الناسُ ، يقول : يتفرّق الناس فرقتين من قولهم : صَدَعتُ الغنم صدعتين : إذا فرقتها فرقتين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (فَأقِمْ وَجْهَكَ للدِينِ القَيِّمِ) الإسلام( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) فريق في الجنة ، وفريق في السعير.
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) يقول : يتفرّقون.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (يَصَّدَّعُونَ) قال : يتفرّقون إلى الجنة ، وإلى النار.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) }
يقول تعالى ذكره : من كفر بالله فعليه أوزار كفره ، وآثام جحوده نِعَمَ ربه ، (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا) : يقول : ومن أطاع الله ، فعمل بما أمره به في الدنيا ، وانتهى عما نهاه عنه فيها(فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدونَ) يقول : فلأنفسهم يستعدون ، ويسوّون المضجع ليسلموا من عقاب ربهم ، وينجوا من عذابه ، كما قال الشاعر :
امْهِدْ لنفْسِكَ حانَ السُّقْمُ والتَّلَفُ... وَلا تُضَيِّعَنَّ نَفْسا مَا لَها خَلَفُ (1)
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) البيت لسليمان بن يزيد العدوي (مجاز القرآن لأبي عبيدة ، الورقة 189 - أ) قال في تفسير قوله تعالى : (فلأنفسهم يمهدون) : من (بفتح الميم) يقع على الواحد والاثنين والجميع. ومجازها هنا مجاز الجميع. ويمهد : أي يكسب ويعمل ويستعد. قال سليمان بن يزيد العدوي : امهد لنفسك ... " البيت وحان : قرب. والتلف : الموت. وفي اللسان (مهد) لنفسه يمهد مهدًا (كفتح) كسبب وعمل.

(20/111)


لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)

* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) قال : يسوّون المضاجع.
حدثنا ابن المثنى والحسين بن يزيد الطحان وابن وكيع وأبو عبد الرحمن العلائي ، قالوا : ثنا يحيى بن سليم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) قال : في القبر.
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : ثنا يحيى بن سليم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) قال : للقبر.
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : ثنا يحيى بن سليم ، قال : ثنا ابن أبي نجيح ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : (فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) قال : في القبر.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) }
يقول تعالى ذكره : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ... لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يقول : وعملوا بما أمرهم الله(مِنْ فَضْلِهِ) الذي وعد من أطاعه في الدنيا أن يجزيه يوم القيامة(إنَّهُ لا يُحِبُّ الكافِرِينَ) يقول تعالى ذكره : إنما خصّ بجزائه من فضله الذين آمنوا وعملوا الصالحات دون من كفر بالله ، إنه لا يحبّ أهل الكفر به. واستأنف الخبر بقوله : (إنَّه لا يُحِبُّ الكافِرِينَ) وفيه المعنى الذي وصفت.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) }
يقول تعالى ذكره : ومن أدلته على وحدانيته ، وحججه عليكم ، على أنه إله كلّ شيء(أنْ يُرْسِلَ الرّياحَ مُبَشِّراتٍ) بالغيث والرحمة(وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) يقول : ولينزل عليكم من رحمته ، وهي الغيث الذي يحيي به البلاد ، ولتجري السفن في البحار بها بأمره إياها(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يقول : ولتلتمسوا من أرزاقه ومعايشكم التي قسمها بينكم(وَلَعلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يقول : ولتشكروا ربكم على ذلك ، أرسل هذه

(20/112)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)

الرياح مبشرات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(الرّياحَ مُبَشِّراتٍ) قال : بالمطر.
وقالوا في قوله : (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) مثل الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال : المطر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) : المطر.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) }
يقول تعالى ذكره مسليا نبيه صلى الله عليه وسلم ، فيما يلقى من قومه من الأذى فيه بما لقي من قبله من رسله من قومهم ، ومعلمه سنته فيهم ، وفي قومهم ، وأنه سالك به وبقومه سنته فيهم ، وفي أممهم : ولقد أرسلنا يا محمد من قبلك رسلا إلى قومهم الكفرة ، كما أرسلناك إلى قومك العابدي الأوثان من دون الله(فَجَاءُوهُمْ بالبَيِّناتِ) يعني : بالواضحات من الحجج على صدقهم ، وأنهم لله رسل ، كما جئت أنت قومك بالبينات فكذّبوهم ، كما كذّبك قومك ، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من عند الله ، كما ردّوا عليك ما جئتهم به من عند ربك ، (فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) يقول : فانتقمنا من الذين أجرموا الآثام ، واكتسبوا السيئات من قومهم ، ونحن فاعلو ذلك كذلك بمجرمي قومك ، (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ) يقول : ونجَّينا الذين آمنوا بالله وصدّقوا رسله ، إذ

(20/113)


اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)

جاءهم بأسنا ، وكذلك نفعل بك وبمن آمن بك من قومك ، (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ المُؤْمِنينَ) على الكافرين ، ونحن ناصروك ومن آمن بك على مَن كفر بك ، ومظفروك بهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) }
يقول تعالى ذكره : ( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ) يقول : فتنشئ الرياح سحابا ، وهي جمع سحابة ، (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ) يقول : فينشره الله ، ويجمعه في السماء كيف يشاء ، وقال : (فيبسطه) فوحد الهاء ، وأخرج مخرج كناية المذكر ، والسحاب جمع كما وصفت ، ردّا على لفظ السحاب ، لا على معناه ، كما يقال : هذا تمر جيد.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : (فَيَبْسُطُهُ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشَاءُ) ويجمعه.
وقوله : (وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا) : يقول : ويجعل السحاب قِطعا. متفرّقة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَيجْعَلُهُ كِسَفا) : أي قطعا.
وقوله : (فَتَرى الوَدْقَ) يعني : المطر(يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) يعني : من بين السحاب.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(فَتَرى الوَدْقَ يخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ).
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن قطن ، عن حبيب ، عن عبيد بن عمير(يُرْسِلُ الرّياحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا) قال : الرياح أربع : يبعث الله ريحا فتقمّ الأرض قما ، ثم يبعث الله الريح الثانية فتثير سحابا ، فيجعله في السماء كِسَفا ، ثم يبعث الله الريح الثالثة

(20/114)


وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)

فتؤلف بينه ، فيجعله ركاما ، ثم يبعث الريح الرابعة فتمطر.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(فَتَرَى الوَدْقَ) قال : القطر.
وقوله : (فَإذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يقول : فإذا صرف ذلك الودق إلى أرض من أراد صرفه إلى أرضه من خلقه ؛ رأيتهم يستبشرون ؛ بأنه صرف ذلك إليهم ويفرحون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) }
يقول تعالى ذكره : وكان هؤلاء الذين أصابهم الله بهذا الغيث من عباده ، من قبل أن ينزل عليهم هذا الغيث ، من قبل هذا الغيث(لَمُبْلِسِينَ) يقول : لمكتئبين حزنين ؛ باحتباسه عنهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ) : أي قانطين.
واختلف أهل العربية في وجه تكرير " من قبله " وقد تقدم قبل ذلك قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهم) فقال بعض نحويي البصرة : ردّ من قبله على التوكيد ، نحو قوله : (فَسَجَدَ المَلائكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ). وقال غيره : ليس ذلك كذلك ؛ لأن مع(مِنْ قَبْلِ أنْ يُنزلَ عَلَيْهم) حرفا ليس مع الثانية ، قال : فكأنه قال : من قبل التنزيل من قبل المطر ، فقد اختلفتا ، وأما(كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) وكد بأجمعين ؛ لأن كلا يكون اسما ويكون توكيدا ، وهو قوله : أجمعون. والقول عندي في قوله : (مِنْ قَبْلِهِ) على وجه التوكيد.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) }
اختلفت القرّاء في قوله : (فانْظُرْ إلَى آثارِ رَحْمَةِ اللهِ) فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة

(20/115)


والبصرة ، وبعض الكوفيين : (إلَى أَثَرِ رَحْمَةِ اللهِ) على التوحيد ، بمعنى : فانظر يا محمد إلى أثر الغيث الذي أصاب الله به من أصاب من عباده ، كيف يحيي ذلك الغيث الأرض من بعد موتها. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : (فَانْظُرْ إلى آثارِ رَحْمَةِ اللهِ) على الجماع ، بمعنى : فانظر إلى آثاء الغيث الذي أصاب الله به من أصاب ، كيف يحيي الأرض بعد موتها.
والصواب من القول فى ذلك ، أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار ، متقاربتا المعنى ، وذلك أن الله إذا أحيا الأرض بغيث أنزله عليها ، فإن الغيث أحياها بإحياء الله إياها به ، وإذا أحياها الغيث ، فإن الله هو المحيي به ، فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب. فتأويل الكلام إذًا : فانظر يا محمد ، إلى آثار الغيث الذي ينزل الله من السحاب ، كيف يحيي بها الأرض الميتة ، فينبتها ويعشبها ، من بعد موتها ودثورها ، (إنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى). يقول جلّ ذكره : إن الذي يحيي هذه الأرض بعد موتها بهذا الغيث ، لمحيي الموتى من بعد موتهم ، وهو على كلّ شيء مع قدرته على إحياء الموتى قدير ، لا يعزّ عليه شيء أراده ، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءه سبحانه.

(20/116)


وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) }
يقول تعالى ذكره : ولئن أرسلنا ريحا مفسدة ما أنبته الغيث الذي أنزلناه من السماء ، فرأى هؤلاء الذين أصابهم الله بذلك الغيث الذي حييت به أرضوهم ، وأعشبت ونبتت به زروعهم ، ما أنبتته أرضوهم بذلك الغيث من الزرع مصفرّا ، قد فسد بتلك الريح التي أرسلناها ، فصار من بعد خضرته مصفرا ، لظلوا من بعد استبشارهم ، وفرحتهم به يكفرون بربهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) }
يقول تعالى ذكره : (فَإنَّكَ) يا محمد ، (لا تُسْمِعُ المَوتَى) يقول : لا تجعل لهم أسماعا يفهمون بها عنك ما تقول لهم ، وإنما هذا مثل معناه : فإنك لا تقدر أن تفهم

(20/116)


اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)

هؤلاء المشركين ، الذين قد ختم الله على أسماعهم ، فسلبهم فهم ما يُتلى عليهم من مواعظ تنزيله ، كما لا تقدر أن تفهم الموتى الذين قد سلبهم الله أسماعهم ، بأن تجعل لهم أسماعا.
وقوله : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ) يقول : وكما لا تقدر أن تُسمع الصمّ الذين قد سلبوا السمع - الدعاء ، إذا هم ولوا عنك مدبرين ، كذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء الذين قد سلبهم الله فهم آيات كتابه ، لسماع ذلك وفهمه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (فَإنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى) : هذا مثل ضربه الله للكافر ، فكما لا يسمع الميت الدعاء ، كذلك لا يسمع الكافر ، (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) يقول : لو أن أصمَّ ولى مدبرا ثم ناديته لم يسمع ، كذلك الكافر لا يسمع ، ولا ينتفع بما يسمع.
وقوله : ( وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ ) يقول تعالى ذكره : وما أنت يا محمد بمسدّد من أعماه الله عن الاستقامة ، ومحجة الحقّ ، فلم يوفقه لإصابة الرشد ، فصارفه عن ضلالته التي هو عليها ، وركوبه الجائر من الطرق إلى سبيل الرشاد ، يقول : ليس ذلك بيدك ولا إليك ، ولا يقدر على ذلك أحد غيري ؛ لأني القادر على كل شيء. وقيل : (بهادي العمي عن ضلالتهم) ولم يقل : من ضلالتهم ، لأن معنى الكلام ما وصفت ، من أنه : وما أنت بصارفهم عنه ، فحمل على المعنى. ولو قيل : من ضلالتهم ، كان صوابا. وكان معناه : ما أنت بمانعهم من ضلالتهم.
وقوله : (إنْ تُسْمعُ إلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) يقول تعالى ذكره لنبيه : ما تسمع السماع الذي ينتفع به سامعه فيعقله ، إلا من يؤمن بآياتنا ، لأن الذي يؤمن بآياتنا إذا سمع كتاب الله تدبَّره وفهمه وعقله ، وعمل بما فيه ، وانتهى إلى حدود الله الذي حدّ فيه ، فهو الذي يسمع السماع النافع.
وقوله : (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) يقول : فهم خاضعون لله بطاعته ، متذللون لمواعظ كتابه.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ

(20/117)


وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) }
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المكذّبين بالبعث من مشركي قريش ، محتجا عليهم بأنه القادر على ذلك ، وعلى ما يشاء : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أيها الناس(مِنْ ضَعْفٍ) يقول : من نطفة وماء مهين ، فأنشأكم بشرا سويا ، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) يقول : ثم جعل لكم قوّة على التصرّف ، من بعد خلقه إياكم من ضعف ، ومن بعد ضعفكم بالصغر والطفولة ، (ثُم جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) يقول : ثم أحدث لكم الضعف ، بالهرم والكبر عما كنتم عليه أقوياء في شبابكم ، وشيبة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) أي من نطفة( ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا ) الهرم(وَشَيْبَةً) الشمط.
وقوله : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) يقول تعالى ذكر : يخلق ما يشاء من ضعف وقوّة وشباب وشيب(وَهُوَ العَلِيمُ) بتدبير خلقه(القَدِيرُ) على ما يشاء ، لا يمتنع عليه شيء أراده ، فكما فعل هذه الأشياء ، فكذلك يميت خلقه ويحييهم إذا شاء. يقول : واعلموا أن الذي فعل هذه الأفعال بقدرته يحيي الموتى إذا شاء.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) }
يقول تعالى ذكره : ويوم تجيء ساعة البعث ، فيبعث الخلق من قبورهم ، يقسم المجرمون ، وهم الذين كانوا يكفرون بالله في الدنيا ، ويكتسبون فيها الآثام ، وإقسامهم : حلفهم بالله(ما لَبِثُوا غيرَ ساعَةٍ) : يقول : يقسمون بأنهم لم يلبثوا في قبورهم غير ساعة واحدة ، يقول الله جلّ ثناؤه : كذلك في الدنيا كانوا يؤفكون : يقول : كذبوا في قيلهم وقَسَمِهِم ما لبثنا غير ساعة ، كما كانوا في الدنيا يكذبون ويحلفون على الكذب وهم يعلمون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(20/118)


وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ) أي : يكذبون في الدنيا ، وإنما يعني بقوله : (يُؤفَكُونَ) عن الصدق ، ويَصُدُّون عنه إلى الكذب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) }
كان قَتادة يقول : هذا من المقدّم الذي معناه التأخير.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ) قال : هذا من مقاديم الكلام. وتأويلها : وقال الذين أوتوا الإيمان والعلم : لقد لبثتم في كتاب الله (1) .
وذُكر عن ابن جُرَيج أنه كان يقول : معنى ذلك : وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله ، والإيمان بالله وكتابه.
وقوله : (فِي كِتابِ اللهِ) يقول : فيما كتب الله مما سبق في علمه أنكم تلبثونه(فَهَذَا يَوْمُ البَعْثِ) يقول : فهذا يوم يبعث الناس من قبورهم(وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يقول : ولكنكم كنتم لا تعلمون في الدنيا أنه يكون ، وأنكم مبعوثون من بعد الموت ، فلذلك كنتم تكذبون.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) }
يقول تعالى ذكره : فيوم يبعثون من قبورهم(لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) يعني : المكذّبين بالبعث في الدنيا(معذرتهم) ، وهو قولهم : ما علمنا أنه يكون ، ولا أنا نُبعث(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) يقول : ولا هؤلاء الظلمة يُسترجعون يومئذ عما كانوا يكذّبون به في الدنيا.
__________
(1) في فتح القدير للشوكاني (4 : 224) قال الواحدي : والمفسرون حملوا هذا على التقديم والتأخير ، على تقدير : وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله. وهذا غير ما قدره قتادة في حديثه الذي رواه المؤلف هنا.

(20/119)


وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ (58) }
يقول تعالى ذكره : ولقد مثلنا للناس في هذا القرآن من كل مثل احتجاجا عليهم ، وتنبيها لهم عن وحدانية الله. وقوله : (َولئنْ جِئْتَهُمْ بآيَةٍ) يقول : ولئن جئت يا محمد هؤلاء القوم بآية ، يقول : بدلالة على صدق ما تقول( لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ ) يقول : ليقولنّ الذين جحدوا رسالتك ، وأنكروا نبوّتك ، إن أنتم أيها المصدّقون محمدا فيما أتاكم به إلا مبطلون فيما تجيئوننا به من هذه الأمور.
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) }
يقول تعالى ذكره : كذلك يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به يا محمد من عند الله من هذه العِبر والعظات ، والآيات البيِّنات ، فلا يفقهون عن الله حُجة ، ولا يفهمون عنه ما يتلو عليهم من آي كتابه ، فهم لذلك في طغيانهم يتردّدون.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) }
يقول تعالى ذكره : فاصبر يا محمد لما ينالك من أذاهم ، وبلِّغهم رسالة ربك ، فإن وعد الله الذي وعدك من النصر عليهم ، والظفر بهم ، وتمكينك وتمكين أصحابك وتُبَّاعك في الأرض حقّ(وَلا يسْتَخِفَّنَّك الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) يقول : ولا يستخفنّ حلمك ورأيك هؤلاء المشركون بالله الذين لا يوقنون بالمعاد ولا يصدّقون بالبعث بعد الممات ، فيثبطوك عن أمر الله والنفوذ لما كلَّفك من تبليغهم رسالته.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سعيد بن جُبَير ، عن عليّ بن ربيعة ، أن رجلا من الخوارج ، قرأ خلف عليّ رضي الله عنه : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) فقال عليّ : ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ).
قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن عثمان بن أبي زرعة عن عليّ بن ربيعة

(20/120)


قال : نادى رجل من الخوارج عليا رضي الله عنه ، وهو في صلاة الفجر ، فقال : ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) فأجابه عليّ رضي الله عنه وهو في الصلاة : ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) قال : قال رجل من الخوارج خلف عليّ في صلاة الغداة : ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) فأنصت له عليّ رضي الله عنه حتى فهم ما قال ؛ فأجابه وهو في الصلاة : ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ).
آخر تفسير سورة الروم.

(20/121)


تفسير سورة لقمان

(20/123)


الم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) }
وقد تقدّم بياننا تأويل قول الله تعالى ذكره(الم). وقوله : (تِلكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ) يقول جل ثناؤه : هذه آيات الكتاب الحكيم بيانا وتفصيلا. وقوله : (هُدًى وَرَحْمَةً) يقول : هذه آيات الكتاب بيانا ورحمة من الله ، رحم به من اتبعه ، وعمل به من خلقه ، وبنصب الهدى والرحمة على القطع من آيات الكتاب قرأت قرّاء الأمصار غير حمزة ، فإنه قرأ ذلك رفعا على وجه الاستئناف ، إذ كان منقطعا عن الآية التي قبلها بأنه ابتداء آية وأنه مدح ، والعرب تفعل ذلك مما كان من نعوت المعارف ، وقع موقع الحال إذا كان فيه معنى مدح أو ذمّ. وكلتا القراءتين صواب عندي ، وإن كنت إلى النصب أميل ، لكثرة القراء به.
وقوله : (للْمُحْسِنِينَ) وهم الذين أحسنوا في العمل بما أنزل الله في هذا القرآن ، يقول تعالى ذكره : هذا الكتاب الحكيم هدى ورحمة للذين أحسنوا ، فعملوا بما فيه من أمر الله ونهيه(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) يقول : الذين يقيمون الصَّلاةَ المفروضة بحدودها(وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) من جعلها الله له المفروضة في أموالهم(وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) يقول : يفعلون ذلك وهم بجزاء الله وثوابه لمن فعل ذلك في الآخرة يوقنون.
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) }
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفت صفتهم على بيان من ربهم ونور(وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلحونَ) يقول : وهؤلاء هم المنْجِحون المدركون ما رَجَوا وأملوا من ثواب ربهم يوم القيامة.

(20/124)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) }
اختلف أهل التأويل ، في تأويل قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيث) فقال بعضهم : من يشتري الشراء المعروف بالثمن ، ورووا بذلك خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو ما حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا وكيع ، عن خلاد الصفار ، عن عبيد الله بن زَحْر ، عن عليّ بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أُمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحِلُّ بَيْعُ المُغَنِّيَاتِ ، وَلا شِرَاؤُهُنَّ ، وَلا التِّجارَةُ فِيهِنَّ ، وَلا أثمَانُهُنَّ ، وفيهنّ نزلت هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) " .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن خَلاد الصفار ، عن عبيد الله بن زَحْر ، عن عليّ بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أُمامة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه ، إلا أنه قال : " أكْلُ ثَمَنِهِنَّ حَرَامٌ " وقال أيضا : " وفِيهِنَّ أنزلَ اللهُ عليَّ هَذِهِ الآيَةَ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) " .
حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا سليمان بن حيان ، عن عمرو بن قيس الكلابي ، عن أبي المهلَّب ، عن عبيد الله بن زَحْر ، عن عليّ بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أُمامة. قال : وثنا إسماعيل بن عَياش ، عن مُطَرَّح بن يزيد ، عن عبيد الله بن زَحْر ، عن عليّ بن زيد ، عن القاسم ، عن أبي أُمامة الباهلي ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يحلّ تَعْلِيمُ المُغَنِّياتِ ، وَلا بَيْعُهُنَّ وَلا شِرَاؤُهُنَّ ، وَثمَنُهُنَّ حَرامٌ ، وقَدْ نزلَ تَصْدِيقُ ذلكَ فِي كِتابِ الله(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيث ... ) إلى آخر الآية " .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : من يختار لهو الحديث ويستحبه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بغَيْرِ عِلْمٍ) والله لعله أن لا ينفق فيه مالا ،

(20/126)


ولكن اشتراؤه استحبابه ، بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ ، وما يضرّ على ما ينفع.
حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : ثنا أيوب بن سويد ، قال : ثنا ابن شوذب ، عن مطر في قول الله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيث) قال : اشتراؤه : استحبابه.
وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من قال : معناه : الشراء ، الذي هو بالثمن ، وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه.
فإن قال قائل : وكيف يشتري لهو الحديث ؟ قيل : يشتري ذات لهو الحديث ، أو ذا لهو الحديث ، فيكون مشتريا لهو الحديث.
وأما الحديث ، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هو الغناء والاستماع له.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يزيد بن يونس ، عن أبي صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جُبَير ، عن أبي الصهباء البكري (1) أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بغَيْرِ عِلْمٍ) فقال عبد الله : الغناء ، والذي لا إله إلا هو ، يردّدها ثلاث مرّات.
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : ثنا صفوان بن عيسى ، قال : أخبرنا حميد الخراط ، عن عمار ، عن سعيد بن جُبَير ، عن أبي الصهباء ، أنه سأل ابن مسعود ، عن قول الله(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال : الغناء.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عليّ بن عابس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال : الغناء.
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : ثنا عمران بن عيينة ، قال : ثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال :
__________
(1) أبو الصهباء " كما في خلاصة الخزرجي " : هو صهيب الهاشمي ، عن مولاه ابن عباس ، وعلى ، وابن مسعود ، ولم يقل في نسبته : البكري ، هناك صهيب المكي أبو موسى الحذاء ، ولم يكنه بأبي الصهباء.

(20/127)


الغناء وأشباهه.
حدثنا ابن وكيع ، والفضل بن الصباح ، قالا ثنا محمد بن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال : هو الغناء ونحوه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام بن سلم ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس ، مثله.
حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الأنماطي ، قال : ثنا عبيد الله ، قال : ثنا ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : هو الغناء والاستماع له ، يعني قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ).
حدثنا الحسن بن عبد الرحيم ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : ثنا سفيان ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن جابر في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال : هو الغناء والاستماع له.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم أو مقسم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : شراء المغنية.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا حفص والمحاربي ، عن ليث ، عن الحكم ، عن ابن عباس ، قال : الغناء.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال : باطل الحديث : هو الغناء ونحوه.
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن حبيب ، عن مجاهد(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال : الغناء.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن بن مهدي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال : الغناء.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب ، عن مجاهد قال : الغناء.
قال : ثنا أبي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله.

(20/128)


حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال : هو الغناء ، وكلّ لعب لهو.
حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الأنماطي ، قال : ثنا عليّ بن حفص الهمداني ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الحَدِيثِ) قال : الغناء والاستماع له وكل لهو.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال : المغني والمغنية بالمال الكثير ، أو استماع إليه ، أو إلى مثله من الباطل.
حدثني يعقوب وابن وكيع ، قالا ثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال : هو الغناء أو الغناء منه ، أو الاستماع له.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عثام بن عليّ ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن شعيب بن يسار ، عن عكرِمة قال : (لَهْوَ الحَدِيثِ) : الغناء.
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : ثنا عثام ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن شعيب بن يسار هكذا قال عكرِمة ، عن عبيد ، مثله.
حدثنا الحسين بن الزبرقان النخعي ، قال : ثنا أبو أسامة وعبيد الله ، عن أسامة ، عن عكرِمة في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) قال : الغناء.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أسامة بن زيد ، عن عكرِمة ، قال : الغناء.
وقال آخرون : عنى باللهو : الطبل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عباس بن محمد ، قال : ثنا حجاج الأعور ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : اللهو : الطبل.
وقال آخرون : عنى بلهو الحديث : الشرك.
* ذكر من قال ذلك :
حديث عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ) يعني : الشرك.

(20/129)


حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيل اللهِ بغيرِ عِلْمٍ وِيتَّخِذَها هُزُوًا) قال : هؤلاء أهل الكفر ، ألا ترى إلى قوله : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ) فليس هكذا أهل الإسلام ، قال : وناس يقولون : هي فيكم وليس كذلك ، قال : وهو الحديث الباطل الذي كانوا يلغون فيه.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : عنى به كلّ ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله مما نهى الله عن استماعه أو رسوله ؛ لأن الله تعالى عمّ بقوله : (لَهْوَ الحَدِيثِ) ولم يخصص بعضا دون بعض ، فذلك على عمومه حتى يأتي ما يدلّ على خصوصه ، والغناء والشرك من ذلك.
وقوله : (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يقول : ليصدّ ذلك الذي يشتري من لهو الحديث عن دين الله وطاعته ، وما يقرّب إليه من قراءة قرآن وذكر الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس(لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال : سبيل الله : قراءة القرآن ، وذكر الله إذا ذكره ، وهو رجل من قريش اشترى جارية مغنية.
وقوله : (بغَيرِ عِلْم) يقول : فعل ما فعل من اشترائه لهو الحديث جهلا منه بما له في العاقبة عند الله من وزر ذلك وإثمه. وقوله : (وَيَتَّخِذَها هُزُوًا) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : (وَيَتَّخِذُها) رفعا ، عطفا به على قوله : (يَشْتَرِي) كأن معناه عندهم : ومن الناس من يشتري لهو الحديث ، ويتخذ آيات الله هزوا. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : (وَيَتَّخِذَها) نصبا عطفا على يضلّ ، بمعنى : ليضلّ عن سبيل الله ، وليتخذَها هُزُوًا.
والصواب من القول في ذلك : أنهما قراءتان معروفتان في قرّاء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في قراءته ، والهاء والألف في قوله : (وَيَتَّخِذَها) من ذكر سبيل الله.

(20/130)


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)

* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : (وَيَتَّخِذَها هُزُوًا) قال : سبيل الله.
وقال آخرون : بل ذلك من ذكر آيات الكتاب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : بِحَسْب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ ، وما يضرّ على ما ينفع ، ويتخذها هزوا يستهزئ بها ويكذّب بها. وهما من أن يكونا من ذكر سبيل الله أشبه عندي لقربهما منها ، وإن كان القول الآخر غير بعيد من الصواب ، واتخاذه ذلك هزوا هو استهزاؤه به.
وقوله : (أُولَئِكَ لَهُمْ عذَابٌ مُهِينٌ) يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفنا أنهم يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله. لهم يوم القيامة عذاب مُذِلّ مخزٍ في نار جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) }
يقول تعالى ذكره : وإذا تُتلى على هذا الذي اشترى لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله آيات كتاب الله ، فقرئت عليه(ولَّى مُسْتَكْبِرًا) يقول : أدبر عنها ، واستكبر استكبارا ، وأعرض عن سماع الحقّ والإجابة عنه(كأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كأنَّ فِي أُذُنَيهِ وَقْرًا) يقول : ثقلا فلا يطيق من أجله سماعه.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : (فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) قال : ثقلا.
وقوله : (فَبشِّرْهُ بعَذَابٍ ألِيمٍ) يقول تعالى ذكره : فبشر هذا المعرض عن آيات الله إذا تُلِيت عليه استكبارا بعذاب له من الله يوم القيامة مُوجِع ، وذلك عذاب النار.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

(20/131)


إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)

لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) }
يقول تعالى ذكره : (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله فوحدوه ، وصدّقوا رسوله واتبعوه(وَعمِلُوا الصَّالحَاتِ) يقول : فأطاعوا الله ، فعملوا بما أمرهم في كتابه وعلى لسان رسوله ، وانتهوا عما نهاهم عنه(لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيم) يقول : لهؤلاء بساتين النعيم(خالدين فِيها) يقول : ماكثين فيها إلى غير نهاية(وَعْدَ اللهِ حَقًّا) يقول : وعدهم الله وعدا حقا ، لا شكّ فيه ولا خلف له(وَهُوَ العَزِيزُ) يقول : وهو الشديد في انتقامه من أهل الشرك به ، والصادّين عن سبيله(الحَكِيمُ) في تدبير خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) }
يقول تعالى ذكره : ومن حكمته أنه(خَلَقَ السَّمَوَاتِ) السبع(بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) ، وقد ذكرت فيما مضى اختلاف أهل التأويل في معنى قوله : (بغَيْرِ عمَدٍ تَرَوْنَها) وبيَّنا الصواب من القول في ذلك عندنا.
وقد حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا معاذ بن معاذ ، عن عمران بن حدير ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس(بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) قال : لعلها بعمد لا ترونها.
وقال : ثنا العلاء بن عبد الجبار ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد قال : إنها بعمد لا ترونها.
قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن سماك ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس قال : لعلها بعمد لا ترونها.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد ، عن سماك ، عن عكرمة في هذا الحرف(خَلَقَ السَّمَواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) قال : ترونها بغير عمد ، وهي بِعمد.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(خَلَقَ السَّمَوَاتِ بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) قال : قال الحسن وقَتادة : إنها بغير عمد ترونها ، ليس لها عمد.

(20/132)


هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)

وقال ابن عباس(بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) قال : لها عمد لا ترونها.
وقوله : ( وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) يقول : وجعل على ظهر الأرض رواسي ، وهي ثوابت الجبال أن تميد بكم أن لا تميد بكم. يقول : أن لا تضطرب بكم ، ولا تتحرّك يمنة ولا يسرة ، ولكن تستقرّ بكم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : (وألْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ) : أي : جبالا(أنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أثبتها بالجبال ، ولولا ذلك ما أقرّت عليها خلقا ، وذلك كما قال الراجز :
والمُهْرُ يأْبَى أنْ يَزَال مُلَهَّبا (1)
بمعنى : لا يزال.
وقوله : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلّ دابَّةٍ) يقول : وفرّق في الأرض من كلّ أنواع الدوابّ. وقيل : الدوابّ اسم لكلّ ما أكل وشرب ، وهو عندي لكلّ ما دبّ على الأرض.
وقوله : (وأنزلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فأنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) يقول تعالى ذكره : وأنزلنا من السماء مطرا ، فأنبتنا بذلك المطر في الأرض من كلّ زوج ، يعني : من كل نوع من النبات(كريم) ، وهو الحسن النِّبتة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(مِنْ كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) : أي حسن.
القول في تأويل قوله تعالى : { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) }
يقول تعالى ذكره : هذا الذي أعددت عليكم أيها الناس أني خلقته في هذه الآية خلق الله الذي له ألوهة كل شيء ، وعبادة كل خلق ، الذي لا تصلح العبادة لغيره ، ولا تنبغي لشيء سواه ، فأروني أيها المشركون في عبادتكم إياه من دونه من الآلهة والأوثان ، أي شيء خلق الذين من دونه من آلهتكم وأصنامكم ، حتى استحقت عليكم
__________
(1) البيت من شواهد الفراء في (معاني القرآن الورقة 251). قال عند تفسير قوله تعالى : (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) : لئلا تميد بكم ؛ و (أن) في هذا الموضع تكفي من (لا) كما قال الشاعر : والمهر يأتي أن يزل ملهبًا
* معناه : يأبى أن لا يزال . ا هـ .

(20/133)


العبادة فعبدتموها من دونه ؟ كما استحقّ ذلك عليكم خالقكم ، وخالق هذه الأشياء التي عددتها عليكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (هَذَا خَلْقُ اللهِ) ما ذكر من خلق السموات والأرض ، وما بثّ من الدوابّ ، وما أنبت من كلّ زوج كريم(فأرونِي ماذا خلق الذين مِن دُونِه) الأصنام الذين تدعون من دونه.
وقوله : (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يقول تعالى ذكره : ما عبد هؤلاء المشركون الأوثان والأصنام من أجل أنها تخلق شيئا ، ولكنهم دعاهم إلى عبادتها ضلالهم ، وذهابهم عن سبيل الحقّ ، فهم في ضلال : يقول : فهم في جور عن الحقّ ، وذهاب عن الاستقامة مبين : يقول : يبين لمن تأمله ، ونظر فيه وفكَّر بعقل أنه ضلال لا هدى.

(20/134)


وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) }
يقول تعالى ذكره : ولقد آتينا لقمان الفقه في الدين والعقل والإصابة في القول.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمان الحِكْمَةَ) قال : الفقه والعقل والإصابة في القول من غير نبوّة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ) أي الفقه في الإسلام ، قال قَتادة : ولم يكن نبيا ، ولم يوح إليه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا يونس ، عن مجاهد في قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ) قال : الحكمة : الصواب ، وقال غير أبي بشر : الصواب في غير النبوّة.
حدثنا ابن المثنى ، ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد

(20/134)


أنه قال : كان لقمان رجلا صالحا ، ولم يكن نبيا.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي وابن حميد ، قالا ثنا حكام ، عن سعيد الزبيدي ، عن مجاهد قال : كان لقمان الحكيم عبدا حبشيا ، غليظ الشفتين ، مصفح القدمين ، قاضيا على بني إسرائيل.
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : كان لقمان عبدا أسود ، عظيم الشفتين ، مشقَّق القدمين.
حدثني عباس بن محمد ، قال : ثنا خالد بن مخلد ، قال : ثنا سليمان بن بلال ، قال : ثني يحيى بن سعيد ، قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : كان لقمان الحكيم أسود من سودان مصر.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن أشعث ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس قال : كان لقمان عبدا حبشيا.
حدثنا العباس بن الوليد ، قال : أخبرنا أبي ، قال : ثنا الأوزاعي ، قال : ثنا عبد الرحمن بن حرملة ، قال : جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأل ، فقال له سعيد : لا تحزن من أجل أنك أسود ، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان : بِلال ، ومهجِّع مولى عمر بن الخطاب ، ولقمان الحكيم كان أسود نوبيا ذا مشافر.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبي الأشهب ، عن خالد الربعي ، قال : كان لقمان عبدا حبشيا نجارا ، فقال له مولاه : اذبح لنا هذه الشاة ، فذبحها ، قال : أخرج أطيب مضغتين فيها ، فأخرج اللسان والقلب ، ثم مكث ما شاء الله ، ثم قال : اذبح لنا هذه الشاة ، فذبحها ، فقال : أخرج أخبث مضغتين فيها ، فأخرج اللسان والقلب ، فقال له مولاه : أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما ، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما ، فقال له لقمان : إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا ، ولا أخبث منهما إذا خبثا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم ، قال : ثنا عمرو بن قيس ، قال : كان لقمان عبدا أسود ، غليظ الشفتين ، مصفح القدمين ، فأتاه رجل ، وهو في مجلس أناس يحدّثهم ، فقال له : ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا ؟ قال : نعم ، قال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : صدق الحديث ، والصمت عما لا يعنيني.

(20/135)


وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقمانَ الحِكْمَةَ) قال : القرآن.
قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الحكمة : الأمانة.
وقال آخرون : كان نبيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرِمة ، قال : كان لقمان نبيا.
وقوله : (أنِ اشْكُرْ لِلهِ) يقول تعالى ذكره : (ولقد آتينا لقمان الحكمة) ، أن احمد الله على ما آتاك من فضله ، وجعل قوله : (أنِ اشكُرْ) ترجمة عن الحكمة ؛ لأن من الحكمة التي كان أوتيها ، كان شكره الله على ما آتَاهُ ، وقوله : (وَمَنْ يَّشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) يقول : ومن يشكر الله على نعمه عنده فإنما يشكر لنفسه ، لأن الله يجزل له على شكره إياه الثواب ، وينقذه به من الهلكة(وَمَن كَفَرَ فإنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) يقول : ومن كفر نعمة الله عليه إلى نفسه أساء ؛ لأن الله معاقبه على كفرانه إياه ، والله غنيّ عن شكره إياه على نعمه ، لا حاجة به إليه ، لأن شكره إياه لا يزيد في سلطانه ، ولا ينقص كفرانه إياه من ملكه. ويعني بقوله : (حَمِيدٌ) محمود على كلّ حال ، له الحمد على نعمه ، كفر العبد نعمته أو شكره عليها ، وهو مصروف من مفعول إلى فعيل.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) يقول : لخطأ من القول عظيم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) }
يقول تعالى ذكره : وأمرنا الإنسان ببرّ والديه(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ)

(20/136)


يقول : ضعفا على ضعف ، وشدّة على شدّة ، ومنه قول زهير :
فَلَنْ يَقُولُوا بِحَبْلٍ وَاهِنٍ خَلَقٍ... لَوْ كانَ قَوْمُكَ فِي أسْبابِه هَلَكُوا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أنهم اختلفوا في المعني بذلك ، فقال بعضهم : عنى به الحمل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ) يقول : شدّة بعد شدّة ، وخلقا بعد خلق.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (وَهْنًا عَلى وَهْنٍ) يقول : ضعفا على ضعف.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ) أي جهدا على جهد.
وقال آخرون : بل عنى به : وهن الولد وضعفه على ضعف الأمّ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(وَهْنًا عًلى وَهْنٍ) قال : وهن الولد على وهن الوالدة وضعفها.
وقوله : (وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ) يقول : وفطامه في انقضاء عامين. وقيل :
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى (مختار الشعر الجاهلي ، بشرح مصطفى السقا ، طبعة الحلبي ص 245). وقبل البيت بيت مرتبط به ارتباط السؤال بالجواب قال : هَلا سأَلتَ بني الصَّيْدَاءِ كُلِّهِمِ ... بِأَيّ حَبْلِ جِوَارٍ كُنْتُ أمْتَسِكُ
ومعنى بيت الشاهد : هو حبل شديد محكم ، فمن تمسك به نجا ، وليس بحبل ضعيف ، من تعلق بأسبابه هلك. قالوا : وكان الحارث بن ورقاء الصيداوي من بني أسد ، أغار على بني عبد الله بن غطفان ، فغنم ، واستاق إبل زهير وراعيه يسارًا فخاطبه زهير بهذه القصيدة ، وذكره بأنه كان في عهده وجواره ، وأنه إن لم يرد عليه الإبل والراعي فإنه سيقول فيه من قصائد الهجو ما يفضحه في أحياء العرب. وقال أبو عبيدة في تفسير قوله تعالى : (وهنًا على وهنٍ) : أي ضعفًا إلى ضعفها. واستشهد بالبيت. ا هـ . وفيه الواهي بمعنى : الضعيف.

(20/137)


(وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ) وترك ذكر انقضاء اكتفاء بدلالة الكلام عليه ، كما قيل : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ) يراد به أهل القرية.
وقوله : (أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) يقول : وعهدنا إليه أن اشكر لي على نعمي عليك ، ولوالديك تربيتهما إياك ، وعلاجهما فيك ما عالجا من المشقة حتى استحكم قواك. وقوله : (إليَّ المَصِيرُ) يقول : إلى الله مصيرك أيها الإنسان ، وهو سائلك عما كان من شكرك له على نعمه عليك ، وعما كان من شكرك لوالديك ، وبرّك بهما على ما لقيا منك من العناء والمشقة في حال طفوليتك وصباك ، وما اصطنعا إليك في برّهما بك ، وتحننهما عليك.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه.
ذكر الرواية الواردة في ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، قال : حلفت أمّ سعد أن لا تأكل ولا تشرب ، حتى يتحوّل سعد عن دينه ، قال : فأبى عليها ، فلم تزل كذلك حتى غشي عليها ، قال : فأتاها بنوها فسقوها ، قال : فلما أفاقت دعت الله عليه ، فنزلت هذه الآية(وَوَصَّيْنا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ...) إلى قوله : (فِي الدُّنْيا مَعْرُوفًا).
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه ، قال : قالت أمّ سعد لسعد : أليس الله قد أمر بالبرّ ، فوالله ، لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر ، قال : فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ، ثم أوجروها ، فنزلت هذه الآية(وَوَصَّيْنا الإنسانَ بِوَالِدَيْهِ).
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن سماك بن حرب ، قال : قال سعد بن مالك : نزلت فيّ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ) قال : لما أسلمت ، حلفت أمي لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا ، قال : فناشدتها أوّل يوم ، فأبت وصبرت ، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها ، فأبت ، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت ، فقلت : والله ، لو كانت لك مئة نفس لخرجت قبل أن أدع ديني هذا ، فلما رأت ذلك ،

(20/138)


وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)

وعرفت أني لست فاعلا أكلت.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت أبا هبيرة يقول : قال : نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص(وَإن جَاهَداكَ عَلَى أن تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ علْمٌ فَلا تُطِعْهُما ...) الآية.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) }
يقول تعالى ذكره : وإن جاهدك أيها الإنسان ، والداك على أن تشرك بي في عبادتك إياي معي غيري ، مما لا تعلم أنه لي شريك ، ولا شريك له تعالى ذكره علوّا كبيرا ، فلا تطعهما فيما أراداك عليه من الشرك بي ، (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيا مَعْرُوفًا) يقول : وصاحبهما في الدنيا بالطاعة لهما فيما لا تبعة عليك فيه ، فيما بينك وبين ربك ولا إثم.
وقوله : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أنابَ إليَّ) يقول : واسلك طريق من تاب من شركه ، ورجع إلى الإسلام ، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إليَّ) أي : من أقبل إليّ.
وقوله : (إليَّ مَرْجِعُكُمْ فأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) فإن إليّ مصيركم ومعادكم بعد مماتكم ، فأخبركم بجميع ما كنتم في الدنيا تعملون من خير وشرّ ، ثم أجازيكم على أعمالكم ، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته.
فإن قال لنا قائل : ما وجه اعتراض هذا الكلام بين الخبر عن وصيتي لقمان ابنه ؟ قيل : ذلك أيضا وإن كان خبرا من الله تعالى ذكره عن وصيته عباده به ، وأنه إنما أوصى به لقمان ابنه ، فكان معنى الكلام : ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ولا تطع في الشرك به والديك(وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيا مَعْرُوفا) فإن الله وصّى بهما ، فاستؤنف الكلام على وجه الخبر من الله ، وفيه هذا المعنى ، فذلك

(20/139)


يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)

وجه اعتراض ذلك بين الخبرين عن وصيته.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) }
اختلف أهل العربية في معنى الهاء والألف اللتين في قوله : (إنَّها) فقال بعض نحويي البصرة : ذلك كناية عن المعصية والخطيئة. ومعنى الكلام عنده : يا بنيّ ، إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل ، أو إن الخطيئة. وقال بعض نحويي الكوفة : وهذه الهاء عماد. وقال : أنَّث تك ، لأنه يراد بها الحبة ، فذهب بالتأنيث إليها ، كما قال الشاعر :
وَتَشْرَقُ بالقَوْلِ الَّذِي قَدْ أذَعْتَهُ... كمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَناةِ مِنَ الدَّمِ (1)
وقال صاحب هذه المقالة : يجوز نصب المثقال ورفعه ، قال : فمن رفع رفعه(بتَكُ) ، واحتملت النكرة أن لا يكون لها فعل في كان وليس وأخواتها ، ومن نصب جعل في تكن اسما مضمرا مجهولا مثل الهاء التي في قوله : (إنَّها إن تَكُ) : ومثله قوله : (فإنَّها لا تَعْمَى الأبْصَارُ) قال : ولو كان(إن يك مثقال حبة) كان صوابا ، وجاز فيه الوجهان. وأما صاحب المقالة الأولى ، فإن نصب مثقال في قوله ، على أنه خبر ، وتمام كان ، وقال : رفع بعضهم فجعلها كان التي لا تحتاج إلى خبر.
وأولى القولين بالصواب عندي ، القول الثاني ؛ لأن الله تعالى ذكره لم يعد عباده أن يوفيهم جزاء سيئاتهم دون جزاء حسناتهم ، فيقال : إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل يأت الله بها ، بل وعد كلا العاملين أن يوفيه جزاء أعمالهما. فإذا كان ذلك كذلك ، كانت الهاء في قوله : (إنَّها) بأن تكون عمادا أشبه منها بأن تكون كناية عن الخطيئة والمعصية. وأما النصب في المثقال ، فعلى أن في " تَكُ " مجهولا والرفع فيه على أن الخبر مضمر ، كأنه قيل : إن تك في موضع مثقال حبة ؛ لأن النكرات تضمر أخبارها ،
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبعة القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ص 123) وهو من قصيدة يهجو بها عمير بن عبد الله بن المنذر بن عبدان ، حين جمع بينه وبين جهنام الشاعر ، ليهاجيه. ورقم البيت (34) ومعنى تشرق : تغص ، وصدر القناة : أعلاها. والقناة : الرمح. ا هـ . وفي " فرائد القلائد ، شرح مختصر الشواهد " للعيني. قال : والشاهد في شرقت حيث أنث ، مع أن فاعله مذكر ، وهو الصدر ، والقياس : شرق. ولكن لما كان الصدر الذي هو مضاف ، بعض المضاف إليه ، أعطى له حكمه. ا هـ .

