أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار
ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في تاريخ مكة -وخاصة المؤلفات التي أفاد منها اللاحقون- سوى مؤلف في تاريخ مكة للحسن بن يسار البصري المتوفى سنة 110هـ، الذي كتب رسالة عن "فضائل مكة المشرفة" كانت فيما بعد أحد المصادر الرئيسية لمؤرخي مكة. ومؤلف آخر في تاريخ مكة لعثمان بن ساج المتوفى سنة 180هـ، ويرجح أن كتابه في تاريخ مكة كان أحد مصادر الأزرقي المتوفى نحو 250هـ، في كتابه الذي نقدم له اليوم. ثم جاء الوليد الأزرقي فكتب في "أخبار مكة" وقد استقى كثيرًا من معلوماته الواردة في كتابه عن عبد الله بن عباس وتلاميذه، حيث كان لديهم معلومات وفيرة عن مكة. ويبدو أن الأزرقي كان مولعًا بمعرفة الأخبار التاريخية وروايتها، كما أن اسمه يظهر كمصدر للمعلومات عن تاريخ مكة القديم، وكذلك فيما يتعلق بتاريخها الإسلامي وما صاحبه من أحداث. وقد استغرق ثلاثة أرباع كتابه ذكر قصص كانت قد نمت في الجاهلية حول حرم مكة, ووصف الشعائر ذات الصلة بمكة. أما الربع الباقي فيبحث في الأماكن المقدسة الأخرى من مكة, بالإضافة إلى الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعاصريه من المكيين، وعن خطط مكة وأطرافها. ج / 1 ص -4- وقد حظيت مرويات الأزرقي باهتمامات المؤرخين اللاحقين في العهود التي تلته. هذا, وقد استندت في تحقيق كتاب أخبار مكة إلى ما يلي: 1- مخطوطة مصورة من معهد المخطوطات بالقاهرة برقم 2186 تاريخ عن النسخة الروسية رقم 607 B، وهي نسخة نفيسة كتبت بقلم نسخ قديم فيه ضبط، من القرن الخامس الهجري تقديرًا، وبأولها قراءة هذا الكتاب لأبي الوليد الباجي بخطه على شيخه أبي الحجاج يوسف بن فتوح، وإجازة من الشيخ الباجي بجميع مصنفاته ومروياته وبجميع ما يجوز له روايته من منقول ومسموع بشرطه، وبآخرها مقابلتان: الأولى مقابلة على أصل مصنفه وقرئ عليه مرات، والثانية قوبلت على نسخة صحيحة مكتتبة من نسخة المؤلف تجاه الكعبة عام 633هـ، وقد جعلت هذه النسخة أصلًا. 2- النسخة التي طبعت في أوروبا بعناية وستنفيلد 1858م، وقد رمزت إليها بالحرف "أ". 3- نسخة بتحقيق رشدي الصالح ملحس, وقد رمزت إليها بالحرف "ب". وقد أشرت إليها جميعًا في تعليقاتي بـ"الأصول". وكان حرصي على سلامة النص أكثر من حرصي على التعريف بالأعلام والبلاد, والإسراف في الشرح والتعليق؛ إذ كان ذلك أهم ما يحتاج إليه العلماء والباحثون عند الرجوع إلى الكتب المحققة. كما قمت في آخر الكتاب بعمل الفهارس المتنوعة التي تقرب نفعه، وتدني جناه. القاهرة في رجب سنة 1424هـ سبتمبر سنة 2003م د. علي عمر جزء 1 وجزء 2.اخبار مكة أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار . ج / 1 ص -9- بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين وسلم كثيرا ذكر ما كانت الكعبة الشريفة عليه فوق الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض, وما جاء في ذلك: أخبرني والدي الفقيه الإمام المحدث صدر الدين بقية المشايخ أبو حفص عمر بن عبد المجيد بن عمر القرشي الميانشي رحمة الله عليه، قال: حدثنا القاضي الإمام أبو المظفر محمد بن علي بن الحسين الشيباني الطبري، عن جده الشيخ الإمام الحسين وعن الشيخ أبي الحسن علي بن خلف الشامي, عن أبي القاسم خلف بن هبة الله الشامي، عن أبي محمد الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فراس, عن أبي الحسن محمد بن نافع الخزاعي, عن أبي محمد إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع الخزاعي, عن أبي الوليد محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق بن عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني الأزرقي قال: حدثنا جدي أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن بشر بن عاصم عن سعيد بن المسيب قال: قال كعب الأحبار: كانت الكعبة غُثاء على الماء قبل أن يخلق الله -عز وجل- السموات والأرض بأربعين سنة, ومنها دُحيت الأرض. قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا أبو أيوب البصري, عن هشام عن حميد قال: سمعت مجاهدًا يقول: خلق الله -عز وجل- هذا البيت قبل أن يخلق شيئًا من الأرضين. قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا جدي عن سعيد بن سالم، عن ج / 1 ص -10- طلحة بن عمرو, عن عطاء, عن ابن عباس أنه قال: لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض بعث الله تعالى ريحًا هَفَّافة فصَفَقَت الماء فأبرزت عن حَشْقة في موضع البيت كأنها قبة, فدحا الله الأرضين من تحتها فمادت, ثم مادت فأوتدها الله تعالى بالجبال, فكان أول جبل وضع فيها أبو قُبَيْس؛ فلذلك سميت مكة أم القرى1. قال: وحدثني يحيى بن سعيد عن محمد بن عمر بن إبراهيم الجبيري, عن عثمان بن عبد الرحمن, عن هشام, عن مجاهد قال: لقد خلق الله -عز وجل- موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئًا من الأرض بألفي سنة, وان قواعده لفي الأرض السابعة السفلى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الحديث في الجامع الصغير 1/ 112 ورمز لضعفه. ذكر بناء الملائكة الكعبة قبل خلق آدم, ومبتدأ الطواف كيف كان: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني علي بن هارون بن مسلم العجلي, عن أبيه قال: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن الأنصاري قال: حدثني محمد بن علي بن الحسين قال: كنت مع أبي علي بن الحسين بمكة فبينما هو يطوف بالبيت وأنا وراءه, إذ جاءه رجل شَرْجَع من الرجال يقول: طويل فوضع يده على ظهر أبي, فالتفت أبي إليه فقال الرجل: السلام عليك يابن بنت رسول الله, إني أريد أن أسألك فسكت أبي وأنا والرجل خلفه, حتى فرغ من أسبوعه فدخل الحجر فقام تحت الميزاب فقمت أنا والرجل خلفه ليصلي ركعتي أسبوعه, ثم استوى قاعدًا فالتفت إلي فقمت فجلست إلى جنبه فقال: يا محمد, فأين هذا السائل؟ فأومأت إلى الرجل فجاء فجلس بين يدي أبي فقال له أبي: عم تسأل؟ قال: أسألك عن بدء هذا الطواف ج / 1 ص -11- بهذا البيت لم كان وأنى كان؟ وحيث كان وكيف كان؟ فقال له أبي: نعم من أين أنت؟ قال: من أهل الشام قال: أين مسكنك؟ قال: في بيت المقدس قال: فهل قرأت الكتابين, يعني: التوراة والإنجيل؟ قال الرجل: نعم قال أبي: يا أخا أهل الشام احفظ ولا تروين عني إلا حقا, أما بدء هذا الطواف بهذا البيت فإن الله تبارك وتعالى قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فقالت الملائكة: أي رب أخليفة من غيرنا ممن يفسد فيها, ويسفك الدماء, ويتحاسدون, ويتباغضون, ويتباغون؟! أي رب اجعل ذلك الخليفة منا فنحن لا نفسد فيها، ولا نسفك الدماء، ولا نتباغض، ولا نتحاسد، ولا نتباغى، ونحن نسبح بحمدك، ونقدس لك، ونطيعك ولا نعصيك فقال الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} قال: فظنت الملائكة أن ما قالوا رد على ربهم عز وجل, وأنه قد غضب من قولهم فلاذوا بالعرش، ورفعوا رءوسهم، وأشاروا بالأصابع يتضرعون، ويبكون إشفاقًا لغضبه وطافوا بالعرش ثلاث ساعات فنظر الله إليهم فنزلت الرحمة عليهم, فوضع الله تعالى تحت العرش بيتًا على أربع أساطين من زبرجد وغشاهن بياقوتة حمراء, وسمي ذلك البيت الضُّرَاح1. ثم قال الله تعالى للملائكة: "طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش" قال: فطافت الملائكة بالبيت وتركوا العرش وصار أهون عليهم وهو البيت المعمور الذي ذكره الله عز وجل يدخله في كل يوم وليلة سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبدًا. ثم إن الله -سبحانه وتعالى- بعث ملائكة فقال لهم: "ابنوا لي بيتًا في الأرض بمثاله وقدره" فأمر الله سبحانه من في الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، فقال الرجل: صدقت يابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا كان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 لدى ياقوت: الضراح: بيت في السماء حيال الكعبة وهو البيت المعمور، وقيل: هو الكعبة رفعها الله وقت الطوفان إلى السماء الدنيا, فسميت بذلك لضرحها عن الأرض أي: بعدها. ج / 1 ص -12- ذكر زيارة الملائكة البيت الحرام: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني مهدي بن أبي المهدي، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا عمر بن بكار, عن وهب بن منبه، عن ابن عباس, أن جبريل -عليه السلام- وقف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه عصابة حمراء قد علاها الغبار فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الغبار أرى على عصابتك أيها الروح الأمين؟" قال: إني زرت البيت فازدحمت الملائكة على الركن, فهذا الغبار الذي ترى مما تثير بأجنحتها. وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني عثمان بن يسار قال: بلغني -والله أعلم- أن الله تعالى إذا أراد أن يبعث ملكًا من الملائكة لبعض أموره في الأرض, استأذنه ذلك الملك في الطواف بالبيت, فهبط الملك مُهِلّا1. وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج عن وهب بن منبه نحو هذا إلا أنه قال: ويصلي في البيت ركعتين. وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج، قال: أخبرني عباد بن كثير2، عن ليث بن معاذ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هذا البيت خامس خمسة عشر بيتًا، سبعة منها في السماء إلى العرش, وسبعة منها إلى تخوم الأرض السفلى, وأعلاها الذي يلي العرش البيت المعمور, لكل بيت منها حرم كحرم هذا البيت, لو سقط منها بيت لسقط بعضها على بعض إلى تخوم الأرض السفلى, ولكل بيت من أهل السماء ومن أهل الأرض من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 فيه عثمان بن ساج. ولدى صاحب التقريب: "عثمان بن ساج، فيه ضعف". 2 إسناده ضعيف، عباد بن كثير هو: البصري، نزيل مكة، متروك. قال أحمد: روى أحاديث كذب "التقريب". ج / 1 ص -13- يعمره كما يعمر هذا البيت". حدثني أبو الوليد، قال: وحدثني جدي عن سعيد بن سالم، عن عثمان, عن وهب بن منبه، أن ابن عباس أخبره أن جبريل وقف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه عصابة خضراء قد علاها الغبار فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الغبار الذي أرى على عصابتك أيها الروح الأمين؟" قال: إني زرت البيت فازدحمت الملائكة على الركن, فهذا الغبار الذي ترى مما تثير بأجنحتها. ذكر هبوط آدم إلى الأرض, وبنائه الكعبة، وحجه، وطوافه بالبيت: حدثنا أبو الوليد, حدثنا جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن طلحة بن عمرو الحضرمي عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس قال: لما أهبط الله آدم إلى الأرض من الجنة، كان رأسه في السماء، ورجلاه في الأرض وهو مثل الفلك من رعدته, قال: فطأطأ الله عز وجل منه إلى ستين ذراعا، فقال: يا رب ما لي لا أسمع أصوات الملائكة ولا أحسهم؟ قال: "خطيئتك يا آدم, ولكن اذهب فابن لي بيتًا فطف به واذكرني حوله, كنحو ما رأيتَ الملائكة تصنع حول عرشي" قال: فأقبل آدم عليه السلام يتخطى فطويت له الأرض وقبضت له المفاوز, فصارت كل مفازة يمر بها خطوة وقبض له ما كان من مخاض ماء, أو بحر فجعل له خطوة. ولم تقع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمرانا وبركة, حتى انتهى إلى مكة فبنى البيت الحرام, وإن جبريل -عليه السلام- ضرب بجناحه الأرض فأبرز عن أس ثابت على الأرض السفلى, فقذفت فيه الملائكة الصخر, ما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلًا. ج / 1 ص -14- وإنه بناه من خمسة أجبل من لبنان، وطور زَيْتا، وطور سينا, والجودي، وحراء حتى استوى على وجه الأرض. قال ابن عباس: فكان أول من أسس البيت وصلى فيه وطاف به آدم -عليه السلام- حتى بعث الله الطوفان قال: وكان غضبًا ورجسًا قال: فحيثما انتهى الطوفان ذهب ريح آدم -عليه السلام- قال: ولم يقرب الطوفان أرض السند والهند. قال: فدَرَس موضع البيت في الطوفان, حتى بعث الله تعالى إبراهيم وإسماعيل, فرفعا قواعده وأعلامه وبنته قريش بعد ذلك, وهو بحذاء البيت المعمور, لو سقط ما سقط إلا عليه1. حدثنا أبو الوليد، حدثنا مهدي بن أبي المهدي، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم الصنعاني, عن عبد الصمد بن معقل, عن وهب بن منبه أن الله تعالى لما تاب على آدم -عليه السلام- أمره أن يسير إلى مكة, فطوى له الأرض وقبض له المفاوز, فصار كل مفازة يمر بها خطوة, وقبض له ما كان فيها من مخاض ماء أو بحر, فجعله له خطوة، فلم يضع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمرانًا وبركة, حتى انتهى إلى مكة. وكان قبل ذلك قد اشتد بكاؤه وحزنه لما كان فيه من عظم المصيبة, حتى إن كانت الملائكة لتحزن لحزنه ولتبكي لبكائه, فعزاه الله تعالى بخيمة من خيام الجنة, ووضعها له بمكة في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة. وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة, فيها ثلاثة قناديل من ذهب من تبر الجنة، فيها نور يلتهب من نور الجنة، ونزل معها الركن وهو يومئذ ياقوتة بيضاء من ربض الجنة, وكان كرسيا لآدم -عليه السلام- يجلس عليه، فلما صار آدم بمكة وحرس له تلك الخيمة بالملائكة, كانوا يحرسونها ويذودون عنها ساكن الأرض. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في إسناده: طلحة بن عمرو الحضرمي. قال فيه صاحب التقريب: "متروك". ج / 1 ص -15- وساكنها يومئذ الجن والشياطين, فلا ينبغي لهم أن ينظروا إلى شيء من الجنة؛ لأنه من نظر إلى شيء من الجنة وجبت له، والأرض يومئذ طاهرة نقية لم تنجس، ولم تسفك فيها الدماء، ولم يعمل فيها بالخطايا؛ فلذلك جعلها الله مسكن الملائكة, وجعلهم فيها كما كانوا في السماء يسبحون الله الليل, والنهار لا يفترون. وكان وقوفهم على أعلام الحرم صفًّا واحدًا مستديرين بالحرم الشريف كله، الحل من خلفهم والحرم كله من أمامهم فلا يجوزهم جن ولا شيطان, ومن أجل مقام الملائكة حُرم الحرم حتى اليوم، ووضعت أعلامه حيث كان مقام الملائكة, وحرم الله -عز وجل- على حواء دخول الحرم والنظر إلى خيمة آدم -عليه السلام- من أجل خطيئتها التي أخطأت في الجنة, فلم تنظر إلى شيء من ذلك حتى قبضت. وإن آدم -عليه السلام- كان إذا أراد لقاءها ليلم بها للولد, خرج من الحرم كله حتى يلقاها, فلم تزل خيمة آدم -عليه السلام- مكانها حتى قبض الله آدم, ورفعها الله تعالى. وبنى بنو آدم بها من بعدها مكانها بيتًا بالطين والحجارة, فلم يزل معمورًا يعمره من بعدهم حتى كان زمن نوح عليه السلام فنسفه الغرق وخفي مكانه. فلما بعث الله تعالى إبراهيم خليله -عليه السلام- طلب الاساس, فلما وصل إليه ظلل الله تعالى له مكان البيت بغمامة, فكانت حفاف البيت الأول, ثم لم تزل راكدة على حفافه تظل إبراهيم وتهديه مكان القواعد حتى رفع الله القواعد قامة. ثم انكشفت الغمامة, فذلك قول الله عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] أي: الغمامة التي ركدت على الحفاف لتهديه مكان القواعد, فلم يزل بحمد الله منذ رفعه الله معمورًا. قال وهب بن منبه: وقرأت في كتاب من الكتب الأولى ذكر فيه أمر ج / 1 ص -16- الكعبة فوجد فيه أن ليس من ملك من الملائكة بعثه الله تعالى إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت, فينقض من عند العرش محرمًا ملبيًا حتى يستلم الحجر, ثم يطوف سبعًا بالبيت ويركع في جوفه ركعتين ثم يصعد. وحدثني محمد بن يحيى, عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى, عن عبد الله بن لبيد قال: بلغني أن ابن عباس قال: لما أهبط الله سبحانه آدم -عليه السلام- إلى الأرض أهبطه إلى موضع البيت الحرام وهو مثل الفلك من رعدته, ثم أنزل عليه الحجر الأسود -يعني الركن- وهو يتلألأ من شدة بياضه, فأخذه آدم -عليه السلام- فضمه إليه أنسًا به ثم نزلت عليه العصا, فقيل له: تخط يا آدم فتخطى فإذا هو بأرض الهند والسند, فمكث بذلك ما شاء الله ثم استوحش إلى الركن, فقيل له: احجج قال: فحج فلقيته الملائكة فقالوا: بر حجك يا آدم, لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام1. وحدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: بلغني أن آدم -عليه