(20/140)


ثم يترجم عن المكان الذي فيه مثقال الحبة.
وعنى بقوله : (مِثْقالَ حَبَّةٍ) : زنة حبة. فتأويل الكلام إذن : إن الأمر إن تك زنة حبة من خردل من خير أو شرّ عملته ، فتكن في صخرة ، أو في السموات ، أو في الأرض ، يأت بها الله يوم القيامة ، حتى يوفيك جزاءه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : ( يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ) من خير أو شرّ.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : (فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ) فقال بعضهم : عنى بها الصخرة التي عليها الأرض ، وذلك قول رُوي عن ابن عباس وغيره ، وقالوا : هي صخرة خضراء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : الصخرة خضراء على ظهر حوت.
حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، عن عبد الله ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : خلق الله الأرض على حوت ، والحوت هو النون الذي ذكر الله في القرآن( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ، ولا في الأرض.
وقال آخرون : عنى بها الجبال ، قالوا : ومعنى الكلام : فتكن في جبل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة في قوله : (فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ) أي : جبل.
وقوله : (يَأْتِ بِهَا اللهُ) كان بعضهم يوجه معناه إلى : يعلمه الله ، ولا أعرف يأتي به بمعنى : يعلمه ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أن لقمان إنما

(20/141)


يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)

وصف الله بذلك ؛ لأن الله يعلم أماكنه ، لا يخفى عليه مكان شيء منه فيكون وجها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ويحيى ، قالا ثنا أبو سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك(فَتَكُن فِي صخْرَةٍ أوْ فِي السَّمَوَاتِ أوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِها اللهُ) قال : يعلمها الله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك ، مثله.
وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) يقول : إن الله لطيف باستخراج الحبة من موضعها حيث كانت خبير بموضعها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) أي : لطيف باستخراجها ، خبير بمستقرّها.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ (17) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل لقمان لابنه(يا بُنَيَّ أقِمِ الصَّلاةَ) بحدودها(وأمُرْ بالمعْرُوفِ) يقول : وأمر الناس بطاعة الله ، واتباع أمره(وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ) يقول : وانه الناس عن معاصي الله ومواقعة محارمه(وَاصْبِرْ عَلى ما أصَابَكَ) يقول : واصبر على ما أصابك من الناس في ذات الله ، إذا أنت أمرتهم بالمعروف ، ونهيتهم عن المنكر ، ولا يصدّنك عن ذلك ما نالك منهم(إنَّ ذلكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) يقول : إن ذلك مما أمر الله به من الأمور عزما منه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني حجاج ، عن ابن جُرَيج في قوله : ( يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ

(20/142)


وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)

وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ) قال : اصبر على ما أصابك من الأذى في ذلك( إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ) قال : إن ذلك مما عزم الله عليه من الأمور ، يقول : مما أمر الله به من الأمور.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : (وَلا تُصَعِّرْ) فقرأه بعض قرّاء الكوفة والمدنيين والكوفيين : (وَلا تُصَعِّرْ) على مثال(تُفَعِّل). وقرأ ذلك بعض المكيين وعامة قرّاء المدينة والكوفة والبصرة(وَلا تُصَاعِرْ) على مثال(تُفَاعِل).
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وتأويل الكلام : ولا تعرض بوجهك عمن كلمته تكبرا واستحقارا لمن تكلمه ، وأصل(الصعر) داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رءوسها حتى تلفت أعناقها عن رءوسها ، فيشبه به الرجل المتكبر على الناس ، ومنه قول عمرو بن حُنَيٍّ التَّغلبيّ :
وكُنَّا إذَا الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ... أقَمْنا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقوَّما (1)
__________
(1) البيت لعمرو بن حني (بالنون) التغلبي (معجم الشعراء للمرزباني ص 206 - 207) وهو فارس جاهلي مذكور ، يقول في قتلهم عمرو بن هند ، على رواية محمد بن داود : نُعَاطِي المُلُوكَ الحَقَّ مَا قَصَدُوا بِنَا ... وَلَيْسَ عَلَيْنَا قَتْلُهُمْ بِمُحَرَّمِ
أنِفْتُ لَهُمْ مِنْ عَقْلِ عَمْرِو بنِ مَرْثَدٍ ... إذَا وَرَدُوا مَاءً وَرُمْح بنِ هَرْثَمِ
وَكُنَّا إذَا الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمِ
قال : يريد : فتقوم أنت. وهذا البيت يروى من قصيدة المتلمس التي أولها : يُعَيِّرُنِي أُمِّي رِجَالٌ وَلَنْ تَرَى ... أخا كرمٍ إلا بِأنْ يَتَكَرمَّا
وبعده البيت ، وآخره : " أقمنا له من ميله فتقوما "
وغيره يروون هذه الأبيات لجابر بن حني التغلبي. وقال أبو عبيدة في تفسير قوله تعالى : (ولا تصعر خدك للناس) : مجازه : لا تقلب وجهك ، ولا تعرض بوجهك في ناحية ، من الكبر ؛ ومنه الصعر الذي يأخذ الإبل في رءوسها ، حتى يلفت أعناقها عن رءوسها. وقال عمرو بن حني التغلبي : " وكنا ... فتقوما " . ونسب البيت في (اللسان : صعر) للمتلمس جرير بن عبد المسيح. قال : الصعر : ميل في الوجه. وقيل : الصعر : ميل في الخد خاصة. وربما كان خلقة في الإنسان والظليم. وقيل : هو ميل في العنق ، وانقلاب في الوجه إلى حد الشقين. وقد صعر خده وصاعره : أماله من الكبر ، قال المتلمس " وكنا ... فتقوما " . يقول : إذا أمال متكبر خده أذللناه حتى يتقوم ميله. ا هـ .

(20/143)


واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) يقول : ولا تتكبر ؛ فتحقر عباد الله ، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) يقول : لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(وَلا تُصَعِّرْ) قال : الصدود والإعراض بالوجه عن الناس.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن جعفر بن برقان ، عن يزيد في هذه الآية(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) قال : إذا كلمك الإنسان لويت وجهك ، وأعرضت عنه محقرة له.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا خالد بن حيان الرقي ، عن جعفر بن ميمون بن مهران ، قال : هو الرجل يكلم الرجل فيلوي وجهه.
حدثنا عبد الرحمن بن الأسود ، قال : ثنا محمد بن ربيعة ، قال : ثنا أبو مكين ، عن عكرِمة في قوله : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) قال : لا تُعْرض بوجهك.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) يقول : لا تعرض عن الناس ، يقول : أقبل على الناس بوجهك وحسن خلقك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) قال : تصعير الخدّ : التجبر والتكبر على الناس ومحقرتهم.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبي مكين ، عن عكرمة ، قال : الإعراض.
وقال آخرون : إنما نهاه عن ذلك أن يفعله لمن بينه وبينه صعر ، لا على وجه التكبر.

(20/144)


وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) قال : الرجل يكون بينه وبين أخيه الحنة ، فيراه فيعرض عنه.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ) قال : هو الرجل بينه وبين أخيه حنة فيعرض عنه.
وقال آخرون : هو التشديق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن جعفر الرازي ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : هو التشديق.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : هو التشديق أو التشدّق " الطبري يشكُّ " .
حدثنا يحيى بن طلحة ، قال : ثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن إبراهيم ، بمثله.
وقوله : (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحا) يقول : ولا تمش في الأرض مختالا.
كما حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحا) يقول : بالخيلاء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ ولا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحا إنَّ اللهَ لا يُحبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) قال : نهاه عن التكبر ، قوله : (إنَّ الله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) متكبر ذي فخر.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) قال : متكبر. وقوله : (فخور) قال : يعدّد ما أعطى الله ، وهو لا يشكر الله.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) }

(20/145)


يقول : وتواضع في مشيك إذا مشيت ، ولا تستكبر ، ولا تستعجل ، ولكن اتئد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أن منهم من قال : أمره بالتواضع في مشيه ، ومنهم من قال : أمره بترك السرعة فيه.
ذكر من قال : أمره بالتواضع في مشيه :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) قال : التواضع.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) قال : نهاه عن الخيلاء.
ذكر من قال نهاه عن السرعة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن عبد الله بن عقبة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، في قوله : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) قال : من السرعة. قوله : (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) يقول : واخفض من صوتك ، فاجعله قصدا إذا تكلمت.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) قال : أمره بالاقتصاد في صوته.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) قال : اخفض من صوتك.
واختلف أهل التأويل قوله : ( إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) فقال بعضهم : معناه : إن أقبح الأصوات.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة وأبان بن تغلب ، قالا ثنا أبو معاوية عن جُوَيبر ، عن الضحاك(إنَّ أنكَرَ الأصْوَاتِ) قال : إن أقبح الأصوات(لَصَوْتُ الحَمِيرِ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(إنَّ أنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ) أي : أقبح الأصوات لصوت الحمير ، أوّله زفير ، وآخره شهيق ، أمره بالاقتصاد في صوته.

(20/146)


حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، قال : سمعت الأعمش يقول : (إنَّ أنكَرَ الأصْوَاتِ) (1) صوت الحمير.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن أشرّ الأصوات.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن يحيى بن واضح ، عن أبي حمزة ، عن جابر عن عكرِمة والحكم بن عُتيبة(إنَّ أنكَرَ الأصْوَاتِ) قال : أشرّ الأصوات.
قال جابر : وقال الحسن بن مسلم : أشدّ الأصوات.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) قال : لو كان رفع الصوت هو خيرا ما جعله للحمير.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : إن أقبح أو أشرّ الأصوات ، وذلك نظير قولهم : إذا رأوا وجها قبيحا ، أو منظرا شنيعا ، ما أنكر وجه فلان ، وما أنكر منظره.
وأما قوله : (لَصَوْتُ الحَمِيرِ) فأضيف الصوت ، وهو واحد ، إلى الحمير وهي جماعة ، فإن ذلك لوجهين : إن شئت ، قلت : الصوت بمعنى الجمع ، كما قيل : (لَذَهَبَ بِسَمْعهمْ) وإن شئت قلت : معنى الحمير : معنى الواحد ، لأن الواحد في مثل هذا الموضع يؤدّي عما يؤدي عنه الجمع.
__________
(1) لعل فيه سقطًا ، والأصل : أي أقبح الأصوات صوت ... إلخ .

(20/147)


أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) }
يقول تعالى ذكره : (أَلَمْ تَرَوْا) أيها الناس(أنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ) من شمس وقمر ونجم وسحاب(وَما فِي الأرْضِ) من دابة وشجر وماء وبحر وفلك ، وغير ذلك من المنافع ، يجري ذلك كله لمنافعكم ومصالحكم ، لغذائكم وأقواتكم وأرزاقكم وملاذّكم ، تتمتعون ببعض ذلك كله ، وتنتفعون بجميعه ، ( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ).

(20/147)


واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض المكيين وعامة الكوفيين : (وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً) على الواحدة ، ووجهوا معناها إلى أنه الإسلام ، أو إلى أنها شهادة أن لا إله إلا الله. وقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : (نِعَمَهُ) على الجماع ، ووجَّهوا معنى ذلك ، إلى أنها النعم التي سخرها الله للعباد مما في السموات والأرض ، واستشهدوا لصحة قراءتهم ذلك كذلك بقوله : (شاكِرًا لأنْعُمِهِ) قالوا : فهذا جمع النعم.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، وذلك أن النعمة قد تكون بمعنى الواحدة ، ومعنى الجماع ، وقد يدخل في الجماع الواحدة. وقد قال جلّ ثناؤه(وَإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) فمعلوم أنه لم يعن بذلك نعمة واحدة. وقال في موضع آخر : ( وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ ) ، فجمعها ، فبأيّ القراءتين قرأ القارئ ذلك فمصيب.
ذكر بعض من قرأ ذلك على التوحيد ، وفسَّره على ما ذكرنا عن قارئيه أنهم يفسرونه.
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم بن سلام ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثني مستور الهنائي ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قرأها : (وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَتَهُ ظَاهِرَةً وَباطِنةً)وفسَّرها : الإسلام.
حُدثت عن الفراء قال : ثني شريك بن عبد الله ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه قرأ : (نِعْمَةً) واحدة. قال : ولو كانت(نِعْمَهُ) ، لكانت نعمة دون نعمة ، أو نعمة فوق نعمة " الشكّ من الفراء " .
حدثني عبد الله بن محمد الزهري ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثنا حميد ، قال : قرأ مجاهد : (وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَتَهُ ظَاهِرَةً وَباطِنةً) قال : لا إله إلا الله.
حدثني العباس بن أبي طالب ، قال : ثنا ابن أبي بكير ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَتَهُ ظَاهِرَةً وَباطِنةً) قال : كان يقول : هي لا إله إلا الله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد(وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعْمَتَهُ ظَاهِرَةً وَباطِنةً) قال : لا إله إلا الله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن عُيينة ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، قال :

(20/148)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)

لا إله إلا الله.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن عيسى ، عن قَيْس ، عن ابن عباس(نِعَمَةً ظاهِرَةً وَباطِنَةً) قال : لا إله إلا الله. وقوله : (ظاهِرَةً) يقول : ظاهرة على الألسن قولا وعلى الأبدان وجوارح الجسد عملا. وقوله : (وَباطِنَةً) يقول : وباطنة في القلوب ، اعتقادا ومعرفة.
وقوله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى ) يقول تعالى ذكره : ومن الناس من يخاصم في توحيد الله ، وإخلاص الطاعة والعبادة له(بِغَيرِ عِلْمٍ) عنده بما يخاصم ، (وَلا هُدًى) : يقول : ولا بيان يبين به صحة ما يقول( وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ) يقول : ولا بتنزيل من الله جاء بما يدعي ، يبين حقية دعواه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ) ليس معه من الله برهان ولا كتاب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) }
يقول تعالى ذكره : وإذا قيل لهؤلاء الذين يجادلون في توحيد الله جهلا منهم بعظمة الله اتبعوا أيها القوم ما أنزل الله على رسوله ، وصدِّقوا به ، فإنه يفرق بين المحقّ منا والمبطل ، ويفصل بين الضّالّ والمهتدى ، فقالوا : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من الأديان ، فإنهم كانوا أهل حقّ ، قال الله تعالى ذكره(أوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) بتزيينه لهم سوء أعمالهم ، واتباعهم إياه على ضلالتهم ، وكفرهم بالله ، وتركهم اتباع ما أنزل الله من كتابه على نبيه(إلى عَذَابِ السَّعِيرِ) يعني : عذاب النار التي تتسعر وتلتهب.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ (22) }
يقول تعالى ذكره : ومن يُعبِّد وجهه متذللا بالعبودة ، مقرّا له بالألوهة(وَهُوَ مُحْسِنٌ) يقول : وهو مطيع لله في أمره ونهيه ، ( فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) يقول :

(20/149)


وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)

فقد تمسك بالطرف الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه من تمسك به ، وهذا مثل ، وإنما يعني بذلك : أنه قد تمسك من رضا الله بإسلامه وجهه إليه وهو محسن ، ما لا يخاف معه عذاب الله يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي السوداء ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) قال : لا إله إلا الله.
وقوله : ( وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ) يقول : وإلى الله مرجع عاقبة كلّ أمر خيره وشرّه ، وهو المسائل أهله عنه ، ومجازيهم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) }
يقول تعالى ذكره : ومن كفر بالله فلا يحزنك كفره ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرة ، فإنّ مرجعهم ومصيرهم يوم القيامة إلينا ، ونحن نخبرهم بأعمالهم الخبيثة التي عملوها في الدنيا ، ثم نجازيهم عليها جزاءهم(إنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يقول : إن الله ذو علم بما تكنه صدورهم من الكفر بالله ، وإيثار طاعة الشيطان. وقوله : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا) يقول : نمهلهم في هذه الدنيا مهلا قليلا يتمتعون فيها ( ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ) يقول : ثم نوردهم على كره منهم عذابا غليظا ، وذلك عذاب النار ، نعوذ بالله منها ، ومن عمل يقرّب منها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) }
يقول تعالى ذكره : ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك(مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الحَمْدُ لله) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ، فإذا

(20/150)


وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)

قالوا ذلك ، فقل لهم : الحمد لله الذي خلق ذلك ، لا لمن لا يخلق شيئا وهم يخلقون ، ثم قال تعالى ذكره : (بَلْ أكْثرُهُمْ لا يعْلَمون) يقول : بل أكثر هؤلاء المشركون لا يعلمون من الذي له الحمد ، وأين موضع الشكر ، وقوله : (لِلهِ ما فِي السَّمَوَاتِ والأرْضِ) يقول تعالى ذكره : لله كلّ ما في السموات والأرض من شيء ملكا كائنا ما كان ذلك الشيء من وثن وصنم وغير ذلك ، مما يعبد أو لا يعبد(إنَّ الله هُوَ الغَنيُّ الحَمِيدُ) يقول : إن الله هو الغنيّ عن عباده هؤلاء المشركين به الأوثان والأنداد ، وغير ذلك منهم ومن جميع خلقه ؛ لأنهم ملكه وله ، وبهم الحاجة إليه ، الحميد : يعني : المحمود على نعمه التي أنعمها على خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) }
يقول تعالى ذكره : ولو أن شجر الأرض كلها بريت أقلاما(والبَحْرُ يَمُدُّهُ) يقول : والبحر له مداد ، والهاء في قوله : (يَمُدُّهُ) عائدة على البحر. وقوله : (منْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مِا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) وفي هذا الكلام محذوف استغنى بدلالة الظاهر عليه منه ، وهو يكتب كلام الله بتلك الأقلام وبذلك المداد ، لتكسرت تلك الأقلام ، ولنفذ ذلك المداد ، ولم تنفد كلمات الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سألت الحسن عن هذه الآية(وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ) قال : لو جعل شجر الأرض أقلاما ، وجعل البحور مدادا ، وقال الله : إن من أمري كذا ، ومن أمري كذا ، لنفد ماء البحور ، وتكسَّرت الأقلام.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم ، قال : ثنا عمرو في قوله : (وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ) قال : لو بريت أقلاما والبحر مدادا ، فكتب بتلك الأقلام منه(ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) ولو مدّه سبعة أبحر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (وَلَوْ أنَّما في

(20/151)


الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) قال : قال المشركون : إنما هذا كلام يوشك أن ينفد ، قال : لو كان شجر البرّ أقلاما ، ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه.
وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب مجادلة كانت من اليهود له.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا يونس بن بكير ، قال : ثنا ابن إسحاق ، قال : ثني رجل من أهل مكة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة : يا محمد ، أرأيت قوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْم إلا قَلِيلا) إيانا تريد أم قومك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كُلا " ، فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك : أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كلّ شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّها في عِلْمِ اللهِ قَلِيلٌ وَعِنْدَكُمْ مِنْ ذلكَ ما يكْفِيكُمْ " ، فأنزل الله عليه فيما سألوه عنه من ذلك(وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) أي أن التوراة في هذا من علم الله قليل.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عكرمة ، قال : سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فأنزل الله ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فقالوا : تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) قال : فنزلت(وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدذُهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) قال : ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار ، وأدخلكم الجنة ، فهو كثير طيب ، وهو في علم الله قليل.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : لما نزلت بمكة(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العلْم إلا قَلِيلا) يعني : اليهود ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أتاه أحبار يهود ، فقالوا : يا محمد ، ألم يبلغنا أنك تقول : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَلِيلا) أفتعنينا أم قومك ؟ قال : " كُلا قَدْ عَنَيْتُ " ، قالوا : فإنك تتلو أنا قد أوتينا التوراة ، وفيها تبيان

(20/152)


مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)

كلّ شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هِيَ فِي عِلمِ اللهِ قَلِيلٌ ، وقَدْ أتاكُمُ اللهُ ما إنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ " ، فأنزل الله : (وَلَوْ أنَّما فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقلامٌ والبَحْرُ يَمُدُّهُ منْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ...) إلى قوله : (إنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : (والبَحْرُ يَمُدُّهُ مَنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ) فقرأته عامَّة قرّاء المدينة والكوفة : (والبحرُ) رفعا على الابتداء ، وقرأته قرّاء البصرة نصبا ، عطفا به على " ما " في قوله : (وَلَوْ أنَّمَا فِي الأرْضِ) ، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب عندي. وقوله : (إنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يقول : إن الله ذو عزّة في انتقامه ممن أشرك به ، وادّعى معه إلها غيره ، حكيم في تدبيره خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) }
يقول تعالى ذكره : ما خلقكم أيها الناس ولا بعثكم على الله إلا كخلق نفس واحدة وبعثها ، وذلك أن الله لا يتعذّر عليه شيء أراده ، ولا يمتنع منه شيء شاءه(إنما أمره إذَا أرَادَ شَيْئا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون) فسواء خلق واحد وبعثه ، وخلق الجميع وبعثهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (كَنَفْسٍ وِاحِدَةٍ) يقول : كن فيكون للقليل والكثير.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : ( مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) قال : يقول : إنما خلق الله الناس كلهم وبعثهم كخلق نفس واحدة وبعثها ، وإنما صلح أن يقال : إلا كنفس واحدة ، والمعنى : إلا كخلق نفس واحدة ؛ لأن المحذوف فعل يدلّ عليه قوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ) والعرب تفعل ذلك في المصادر ، ومنه قول الله : (تَدُورُ أعْيُنُهُمْ كالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ) والمعنى : كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت ، فلم يذكر الدوران والعين لما وصفت.

(20/153)


وقوله : (إنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يقول تعالى ذكره : إن الله سميع لما يقول هؤلاء المشركون ويفترونه على ربهم ، من ادّعائهم له الشركاء والأنداد وغير ذلك من كلامهم وكلام غيرهم ، بصير بما يعملونه وغيرهم من الأعمال ، وهو مجازيهم على ذلك جزاءهم.

(20/154)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) }
يقول تعالى ذكره : (ألَمْ تَرَ) يا محمد بعينك(أنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) يقول : يزيد من نقصان ساعات الليل في ساعات النهار(وَيُولجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) يقول : يزيد ما نقص من ساعات النهار في ساعات اللَّيل.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ) نقصان الليل في زيادة النهار(وَيُولجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) نقصان النهار في زيادة الليل.
وقوله : (وَسَخَّر الشَّمْسَ والقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إلى أجَل مُسَمًّى) يقول تعالى ذكر : وسخر الشمس والقمر لمصالح خلقه ومنافعهم ، (كلٌّ يجري) يقول : كلّ ذلك يجري بأمره إلى وقت معلوم ، وأجل محدود إذا بلغه كوّرت الشمس والقمر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) يقول : لذلك كله وقت وحد معلوم ، لا يجاوزه ولا يعدوه.
وقوله : (وَأنَّ اللهَ بمَا تَعْلَمُونَ خَبِيرٌ) يقول : وإن الله بأعمالكم أيها الناس من خير أو شرّ ذو خبرة وعلم ، لا يخفى عليه منها شيء ، وهو مجازيكم على جميع ذلك ، وخرج هذا الكلام خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنيّ به المشركون ، وذلك

(20/154)


ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)

أنه تعالى ذكره : نبه بقوله : ( أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) على موضع حجته من جهل عظمته ، وأشرك في عبادته معه غيره ، يدلّ على ذلك قوله : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ ).
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) }
يقول تعالى ذكر : هذا الذي أخبرتك يا محمد أن الله فعله من إيلاجه الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وغير ذلك من عظيم قُدرته ، إنما فعله بأنه الله حقا ، دون ما يدعوه هؤلاء المشركون به ، وأنه لا يقدر على فعل ذلك سواه ، ولا تصلح الألوهة إلا لمن فعل ذلك بقُدرته.
وقوله.(وأنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الباطِلُ) يقول تعالى ذكره : وبأن الذي يعبد هؤلاء المشركون من دون الله الباطل الذي يضمحلّ ، فيبيد ويفنى(وأنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ) يقول تعالى ذكره : وبأن الله هو العليُّ ، يقول : ذو العلوّ على كلّ شيء ، وكلّ ما دونه فله متذلل منقاد ، الكبير الذي كل شيء دونه ، فله متصاغر.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تر يا محمد أن السفن تجري في البحر نعمة من الله على خلقه(لِيُرِيكُمْ مِنْ آياتِهِ) يقول : ليريكم من عبره وحججه عليكم ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) يقول : إن في جري الفلك في البحر دلالة على أن الله الذي أجراها هو الحقّ ، وأنّ ما يدعون من دونه الباطل(لكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) يقول : لكلّ من صبر نفسه عن محارم الله ، وشكره على نعمه فلم يكفره.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : كان مطرف يقول : إنّ من أحبّ عباد الله إليه : الصبَّار الشَّكور.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، قال : الصبر نصف الإيمان ، والشكر نصف الإيمان ، واليقين : الإيمان كله ، ألم تر إلى قوله : (إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ

(20/155)


وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

لكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ، (إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ للْمُوقِنينَ) ، (إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ للْمُؤْمِنينَ).
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ(إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ لكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) قال : الصبر نصف الإيمان ، واليقين : الإيمان كله.
إن قال قائل : وكيف خصّ هذه الدلالة بأنها دلالة للصبَّار الشَّكور دون سائر الخلق ؟ قيل : لأنّ الصبر والشكر من أفعال ذوي الحجى والعقول ، فأخبر أن في ذلك لآيات لكلّ ذي عقل ؛ لأن الآيات جعلها الله عبرا لذوي العقول والتمييز.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) }
يقول تعالى ذكره : وإذا غشى هؤلاء الذين يدعون من دون الله الآلهة والأوثان في البحر - إذا ركبوا في الفُلك - موج كالظُلل ، وهي جمع ظُلَّة ، شبَّه بها الموج في شدة سواد كثرة الماء ، قال نابغة بني جعدة في صفة بحر :
يُماشِيهِنَّ أخْضَرُ ذُو ظلال... عَلى حافاتِهِ فِلَق الدّنانِ (1)
وشبه الموج وهو واحد بالظلل ، وهي جماع ، لأن الموج يأتي شيء منه بعد شيء ، ويركب بعضه بعضا كهيئة الظلل. وقوله : (دَعَوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ) يقول تعالى ذكره : وإذا غشى هؤلاء موج كالظلل ، فخافوا الغرق ، فزعوا إلى الله بالدعاء مخلصين له الطاعة ، لا يشركون به هنالك شيئا ، ولا يدعون معه أحدا سواه ، ولا يستغيثون بغيره. قوله : (فَلَمَّا نجَّاهُمْ إلى البَرّ) مما كانوا يخافونه في البحر من الغرق والهلاك إلى البرّ.(فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) يقول : فمنهم مقتصد في قوله وإقراره بربه ، وهو مع ذلك مضمر الكفر به.
__________
(1) البيت في (مجاز القرآن لأبي عبيدة الورقة 191 ب) قال عند تفسير قوله تعالى : (وإذا غشيهم موج كالظلل) : واحدتها : ظلة. ومجازه : من شدة سواد كثرة الماء ومعظمه. قال النابغة الجعدي وهو يصف البحر : " يماشيهن ... فلق الدنان " . يريد : أن البحر يمتد معهن في سيرهن. وظلال البحر : أمواجه ، لأنها ترفع فتظل السفينة ومن فيها. والدنان بالدال المهملة : جمع دن بالفتح ، هو راقود الخمر الكبير.

(20/156)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال : المقتصد في القول وهو كافر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال : المقتصد الذي على صلاح من الأمر.
وقوله : ( وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ) يقول تعالى ذكره : وما يكفر بأدلتنا وحججنا إلا كلّ غدّار بعهده ، والختر عند العرب : أقبح الغدر ، ومنه قول عمرو بن معد يكرب :
وَإنَّكَ لَوْ رأيْتَ أبا عُمَيْرٍ... مَلأتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرٍ (1)
وقوله : (كَفُور) يعني : جحودا للنعم ، غير شاكر ما أسدى إليه من نعمة.
وبنحو الذي قلنا في معنى الختار قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد(كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) قال : كلّ غَدّار.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (كُلُّ خَتَّارٍ) قال : غدّار.
حدثني يعقوب وابن وكيع ، قالا ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء عن الحسن في قوله : ( وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ) قال : غدّار.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : ( وَمَا يَجْحَدُ
__________
(1) البيت في (مجاز القرآن لأبي عبيدة ، الورقة 191 ب) عند تفسير قوله تعالى : (كل مختار كفور) قال : الختر : الكبر والغدر ، قال عمرو بن معد يكرب " وإنك لو رأيت " البيت وفي (اللسان ختر) : الختر شبيه بالغدر والخديعة ، وقيل : هو الخديعة بعينها ، وقيل : هو أسوأ الغدر وأقبحه ، ختر يختر ، فهو خاتر ، وختار للمبالغة ، والفعل من بابي ضرب ونصر.

(20/157)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)

بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ) الختار : الغدار ، كلّ غدار بذمته كفور بربه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ) قال : كلّ جحاد كفور.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ) قال : الختار : الغدّار ، كما تقول : غدرني.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن مسعر ، قال : سمعت قَتادة قال : الذي يغدر بعهده.
قال : ثنا المحاربي ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك ، قال : الغدّار.
قال : ثنا أبي : عن الأعمش ، عن سمر بن عطية الكاهلي ، عن عليّ رضي الله عنه قال : المكر غدر ، والغدر كفر.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) }
يقول تعالى ذكره : أيها المشركون من قريش ، اتقوا الله ، وخافوا أن يحلّ بكم سخطه في يوم لا يغني والد عن ولده ، ولا مولود هو مغن عن والده شيئا ؛ لأن الأمر يصير هنالك بيد من لا يغالب ، ولا تنفع عنده الشفاعة والوسائل ، إلا وسيلة من صالح الأعمال التي أسلفها في الدنيا. وقوله : (إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقّ) يقول : اعلموا أن مجيء هذا اليوم حقّ ، وذلك أن الله قد وعد عباده ولا خلف لوعده(فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا) يقول : فلا تخدعنكم زينة الحياة الدنيا ولذّاتها ، فتميلوا إليها ، وتدعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب الله ذلك اليوم. وقوله : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغَرُورُ) يقول : ولا يخدعنَّكم بالله خادع. والغَرور بفتح الغين : هو ما غرّ الإنسان من شيء كائنا ما كان شيطانا كان أو إنسانا ، أو دنيا ، وأما الغُرور بضم الغين : فهو مصدر من قول القائل : غررته غرورا.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : (ولا يَغُرَّنَّكُمْ باللهِ الغَرُورُ) قال أهل التأويل.

(20/158)


إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (الغَرُور) قال : الشيطان.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (وَلا يَغُرنَّكُمْ باللهِ الغَرُور) ذاكم الشيطان.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد المروزي ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (الغَرُورُ) قال : الشيطان.
وكان بعضهم يتأوّل الغَرور بما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جُبَير قوله : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ باللهِ الغَرُورُ) قال : إن تعمل بالمعصية وتتمنى المغفرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) }
يقول تعالى ذكره : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا ) هو آتيكم ؛ علم إتيانه إياكم عند ربكم ، لا يعلم أحد متى هو جائيكم ، لا يأتيكم إلا بغتة ، فاتقوه أن يفجأكم بغتة ، وأنتم على ضلالتكم لم تنيبوا منها ، فتصيروا من عذاب الله وعقابه إلى ما لا قبل لكم به. وابتدأ تعالى ذكره الخبر عن علمه بمجيء الساعة. والمعنى : ما ذكرت لدلالة الكلام على المراد منه ، فقال : (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) التي تقوم فيها القيامة ، لا يعلم ذلك أحد غيره(وينزلُ الغيْثَ) من السماء ، لا يقدر على ذلك أحد غيره ، (وَيَعْلَمُ ما في الأرْحامِ) أرحام الإناث(وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غَدًا) يقول : وما تعلم نفس حيّ ماذا تعمل في غد ، (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْض تَمُوتُ) يقول : وما تعلم نفس حيّ بأيّ أرض تكون منيتها(إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) يقول : إن الذي يعلم ذلك كله هو الله دون كلّ أحد سواه ، إنه ذو علم بكلّ شيء ، لا يخفى عليه شيء ، خبير بما هو كائن ، وما قد كان.

(20/159)


وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) قال : جاء رجل - قال أبو جعفر : أحسبه أنا ، قال : - إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي حُبلى ، فأخبرني ماذا تلد ؟ وبلادنا محل جدبة ، فأخبرني متى ينزل الغيث ؟ وقد علمت متى ولدت ، فأخبرني متى أموت ، فأنزل الله : (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الغَيْثَ ...) إلى آخر السورة ، قال : فكان مجاهد يقول : هنّ مفاتح الغيب التي قال الله( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ...) الآية ، أشياء من الغيب ، استأثر الله بهنّ ، فلم يطلع عليهنّ ملَكا مقرّبا ، ولا نبيا مرسلا(إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة ، في أيّ سنة ، أو في أيّ شهر ، أو ليل ، أو نهار(ويُنزلُ الغَيْثَ) فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ، ليلا أو نهارا ينزل ؟(وَيَعْلَمُ ما فِي الأرْحامِ) فلا يعلم أحد ما فِي الأرحام ، أذكر أو أنثى ، أحمر أو أسود ، أو ما هو ؟(وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) خير أم شرّ ، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت ؟ لعلك الميت غدا ، لعلك المصاب غدا ؟(وَما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْضٍ تَمُوتُ) ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض في بحر أو برّ أو سهل أو جبل ، تعالى وتبارك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : قالت عائشة : من قال : إن أحدا يعلم الغيب إلا الله فقد كذب ، وأعظم الفرية على الله ، قال الله : ( لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ).
حدثنا يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن عمرو بن شُعيب أن رجلا قال : يا رسول الله ، هل من العلم علم لم تؤته ؟ قال : " لَقَدْ أُوتِيتُ عِلْما

(20/160)


كَثِيرًا ، وَعِلما حَسنًا " ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الغَيْثَ ...) إلى(إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) لا يَعْلَمُهُنَّ إلا اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني عمرو بن محمد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَفاتِحُ الغَيبِ خَمْسَةٌ " ثم قرأ هؤلاء الآيات(إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة ...) إلى آخرها.
حدثني عليّ بن سهل ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، أنه سمع ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَفاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إلا اللهُ ، (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الغَيْثَ وَيعْلَمُ ما فِي الأرْحامِ ...) " الآية ، ثم قال : " لا يعْلَمُ ما فِي غَدٍ إلا اللهُ ، وَلا يَعْلَمُ أحَدٌ مَتى يَنزلُ الغَيْثَ إلا اللهُ ، وَلا يَعْلَمُ أحَدٌ مَتى قِيامُ السَّاعَةِ إلا اللهُ ، وَلا يَعْلَمُ أحَدٌ ما فِي الأرْحامِ إلا اللهُ ، وَلا تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْض تَمُوتُ. "
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَفاتحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُها إلا اللهُ : إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الغيْثَ وَيعْلَمُ ما فِي الأرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غَدًا وما تَدْري نَفْسٌ بأيّ أرضٍ تَمُوتُ إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن مسعر ، عن عمرو بن مرّة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن ابن مسعود قال : كلّ شيء أوتيه نبيكم صلى الله عليه وسلم إلا علم الغيب الخمس : ( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ).
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن ابن أبي خالد ، عن عامر ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : من حدّثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت : (وَما تَدْرِي

(20/161)


نَفْسٌ ماذَا تكْسبُ غَدًا).
قال : تنا جرير وابن علية ، عن أبي خباب ، عن أبي زُرعة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إلا اللهُ : (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنزلُ الغَيْثَ ...) الآية " .
حدثني أبو شُرَحبيل ، قال : ثنا أبو اليمان ، قال : ثنا إسماعيل ، عن جعفر ، عن عمرو بن مرّة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن ابن مسعود ، قال : كلّ شيء قد أوتي نبيكم غير مفاتح الغيب الخمس ، ثم قرأ هذه الآية(إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَة ...) إلى آخرها.
وقيل : (بأيّ أرض تموت) ، وفيه لغة أخرى : (بأيَّةِ أرْضٍ) فمن قال : (بأيّ أرْضٍ) اجتز بتأنيث الأرض من أن يظهر في(أيِّ) تأنيث آخر ، ومن قال(بأيَّة أرْضٍ) فأنث ، (أي) قال : قد تجتزئ بأي مما أضيف إليه ، فلا بدّ من التأنيث ، كقول القائل : مررت بامرأة ، فيقال له : بأيةٍ ، ومررت برجل ، فيقال له بأيٍّ ؟ ويقال : أي امرأة جاءتك وجاءك ، وأية امرأة جاءتك.
آخر تفسير سورة لقمان.

(20/162)


تفسير سورة السجدة

(20/163)


الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)

بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { الم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) }
قال أبو جعفر : قد مضى البيان عن تأويل قوله : (الم) بما فيه الكفاية. وقوله : (تَنزيلُ الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ) يقول تعالى ذكره : تنزيل الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، لا شكّ فيه(من ربّ العالمين) : يقول : من ربّ الثقلين : الجنّ والإنس.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (الم تَنزيلُ الكتابِ لا رَيْبَ فِيه) لا شكّ فيه. وإنما معنى الكلام : أن هذا القرآن الذي أُنزل على محمد لا شكّ فيه أنه من عند الله ، وليس بشعر ولا سجع كاهن ، ولا هو مما تخرّصه محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما كذّب جلّ ثناؤه بذلك قول الذين : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) وقول الذين قالو : ( إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ).
وقوله : (أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) يقول تعالى ذكره : يقول المشركون بالله : اختلق هذا الكتاب محمد من قبل نفسه ، وتكذّبه ، و(أم) هذه تقرير ، وقد بيَّنا في غير موضع من كتابنا ، أن العرب إذا اعترضت بالاستفهام في أضعاف كلام قد تقدّم بعضه أنه يستفهم بأم. وقد زعم بعضهم أن معنى ذلك : ويقولون. وقال : أم بمعنى الواو ، بمعنى بل في مثل هذا الموضع ، ثم أكذبهم تعالى ذكره فقال : ما هو كما تزعمون وتقولون من أن محمدا افتراه ، بل هو الحقّ والصدق من عند ربك يا محمد ، أنزله إليك ؛ لتنذر قوما بأس الله وسطوته ، أن يحلّ بهم على كفرهم به(ما أتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ منْ قَبْلكَ) يقول : لم يأت هؤلاء القوم الذين أرسلك ربك يا محمد إليهم ، وهم قومه من قريش ، نذير ينذرهم

(20/164)


اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)

بأس الله على كفرهم قبلك. وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) يقول : ليتبيَّنوا سبيل الحقّ فيعرفوه ويؤمنوا به.
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) قال : كانوا أمَّة أمِّيَّة ، لم يأتهم نذير قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) }
يقول تعالى ذكره : المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له أيها الناس( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ) من خلق(فِي سِتَّةِ أيَّام) ثم استوى على عرشه في اليوم السابع بعد خلقه السموات والأرض وما بينهما.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) في اليوم السابع. يقول : ما لكم أيها الناس إله إلا من فعل هذا الفعل ، وخلقَ هذا الخَلْق العجيب في ستة أيام.
وقوله : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) يقول : ما لكم أيها الناس دونه وليّ يلي أمركم وينصركم منه إن أراد بكم ضرّا ، ولا شفيع يشفع لكم عنده إن هو عاقبكم على معصيتكم إياه ، يقول : فإياه فاتخذوا وليا ، وبه وبطاعته فاستعينوا على أموركم ؛ فإنه يمنعكم إذا أراد منعكم ممن أرادكم بسوء ، ولا يقدر أحد على دفعه عما أراد بكم هو ؛ لأنه لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب(أفَلا تَتَذَكَّرُونَ) يقول تعالى ذكره : أفلا تعتبرون وتتفكَّرون أيها الناس ، فتعلموا أنه ليس لكم دونه وليّ ولا شفيع ، فتفردوا له الألوهة ، وتخلصوا له العبادة ، وتخلعوا ما دونه من الأنداد والآلهة.

(20/166)


يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)

القول في تأويل قوله تعالى : { يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) }
يقول تعالى ذكره : الله هو الذي يدبر الأمر من أمر خلقه من السماء إلى الأرض ، ثم يعرُج إليه.
واختلف أهل التأويل في المعني بقوله : ( ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) فقال بعضهم : معناه : أن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض ، ويصعد من الأرض إلى السماء في يوم واحد ، وقدر ذلك ألف سنة مما تعدّون من أيام الدنيا ؛ لأن ما بين الأرض إلى السماء خمسمائة عام ، وما بين السماء إلى الأرض مثل ذلك ، فذلك ألف سنة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو بن معروف ، عن ليث ، عن مجاهد(فِي يَوْمٍ كان مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ) يعني بذلك نزول الأمر من السماء إلى الأرض ، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد وذلك مقداره ألف سنة ؛ لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) من أيامكم(كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) يقول : مقدار مسيره في ذلك اليوم ألف سنة مما تعدّون من أيامكم من أيام الدنيا خمسمائة سنة نزوله ، وخمسمائة صعوده فذلك ألف سنة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك( ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) قال : تعرج الملائكة إلى السماء ، ثم تنزل في يوم من أيامكم هذه ، وهو مسيرة ألف سنة.
قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن سماك ، عن عكرِمة(ألْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ) قال : من أيام الدنيا.
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن أبي الحارث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : ( يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) من أيامكم هذه ، مسيرة ما بين السماء إلى الأرض خمسمائة عام.

(20/167)


وذكر عن عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة قال : تنحدر الأمور وتصعد من السماء إلى الأرض في يوم واحد ، مقداره ألف سنة ، خمسمائة حتى ينزل ، وخمسمائة حتى يعرُج.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ثم يعرج إليه في يوم من الأيام الستة التي خلق الله فيهنّ الخلق ، كان مقدار ذلك اليوم ألف سنة مما تعدّون من أيامكم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس(ألْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ) قال : ذلك مقدار المسير قوله : (كألف سنة مما تعدّون) قال : خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وكلّ يوم من هذه كألف سنة مما تعدّون انتم.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) قال : الستة الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) يعني : هذا اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيهنّ السموات والأرض وما بينهما.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض بالملائكة ، تم تعرج إليه الملائكة ، في يَوْمٍ كان مقداره ألف سنة من أيام الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ( ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال : هذا في الدنيا تعرج الملائكة إليه في يوم كان مقداره ألف سنة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا غندر ، عن شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة(فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارهُ ألْفَ سَنَةٍ) قال : ما بين السماء والأرض مسيرة ألف سنة مما تعدّون

(20/168)


ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)

من أيام الآخرة (1) .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية : ( يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) قال : ما بين السماء والأرض مسيرة ألف سنة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض في يوم كان مقدار ذلك التدبير ألف سنة مما تعدّون من أيام الدنيا ، ثم يعرج إليه ذلك التدبير الذي دبره.
* ذكر من قال ذلك :
ذُكر عن حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، أنه قال : يقضي أمر كل شيء ألف سنة إلى الملائكة ثم كذلك حتى تمضي ألف سنة ، ثم يقضي أمر كل شيء ألفا ، ثم كذلك أبدا ، قال : (يوم كان مقداره) قال : اليوم أن يقال لما يقضي إلى الملائكة ألف سنة : كن فيكون ، ولكن سماه يومًا ، سَمَّاهُ كما بيَّنا كل ذلك عن مجاهد ، قال : وقوله : (وإنَّ يَوْما عِنْدَ رَبِّكَ كألْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) قال : هو هو سواء.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ثم يعرج إلى الله في يوم كان مقداره ألف سنة ، مقدار العروج ألف سنة مما تعدّون.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) قال بعض أهل العلم : مقدار ما بين الأرض حين يعرج إليه إلى أن يبلغ عروجه ألف سنة ، هذا مقدار ذلك المعراج في ذلك اليوم حين يعرج فيه.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : معناه : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقدار ذلك اليوم في عروج ذلك الأمر إليه ، ونزوله إلى الأرض ألف سنة مما تعدون من أيامكم ، خمسمائة في النزول ، وخمسمائة في الصعود ؛ لأن ذلك أظهر معانيه ، وأشبهها بظاهر التنزيل.
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
__________
(1) الذي في الدر المنثور : من أيام الدنيا ؛ وهو واضح . ا هـ .

(20/169)


الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) }
يقول تعالى ذكره : هذا الذي يفعل ما وصفت لكم في هذه الآيات ، هو(عالم الغيب) ، يعني عالم ما يغيب عن أبصاركم أيها الناس ، فلا تبصرونه مما تكنه الصدور وتخفيه النفوس ، وما لم يكن بعد مما هو كائن ، (والشهادة) يعني : ما شاهدته الأبصار فأبصرته وعاينته وما هو موجود(العَزِيزُ) يقول : الشديد في انتقامه ممن كفر به ، وأشرك معه غيره ، وكذّب رسله(الرَّحِيمُ) بمن تاب من ضلالته ، ورجع إلى الإيمان به وبرسوله ، والعمل بطاعته ، أن يعذّبه بعد التوبة.
وقوله : (الَّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْء خَلَقَهُ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قراء مكة والمدينة والبصرة(أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) بسكون اللام. وقرأه بعض المدنيين وعامة الكوفيين(أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) بفتح اللام.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء صحيحتا المعنى ، وذلك أن الله أحكم خلقه ، وأحكم كل شيء خلَقه ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أتقن كلّ شيء وأحكمه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس بن أبي طالب ، قال : ثنا الحسين بن إبراهيم إشكاب (1) قال : ثنا شريك ، عن خَصيف عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : (الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) قال : أما إن است القرد ليست بحسنة ، ولكن أحكم خلقها.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو النضر ، قال : ثنا أبو سعيد المؤدّب ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرؤها : (الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) قال : أما إن است القرد ليست بحسنة ولكنه أحكمها.
__________
(1) في التاج (شكب) : إشكاب ؛ لقب الحسين بن إبراهيم بن الحسن بن زعلان العامري ، شيخ أبي بكر بن أبي الدنيا.

(20/170)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) قال : أتقن كلّ شيء خلقه.
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبد الله بن موسى ، قال : ثنا إسرائيل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(أَحْسَن كُلَّ شَيْءٍ) : أحصى كلّ شيء.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الذي حسن خلق كل شيء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) حسن على نحو ما خلق.
وذُكر عن الحجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن الأعرج ، عن مجاهد قال : هو مثل(أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثم هَدَى) قال : فلم يجعل خلق البهائم في خلق الناس ، ولا خلق الناس في خلق البهائم ولكن خلق كلّ شيء فقدّره تقديرا.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أعلم كل شيء خلقه ، كأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى أنه ألهم خلقه ما يحتاجون إليه ، وأن قوله : (أحْسَنَ) إنما هو من قول القائل : فلان يحسن كذا ، إذا كان يعلمه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد(أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) قال : أعطى كلّ شيء خلقه ، قال : الإنسان إلى الإنسان ، والفرس للفرس ، والحمار للحمار وعلى هذا القول الخَلْق والكلّ منصوبان بوقوع أحسن عليهما.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب على قراءة من قرأه : (الَّذِين أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) بفتح اللام قول من قال : معناه أحكم وأتقن ؛ لأنه لا معنى لذلك إذ قرئ كذلك إلا أحد وجهين : إما هذا الذي قلنا من معنى الإحكام والإتقان ، أو معنى التحسين الذي هو في معنى الجمال والحُسن ، فلما كان في خلقه ما لا يشكّ في قُبحه وسماجته ، علم أنه لم يُعن به أنه أحسن كلّ ما خلق ، ولكن معناه أنه أحكمه وأتقن صنعته ، وأما على القراءة الأخرى التي هي بتسكين اللام ، فإن أولى تأويلاته به قول من قال : معنى ذلك : أعلم وألهم كلّ شيء خلقه ، هو أحسنهم ، كما قال : (الَّذِي أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ

(20/171)


خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ؛ لأن ذلك أظهر معانيه. وأما الذي وجه تأويل ذلك إلى أنه بمعنى : الذي أحسن خلق كلّ شيء ، فإنه جعل الخلق نصبا بمعنى التفسير ، كأنه قال : الذي أحسن كلّ شيء خلقا منه. وقد كان بعضهم يقول : هو من المقدّم الذي معناه التأخير ، ويوجهه إلى أنه نظير قول الشاعر :
وَظَعْنِي إلَيْكَ للَّيْل حِضْيَنْةِ أنَّنِي... لِتِلْكَ إذَا هابَ الهِدَانُ فَعُولُ (1)
يعني : وظعني حضني الليل إليك ؛ ونظير قول الآخر :
كأنَّ هِنْدًا ثناياها وَبهْجَتَهَا... يَوْمَ الْتَقَيْنا عَلى أدْحالِ دَبَّاب (2)
أي : كأن ثنايا هند وبهجتها.
وقوله : (وَبَدأ خَلْقَ الإنْسانِ مِنْ طِين) يقول تعالى ذكره : وبدأ خلق آدم من طين(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) يعني : ذريته(من سلالة) ، يقول : من الماء الذي انسل فخرج منه. وإنما يعني من إراقة من مائه ، كما قال الشاعر :
فجاءتْ بِه عَضْبَ الأدِيمِ غَضَنْفَرًا... سُلالَةَ فَرْجٍ كانَ غيرَ حَصِينِ (3)
وقوله : (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) يقول : من نطفة ضعيفة رقيقة.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) البيت في (مجاز القرآن لأبي عبيدة الورقة 192 - أ) قال عند تفسير قوله تعالى : (الذي أحسن كل شيء خلقه) : مجازه : أحسن خلق كل شيء والعرب تفعل هذا ، يقدمون ويؤخرون. قال : " وظعني إليك ... " البيت معناه : وظعني حين حضنني الليل إليك. وفي (اللسان : حضن) : وحضنا المفازة شقاها ، والفلاة : ناحيتاها ، وحضنا الليل : جانباه ، وحضن الجبل ما يطيق به وحضنا الشيء : جانباه. والهدان بوزن كتاب : الأحمق الجافي الوخم الثقيل في الحرب. وفي حديث عثمان : جبانًا هدانا.
(2) البيت في مجاز القرآن لأبي عبيدة ، ( الورقة 192 - أ) عند تفسير قوله تعالى : (أحسن كل شيء خلقه). بعد الشاهد السابق : " وظعني إليك ... " البيت. ثم قال : كأن ثنايا هند وبهجتها. وهو أيضا في " اللسان : دبب " : قال : قال الأزهري : وبالخلصاء رمل يقال له : الدباب ، وبحذائه دُحْلان كثيرة (بضم الدال) ومنه قول الشاعر : كَأَنَّ هِنْدًا ثَنَايَاهَا وَبَهْجَتَهَا ... لَمَّا الْتَقَيْنَا لَدَى أدْحَالِ دَبَّاب
مَوْلِيَّةٌ أُنُفٌ جَادَ الرَّبِيعُ بِهَا ... عَلَى أبَارِقَ قدْ هَمَّتْ بِأَعْشَابِ
والأدحال والدحلان : جمعا دحل ، بالفتح ، وهو ثقب ضيق فمه ، ثم يتسع أسفله ، حتى يمشي فيه.
(3) البيت : (مجاز القرآن لأبي عبيدة الورقة 162 - ب) عند قوله تعالى : (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) في سورة المؤمنين. (الجزء 18 : 8) فراجعه ثمة.

(20/172)


ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَبَدأَ خَلْقَ الإنْسانِ مِنْ طينٍ) وهو خلق آدم ، ثم جعل نسله : أي ذرّيته من سلالة من ماء مهين ، والسلالة هي : الماء المهين الضعيف.
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن أبي يحيى الأعرج ، عن ابن عباس في قوله : (مِنْ سُلالَةٍ) قال : صفو الماء.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) قال : ضعيف نطفة الرجل ، ومهين : فعيل من قول القائل : مهن فلان ، وذلك إذا زلّ وضعف.
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (9) }
يقول تعالى ذكره : ثم سوّى الإنسان الذي بدأ خلقه من طين خلقا سويا معتدلا(وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) فصار حيا ناطقا( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ) يقول : وأنعم عليكم أيها الناس ربكم بأن أعطاكم السمع تسمعون به الأصوات ، والأبصار تبصرون بها الأشخاص والأفئدة ، تعقلون بها الخير من السوء ، لتشكروه على ما وهب لكم من ذلك. وقوله : (قَلِيلا ما تَشْكُرُونَ) يقول : وأنتم تشكرون قليلا من الشكر ربكم على ما أنعم عليكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) }
يقول تعالى ذكره : وقال المشركون بالله ، المُكذّبون بالبعث : (أئِذَا ضَلَلْنا في الأرْض) أي : صارت لحومنا وعظامنا ترابا في الأرض وفيها لغتان : ضَلَلْنَا ، وَضَلِلنا. بفتح اللام وكسرها ، والقراءة على فتحها وهي الجوداء ، وبها نقرأ. وذكر عن الحسن أنه كان يقرأ : (أئِذَا صَلَلْنا) بالصاد ، بمعنى : أنتنا ، من قولنا : صلّ اللحم وأصلّ إذا أنتن. وإنما عنى هؤلاء المشركون بقولهم : (أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ) أي : إذا هلكت أجسادنا

(20/173)


في الأرض ؛ لأن كلّ شيء غلب عليه غيره حتى خفي فيما غلب ، فإنه قد ضلّ فيه ، تقول العرب : قد ضلّ الماء في اللبن : إذا غلب عليه حتى لا يتبين فيه ، ومنه قول الأخطل لجرير :
كُنْتَ القَذَى في مَوْج أكْدَرَ مُزْبدٍ... قَذَفَ الأتِيُّ بِه فَضَلَّ ضَلالا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد(أئِذا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ) يقول : أئذا هلكنا.
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْض) هلكنا.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد : قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (أئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ) يقول : أئذا كنا عظاما ورفاتا أنبعث خلقا جديدا ؟ يكفرون بالبعث.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، (وَقالُوا أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْض أئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَديدٍ) قال : (قالوا أئذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أئنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا).
وقوله : (بَلْ هُمْ بَلقاء رَبِّهِمْ كافِرُونَ) يقول تعالى ذكره : ما بهؤلاء المشركين جحود قدرة الله على ما يشاء ، بل هم بلقاء ربهم كافرون ؛ حذرا لعقابه ، وخوف مجازاته
__________
(1) البيت للأخطل (ديوانه طبعة بيروت ص 50). والقذي : ما يقع في العين من تراب أو تبن ونحوه ، مما يطيره الريح ، والأكدر : الكدر ، غير الصافي ، لأنه أتى من بعيد ، وهو شديد الجري ، يخالطه التراب والغثاء ، ولذلك قال : " مزبد " ، وهو الذي علاه الزبد لتحركه واضطرابه. والأتي : السيل يأتي من مكان بعيد ، أو من بلد إلى بلد. وقبل هذا البيت بيت آخر مرتبط به في المعنى ، قال الأخطل : وَإِذَا سَمَاه لِلْمَجْدِ فَرْعا وَائِلٍ ... وَاسْتَجْمَعَ الْوَادِي عَلَيْكَ فَسالا
فرعا وائل : هما بكر وتغلب. يريد أنه إذا اجتمع فرعا وائل في مكان يوم فخار مع القبائل ، وصاروا أشبه بالسيل في كثرته لم تكن أنت يا جرير بالإضافة إليهم إلا كقذاة غرقت في ذلك السيل الكدر ، فضلت فيه وغابت ، ولم يوقف لها على أثر. ولذلك قال شارح الديوان : والمراد من البيت أن أبا جرير حقير خسيس ، بالقياس إلى من ذكرهم. والبيت شاهد على أن الضلال : غياب الشيء ، حتى لا يحس له أثر.

(20/174)


قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)

إياهم على معصيتهم إياه ، فهم من أجل ذلك يجحدون لقاء ربهم في المعاد.
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله : (يتوفاكم ملك الموت) ، يقول : يستوفي عددكم بقبض أرواحكم ملك الموت الذي وكل بقبض أرواحكم ، ومنه قول الراجز :
إنَّ بَني الأدْرَمِ لَيْسُوا مِنْ أحَدْ... وَلا تَوَفاَّهُمْ قُرَيْشٌ فِي العَدَدْ (1)
حثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) قال : ملك الموت يتوفاكم ، ومعه أعوان من الملائكة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ) قال : حويت له الأرض فجُعلت له مثل الطست يتناول منها حيث يشاء.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، بنحوه.
__________
(1) البيتان لمنظور الوبري (اللسان : وفى) قال : وتوفيت عدد القوم إذا عددتهم كلهم. وأنشد أبو عبيدة لمنظور الوبري (بسكون الباء) : * إن بني الأدرد ليسوا من أحد *
... البيتان. أي لا تجعلهم قريش تمام عددهم ، ولا تستوفى بهم عددهم. وفي رواية اللسان : الأدرد في موضع الأدرم من رواية أبي عبيدة. ولم يصرح أبو عبيدة باسم الشاعر منظور الوبري ، ولعل صاحب اللسان رأى نسخة من مجاز القرآن فيها اسم الشاعر. وأنشد البيت صاحب التاج في (وفى) قال : وتوفيت عدد القوم : إذا عددتهم لهم. وأنشد أبو عبيدة لمنظور العنبري : * إن بني الأدرد ليسوا من أحد *
والأدرد فيه بالدال آخر الحروف ، لا بالميم ، كما في نسخة مجاز القرآن التي بأيدينا. وفي (اللسان : وفى) : أورد ابن منظور البيت كرواية المؤلف ، ونسبة إلى منظور الوبري. ا هـ .

(20/175)


وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لو ترى يا محمد هؤلاء القائلين : (أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ أئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) إذ هم ناكسوا رءوسهم عند ربهم حياء من ربهم. للذي سلف منهم من معاصيه في الدنيا ، يقولون : يا(رَبَّنَا أبْصَرْنا) ما كنا نكذّب به من عقابك أهل معاصيك(وَسَمِعْنَا) منك تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا(فارجعنا) يقول : فارددنا إلى الدنيا نعمل فيها بطاعتك ، وذلك العمل الصالح(إنَّا مُوقَنُونَ) يقول : إنا قد أيقنا الآن ما كنا به في الدنيا جهالا من وحدانيتك وأنه لا يصلح أن يُعبد سواك ، ولا ينبغي أن يكون ربّ سواك ، وأنك تحيي وتميت ، وتبعث من في القبور بعد الممات والفناء وتفعل ما تشاء.
وبنحو ما قلنا في قوله : (نَاكِسُوا رُءُوسِهمْ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد قوله : (وَلَوْ تَرَى إذِ المُجْرِمونَ ناكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدِ رَبَّهِمْ) قال : قد حزنوا واستحيوا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) }
يقول تعالى ذكره : (وَلَوْ شِئْنَا) يا محمد(لآتَيْنَا) هؤلاء المشركين بالله من قومك وغيرهم من أهل الكفر بالله(هُدَاهَا) يعني : رشدها وتوفيقها للإيمان بالله(وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مني) يقول : وجب العذاب مني لهم ، وقوله : (لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ منَ الجِنَّة والنَّاسِ أجمَعِينَ) يعني : من أهل المعاصي والكفر بالله منهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَلَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) قال : لو شاء الله لهدى الناس جميعا ، لو شاء الله لأنزل عليهم من السماء

(20/176)


فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)

آية ، فظلت أعناقهم لها خاضعين ، (وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي) حقّ القول عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) }
يقول تعالى ذكره : يقال لهؤلاء المشركين بالله إذا هم دخلوا النار : ذوقوا عذاب الله بما نسيتم لقاء يومكم هذا في الدنيا ، (إنَّا نَسِيناكُمْ) يقول : إنا تركناكم اليوم في النار.
وقوله : (وَذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ) يقول : يقال لهم أيضا : ذوقوا عذابا تخلدون فيه إلى غير نهاية(بِما كُنْتُمْ) في الدنيا(تَعْمَلُونَ) من معاصي الله.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ ) قال : نسوا من كلّ خير ، وأما الشرّ فلم ينسوا منه.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : (إنَّا نَسِيناكُمْ) يقول : تركناكم.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) }
يقول تعالى ذكره : ما يصدق بحججنا وآيات كتابنا إلا القوم الذين إذا ذكروا بها ووعظوا(خَرّوا) لله(سجدا) لوجوههم ، تذلُّلا له ، واستكانة لعظمته ، وإقرارا له بالعبوديَّة(وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ ربِّهِمْ) يقول : وسبحوا الله في سجودهم بحمده ، فيبرئونه مما يصفه أهل الكفر به ، ويضيفون إليه من الصاحبة والأولاد والشركاء والأنداد(وهم لا يستكبرون) يقول : يفعلون ذلك ، وهم لا يستكبرون عن السجود له والتسبيح ، لا يستنكفون عن التذلُّل له والاستكانة. وقيل : إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن قوما من المنافقين كانوا يخرجون من المسجد إذا أقيمت الصلاة ، ذُكر ذلك عن حجاج ، عن ابن جُرَيج.
القول في تأويل قوله تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ

(20/177)


تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)

رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) }
يقول تعالى ذكره : تتنحَّى جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله ، الذين وصفت صفتهم ، وترتفع من مضاجعهم التي يضطجعون لمنامهم ، ولا ينامون(يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفا وَطَمَعا) في عفوه عنهم ، وتفضُّله عليهم برحمته ومغفرته(ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في سبيل الله ، ويؤدّون منه حقوق الله التي أوجبها عليهم فيه. وتتجافى : تتفاعل من الجفاء ، والجفاء : النبو ، كما قال الراجز :
وَصَاحِبي ذَاتُ هِباب دَمْشَقُ... وَابنُ مِلاطٍ مُتجاف أرْفَقُ (1)
يعني : أن كرمها سجية عن ابن ملاط ، وإنما وصفهم تعالى ذكره بتجافي جنوبهم عن المضاجع ؛ لتركهم الاضطجاع للنوم شغلا بالصلاة.
واختلف أهل التأويل في الصلاة التي وصفهم جلّ ثناؤه ، أن جنوبهم تتجافى لها عن المضطجع ، فقال بعضهم : هي الصلاة بين المغرب والعشاء ، وقال : نزلت هذه الآية في قوم كانوا يصلون في ذلك الوقت.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن أبي عروبة ، قال : قال قتادة ، قال أنس في قوله : (كانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْل مَا يَهْجَعُونَ) قال : كانوا يتنفَّلون فيما بين
__________
(1) البيتان للزفيان (انظرهما في الملحق بديوان العجاج 100). والهباب : النشاط والإسراع في السير. والدمشق : الناقة الخفيفة السريعة ، وأنشد أبو عبيدة قول الزفيان : وَمَنْهَل طامٍ عَلَيْهِ الغَلْفَقُ ... يُنِيرُ أوْ يُسْدِى بِهِ الخَوَرْنَقُ
وَرَدْتُهُ واللَّيْلُ دَاجٍ أبْلَقُ ... وَصَاحبي ذَات هِباب دَمْشَقُ
كأنها بعْدَ الكَلالِ زَوْرَقُ
ولم يذكر البيت الثاني ، وهو محل الشاهد عند المؤلف. وفي (اللسان : ملط) قال النضر : الملاطان : ما عن يمين الكركرة وشمالها. وابنا ملاطي البعير : هما العضدان ، وقيل كتفاه ، وابنا ملاط : العضدان والكتفان. الواحد : ابن ملاط. وقال ابن السكيت : ابنا ملاط : العضدان. والمتجافي : البائن عن جنبها ، وذلك أقوى لسيرها. والأرفق : المنفتل المرفق عن الجنب ، وهو أرفق ، وناقة رفقاء. ا هـ. وقال الأزهري : الذي حفظه بهذا المعنى : ناقة دفقاء ، وجمل أدفق ، إذا انفتق مرفقه عن جنبه. وفي (اللسان : دفق) ورجل أدفق : إذا انحنى صلبه من كبر أو غم. وأنشد المفضل * وابن ملاط متجاف أدفق *
ا هـ. وأنشد أبو عبيدة البيتين في مجاز القرآن (الورقة 193 - أ) ولم ينسبه. ثم قال : أدفق (بالدال) أي متنح عن كركرتها. ا هـ .

(20/178)


المغرب والعشاء ، وكذلك(تتجافى جنوبهم) قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قَتادة ، عن أنس في قوله : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ) قال : يصلون ما بين هاتين الصلاتين.
حدثني عليّ بن سعيد الكنديّ ، قال : ثنا حفص بن غياث ، عن سعيد ، عن قَتادة ، عن أنس(تَتَجَافَى جُنُوبهُم عَنِ المَضَاجِعِ) قال : ما بين المغرب والعشاء.
حدثني محمد بن خلف ، قال : ثنا يزيد بن حيان ، قال : ثنا الحارث بن وجيه الراسبي ، قال : ثنا مالك بن دينار ، عن أنس بن مالك ، أن هذه الآية نزلت في رجال من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء(تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ).
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا محمد بن بشر ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قَتادة ، عن أنس(تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ) قال : كانوا يتطوعون فيما بين المغرب والعشاء.
قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن أنس(تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ) قال : ما بين المغرب والعشاء.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ) قال : كانوا يتنفَّلون ما بين صلاة المغرب وصلاة العشاء.
وقال آخرون : عنى بها صلاة المغرب (1) .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن طلحة ، عن عطاء(تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ) قال : عن العتمة.
وذُكر عن حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال يحيى بن صَيفي ، عن أبي سلمة ، قال : العتمة.
وقال آخرون : لانتظار صلاة العتمة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : ثنا عبد العزيز بن عبد إلى الأويسي ، عن
__________
(1) لعله صلاة العتمة ، يعني العشاء ، كما تفيده الآثار بعد.

(20/179)


سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، عن أنس بن مالك ، أن هذه الآية(تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ) نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة.
وقال آخرون : عنى بها قيام الليل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، عن الحسن(تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ) قال : قيام الليل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ) قال : هؤلاء المتهجدون لصلاة الليل.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ) يقومون يصلون من الليل.
وقال آخرون : إنما هذه صفة قوم لا تخلو ألسنتهم من ذكر الله.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : اخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُم خَوْفا وَطَمَعا) : وهم قوم لا يزالون يذكرون الله ، إما في صلاة ، وإما قياما ، وإما قعودا ، وإما إذا استيقظوا من منامهم ، هم قوم لا يزالون يذكرون الله.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ ...) إلى آخر الآية ، يقول : تتجافى لذكر الله ، كلما استيقظوا ذكروا الله ، إما في الصلاة ، وإما في قيام ، أو في قعود ، أو على جنوبهم ، فهم لا يزالون يذكرون الله.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله وصف هؤلاء القوم بأن جنوبهم تنبو عن مضاجعهم ، شغلا منهم بدعاء ربهم وعبادته خوفا وطمعا ، وذلك نبوّ جنوبهم عن المضاجع ليلا ؛ لأن المعروف من وصف الواصف رجلا بأن جنبه نبا عن مضجعه ، إنما هو وصف منه له بأنه جفا عن النوم في وقت منام الناس المعروف ، وذلك الليل دون النهار ، وكذلك تصف العرب الرجل إذا وصفته بذلك ، يدلّ على ذلك قول عبد الله

(20/180)


بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه في صفة نبيّ الله صلى الله عليه وسلم :
يَبِيتُ يُجافِي جَنْبَهُ عَنْ فِراشِهِ... إذا اسْتَثْقَلَت بالمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ (1)
فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله تعالى ذكره لم يخصص في وصفه هؤلاء القوم بالذي وصفهم به من جفاء جنوبهم عن مضاجعهم من أحوال الليل وأوقاته حالا ووقتا دون حال ووقت ، كان واجبا أن يكون ذلك على كلّ آناء الليل وأوقاته. وإذا كان كذلك كان من صلى ما بين المغرب والعشاء ، أو انتظر العشاء الآخرة ، أو قام الليل أو بعضه ، أو ذكر الله في ساعات الليل ، أو صلى العتمة ممن دخل في ظاهر قوله : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ) لأن جنبه قد جفا عن مضجعه في الحال التي قام فيها للصلاة قائما صلى أو ذكر الله ، أو قاعدا بعد أن لا يكون مضطجعا ، وهو على القيام أو القعود قادر ، غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن توجيه الكلام إلى أنه معني به قيام الليل أعجب إليّ ؛ لأن ذلك أظهر معانيه ، والأغلب على ظاهر الكلام ، وبه جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك ما حدثنا به ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سمعت عروة بن الزبير يحدّث عن معاذ بن جبل ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " ألا أدلُّكَ عَلى أبْواب الخَيْرِ : الصَّوْمُ جُنَّةٌ ، والصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الخَطِيئَةَ ، وَقِيامُ العَبْدِ في جَوْفِ اللَّيْلِ " وتلا هذه الآية(تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفا وَطَمَعا ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) " .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن حماد ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن سليمان ، عن حبيب بن أبي ثابت والحكم ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن معاذ بن جبل ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه.
حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : ثنا آدم ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثنا منصور بن المعتمر ، عن الحكم بن عُتيبة ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن معاذ بن جبل ،
__________
(1) البيت لعبد الله بن رواحة الأنصاري أحد شعراء النبي صلى الله عليه وسلم. ويجافي : يباعد واستثقلت ثقلت : والمضاجع : جمع مضجع ، وهو الفراش ينام فيه أو موضعه. والبيت شاهد ثاني على التجافي في قوله تعالى : (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) : معناه : تبعد. قال أبو عبيدة في مجازالقرآن ( الورقة 195 - ب ) : أي ترتفع عنها وتتنحى ، لأنهم يصلون بالليل. ا هـ.

(20/181)


فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)

قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بأبْوابِ الخَيْرِ : الصَّوْمُ جُنَّةٌ ، والصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الخَطِيئَةَ ، وَقِيامُ الرَّجُلِ في جَوْفِ اللَّيْلِ " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم(تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يزيد بن حيان ، عن حماد بن سلمة ، قال : ثنا عاصم بن أبي النجود ، عن شهر بن حوشب ، عن معاذ بن جبل ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ) قال : " قِيامُ العَبْدِ مِن اللَّيْل " .
حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع ، قال : ثني أبي ، قال : ثني زياد بن خيثمة ، عن أبي يحيى بائع القتّ ، عن مجاهد ، قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل ، ففاضت عيناه حتى تحادرت دموعه ، فقال : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ).
وأما قوله : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفا وَطَمَعا...) الآية ، فإن بنحو الذي قلنا (1) في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) قال : خوفا من عذاب الله ، وطمعا في رحمة الله ، ومما رزقناهم ينفقون فى طاعة الله ، وفي سبيله.
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) }
يقول تعالى ذكره : فلا تعلم نفسٌ ذي نفس ما أخفي الله لهؤلاء الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم في هاتين الآيتين ، مما تقرّ به أعينهم في جنانه يوم القيامة(جَزَاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يقول : ثوابا لهم على أعمالهم التي كانوا في الدنيا يعملون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ،
__________
(1) انظر تفسير المؤلف للآية في صدر الكلام عليها ص 99.

(20/182)


عن أبي عبيدة (1) قال : قال عبد الله : إن في التوراة مكتوبا : لقد أعدّ الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ، ولم يخطر على قلب بشر ، ولم تسمع أذن ، وما لم يسمعه ملك مقرّب. قال : ونحن نقرؤها : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسُ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ).
حدثنا خلاد ، قال : أخبرنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا إسرائيل ، قال : أخبرنا أبو إسحاق ، عن عُبيدة بن ربيعة ، عن ابن مسعود ، قال : مكتوب في التوراة على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، في القرآن(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ منْ قُرَّةِ أعْيُن جَزَاءً بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : خبئ لهم ما لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، قال سفيان : فيما علمت على غير وجه الشكّ.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت أبا عبيدة ، قال : قال عبد الله ، قال - يعني - الله : " أعددت لعبادي الصالحين ما لم تر عين ، ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب ناظر(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ من قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بما كانُوا يعْلَمونَ) " .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن صلت ، عن قيس بن الربيع ، عن أبي إسحاق ، عن عبيدة بن ربيعة الحارثي ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : إن في التوراة للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع من الكرامة ، ما لم تر عين ، ولم يخطر على قلب بشر ، ولم تسمع أذن ، وإنه لفي القرآن(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُن).
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا الأشجعي ، عن ابن أبجر ، قال : سمعت الشعبيّ يقول : سمعت المغيرة بن شعبة يقول على المنبر : إن موسى صلى الله عليه وسلم سأل
__________
(1) عبيدة بن ربيعة بضم العين. وقيل : هو عبيد بفتحها وبلا هاء. وهو الذي يروي عنه أبو إسحاق كما في الخلاصة ، وفي الأصل : أبي عبيدة ، ولعل " أبي " زيادة من الناسخ.

(20/183)


عن أبخس أهل الجنة فيها حظا ، فقيل له : رجل يُؤتى به وقد دخل أهل الجنة الجنة ، قال : فيقال له : ادخل ، فيقول : أين وقد أخذ الناس أخذاتهم ؟ فيقال : اعدد أربعة ملوك من ملوك الدنيا ، فيكون لك مثل الذي كان لهم ، ولك أخرى شهوة نفسك ، فيقول : أشتهي كذا وكذا ، واشتهي كذا ، وقال : لك أخرى ، لك لذّة عينك ، فيقول : ألذّ كذا وكذا ، فيقال : لك عشرة أضعاف مثل ذلك ، وسأله عن أعظم أهل الجنة فيها حظا ، فقال : ذاك شيء ختمت عليه يوم خلقت السموات والأرض. قال الشعبي : فإنه في القرآن : ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).
حدثني أحمد بن محمد الطَّوسي ، قال : ثنا الحميدي ، قال : ثنا ابن عُيينة ، وحدثني به القرقساني ، عن ابن عيينة ، عن مطرف بن طريف ، وابن أبجر ، سمعنا الشعبيّ يقول : سمعت المغيرة بن شعبة على المنبر يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ مُوسَى سألَ رَبَّهُ : أيْ رَبّ ، أيُّ أهْلِ الجَنَّةِ أدْنى مَنزلةً ؟ قال : رَجُلٌ يَجيءُ بَعْدَما دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ ، فَيُقالُ لَهُ : ادْخُلْ. فَيَقُولَ : كَيْفَ أَدْخُلُ وَقَدْ نزلُوا منازِلَهُمْ ؟ فَيقالُ لَهُ : أتَرْضَى أنْ يَكُونَ لكَ مِثْلَ ما كانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيا ؟ فَيَقُولُ : بَخ أيْ رب قَدْ رَضِيتُ ، فَيُقالُ لَهُ : إنَّ لَكَ هَذَا وَمِثْلَهُ وَمِثْلَهُ وَمِثْلَهُ ، فَيَقُولُ : رَضِيتُ أيْ رَبّ رَضِيتُ ، فَيُقالُ لَهُ : إنَّ لَكَ هَذَا وَعَشْرَةُ أمثالِهِ مَعَهُ ، فَيقُول : رَضِيتُ أيْ رَبّ ، فَيُقالُ لَهُ : فإنَّ لَكَ مَعَ هَذَا ما اشْتَهَتْ نَفْسُكَ ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ ، قالَ : فَقالَ مُوسَى : أيْ ربّ ، وأيُّ أهْل الجَنَّة أرْفَعُ مَنزلَةً ، قَالَ : إيَّاها أرَدْتُ ، وسأُحَدّثكَ عَنْهُمْ غَرسْتُ لَهُمْ كَرَامَتِي بِيَدي ، وَخَتَمْتُ عَلَيْها ، فَلا عَيْنٌ رأت ، وَلا أُذُنٌ سَمعَتْ ، وَلا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ. قالَ : وَمِصْدَاقُ ذلِكَ فِي كِتاب اللهِ(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِي لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُن جِزَاءً بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ).
حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، قال : ثنا إسحاق بن سليمان ، قال : ثنا عمرو بن أبي قَيْس ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس في قوله : (وكانَ عَرْشُهُ على المَاءِ) وكان عرش الله على الماء ، ثم اتخذ لنفسه جنة ، ثم اتخذ دونها أخرى ، ثم أطبقها بلؤلؤة واحدة ، قال : (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) قال : وهي التي لا تعلم نفس ، أو قال : هما التي لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء

(20/184)


بما كانوا يعملون. قال : وهي التي لا تعلم الخلائق ما فيها أو ما فيهما يأتيهم كل يوم منها أو منهما تحفة.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن عنبسة ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جُبَير ، بنحوه.
حدثنا سهل بن موسى الرازي ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، عن صفوان بن عمرو ، عن أبي اليمان الهوزني أو غيره ، قال : الجنة مئة درجة ، أوّلها درجة فضة ، أرضها فضة ، ومساكنها فضة ، وآنيتها فضة ، وترابها المسك. والثانية ذهب ، وأرضها ذهب ، ومساكنها ذهب ، وآنيتها ذهب ، وترابها المسك. والثالثة لؤلؤ ، وأرضها لؤلؤ ، ومساكنها لؤلؤ ، وآنيتها لؤلؤ ، وترابها المسك. وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأته ، ولا أذن سمعته ، ولا خطر على قلب بشر ، وتلا هذه الآية(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ).
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا المحاربي وعبد الرحيم ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قالَ اللهُ : أَعْدَدْتُ لِعبادي الصَّالِحينَ ما لا عَيْنٌ رأتْ ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ ، واقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ، قَالَ اللهُ : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ) " .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا أبو معاوية وابن نمير ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعْدَدْتُ لِعبَادي الصَّالِحِينَ ، مَا لا عَيْنٌ رَأتْ ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " قال أبو هريرة : ومِن بَلْهَ ما أطلعكم عليه ، اقرَءُوا إن شئتم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ) قال أبو هريرة : نقرؤها : (قُرَّاتِ أعْيُنٍ).
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن الغطريف ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، عن الروح الأمين ، قال : " يُؤْتَي بِحَسَناتِ العَبْدِ وَسَيِّئاتِهِ ، فَيَنْقُصُ بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ، فإنْ بَقِيَتْ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَسَّعَ اللهُ لَهُ فِي الجَنَّة " ، قال : فدخلت على يزداد ، فحدّث بمثل هذا ؛ قال : قلت : فأين ذهبت الحسنة ؟ قال : (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتهِمْ فِي أصحابِ الجَنَّةِ وَعْدَ الصّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) ،

(20/185)


قلت : قوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ) قال : العبد يعمل سرّا أسرّه إلى الله لم يعلم به الناس ، فأسرّ الله له يوم القيامة قرّة عين.
حدثني العباس بن أبي طالب ، قال : ثنا معلى بن أسد ، قال : ثنا سلام بن أبي مطيع ، عن قتادة ، عن عقبة بن عبد الغافر ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يروي عن ربه ، قال : " أَعْدَدْتُ لِعِبادِيَ الصَّالِحينَ ما لا عَيْنٌ رأتْ ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ " .
حدثني أبو السائب ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني أبو صخر ، أن أبا حازم حدثه ، قال : سمعت سهل بن سعد يقول : شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا وصف فيه الجنة حتى انتهى ، ثم قال في آخر حديثه : " فيهَا ما لا عَيْنٌ رأتْ ، وَلا أُذُنٌ سمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " ثم قرأ هذه الآية(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ ...) إلى قوله : (جَزَاءً بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قالَ رَبُّكُمْ : أَعْدَدْتُ لِعَبادِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحاتِ ما لا عَيْنٌ رأتْ ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ " .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يروي ذلك عن ربه ، " قالَ رَبُّكُمْ : أَعْدَدْتُ لِعِبادي الصَّالِحينَ ما لا عَيْنٌ رأتْ ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشِرٍ " .
حدثني ابن وكيع ، قال : ثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ) قال : أخفوا عملا في الدنيا ، فأثابهم الله بأعمالهم.
حدثني القاسم بن بشر ، قال : ثنا سليمان بن حرب ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، قال حماد : أحسبه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ يَنْعَمْ وَلا يَبْؤُسْ ، لا تَبْلَى ثِيابُهُ ، وَلا يَفْنَى شَبابُهُ ، في الجَنَّةِ ما لا عَيْنٌ رأتْ ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ " .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ) فقرأ ذلك بعض المدنيين والبصريين ، وبعض الكوفيين : (أُخْفِيَ) بضم الألف وفتح الياء

(20/186)


أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)

بمعنى فُعِل. وقرأ بعض الكوفيين : (أُخْفِي لَهُمْ) بضم الألف وإرسال الياء ، بمعنى أفعل ، أخفي لهم أنا.
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان ، متقاربتا المعنى ، لأن الله إذا أخفاه فهو مخفي ، وإذا أخفي فليس له مخف غيره ، و " ما " في قوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) فإنها إذا جعلت بمعنى الذي كانت نصبا بوقوع تعلم عليها كيف قرأ القارئ أخفي ، وإذا وجهت إلى معنى أيّ كانت رفعا إذا قرئ أخفى بنصب الياء وضم الألف ، لأنه لم يسمّ فاعله ، وإذا قرئ أُخفِي بإرسال الياء كانت نصبا بوقوع أخفي عليها.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نزلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) }
يقول تعالى ذكره : أفهذا الكافر المكذّب بوعد الله ووعيده ، المخالف أمر الله ونهيه ، كهذا المؤمن بالله ، والمصدّق بوعده ووعيد ، المطيع له في أمره ونهيه ، كلا لا يستوون عند الله يقول : لا يعتدل الكفَّار بالله ، والمؤمنون به عنده ، فيما هو فاعل بهم يوم القيامة. وقال : (لا يَسْتَوُونَ) فجمع ، وإنما ذكر قبل ذلك اثنين : مؤمنا وفاسقا ؛ لأنه لم يرد بالمؤمن : مؤمنا واحدا ، وبالفاسق : فاسقا واحدا ، وإنما أريد به جميع الفسَّاق ، وجميع المؤمنين بالله. فإذا كان الاثنان غير مصمود لهما ذهبت لهما العرب مذهب الجمع.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب ، رضوان الله عليه ، والوليد بن عُقبة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت بالمدينة ، في عليّ بن أبي طالب ، والوليد

(20/187)


بن عقبة بن أبي معيط كان بين الوليد وبين عليّ كلام ، فقال الوليد بن عقبة : أنا أبسط منك لسانا ، وأحدّ منك سنانا ، وأرد منك للكتيبة ، فقال عليّ : اسكت ، فإنك فاسق ، فأنزل الله فيهما : (أفَمنْ كانَ مُؤْمِنا كمَنْ كانَ فاسِقا لا يَسْتَوُونَ) إلى قوله : (بِهِ تُكَذّبُونَ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (أفَمنْ كانَ مُؤْمِنا كمَنْ كانَ فاسِقا لا يَسْتَوُونَ) قال : لا والله ما استووا في الدنيا ، ولا عند الموت ، ولا في الآخرة.
وقوله : (أمَّا الَّذِينَ آمنوا وَعمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأْوَى) يقول تعالى ذكره : أما الذين صدّقوا الله ورسوله ، وعملوا بما أمرهم الله ورسوله ، فلهم جنات المأوى : يعني بساتين المساكن التي يسكنونها في الآخرة ويأوون إليها. وقوله : (نزلا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يقول : نزلا بما أنزلهموها جزاء منه لهم بما كانوا يعملون في الدنيا بطاعته. وقوله : (وأمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) يقول تعالى ذكره : وأما الذين كفروا بالله ، وفارقوا طاعته(فَمأْوَاهُمُ النَّارُ) يقول : فمساكنهم التي يأوون إليها في الآخرة النار( كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ ) في الدنيا(تُكَذّبُونَ) أن الله أعدّها لأهل الشرك به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وأمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) أشركوا(وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) والقوم مكذّبون كما ترون.