السلام- لما أهبط إلى الأرض حزن على ما فاته مما كان يرى ويسمع في الجنة من عبادة الله عز وجل, فبوأ الله له البيت الحرام وأمره بالسير إليه, فسار إليه لا ينزل منزلًا إلا فجر الله له ماء معينا, حتى انتهى إلى مكة فأقام بها يعبد الله عند ذلك البيت ويطوف به, فلم تزل داره حتى قبضه الله بها2. حدثني جدي، قال: حدثني سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, قال: بلغني أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال لكعب: يا كعب, أخبرني عن البيت الحرام قال كعب: أنزله الله تعالى من السماء ياقوتة مجوفة مع آدم -عليه السلام- فقال له: "يا آدم, إن هذا بيتي أنزلته معك يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى حوله كما يصلى حول عرشي" ونزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في إسناده: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال صاحب التقريب: "متروك". 2 في إسناده: عثمان بن ساج، فيه ضعف. ج / 1 ص -17- حجارة، ثم وضع البيت عليه فكان آدم -عليه السلام- يطوف حوله كما يطاف حول العرش، ويصلي عنده كما يصلى عند العرش, فلما أغرق الله قوم نوح رفعه الله إلى السماء, وبقيت قواعده1. حدثني جدي, قال: وحدثني إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى, عن أبان بن أبي عياش قال: بلغنا عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سأل كعبًا, ثم نسق مثل الحديث الأول. وحدثني جدي, قال: وحدثني إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى, عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود, عن ابن عباس -رضوان الله عليه- قال: كان آدم -عليه السلام- أول من أسس البيت, وصلى فيه حتى بعث الله الطوفان2. حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر عن أبان أن البيت أهبط ياقوتة لآدم -عليه السلام- أو درة واحدة. وحدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم القداح, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه قال: كان البيت الذي بوأه الله تعالى لآدم عليه السلام يومئذ ياقوتة من يواقيت الجنة حمراء تلتهب، لها بابان أحدهما شرقي والآخر غربي, وكان فيه قناديل من نور آنيتها ذهب من تبر الجنة وهو منظوم بنجوم من ياقوت أبيض، والركن يومئذ نجم من نجومه, وهو يومئذ ياقوتة بيضاء3. حدثنا جدي، قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال: حدثنا المغيرة بن زياد, عن عطاء بن أبي رباح قال: لما بنى ابن الزبير الكعبة أمر العمال أن يبلغوا في الأرض, فبلغوا صخرًا أمثال الإبل الخلف قال: فقالوا: إنا قد بلغنا صخرًا معمولًا أمثال الإبل الخلف قال: قال: زيدوا فاحفروا، فلما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في إسناده: عثمان بن ساج، سبق التعليق عليه. 2 فيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، سبق التعليق عليه. 3 فيه عثمان بن ساج، سبق التعليق عليه. ج / 1 ص -18- زادوا بلغوا هواء من نار يلقاهم فقال: ما لكم؟ قالوا: لسنا نستطيع أن نزيد، رأينا أمرًا عظيمًا فلا نستطيع. فقال لهم: ابنوا عليه، قال: فسمعت عطاء يقول: يرون أن ذلك الصخر مما بنى آدم عليه السلام. وحدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن الزهري, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن ابن عباس, خر آدم ساجدًا يبكي فهتف به هاتف فقال: "ما يبكيك يا آدم؟" قال: أبكاني أنه حيل بيني وبين تسبيح ملائكتك وتقديس قدسك، فقيل له: "يا آدم، قم إلى البيت الحرام" فخرج إلى مكة فكان حيث يضع قدميه يفجر عيونًا، وعمرانًا، ومدائن وما بين قدميه الخراب والمعاطش, فبلغني أن آدم -عليه السلام- تذكر الجنة فبكى، فلو عدل بكاء الخلق ببكاء آدم حين أخرج من الجنة ما عدله, ولو عدل بكاء الخلق وبكاء آدم عليه السلام ببكاء داود حين أصاب الخطيئة ما عدله. حدثني جدي قال: أخبرنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه أن آدم عليه السلام اشتد بكاؤه وحزنه لما كان من عظم المصيبة حتى إن كانت الملائكة لتحزن لحزنه، ولتبكي لبكائه قال: فعزاه الله بخيمة من خيام الجنة وضعها له بمكة في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة, وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من ياقوت الجنة وفيها ثلاثة قناديل من ذهب من تبر الجنة، فيها نور يلتهب من نور الجنة، فلما صار آدم عليه السلام إلى مكة وحرس له تلك الخيمة بالملائكة, فكانوا يحرسونه ويذودون عنها سكان الأرض، وسكانها يومئذ الجن والشياطين، ولا ينبغي لهم أن ينظروا إلى شيء من الجنة؛ لأنه من نظر إلى شيء منها وجبت له، والأرض يومئذ نقية طاهرة طيبة لم تنجس ولم تسفك فيها الدماء، ولم يعمل فيها بالخطايا؛ فلذلك جعلها الله يومئذ مستقر الملائكة وجعلهم فيها كما كانوا في السماء يسبحون الليل والنهار لا يفترون، قال: فلم تزل تلك الخيمة مكانها حتى قبض الله آدم -عليه السلام- ثم رفعها إليه. ج / 1 ص -19- حدثني مهدي بن أبي المهدي، عن عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر عن قتادة في قوله عز وجل {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] قال: وضع الله تعالى البيت مع آدم -عليه السلام- فأهبط الله تعالى آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، وكانت الملائكة تهابه فقبض إلى