(20/188)


وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) }
اختلف أهل التأويل في معنى العذاب الأدنى الذي وعد الله أن يذيقه هؤلاء الفسقة ، فقال بعضهم : ذلك مصائب الدنيا في الأنفس والأموال.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس

(20/188)


(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَاب الأدنى) يقول : مصائب الدنيا وأسقامها وبلاؤها مما يبتلي الله بها العباد حتى يتوبوا.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَر لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قال : العذاب الأدنى بلاء الدنيا ، قيل : هي المصائب.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن عروة ، عن الحسن العرني ، عن ابن أبي ليلى ، عن أُبيّ بن كعب(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى) قال : المصيبات في الدنيا قال : والدخان قد مضى ، والبطشة واللزام.
قال أبو موسى : ترك يحيى بن سعيد ، يحيى بن الجزار ، نقصان رجل.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر ، قالا ثنا شعبة ، عن قتادة ، عن ابن عروة ، عن الحسن العرني ، عن يحيى بن الجزار ، عن ابن أبي لَيلى ، عن أُبيّ بن كعب ، أنه قال : في هذه الآية(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ) قال : مصيبات الدنيا ، واللزوم والبطشة ، أو الدخان : شكّ شعبة في البطشة أو الدخان.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قَتادة ، عن عروة ، عن الحسن العرني ، عن يحيى بن الجزّار ، عن ابن أبي لَيلى ، عن أُبيّ بن كعب ، بنحوه ، إلا أنه قال : المصيبات واللزوم والبطشة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا زيد بن حباب ، عن شعبة ، عن قَتادة ، عن عروة ، عن الحسن العرني ، عن يحيى بن الجزّار ، عن عبد الرحمن بن أبي لَيلى ، عن أُبيّ بن كعب ، قال : المصيبات يصابون بها في الدنيا : البطشة ، والدخان ، واللزوم.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى) قال : المصائب في الدنيا.
قال : ثنا أبو خالد الأحمر ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ) قال : المصيبات في دنياهم وأموالهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، حدثه ، عن الحسن قوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَىَ) : أي مصيبات الدنيا.

(20/189)


حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى) قال : أشياء يُصابون بها في الدنيا.
وقال آخرون : عنى بها الحدود.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ) قال : الحدود.
وقال آخرون : عنى بها القتل بالسيف ، قال : وقتلوا يوم بدر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن السديّ ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى) قال : يوم بدر.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن السديّ ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله مثله.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن السديّ ، عن مسروق ، عن عبد الله ، مثله.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا عوف عمن حدثه ، عن الحسن بن عليّ ، أنه قال : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ) قال : القتل بالسيف صبرا.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عبد الأعلى ، عن عوف ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ) قال : القتل بالسيف ، كلّ شيء وعد الله هذه الأمة من العذاب الأدنى إنما هو السيف.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ) قال : القتل والجوع لقريش في الدنيا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : كان مجاهد يحدّث

(20/190)


عن أُبيّ بن كعب أنه كان يقول : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ) يوم بدر.
وقال آخرون : عنى بذلك سنون أصابتهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ) قال : سنون أصابتهم.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله.
وقال آخرون : عنى بذلك : عذاب القبر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ) قال : الأدنى في ألقبور وعذاب الدنيا.
وقال آخرون : ذلك عذاب الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى) قال : العذاب الأدنى : عذاب الدنيا.
وأولى الأقوال في ذلك أن يقال : إن الله وعد هؤلاء الفسقة المكذّبين بوعيده في الدنيا العذاب الأدنى ، أن يذيقهموه دون العذاب الأكبر ، والعذاب : هو ما كان في الدنيا من بلاء أصابهم ، إما شدّة من مجاعة ، أو قتل ، أو مصائب يصابون بها ، فكل ذلك من العذاب الأدنى ، ولم يخصص الله تعالى ذكره ، إذ وعدهم ذلك أن يعذّبهم بنوع من ذلك دون نوع ، وقد عذّبهم بكل ذلك في الدنيا بالقتل والجوع والشدائد والمصائب في الأموال ، فأوفى لهم بما وعدهم.
وقوله : (دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ) يقول : قيل العذاب الأكبر ، وذلك عذاب يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(20/191)


وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن السديّ ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله(دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ) قال : يوم القيامة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن السديّ ، عن مسروق ، عن عبد الله مثله.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ) يوم القيامة في الآخرة.
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد(دونَ العَذَابِ الأكْبَرِ) يوم القيامة.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ) يوم القيامة حدّث به قَتادة ، عن الحسن.
حدثني يونس ، قال : أحبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ) قال : العذاب الأكبر : عذاب الآخرة.
وقوله : (لَعَلَّهمْ يَرْجِعُونَ) يقول : كي يرجعوا ويتوبوا بتعذيبهم العذاب الأدنى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن السديّ ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قال : يتوبون.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن الربيع ، عن أبي العالية(لَعَلَّهُمْ يَرْجعونَ) قال : يتوبون.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(لَعَلَّهُمْ يَرْجعونَ) : أي يتوبون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) }

(20/192)


وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)

يقول تعالى ذكره : وأيّ الناس أظلم لنفسه ممن وعظه الله بحججه ، وآي كتابه ، ورسله ، ثم أعرض عن ذلك كله ، فلم يتعظ بمواعظه ، ولكنه استكبر عنها.
وقوله : (إنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمونَ) يقول : إنا من الذين اكتسبوا الآثام ، واجترحوا السيئات منتقمون.
وكان بعضهم يقول : عنى بالمجرمين في هذا الموضع : أهل القدر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، قال : أخبرنا وائل بن داود ، عن مروان بن سفيح ، عن يزيد بن رفيع ، قال : إن قول الله في القرآن(إنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) هم أصحاب القدر ، ثم قرأ(إنَّ المُجْرِمِينَ في ضَلالٍ وَسُعُرٍ ...) إلى قوله : (خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ).
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا مروان ، قال : أخبرنا وائل بن داود ، عن ابن سفيح ، عن يزيد بن رفيع بنحوه ، إلا أنه قال في حديثه : ثم قرأ وائل بن داود هؤلاء الآيات(إنَّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ...) إلى آخر الآيات.
وقال آخرون في ذلك بما حدثني به عمران بن بكار الكلاعي ، قال : ثنا محمد بن المبارك ، قال : ثنا إسماعيل بن عياش ، قال : ثنا عبد العزيز بن عبيد الله ، عن عبادة بن نسيّ ، عن جنادة بن أبي أُميَّة ، عن معاذ بن جبل ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ثَلاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ أجْرَمَ : مَنِ اعْتَقَدَ لِوَاءً فِي غيرِ حَقّ ، أوْ عَقَّ وَالِدَيْهِ ، أو مَشَى مَعَ ظالمٍ يَنْصُرُهُ فَقَدْ أجْرَمَ. يَقُولُ اللهُ(إنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) }
يقول تعالى ذكره : ولقد آتينا موسى التوراة ، كما آتيناك الفرقان يا محمد(فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) يقول : فلا تكن في شكّ من لقائه ، فكان قتادة يقول : معنى ذلك : فلا تكن في شكّ من أنك لقيته ، أو تلقاه ليلة أُسري بك ، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

(20/193)


حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة عن أبي العالية الرياحي ، قال : حدثنا ابن عمّ نبيكم - يعني : ابن عباس - قال : قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : " أُرِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بنَ عِمْرَانَ رَجُلا آدَمَ طِوَالا جَعْدًا ، كأنَّهُ مِنْ رجالِ شَنُوءَةَ ، ورأيْتُ عِيسَى رَجُلا مَربُوعَ الخَلْقِ إلى الحُمْرَةِ والبياضِ ، سَبْطَ الرأسِ ورأيْتُ مالِكا خازِنَ النَّارِ ، والدَّجَّالَ " فِي آياتٍ أرَاهنَّ اللهُ إيَّاهُ ، (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) أنه قد رأى موسى ، ولقى موسى ليلة أُسري به.
وقوله : (وَجَعَلْناهُ هُدًى لِبَني إسْرائِيلَ) يقول تعالى ذكره : وجعلنا موسى هدى لبني إسرائيل ، يعنى : رشادا لهم يرشدون باتباعه ، ويصيبون الحقّ بالاقتداء به ، والائتمام بقوله.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَجَعَلْناهُ هُدًى لِبَني إسْرائِيلَ) قال : جعل الله موسى هدى لبني إسرائيل.
وقوله : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمَّةً) يقول تعالى ذكره : وجعلنا من بني إسرائيل أئمة ، وهي جمع إمام ، والإمام الذي يؤتمّ به في خير أو شرّ ، وأريد بذلك في هذا الموضع أنه جعل منهم قادة في الخير ، يؤتمّ بهم ، ويهْتَدى بهديهم.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمَّةً يَهدُونَ بأمْرِنا) قال : رؤساء في الخير. وقوله : (يَهْدُونَ بأمْرِنا) يقول تعالى ذكره : يهدون أتباعهم وأهل القبول منهم بإذننا لهم بذلك ، وتقويتنا إياهم عليه.
وقوله : (لَمَّا صَبرُوا) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة ، وبعض أهل الكوفة(لَمَّا صَبرُوا) بفتح اللام وتشديد الميم ، بمعنى : إذ صبروا ، وحين صبروا ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة(لِمَا) بكسر اللام وتخفيف الميم بمعنى : لصبرهم عن الدنيا وشهواتها ، واجتهادهم في طاعتنا ، والعمل بأمرنا ، وذُكر أن ذلك فى قراءة ابن مسعود(بِمَا صَبَرُوا) وما إذا كسرت اللام من(لِمَا) في موضع خفض ، وإذا فتحت اللام وشدّدت الميم ، فلا موضع لها ، لأنها حينئذ أداة.

(20/194)


إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)

والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، قد قرأ بكل واحدة منهما عامة من القراء فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وتأويل الكلام إذا قُرئ ذلك بفتح اللام وتشديد الميم ، وجعلنا منهم أئمة يهدون أتباعهم بإذننا إياهم ، وتقويتنا إياهم على الهداية ، إذ صبروا على طاعتنا ، وعزفوا أنفسهم عن لذّات الدنيا وشهواتها. وإذا قرئ بكسر اللام (1) على ما قد وصفنا.
وقد حدثنا ابن وكيع ، قال : قال أبي ، سمعنا في(وَجَعَلْنا مْنِهُمْ أئمَّةً يهدون بأمْرِنا لَمَّا صَبروا) قال : عن الدنيا.
وقوله : (وكانُوا بآياتِنا يُوقِنُونَ) يقول : وكانوا أهل يقين بما دلهم عليه حججنا ، وأهل تصديق بما تبين لهم من الحقّ ، وإيمان برسلنا ، وآيات كتابنا وتنزيلنا.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) }
يقول تعالى ذكره : إن ربك يا محمد هو يبين جميع خلقه يوم القيامة فيما كانوا فيه في الدنيا يختلفون من أمور الدين والبعث والثواب والعقاب ، وغير ذلك من أسباب دينهم ، فيفرق بينهم بقضاء فاصل بإيجابه لأهل الحقّ الجنة ، ولأهل الباطل النار.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) }
كما : حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس(أوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) يقول : أولم يبين لهم ، وعلى القراءة بالياء في ذلك قرّاء الأمصار ، وكذلك القراءة عندنا لإجماع الحجة من القرّاء ، بمعنى : أولم يبين لهم إهلاكنا القرون الخالية من قبلهم ، سنتنا فيمن سلك سبيلهم من الكفر بآياتنا ، فيتعظوا وينزجروا. وقوله : (كَمْ) إذا قُرئ(يهْدِ) بالياء ، في موضع رفع بيهد. وأما إذا قرئ ذلك بالنون(أوَلَمْ نَهْدِ) فإن موضع(كم) وما بعدها نصب. وقوله : (يَمْشونَ فِي مَساكِنهمْ) يقول تعالى ذكره : أولم يبين لهن كثرة إهلاكنا القرون الماضية من قبلهم يمشون في بلادهم
__________
(1) لعله فيكون على ... إلخ .

(20/195)


أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)

وأرضهم ، كعاد وثمود.
كما : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(أولَمْ يهْدِ لَهُمْ كَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهمْ مِنَ القُرُونِ) عاد وثمود ، وأنهم إليهم لا يُرجعون.
وقوله : (إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ) يقول تعالى ذكره : إن في خلاء مساكن القرون الذين أهلكناهم من قبل هؤلاء المكذّبين بآيات الله من قريش من أهلها الذين كانوا سكانها وعمَّارها بإهلاكنا إياهم لما كذّبوا رسلنا ، وجحدوا بآياتنا ، وعبدوا من دون الله آلهة غيره التي يمرّون بها فيعاينونها ، لآيات لهم وعظات يتعظون بها ، لو كانوا أولي حجا وعقول ، يقول الله : (أفلا يَسْمَعُونَ) عظات الله وتذكيره إياهم آياته ، وتعريفهم مواضع حججه ؟.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) }
يقول تعالى ذكره : أولم ير هؤلاء المكذّبون بالبعث بعد الموت ، والنشر بعد الفناء ، أنا بقُدرتنا نسوق الماء إلى الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها ، وأصله من قولهم : ناقة جرز : إذا كانت تأكل كلّ شيء ، وكذلك الأرض الجروز : التي لا يبقى على ظهرها شيء إلا أفسدته ، نظير أكل الناقة الجراز كلّ ما وجدته ، ومنه قولهم للأنسان الأكول : جَرُوز ، كما قال الراجز :
خَبّ جَرُوزٌ وَإذَا .... (1)
ومنه قيل للسيف إذا كان لا يبقي شيئا إلا قطعه سيف جراز ، فيه لغات أربع : أرض جُرُز ، وجَرْز ، وجِرز وجُرْز ، والفتح لبني تميم فيما بلغني.
__________
(1) هذا جزء من بيت من مشطور الرجز ، أورده الشوكاني في تفسيره المسمى فتح القدير (4 : 249) طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. وهناك البيت بتمامه مع ما يليه : خَبّ جَرُوزٌ وَإِذَا جَاعَ بَكَى ... وَيَأْكُلُ التَّمْرَ وَلا يُلْقي النَّوَى
وهو شاهد عند تفسير قوله تعالى : (أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز). قال أبو عبيدة مجاز القرآن (الورقة 193 - أ) : الأرض الجرز : أي اليابسة الغليظة التي لم يصبها مطر. ا هـ. وقال الفراء في معاني القرآن (الورقة 253) : الجرز التي لا نبات فيها. ويقال للناقة إنها لجراز : إذا كانت تأكل كل شيء ، وللإنسان : إنه لجروز : إذا كان أكولا. وسيف جراز : إذا كان لا يبقى شيئًا إلا قطعه.

(20/196)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن ابن عباس(الأرْضِ الجُرُزِ) أرض باليمن.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : أرض باليمن.
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(أوَلَمْ يَرَوْا أنَّا نسُوق الماء إلى الأرْضِ الجُرُزِ) قال : أبين (1) ونحوها.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : ثنا عبد الرزاق بن عمر ، عن ابن المبارك ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : ونحوها من الأرض.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن رجل ، عن ابن عباس في قوله : (إلى الأرْضِ الجُرُزِ) قال : الجرز : التي لا تمْطر إلا مطرا لا يغني عنها شيئا ، إلا ما يأتيها من السيول.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا محمد بن يزيد ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك(إلى الأرْضِ الجُرُزِ) ليس فيها نبت.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(أوَلَمْ يَرَوْا أنَّا نَسوقُ الماءَ إلى الأرْضِ الجُرُزِ) المغبرة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (أوَلَمْ يَرَوْا أنَّا نَسُوقُ الماءَ إلى الأرْضِ الجُرُزِ) قال : الأرض الجرز : التي ليس فيها شيء ، ليس فيها نبات ، وفي قوله : (صَعيدًا جُرزًا) قال : ليس عليها شيء ، وليس فيها نبات ولا شيء(فنخرجُ به زرعًا تأكلُ منهُ أنعامهُمْ وَأنْفُسُهُمْ) يقول تعالى ذكره : فنخرج بذلك الماء
__________
(1) إبين بكسر الهمزة وفتحها وسكون الباء ، وباء مفتوحة : اسم رجل كان في الزمان القديم ، ويقال : ذوأبين ، وهو الذي ينسب إليه عدن إبين من بلاد اليمن. فلعل راوي الأثر يريد هذا الموضع. (انظر البكري في المعجم).

(20/197)


وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

الذي نسوقه إليها على يبسها وغلظها وطول عهدها بالماء زرعا خضرا ، تأكل منه مواشيهم ، وتغذّى به أبدانهم وأجسامهم فيعيشون به(أفَلا يُبْصرُونَ) يقول تعالى ذكره : أفلا يرون ذلك بأعينهم ، فيعلموا برؤيتهموه أن القدرة التي بها فعلت ذلك لا يتعذّر عليّ أن أحيي بها الأموات ، وأنشرهم من قبورهم ، وأعيدهم بهيئاتهم التي كانوا بها قبل وفاتهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) }
يقول تعالى ذكره : (ويَقُولُونَ) هؤلاء المشركون بالله يا محمد ، لك : (مَتى هَذَا الْفَتْحُ) واختلف في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : متى يجيء هذا الحكم بيننا وبينكم ، ومتى يكون هذا الثواب والعقاب.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة في قوله : (ويَقُولُونَ مَتى هَذَا الفَتْحُ إن كُنْتُمْ صَادِقِينَ) قال : قال أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم : إن لنا يوما أوشك أن نستريح فيه وننعم فيه. فقال المشركون : (مَتى هذا الفَتْحُ إن كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
وقال آخرون : بل عنى بذلك فتح مكة.
والصواب من القول في ذلك قول من قال : معناه : ويقولون : متى يجيء هذا الحكم بيننا وبينكم ، يعنون العذاب ، يدلّ على أن ذلك معناه قوله : (قُلْ يَوْمَ الفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ) ولا شكَّ أن الكفار قد كان جعل الله لهم التوبة قبل فتح مكة وبعده ، ولو كان معنى قوله : (مَتى هَذَا الفَتْحُ) على ما قاله من قال : يعني به فتح مكة ، لكان لا توبة لمن أسلم من المشركين بعد فتح مكة ، ولا شكّ أن الله قد تاب على بشر كثير من المشركين بعد فتح مكة ، ونفعهم بالإيمان به وبرسوله ، فمعلوم بذلك صحة ما قلنا من التأويل ، وفساد ما خالفه. وقوله : (إن كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يعنى : إن كنتم صادقين في الذي تقولون ، من أنا معاقبون على تكذيبنا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وعبادتنا الآلهة والأوثان.

(20/198)


وقوله : (قُلْ يَوْمَ الفَتْحِ) يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهم يوم الحكم ، ومجيء العذاب : لا ينفع من كفر بالله وبآياته إيمانهم الذي يحدثونه في ذلك الوقت.
كما : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (قُلْ يَوْمَ الفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إيمَانُهم) قال : يوم الفتح إذا جاء العذاب
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (يَوْمَ الفَتْحِ) يوم القيامة ، ونصب اليوم في قوله : (قُلْ يَوْمَ الفَتْحِ) ردّا على متى ، وذلك أن(متى) في موضع نصب. ومعنى الكلام : أنى حينُ هذا الفتح إن كنتم صادقين ؟ ثم قيل : يوم كذا ، وبه قرأ القرّاء.
وقوله : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يقول : ولا هم يؤخرون للتوبة والمراجعة. وقوله : (فأعْرِض عَنْهُمْ وانْتَظِرْ إنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين بالله ، القائلين لك : متى هذا الفتح المستعجليك بالعذاب ، وانتظر ما الله صانع بهم ، إنهم منتظرون ما تعدهم من العذاب ومجيء الساعة.
كما : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(فَأعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) يعني يوم القيامة.
آخر تفسير سورة السجدة ، ولله الحمد والمنة.

(20/199)


تفسير سورة الأحزاب

(20/200)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (يا أيُّها النَّبِي اتَّقِ اللَّهَ) بطاعته ، وأداء فرائضه ، وواجب حقوقه عليك ، والانتهاء عن محارمه ، وانتهاك حدوده(وَلا تُطِع الكافِرينَ) الذين يقولون لك : اطرد عنك أتباعك من ضعفاء المؤمنين بك حتى نجالسك(وَالمُنِافِقِينَ) الذين يظهرون لك الإيمان بالله والنصيحة لك ، وهم لا يألونك وأصحابك ودينك خبالا فلا تقبل منهم رأيا ، ولا تستشرهم مستنصحا بهم ، فإنهم لك أعداء(إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيما حَكِيما) يقول : إن الله ذو علم بما تضمره نفوسهم ، وما الذي يقصدون في إظهارهم لك النصيحة ، مع الذي ينطوون لك عليه ، حكيم في تدبير أمرك وأمر أصحابك ودينك ، وغير ذلك من تدبير جميع خلقه(وَاتَّبعْ ما يُوحَى إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) يقول : واعمل بما ينزل الله عليك من وحيه ، وآي كتابه(إنَّ اللَّهَ كانَ بما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) يقول : إن الله بما تعمل به أنت وأصحابك من هذا القرآن ، وغير ذلك من أموركم وأمور عباده خبيرا أي : ذا خبرة ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، وهو مجازيكم على ذلك بما وعدكم من الجزاء.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : (وَاتَّبعْ ما يُوحَى إلَيْكَ مِن رَبِّكَ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَاتَّبعْ ما يُوحَى إلَيْكَ مِن رَبِّكَ) أي هذا القرآن(إنَّ اللَّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبيرًا) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ

(20/202)


وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)

وَكِيلا (3) }
يقول تعالى ذكره : وفوّض إلى الله أمرك يا محمد ، وثق به(وكَفَى بالَّلهِ وَكيلا) يقول : وحسبك بالله فيما يأمرك وكيلا وحفيظا بك.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) }
اختلف أهل التأويل في المراد من قول الله(ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوفِهِ) فقال بعضهم : عنى بذلك تكذيب قوم من أهل النفاق ، وصفوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بأنه ذو قلبين ، فنفى الله ذلك عن نبيه وكذّبهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا حفص بن نفيل ، قال : ثنا زهير بن معاوية ، عن قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه ، قال : قلنا لابن عباس : أرأيت قول الله : (ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ما عنى بذلك ؟ قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فصلى ، فخطر خطرة (1) فقال المنافقون الذين يصلون معه : إن له قلبين ، قلبا معكم ، وقلبا معهم ، فأنزل الله(ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : رجل من قريش كان يُدعى ذا القلبين من دهيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس(ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) قال : كان رجل من قريش يسمى من دهيه (2) ذا القلبين ، فأنزل الله هذا في شأنه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْن فِي جَوْفِهِ) قال : إن رجلا من بني فهر ، قال : إن في جوفي
__________
(1) خطر خطرة : سها سهوة.
(2) الدهو والدهى والدهاء : العقل.

(20/204)


قلبين ، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، وكذب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة قوله : (ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) قال قتادة : كان رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمى ذا القلبين ، فأنزل الله فيه ما تسمعون.
قال قتادة : وكان الحسن يقول : كان رجل يقول لي : نفس تأمرني ، ونفس تنهاني ، فأنزل الله فيه ما تسمعون.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة ، قال : كان رجل يسمى ذا القلبين ، فنزلت(ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) .
وقال آخرون : بل عنى بذلك زيد بن حارثة من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تبناه ، فضرب الله بذلك مثلا.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، في قوله : (ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) قال : بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ، ضرب له مثلا يقول : ليس ابن رجل آخر ابنك.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك تكذيب من الله تعالى قول من قال لرجل في جوفه قلبان يعقل بهما ، على النحو الذي رُوي عن ابن عباس ، وجائز أن يكون ذلك تكذيبا من الله لمن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وأن يكون تكذيبا لمن سمى القرشيّ الذي ذُكر أنه سمي ذا القلبين من دهيه ، وأيّ الأمرين كان فهو نفي من الله عن خلقه من الرجال أن يكونوا بتلك الصفة.
وقوله : (وَما جَعَلَ أزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أمَّهاتِكُمْ) يقول تعالى ذكره : ولم يجعل الله أيها الرجال نساءكم اللائي تقولون لهنّ : أنتنّ علينا كظهور أمهاتنا أمهاتكم ، بل جعل ذلك من قبلكم كذبا ، وألزمكم عقوبة لكم كفَّارة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (وَما جَعَلَ أزْوَاجَكُمُ اللائي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) : أي ما جعلها أمك ؛ فإذا ظاهر الرجل من امرأته ، فإن الله

(20/205)


ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)

لم يجعلها أمه ، ولكن جعل فيها الكفَّارة.
وقوله : (وَما جَعَلَ أدعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ) يقول : ولم يجعل الله من ادّعيت أنه ابنك ، وهو ابن غيرك ابنك بدعواك.
وذُكر أن ذلك نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل تبنيه زيد بن حارثة.
* ذكر الرواية بذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (أدْعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ) قال : نزلت هذه الآية في زيد بن حارثة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (وَما جَعَلَ أدْعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ) قال : كان زيد بن حارثة حين منّ الله ورسوله عليه ، يقال له : زيد بن محمد ، كان تبنَّاه ، فقال الله : (ما كانَ مُحمَّدٌ أبا أحَدٍ من رِجالكُمْ) قال : وهو يذكر الأزواج والأخت ، فأخبره أن الأزواج لم تكن بالأمهات أمهاتكم ، ولا أدعياءكم أبناءكم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَما جَعَلَ أدْعِياءَكُمْ أبْناءكُمْ) وما جعل دعيَّك ابنك ، يقول : إذا ادّعى رجل رجلا وليس بابنه(ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بأفْوَاهِكُمْ ...) الآية ، وذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول : " من ادّعى إلى غَير أبِيهِ مُتَعَمِّدًا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ " .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن أبي زائدة ، عن أشعث ، عن عامر ، قال : ليس في الأدعياء زيد وقوله : (ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بأفْوَاهِكُمْ) يقول تعالى ذكره هذا القول وهو قول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، ودعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه ، إنما هو قولكم بأفواهكم لا حقيقة له ، لا يثبت بهذه الدعوى نسب الذي ادعيت بنوته ، ولا تصير الزوجة أمَّا بقول الرجل لها : أنت عليّ كظهر أمي(واللَّهُ يقُولُ الحَقَّ) يقول : والله هو الصادق الذي يقول الحقّ ، وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه ، وبه تكون المرأة للمولود ، أمَّا إذا حكم بذلك(وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) يقول تعالى ذكره : والله يبين لعباده سبيل الحقّ ، ويرشدهم لطريق الرشاد.
القول في تأويل قوله تعالى : { ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا

(20/206)


أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) }
يقول الله تعالى ذكره : انسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم لآبائهم ، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألحق نسب زيد بأبيه حارثة ، ولا تدعه زيدا بن محمد. وقوله : (هُوَ أقْسَطُ عِنْدِ اللَّه) يقول : دعاؤكم إياهم لآبائهم هو أعدل عند الله ، وأصدق وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبائهم ونسبنكموهم إلى من تبنَّاهم وادّعاهم وليسوا له بنين.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (ادْعُوهُمْ لآبائهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدِ اللَّهِ) : أي أعدل عند الله ، وقوله : (فإنْ لَمْ تَعْلمُوا آباءَهُمْ فَإخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) يقول تعالى ذكره : فإن أنتم أيها الناس لم تعلموا آباء أدعيائكم من هم فتنسبوهم إليهم ، ولم تعرفوهم ، فتلحقوهم بهم ، (فإخوانكم في الدين) يقول : فهم إخوانكم في الدين ، إن كانوا من أهل ملَّتكم ، ومواليكم إن كانوا محرّريكم وليسوا ببنيكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(ادْعُوهُم لآبائهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) : أي أعدل عند الله(فإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ) فإن لم تعلموا من أبوه فإنما هو أخوك ومولاك.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن عُيينة بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، قال : قال أبو بكرة : قال الله : ( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ) فأنا ممن لا يُعرف أبوه ، وأنا من إخوانكم في الدين ، قال : قال أبي : والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمَّارًا لانتمى إليه.
وقوله : (وَلَيْسَ عَليْكُمْ جُناحٌ فِيما أخْطأْتُمْ بِهِ) يقول : ولا حرج عليكم ولا وزر في خطأ يكون منكم في نسبة بعض من تنسبونه إلى أبيه ، وأنتم ترونه ابن من ينسبونه إليه ، وهو ابن لغيره(وَلَكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) يقول : ولكن الإثم والحرج عليكم في نسبتكموه إلى غير أبيه ، وأنتم تعلمونه ابن غير من تنسبونه إليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(20/207)


النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أخْطأْتُمْ بِهِ) يقول : إذا دعوت الرجل لغير أبيه ، وأنت ترى أنه كذلك(وَلَكِنْ ما تَعمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) يقول الله : لا تدعه لغير أبيه متعمدا. أما الخطأ فلا يؤاخذكم الله به(وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ).
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) قال : فالعمد ما أتى بعد البيان والنهي في هذا وغيره ، و " ما " التي في قوله : (وَلَكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) خفض ردّا على " ما " التي في قوله : (فِيما أخْطأْتُمْ بِهِ) وذلك أن معنى الكلام : ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ، ولكن فيما تعمدت قلوبكم.
وقوله : (وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيما) يقول الله تعالى ذكره : وكان الله ذا ستر على ذنب من ظاهر زوجته فقال الباطل والزور من القول ، وذمّ من ادّعى ولد غيره ابنا له ، إذا تابا وراجعا أمر الله ، وانتهيا عن قيل الباطل بعد أن نهاهما ربهما عنه ، ذا رحمة بهما أن يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما من خطيئتهما.
القول في تأويل قوله تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) }
يقول تعالى ذكره : (النَّبيُّ) محمد(أوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ) يقول : أحق بالمؤمنين به(مِنْ أنْفُسِهِمْ) ، أن يحكم فيهم بما يشاء من حكم ، فيجوز ذلك عليهم.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : (النَّبيُّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنفُسهِمْ) كما أنت أولى بعبدك ما قضى فيهم من أمر جاز ، كما كلما قضيت على عبدك جاز.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني

(20/208)


الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) قال : هو أب لهم.
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عثمان بن عمر ، قال : ثنا فليح ، عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما مِنْ مُؤْمِنٍ إلا وأنا أوْلَى النَّاسِ بِهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ(النَّبِيُّ أوْلَى بالمُؤْمِنينَ مِنْ أنْفُسهِمْ) وأيُّمَا مُؤمِنٍ تَرَكَ مالا فَلِوَرَثَتِهِ وَعَصَبَتِهِ مَنْ كانُوا ، وَإن تَرَكَ دَيْنا أوْ ضياعا فَلْيأْتِني وأنا مَوْلاهُ " .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا حسن بن عليّ ، عن أبي موسى إسرائيل بن موسى ، قال : قرأ الحسن هذه الآية( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) قال : قال الحسن : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أنا أوْلى بكُلّ مُؤمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ " قال الحسن : وفي القراءة الأولى(أوْلَى بالمُؤْمنين مِنْ أنْفُسِهِمْ وَهُوَ أبٌ لَهُمْ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال في بعض القراءة(النَّبِيُّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ وَهُوَ أبٌ لَهُمْ) وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : " أيُّمَا رَجُلٍ تَرَكَ ضياعا فَأنا أوْلَى بِهِ ، وَإنْ تَرَكَ مالا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ " .
وقوله : (وأزْوَاجُهُ أمَّهاتُهُمْ) يقول : وحرمة أزواجه حرمة أمهاتهم عليهم ، في أنهن يحرم عليهن نكاحهن من بعد وفاته ، كما يحرم عليهم نكاح أمهاتهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) يعظِّم بذلك حقهنّ ، وفي بعض القراءة : (وَهُوَ أبٌ لَهُمْ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (وأزْوَاجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) محرّمات عليهم.
وقوله : (وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ في كتاب اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنينَ والمُهاجِرِينَ) يقول تعالى ذكره : وأولوا الأرحام الذين ورّثت بعضهم من بعض ، هم أولى بميراث بعض من المؤمنين والمهاجرين أن يرث بعضهم بعضا ، بالهجرة والإيمان دون الرحم.

(20/209)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى ببَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهاجِرِينَ) لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة ، والأعرابيّ المسلم لا يرث من المهاجرين شيئا ، فأنزل الله هذه الآية ، فخلط المؤمنين بعضهم ببعض ، فصارت المواريث بالملل.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : (وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهاجِرِينَ إلا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا) قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد آخَى بين المهاجرين والأنصار أوّل ما كانت الهجرة ، وكانوا يتوارثون على ذلك ، وقال الله : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوَالِي مِمَّا تَرَكَ الوالِدان والأقْربُونَ والَّذِينَ عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ فآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) قال : إذا لم يأت رحم لهذا يحول دونهم ، قال : فكان هذا أوّلا فقال الله : (إلا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا) يقول : إلا أن توصوا لهم(كانَ ذلكَ فِي الكِتابِ مَسْطُورًا) أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، قال : وكان المؤمنون والمهاجرون لا يتوارثون إن كانوا أولي رحم ، حتى يهاجروا إلى المدينة ، وقرأ قال الله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمّ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا ...) إلى قوله : (وَفَسادٌ كَبِيرٌ) فكانوا لا يتوارثون ، حتى إذا كان عام الفتح ، انقطعت الهجرة ، وكثر الإسلام ، وكان لا يقبل من أحد أن يكون على الذي كان عليه النبيّ ومن معه إلا أن يهاجر ؛ قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن بعث : " اغْدُوا عَلى اسْمِ اللهِ لا تَغْلُوا وَلا تُوَلُّوا ، ادْعُوهُمْ إلى الإسْلامِ ، فإنْ أجابُوكُمْ فاقْبَلُوا وَادْعُوهُمْ إلى الهِجْرَةِ ، فإنْ هاجَرُوا مَعَكُمْ ، فَلَهُمْ ما لَكُمْ ، وَعَلَيْهِمْ ما عَلَيْكُمْ ، فإنْ أبَوْا وَلَمْ يُهاجِرُوا وَاخْتارُوا دَارَهُمْ فأقِرُّوهُمْ فِيها ، فَهُمْ كالأعْرابِ تجْرِي عَلَيْهِمْ أحْكام الإسْلام ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي هَذَا الفَيْءِ نَصِيبٌ " . قال : فلما جاء الفتح ، وانقطعت الهجرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ " وكثر الإسلام ، وتوارث الناس على الأرحام حيث كانوا ، ونسخ ذلك الذي كان بين المؤمنين والمهاجرين ، وكان لهم في الفيء نصيب ، وإن أقاموا وأبوا ، وكان حقهم في الإسلام واحدًا ، المهاجر وغير المهاجر والبدوي وكلّ أحد ، حين جاء الفتح.

(20/210)


فمعنى الكلام على هذا التأويل : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين ببعضهم أن يرثوهم بالهجرة ، وقد يحتمل ظاهر هذا الكلام أن يكون من صلة الأرحام من المؤمنين والمهاجرين ، أولى بالميراث ، ممن لم يؤمن ، ولم يهاجر.
وقوله : (إلا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : إلا أن توصوا لذوي قرابتكم من غير أهل الإيمان والهجرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن حجَّاج ، عن سالم ، عن ابن الحنفية(إلا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا) قالوا : يوصي لقرابته من أهل الشرك.
قال : ثنا عبدة ، قال : قرأت على ابن أبي عروبة ، عن قتادة(إلا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا) قال : للقرابة من أهل الشرك وصية ، ولا ميراث لهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : (إلا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا) قال : إلى أوليائكم من أهل الشرك وصية ، ولا ميراث لهم.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو أحمد الزبيري ويحيى بن آدم ، عن ابن المبارك ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة(إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا) قال : وصية.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني محمد بن عمرو ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : ما قوله : (إلا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا) فقال : العطاء ، فقلت له : المؤمن للكافر بينهما قرابة ؟ قال : نعم عطاؤه إياه حباء ووصية له.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إلا أن تمسكوا بالمعروف بينكم بحقّ الإيمان والهجرة والحلف ، فتؤتونهم حقهم من النصرة والعقل عنهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (إلا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا) قال : حلفاؤكم الذين والى بينهم النبيّ صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، إمساك بالمعروف والعقل والنصر بينهم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن توصوا إلى أوليائكم من المهاجرين وصية.

(20/211)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : (إلا أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا) يقول : إلا أن توصوا لهم.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : معنى ذلك إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم وبينكم من المهاجرين والأنصار ، معروفا من الوصية لهم ، والنصرة والعقل عنهم ، وما أشبه ذلك ، لأن كلّ ذلك من المعروف الذي قد حثّ الله عليه عباده.
وإنما اخترت هذا القول ، وقلت : هو أولى بالصواب من قيل من قال : عنى بذلك الوصية للقرابة من أهل الشرك ، لأن القريب من المشرك ، وإن كان ذا نسب فليس بالمولى ، وذلك أن الشرك يقطع ولاية ما بين المؤمن والمشرك ، وقد نهى الله المؤمنين أن يتخذوا منهم وليا بقوله : ( لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ) وغير جائز أن ينهاهم عن اتخاذهم أولياء ، ثم يصفهم جلّ ثناؤه بأنهم لهم أولياء. وموضع " أن " من قوله : (إلا أنْ تَفْعَلُوا) نصب على الاستثناء ومعنى الكلام : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين ، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم الذين ليسوا بأولي أرحام منكم معروفا.
وقوله : (كانَ ذلكَ فِي الكِتابِ مَسْطُورًا) يقول : كان أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، أي في اللوح المحفوظ مسطورا أي مكتوبا ، كما قال الراجز :
في الصُّحُفِ الأولى التي كانَ سَطَرْ (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (كانَ ذلكَ فِي الكِتابِ مَسْطُورًا) : أي أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله.
وقال آخرون : معنى ذلك : كان ذلك في الكتاب مسطورا : لا يرث المشرك المؤمن.
__________
(1) البيت من مشطور الرجز ، وهو للعجاج الراجز ، من أرجوزته المطولة التي مدح بها عمر بن عبد الله بن معمر ، وقد بعثه عبد الملك لحرب أبي فديك الخارجي ، فانتصر عليه. (ديوان العجاج طبع ليبسج سنة 1903 ص 19). والبيت شاهد على أن معنى سطر : كتب والسطر : الخط والكتابة.

(20/212)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) }
يقول تعالى ذكره : كان ذلك في الكتاب مسطورا ، إذ كتبنا كلّ ما هو كائن في الكتاب(وَإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبيِّينَ مِيثاقَهُمْ) كان ذلك أيضا في الكتاب مسطورا ، ويعني بالميثاق : العهد ، وقد بيَّنا ذلك بشواهده فيما مضى قبل(وَمِنْكَ) يا محمد( وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) يقول : وأخذنا من جميعهم عهدا مؤكدا أن يصدّق بعضهم بعضا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ) قال : وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " كُنْتُ أوَّلَ الأنْبِياءِ فِي الخَلْقِ ، وآخِرَهُمْ فِي البَعْثِ " ، ( وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) ميثاق أخذه الله على النبيين ، خصوصا أن يصدّق بعضهم بعضا ، وأن يتبع بعضهم بعضا.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا سليمان ، قال : ثنا أبو هلال ، قال : كان قتادة إذا تلا هذه الآية( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ) قال : كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في أوّل النبيين في الخلق.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ) قال : في ظهر آدم.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) قال : الميثاق الغليظ : العهد.
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) }
يقول تعالى ذكره : أخذنا من هؤلاء الأنبياء ميثاقهم كيما أسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم ، وما فعل قومهم فيما أبلغوهم عن ربهم من الرسالة.

(20/213)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)

وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد( لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ) قال : المبلغين المؤدّين من الرسل.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ) قال : المبلغين المؤدّين من الرسل.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو أُسامة ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد(لِيَسْأَلَ الصَّادِقينَ عَنْ صدْقِهِمْ) قال : الرسل المؤدّين المبلغين.
وقوله : ( وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ) يقول : وأعدّ للكافرين بالله من الأمم عذابا موجعا.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) }
يقول تعالى ذكره : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) التي أنعمها على جماعتكم وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الخندق(إْذ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) : جنود الأحزاب : قريش ، وغَطفان ، ويهود بني النضير(فأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا) وهي فيما ذكر : ريح الصَّبا.
كما حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عكرمة ، قال : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب : انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الشمال : إن الحرّة لا تسري بالليل ، قال : فكانت الريح التي أُرسلت عليهم الصبا.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثني الزبير - يعني : ابن عبد الله - قال : ثني ربيح بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي سعيد ، قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله بلغت القلوب الحناجر ، فهل من شيء تقوله ؟ قال : " نَعَمْ قُولُوا : اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنا ، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا " ، فَضَرَبَ اللهُ وُجُوهَ أعْدائِهِ بالرِّيحِ ، فهَزَمَهُم اللهُ بالرّيحِ.

(20/214)


حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني عبد الله بن عمرو ، عن نافع ، عن عبد الله ، قال : أرسلني خالي عثمان بن مظعون ليلة الخندق في برد شديد وريح ، إلى المدينة ، فقال : ائتنا بطعام ولحاف قال : فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذن لي وقال : " مَنْ لَقِيتَ مِنْ أصحَابِي فَمُرْهُمْ يَرْجِعُوا " . قال : فذهبت والريح تسفي كل شيء ، فجعلت لا ألقى أحدا إلا أمرته بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فما يلوي أحد منهم عنقه ؛ قال : وكان معي ترس لي ، فكانت الريح تضربه عليّ ، وكان فيه حديد ، قال : فضربته الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد على كفي ، فأنفذها إلى الأرض.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة : قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قال فتى من أهل الكوفة لحُذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله ، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه ؟ قال : نعم يا بن أخي ، قال : فكيف كنتم تصنعون ؟ قال : والله لقد كنا نجهد ، قال الفتى : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ، لحملناه على أعناقنا. قال حُذَيفة : يا بن أخي ، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق ، وصلى رسول الله هويا من الليل (1) ثم التفت إلينا فقال : " من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ؟ يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يرجع أدخله الله الجنة " ، فما قام أحد ، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل ، ثم التفت إلينا فقال مثله ، فما قام منا رجل ، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل ، ثم التفت إلينا فقال : " مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنا ما فَعَلَ القَوْمُ ثُمَّ يَرْجِعُ ، يَشْتَرطُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الرَّجْعَةَ ، أسألُ الله أنْ يكُونَ رَفِيقي فِي الجَنَّةِ " فما قام رجل من شدّة الخوف ، وشدّة الجوع ، وشدّة البرد ؛ فلما لم يقم أحد ، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني ، فقال : " يا حُذيْفَةُ اذْهَبْ فادْخُلْ فِي القَوْمِ فانْظُرْ ، وَلا تُحْدِثَنَّ شَيْئا حتى تَأْتينَا " . قال : فذهبت فدخلت في القوم ، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل ، لا تقرّ لهم قدرا ولا نارا ولا بناء ؛ فقام أبو سفيان فقال : يا معشر قريش ، لينظر امرؤ من جليسه ، فقال حُذَيفة : فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي ، فقلت : من أنت ؟ فقال : أنا فلان بن فلان ؛ ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، ولقد هلك الكراع والخفّ ، واختلفت بنو قريظة ، وبلغنا عنهم
__________
(1) هويا ، بهاء مفتوحة أو مضمومة ، وياء مشددة ، وهو الساعة الممتدة من الليل (اللسان : هوى).

(20/215)


الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، والله ما يطمئن لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا فإني مرتحل ، ثم قام إلى جمله وهو معقول ، فجلس عليه ، ثم ضربه فوثب به على ثلاث ، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا تُحدث شيئا حتى تأتيني ، لو شئت لقتلته بسهم ؛ قال حُذَيفة : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه ؛ فلما رآني أدخلني بين رجليه ، وطرح عليّ طَرف المِرط ، ثم ركع وسجد وإني لفيه ؛ فلما سلم أخبرته الخبر ، وسمعت غَطفان بما فعلت قريش ، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) قال : الأحزاب : عيينة بن بدر ، وأبو سفيان ، وقريظة.
وقوله : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا) قال : ريح الصبا أرسلت على الأحزاب يوم الخندق ، حتى كفأت قدورهم على أفواهها ، ونزعت فساطيطهم حتى أظعنتهم. وقوله : (وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْها) قال : الملائكة ولم تقاتل يومئذ.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ) قال : يعني الملائكة ، قال : نزلت هذه الآية يوم الأحزاب وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا فخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل أبو سفيان بقريش ومن تبعه من الناس ، حتى نزلوا بعقوة (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عُيينة بن حصن ، أحد بني بدر ومن تبعه من الناس حتى نزلوا بعقوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكاتبت اليهود أبا سفيان وظاهروه ، فقال حيث يقول الله تعالى : ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) فبعث الله عليهم الرعب والريح ، فذكر لنا أنهم كانوا كلما أوقدوا نارا أطفأها الله ، حتى لقد ذكر لنا أن سيد كلّ حيّ يقول : يا بني فلان هلمّ إليّ ، حتى إذا اجتمعوا عنده فقال : النجاء النجاء ، أتيتم لما بعث الله عليهم من الرعب.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ...) الآية ، قال : كان
__________
(1) العقوة : الساحة وما حول الدار. (عن اللسان : عقا).

(20/216)


إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)

يوم أبي سفيان يوم الأحزاب.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان ، في قول الله : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ) والجنود : قريش وغطفان وبنو قريظة ، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح : الملائكة.
وقوله : (وكانَ اللَّهُ بِمَا تَعْملُونَ بَصِيرًا) يقول تعالى ذكره : وكان الله بأعمالكم يومئذ ، وذلك صبرهم على ما كانوا فيه من الجهد والشدّة ، وثباتهم لعدوّهم ، وغير ذلك من أعمالهم ، بصيرا لا يخفى عليه من ذلك شيء ، يحصيه عليهم ، ليجزيهم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا (12) }
يقول تعالى ذكره : وكان الله بما تعملون بصيرا ، إذ جاءتكم جنود الأحزاب من فوقكم ، ومن أسفل منكم. وقيل : إن الذين أتوهم من أسفل منهم ، أبو سفيان في قريش ومن معه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(إذْ جاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) قال عيينة بن بدر (1) في أهل نجد(ومن أسفل منكم) قال أبو سفيان ، قال : وواجهتهم قريظة.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عبدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، ذكرت يوم الخندق وقرأت( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ) قالت : هو يوم الخندق.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان
__________
(1) نسبه إلى أبيه الأعلى.

(20/217)


مولى آل الزبير ، عن عروة بن الزبير ، وعمن لا أتهم ، عن عبيد الله بن كعب بن مالك ، وعن الزهري ، وعن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وعن محمد بن كعب القرظي ، وعن غيرهم من علمائنا أنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود ، منهم سلام بن أبي الحقيق النضري ، وحُييّ بن أخطب النضري ، وكنانة بن الربيع (1) بن أبي الحقيق النضري ، وهوذة بن قيس الوائلي ، وأبو عمار الوائلي ، في نفر من بني النضير ، ونفر من بني وائل ، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرجوا حتى قدموا مكة على قريش ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقال لهم قريش : يا معشر يهود ، إنكم أهل الكتاب الأوّل ، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، أفديننا خير أم دينه ؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحقّ منه (2) قال : فهم الذين أنزل الله فيهم( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا ...) إلى قوله : ( وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ) فلما قالوا ذلك لقريش ، سرّهم ما قالوا ، ونشطوا لما دعوهم له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له ، ثم خرج أولئك النفر من اليهود ، حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه ، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك ، فاجتمعوا فيه ، فأجابوهم (3) فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حُذيفة بن بدر في بني فزارة ، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرّة ، ومسعر بن رخيلة بن نُوَيرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان ، فيمن تابعه من قومه من أشجع ؛ فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة ؛ فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف والغابة (4) في عشرة آلاف من أحابيشهم ، ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد ، حتى نزلوا بذنب نقمي إلى جانب احد ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذّراري والنساء ، فرفعوا في الآطام ، وخرج عدوّ الله حيي بن أخطب النضري ، حتى أتى كعب بن أسد القرظيّ ، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه ، وعاهده على ذلك وعاقده ، فلما سمع كعب بحييّ بن أخطب ، أغلق دونه حصنه ، فاستأذن عليه ، فأبى أن يفتح له ، فناداه حييّ : يا كعب افتح لي ، قال : ويحك يا حييّ ، إنك امرؤ مشئوم ، إني قد عاهدت محمدا ، فلست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا ؛ قال : ويحك افتح لي أكلمك ، قال : ما أنا بفاعل ، قال : والله إن أغلقت دوني إلا تخوّفت على جشيشتك أن آكل معك منها ، فأحفظ الرجل ، ففتح له ، فقال : يا كعب جئتك بعزّ الدهر ، وببحر طمّ ، جئتك بقريش على قاداتها وساداتها ، حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة ، وبغطَفان على قاداتها وساداتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أُحد ، قد عاهدوني وعاقدوني ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه ، فقال له كعب بن أسد : جئتني والله بذلّ الدهر ، وبجهام قد هراق ماءه ، يرعد ويبرق ، ليس فيه شيء ، فدعني ومحمدا وما أنا عليه ، فلم أر من محمد إلا صدقا ووفاء ؛ فلم يزل حييّ بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاهم عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك ، فنقض كعب بن أسد عهده ، وبرئ مما كان عليه ، فيما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر ، وإلى المسلمين ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس ، أحد بني الأشهل ، وهو يومئذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة بن ديلم أخي بني ساعدة بن كعب بن الخزرج ، وهو يومئذ سيد الخزرج ، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بلحرث بن الخزرج ، وخوات بن جُبَير أخو بني عمرو بن عوف ، فقال : " انطلقوا حتى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ، ولا تفتوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم ، فاجهروا به للناس " فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ، ونالوا (5) من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد ، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه ، وكان رجلا فيه حدّة ، فقال له سعد بن معاذ : دع عنك مشاتمتهم ، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ، ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلموا عليه ، ثم قالوا : عضل والقارة : أي (6) كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين ، وعظم عند ذلك البلاء ، واشتدّ الخوف ، وأتاهم عدوّهم من فوقهم ، ومن أسفل منهم ، حتى ظنّ المسلمون كلّ ظنّ ، ونجم النفاق من بعض المنافقين ، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط ، وحتى قال أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث : يا رسول الله إن بيوتنا لعورة من العدوّ ، وذلك عن ملإ من رجال قومه ، فأذن لنا فلنرجع إلى دارنا ، وإنها خارجة من المدينة ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ، ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار (7) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان قوله : ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) فالذين جاءوهم من فوقهم : قريظة ، والذين جاءوهم من أسفل منهم : قريش وغطفان.
وقوله : (وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ) يقول : وحين عدلت الأبصار عن مقرّها ، وشخصت طامحة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ) : شخصت.
وقوله : (وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ) يقول : نبت القلوب عن أماكنها من الرعب
__________
(1) في بعض نسخ السيرة لابن إسحاق ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وليس فيه ابن الربيع.
(2) كذا في السيرة. (3 : 225) طبعة الحلبي. وفي الأصل : منهم.
(3) في السيرة (الحلبي 3 : 26) : فاجتمعوا معهم فيه ، وسقط منها قوله : فأجابوهم.
(4) في السيرة (الحلبي 3 : 230) زغابة ، بزاي مفتوحة ، وغين (وانظر السهيلي 2 : 189).
(5) في إحدى نسخ السيرة (الحلبي 3 : 233) : فيما نالوا ... إلخ.
(6) كذا في السيرة (الحلبي 3 : 233). وفي الأصل بدون أي.
(7) في بعض المراجع : والحصا. وكتبها بالألف.

(20/218)


والخوف ، فبلغت إلى الحناجر.
كما حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا سويد بن عمرو ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرِمة : (وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ) قال : من الفزع.
وقوله : ( وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ) يقول : وتظنون بالله الظنونَ الكاذبة ، وذلك كظنّ من ظنّ منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغلب ، وأن ما وعده الله من النصر أن لا يكون ، ونحو ذلك من ظنونهم الكاذبة التي ظنها من ظنّ ممن كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عسكره.
حدثنا بشر ، قال : ثنا هوذة بن خليفة ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن(وَتَظُنُّونَ باللَّه الظُّنُونا) قال : ظنونا مختلفة : ظنّ المنافقون أن محمدا وأصحابه يُستأصلون ، وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله حقّ ، أنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : (وَتَظُنُّونَ بالله الظُّنُونا) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة ، وبعض الكوفيين : (الظُّنُونا) بإثبات الألف ، وكذلك(وأطَعْنا الرَّسُولا - فأضَلُّونا السَّبِيلا) في الوصل والوقف وكان اعتلال المعتلّ في ذلك لهم ، أن ذلك في كل مصاحف المسلمين بإثبات الألف في هذه الأحرف كلها وكان بعض قرّاء الكوفة يثبت الألف فيهنّ في الوقف ، ويحذفها في الوصل اعتلالا بأن العرب تفعل ذلك في قوافي الشعر ومصاريعها ، فتلحق الألف في موضع الفتح للوقوف ، ولا تفعل ذلك في حشو الأبيات ، فإن هذه الأحرف ، حسُن فيها إثبات الألفات ، لأنهنّ رءوس الآي تمثيلا لها بالقوافي. وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة والكوفة بحذف الألف من جميعه في الوقف والوصل ، اعتلالا بأن ذلك غير موجود في كلام العرب إلا في قوافي الشعر دون غيرها من كلامهم ، وأنها إنما تفعل ذلك في القوافي طلبا لإتمام وزن الشعر ، إذ لو لم تفعل ذلك فيها لم يصحّ الشعر ، وليس ذلك كذلك في القرآن ، لأنه لا شيء يضطرّهم إلى ذلك في القرآن ، وقالوا : هنّ مع ذلك في مصحف عبد الله بغير ألف.
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب ، قراءة من قرأه بحذف الألف في الوصل والوقف ، لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب ، مع شهرة القراءة بذلك في قرّاء المصرين : الكوفة ، والبصرة ، ثم القراءة بإثبات الألف فيهنّ في حالة الوقف والوصل ؛ لأن علة من أثبت ذلك في حال الوقف أنه كذلك في خطوط مصاحف المسلمين. وإذا كانت

(20/221)


العلة في إثبات الألف في بعض الأحوال كونه مثبتا في مصاحف المسلمين ، فالواجب أن تكون القراءة في كل الأحوال ثابتة ؛ لأنه مثبت في مصاحفهم. وغير جائز أن تكون العلة التي توجب قراءة ذلك على وجه من الوجوه في بعض الأحوال موجودة في حال أخرى ، والقراءة مختلفة ، وليس ذلك لقوافي الشعر بنظير ؛ لأن قوافي الشعر إنما تلحق فيها الألفات في مواضع الفتح ، والياء في مواضع الكسر ، والواو في مواضع الضمّ طلبا لتتمة الوزن ، وأن ذلك لو لم يفعل كذلك بطل أن يكون شعرا لاستحالته عن وزنه ، ولا شيء يضطرّ تالي القرآن إلى فعل ذلك في القرآن.
وقوله : (هُنالكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ) يقول : عند ذلك اختبر إيمان المؤمنين ، ومُحِّصَ القوم وعرف المؤمن من المنافق.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (هُنالكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ) قال : محصوا.
وقوله : (وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا) يقول : وحرّكوا بالفتنة تحريكا شديدا ، وابتلوا وفتنوا.
وقوله : ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) شكّ في الإيمان وضعف في اعتقادهم إياه : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ، وذلك فيما ذكر قول معتب بن قشير.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ) يقول : معتب بن قشير ، إذ قال ما قال يوم الخندق.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) قال : تكلمهم بالنفاق يومئذ وتكلم المؤمنون بالحقّ والإيمان

(20/222)


(قَالوا هذَا ما وعدنَا اللهُ ورسولُهُ).
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ) قال : قال ذلك أُناس من المنافقين ، قد كان محمد يعدنا فتح فارس والروم ، وقد حصرنا هاهنا ، حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته ، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال : قال رجل يوم الأحزاب لرجل من صحابة النبيّ صلى الله عليه وسلم : يا فلان أرأيت إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ ، وَإذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ ، والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُما في سَبِيلِ اللهِ " فأين هذا من هذا ، وأحدنا لا يستطيع أن يخرج يبول من الخوف(ما وَعَدَنا اللهُ وَرَسُولُهُ إلا غُرُورا) ؟ فقال له : كذبت ، لأخبرنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرك ، قال : فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره ، فدعاه فقال : " ما قلت ؟ " فقال : كذب عليّ يا رسول الله ، ما قلت شيئًا ، ما خرج هذا من فمي قطّ ، قال الله : (يَحْلُفونَ باللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلَمَةَ الكُفْرِ ...) حتى بلغ( وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) قال : فهذا قول الله : ( إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن خالد بن عثمة ، قال : ثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، قال : خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام ذكرت الأحزاب ، من أحمر الشيخين (1) طرف بني حارثة ، حتى بلغ المذاد ، ثم جعل أربعين ذراعا بين كلّ عشرة ، فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي ، وكان رجلا قويا ، فقال الأنصار : سلمان منا ، وقال المهاجرون : سلمان منا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " سَلْمانُ منَّا أهْلَ البَيْت " . قال عمرو بن عوف : فكنت أنا وسلمان وحُذيفة بن اليمان والنعمان بن مقرن المزني ، وستة من الأنصار ، في أربعين ذراعا ، فحفرنا تحت دوبار حتى بلغنا (2) الصرى ، أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مروة
__________
(1) في المواهب اللدنية بشرح الزرقاني (2 : 102) روى الطبراني بسند لا بأس به عن عمرو بن عوف المزني ، أنه صلى الله عليه وسلم خط الخندق من أخمر الشيخين ... وهما أطمان طرف بني حارثة ، حتى بلغ المذاد ...
(2) هكذا جاءت هذه العبارة ، ولعلها محرفة. و " ذوبار " : لفظة فارسية ، معناها : مرتين. وقوله : حتى بلغنا : لعلها : حتى إذا بلغنا.

(20/223)


وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)

(1) فكسرت حديدنا ، وشقّت علينا ، فقلنا : يا سلمان ، ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبر هذه الصخرة ، فإما أن نعدل عنها ، فإن المعدل قريب ، وإما أن يأمرنا فيها بأمره ، فإنا لا نحبّ أن نجاوز خطه. فرقي سلمان حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية ، فقال : يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا خرجت صخرة بيضاء من بطن الخندق مروة ، فكسرت حديدنا ، وشقَّت علينا حتى ما يجيء منها قليل ولا كثير ، فمرنا فيها بأمرك ، فإنا لا نحب أن نجاوز خطك ، فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان في الخندق ، ورقينا نحن التسعة على شفة الخندق ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان ، فضرب الصخرة ضربة صدعها ، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها - يعني لابتي المدينة - حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح ، وكبر المسلمون ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية ، فصدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها ، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح ، وكبر المسلمون ، ثم ضربها وسول الله صلى الله عليه وسلم الثالثة فكسرها ، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها ، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح ، ثم أخذ بيد سلمان فرقي ، فقال سلمان : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد رأيت شيئا ما رأيته قطّ ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم ، فقال : " هَلْ رأيْتُمْ ما يقُولُ سَلْمانُ ؟ " قَالُوا : نعم يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا ، وقد رأيناك تضرب ، فيخرج برق كالموج ، فرأيناك تكبر فنكبر ، ولا نرى شيئا غير ذلك ، قال : " صَدَقْتُمْ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الأولى ، فَبَرقَ الَّذِي رأيتم أضَاءَ لي مِنْهُ قُصُورُ الحِيرَة وَمَدَائِنُ كِسْرَى ، كأنَّها أنْيابُ الكِلاب ، فأخْبَرَنِي جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ أُمَّتِي ظاهِرَةٌ عَلَيْها ، ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتي الثَّانيَةَ ، فَبَرقَ الَّذِي رأيْتُمْ ، أضَاءَ لي مِنْهُ قُصُورُ الحُمْر مِنْ أرْضِ الرُّومِ ، كأنَّها أنْيابُ الكِلاب ، وأخْبَرَنِي جَبْرائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ أُمَّتِي ظاهِرَةٌ عَلَيْها ، ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الثَّالِثَةَ ، وَبَرَقَ مِنْها الَّذِي رأيْتُمْ ، أضَاءَتْ لِي مِنْها قُصُورُ صَنْعاءَ ، كأنَّها أنْيابُ الكلاب ، وأخْبَرَنِي جَبْرائِيلُ عَلَيْه السَّلامُ أنَّ أُمَّتِي ظاهِرَةٌ عَلَيْها ، فأبْشِرُوا " يُبَلِّغُهُمُ النَّصْر ، " وأبْشرُوا " يُبَلِّغُهُمُ النَّصْر ، " وأبْشِرُوا " يُبَلِّغُهُمُ النَّصْر ؛ فاستبشر المسلمون ، وقالوا : الحمد لله موعود صدق ، بأن وعدنا النصر بعد الحصر ، فطبقت الأحزاب ، فقال المسلمون(هَذا ما وَعَدَنا اللَّهُ وَرَسولُهُ ...) الآية ، وقال المنافقون : ألا تعجبون يحدّثكم ويمنيكم ويعدكم الباطل ، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الفرق ، ولا تستطيعون أن تبرزوا وأنزل القرآن( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا (14) }
يعني تعالى ذكره بقوله : ( وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ ) وإذ قال بعضهم : يا أهل يثرب ، ويثرب : اسم أرض ، فيقال : إن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية من يثرب. وقوله : (لا مُقامَ لَكُمْ فارْجِعُوا) بفتح الميم من مقام. يقول : لا مكان لكم ، تقومون فيه ، كما قال الشاعر :
فأيِّي ما وأَيُّكَ كانَ شَرّا... فَقيدَ إلى المَقامَةِ لا يَرَاها (2)
قوله : (فارْجِعُوا) يقول : فارجعوا إلى منازلكم ، أمرهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والفرار منه ، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل : إن ذلك من قيل أوس بن قيظي ومن وافقه على رأيه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان(وَإذْ قَالتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أهل يَثْرِب ...) إلى(فِرَارًا) يقول : أوس بن قيظي ومن كان على ذلك من رأيه من قومه ، والقراءة على فتح الميم من قوله : (لا مَقَامَ لَكُمْ) بمعنى : لا موضع قيام لكم ، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها ، لإجماع الحجة من القرّاء
__________
(1) في بعض المراجع : مدورة. والصرى : الماء.
(2) البيت لعباس بن مرداس ، وقد سبق الاستشهاد به في (20 : 66) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 193 - ب) : عند تفسير قوله تعالى : (لا مقام لكم) : مفتوحة الأولى. ومجازها : لا مكان لكم تقومون فيه. ومنه قوله : " فإني ما وأيك كان شرا ... " البيت.

(20/224)


عليها. وذُكر عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قرأ ذلك(لا مُقامَ لَكُمْ) بضم الميم ؛ يعني : لا إقامة لكم.
وقوله : ( وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ) يقول تعالى ذكره : ويستأذن بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإذن بالانصراف عنه إلى منزله ، ولكنه يريد الفرار والهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وَيَسْتأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيُّ ...) إلى قوله : (إلا فِرَارًا) قال : هم بنو حارثة ، قالوا : بيوتنا مخلية نخشى عليها السرق.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) قال : نخشى عليها السرق.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ) وإنها مما يلي العدوّ ، وإنا نخاف عليها السرّاق ، فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلا يجد بها عدوّا ، قال الله : (إنْ يُرِيدُونَ إلا فِرَارًا) يقول : إنما كان قولهم ذلك(إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) إنما كان يريدون بذلك الفرار.
حدثنا محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا عبيد الله بن حمران ، قال : ثنا عبد السلام بن شدّاد أبو طالوت عن أبيه في هذه الآية(إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِي بِعَوْرَةٍ) قال : ضائعة.
وقوله : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِها) يقول : ولو دخلت المدينة على هؤلاء القائلين(إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) من أقطارها ، يعني : من جوانبها ونواحيها ، واحدها : قطر ، وفيها لغة أخرى : قُتر ، وأقتار ، ومنه قول الراجز :
إنْ شِئْتَ أنْ تدهن أو تمرا... فَوَلِّهِنَّ قُتْرَكَ الأشَرَّا (1)
__________
(1) البيتان من مشطور الرجز. ولم أقف على قائلهما. والشاهد فيهما في قوله : " قترك " بضم فسكون بمعنى القطر ، وهو الجانب والناحية. قال أبو عبيدة : " من أقطارها " أي من جوانبها ونواحيها. وواحدها قطر ، وفي " اللسان : قتر " القتر : بضم فسكون ، والفتر : بضمتين : الناحية والجانب لغة : في القطر ، وهي : الأقتار. ا هـ. وفي (اللسان : قطر) ، وفي التنزيل العزيز : (من أقطار السماوات والأرض) : أقطارها : نواحيها : واحدها قطر ، وكذلك أقتراها ، واحدها قتر. ا هـ.

(20/226)


وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)

وقوله : (ثُمَّ سُئِلوا الفِتْنَةَ) يقول : ثم سئلوا الرجوع من الإيمان إلى الشرك(لآتَوْها) يقول : لفعلوا ورجعوا عن الإسلام وأشركوا. وقوله : (وَما تَلَبَّثُوا بها إلا يَسِيرًا) يقول : وما احتبسوا عن إجابتهم إلى الشرك إلا يسيرا قليلا ولأسرعوا إلى ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ) أي : لو دخل عليهم من نواحي المدينة(ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ) : أي : الشرك(لآتَوْها) يقول : لأعطوها.(وَما تَلَبَّثُوا بِها إلا يَسِيرًا) يقول : إلا أعطوه طيبة به أنفسهم ما يحتبسونه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ) يقول : لو دخلت المدينة عليهم من نواحيها(ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لآتوْهَا) سئلوا أن يكفروا لكفروا. قال : وهؤلاء المنافقون لو دخلت عليهم الجيوش ، والذين يريدون قتالهم ، ثم سئلوا أن يكفروا لكفروا. قال : والفتنة : الكفر ، وهي التي يقول الله : (الفِتْنَةُ أشَدُّ مِنَ القَتْلِ) أي : الكفر. يقول : يحملهم الخوف منهم ، وخبث الفتنة التي هم عليها من النفاق على أن يكفروا به.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : (لآتَوْها) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض قرّاء مكة : (لأتَوْها) بقصر الألف ، بمعنى جاءوها. وقرأه بعض المكيين وعامة قرّاء الكوفة والبصرة : (لآتَوْها) بمدّ الألف ، بمعنى : لأعطوها ، لقوله : (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ). وقالوا : إذا كان سؤال كان إعطاء. والمدّ أعجب القراءتين إليّ لما ذكرت ، وإن كانت الأخرى جائزة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا (15) }
يقول تعالى ذكره : ولقد كان هؤلاء الذين يستأذنون رسول الله صلى الله عليه

(20/227)


وسلم في الانصراف عنه ، ويقولون : (إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ) ، عاهدوا الله من قبل ذلك ، ألا يولوا عدوّهم الأدبار ، إن لقولهم في مشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ، فما أوفوا بعهدهم(وكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا) يقول : فيسأل الله ذلك من أعطاه إياه من نفسه.
وذُكر أن ذلك نزل في بني حارثة لما كان من فعلهم في الخندق بعد الذي كان منهم بأحد.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا ). وهم بنو حارثة ، وهم الذين همّوا أن يفشلوا يوم أُحد مع بني سلمة حين همّا بالفشل يوم أُحد ، ثم عاهدوا الله لا يعودون لمثلها ، فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا ) قال : كان ناس غابوا عن وقعة بدر ، ورأوا ما أعطى الله أصحاب بدر من الكرامة والفضيلة ، فقالوا : لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلنّ ، فساق الله ذلك إليهم حتى كان في ناحية المدينة.

(20/228)


قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (17) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (قُلْ) يا محمد ، لهؤلاء الذين يستأذنوك في الانصراف عنك ويقولون : إن بيوتنا عورة( لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ) يقول : لأن ذلك ، أو ما كتب الله منهما واصل إليكم بكل حال ، كرهتم أو أحببتم(وإذًا لا تُمَتَّعُونَ إلا قَلِيلا) يقول : وإذا فررتم من الموت أو القتل لم يزد فراركم ذلك في أعماركم وآجالكم ، بل إنما تمتعون في هذه الدنيا إلى الوقت الذي كتب لكم ، ثم يأتيكم ما كتب لكم وعليكم.

(20/228)


وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا ) وإنما الدنيا كلها قليل.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ، عن ربيع بن خيثم(وَإذًا لا تُمَتَّعُونَ إلا قَلِيلا) قال : إلى آجالهم.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ، عن ربيع بن خيثم(وَإذًا لا تُمَتَّعُونَ إلا قَلِيلا) قال : ما بينهم وبين الأجل.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى وعبد الرحمن قالا ثنا سفيان ، عن منصور ، عن الأعمش ، عن أبي رزين ، عن الربيع بن خيثم ، مثله إلا أنه قال : ما بينهم وبين آجالهم.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي رزين ، أنه قال في هذه الآية : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا) قال : ليضحكوا في الدنيا قليلا وليبكوا في النار كثيرا. وقال في هذه الآية : (وَإذًا لا تُمَتَّعُونَ إلا قَلِيلا) قال : إلى آجالهم. أحد هذين الحديثين رفعه إلى ربيع بن خيثم.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن الأعمش ، عن أبي رزين ، عن الربيع بن خيثم(وَإذًا لا تُمَتَّعُونَ إلا قَلِيلا) قال : الأجل. ورفع قوله : (تُمَتَّعُونَ) ولم ينصب بـ " إذًا " للواو التي معها ؛ وذلك أنه إذا كان قبلها واو ، كان معنى " إذًا " التأخير بعد الفعل ، كأنه قيل : ولو فرّوا لا يمتَّعون إلا قليلا إذًا ، وقد يُنصب بها أحيانا ، وإن كان معها واو ؛ لأن الفعل متروك ، فكأنها لأوّل الكلام.
قوله : ( قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ). يقول تعالى ذكره : قل يا محمد ، لهؤلاء الذين يستأذنونك ويقولون : (إن بيوتنا عورة) هربا من القتل : من ذا الذي يمنعكم من الله إن هو أراد بكم سوءا في أنفسكم ، من قتل أو بلاء أو غير ذلك ، أو عافية وسلامة ؟ وهل ما يكون بكم في أنفسكم من سوء أو رحمة إلا من قِبَله ؟.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان( قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ) أي أنه ليس الأمر

(20/229)


قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)

إلا ما قضيت.
وقوله : ( وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) يقول تعالى ذكره : ولا يجد هؤلاء المنافقون إن أراد الله بهم سوءًا في أنفسهم وأموالهم(مِن دُونِ الله وليًّا) يليهم بالكفاية(وَلا نَصِيرًا) ينصرهم من الله فيدفع عنهم ما أراد الله بهم من سوء ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) }
يقول تعالى ذكره : قد يعلم الله الذين يعوّقون الناس منكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصدّونهم عنه ، وعن شهود الحرب معه ، نفاقا منهم ، وتخذيلا عن الإسلام وأهله(والقائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنا) : أي تعالوا إلينا ، ودعوا محمدا ، فلا تشهدوا معه مشهده ، فإنا نخاف عليكم الهلاك بهلاكه(وَلا يَأْتُونَ البأْسَ إلا قَلِيلا) يقول : ولا يشهدون الحرب والقتال إن شهدوا إلا تعذيرا ، ودفعا عن أنفسهم المؤمنين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ ) قال : هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه ، دعوا هذا الرجل فإنه هالك.
وقوله : (وَلا يأْتُونَ البأْسَ إلا قَلِيلا) : أي لا يشهدون القتال ، يغيبون عنه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثنا يزيد بن رومان( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ ) : أي أهل النفاق( وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا ) : أي إلا دفعا وتعذيرا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ

(20/230)


الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ ...) إلى آخر الآية ، قال : هذا يوم الأحزاب ، انصرف رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد أخاه بين يديه شواء ورغيف ونبيذ ، فقال له : أنت هاهنا في الشواء والرغيف والنبيذ ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف ؟ فقال : هلمّ إلى هذا ، فقد بلغ بك وبصاحبك ، والذي يحلف به لا يستقبلها (1) محمد أبدا ، فقال : كذبت والذي يحلف به ؛ قال - وكان أخاه من أبيه وأمِّه - : أما والله لأخبرنّ النّبي صلى الله عليه وسلم أمرك ؛ قال : وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره ؛ قال : فوجده قد نزل جبرائيل عليه السلام بخبره( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا ) .
وقوله : (أشحَّةً عَلَيْكُمْ) اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف الله به هؤلاء المنافقين في هذا الموضع من الشح ، فقال بعضهم : وصفهم بالشحّ عليهم في الغنيمة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(أشِحَّةً عَلَيْكُمْ) في الغنيمة.
وقال آخرون : بل وصفهم بالشحّ عليهم بالخير.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(أشِحَّةً عَلَيْكُمْ) قال : بالخير المنافقون ، وقال غيره : معناه : أشحة عليكم بالنفقة على ضعفاء المؤمنين منكم.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله وصف هؤلاء المنافقين بالجبن والشحّ ، ولم يخصص وصفهم من معاني الشحّ ، بمعنى دون معنى ، فهم كما وصفهم الله به : أشحة على المؤمنين بالغنيمة والخير والنفقة في سبيل الله ، على أهل مسكنة المسلمين. ونصب قوله : (أشِحَّةً عَلَيْكُمْ) على الحال من ذكر الاسم الذي في قوله : (وَلا يَأْتُونَ البأْسَ) كأنه قيل : هم جبناء عند البأس ، أشحاء عند قسم الغنيمة بالغنيمة. وقد يحتمل أن يكون قطعا من قوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) فيكون تأويله : قد يعلم الله الذين يعوّقون الناس على القتال ، ويشحون عند الفتح بالغنيمة ، ويجوز أن يكون أيضا قطعا من قوله : هلم إلينا أشحة ، وهم هكذا أشحة. ووصفهم جلّ ثناؤه بما وصفهم من الشحّ على المؤمنين لما في
__________
(1) كذا في الأصل ، وفي الدر المنثور للسيوطي : لا يستقى لها.

(20/231)


أنفسهم لهم من العداوة والضغن.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان(أشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أي للضغن الذي في أنفسهم.
وقوله : (فإذَا جاءَ الخَوْفُ ...) إلى قوله : (مِنَ المَوْتِ) يقول تعالى ذكره : فإذا حضر البأس ، وجاء القتال خافوا الهلاك والقتل ، رأيتهم يا محمد ينظرون إليك لواذا بك ، تدور أعينهم خوفا من القتل ، وفرارا منه(كالَّذي يُغْشَى علَيْهِ مِنَ المَوْتِ) يقول : كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت النازل به(فإذَا ذَهَبَ الخَوْفُ) يقول : فإذا انقطعت الحرب واطمأنوا(سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ ) مِنَ الخَوْفِ.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان( فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) أي إعظامًا وفَرقا منه وأما قوله : (سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ) فإنه يقول : عضوكم بألسنة ذربة. ويقال للرجل الخطيب الذرب اللسان : خطيب مسلق ومصلق ، وخطيب سَلاق وصَلاق.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف تعالى ذكره هؤلاء المنافقين أنهم يسلقون المؤمنين به ، فقال بعضهم : ذلك سلقهم إياهم عند الغنيمة بمسألتهم القسم لهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ) أما عند الغنيمة ، فأشحّ قوم وأسوأ مقاسمة ، أعطونا أعطونا فإنا قد شهدنا معكم. وأما عند البأس فأجبن قوم ، وأخذله للحقّ.
وقال آخرون : بل ذلك سلقهم إياهم بالأذَى.
* ذكر ذلك عن ابن عباس :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس

(20/232)


يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)

قوله : (سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ) قال : استقبلوكم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد(سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ) قال : كلموكم.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهم يسلقونهم من القول بما تحبون نفاقا منهم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان( فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ) في القول بما تحبون لأنهم لا يرجون آخرة ، ولا تحملهم حسبة ، فهم يهابون الموت هيبة من لا يرجو ما بعده.
وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل قول من قال : ( سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ) فأخبر أن سلقهم المسلمين شحا منهم على الغنيمة والخير ، فمعلوم إذ كان ذلك كذلك ، أن ذلك لطلب الغنيمة. وإذا كان ذلك منهم لطلب الغنيمة دخل في ذلك قول من قال : معنى ذلك : سلقوكم بالأذى ، لأن فعلهم ذلك كذلك لا شكّ أنه للمؤمنين أذى.
وقوله : (أشِحَّةً عَلى الخَيْرِ) يقول : أشحة على الغنيمة إذا ظفر المؤمنون.
وقوله : (لَمْ يُؤْمِنُوا فأحْبَطَ اللهُ أعمالَهُمْ) يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم في هذه الآيات لم يصدّقوا الله ورسوله. ولكنهم أهل كفر ونفاق ، (فَأَحْبَطَ اللهُ أعمالَهُمْ) يقول : فأذهب الله أجور أعمالهم وأبطلها. وذُكر أن الذي وصف بهذه الصفة كان بدريا ، فأحبط الله عمله.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) قال : فحدثني أبي أنه كان بدريا ، وأن قوله : (فأَحْبَطَ اللهُ أعمالَهُمْ) أحبط الله عمله يوم بدر.
وقوله : (وكانَ ذلكَ على اللهِ يَسِيرًا) يقول تعالى ذكره : وكان إحباط عملهم الذي كانوا عملوا قبل ارتدادهم ونفاقهم على الله يسيرا.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ

(20/233)


يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا (20) }
يقول تعالى ذكره : يحسب هؤلاء المنافقون الأحزاب ، وهم قريش وغطفان.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان(يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا) : قريش وغطفان.
وقوله : (لَمْ يَذْهَبُوا) يقول : لم ينصرفوا ، وإن كانوا قد انصرفوا جبنا وهَلعا منهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا) قال : يحسبونهم قريبا.
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله(يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ قَدْ ذَهَبُوا فإذَا وَجَدُوهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا وَدُّوا لَوْ أنَّهُمْ بادُونَ فِي الأعْرَابِ).
وقوله : ( وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ ) يقول تعالى ذكره : وإن يأت المؤمنين الأحزاب وهم الجماعة : واحدهم حزب(يَوَدُّوا) يقول : يتمنوا من الخوف والجبن أنهم غيب عنكم في البادية مع الأعراب خوفا من القتل. وذلك أن قوله : (لَوْ أنَّهُمْ بادُونَ فِي الأعْرَابِ) تقول : قد بدا فلان إذا صار في البدو فهو يبدو ، وهو باد ؛ وأما الأعراب : فإنهم جمع أعرابيّ ، وواحد العرب عربيّ ، وإنما قيل : أعرابيّ لأهل البدو ، فرقا بين أهل البوادي والأمصار ، فجعل الأعراب لأهل البادية ، والعرب لأهل المصر.
وقوله : (يَسألُونَ عَنْ أنْبائِكُمْ) يقول : يستخبر هؤلاء المنافقون أيها المؤمنون الناس عن أنبائكم ، يعني : عن أخباركم بالبادية ، هل هلك محمد وأصحابه ؟ نقول : يتمنون أن يسمعوا أخباركم بهلاككم ، ألا يشهدوا معكم مشاهدكم(وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إلا قَلِيلا) يقول تعالى ذكره للمؤمنين : ولو كانوا أيضا فيكم ما نفعوكم ، وما قاتلوا المشركين إلا قليلا يقول : إلا تعذيرا ، لأنهم لا يقاتلونهم حسبة ولا رجاء ثواب.

(20/234)


لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : (يَسألونَ عَنْ أنْبائِكُمْ) قال : أخباركم ، وقرأت قرّاء الأمصار جميعا سوى عاصم الجحدري(يَسألونَ عَنْ أنْبائِكُمْ) بمعنى : يسألون من قدم عليهم من الناس عن أنباء عسكركم وأخباركم ، وذكر عن عاصم الجحدري أنه كان يقرأ ذلك(يَسّاءَلونَ) بتشديد السين ، بمعنى : يتساءلون : أي يسأل بعضهم بعضا عن ذلك.
والصواب من القول في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) }
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : (أُسْوَةٌ) فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : (إِسْوَةٌ) بكسر الألف ، خلا عاصم بن أبي النجود ، فإنه قرأه بالضمّ(أُسوة) ، وكان يحيى بن وثاب يقرأ هذه بالكسر ، ويقرأ قوله : (لقد كان لكم فيهم أسوة) بالضم وهما لغتان.
وذُكر أن الكسر في أهل الحجاز ، والضمّ في قيس ، يقولون : أُسوة ، وأُخوة ، وهذا عتاب من الله للمتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعسكره بالمدينة ، من المؤمنين به ، يقول لهم جلّ ثناؤه : (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) : أن تتأسوا به وتكونوا معه حيث كان ، ولا تتخلَّفوا عنه(لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللَّهَ) يقول : فإن من يرجو ثواب الله ورحمته في الآخرة لا يرغب بنفسه ، ولكنه تكون له به أُسوة في أن يكون معه حيث يكون هو.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(20/235)


* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان ، قال : ثم أقبل على المؤمنين ، فقال : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ) ألا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، ولا عن مكان هو به(وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) يقول : وأكثر ذكر الله في الخوف والشدّة والرخاء.
وقوله : ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ ) يقول : ولمَّا عاين المؤمنون بالله ورسوله جماعات الكفار قالوا - تسليما منهم لأمر الله ، وإيقانا منهم بأن ذلك إنجاز وعده لهم ، الذي وعدهم بقوله : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ...) إلى قوله : (قَرِيبٌ) - (هذا ما وعدنا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) فأحسن الله عليهم بذلك من يقينهم ، وتسليمهم لأمره الثناء ، فقال : وما زادهم اجتماع الأحزاب عليهم إلا إيمانا بالله وتسليما لقضائه وأمره ، ورزقهم به النصر والظفر على الأعداء.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : (وَلمَّا رأى المُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ ...) الآية قال : ذلك أن الله قال لهم في سورة البقرة : (أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجنَّةَ ...) إلى قوله : (إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) قال : فلما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق ، تأوّل المؤمنون ذلك ، ولم يزدهم ذلك إلا إيمانًا وتسليما.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان ، قال : ثم ذكر المؤمنين وصدقهم وتصديقهم بما وعدهم الله من البلاء يختبرهم به( قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ) : أي صبرا على البلاء ، وتسليما للقضاء ، وتصديقا بتحقيق ما كان الله وعدهم ورسوله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) وكان الله قد وعدهم في سورة البقرة فقال : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا

(20/236)


مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) خيرهم وأصبرهم وأعلمهم بالله(مَتى نَصْرُ اللهِ ألا إنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) هذا والله البلاء والنقص الشديد ، وإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأوا ما أصابهم من الشدّة والبلاء( قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ) وتصديقا بما وعدهم الله ، وتسليما لقضاء الله.

(20/237)


مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) }
يقول تعالى ذكره(مِنَ المُؤْمِنِينَ) بالله ورسوله( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) يقول : أوفوا بما عاهدوه عليه من الصبر على البأساء والضرّاء ، وحين البأس(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) يقول : فمنهم من فرغ من العمل الذي كان نذره الله وأوجبه له على نفسه ، فاستشهد بعض يوم بدر ، وبعض يوم أُحد ، وبعض في غير ذلك من المواطن(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) قضاءه والفراغ منه ، كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده ، والنصر من الله ، والظفر على عدوّه. والنحب : النذر في كلام العرب. وللنحب أيضا في كلامهم وجوه غير ذلك ، منها الموت ، كما قال الشاعر :
قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى القَوْمِ هَوْبَرُ (1)
يعني : منيته ونفسه ؛ ومنها الخطر العظيم ، كما قال جرير :
بِطَخْفَةَ جالَدْنا المُلُوكَ وَخَيْلُنَا... عَشِيَّةَ بِسْطامٍ جَرَيْنَ عَلى نَحْبِ (2)
__________
(1) هذا عجز بيت لذي الرمة وصدره * عيشة فر الحارثيون بعدما *
وهوبر : اسم رجل ، أراد ابن هوبر (اللسان : هبر). وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن ، عند قوله تعالى : (فمنهم من قضى نحبه) : أي نذره الذي كان. والنحب أيضًا النفس : أي الموت. قال ذو الرمة : " قضى نحبه ... " أي نفسه ، وإنما هو أيضًا يزيد بن هوبر ، ا هـ . وفي الديوان (طبعة كمبردج سنة 1919 ص 235) أراد يزيد بن هوبر ، وهو رجل من بني الحارث بن كعب.
(2) البيت لجرير بن عطية بن الخطفي (أبو عبيدة ، مجاز القرآن ، الورقة 174 - ب) و (اللسان : نحب) قال : وجعله جرير بن الخطفي : الخطر العظيم ، قال " بطخفة ... " البيت ، أي خطر عظيم. وطخفة ، بفتح الطاء ، وكسرها : جبل أحمر طويل في ديار بني تميم. كانت به وقعة بين بني يربوع ، وقابوس بن النعمان ، وكان النعمان قد بعث إليهم جيشًا ، وأمر عليه ابنه قابوس وأخاه حسان ، فهزمتهم بنو يربوع بطخفة ، وأسروهما حتى منوا عليهما ، فذلك الذي أراد جرير (انظر معجم ما ستعجم للبكري طخفة).