ستين ذراعًا فحزن آدم عليه السلام إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم, فشكا ذلك إلى الله تعالى فقال الله تعالى: "يا آدم, إني أهبطت معك بيتًا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي" فانطلق إليه فخرج آدم -عليه السلام- ومد له في خطوه فكان خطوتان أو بين خطوتين مفازة, فلم يزل على ذلك، فأتى آدم عليه السلام البيت فطاف به، ومن بعده من الأنبياء. حدثني محمد بن يحيى عن عبد العزيز بن عمران, عن عمر بن أبي معروف, عن عبد الله بن أبي زياد أنه قال: لما أهبط الله تعالى آدم عليه السلام من الجنة قال: "يا آدم, ابن لي بيتًا بحذاء بيتي الذي في السماء, تتعبد فيه أنت وولدك كما تتعبد ملائكتي حول عرشي" فهبطت عليه الملائكة فحفر حتى بلغ الأرض السابعة, فقذفت الملائكة الصخر حتى أشرف على وجه الأرض, وهبط آدم عليه السلام بياقوتة حمراء مجوفة لها أربعة أركان بيض, فوضعها على الأساس فلم تزل الياقوتة كذلك حتى كان زمن الغرق, فرفعها الله سبحانه1. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 فيه عبد العزيز بن عمران، متروك. احترقت كتبه فحدث من حفظه, فاشتد غلطه "التقريب". ج / 1 ص -20- ما جاء في حج آدم -عليه السلام- ودعائه لذريته: حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج قال: حُدثت أن آدم عليه السلام خرج حتى قدم مكة فبنى البيت، فلما فرغ من بنائه قال: أي رب, إن لكل أجير أجرًا وإن لي أجرًا، قال: "نعم، فاسألني" قال: أي رب, تردني من حيث أخرجتني، قال: "نعم ذلك لك" قال: أي رب, ومن خرج إلى هذا البيت من ذريتي يقر على نفسه بمثل الذي قررت به من ذنوبي أن تغفر له قال: "نعم ذلك لك"1. حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا محمد بن يحيى, عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن أبي المليح أنه قال: كان أبو هريرة يقول: حج آدم -عليه السلام- فقضى المناسك فلما حج قال: يا رب إن لكل عامل أجرًا قال الله تعالى: "أما أنت يا آدم فقد غفرت لك, وأما ذريتك فمن جاء منهم هذا البيت فباء بذنبه غفرت له". فحج آدم -عليه السلام- فاستقبلته الملائكة بالرحمة فقالت: بر حجك يا آدم, قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، قال: فما كنتم تقولون حوله؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله، والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر قال: فكان آدم عليه السلام إذا طاف بالبيت يقول هؤلاء الكلمات, وكان طواف آدم عليه السلام سبعة أسابيع بالليل, وخمسة أسابيع بالنهار. قال نافع: كان ابن عمر -رحمه الله- يفعل ذلك. حدثني محمد بن يحيى قال: حدثني هشام بن سليمان المخزومي, عن عبد الله بن أبي سليمان مولى بني مخزوم أنه قال: طاف آدم عليه السلام سبعًا بالبيت حين نزل، ثم صلى وجاه باب الكعبة ركعتين، ثم أتى الملتزم فقال: اللهم إنك تعلم سريرتي وعلانيتي فاقبل معذرتي, وتعلم ما في نفسي وما عندي فاغفر لي ذنوبي, وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، اللهم إني أسألك إيمانًا يباشر قلبي ويقينًا صادقًا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي, والرضا بما قضيت علي. قال: فأوحى الله تعالى إليه: "يا آدم, قد دعوتني بدعوات فاستجبت لك، ولن يدعوني بها أحد من ولدك إلا كشفت غمومه وهمومه, وكففت عليه ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغناء بين عينيه، وتجرت له من وراء تجارة كل تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها". قال: فمذ طاف آدم -عليه السلام- كانت سنة الطواف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 فيه عثمان بن ساج، سبق التعليق عليه. ج / 1 ص -21- "سنة الطواف": حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج، قال: حدثني موسى بن عبيد, عن محمد بن المنكدر قال: كان أول شيء عمله آدم -عليه السلام- حين أهبط من السماء, طاف بالبيت فلقيته الملائكة فقالوا: بر نسكك يا آدم, طفنا بهذا البيت قبلك بألفي سنة. حدثني جدي, عن سفيان بن عيينة, عن الحرام بن أبي لبيد المدني قال: حج آدم -عليه السلام- فلقيته الملائكة فقالوا: يا آدم بر حجك, قد حججنا قبلك بألفي عام. حدثني جدي عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, قال: أخبرني سعيد أن آدم عليه السلام حج على رجليه سبعين حجة ماشيًا، وأن الملائكة لقيته بالمأزمين فقالوا: بر حجك يا آدم, أما إنا قد حججنا قبلك بألفي عام. حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن طلحة بن عمرو الحضرمي, عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: حج آدم عليه السلام وطاف بالبيت سبعًا, فلقيته الملائكة في الطواف فقالوا: بر حجك يا آدم, أما إنا قد حججنا قبلك هذا البيت بألفي عام, قال: فما كنتم تقولون في الطواف؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, قال آدم -عليه السلام: فزيدوا فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله قال: فزادت الملائكة فيها ذلك. ج / 1 ص -22- قال: ثم حج إبراهيم -عليه السلام- بعد بنيانه البيت, فلقيته الملائكة في الطواف فسلموا عليه فقال لهم إبراهيم: ماذا كنتم تقولون في طوافكم؟ قالوا: كنا نقول قبل أبيك آدم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فأعلمناه ذلك فقال آدم -عليه السلام: زيدوا فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال إبراهيم: زيدوا فيها: العلي العظيم قال: ففعلت الملائكة ذلك أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ذكر وحشة آدم في الأرض حين نزلها, وفضل البيت الحرام والحرم: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج عن وهب بن منبه أنه قال: إن آدم -عليه السلام- لما هبط إلى الأرض استوحش فيها؛ لما رأى من سعتها ولم ير فيها أحدًا غيره فقال: يا رب, أما لأرضك هذه عامر, يسبحك فيها ويقدس لك غيري؟ قال: "إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي، وسأجعل فيها بيوتًا ترفع لذكري ويسبحني فيها خلقي، وسأبوئك فيها بيتًا أختاره لنفسي وأختصه بكرامتي وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي، فأسميه بيتي وأنطقه بعظمتي، وأجوزه بحرماتي، وأجعله أحق بيوت الأرض كلها وأولاها بذكري، وأضعه في البقعة التي اخترت لنفسي، فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض، وقبل ذلك قد كان بغيتي فهو صفوتي من البيوت, ولست أسكنه وليس ينبغي لي أن أسكن البيوت ولا ينبغي لها أن تسعني، ولكن على كرسي الكبرياء والجبروت وهو الذي استقل بعزتي، وعليه وضعت عظمتي وجلالي، وهنالك استقر قراري، ثم هو بعد ضعيف عني لولا قوتي, ثم أنا بعد ذلك ملء كل شيء، وفوق كل شيء، ومع كل شيء، ومحيط بكل شيء، وأمام كل شيء، وخلف كل شيء، ليس ينبغي لشيء أن ج / 1 ص -23- يعلم علمي، ولا يقدر قدرتي، ولا يبلغ كنه شأني. أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرمًا وأمنًا، أحرم بحرماته ما فوقه، وما تحته، وما حوله, فمن حرمه بحرمتي فقد عظم حرماتي، ومن أحله فقد أباح حرماتي، ومن أمن أهله فقد استوجب بذلك أماني، ومن أخافهم فقد أخفرني في ذمتي، ومن عظم شأنه عظم في عيني، ومن تهاون به صغر في عيني ولكل ملك حيازة ما حواليه، وبطن مكة خيرتي وحيازتي وجيران بيتي وعمارها وزوارها وفدي وأضيافي في كنفي وأفنيتي ضامنون علي في ذمتي وجواري, فأجعله أول بيت وضع للناس وأعمره بأهل السماء وأهل الأرض يأتونه أفواجًا شعثًا غبرًا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق, يعجون بالتكبير عجيجًا ويرجون بالتلبية رجيجًا وينتحبون بالبكاء نحيبًا, فمن اعتمره لا يريد غيري فقد زارني ووفد إلي ونزل بي, ومن نزل بي فحقيق علي أن أتحفه بكرامتي وحق الكريم أن يكرم وفده وأضيافه, وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته. تعمره يا آدم ما كنت حيا, ثم تعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء, أمة بعد أمة, وقرن بعد قرن, ونبي بعد نبي, حتى ينتهي ذلك إلى نبي من ولدك وهو خاتم النبيين, فأجعله من عماره، وسكانه، وحماته، وولاته، وسقاته يكون أميني عليه ما كان حيا, فإذا انقلب إلي وجدني قد ذخرت له من أجره وفضيلته ما يتمكن به للقربة مني والوسيلة إلي, وأفضل المنازل في دار المقام. وأجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وثناءه ومكرمته لنبي من ولدك يكون قبل هذا النبي وهو أبوه يقال له: إبراهيم أرفع له قواعده، وأقضي على يديه عمارته، وأنيط له سقايته، وأريه حله وحرمه ومواقفه, وأعلمه مشاعره ومناسكه، وأجعله أمة واحدة قانتًا لي قائمًا بأمري داعيًا إلى سبيلي أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم، أبتليه فيصبر، وأعافيه فيشكر، وينذر لي فيفي، ويعدني فينجز، وأستجيب له في ولده وذريته من بعده, وأشفعه فيهم فأجعلهم ج / 1 ص -24- أهل ذلك البيت، وولاته، وحماته، وخدامه، وسدانه, وخزانه، وحجابه حتى يبتدعوا ويغيروا. فإذا فعلوا ذلك فأنا الله أقدر القادرين على أن أستبدل من أشاء بمن أشاء، أجعل إبراهيم إمام أهل ذلك البيت، وأهل تلك الشريعة يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الإنس والجن, يطئون فيها آثاره، ويتبعون فيها سنته، ويقتدون فيها بهديه، فمن فعل ذلك منهم أوفى نذره واستكمل نسكه، ومن لم يفعل ذلك منهم ضيّع نسكه وأخطأ بغيته. فمن سأل عني يومئذ في تلك المواطن: أين أنا؟ فأنا مع الشعث الغبر الموفين بنذورهم المستكملين مناسكهم المبتهلين إلى ربهم الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون. وليس هذا الخلق ولا هذا الأمر الذي قصصت عليك شأنه يا آدم بزائد في ملكي، ولا عظمتي، ولا سلطاني، ولا شيء مما عندي إلا كما زادت قطرة من رشاش وقعت في سبعة أبحر1 تمدها من بعدها سبعة أبحر1 لا تحصى، بل القطرة أزيد في البحر من هذا الأمر في شيء مما عندي ولو لم أخلقه لم ينقص شيئًا من ملكي ولا عظمتي ولا مما عندي من الغناء والسعة إلا كما نقصت الأرض ذرة وقعت من جميع ترابها, وجبالها, وحصاها، ورمالها، وأشجارها, بل الذرة أنقص في الأرض من هذا الأمر لو لم أخلقه لشيء مما عندي, وبعد هذا من هذا مثلًا للعزيز الحكيم". حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم الصنعاني قال: حدثني عبد الصمد بن معقل, عن وهب بن منبه بنحوه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، ب. وفي أ: "سبغة البحر". ج / 1 ص -25- ما جاء في البيت المعمور: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثني سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه قال: أخبرني أبو سعيد عن مقاتل يرفع الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث حدث به قال: "سمي البيت المعمور؛ لأنه يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك, ثم ينزلون إذا أمسوا فيطوفون بالكعبة, ثم يسلمون على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ينصرفون فلا تنالهم النوبة حتى تقوم الساعة". حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج عن وهب بن منبه أنه وجد في التوراة بيتًا في السماء بحيال الكعبة فوق قبتها, اسمه الضراح وهو البيت المعمور, يرده كل يوم سبعون ألف ملك, لا يعودون إليه أبدًا. حدثني جدي, عن سعيد بن سالم قال: أخبرني ابن جريج, عن صفوان بن سليم, عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "البيت الذي في السماء يقال له: الضراح, وهو مثل بناء هذا البيت الحرام ولو سقط لسقط عليه, يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبدًا". وحدثني جدي عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن السائب الكلبي قال: بلغني -والله أعلم- أن بيتًا في السماء يقال له: الضراح بحيال الكعبة, يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الملائكة ما دخلوه قط قبلها. حدثني جدي قال: حدثني سفيان بن عيينة, عن ابن أبي حسين, عن أبي الطفيل قال: سأل ابن الكواء عليًّا -رضي الله عنه: ما البيت المعمور؟ قال: هو الضراح, وهو حذاء هذا البيت, وهو في السماء السادسة يدخله كل يوم ج / 1 ص -26- سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبدًا. حدثني أبو محمد قال: حدثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي قال: حدثنا سفيان بن عيينة بنحوه, إلا أنه قال: في السماء السابعة, وقال: لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني قال: حدثنا معمر, عن وهب بن عبد الله, عن أبي الطفيل قال: شهدت عليًّا -رضي الله عنه- وهو يخطب وهو يقول: سلوني, فوالله لا تسألونني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به، وسلوني عن كتاب الله, فوالله ما منه آية إلا وأنا أعلم أنها1 بليل نزلت أم بنهار, أم بسهل نزلت أم بجبل. فقام ابن الكواء وأنا بينه وبين علي -رضي الله عنه- وهو خلفي قال: أفرأيت البيت المعمور ما هو؟ قال: ذاك الضراح فوق سبع سموات تحت العرش, يدخله كل يوم سبعون ألف ملك, لا يعودون فيه إلى يوم القيامة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في ب, وفي الأصل: "أنه" وفي أ: "أم". ما جاء في رفع البيت المعمور زمن الغرق, وما جاء فيه: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن ابن جريج عن مجاهد قال: بلغني انه لما خلق الله -عز وجل- السموات والأرض كان أول شيء وضعه فيها البيت الحرام, وهو يومئذ ياقوتة حمراء جوفاء, لها بابان: أحدهما شرقي والآخر غربي, فجعله مستقبل البيت المعمور. ج / 1 ص -27- فلما كان زمن الغرق رفع في ديباجتين فهو فيهما إلى يوم القيامة, واستودع الله -عز وجل- الركن أبا قبيس قال: وقال ابن عباس: كان ذهبًا فرفع زمان الغرق, وهو في السماء. وقال ابن جريج: قال جويبر: كان بمكة البيت المعمور, فرفع زمان الغرق فهو في السماء. حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني أبو سعيد عن مقاتل يرفع الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث حدث به: "أن آدم عليه السلام قال: أي رب, إني أعرف شقوتي, إني لا أرى شيئًا من نورك يعبد, فأنزل الله عز وجل عليه البيت المعمور على عرض البيت في موضعه من ياقوتة حمراء, ولكن طوله كما بين السماء والأرض, وأمره أن يطوف به, فأذهب الله عنه الغم الذي كان يجده قبل ذلك, ثم رفع على عهد نوح عليه السلام". ذكر بناء ولد آدم البيت الحرام بعد موت آدم عليه السلام: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه أنه قال: لما رفعت الخيمة التي عزّى الله بها آدم من حلية الجنة حين وضعت له بمكة في موضع البيت, ومات آدم عليه السلام, فبنى بنو آدم من بعده مكانها بيتًا بالطين والحجارة, فلم يزل معمورًا يعمرونه هم ومن بعدهم حتى كان زمن نوح عليه السلام, فنسفه الغرق وغير مكانه حتى بوئ لإبراهيم عليه السلام. ج / 1 ص -28- ما جاء في طواف سفينة نوح -عليه السلام- زمن الغرق بالبيت الحرام: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا بشر بن السرى البصري, عن داود بن أبي الفرات الكندي, عن علباء بن أحمر اليشكري, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلًا معهم أهلوهم, وإنهم كانوا أقاموا في السفينة مائة وخمسين يومًا, وإن الله تعالى وجه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يومًا, ثم وجهها الله تعالى إلى الجودي فاستقرت عليه. فبعث نوح -عليه السلام- الغراب ليأتيه بخبر الأرض, فذهب فوقع على الجيف وأبطأ عنه, فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ولطخت رجليها بالطين, فعرف نوح أن الماء قد نضب فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها: ثمانين. فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها العربية, قال: فكان لا يفقه بعضهم عن بعض, وكان نوح عليه السلام يعبر1 عنهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، ب. وفي أ: "يغير". ج / 1 ص -29- لا تعلوها السيول, غير أن الناس يعلمون أن موضع البيت فيما هنالك, ولا يثبت موضعه. وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض، ويدعو عنده المكروب, فقل من دعا هنالك إلا استجيب