(20/237)


أي على خطر عظيم ؛ ومنها النحيب ، يقال : نحب في سيره يومه أجمع : إذا مدّ فلم ينزل يومه وليلته ؛ ومنها التنحيب ، وهو الخطار ، كما قال الشاعر :
وإذْ نَحَّبَتْ كَلْبٌ على النَّاس أيُّهُمْ... أحَقُّ بِتاجِ المَاجِدِ المُتَكَوِّم? (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) : أي : وفوا الله بما عاهدوه عليه(فمنهم من قَضَى نَحْبَهُ) أي فرغ من عمله ، ورجع إلى ربه ، كمن استشهد يوم بدر ويوم أُحد(ومنهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) ما وعد الله من نصره والشهادة على ما مضى عليه أصحابه.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) قال : عهده فقتل أو عاش(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) يوما فيه جهاد ، فيقضي(نحبه) عهده ، فيقتل أو يصدق في لقائه.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) قال : عهده(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) قال : يوما فيه قتال ، فيصدق في اللقاء.
قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن مجاهد(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) قال : مات على العهد.
قال : ثنا أبو أُسامة ، عن عبد الله بن فلان - قد سماه ، ذهب عني اسمه - عن أبيه(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) قال : نذره.
حدثنا ابن إدريس ، عن طلحة بن يحيى ، عن عمه عيسى بن طلحة : أن أعرابيا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسأله : من الذين قضوا نحبهم ؟ فأعرض عنه ، ثم سأله ، فأعرض عنه ، ودخل طلحة من باب المسجد وعليه ثوبان أخضران ، فقال : " هَذَا مِنَ
__________
(1) البيت للفرزدق (ديوانه طبعة الصاوي بالقاهرة ص 759) والتنحيب هنا مصدر نحب ، بشد الحاء أي صاح أو نادى بشدة. وأصل التنحيب : الدأب على الشيء ، والإكباب عليه لا يفارقه (اللسان : نحب). وجعله المؤلف بمعنى الخطار ، ولعله يريد المخاطرة بالنفس.

(20/238)


الَّذِينَ قَضَوْا نَحْبَهُمْ " .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا هوذة ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) قال : موته على الصدق والوفاء.(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الموت على مثل ذلك ، ومنهم من بدّل تبديلا (1) .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سعيد بن مسروق ، عن مجاهد( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) قال : النحب : العهد.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ) على الصدق والوفاء(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) من نفسه الصدق والوفاء.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) قال : مات على ما هو عليه من التصديق والإيمان(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) ذلك.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي بكير ، قال شريك بن عبد الله ، أخبرناه عن سالم ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) قال : الموت على ما عاهد الله عليه(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الموت على ما عاهد الله عليه.
وقيل : إن هذه الآية نزلت في قوم لم يشهدوا بدرا ، فعاهدوا الله أن يفوا قتالا للمشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمنهم من أوفى فقضى نحبه ، ومنهم من بدّل ، ومنهم من أوفى ولم يقض نحبه ، وكان منتظرا ، على ما وصفهم الله به من صفاتهم في هذه الآية.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، أن أنس بن النضر تغيب عن قتال بدر ، فقال : تغيبت عن أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لئن رأيت قتالا ليرين الله ما أصنع ؛ فلما كان يوم أُحُد ، وهُزم الناس ، لقي سعد بن معاذ فقال : والله إني لأجدُ ريح الجنة ، فتقدم
__________
(1) الذي في الدر المنثور بدله : وآخرون ما بدلوا تبديلا.

(20/239)


فقاتل حتى قُتل ، فنزلت فيه هذه الآية : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ).
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الله بن بكير ، قال : ثنا حميد ، قال : زعم أنس بن مالك قال : غاب أنس بن النضر ، عن قتال يوم بدر ، فقال : غبت عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين ، لئن أشهدني الله قتالا ليرينّ الله ما أصنع ؛ فلما كان يوم أُحُد ، انكشف المسلمون ، فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون ، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء ، يعني المسلمين ، فمشى بسيفه ، فلقيه سعد بن معاذ ، فقال : أي سعد ، إني لأجد ريح الجنة دون أحد ، فقال سعد : يا رسول الله ، فما استطعت أن أصنع ما صنع ، قال أنس بن مالك : فوجدناه بين القتلى ، به بضع ثمانون جراحة ، بين ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورمية بسهم ، فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه ، قال أنس : فكنا نتحدّث أن هذه الآية( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ) نزلت فيه ، وفي أصحابه.
حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت حميدا يحدّث ، عن أنس بن مالك ، أن أنس بن النضر : غاب عن قتال بدر ، ثم ذكر نحوه.
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا يونس بن بكير ، قال : ثنا طلحة بن يحيى ، عن موسى وعيسى بن طلحة عن طلحة أن أعرابيا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وكانوا لا يجرءون على مسألته ، فقالوا للأعرابي : سله(مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) من هو ؟ فسأله ، فأعرض عنه ، ثم سأله ، فأعرض عنه ، ثم دخلت من باب المسجد وعليّ ثياب خُضر ؛ فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أيْنَ السَّائِل عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ ؟ " قال الأعرابيّ : أنا يا رسول الله قال : " هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ " .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا عبد الحميد الحِمَّاني ، عن إسحاق بن يحيى الطَّلْحِي ، عن موسى بن طلحة ، قال : قام معاوية بن أبي سفيان ، فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ " .
حدثني محمد بن عمرو بن تمام الكلبي ، قال : ثنا سليمان بن أيوب ، قال : ثني أبي ، عن إسحاق ، عن يحيى بن طلحة ، عن عمه موسى بن طلحة ، عن أبيه طلحة قال : لما قدمنا من أُحُد وصرنا بالمدينة ، صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم المنبر ، فخطب الناس

(20/240)


وعزّاهم ، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر ، ثم قرأ : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ...) الآية ، قال : فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ فالتفت وعليّ ثوبان أخضران ، فقال : " أيُّها السَّائِلُ هَذَا مِنْهُمْ " .
وقوله : (وَما بَدَّلًوا تَبْديلا) : وما غيروا العهد الذي عاقدوا ربهم تغييرا ، كما غيره المعوّقون القائلون لإخوانهم : هلمّ إلينا ، والقائلون : إن بيوتنا عورة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَما بَدَّلُوا تَبْديلا) يقول : ما شكُّوا وما تردّدوا في دينهم ، ولا استبدلوا به غيره.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وَما بَدَّلُوا تَبْديلا) : لم يغيروا دينهم كما غير المنافقون.
وقوله : (ليَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بصِدْقهِمْ) يقول تعالى ذكره(مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ .... لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بصِدْقِهِمْ) : يقول : ليثيب الله أهل الصدق بصدقهم الله بما عاهدوه عليه ، ووفائهم له به(وَيُعَذِّبَ المُنافِقِينَ إنْ شاءَ) بكفرهم بالله ونفاقهم(أوْ يَتُوبَ عَليهِمْ) من نفاقهم ، فيهديهم للإيمان.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) يقول : إن شاء أخرجهم من النفاق إلى الإيمان.
إن قال قائل : ما وجه الشرط في قوله : (وَيُعَذِّبَ المُنافِقِينَ) بقوله : (إنْ شاءَ) والمنافق كافر وهل يجوز أن لا يشاء تعذيب المنافق ، فيقال : ويعذّبه إن شاء ؟ قيل : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته. وإنما معنى ذلك : ويعذّب المنافقين بأن لا يوفقهم للتوبة من نفاقهم حتى يموتوا على كفرهم إن شاء ، فيستوجبوا بذلك العذاب ، فالاستثناء إنما هو من التوفيق لا من العذاب إن ماتوا على نفاقهم.
وقد بين ما قلنا في ذلك قوله : (أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) فمعنى الكلام إذن : ويعذّب المنافقين إذ لم يهدهم للتوبة ، فيوفقهم لها ، أو يتوب عليهم فلا يعذّبهم.

(20/241)


وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)

وقوله : (إنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيما) يقول : إن الله كان ذا ستر على ذنوب التائبين ، رحيما بالتائبين أن يعاقبهم بعد التوبة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) }
يقول تعالى ذكره(ورَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفُروا) به وبرسوله من قُرَيش وغطفان(بغَيْظِهِمْ) يقول : بكربهم وغمهم ، بفوتهم ما أمَّلوا من الظفر ، وخيبتهم مما كانوا طَمِعوا فيه من الغَلَبة(لَمْ ينَالوا خَيْرًا) يقول : لم يصيبوا من المسلمين مالا ولا إسارا(وكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنينَ القِتالَ) بجنود من الملائكة والريح التي بعثها عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا) الأحزاب.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا) وذلك يوم أبي سفيان والأحزاب ، ردّ الله أبا سفيان وأصحابه بغيظهم لم ينالوا خيرا(وكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنينَ القِتالَ) بالجنود من عنده ، والريح التي بعث عليهم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا) : أي : قريش وغطفان.
حدثني الحسين بن عليّ الصُّدائي ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه ، قال : حُبسنا يوم الخندق عن الصلاة ، فلم نصلّ الظهر ، ولا العصر ، ولا المغرب ، ولا العشاء ، حتى كان بعد العشاء بهويّ كفينا ، وأنزل الله(وكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنينَ القِتالَ وكان اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام الصلاة ، وصلى الظهر ، فأحسن صلاتها ، كما كان يصليها في وقتها ، ثم صلى العصر كذلك ، ثم صلى المغرب

(20/242)


وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)

كذلك ، ثم صلى العشاء كذلك ، جعل لكل صلاة إقامة ، وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف(فإنْ خِفْتُم فَرِجالا أوْ رُكْبانا).
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا ابن أبي فديك ، قال : ثنا ابن أبي ذئب ، عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبي سعيد الخدري قال : حُبسنا يوم الخندق ، فذكر نحوه.
وقوله : (وكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) يقول : وكان الله قويا على فعل ما يشاء فعله بخلقه ، فينصر من شاء منهم على من شاء أن يخذله ، لا يغلبه غالب ؛ (عزيزا) : يقول : هو شديد انتقامه ممن انتقم منه من أعدائه.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وكانَ اللَّهُ قَويًّا عَزيزًا) : قويا في أمره ، عزيزا في نقمته.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) }
يقول تعالى ذكره : وأنزل الله الذين أعانوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وذلك هو مظاهرتهم إياه ، وعنى بذلك بني قريظة ، وهم الذين ظاهروا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله : (مِنْ أهْلِ الكتاب) يعني : من أهل التوراة ، وكانوا يهود : وقوله : (منْ صيَاصِيهمْ) يعني : من حصونهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) قال : قريظة ، يقول : أنزلهم من صياصيهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَأَنزلَ الَّذِينَ

(20/243)


ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) وهم : بنو قُرَيظة ، ظاهروا أبا سفيان وراسلوه ، فنكثوا العهد الذي بينهم وبين نبيّ الله ، قال : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش يغسل رأسه ، وقد غسلت شقه ، إذ أتاه جبرائيل صلى الله عليه وسلم ، فقال : عفا الله عنك ؛ ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة ، فانهض إلى بني قريظة ، فإني قد قطعت أوتارهم ، وفتحت أبوابهم ، وتركتهم في زلزال وبلبال ؛ قال : فاستلأم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سلك سكة بني غنم ، فاتبعه الناس وقد عصب حاجبه بالتراب ؛ قال : فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصروهم وناداهم : " يا إخوان القردة " ، فقالوا : يا أبا القاسم ، ما كنت فحاشا ، فنزلوا على حكم ابن معاذ ، وكان بينهم وبين قومه حلف ، فرجوا أن تأخذه فيهم هوادة ، وأومأ إليهم أبو لبابة إنه الذبح ، فأنزل الله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم ، وأن تسبى ذراريهم ، وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار ، فقال قومه وعشيرته : آثرت المهاجرين بالعقار علينا قال : فإنكم كنتم ذوي عقار ، وإن المهاجرين كانوا لا عقار لهم. وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر وقال : " قَضَى فِيكُمْ بِحُكْمِ اللهِ " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون ، ووضعوا السلاح ، فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن ابن شهاب الزهري : " معتجرا بعمامة من إستبرق ، على بغلة عليها رحالة ، عليها قطيفة من ديباج ؛ فقال : أقد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : نعم قال جبريل : ما وضعت الملائكة السلاح بعد ، ما رجعت الآن إلا من طلب القوم ، إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة ، وأنا عامد إلى بني قريظة " ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ، فأذّن في الناس : " إن من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة " ، وقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه برايته إلى بني قريظة ، وابتدرها الناس ، فسار عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه حتى إذا دنا من الحصون ، سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله

(20/244)


عليه وسلم بالطريق ، فقال : يا رسول الله ، لا عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخباث ، قال : " لِمَ ؟ أَظُنُّكَ سَمِعْتَ لي مِنْهُمْ أذًى " قال : نعم يا رسول الله ، قال : " لَوْ قَدْ رأونِي لَمْ يقُولُوا مِنْ ذلكَ شَيْئا " فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال : " يا إخْوَانَ القِرَدَة هَلْ أخْزَاكُمُ اللهُ وأنزلَ بِكُمْ نِقْمَتَهُ ؟ " قالُوا : يا أبا القاسم ، ما كنت جهولا ؛ ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة ، فقال : " هل مَرَّ بِكُمْ أحَدٌ ؟ " فقالوا : يا رسول الله ، قد مرّ بنا دِحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذَاك جبْرَائيلُ بُعِثَ إلى بَنِي قُرَيْظَةَ يُزَلْزلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ ، وَيَقْذِفُ الرُّعْبَ في قُلُوبهِمْ " ؛ فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة ، نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم يقال لها : بئر أنا ، فتلاحق به الناس ، فأتاه رجال من بعد العشاء الآخرة ، ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ " ، فصلوا العصر فما عابهم الله بذلك في كتابه ولا عنفهم به رسوله.
والحديث عن محمد بن إسحاق ، عن أبيه ، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري ، قال : وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب. وقد كان حُيَيّ بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه ؛ فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ؛ قال كعب بن أسد لهم : يا معشر يهود ، إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا ، فخذوا أيها ؛ قالوا : وما هنّ ؟ قال : نبايع هذا الرجل ونصدّقه ، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبيّ مرسل ، وأنه الذي كنتم تجدونه في كتابكم ، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ، قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره ؛ قال : فإذا أبيتم هذه عليّ ، فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا ، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف ، ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنتخذنّ النساء والأبناء ، قالوا : نقتل هؤلاء المساكين ، فما خير العيش بعدهم ؛ قال : فإذا أبيتم هذه عليّ ، فإن

(20/245)


الليلة ليلة السبت ، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا ، فانزلوا لعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرّة ، قالوا : نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ؟ أما من قد علمت فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك ؟ قال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما ، قال : ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف ، - وكانوا من حلفاء الأوس - نستشيره في أمرنا ، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما رأوه قام إليه الرجال ، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرقّ لهم وقالوا له : يا أبا لبابة ، أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه ، إنه الذبح ؛ قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خُنت الله ورسوله ؛ ثم انطلق أبو لبابة على وجهه. ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عُمده وقال : لا أبرح مكاني حتى يتوب الله عليّ مما صنعت وعاهد الله لا يطأ بني قريظة أبدا ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ، وكان قد استبطأه ، قال : " أما إنَّهُ لَوْ كَانَ جَاءَنِي لاسْتَغْفَرْتُ لَهُ ، أمَّا إذْ فَعَلَ مَا فَعَلَ ، فَمَا أنا بالَّذي أُطْلِقُهُ مِنْ مَكانِه حتى يَتُوبَ اللهُ عَلَيْه " ؛ ثم إن ثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، وهم نفر من بني هذيل ليسوا من بني قريظة ، ولا النضير ، نسبهم فوق ذلك ، هم بنو عمّ القوم ، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظي ، فمرّ بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة ؛ فلما رآه قال : مَنْ هَذَا ؟ قال : عمرو بن سعدى ؛ وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : لا أغدر بمحمد أبدا ، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه : اللهمّ لا تحرمني إقالة عثرات الكرام ، ثم خلى سبيله ، فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ، ثم ذهب ، فلا يُدرى أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا ؛ فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه ، فقال : " ذَاكَ رَجُلٌ نَجَّاهُ اللهُ بِوَفائِه " . قال : وبعض الناس كان يزعم أنه كان أُوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصبحت رمته مُلقاة ، ولا يُدرى أين ذهب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة ، فالله أعلم.
فلما أصبحوا ، نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتواثبت الأوس ، فقالوا : يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه ، فسأله إياهم عبد الله بن أبيّ بن سلول ، فوهبهم له ؛ فلما كلَّمته الأوس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا تَرْضَوْنَ يا مَعْشَرَ الأوْسِ أنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ ؟ " قالوا : بلى ، قال : " فَذَاكَ إلى سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ " ، وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده ، كانت تداوي الجَرْحَى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق " اجْعَلُوهُ فِي خَيْمَةِ رُفَيْدَةَ حتى أعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ " فلما حكَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة ، أتاه قومه فاحتملوه على حمار ، وقد وطئوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلا جسيما ، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يقولون : يا أبا عمرو أحسن في مواليك ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك ذلك لتُحسن فيهم ، فلما أكثروا عليه قال : قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم ، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل ، فنعى إليهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ ؛ من كلمته التي سمع منه ؛ فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، قال : " قوموا إلى سيدكم " فقاموا إليه ، فقالوا : يا أبا عمرو ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك مواليَك لتحكم فيهم ، فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ، إن الحكم فيهم كما حكمت ؟ قال : نعم ، قال : وعلى من هاهنا ؟ في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إجلالا له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نَعَمْ " ، قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تُقتل الرجال ، وتقسّم الأموال ، وتُسبى الذراري والنساء.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : فحدثني محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، عن علقمة بن وقاص

(20/246)


الليثي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَقَدْ حَكَمْتُ فِيهِمْ بحُكمِ اللهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أرْقِعَةٍ " ، ثم استنزلوا ، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار ابنة الحارث امرأة من بني النَّجار ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة ، التي هي سوقها اليوم ، فخندق بها خنادق ، ثم بعث إليهم ، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدوّ الله حُيَيّ بن أخطب ، وكعب بن أسد رأس القوم ، وهم ستّ مئة أو سبعمائة ، والمكثر منهم يقول : كانوا من الثمانمائة إلى التسعمائة ، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يُذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا يا كعب ، ما ترى ما يُصنع بنا ؟ فقال كعب : أفي كلّ موطن لا تعقلون ؟ ألا ترون الداعي لا ينزع ، وإنه من يُذهب به منكم فما يرجع ، هو والله ، القتل ، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأُتي بحُييّ بن أخطب عدو الله ، وعليه حلة له فُقَّاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة ، أنملة أنملة ؛ لئلا يسلبها ، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أما والله ، ما لمت نفسي في عداوتك ، ولكنه من يخذل الله يُخْذَل ، ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس ، إنه لا بأس بأمر الله ، كتاب الله وقدره ، وملحمة قد كُتبت على بني إسرائيل ، ثم جلس فضربت عنقه ، فقال جبل بن جوّال الثعلبي :
لعَمرُكَ مَا لامَ ابنُ أخْطَبَ نَفْسه... ولكنَّهُ مَنْ يَخْذُل الله يُخْذَلِ
لجَاهَدَ حتى أبْلغَ النَّفْسَ عُذْرَها... وقَلْقَلَ يَبغي العِزَّ كلَّ مُقَلْقَلِ (1)
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة ، قالت : والله إنها لعندي تحدّث معي وتضحك ظهرا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسوق ، إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة ؟ قالت : أنا والله. قالت : قلت : ويلك ما لك ؟ قالت : أقتل ؟ قلت : ولِمَ ؟ قالت : لحدث أحدثته ، قال :
__________
(1) البيتان لجبل بن جوال الثعلبي ، من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان ، وكان يهوديًّا فأسلم ، وكانت له صحبة (عن الروض الأنف للسهيلي ، والاستيعاب لابن عبد البر. وانظر سيرة بن هشام طبعة الحلبي : 3 : 252) ومعنى قلقل : أي تحرك. وقد قال البيتين عند مقتل حيي بن أخطب رأس بني قريظة.

(20/248)


فانطلق بها ، فضُربت عنقها ، فكانت عائشة تقول : ما أنسى عجبي منها ، طيب نفس ، وكثرة ضحك وقد عرفت أنها تُقتل.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني زيد بن رومان( وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ ) والصياصي : الحصون والآطام التي كانوا فيها(وَقَذَفَ في قُلُوبَهَمُ الرُّعْبَ).
حدثنا عمرو بن مالك البكري ، قال : ثنا وكيع بن الجرّاح ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة(مِنْ صيَاصِيهِمْ) قال : من حصونهم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد(مِنْ صيَاصِيهِمْ) يقول : أنزلهم من صياصيهم ، قال : قصورهم.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : (مِنْ صيَاصيهِمْ) : أي من حصونهم وآطامهم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ ) قال : الصياصي : حصونهم التي ظنوا أنها مانعتهم من الله تبارك وتعالى ، وأصل الصياصي : جمع صيصة ، يقال : وعنى بها هاهنا : حصونهم ، والعرب تقول لطرف الجبل : صيصة ، ويقال لأصل الشيء : صيصة ، يقال : جزّ الله صيصة فلان أي : أصله ، ويقال لشوك الحاكة : صياصي ، كما قال الشاعر :
كوَقْعِ الصَّياصِي فِي النَّسِيجِ المُمَدَّدِ (1)
وهي شوكتا الديك.
__________
(1) هذا عجز بيت لدريد بن الصمة ، وصدره * فجئت إليه والرماح تنوشه *
(لسان العرب : صيص) قال أبو عبيدة في (مجاز القرآن ، الورقة 194 - أ) عند قوله تعالى : (من صياصيهم) : أي من حصونهم وأصولهم. وهي أيضًا شوكة الحاكة ، قال : * كوقع الصياصي في النسيج الممدد *
وهي شوكتا الديك ، وهي قرن للبقرة أيضا. ا هـ. وفي (اللسان : صيص) : والصيصة : شوكة الحائك التي يسوى بها السداة واللحمة ، قال دريد بن الصمة : " فجئت إليه ... " البيت. ومنه : صيصة الديك التي في رجله وصياصي البقر : قرونها. وربما كانت تركب في الرماح مكان الأسنة. والصياصي : الحصون وكل شيء امتنع به وتحصن به فهو صيصية. ومنه قيل للحصون : الصياصي.

(20/249)


وقوله : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) يقول : وألقى في قلوبهم الخوف منكم(فَريقا تَقْتُلُونَ) يقول : تقتلون منهم جماعة ، وهم الذين قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حين ظهر عليهم(وَتَأسِرُونَ فَرِيقًا) يقول : وتأسرون منهم جماعة ، وهم نساؤهم وذراريهم الذين سبوا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(فَرِيقا تَقْتُلُون) الذين ضربت أعناقهم(وتَأْسِرُونَ فَرِيقًا) الذين سبوا.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان(فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وتَأْسِرُونَ فَرِيقًا) أي قتل الرجال وسبي الذراري والنساء( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) يقول : وملككم بعد مهلكهم أرضهم ، يعني مزارعهم ومغارسهم وديارهم ، يقول : ومساكنهم وأموالهم ، يعني سائر الأموال غير الأرض والدور.
وقوله : (وأرْضًا لَمْ تَطَئوها) اختلف أهل التأويل فيها ، أيّ أرض هي ؟ فقال بعضهم : هي الروم وفارس ونحوها من البلاد التي فتحها الله بعد ذلك على المسلمين.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوها) قال : قال الحسن : هي الروم وفارس ، وما فتح الله عليهم.
وقال آخرون : هي مكة.
وقال آخرون : بل هي خيبر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان(وَأَرْضًا لَمْ تَطَئوها) قال : خيبر.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ) قال : قُرَيظة والنضير أهل الكتاب(وَأَرْضًا لَمْ تَطَئوها) قال : خيبر.
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنه أورث المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض بني قريظة وديارهم وأموالهم ، وأرضا لم يطئوها يومئذ ولم تكن مكة ولا خَيبر ، ولا أرض فارس والروم ولا اليمن ، مما كان وطئوه

(20/250)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)

يومئذ ، ثم وطئوا ذلك بعد ، وأورثهموه الله ، وذلك كله داخل في قوله(وأرْضًا لَمْ تَطَئوها) لأنه تعالى ذكره لم يخصص من ذلك بعضا دون بعض.(وكانَ اللَّهُ على كُلّ شَيْء قَديرًا). يقول تعالى ذكره : وكان الله على أن أورث المؤمنين ذلك ، وعلى نصره إياهم ، وغير ذلك من الأمور ذا قدرة ، لا يتعذّر عليه شيء أراده ، ولا يمتنع عليه فعل شيء حاول فعله.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم(قُلْ) يا محمد ، (لأزْواجِكَ إنْ كُنْتنَّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ) يقول : فإني أمتعكن ما أوجب الله على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهنّ بالطلاق بقوله(وَمَتِّعُوهُنَّ على المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُحْسِنِينَ) وقوله(وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلا) يقول : وأطلقكنّ على ما أذن الله به ، وأدّب به عباده بقوله(إذَا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)(وَإنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) يقول : وإن كنتن تردن رضا الله ورضا رسوله وطاعتهما فأطعنهما.(فَإنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ) وهن العاملات منهنّ بأمر الله وأمر رسوله(أجْرًا عظِيما) .
وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من عرض الدنيا ، إما زيادة في النفقة ، أو غير ذلك ، فاعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا ، فيما ذكر ، ثم أمره الله أن يخيرهنّ بين الصبر عليه ، والرضا بما قسم لهنّ ، والعمل بطاعة الله ، وبين أن يمتِّعهنّ ويفارقهنّ إن لم يرضين بالذي يقسم لهن. وقيل : كان سبب ذلك غيرة كانت عائشة غارتها.
ذكر الرواية بقول من قال : كان ذلك من أجل شيء من النفقة وغيرها.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن أبي الزبير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج صلوات ، فقالوا : ما شأنه ؟ فقال عمر : إن شئتم لأعلمنّ لكم شأنه ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجعل يتكلم ويرفع صوته ، حتى أذن

(20/251)


له ، قال : فجعلت أقول في نفسي أيّ شيء أكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يضحك ، أو كلمة نحوها ، فقلت : يا رسول الله ، لو رأيت فلانة وسألتني النفقة فصككتها صكة ، فقال : ذلكَ حَبَسَنِي عَنكُمْ. قال : فأتى حفصة ، فقال : لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ما كانت لك من حاجة فإليّ ، ثم تتبع نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجعل يكلمهنّ ، فقال لعائشة : أيغرّك أنك امرأة حسناء ، وأن زوجك يحبك ؟ لتنتهينَّ ، أو لينزلنّ فيك القرآن ، قال : فقالت أمّ سلمة : يا ابن الخطَّاب ، أوَ ما بقي لك إلا أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نسائه ، ولن تسأل المرأة إلا لزوجها ؟ قال : ونزل القرآن(يا أيُّها النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إنْ كُنْتنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيا وَزِينَتَهَا ...) إلى قوله(أجْرًا عَظِيمًا) قال : فبدأ بعائشة فخيرها ، وقرأ عليها القرآن ، فقالت : هل بدأت بأحد من نسائك قبلي ؟ قال : " لا " . قالت : فإني أختار الله ورسوله ، والدار الآخرة ، ولا تخبرهنّ بذلك. قال : ثم تتبعهنّ. فجعل يخيرهنّ ويقرأ عليهنّ القرآن ، ويخبرهن بما صنعت عائشة ، فتتابعن على ذلك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ...) إلى قوله(أجْرًا عَظيمًا) قال : قال الحسن وقَتادة : خيرهنّ بين الدنيا والآخرة والجنة والنار ، في شيء كنّ أردنه من الدنيا ، وقال عكرمة : في غيرة كانت غارتها عائشة ، وكان تحته يومئذ تسع نسوة ، خمس من قُرَيش : عائشة ، وحفصة ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأمّ سلمة بنت أبي أميَّة ، وكانت تحته صفية ابنة حُييّ الخَيبرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجُوَيرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وبدأ بعائشة ، فلما اختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، رُئي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتابعن كلهنّ على ذلك ، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، وهو قول قتادة ، في قول الله(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ...) إلى قوله(عَظِيمًا) قالا أمره الله أن يخيرهنّ بين الدنيا والآخرة ، والجنة والنار. قال قتادة : وهي غيرة من عائشة في شيء أرادته من الدنيا ، وكان تحته تسع نسوة : عائشة ، وحفصة ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأمّ سلمة بنت أبي أميَّة ، وزينب بنت جحش ،

(20/252)


وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وجُوَيرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وصفية بنت حُييّ بن أخطب ، فبدأ بعائشة ، وكانت أحبهنّ إليه ، فلما اختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، رئي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتابعن على ذلك.
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، وهو قول قتادة قال : لما اخترن الله ورسوله شكرهنّ الله على ذلك فقال(لا يَحِلُّ لكَ النساءُ مِنْ بعدُ وَلا أنْ تَبَدَّلَ بهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) فقصره الله عليهنّ ، وهنّ التسع اللاتي اخترن الله ورسوله.
* ذكر من قال ذلك من أجل الغيرة :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ...) الآية ، قال : كان أزواجه قد تغايرن على النبي صلى الله عليه وسلم ، فهجرهنّ شهرا ، نزل التخيير من الله له فيهنّ(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) فقرأ حتى بلغ(وَلا تَبرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولى) فخيرهنّ بين أن يخترن أن يخلي سبيلهن ويسرّحهنّ ، وبين أن يقمن إن أردْن الله ورسوله على أنهنّ أمَّهات المؤمنين ، لا ينكحن أبدا ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهنّ ، لمن وهبت نفسه له ؛ حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ، ويرجي من يشاء حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ومن ابتغى ممن هي عنده وعزل ، فلا جناح عليه ، (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ) إذا علمن أنه من قضائي عليهن ، إيثار بعضهن على بعض ، (أَدْنَى أَنْ يَرْضَيْنَ) قال : (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ) من ابتغى أصابه ، ومن عزل لم يصبه ، فخيرهنّ ، بين أن يرضين بهذا ، أو يفارقهنّ ، فاخترن الله ورسوله ، إلا امرأة واحدة بدوية ذهبت ، وكان على ذلك وقد شرط له هذا الشرط ، ما زال يعدل بينهنّ حتى لقي الله.
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، قال : قالت عائشة : لما نزل الخيار ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّي أُريدُ أنْ أذْكُرَ لَكِ أمْرًا فَلا تَقْضِي فِيهِ شَيْئا حتى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ " . قالت : قلت : وما هو يا رسول الله ؟ قال : فردّه عليها. فقالت : ما هو يا رسول الله ؟ قال : فقرأ عليهنّ(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ...) إلى آخر الآية ، قالت : قلت : بل نختار الله ورسوله ، قالت : ففرح بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم.

(20/253)


يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا محمد بن بشر ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : لما نزلت آية التخيير ، بدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعائشة ، فقال : " يا عائشة ، إنّي عارضٌ عَلَيْكِ أمْرًا ، فَلا تَفْتَاتي فِيهِ بشَيء حتى تَعْرِضِيهِ على أبَوَيْكِ أبي بَكْرٍ وأُمّ رُومانَ " فقالت : يا رسول الله وما هو ؟ قال : " قال الله(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) إلى(عَظِيمًا) فقلت : إني أريد الله ورسوله ، والدار الآخرة ، ولا أؤامر في ذلك أبويّ أبا بكر وأمّ رومان ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استقرأ الحُجَرَ فقال : " إن عائشة قالت كذا " ، فقلن : ونحن نقول مثل ما قالت عائشة.
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : ثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لما نزل إلى نسائه أُمر أن يخيرهنّ ، فدخل عليّ فقال : " سأذكر لَكِ أمْرًا وَلا تَعْجَلِي حَتى تَسْتَشِيرِي أباك " . فقلت : وما هو يا نبيّ الله ؟ قال : " إنّي أُمِرْتُ أنْ أُخَيِّرَكُنَّ " . وتلا عليها آية التخيير ، إلى آخر الآيتين ، قالت : قلت : وما الذي تقول ؟ " لا تعجلي حتى تستشيري أباك ؟ " ، فإني أختار الله ورسوله ، فسُرَّ بذلك ، وعرض على نسائه ، فتتابعن كلهنّ ، فاخترن الله ورسوله.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني موسى بن عليّ ، ويونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأني ، فقال : " إنّي ذَاكِرٌ لَكِ أمْرًا ، فَلا عَلَيْكِ ألا تَعْجلِي حتى تَسْتأْمِرِي أبَوَيْكِ " قالت : قد علم أن أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه. قالت : ثمّ تلا هذه الآية(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَميلا) قالت : فقلت : ففي أيّ هذا استأمر أبويّ ؟ فإني أريد الله ورسوله ، والدار الآخرة. قالت عائشة : ثم فعل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت ، فلم يكن ذلك حين قاله لهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترنه طلاقا ؛ من أجل أنهنّ اخترنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) }

(20/254)


يقول تعالى ذكره لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم : (يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) يقول : من يزن منكنّ الزنا المعروف الذي أوجب الله عليه الحدّ ، (يُضَاعَفْ لهَا العَذَابُ) على فجورها في الآخرة(ضِعْفَيْنِ) على فجور أزواج الناس غيرهم.
كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس(يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ) قال : يعني عذاب الآخرة.
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار(يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ) بالألف ، غير أبي عمرو ، فإنه قرأ ذلك(يُضَعَّفْ) بتشديد العين تأوّلا منه في قراءته ذلك أن يضعَّف ، بمعنى : تضعيف الشيء مرّة واحدة ، وذلك أن يجعل الشيء شيئين ، فكأن معنى الكلام عنده : أن يجعل عذاب من يأتي من نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم بفاحشة مبينة في الدنيا والآخرة ، مثلي عذاب سائر النساء غيرهنّ ، ويقول : إنَّ(يُضَاعَفْ) بمعنى أنْ يجْعَل إلى الشيء مثلاه ، حتى يكون ثلاثة أمثاله فكأن معنى من قرأ(يُضَاعَفْ) عنده كان أن عذابها ثلاثة أمثال عذاب غيرها من النساء من غير أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلذلك اختار(يضعَّف) على(يضاعف) ، وأنكر الآخرون الذين قرءوا ذلك(يضاعف) ما كان يقول ذلك ، ويقولون : لا نعلم بين : (يُضَاعَفْ) و(يُضَعَّفْ) فرقا.
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار ، وذلك(يُضَاعَفْ) . وأما التأويل الذي ذهب إليه أبو عمرو ، فتأويل لا نعلم أحدا من أهل العلم ادّعاه غيره ، وغير أبي عُبيدة معمر بن المثنى ، ولا يجوز خلاف ما جاءت به الحجة مجمعة عليه بتأويل لا برهان له من الوجه الذي يجب التسليم له.
وقوله : (وكانَ ذَلكَ على اللَّهِ يَسِيرًا) يقول تعالى ذكره : وكانت مضاعفة العذاب على من فعل ذلك منهن(عَلَى الله يَسِيرًا) والله أعلم.

(20/255)


وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) }
يقول تعالى ذكره : ومن يطع الله ورسوله منكن ، وتعمل بما أمر الله

(20/255)


به ؛ (نُؤْتِهَا أجْرَهَا مَرَّتَينِ) يقول : يعطها الله ثواب عملها ، مثلي ثواب عمل غيرهن من سائر نساء الناس(وَأعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا) يقول : وأعتدنا لها في الآخرة عيشا هنيئا في الجنة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ...) الآية ، يعني (1) من تطع الله ورسوله(وَتَعْمَلْ صَالِحًا) ؛ تصوم وتصلي .
حدثني سلم بن جنادة ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ابن عون ، قال : سألت عامرا عن القنوت ، قال : وما هو ؟ قال : قلت(وَقُومُوا لله قَانِتِينَ) قال : مطيعين ، قال : قلت(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لله وَرَسُولِهِ) قال : يطعن.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي من يطع منكن لله ورسوله(وَأعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا) وهي الجنة.
واختلفت القراء في قراءة قوله(وَتَعْمَلْ صَالِحًا) فقرأ عامة قراء الحجاز والبصرة : (وَتَعْمَلْ) بالتاء ردا على تأويل من إذ جاء بعد قوله(مِنْكُنَّ) . وحكي بعضهم عن العرب أنها تقول : كم بيع لك جارية ؟ وأنهم إن قدموا الجارية قالوا : كم جارية بيعت لك ؟ فأنَّثوا الفعل بعد الجارية ، والفعل في الوجهين لكم لا للجارية. وذكر الفراء أن بعض العرب أنشده :
أيَا أُمَّ عَمْرٍو مَن يَكُن عُقْرُ دَارِهِ... جِوَاءَ عَدِيٍّ يِأْكُلُ الْحَشَراتِ
وَيَسْوَدُّ من لَفْحِ السَّمُومِ جَبِينُهُ... وَيَعْرُو إنْ كَانَ ذَوِي بَكَرَاتِ (2)
__________
(1) من هنا إلى آخر الحديث ساقط من الأصل ، وهو في الدر المنثور للسيوطي (5 : 196).
(2) البيتان : من الشواهد الفراء في (معاني القرآن مصورة الجامعة 256) قال : أنشدني بعض العرب. وعقر الدار : أصلها ، وقيل وسطها ، وهو محلة القوم. والجواء : الفرجة التي بين محلة القوم ووسط البيوت ؛ ويقال : نزلنا في جواء بني فلان ، وقد بين أبو جعفر الطبري موضع الشاهد في البيت ، ناقلا له عن الفراء ، ولم يذكر قائل البيتين.

(20/256)


يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)

فقال : وإن كانوا ولم يقل : وإن كان ، وهو لمن فرده على المعنى. وأما أهل الكوفة ، فقرأت ذلك عامة قرائها : (وَيَعْمَلْ) بالياء عطفا على يقنت ، إذ كان الجميع على قراءة الياء. والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان ، ولغتان معروفتان في كلام العرب ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وذلك أن العرب ترد خبر " من " أحيانا على لفظها ، فتوحد وتذكر ، وأحيانا على معناها كما قال جل ثناؤه(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أفَأنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ) فجمع مرة للمعنى ووحد أخرى للفظ.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) }
يقول تعالى ذكره لأزواج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) من نساء هذه الأمة(إنِ اتَّقَيْتُنَّ) الله فأطعتنه في ما أمركن ونهاكن.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) يعني من نساء هذه الأمة.
وقوله : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) يقول : فلا تلن بالقول للرجال فيما يبتغيه أهل الفاحشة منكن. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(20/257)


* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) يقول : لا ترخصن بالقول ، ولا تخضعن بالكلام.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله(فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) قال : خضع القول ما يكره من قول النساء للرجال مما يدخل في قلوب الرجال.
وقوله(فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) يقول : فيطمع الذي في قلبه ضعف ، فهو لضعف إيمانه في قلبه ؛ إما شاك في الإسلام منافق ، فهو لذلك من أمره يستخف بحدود الله ، وإما متهاون بإتيان الفواحش.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ؛ فقال بعضهم : إنما وصفه بأن في قلبه مرضا ، لأنه منافق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) قال : نفاق.
وقال آخرون : بل وصفه بذلك لأنهم يشتهون إتيان الفواحش.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) قال : قال عكرمة : شهوة الزنا.
وقوله : (وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا) يقول : وقلن قولا قد أذن الله لكم به وأباحه.
كما حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله(وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا) قال : قولا جميلا حسنا معروفا في الخير.

(20/258)


واختلفت القرّاء في قراءة قوله(وَقَرْنَ فِي بِيُوتِكُنَّ) فقرأته عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين : (وَقَرْنَ) بفتح القاف ، بمعنى : واقررن في بيوتكن ، وكأن من قرأ ذلك كذلك حذف الراء الأولى من اقررن ، وهي مفتوحة ، ثم نقلها إلى القاف ، كما قيل(فظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) وهو يريد : فظللتم ، فأسقطت اللام الأولى وهي مكسورة ، ثم نقلت كسرتها إلى الظاء. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة(وَقِرْنَ) بكسر القاف ، بمعنى : كن أهل وقار وسكينة(في بيوتكن) .
وهذه القراءة وهي الكسر في القاف أولى عندنا بالصواب لأن ذلك إن كان من الوقار على ما اخترنا ، فلا شك أن القراءة بكسر القاف ، لأنه يقال : وقر فلان في منزله ؛ فهو يقر وقورا ، فتكسر القاف في تفعل ، فإذا أمر منه قيل : قر كما يقال من وزن يزِن زِن ، ومن وعد : يعِد عِد ، وإن كان من القرار ، فإن الوجه أن يقال : اقررن ؛ لأن من قال من العرب : ظلت أفعل كذا ، وأحست بكذا ، فأسقط عين الفعل ، وحول حركتها إلى فائه في فعل وفعلنا وفعلتم ، لم يفعل ذلك في الأمر والنهي ، فلا يقول : ظل قائما ولا تظل قائما ، فليس الذي اعتل به من اعتل لصحة القراءة بفتح القاف في ذلك يقول العرب في ظللت وأحسست : ظلت وأحست ، بعلة توجب صحته لما وصفت من العلة ، وقد حكى بعضهم عن بعض الأعراب سماعا منه : ينحطن من الجبل ، وهو يريد : ينحططن ، فإن يكن ذلك صحيحا ، فهو أقرب إلى أن يكون حجة لأهل هذه القراءة من الحجة الأخرى.
وقوله : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلَيَّةِ الأولَى) قيل : إن التبرج في هذا الموضع : التبختر والتكسر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) : أي إذا خرجتن من بيوتكن ، قال : كانت لهن مشية وتكسر

(20/259)


وتغنج ، يعني بذلك : الجاهلية الأولى ، فنهاهن الله عن ذلك.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : سمعت ابن أَبي نجيح ، يقول في قوله(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) قال : التبختر. وقيل إن التبرج هو إظهار الزينة ، وإبراز المرأة محاسنها للرجال.
وأما قوله(تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) فإن أهل التأويل اختلفوا في الجاهلية الأولى ؛ فقال بعضهم : ذلك ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن زكريا ، عن عامر(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّة الأولَى) قال : الجاهلية الأولى : ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام.
وقال آخرون : ذلك ما بين آدم ونوح.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن أبيه ، عن الحكم(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) قال : وكان بين آدم ونوح ثمانمائة سنة ، فكان نساؤهم من أقبح ما يكون من النساء ، ورجالهم حسان ، فكانت المرأة تريد الرجل على نفسه ؛ فأنزلت هذه الآية(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) .
وقال آخرون : بل ذلك بين نوح وإدريس.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن زهير ، قال : ثنا موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا داود ، يعني ابن أَبي الفرات ، قال : ثنا علباء بن أحمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : تلا هذه الآية(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) قال : كان فيما بين نوح وإدريس ، وكانت ألف سنة ، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل ، والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحا ، وفي النساء دمامة ،

(20/260)


وكان نساء السهل صباحا ، وفي الرجال دمامة ، وإن إبليس أتى رجلا من أهل السهل في صورة غلام ، فأجر نفسه منه ، وكان يخدمه ، واتخذ إبليس شيئا مثل ذلك الذي يزمر فيه الرعاء ، فجاء فيه بصوت لم يسمع مثله ، فبلغ ذلك من حولهم ، فانتابوهم يسمعون إليه ، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة ، فتتبرج الرجال للنساء ، قال : ويتزين النساء للرجال ، وإن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم ذلك ، فرأى النساء ، فأتي أصحابه فأخبرهم بذلك ، فتحولوا إليهن ، فنزلوا معهن ، فظهرت الفاحشة فيهن ، فهو قول الله(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى نساء النبي أن يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم وعيسى ، فيكون معنى ذلك : ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى التي قبل الإسلام.
فإن قال قائل : أوفي الإسلام جاهلية حتى يقال عنى بقوله(الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) : التي قبل الإسلام ؟ قيل : فيه أخلاق من أخلاق الجاهلية.
كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) قال : يقول : التي كانت قبل الإسلام ، قال : وفي الإسلام جاهلية ؟ قال : قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لأبي الدرداء ، وقال لرجل وهو ينازعه : يا ابن فلانة : لأمٍّ كان يعيره بها في الجاهلية ، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " يَا أبَا الدَّرْدَاءِ إنَّ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ " ، قال : أجاهلية كفر أو إسلام ؟ قال : بل جاهلية كفر ، قال : فتمنيت أن لو كنت ابتدأت إسلامي يومئذ. قال : وقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " ثَلاثٌ مِنْ عَمَلِ أهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لا يَدَعُهُنَّ النَّاسُ : الطَّعْنُ بِالأنْسَابِ ، وَالاسْتِمْطَارُ بِالْكَوَاكِبِ ، وَالنِّيَاحَةُ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن ثور ، عن عبد الله بن عباس ؛ أن عمر بن الخطاب قال

(20/261)


له : أرأيت قول الله لأزواج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى) هل كانت إلا واحدة ؟ فقال ابن عباس : وهل كانت من أولى إلا ولها آخرة ؟ فقال عمر : لله درك يا ابن عباس ، كيف قلت ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، هل كانت من أولى إلا ولها آخرة ؟ قال : فأت بتصديق ما تقول من كتاب الله ، قالَ : نعم(وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ كَمَا جَاهَدْتُمْ أولَ مَرَّةٍ (1) ) قال عمر : فمن أمر بالجهاد ؟ قال : قبيلتان من قريش ؛ مخزوم وبنو عبد شمس ، فقال عمر : صدقت.
وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم ونوح. وجائز أن يكون ما بين إدريس ونوح ، فتكون الجاهلية الآخرة ، ما بين عيسى ومحمد ، وإذا كان ذلك مما يحتمله ظاهر التنزيل ، فالصواب أن يقال في ذلك كما قال الله : إنه نهى عن تبرج الجاهلية الأولى.
وقوله(وَأَقْمِنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ) يقول : وأقمن الصلاة المفروضة ، وآتين الزكاة الواجبة عليكن في أموالكن(وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمراكن ونهياكن(إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ) يقول : إنما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمد ، ويطهركم من الدنس الذي يكون في أهل معاصي الله تطهيرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) فهم أهل بيت طهرهم الله من السوء ، وخصهم برحمة منه ؟
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله
__________
(1) كذا في الأصل المخطوط رقم 100 تفسير المحفوظ بدار الكتب ، الورقة 57 ب. ولعلها قراءة لابن عباس .

(20/262)


( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) قال : الرجس هاهنا : الشيطان ، وسوى ذلك من الرجس : الشرك.
اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله(أَهْلَ الْبَيْتِ) فقال بعضهم : عُني به رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا بكر بن يحيى بن زبان العنزي ، قال : ثنا مندل ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أَبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : " نزلَت هَذِهِ الآيَةُ فِي خَمْسَةٍ : فِيَّ وَفِي عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ وَحَسَنٍ رَضِيَ الله عَنْهُ وَحُسَيْنٍ رَضِيَ الله عَنْهُ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ الله عَنِهَا : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) " .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا محمد بن بشر ، عن زكريا ، عن مصعب بن شيبة ، عن صفية بنت شيبة قالت : قالت عائشة : خرج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ذات غداة ، وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن ، فأدخله معه ثم قال : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا محمد بن بكر ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أنس أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر ، كلما خرج إلى الصلاة فيقول : " الصَّلاةَ أَهْلَ الْبَيْتِ(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطِهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) " .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا يحيى بن إبراهيم بن سويد النخعي ، عن هلال ، يعني ابن مقلاص ، عن زبيد ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة قالت : كان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عندي ، وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، فجعلت لهم خزيرة ، فأكلوا وناموا ، وغطى عليهم عباءة أو قطيفة ، ثم قال : " اللَّهُمَّ هَؤلاءِ أَهْلُ بَيْتِي ، أذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ

(20/263)


وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا " .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو نعيم ، قال : ثنا يونس بن أبي إسحاق ، قال : أخبرني أبو داود ، عن أَبي الحمراء ، قال : رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، قالَ : رأيت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا طلع الفجر ، جاء إلى باب علي وفاطمة ، فقال : " الصَّلاةَ الصَّلاةَ " (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرُا) " .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا الفضل بن دكين ، قال : ثنا يونس بن أبي إسحاق ، بإسناده عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مثله.
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا الفضل بن دكين ، قال : ثنا عبد السلام بن حرب ، عن كلثوم المحاربي ، عن أَبي عمار ، قال : إني لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا عليًّا رضي الله عنه ، فشتموه ، فلما قاموا قال : اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموا ؛ إني عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إذ جاءه علي وفاطمة وحسن وحسين ، فألقى عليهم كساء له ، ثم قال : " اللَّهُمَّ هَؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتِي ، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا " . قلت : يا رسول الله ، وأنا ؟ قال : " وَأَنْتَ " . قال : فوالله إنها لأوثق عملي عندي .
حدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، قال : ثنا أبو عمرو ، قال : ثني شداد أبو عمار قال : سمعت واثلة بن الأسقع يحدث ، قال : سألت عن علي بن أبي طالب في منزله ، فقالت فاطمة : قد ذهب يأتي برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إذ جاء ، فدخل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ودخلت ، فجلس رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على الفراش وأجلس فاطمة عن يمينه وعليا عن يساره وحسنا وحسينا بين يديه ، فلفع عليهم بثوبه وقال : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) اللَّهُمَّ هَؤُلاءِ أَهْلِي ، اللَّهُمَّ أَهْلِي أَحَقُّ " . قال واثلة : فقلت من ناحية البيت : وأنا يا رسول الله من أهلك ؟ قال : " وَأَنْتَ مِنْ أَهْلِي " . قال واثلة : إنها لمن أرجى

(20/264)


ما أرتجي.
حدثني أَبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أَبي سعيد الخدري ، عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية : (إِنَّمَا يَرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) دعا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عليا وفاطمة وحسنًا وحسينًا ، فجلل عليهم كساء خيبريا ، فقال : " اللَّهُمَّ هَؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتِي ، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا " . قالت أم سلمة : ألست منهم ؟ قال : " أَنْتِ إلَى خَيْرٍ " .
حدثنا أَبو كريب ، قال : ثنا مصعب بن المقدام ، قال : ثنا سعيد بن زربي ، عن محمد بن سيرين ، عن أَبي هريرة ، عن أم سلمة قالت : جاءت فاطمة إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة تحلها على طبق ، فوضعته بين يديه ، فقال : " أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ وَابْنَاك ؟ " فقالت : في البيت ، فقال : " ادْعِيهِمْ " . فجاءت إلى علي فقالت : أجب النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنت وابناك ، قالت أم سلمة : فلما رآهم مقبلين مد يده إلى كساء كان على المنامة فمده وبسطه وأجلسهم عليه ، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله فضمه فوق رءوسهم وأومأ بيده اليمنى إلى ربه ، فقال : " هَؤُلاءِ أَهْلُ الْبَيْتِ ، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا " .
حدثنا أَبو كريب ، قال : ثنا حسن بن عطية ، قال : ثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، عن أم سلمة ؛ زوج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن هذه الآية نزلت في بيتها(إِنَّمَا يَرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) قالت : وأنا جالسة على باب البيت ، فقلت : أنا يا رسول الله ألست من أهل البيت ؟ قال : " إِنَّكِ إلَى خَيْرٍ ، أَنْتِ مِنْ أَزْوَاجِ النِّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم " . قالت : وفي البيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم .

(20/265)


حدثنا أَبو كريب ، قال : ثنا خالد بن مخلد ، قال : ثنا موسى بن يعقوب ، قال : ثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن عبد الله بن وهب بن زمعة ، قال : أخبرني أم سلمة أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جمع عليا والحسنين ، ثم أدخلهم تحت ثوبه ، ثم جأر إلى الله ، ثم قال : " هَؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتِي " . فقالت أم سلمة : يا رسول الله أدخلني معهم. قال : " إِنَّكِ مِنْ أَهْلِي " .
حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : ثنا عبد الرحمن بن صالح ، قال : ثنا محمد بن سليمان الأصبهاني ، عن يحيى بن عبيد المكي ، عن عطاء ، عن عمر بن أبي سلمة ، قال : نزلت هذه الآية على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وهو في بيت أم سلمة(إِنَّمَا يَرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) فدعا حسنا وحسينا وفاطمة فأجلسهم بين يديه ، ودعا عليا فأجلسه خلفه ، فتجلل هو وهم بالكساء ثم قال : " هَؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتِي ، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا " . قالت أم سلمة : أنا معهم مكانك ، وأنت على خير (1) .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا إسماعيل بن أبان ، قال : ثنا الصباح بن يحيى المري ، عن السدي ، عن أَبي الديلم ، قال : قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام : أما قرأت في الأحزاب(إِنَّمَا يَرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) قال : ولأنتم هم ؟ قال : نعم.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو بكر الحنفي ، قال : ثنا بكير بن مسمار ، قال : سمعت عامر بن سعد ، قال : قال سعد : قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين نزل عليه الوحي ، فأخذ عليا وابنيه وفاطمة ، وأدخلهم تحت ثوبه ، ثم قالَ : " رَبِّ هَؤُلاءِ أَهْلِي وَأَهْلُ بَيْتِي " .
__________
(1) العبارة : " أنا معهم مكانك وأنت على خير " : كلها من كلام أم سلمة ، وهي نظير قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لها في الروايات التي قبل هذه : " إنك إلى خير ، أنت من أزواج النبي ... " إلخ (انظر الجزء التاسع عشر من المخطوطة رقم : 100 تفسير بدار الكتب ، الورقة 60).

(20/266)


وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن حكيم بن سعد ، قال : ذكرنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند أم سلمة قالت : فيه نزلت : (إِنَّمَا يَرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). قالت أم سلمة : جاء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى بيتي فقال : " لا تَأْذَنِي لأحَدٍ " . فجاءت فاطمة ، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها ، ثم جاء الحسن ، فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه ، وجاء الحسين ، فلم أستطع أن أحجبه ، فاجتمعوا حول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على بساط ، فجللهم نبي الله بكساء كان عليه ، ثم قال : " هَؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتِي ، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا " ؛ فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط ، قالت : فقلت : يا رسول الله وأنا ؟ قالت : فوالله ما أنعم وقال : " إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ " .
وقال آخرون : بل عنى بذلك أزواج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الأصبغ ، عن علقمة ، قال : كان عكرمة ينادي في السوق(إِنَّمَا يَرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) قال : نزلت في نساء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خاصة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) }
يقول تعالى ذكره لأزواج نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : واذكرن نعمة الله عليكن ؛ بأن جعلكن في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة ، فاشكرن الله على ذلك ، واحمدنه عليه ، وعني بقوله(وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بِيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) : واذكرن ما يقرأ في بيوتكن من آيات كتاب الله والحكمة ، ويعني

(20/267)


إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)

بالحكمة : ما أوحي إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من أحكام دين الله ، ولم ينزل به قرآن ، وذلك السنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بِيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) : أي : السنة ، قال : يمتن عليهم بذلك.
وقوله(إن اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) يقول تعالى ذكره : إن الله كان ذا لطف بكن ؛ إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته والحكمة ، خبيرا بكن إذ اختاركن لرسوله أزواجا.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) }
يقول تعالى ذكره : إن المتذللين لله بالطاعة والمتذللات ، والمصدقين والمصدقات رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيما أتاهم به من عند الله ، والقانتين والقانتات لله ، والمطيعين لله والمطيعات له فيما أمرهم ونهاهم ، والصادقين لله فيما عاهدوه عليه والصادقات فيه ، والصابرين لله في البأساء والضراء على الثبات على دينه وحين البأس والصابرات ، والخاشعة قلوبهم لله وجلا منه ومن عقابه

(20/268)


والخاشعات ، والمتصدقين والمتصدقات وهم المؤدون حقوق الله من أموالهم والمؤديات ، والصائمين شهر رمضان الذي فرض الله صومه عليهم والصائمات ذلك ، والحافظين فروجهم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم والحافظات ذلك إلا على أزواجهن إن كن حرائر أو من ملكهن إن كن إماء ، والذاكرين الله بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم والذاكرات ، كذلك أعد الله لهم مغفرة لذنوبهم ، وأجرًا عظيمًا : يعني ثوابًا في الآخرة على ذلك من أعمالهم عظيمًا ، وذلك الجنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : دخل نساء على نساء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فقلن : قد ذكركن الله في القرآن ، ولم نذكر بشيء ، أما فينا ما يذكر ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى(إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ) : أي : المطيعين والمطيعات ، (وَالخَاشِعِينَ وَالخَاشِعَاتِ) أي : الخائفين والخائفات(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً) لذنوبهم(وَأَجْرًا عَظِيمًا) في الجنة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله(وَأَجْرًا عَظِيمًا) قال : الجنة ، وفي قوله(وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ) قال : المطيعين والمطيعات.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء ، عن عامر قال : القانتات : المطيعات.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مؤمل ، قال : سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله يذكر الرجال ولا نُذكر ؛ فنزلت(إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ).
حدثنا أَبو كريب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن محمد بن عمرو ، عن أَبي سلمة ، أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه أن أم سلمة قالت : قلت :

(20/269)


يا رسول الله أيذكر الرجال في كل شيء ولا نذكر ؟ فأنزل الله(إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ .....) الآية.
حدثنا أَبو كريب ، قال : ثنا سيار بن مظاهر العنزي ، قال : ثنا أَبو كدينة يحيى بن مهلب ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قال نساء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ماله يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات ؟ فأنزل الله(إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ ....) الآية.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ) قال : قالت أم سلمة زوج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ما للنساء لا يذكرن مع الرجال في الصلاح ؟ فأنزل الله هذه الآية.
حدثني محمد بن المعمر ، قال : ثنا أَبو هشام ، قال : ثنا عبد الواحد ، قال : ثنا عثمان بن حكيم ، قال : ثنا عبد الرحمن بن شيبة ، قال : سمعت أم سلمة زوج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تقول : قلت للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : يا رسول الله ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال ؟ قالت : فلم يرعني ذات يوم ظهرًا إلا نداؤه على المنبر وأنا أسرح رأسي ، فلففت شعري ثم خرجت إلى حجرة من حجرهن ، فجعلت سمعي عند الجريد ، فإذا هو يقول على المنبر : يا أيها الناس إن الله يقول في كتابه : (إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ....) إلى قوله(أَعَدَّ الله لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).

(20/270)


وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا (36) }

(20/270)


يقول تعالى ذكره : لم يكن لمؤمن بالله ورسوله ، ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم ، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فيعصوهما ، ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا(فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا) يقول : فقد جار عن قصد السبيل ، وسلك غير سبيل الهدي والرشاد.
وذكر أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على فتاه زيد بن حارثة ، فامتنعت من إنكاحه نفسها.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أمْرًا ....) إلى آخر الآية ، وذلك أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم انطلق يخطب على فتاه زيد بن حارثة ، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها ، فقالت : لست بناكحته ، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : فانكحيه ، فقالت : يا رسول الله أؤمر في نفسي ، فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ....) إلى قوله(ضَلالا مُبِينًا) قالت : قد رضيته لي يا رسول الله مَنكحًا ؟ قال : " نعم " قالت : إذن لا أعصي رسول الله ، قد أنكحته نفسي.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(أنْ تَكُونَ لَهُمُ الخِيرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ) قال : زينب بنت جحش وكراهتها نكاح زيد بن حارثة حين أمرها به رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ) قال : نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش ، وكانت بنت عمة رسول الله

(20/271)


وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)

صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فخطبها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فرضيت ورأت أنه يخطبها على نفسه ، فلما علمت أنه يخطبها على زيد بن حارثة أبت وأنكرت ، فأنزل الله(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أمْرًا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ) قال : فتابعته بعد ذلك ورضيت.
حدثني أَبو عبيد الوصافي ، قال : ثنا محمد بن حمير ، قال : ثنا ابن لهيعة ، عن ابن أَبي عمرة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خطب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة ، فاستنكفت منه وقالت : أنا خير منه حسبا وكانت امرأة فيها حدة ؛ فأنزل الله(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أمْرًا ....) الآية كلها.
وقيل : نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وذلك أنها وهبت نفسها لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فزوجها زيد بن حارثة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أمْرًا ....) إلى آخر الآية ، قال : نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وكانت من أول من هاجر من النساء ، فوهبت نفسها للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فزوجها زيد بن حارثة ، فسخطت هي وأخوها ، وقالا إنما أردنا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فزوجنا عبده. قال : فنزل القرآن(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أمْرًا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ ....) إلى آخر الآية. قال : وجاء أمر أجمع من هذا(النَّبِيُّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ) قال : فذاك خاص ، وهذا إجماع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا

(20/272)


لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا (37) }
يقول تعالى ذكره لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عتابا من الله له(و) اذكر يا محمد(إذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) بالهداية(وَأنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالعتق ، يعني زيد بن حارثة مولى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم(أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) وذلك أن زينب بنت جحش فيما ذكر رآها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأعجبته ، وهي في حبال مولاه ، فألقِي في نفس زيد كراهتها لما علم الله مما وقع في نفس نبيه ما وقع ، فأراد فراقها ، فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم زيد ، فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : (أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) وهو صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يحب أن تكون قد بانت منه لينكحها(وَاتَّقِ اللَّهَ) وخف الله في الواجب له عليك في زوجتك( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ) يقول : وتخفي في نفسك محبة فراقه إياها لتتزوجها إن هو فارقها ، والله مبد ما تخفي في نفسك من ذلك( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) يقول تعالى ذكره : وتخاف أن يقول الناس : أمر رجلا بطلاق امرأته ونكحها حين طلقها ، والله أحق أن تخشاه من الناس.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ) وهو زيد أنعم الله عليه بالإسلام(وَأنْعَمْتَ عَلَيْهِ) أعتقه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : (أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) قال : وكان يخفي في نفسه ودَّ أنه طلقها. قال الحسن : ما أنزلت عليه آية كانت أشد عليه منها ؛ قوله(وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) ولو كان نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كاتما شيئا من الوحي لكتمها( وَتَخْشَى

(20/273)


النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) قال : خشِي نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مقالة الناس.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قد زوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش ، ابنة عمته ، فخرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يومًا يريده وعلى الباب ستر من شعر ، فرفعت الريح الستر فانكشف ، وهي في حجرتها حاسرة ، فوقع إعجابها في قلب النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فلما وقع ذلك كرِّهت إلى الآخر ، فجاء فقال : يا رسول الله إني أريد أن أفارق صاحبتي ، قال : ما ذاك ، أرابك منها شيء ؟ " قال : لا والله ما رابني منها شيء يا رسول الله ، ولا رأيت إلا خيرًا ، فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : أمسك عليك زوجك واتق الله ، فذلك قول الله تعالى( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ) تخفي في نفسك إن فارقها تزوجتها.
حدثني محمد بن موسى الجرشي ، قال : ثنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أَبي حمزة قال : نزلت هذه الآية( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ) في زينب بنت جحش.
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : ثنا سفيان بن عيينة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن علي بن حسين قال : كان الله تبارك وتعالى أعلم نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن زينب ستكون من أزواجه ، فلما أتاه زيد يشكوها ، قال : اتق الله وأمسك عليك زوجك ، قال الله : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ) .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن عائشة ، قالت : لو كتم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله لكتم( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) .

(20/274)


وقوله : ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ) يقول تعالى ذكره : فلما قضى زيد بن حارثة من زينب حاجته ، وهي الوطر ، ومنه قول الشاعر :
وَدَّعَني قَبْلَ أن أُوَدِّعَهُ... لمَّا قَضَى مِنْ شَبابِنا وَطَرَا (1)
(زَوَّجْنَاكَهَا) يقول : زوجناك زينب بعد ما طلقها زيد وبانت منه ؛ ( لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ) يعني : في نكاح نساء من تبنوا وليسوا ببنيهم ولا أولادهم على صحة إذا هم طلقوهن وبِنَّ منهم( إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ) يقول : إذا قضوا منهن حاجاتهم وآرابهم ، وفارقوهن وحللن لغيرهم ، ولم يكن ذلك نزولا منهم لهم عنهن( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ) يقول : وكان ما قضى الله من قضاء مفعولا أي : كائنا كان لا محالة. وإنما يعني بذلك أن قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان ماضيا مفعولا كائنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ) يقول : إذا طلقوهن ، وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تبني زيد بن حارثة.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا ....) إلى قوله(وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا) إذا كان ذلك منه غير نازل لك ، فذلك قول الله(وَحَلائِلُ أبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ).
حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، قال : ثنا جعفر بن عون ، عن المعلى بن
__________
(1) في (اللسان : وطر). قال الزجاج : الوطر والأرب : بمعنى واحد. ثم قال : قال الخليل : الوطر كل حاجة يكون لك فيها همة فإذا بلغها البالغ قيل : قضى وطره وأربه. ولا يبني منه فعل. ومحل الشاهد في البيت : لفظة الوطر بمعنى الحاجة.

(20/275)


مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)

عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جحش. قال : تفاخرت عائشة وزينب ، قال : فقالت زينب : أنا الذي نزل تزويجي .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، قال : كانت زينب زوج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تقول للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن ؛ إن جدي وجدك واحد ، وإني أنكحنيك الله من السماء ، وإن السفير لجبرائيل عليه السلام.
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) }
يقول تعالى ذكره : ما كان على النبي من حرج : من إثم فيما أحل الله له من نكاح امرأة من تبناه بعد فراقه إياها.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ) : أي أحل الله له.
وقوله : ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) يقول : لم يكن الله تعالى ليؤثم نبيه فيما أحل له مثال فعله بمن قبله من الرسل الذين مضوا قبله في أنه لم يؤثمهم بما أحل لهم ، لم يكن لنبيه أن يخشى الناس فيما أمره به أو أحله له ، ونصب قوله(سُنَّةَ اللَّهِ) على معنى : حقًّا من الله ، كأنه قال : فعلنا ذلك سنة منا.
وقوله : (وَكَانَ أمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) يقول : وكان أمر الله قضاء مقضيًّا.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله(وَكَانَ أمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) : إن الله كان علمه معه قبل أن يخلق الأشياء كلها ، فأتمه في علمه أن يخلق خلقا ، ويأمرهم وينهاهم ،

(20/276)


الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)

ويجعل ثوابا لأهل طاعته ، وعقابا لأهل معصيته ، فلما ائتمر ذلك الأمر قدره ، فلما قدره كتب وغاب عليه ؛ فسماه الغيب وأم الكتاب ، وخلق الخلق على ذلك الكتاب أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم ، وما يصيبهم من الأشياء من الرخاء والشدة من الكتاب الذي كتبه أنه يصيبهم ، وقرأ( أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا ) نَفِدَ ذَلِكَ(جَاءَتْهُمْ رُسُلَنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) وأمر الله الذي ائتمر قدره حين قدره مقدرا ، فلا يكون إلا ما في ذلك ، وما في ذلك الكتاب ، وفي ذلك التقدير ، ائتمر أمرا ثم قدره ، ثم خلق عليه فقال : كان أمر الله الذي مضى وفرغ منه ، وخلق عليه الخلق(قَدَرًا مَقْدُورًا) شاء أمرا ليمضي به أمره وقدره ، وشاء أمرا يرضاه من عباده في طاعته ، فلما أن كان الذي شاء من طاعته لعباده رضيه لهم ، ولما أن كان الذي شاء أراد أن ينفذ فيه أمره وتدبيره وقدره ، وقرأ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ ) فشاء أن يكون هؤلاء من أهل النار ، وشاء أن تكون أعمالهم أعمال أهل النار ، فقال( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) وقال( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ) هذه أعمال أهل النار( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ) قال( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ ...) إلى قوله( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) وقرأ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ...) إلى( كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) أن يؤمنوا بذلك ، قال : فأخرجوه من اسمه الذي تسمى به ، قال : هو الفعال لما يريد ، فزعموا أنه ما أراد .
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) }
يقول تعالى ذكره : سنة الله في الذين خلوا من قبل محمد من الرسل ، الذي يبلغون رسالات الله إلى من أرسلوا إليه ، ويخافون الله في تركهم تبليغ ذلك إياهم ، ولا يخافون أحدا إلا الله ، فإنهم إياه يرهبون إن هم قصروا عن

(20/277)


مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)

تبليغهم رسالة الله إلى من أرسلوا إليه. يقول لنبيه محمد : فمن أولئك الرسل الذين هذه صفتهم فكن ، ولا تخش أحدًا إلا الله ، فإن الله يمنعك من جميع خلقه ، ولا يمنعك أحد من خلقه منه ، إن أراد بك سوءًا ، والذين من قوله( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ ) خُفض ردًّا على الذين التي في قوله( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا ) . وقوله( وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) يقول تعالى ذكره : وكفاك يا محمد بالله حافظا لأعمال خلقه ، ومحاسبا لهم عليها .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) }
يقول تعالى ذكره : ما كان أيها الناس محمد أبا زيد بن حارثة ، ولا أبا أحد من رجالكم (1) الذين لم يلده محمد ؛ فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها ، ولكنه رسول الله وخاتم النبيين ، الذي ختم النبوة فطبع عليها ، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة ، وكان الله بكل شيء من أعمالكم ومقالكم وغير ذلك ذا علم لا يخفى عليه شيء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ) قال : نزلت في زيد ، إنه لم يكن بابنه ، ولعمري ولقد ولد له ذكور ؛ إنه لأبو القاسم وإبراهيم والطيب والمطهر( وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) أي : آخرهم( وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ).
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا علي بن قادم ، قال : ثنا سفيان ، عن
__________
(1) لعله : أي لم يلده ... إلخ.

(20/278)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)

نسير بن ذعلوق ، عن علي بن الحسين في قوله( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ) قال : نزلت في زيد بن حارثة ، والنصب في رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بمعنى تكرير كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، والرفع بمعنى الاستئناف ؛ ولكن هو رسول الله ، والقراءة النصب عندنا.
واختلفت القراء في قراءة قوله(وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) فقرأ ذلك قراء الأمصار سوى الحسن وعاصم بكسر التاء من خاتم النبيين ، بمعنى : أنه ختم النبيين. ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله(وَلَكِنَّ نَبِيًّا خَتَمَ النَّبيِّينَ) فذلك دليل على صحة قراءة من قرأه بكسر التاء ، بمعنى : أنه الذي ختم الأنبياء صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعليهم ، وقرأ ذلك فيما يذكر الحسن وعاصم(خَاتَمَ النَّبِيِّينَ) بفتح التاء ، بمعنى : أنه آخر النبيين ، كما قرأ(مَخْتُومٌ خَاتَمَهُ مِسْكٌ) بمعنى : آخره مسك من قرأ ذلك كذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) }

(20/279)


تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)

القول في تأويل قوله تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) }
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله اذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ذكرًا كثيرًا ، فلا تخلو أبدانكم من ذكره في حال من أحوال طاقتكم ذلك( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) يقول : صلوا له غدوة صلاة الصبح ، وعشيًّا صلاة العصر. وقوله( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ) يقول تعالى ذكره : ربكم الذي تذكرونه الذكر الكثير وتسبحونه بكرة وأصيلا إذا أنتم فعلتم ذلك ، الذي يرحمكم ، ويثني عليكم هو ويدعو لكم ملائكته . وقيل : إن معنى قوله( يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ) : يشيع عنكم الذكر الجميل في عباد الله. وقوله( لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) يقول : تدعو ملائكة الله

(20/279)


لكم ؛ فيخرجكم الله من الضلالة إلى الهدى ، ومن الكفر إلى الإيمان.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أَبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله( اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ) يقول : لا يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلوما ، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر ، فإن الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله ، قال( فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ) بالليل والنهار في البر والبحر ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسر والعلانية ، وعلى كل حال. وقال : ( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) فإذا فعلتم ذلك ؛ صلى عليكم هو وملائكته ، قال الله عز وجل : ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ) .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) صلاة الغداة ، وصلاة العصر.
وقوله( لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) أي : من الضلالات إلى الهدى.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) قال : من الضلالة إلى الهدى ، قال : والضلالة الظلمات والنور : الهدى.
وقوله( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) يقول تعالى ذكره : وكان بالمؤمنين به ورسوله ذا رحمة أن يعذبهم وهم له مطيعون ، ولأمره متبعون( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ) يقول جل ثناؤه : تحية هؤلاء المؤمنين يوم القيامة في الجنة سلام ، يقول بعضهم لبعض : أمنة لنا ولكم بدخولنا هذا المدخل من الله أن يعذبنا بالنار أبدا.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : قوله

(20/280)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)

( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ) قال : تحية أهل الجنة السلام.
وقوله : ( وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ) يقول : وأعد لهؤلاء المؤمنين ثوابا لهم على طاعتهم إياه في الدنيا ، كريما ، وذلك هو الجنة.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ) أي : الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا (47) وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (48) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : يا محمد( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ) على أمتك بإبلاغك إياهم ما أرسلناك به من الرسالة ، ومبشرهم بالجنة إن صدقوك وعملوا بما جئتهم به من عند ربك ، (وَنَذِيرًا) من النار أن يدخلوها ، فيعذبوا بها إن هم كذبوك ، وخالفوا ما جئتهم به من عند الله.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ) على أمتك بالبلاغ(وَمُبَشِّرًا) بالجنة(وَنَذِيرًا) بالنار.
وقوله : ( وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ ) يقول : وداعيا إلى توحيد الله ، وإفراد الألوهة له ، وإخلاص الطاعة لوجهه دون كل من سواه من الآلهة والأوثان.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ ) إلى شهادة أن لا إله إلا الله.

(20/281)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)

وقوله(بِإِذْنِهِ) يقول : بأمره إياك بذلك(وَسِرَاجًا مُنِيرًا) يقول : وضياء لخلقه يستضيء بالنور الذي أتيتهم به من عند الله عباده(مُنِيرًا) يقول : ضياء ينير لمن استضاء بضوئه ، وعمل بما أمره ، وإنما يعني بذلك : أنه يهدي به من اتبعه من أمته. وقوله( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا ) يقول تعالى ذكره : وبشر أهل الإيمان بالله يا محمد بأن لهم من الله فضلا كبيرا : يقول : بأن لهم من ثواب الله على طاعتهم إياه تضعيفا كثيرا ، وذلك هو الفضل الكبير من الله لهم ، وقوله( وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ) يقول : ولا تطع لقول كافر ولا منافق ؛ فتسمع منه دعاءه إياك إلى التقصير في تبليغ رسالات الله إلى من أرسلك بها إليه من خلقه(وَدَعْ أذَاهُمْ) يقول : وأعرض عن أذاهم لك ، واصبر عليه ، ولا يمنعك ذلك عن القيام بأمر الله في عباده ، والنفوذ لما كلفك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(وَدَعْ أذَاهُمْ) قال : أعرض عنهم.
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَدَعْ أذَاهُمْ) أي : اصبر على أذاهم.
وقوله(وَتَوَّكْل عَلَى اللَّهِ) يقول : وفوض إلى الله أمورك ، وثق به ؛ فإنه كافيك جميع من دونه ، حتى يأتيك بأمره وقضاؤه( وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ) يقول : وحسبك بالله قيما بأمورك ، وحافظا لك وكالئا.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا (49) }

(20/282)


يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله( إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ) يعني : من قبل أن تجامعوهن( فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ) يعني من إحصاء أقراء ، ولا أشهر تحصونها عليهن ؛ (فَمَتِّعُوهُنَّ) يقول : أعطوهن ما يستمتعن به من عرض أو عين مال. وقوله( وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ) يقول : وخلوا سبيلهن تخلية بالمعروف ، وهو التسريح الجميل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ) فهذا في الرجل يتزوج المرأة ، ثم يطلقها من قبل أن يمسها ، فإذا طلقها واحدة بانت منه ، ولا عدة عليها تتزوج من شاءت ، ثم قرأ( فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ) يقول : إن كان سمى لها صداقا ، فليس لها إلا النصف ، فإن لم يكن سمى لها صداقا ، متعها على قدر عسره ويسره ، وهو السراح الجميل.
وقال بعضهم : المتعة في هذا الموضع منسوخة بقوله( فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ).
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ...) إلى قوله(سَرَاحًا جَمِيلا) قال : قال سعيد بن المسيب : ثم نسخ هذا الحرف المتعة( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ) .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ،

(20/283)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)

قال : سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب ، قال : نسخت هذه الآية( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ) قال : نسخت هذه الآية التي في البقرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) يعني : اللاتي تزوجتهن بصداق مسمى.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله( أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) قال : صدقاتهن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) قال : كان كل امرأة آتاها مهرا فقد أحلها الله له.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ...) إلى قوله(خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) فما كان من هذه

(20/284)


التسمية ما شاء كثيرا أو قليلا.
وقوله( أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ) يقول : وأحللنا لك إماءك اللواتي سبيتهن ، فملكتهن بالسباء ، وصرن لك بفتح الله عليك من الفيء( وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ) فأحل الله له صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ، المهاجرات معه منهن دون من لم يهاجر منهن معه.
كما حدثنا أَبو كريب ، قال : ثنا عبد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أَبي صالح ، عن أم هانئ ، قالت : خطبني النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فاعتذرت له بعذري ، ثم أنزل الله عليه( إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ...) إلى قوله( اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ) قالت : فلم أُحل له ؛ لم أهاجر معه ، كنت من الطلقاء.
وقد ذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود(وَبَنَاتِ خَالاتِكَ وَالَّلاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ) بواو ، وذلك وإن كان كذلك في قراءته محتمل أن يكون بمعنى قراءتنا بغير الواو ، وذلك أن العرب تدخل الواو في نعت من تقدم ذكره أحيانا ، كما قال الشاعر :
فإنَّ رُشَيدًا وَابْنَ مَرَوَانَ لَم يَكُنْ... لِيَفْعَلَ حَتَّى يَصْدُرَ الأمْرُ مَصْدَرًا (1)
ورشيد هو ابن مروان ، وكان الضحاك بن مزاحم يتأول قراءة عبد الله هذه أنهن نوع غير بنات خالاته وأنهن كل مهاجرة هاجرت مع النبي صَلَّى الله
__________
(1) البيت من شواهد الفراء : (معاني القرآن ، مصورة الجامعة ص 257) قال عند قوله تعالى : (وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك) ، وفي قراءة عبد الله ، يعني ابن مسعود : (وبنات خالك وبنات خالاتك واللاتي هاجرن معك) فقد تكون المهاجرات هن بنات الخال والخالة وإن كانت فيه الواو ، فقال : واللاتي ، والعرب تنعت بالواو وبغير الواو ، كما قال الشاعر : (فإن رشيدا وابن مروان ... إلخ ). وأنت تقول في الكلام : إن زرت أخًا لك وابن عمك القريب لك ؛ وإن قلت : والقريب لك. كان صوابا. وقد نقله المؤلف عن الفراء. وأوضحه بقوله في البيت : ورشيد هو ابن مروان.

(20/285)


عَلَيْهِ وَسَلَّم .
ذكر الخبر عنه بذلك :
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في حرف ابن مسعود(وَالَّلاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ) يعني بذلك : كل شيء هاجر معه ليس من بنات العم والعمة ، ولا من بنات الخال والخالة.
وقوله( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ) يقول : وأحللنا له امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي بغير صداق.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ) بغير صداق ، فلم يكن يفعل ذلك وأحل له خاصة من دون المؤمنين.
وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله(وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ) بغير إن ، ومعنى ذلك ومعنى قراءتنا وفيها إن واحد ، وذلك كقول القائل في الكلام : لا بأس أن يطأ جارية مملوكة إن ملكها ، وجارية مملوكة ملكها.
وقوله( إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا ) يقول : إن أراد أن ينكحها فحلال له أن ينحكها وإذا وهبت نفسها له بغير مهر(خَالِصَةً لَكَ) يقول : لا يحل لأحد من أمتك أن يقرب امرأة وهبت نفسها له ، وإنما ذلك لك يا محمد خالصة أخلصت لك من دون سائر أمتك.
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول : ليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل بغير أمر ولي ولا مهر ، إلا للنبي ، كانت له خالصة من دون الناس ويزعمون أنها نزلت في ميمونة بنت الحارث أنها التي وهبت نفسها للنبي.
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله

(20/286)


( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ...) إلى قوله( خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) قال : كان كل امرأة آتاها مهرا فقد أحلها الله له إلى أن وهب هؤلاء أنفسهن له ، فأحللن له دون المؤمنين بغير مهر خالصة لك من دون المؤمنين إلا امرأة لها زوج.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن صالح بن مسلم ، قال : سألت الشعبي عن امرأة وهبت نفسها لرجل ، قال : لا يكون لا تحل له ، إنما كانت للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار(إِنْ وَهَبَتْ) بكسر الألف على وجه الجزاء ، بمعنى : إن تهب . وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ : (أَنْ وَهَبَتْ) بفتح الألف ، بمعنى : وأحللنا له امرأة مؤمنة أن ينكحها ؛ لهبتها له نفسها.
والقراءة التي لا أستجيز خلافها في كسر الألف لإجماع الحجة من القراء عليه.
وأما قوله( خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) ليس ذلك للمؤمنين ، وذكر أن لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قبل أن تنزل عليه هذه الآية أن يتزوج أي النساء شاء ، فقصره الله على هؤلاء ، فلم يعدهن ، وقصر سائر أمته على مثنى وثلاث ورباع.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود بن أبي هند ، عن محمد بن أَبي موسى ، عن زياد رجل من الأنصار ، عن أُبَي بن كعب ، أن التي أحل الله للنبي من النساء هؤلاء اللاتي ذكر الله( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ...) إلى قوله(فِي أَزْوَاجِهِمْ) وإنما أحل الله للمؤمنين مثنى وثلاث ورباع.

(20/287)


وحدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أَبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ...) إلى آخر الآية ، قال : حرم الله عليه ما سوى ذلك من النساء ، وكان قبل ذلك ينكح في أي النساء شاء ، لم يحرم ذلك عليه ، فكان نساؤه يجدن من ذلك وجدا شديدا أن ينكح في أي الناس أحب ؛ فلما أنزل الله : إني قد حرمت عليك من الناس سوى ما قصصت عليك أعجب ذلك نساءه.
واختلف أهل العلم في التي وهبت نفسها لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من المؤمنات ، وهل كانت عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم امرأة كذلك ؟ فقال بعضهم : لم يكن عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، فأما بالهبة فلم يكن عنده منهن أحد .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يونس بن بكير ، عن عنبسة بن الأزهر ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال لم يكن عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم امرأة وهبت نفسها.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ) قال : أن تهب. وأما الذين قالوا : قد كان عنده منهن فإن بعضهم قال : كانت ميمونة بنت الحارث. وقال بعضهم : هي أم شريك . وقال بعضهم : زينب بنت خزيمة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، قال : ( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ) قال : هي ميمونة بنت الحارث.

(20/288)


وقال بعضهم : زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثني الحكم ، قال : كتب عبد الملك إلى أهل المدينة يسألهم ، قال : فكتب إليه علي ، قال شعبة : وهو ظني علي بن حسين ، قال : وقد أخبرني به أبان بن تغلب ، عن الحكم ، أنه علي بن الحسين الذي كتب إليه ، قال : هي امرأة من الأسد يقال لها أم شريك ، وهبت نفسها للنبي.
قال : ثنا شعبة ، قال : ثني عبد الله بن أبي السفر ، عن الشعبي ، أنها امرأة من الأنصار ، وهبت نفسها للنبي ، وهي ممن أرجأ.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم ، كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .
قال : ثني سعيد بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : كنا نتحدث أن أم شريك كانت وهبت نفسها للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وكانت امرأة صالحة.
وقوله : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ ) يقول تعالى ذكره : قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم إذا أرادوا نكاحهن مما لم نفرضه عليك ، وما خصصناهم به من الحكم في ذلك دونك وهو أنا فرضنا عليهم أنه لا يحل لهم عقد نكاح على حرة مسلمة إلا بولي عصبة وشهود عدول ، ولا يحل لهم منهن أكثر من أربع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه ، قال : ثنا مطهر ، قال : ثنا علي بن الحسين ، قال : ثني أبي ، عن مطر ، عن قتادة في قول الله( قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا

(20/289)


عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ ) قال : إن مما فرض الله عليهم أن لا نكاح إلا بولي وشاهدين.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أَبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد( قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ ) قال : في الأربع.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ ) قال : كان مما فرض الله عليهم أن لا تزوج امرأة إلا بولي وصداق عند شاهدي عدل ، ولا يحل لهم من النساء إلا أربع وما ملكت أيمانهم.
وقوله : ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) يقول تعالى ذكره : قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم ، لأنه لا يحل لهم منهن أكثر من أربع ، وما ملكت أيمانهم ، فإن جميعهن إذا كن مؤمنات أو كتابيات ، لهم حلال بالسباء والتسري وغير ذلك من أسباب الملك.
وقوله( لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) يقول تعالى ذكره : إنا أحللنا لك يا محمد أزواجك اللواتي ذكرنا في هذه الآية ، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ، إن أراد النبي أن يستنكحها ؛ لكيلا يكون عليك إثم وضيق في نكاح من نكحت من هؤلاء الأصناف التي أبحت لك نكاحهن من المسميات في هذه الآية ، وكان الله غفورا لك ولأهل الإيمان بك ، رحيمًا بك وبهم أن يعاقبهم على سالف ذنب منهم سلف بعد توبتهم منه.

(20/290)


تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)

القول في تأويل قوله تعالى : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) }

(20/290)


اختلف أهل التأويل في تأويل قوله( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) فقال بعضهم : عنى بقوله : ترجي : تؤخِّر ، وبقوله : تُؤْوي : تضمَّ.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أَبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله(تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) يقول : تؤخر.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله(تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) قال : تعزل بغير طلاق من أزواجك من تشاء(وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) قال : تردها إليك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) قال : فجعله الله في حل من ذلك أن يدع من يشاء منهن ، ويأتي من يشاء منهن بغير قسم ، وكان نبي الله يقسم.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، قال : ثنا عمرو ، عن منصور ، عن أَبي رزين( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) قال : لما أشفقن أن يطلقهن ، قلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ، فكان ممن أرجأ منهن سودة بنت زمعة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة ، وكان ممن آوى إليه عائشة وأم سلمة وحفصة وزينب.
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) فما شاء صنع في القسمة بين النساء ، أحل الله له ذلك.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن أَبي رزين في قوله( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) وكان ممن آوى إليه عليه الصلاة والسلام : عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة ؛ فكان قسمه من نفسه لهن سوى

(20/291)


قسمه. وكان ممن أرجى : سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة ؛ فكان يقسم لهن ما شاء ، وكان أراد أن يفارقهن ، فقلن له : اقسم لنا من نفسك ما شئت ، ودعنا نكون على حالنا.
وقال آخرون : معنى ذلك : تطلق وتخلي سبيل من شئت من نسائك ، وتمسك من شئت منهن فلا تطلق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ ) أمهات المؤمنين( وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) يعني : نساء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ويعني بالإرجاء : يقول : من شئت خليت سبيله منهن. ويعني بالإيواء : يقول : من أحببت أمسكت منهن.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تترك نكاح من شئت ، وتنكح من شئت من نساء أمتك .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن في قوله( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) قال : كان نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أن يخطبها حتى يتزوجها أو يتركها. وقيل : إن ذلك إنما جعل الله لنبيه حين غار بعضهن على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وطلب بعضهن من النفقة زيادة على الذي كان يعطيها ، فأمره الله أن يخيرهن بين الدار الدنيا والآخرة ، وأن يخلي سبيل من اختار الحياة الدنيا وزينتها ، ويمسك من اختار الله ورسوله. فلما اخترن الله ورسوله قيل لهن : اقررن الآن على الرضا بالله وبرسوله ؛ قسم لكن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أو لم يقسم ، أو قسم لبعضكن ولم يقسم لبعضكن ، وفضل بعضكن

(20/292)


على بعض في النفقة أو لم يفضل ، سوى بينكن أو لم يسو ، فإن الأمر في ذلك إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ليس لكم من ذلك شيء ، وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيما ذكر مع ما جعل الله له من ذلك يسوي بينهن في القسم ، إلا امرأة منهن أراد طلاقها فرضيت بترك القسم لها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أَبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن أَبي رزين قال : لما أراد النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يطلق أزواجه ، قلن له : افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت ، فأمره الله فآوى أربعا ، وأرجي خمسًا.
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : ثنا عبيدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل حتى أنزل الله( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) فقلت : إن ربك ليسارع في هواك.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا محمد بن بشر ؛ يعني العبدي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها كانت تعير النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقالت : أما تستحي امرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ، فنزلت ، أو فأنزل الله( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ ) فقلت : إني لأرى ربك يسارع لك في هواك.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ...) الآية. قال : كان أزواجه قد تغايرن على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فهجرهن شهرًا ، ثم نزل التخيير من الله له فيهن ، فقرأ حتى بلغ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى ) فخيرهن

(20/293)


بين أن يخترن أن يخلي سبيلهن ويسرحهن ، وبين أن يقمن إن أردن الله ورسوله على أنهن أمهات المؤمنين ، لا ينكحن أبدًا ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ممن وهبت نفسها له ، حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ، ويرجي من يشاء حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ، ومن ابتغى ممن هي عنده وعزل فلا جناح عليه ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين إذا علمن أنه من قضائي عليهن إيثار بعضهن على بعض(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ) يرضين ، قال(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ) من ابتغى أصابه ، ومن عزل لم يصبه ، فخيرهن بين أن يرضين بهذا ، أو يفارقهن ، فاخترن الله ورسوله ، إلا امرأة واحدة بدوية ذهبت ، وكان على ذلك صلوات الله عليه ، وقد شرط الله له هذا الشرط ، ما زال يعدل بينهن حتى لقي الله.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره جعل لنبيه أن يرجي من النساء اللواتي أحلهن له من يشاء ، ويؤوي إليه منهن من يشاء ، وذلك أنه لم يحصر معنى الإرجاء والإيواء على المنكوحات اللواتي كن في حباله عندما نزلت هذه الآية دون غيرهن ممن يستحدث إيواؤها أو إرجاؤها منهن.
إذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : تؤخر من تشاء ممن وهبت نفسها لك ، وأحللت لك نكاحها ، فلا تقبلها ولا تنكحها ، أو ممن هن في حبالك ؛ فلا تقربها. وتضم إليك من تشاء ممن وهبت نفسها لك أو أردت من النساء اللاتي أحللت لك نكاحهن ؛ فتقبلها أو تنكحها ، وممن هي في حبالك ؛ فتجامعها إذا شئت وتتركها إذا شئت بغير قسم.
وقوله( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ؛ فقال بعضهم : معنى ذلك ومن نكحت من نسائك فجامعت ممن لم تنكح ، فعزلته عن الجماع ، فلا جناح عليك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ) قال : جميعا هذه في نسائه ؛ إن شاء أتى من

(20/294)


شاء منهن ، ولا جناح عليه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ ) قال : ومن ابتغى أصابه ، ومن عزل لم يصبه.
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن استبدلت ممن أرجيت ، فخليت سبيله من نسائك ، أو ممن مات منهن ممن أحللت لك فلا جناح عليك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ) يعني بذلك : النساء اللاتي أحل الله له من بنات العم والعمة والخال والخالة( اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ) يقول : إن مات من نسائك اللاتي عندك أحد ، أو خليت سبيله ، فقد أحللت لك أن تستبدل من اللاتي أحللت لك مكان من مات من نسائك اللاتي هن عندك ، أو خليت سبيله منهن ، ولا يصلح لك أن تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك شيئًا.
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك : تأويل من قال : معنى ذلك : ومن ابتغيت إصابته من نسائك(مِمَّنْ عَزَلَتْ) عن ذلك منهن( فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ) لدلالة قوله( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ) على صحة ذلك ، لأنه لا معنى لأن تقر أعينهن إذا هو صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم استبدل بالميتة أو المطلقة منهن ، إلا أن يعني بذلك : ذلك أدنى أن تقر أعين المنكوحة منهن ، وذلك مما يدل عليه ظاهر التنزيل بعيد.
وقوله( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ ) يقول : هذا الذي جعلت لك يا محمد من إذني لك أن ترجي من تشاء من النساء اللواتي جعلت لك إرجاءهن ، وتؤوي من تشاء منهن ، ووضعي عنك الحرج في ابتغائك إصابة من

(20/295)


ابتغيت إصابته من نسائك ، وعزلك عن ذلك من عزلت منهن ، أقرب لنسائك أن تقر أعينهن به ولا يحزنَّ ، ويرضين بما آتيتهن كلهن من تفضيل من فضلت من قسم ، أو نفقة وإيثار من آثرت منهم بذلك على غيره من نسائك ، إذا هن علمن أنه من رضاي منك بذلك ، وإذني لك به ، وإطلاق مني لا من قبلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ) إذا علمن أن هذا جاء من الله لرخصة ، كان أطيب لأنفسهن ، وأقل لحزنهن.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ذلك ، نحوه.
والصواب من القراءة في قوله(بِمَا آتيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) الرفع غير جائز غيره عندنا ، وذلك أن كلهن ليس بنعت للهاء في قوله(آتيْتَهُنَّ) ، وإنما معنى الكلام : ويرضين كلهن ، فإنما هو توكيد لما في يرضين من ذكر النساء ، وإذا جعل توكيدًا للهاء التي في آتيتهن لم يكن له معنى ، والقراءة بنصبه غير جائزة لذلك ، ولإجماع الحجة من القراء على تخطئة قارئه كذلك.
وقوله( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ) يقول : والله يعلم ما في قلوب الرجال من ميلها إلى بعض من عنده من النساء دون بعض بالهوى والمحبة ، يقول : فلذلك وضع عنك الحرج يا محمد فيما وضع عنك من ابتغاء من ابتغيت منهن ، ممن عزلت تفضلا منه عليك بذلك وتكرمة(وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا) يقول : وكان الله ذا علم بأعمال عباده ، وغير ذلك من الأشياء كلها(حَلِيمًا) يقول : ذا حلم على عباده ، أن يعاجل أهل الذنوب منهم بالعقوبة ، ولكنه ذو حلم وأناة عنهم ليتوب من تاب منهم ، وينيب من ذنوبه من أناب منهم.

(20/296)


لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)

القول في تأويل قوله تعالى : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) فقال بعضهم : معنى ذلك : لا يحل لك النساء من بعد نسائك اللاتي خيرتهن ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله(لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ...) الآية إلى(رَقِيبًا) قال : نهي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يتزوج بعد نسائه الأول شيئًا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله(لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ...) إلى قوله(إلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ) قال : لما خيرهن فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة قصره عليهن ؛ فقال : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ) وهن التسع التي اخترن الله ورسوله.
وقال آخرون : إنما معنى ذلك : لا يحل لك النساء بعد التي أحللنا لك بقولنا(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ...) إلى قوله( اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا ) وكأن قائلي هذه المقالة وجهوا الكلام إلى أن معناه : لا يحل لك من النساء إلا التي أحللناها لك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن

(20/297)


محمد بن أبي موسى ، عن زياد ، قال لأبي بن كعب : هل كان للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لو مات أزواجه أن يتزوج ؟ قال : ما كان يحرم عليه ذلك ، فقرأت عليه هذه الآية( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ) قال : فقال : أحل له ضربًا من النساء ، وحرم عليه ما سواهن ، أحل له كل امرأة آتى أجرها ، وما ملكت يمينه مما أفاء الله عليه ، وبنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته ، وكل امرأة وهبت نفسها له إن أراد أن يستنكحها خالصة له من دون المؤمنين.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، عن زياد الأنصاري ، قال : قلت لأبي بن كعب : أرأيت لو مات نساء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أكان يحل له أن يتزوج ؟ قال : وما يحرم ذلك عليه ؟ قال : قلت قوله : ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) قال : إنما أحل الله له ضربًا من النساء.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن داود بن أبي هند ، قال : ثني محمد بن أبي موسى ، عن زياد ، رجل من الأنصار ، قال : قلت لأبي بن كعب : أرأيت لو أن أزواج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم توفين ، أما كان له أن يتزوج ؟ فقال : وما يمنعه من ذلك ؟ وربما قال داود : وما يحرم عليه ذلك ؟ قلت : قوله(لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) فقال : إنما أحل الله له ضربًا من النساء ، فقال : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ...) إلى قوله( إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ) ثم قيل له( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عمن ذكره ، عن أَبي صالح( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) قال : أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا غريبة ، ويتزوج بعد من نساء تهامة ، ومن شاء من بنات العم والعمة والخال والخالة إن شاء ثلاث مئة .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) هؤلاء التي سمى الله إلا(بَنَاتِ عَمِّكَ ...)

(20/298)


الآية.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) يعني من بعد التسمية ، يقول : لا يحل لك امرأة إلا ابنة عم أو ابنة عمة أو ابنة خال أو ابنة خالة أو امرأة وهبت نفسها لك ، من كان منهن هاجر مع نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. وفي حرف ابن مسعود : (والَّلاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ) يعني بذلك : كل شيء هاجر معه ليس من بنات العم والعمة ، ولا من بنات الخال والخالة.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يحل لك النساء من غير المسلمات ، فأما اليهوديات والنصرانيات والمشركات فحرام عليك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد قوله( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) لا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة.
وأولى الأقوال عندي بالصحة قول من قال : معنى ذلكَ : لا يحل لك النساء من بعد بعد اللواتي أحللتهن لك بقولي( إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ...) إلى قوله( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ) .
وإنما قلت ذلك أولى بتأويل الآية ؛ لأن قوله( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ ) عقيب قوله( إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ) وغير جائز أن يقول : قد أحللت لك هؤلاء ولا يحللن لك إلا بنسخ أحدهما صاحبه ، وعلى أن يكون وقت فرض إحدى الآيتين ، فعل الأخرى منهما. فإذ كان ذلك كذلك ولا دلالة ولا برهان على نسخ حكم إحدى الآيتين حكم الأخرى ، ولا تقدم تنزيل إحداهما قبل صاحبتها ، وكان غير مستحيل مخرجهما على الصحة ، لم يجز أن يقال : إحداهما ناسخة الأخرى. وإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن لقول من قال : معنى ذلك : لا يحل

(20/299)


من بعد المسلمات يهودية ولا نصرانية ولا كافرة ، معنى مفهوم ، إذ كان قوله(مِنْ بَعْدُ) إنما معناه : من بعد المسميات المتقدم ذكرهن في الآية قبل هذه الآية ، ولم يكن في الآية المتقدم فيها ذكر المسميات بالتحليل لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ذكر إباحة المسلمات كلهن ، بل كان فيها ذكر أزواجه وملك يمينه الذي يفيء الله عليه ، وبنات عمه وبنات عماته ، وبنات خاله وبنات خالاته اللاتي هاجرن معه ، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ، فتكون الكوافر مخصوصات بالتحريم ، صح ما قلنا في ذلك ، دون قول من خالف قولنا فيه.
واختلفت القراء في قراءة قوله( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والكوفة(يَحِلُّ) بالياء ، بمعنى : لا يحل لك شيء من النساء بعد. وقرأ ذلك بعض قراء أهل البصرة(لا تَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ) بالتاء توجيها منه إلى أنه فعل للنساء ، والنساء جمع للكثير منهن.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأه بالياء للعلة التي ذكرت لهم ، ولإجماع الحجة من القراء على القراءة بها ، وشذوذ من خالفهم في ذلك.
وقوله( ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ؛ فقال بعضهم : معنى ذلك : لا يحل لك النساء من بعد المسلمات ، لا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة ، ولا أن تبدل بالمسلمات غيرهن من الكوافر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد( وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ) ولا أن تبدل بالمسلمات غيرهن من النصارى واليهود والمشركين( وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن أَبي رزين في قوله

(20/300)


( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) قال : لا يحل لك أن تتزوج من المشركات إلا من سبيت فملكته يمينك منهن.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا أن تبدل بأزواجك اللواتي هن في حبالك أزواجًا غيرهن ؛ بأن تطلقهن وتنكح غيرهن.
* ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ) يقول : لا يصلح لك أن تطلق شيئًا من أزواجك ليس يعجبك ، فلم يكن يصلح ذلك له.
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا أن تبادل من أزواجك غيرك ؛ بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ) قال : كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم ؛ يعطي هذا امرأته هذا ويأخذ امرأته ؛ فقال( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت أن تبادل ، فأما الحرائر فلا قال : وكان ذلك من أعمالهم في الجاهلية.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ولا أن تطلق أزواجك فتستبدل بهن غيرهن أزواجًا.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لما قد بيننا قبل من أن قول الذي قال معنى

(20/301)


قوله( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) لا يحل لك اليهودية أو النصرانية والكافرة ، قول لا وجه له.
فإذ كان ذلك كذلك فكذلك قوله( وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ ) كافرة لا معنى له ، إذ كان من المسلمات من قد حرم عليه بقوله( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) الذي دللنا عليه قبل. وأما الذي قاله ابن زيد في ذلك أيضًا فقول لا معنى له ، لأنه لو كان بمعنى المبادلة لكانت القراءة والتنزيل : ولا أن تبادل بهن من أزواج ، أو ولا أن تُبدل بهن بضم التاء ، ولكن القراءة المجمع عليها : ولا أن تَبدل بهن بفتح التاء ، بمعنى : ولا أن تستبدل بهن ، مع أن الذي ذكر ابن زيد من فعل الجاهلية غير معروف في أمة نعلمه من الأمم : أن يبادل الرجل آخر بامرأته الحرة ، فيقال : كان ذلك من فعلهم فنهى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن فعل مثله.
فإن قال قائل : أفلم يكن لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يتزوج امرأة على نسائه اللواتي كن عنده ، فيكون موجهًا تأويل قوله( وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ) إلى ما تأولت ، أو قال : وأين ذكر أزواجه اللواتي كن عنده في هذا الموضع ، فتكون الهاء من قوله( وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ ) من ذكرهن وتوهم أن الهاء في ذلك عائدة على النساء ، في قوله( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) ؟ قيل : قد كان لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يتزوج من شاء من النساء اللواتي كان الله أحلهن له على نسائه اللاتي كن عنده يوم نزلت هذه الآية ، وإنما نهي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بهذه الآية أن يفارق من كان عنده بطلاق أراد به استبدال غيرها بها ، لإعجاب حسن المستبدلة له بها إياه إذ كان الله قد جعلهن أمهات المؤمنين وخيرهن بين الحياة الدنيا والدار الآخرة ، والرضا بالله ورسوله ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، فحرمن على غيره بذلك ، ومنع من فراقهن بطلاق ، فأما نكاح غيرهن فلم يمنع منه ، بل أحل الله له ذلك على ما بين في كتابه. وقد روي عن عائشة أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يقبض حتى أحل الله له نساء أهل الأرض.

(20/302)


حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : ما مات رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى أحل له النساء ، تعني : أهل الأرض .
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : ثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : ما مات رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى أحل له النساء.
حدثنا العباس بن أبي طالب ، قال : ثنا معلى ، قال : ثنا وهيب ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير الليثي ، عن عائشة قالت : ما توفي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما شاء.
حدثني أَبو زيد عمر بن شبة ، قال : ثنا أَبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : أحسب عبيد بن عمير حدثني ، قال أَبو زيد وقال أَبو عاصم مرة ، عن عائشة قالت : ما مات رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى أحل الله له النساء . قال : وقال أَبو الزبير : شهدت رجلا يحدثه عطاء.
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : ثنا موسى بن إسماعيل قال : ثنا همام ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة قالت : ما مات رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حتى حل له النساء.
فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت من أن الله حرم على نبيه بهذه الآية طلاق نسائه اللواتي خيرهن فاخترنه ، فما وجه الخبر الذي روي عنه أنه طلق حفصة ثم راجعها ، وأنه أراد طلاق سودة حتى صالحته على ترك طلاقه إياها ، ووهبت يومها لعائشة ؟ قيل : كان ذلك قبل نزول هذه الآية.
والدليل على صحة ما قلنا من أن ذلك كان قبل تحريم الله على نبيه طلاقهن ، الرواية الواردة أن عمر دخل على حفصة معاقبها حين اعتزل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نساءه ، كان من قيله لها : قد كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم طلقك ، فكلمته فراجعك ، فوالله لئن طلقك ، أو لو كان طلقك

(20/303)


لا كلمته فيك. وذلك لا شك قبل نزول آية التخيير ، لأن آية التخيير إنما نزلت حين انقضى وقت يمين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على اعتزالهن.
وأما أمر الدلالة على أن أمر سودة كان قبل نزول هذه الآية ، أن الله إنما أمر نبيه بتخيير نسائه بين فراقه والمقام معه على الرضا بأنْ لا قَسْم لهن ، وأنه يرجي من يشاء منهن ، ويؤوي منهن من يشاء ، ويؤثر من شاء منهن على من شاء ، ولذلك قال له تعالى ذكره( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ) ومن المحال أن يكون الصلح بينها وبين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جرى على تركها يومها لعائشة في حال لا يوم لها منه.
وغير جائز أن يكون كان ذلك منها إلا في حال كان لها منه يوم هو لها حق كان واجبًا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أداؤه إليها ، ولم يكن ذلك لهن بعد التخيير لما قد وصفت قبل فيما مضى من كتابنا هذا.
فتأويل الكلام : لا يحل لك يا محمد النساء من بعد اللواتي أحللتهن لك في الآية قبل ، ولا أن تطلق نساءك اللواتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، فتبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسن من أردت أن تبدل به منهن ، إلا ما ملكت يمينك. وأن في قوله(أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ) رفع ، لأن معناها : لا يحل لك النساء من بعد ، ولا الاستبدال بأزواجك ، وإلا في قوله : (إلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ) استثناء من النساء. ومعنى ذلك : لا يحل لك النساء من بعد اللواتي أحللتهن لك إلا ما ملكت يمينك من الإماء ، فإن لك أن تملك من أى أجناس الناس شئت من الإماء.
وقوله(وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) يقول : وكان الله على كل شيء ؛ ما أحل لك ، وحرم عليك ، وغير ذلك من الأشياء كلها ، حفيظًا لا يعزب عنه علم شيء من ذلك ، ولا يئوده حفظ ذلك كله.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(وَكَانَ اللَّهُ

(20/304)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) : أي حفيظًا في قول الحسن وقتادة.
القول في تأويل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) }
يقول تعالى ذكره لأصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت نبي الله إلا أن تدعوا إلى طعام تطعمونه(غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) يعني : غير منتظرين إدراكه وبلوغه ، وهو مصدر من قولهم : قد أنى هذا الشيء يأني إنى وأنيا وإناء ، قال الحطيئة :
وآنيتُ العَشاءَ إلَى سُهَيلٍ... أوِ الشِّعْرَى فطال بيَ الأنَاءُ (1)
وفيه لغة أخرى يقال : قد آن لك ، أي : تبين لك أينا ونال لك ، وأنال لك ، ومنه قول رؤبة بن العجاج :
__________
(1) البيت للحطيئة (اللسان : أني). وآنيت الشيء : أخرته ، والاسم منه الأناء على فعال بالفتح. يريد أنه آخر عشاءه إلى طلوع سهيل أو طلوع الشعري ، فطال انتظاره. قال : ورواه أبو سعيد (الأصمعي) : وأنيت ، بتشديد النون. ويقال : أنيت الطعام في النار : إذا أطلعت مكثه. وأنى الشيء يأني أنيا وإني وأني : حان وأدرك. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة ص 1197) (إلى طعام غير ناظرين إناه) : أي إدراكه وبلوغه. ويقال : أنى لك يأني أنيا : أي بلغ وأدرك. تمخط المنون له بيوم ... أني ولكل حاملة تمام
.

(20/305)


هاجَتْ وَمِثْلِي نَوْلُهُ أن يَرْبَعا... حمامةٌ ناختْ حَمَامًا سُجَّعًا (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله(إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) قال : متحيِّنين نضجه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس(غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) يقول : غير ناظرين الطعام أن يصنع.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة(غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) قال : غير متحينين طعامه.
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله. ونصب(غير) في قوله(غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) على الحال من الكاف والميم في قوله(إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) لأن الكاف والميم معرفة وغير نكرة ، وهي من صفة الكاف والميم. وكان بعض نحويِّي البصرة يقول : لا يجوز في(غَيْرَ) الجر على الطعام ، إلا أن تقول : أنتم ، ويقول : ألا ترى أنك لو قلت : أبدى لعبد الله عليَّ امرأة مبغضًا لها ، لم يكن فيه إلا النصب ، إلا أن تقول : مبغض لها هو ، لأنك إذا أجريت صفته عليها ، ولم تظهر الضمير الذي يدل على أن الصفة
__________
(1) البيتان : من مشطور الرجز ، لرؤبة الراجز المشهور (ديوانه - طبعة ليبسج - سنة 1903 ص 87). وفي (اللسان : نول) : أما نول فتقول : نولك أن تفعل كذا : أي ينبغي لك فعل كذا. وفي الصحاح : أي حقك أن تفعل كذا. وأصله من التناول ، كأنه يقول : تناولك كذا وكذا. قال العجاج : (هاجت ... إلخ) : أي حقه أن يكف. وقيل : الرجز لرؤبة. وأصل النول مصدر ناله بالخير ينوله نوالا ، ونولا ، ونيلا. ويقال : أناله بخير إنالة.

(20/306)


له لم يكن كلامًا ، لو قلت هذا رجل مع امرأة مُلازِمِها ، كان لحنًا حتى ترفع فتقول : ملازمُها ، أو تقول : ملازِمَها هو فتجر.
وكان بعض نحويي الكوفة يقول : لو جعلت(غَيْرَ) في قوله(غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) خفضًا كان صوابًا ، لأن قبلها الطعام وهو نكرة ، فيجعل فعلهم تابعًا للطعام ، لرجوع ذكر الطعام في إناه ، كما تقول العرب : رأيت زيدًا مع امرأةٍ محسنًا إليها ومحسنٍ إليها ؛ فمن قال محسنًا جعله من صفة زيد ، ومن خفضه فكأنه قال : رأيته مع التي يحسن إليها ، فإذا صارت الصلة للنكرة أتبعتها وإن كانت فعلا لغير النكرة ، كما قال الأعشى :
فقُلتُ لهُ هذهِ هاتِها... إلينا بأدْمَاءَ مُقْتَادِها (1)
فجعل المقتاد تابعًا لإعراب(بِأدْمَاء) ، لأنه بمنزلة قولك : بأدماء تقتادها ، فخفضه لأنه صلة لها ، قال : وينشد : بأدماءِ مقتادِها ، بخفض الأدماء
__________
(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبع القاهرة ص 69) ورواية البيت فيه : فَقُلنَا لَهُ هَذِهِ هاتِها ... بأَدْماءَ فِي حَبْلِ مُقْتادِها
وهي غير رواية المؤلف التي استشهد بها. وليس في رواية الديوان شاهد للمؤلف. والشاعر يمدح بالقصيدة سلامة ذافانش من أقيال اليمن. وفي مقدمة القصيدة أبيات في الغزل والخمر ، ومنها هذا البيت. وقوله " هذه " : إشارة إلى الخمر التي جاء بها الساقي يؤامر الشاعر في شربها ويساومه في ثمنها وقد رضي الشاعر بأن يشتري الخمر التي وصف ، على أن يكون ثمنها ناقته الأدماء التي يقودها خادمه بحبلها ، والأدمة في الإبل : البياض مع سواد المقلتين (اللسان). هذا تفسير البيت على رواية الديوان. فأما على رواية المؤلف ، فإنه جعل إعراب (مقتادها) بالجر إتباعا لأدماء ، لأنها نكرة ، وإن كان الاقتياد لخادمه المفهوم من المقام ، فهي صفة جارية على غير صاحبها ، ولم يصرح بضمير النعت إذا كان لغير المنعوت فلا بد أن يقال : مقتادها أنت أي صاحب الخمر. أو يقول : مقتادها هو : أي يقتادها الخادم. فأما إذا كان المنعوت معرفة كما في قوله تعالى : (إلا أن يؤذون لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) فيجوز في (غير) النصب على الحال من الضمير في لكم ، ويجوز الجر عند الكوفيين بالإتباع على النعت ، وإن لم يبرز معه الضمير. وقد أوضح المؤلف المقام توضيحا كاملا ، لا يحتاج معه إلى مزيد من القول.

(20/307)


لإضافتها إلى المقتاد ، قال : ومعناه : هاتها على يدي من اقتادها. وأنشد أيضًا :
وإنِ امرَءًا أهْدَى إلَيكِ وَدُونُهَ... منَ الأرضِ موْمَاةٌ وَبَيْدَاءُ فَيْهَقُ
لَمَحْقُوقَةٌ أن تَستجيبي لِصوتِهِ... وأن تعْلَمِي أنَّ المُعَانَ مُوَفَّقُ (1)
وحكي عن بعض العرب سماعًا ينشد :
أرأيت إذْ أَعطَيتكِ الودَّ كلَّه... ولم يكُ عندي إن أبيتِ إباءُ
أمُسلِمتي للموت أنت فميِّتٌ... وهل للنفوس المسلماتِ بقاءُ (2)
ولم يقل : فميت أنا ، وقال الكسائي : سمعت العرب تقول : يدك باسطها يريدون : أنت ، وهو كثير في الكلام ، قال : فعلى هذا يجوز خفض(غير).
والصواب من القول في ذلك عندنا ، القول بإجازة جر(غير) في(غَيْرَ نَاظِرِينَ) في الكلام ، لا في القراءة لما ذكرنا من الأبيات التي حكيناها ، فأما في القراءة فغير جائز في(غير) غير النصب ، لإجماع الحجة من القراء على نصبها.
__________
(1) البيتان للأعشى. وقد سبق الاستشهاد بهما في كلام المؤلف على مثل ما استشهد بهما عليه هنا (انظر 17 : 197). والشاهد في قوله : (لمحقوقة) ، فإنه خبر عن قوله : (وإن امرءًا). والخبر ، هنا : غير المخبر عنه ، لأن المبتدأ هنا مذكر ، والخبر مؤنث. وقد اختلف النحاة في مثل هذا فقال البصريون كان يجب أن يقول : (لمحقوقة أنت) بإبراز الضمير ، لأن تركه يحدث لبسا في الكلام ولا يعلم المراد بالمحقوقة أي شخص هو ؟ وأما الكوفيون فقد جوزوا في هذه الحالة وأمثالها في الخبر والنعت اللذين لا يطابقان صاحبهما ، أن يبرز الضمير ، وألا يبرز ، على خلاف ما قاله البصريون ، واستشهدوا ببيتي الأعشى على مجيء الخبر غير مطابق لما هو له ، بدون إبراز الضمير. وحمل البصريون ذلك في البيت على الاتساع والحذف. (وانظر المسألة مفصلة في كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف ، بين البصريين والكوفيين ، لأبي البركات عبد الرحمن بن الأنباري ، طبع القاهرة ص 45 - 48 المسألة رقم 8).
(2) هذان البيتان لم أجدهما في معاني القرآن للفراء ، ولا في مجاز القرآن لأبي عبيدة. والشاهد فيهما أن قوله فميت معطوف على قوله : (أمسلمتي) ، والمعطوف هنا غير المعطوف عليه في المعنى ، فكان مقتضى ذلك أن يقول : فميت أنا ، بإبراز الضمير على مذهب البصريين ، ولكنه لم يبرز الضمير وهو موافق لمذهب الكوفيين الذين يقولون بجواز إبراز الضمير وعدم إبرازه ، وهذا كثير في كلام العرب.

(20/308)


وقوله(وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) يقول : ولكن إذا دعاكم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله(فإذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) يقول : فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم لأكله فانتشروا ، يعني : فتفرقوا واخرجوا من منزله(وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) فقوله(وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) في موضع خفض عطفًا به على ناظرين ، كما يقال في الكلام : أنت غير ساكت ولا ناطق. وقد يحتمل أن يقال : مستأنسين في موضع نصب عطفًا على معنى ناظرين ، لأن معناه إلا أن يؤذن لكم إلى طعام لا ناظرين إناه ، فيكون قوله(وَلا مُسْتَأْنِسِينَ) نصبًا حينئذ ، والعرب تفعل ذلك إذا حالت بين الأول والثاني ؛ فترد أحيانًا على لفظ الأول وأحيانًا على معناه ، وقد ذكر الفراء أن أبا القمقام أنشده :
أجِدكَ لستَ الدهرَ رائيَ رامَة... ولا عاقلٍ إلا وانت جنِيبُ
ولا مُصعِدٍ في المُصعِدينَ لمنْعِجٍ... ولا هابطًا ما عِشْتُ هَضْبَ شطيبِ (1)
فرد مصعد على أن رائي فيه باء خافضة ، إذ حال بينه وبين المصعد مما حال بينهما من الكلام.
ومعنى قوله(وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) : ولا متحدثين بعد فراغكم من
__________
(1) البيتان من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة 258) وروايته أصح من رواية المؤلف. ورامة ، وعاقل ومنعج (في رواية المؤلف) ، ومنبج (في رواية الفراء) : أسماء مواضع في جزيرة العرب ، إلا منبج ففي الشام ، قرب حلب ، والبيتان مما أنشده أبو القمقام الفراء. والشاهد في قوله : (ولا مصعد) بالجر فإنه معطوف على (رائي) والمعطوف عليه منصوب ، والمعطوف مجرور على توهم زيادة الباء في خبر ليس وهو المعطوف عليه الأول. كأنه قال : لست براء ولا مصعد. وقد ساق الفراء البيتين في توجيه إعراب قوله تعالى : (ولا مستأنسين) فإنه رده عطفا على (ناظرين إناه) بالجر ، أو بالنصب إتباعا لغير. قال : ولو جعلت المستأنسين في موضع نصب : تتوهم أن تتبعه بغير ، لما أن حلت بينهما بكلام. كذلك. وكذلك كل معنى احتمل وجهين ، ثم فرقت بينهما بكلام جاز أن يكون الآخر معربا بخلاف الأول. من ذلك قولك : ما أنت بمحسن إلى من أساء إليه ولا مجملا.

(20/309)


أكل الطعام إيناسًا من بعضكم لبعض به.
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أَبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أَبي نجيح ، عن مجاهد(وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) بعد أن تأكلوا.
واختلف أهل العلم في السبب الذي نزلت هذه الآية فيه ؛ فقال بعضهم : نزلت بسبب قوم طعموا عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في وليمة زينب بنت جحش ، ثم جلسوا يتحدثون في منزل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وبرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى أهله حاجة فمنعه الحياء من أمرهم بالخروج من منزله .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عمران بن موسى القزاز ، قال : ثنا عبد الوارث ، قال : ثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك قال : بنى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بزينب بنت جحش ، فبعثت داعيًا إلى الطعام ، فدعوت ، فيجيء القوم يأكلون ويخرجون ، ثم يجيء القوم يأكلون ويخرجون ، فقلت : يا نبي الله قد دعوت حتى ما أجد أحدًا أدعوه ، قال : ارفعوا طعامكم ، وإن زينب لجالسة في ناحية البيت ، وكانت قد أعطيت جمالا وبقي ثلاثة نفر يتحدثون في البيت ، وخرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم منطلقًا نحو حجرة عائشة ، فقال : " السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ " فقالوا : وعليك السلام يا رسول الله ، كيف وجدت أهلك ؟ قال : فأتى حجر نسائه فقالوا مثل ما قالت عائشة ، فرجع النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فإذا الثلاثة يتحدثون في البيت ، وكان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم شديد الحياء ، فخرج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم منطلقًا نحو حجرة عائشة ، فلا أدري أخبرته ، أو أخبر أن الرهط قد خرجوا ، فرجع حتى وضع رجله في أسكفة داخل البيت ، والأخرى خارجه ، إذ أرخي الستر بيني وبينه ، وأُنزلت آية الحجاب.

(20/310)


حدثني أَبو معاوية بشر بن دحية ، قال : ثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك ، قال : سألني أُبي بن كعب عن الحجاب فقلت : أنا أعلم الناس به ، نزلت في شأن زينب ؛ أولم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عليها بتمر وسويق ، فنزلت : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ...) إلى قوله(ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي ، قال : أخبرني يونس ، عن الزهري قال : أخبرني أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى المدينة ، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل في مبتنى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بزينب بنت جحش ، أصبح رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بها عروسًا ، فدعا القوم فأصابوا من الطعام حتى خرجوا وبقِي منهم رهط عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فأطالوا المكث ، فقام رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وخرج ، وخرجت معه لكي يخرجوا ، فمشى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ومشيت معه ، حتى جاء عتبة حجرة عائشة زوج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ثم ظن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنهم قد خرجوا ، فرجع ورجعت معه ، حتى دخل على زينب ، فإذا هم جلوس لم يقوموا ، فرجع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ورجعت معه ، فإذا هم قد خرجوا ، فضرب بيني وبينه سترًا ، وأُنزل الحجاب.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا ابن أَبي عدي ، عن حميد ، عن أنس ، قال : دعوت المسلمين إلى وليمة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، صبيحة بنى بزينب بنت جحش ، فأوسعهم خبزًا ولحمًا ، ثم رجع كما كان يصنع ، فأتى حجر نسائه فسلم عليهن ، فدعون له ، ورجع إلى بيته وأنا معه ، فلما انتهينا إلى الباب إذا رجلان قد جرى بهما الحديث في ناحية البيت ، فلما أبصرهما ولى راجعًا ، فلما رأيا النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ولَّى عن بيته ، ولَّيا مسرعين ، فلا أدري أنا أخبرته أو أخبر فرجع إلى بيته ، فأرخي الستر بيني وبينه ، ونزلت آية الحجاب.

(20/311)


حدثني ابن بشار ، قال : ثنا ابن أَبي عدي ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، قال : قال عمر بن الخطاب : قلت لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : لو حجبت عن أمهات المؤمنين ؛ فإنه يدخل عليك البر والفاجر ، فنزلت آية الحجاب.
حدثني القاسم بن بشر بن معروف ، قال : ثنا سليمان بن حرب ، قال : ثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أَبي قلابة ، عن أنس بن مالك ، قال : أنا أعلم الناس بهذه الآية ؛ آية الحجاب : لما أهديت زينب إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم صنع طعامًا ، ودعا القوم ، فجاءوا فدخلوا وزينب مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في البيت ، وجعلوا يتحدثون ، وجعل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يخرج ثم يدخل وهم قعود ، قال : فنزلت هذه الآية(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ...) إلى(فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) قال : فقام القوم وضرب الحجاب.
حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد ، قال : ثنا أبي ، عن بيان ، عن أنس بن مالك ، قال : بنى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بامرأة من نسائه ، فأرسلني فدعوت القوم إلى الطعام ، فلما أكلوا وخرجوا ، قام رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم منطلقًا قبل بيت عائشة ، فرأى رجلين جالسين ، فانصرف راجعًا ، فأنزل الله(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ).
حدثنا عمرو بن علي ، قال : ثنا أَبو داود ، قال : ثنا المسعودي ، قال : ثنا ابن نهشل ، عن أَبي وائل عن عبد الله ، قال : أمر عمر نساء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالحجاب ، فقالت زينب : يا بن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فأنزل الله(وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) .
حدثني محمد بن مرزوق ، قال : ثنا أشهل بن حاتم ، قال : ثنا ابن عون ، عن عمرو بن سعد ، عن أنس ، قال : وكنت مع النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وكان

(20/312)


يمر على نسائه ، قال : فأتى بامرأة عروس ، ثم جاء وعندها قوم ، فانطلق فقضى حاجته ، واحتبس وعاد وقد خرجوا ، قال : فدخل فأرخي بيني وبينه سترًا ، قال : فحدثت أبا طلحة فقال : لئن كان كما تقول ، لينزلن في هذا شيء ، قال : ونزلت آية الحجاب.
وقال آخرون : كان ذلك في بيت أم سلمة.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله( وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ) قال : كان هذا في بيت أم سلمة ، قال : أكلوا ، ثم أطالوا الحديث ، فجعل النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يدخل ويخرج ويستحي منهم ، والله لا يستحي من الحق.
قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) قال : بلغنا أنهن أمرن بالحجاب عند ذلك.
وقوله(إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ) يقول : إن دخولكم بيوت النبي من غير أن يؤذن لكم وجلوسكم فيها مستأنسين للحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتم له كان يؤذي النبي فيستحي منكم أن يخرجكم منها إذا قعدتم فيها للحديث بعد الفراغ من الطعام ، أو يمنعكم من الدخول إذا دخلتم بغير إذن مع كراهيته لذلك منكم(وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) أن يتبين لكم ، وإن استحيا نبيكم فلم يبين لكم كراهية ذلك حياء منكم.( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) يقول : وإذا سألتم أزواج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعًا(فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) يقول : من وراء ستر بينكم وبينهن ، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن(ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) يقول تعالى ذكره : سؤالكم إياهن المتاع إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من عوارض العين فيها التي تعرض

(20/313)


في صدور الرجال من أمر النساء ، وفي صدور النساء من أمر الرجال ، وأحرى من أن لا يكون للشيطان عليكم وعليهن سبيل.
وقد قيل : إن سبب أمر الله النساء بالحجاب ، إنما كان من أجل أن رجلا كان يأكل مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعائشة معهما ، فأصابت يدها يد الرجل ، فكره ذلك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، عن ليث ، عن مجاهد ، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة ، فكره ذلك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ؛ فنزلت آية الحجاب.
وقيل : نزلت من أجل مسألة عمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا أَبو كريب ويعقوب ، قالا ثنا هشيم ، قال : ثنا حميد الطويل ، عن أنس ، قال : قال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ؟ قال : فنزلت آية الحجاب.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا حميد ، عن أنس ، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحوه.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، قال : ثني عمرو بن عبد الله بن وهب ، قال : ثني يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : إن أزواج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ؛ وهو صعيد أفيح ، وكان عمر يقول : يا رسول الله احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة ، زوج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ

(20/314)


وَسَلَّم ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة ؛ حرصًا أن ينزل الحجاب ، قال : فأنزل الله الحجاب.
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن نمير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : خرجت سودة لحاجتها بعد ما ضرب علينا الحجاب ، وكأنت امرأة تفرع النساء طولا فأبصرها عمر ، فناداها : يا سودة إنك والله ما تخفين علينا ، فانظري كيف تخرجين أو كيف تصنعين ؟ فانكفأت فرجعت إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وإنه ليتعشى ، فأخبرته بما كان وما قال لها ، وإن في يده لعرقًا (1) فأوحي إليه ثم رفع عنه ، وإن العرق لفي يده ، فقال : " لَقَدْ أذنَ لَكُنَّ أنْ تَخْرجنَ لحَاجَتكُن " .
حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : ثنا همام ، قال : ثنا عطاء بن السائب ، عن أَبي وائل ، عن ابن مسعود ، قال : أمر عمر نساء النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بالحجاب فقالت زينب : يا ابن الخطاب ، إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ؟ فأنزل الله(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) .
حدثني أبو أيوب النهراني سليمان بن عبد الحميد ، قال : ثنا يزيد بن عبد ربه ، قال : ثني ابن حرب ، عن الزبيدي ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن أزواج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح ، وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : احجب نساءك ، فلم يكن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ليلة من الليالي عشاء ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة ؛ حرصًا على أن ينزل الحجاب ، قالت عائشة : فأنزل الله الحجاب ، قال الله(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
__________
(1) العرق بفتح فسكون : العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم. يقال : عرقت العظم ، واعترقته وتعرقته : إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك (النهاية لابن الأثير).

(20/315)


آمَنُوا لا تَدْخُلُوا ...) الآية.
وقوله(وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) يقول تعالى ذكره : وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله ، وما يصلح ذلك لكم(وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) يقول : وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا لأنهن أمهاتكم ، ولا يحل للرجل أن يتزوج أمه.
وذكر أن ذلك نزل في رجل كان يدخل قبل الحجاب ، قال : لئن مات محمد لأتزوجن امرأة من نسائه سماها ، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك(وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) .
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ) قال : ربما بلغ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن الرجل يقول : لو أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم توفي تزوجت فلانة من بعده ، قال : فكان ذلك يؤذي النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ؛ فنزل القرآن(وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ...) الآية .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن عامر أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مات ، وقد ملك قيلة بنت الأشعث ، فتزوجها عكرِمة بن أبي جهل بعد ذلك ، فشق على أَبي بكر مشقة شديدة ، فقال له عمر : يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنها لم يخيرها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ولم يحجبها ، وقد برأها منه بالردة التي أرتدت مع قومها ، فاطمأن أَبو بكر وسكن.
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود عن عامر ، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم توفي وقد ملك بنت الأشعث بن قيس ولم ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...