له. وكان الناس يحجون إلى موضع البيت, حتى بوأ الله مكانه لابراهيم -عليه السلام- لما أراد من عمارة بيته وإظهار دينه وشرائعه, فلم يزل منذ أهبط الله آدم -عليه السلام- إلى الأرض معظمًا محرمًا بيته تتناسخه الأمم والملل, أمة بعد أمة وملة بعد ملة, قال: وقد كانت الملائكة تحجه قبل آدم عليه السلام. ما ذكر من تخير إبراهيم -عليه السلام- موضع البيت الحرام من الأرض: حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: بلغني -والله أعلم- أن إبراهيم خليل الله تعالى عرج به إلى السماء فنظر إلى الأرض مشارقها ومغاربها, فاختار موضع الكعبة فقالت له الملائكة: يا خليل الله, اخترت حرم الله تعالى في الأرض, قال: فبناه من حجارة سبعة أجبل قال: ويقولون: خمسة, وكانت الملائكة تأتي بالحجارة إلى إبراهيم من تلك الجبال. ج / 1 ص -30- باب ما جاء في إسكان إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه هاجر في بدء أمره عند البيت الحرام كيف كان: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثني سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثنا ابن أبي نجيح, عن مجاهد أن الله تعالى لما بوأ لإبراهيم مكان البيت, خرج إليه من الشام وخرج معه ابنه إسماعيل وأمه هاجر، وإسماعيل طفل يرضع, وحُملوا فيما يحدثني على البراق. قال عثمان بن ساج: وحدثنا عن الحسن البصري أنه كان يقول في صفة البراق عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه أتاني جبريل بدابة بين الحمار والبغل، لها جناحان في فخذيها تحفزانها, تضع حافرها في منتهى طرفها". قال عثمان: قال محمد بن إسحاق: ومعه جبريل عليه السلام يدله على موضع البيت ومعالم الحرم قال: فخرج وخرج معه لا يمر إبراهيم بقرية من القرى إلا قال: يا جبريل أبهذه أمرت؟ فيقول له جبريل -عليه السلام: امضه, حتى قدم مكة وهي آنذاك عضاه من سلم وسمر وبها ناس يقال لهم: العماليق, خارجًا من مكة فيما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة. فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم! قال: فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشًا ثم قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37]. ثم انصرف إلى الشام وتركهما عند البيت الحرام. وحدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج, عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي, عن سعيد بن جبير قال: حدثنا عبد الله بن عباس أنه حين كان بين أم إسماعيل بن إبراهيم وبين ج / 1 ص -31- سارة امرأة إبراهيم ما كان, أقبل إبراهيم -عليه السلام- بأم إسماعيل وإسماعيل وهو صغير ترضعه, حتى قدم بهما مكة, ومع أم إسماعيل شنة فيها ماء تشرب منها وتدر على ابنها, وليس معها زاد. يقول سعيد بن جبير: قال ابن عباس: فعمد بهما إلى دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد -يشير لنا بين البئر وبين الصفة- يقول: فوضعهما تحتها، ثم توجه إبراهيم خارجًا على دابته واتبعت أم إسماعيل أثره حتى أوفى إبراهيم بكدا. يقول ابن عباس: فقالت له أم إسماعيل: إلى من تتركها وابنها؟ قال: إلى الله عز وجل قالت: رضيت بالله. فرجعت أم إسماعيل تحمل ابنها حتى قعدت تحت الدوحة فوضعت ابنها إلى جنبها, وعلقت شنتها تشرب منها وتدر على ابنها حتى فني ماء شنتها فانقطع درها, فجاع ابنها فاشتد جوعه حتى نظرت إليه أمه يتشحط قال: فحسبت أم إسماعيل أنه يموت فأحزنها. يقول ابن عباس: قالت أم إسماعيل: لو تغيبت عنه حتى لا أرى موته، يقول ابن عباس: فعمدت أم إسماعيل إلى الصفا حين رأته مشرفًا تستوضح عليه -أي: ترى أحدًا بالوادي- ثم نظرت إلى المروة ثم قالت: لو مشيت بين هذين الجبلين تعللت, حتى يموت الصبي ولا أراه. قال ابن عباس: فمشت بينهما أم إسماعيل ثلاث مرات أو أربعا, ولا تجيز بطن الوادي في ذلك إلا رملًا. يقول ابن عباس: ثم رجعت أم إسماعيل إلى ابنها فوجدته ينشغ1 كما تركته فأحزنها, فعادت إلى الصفا تتعلل حتى يموت ولا تراه, فمشت بين الصفا والمروة كما مشت أول مرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 لدى ابن الأثير في النهاية: "النشغ: الشهيق حتى يكاد يبلغ به الغشي. ومنه حديث أم إسماعيل: "فإذا الصبي ينشغ للموت" وقيل: معناه: يمتص بفيه. ج / 1 ص -32- يقول ابن عباس: حتى كان مشيها بينهما سبع مرات، قال ابن عباس: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم: "فلذلك طاف الناس بين الصفا والمروة". قال: فرجعت أم إسماعيل تطالع ابنها فوجدته كما تركته ينشغ, فسمعت صوتًا فراث1 عليها ولم يكن معها أحد غيرها, فقالت: قد أسمع صوتك فأغثني إن كان عندك خير. قال: فخرج لها جبريل -عليه السلام- فاتبعته حتى ضرب برجله مكان البئر -يعني: زمزم- فظهر ماء فوق الأرض حيث فحص جبريل. يقول ابن عباس: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم: "فحاضته أم إسماعيل بتراب ترده؛ خشية أن يفوتها قبل أن تأتي بشنتها, فاستقت وشربت ودرت على ابنها". حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: بلغني أن ملكًا أتى هاجر أم إسماعيل حين أنزلها إبراهيم بمكة قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت, فأشار لها إلى البيت وهو ربوة حمراء مدرة فقال لها: هذا أول بيت وضع للناس في الأرض وهو بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه للناس. قال ابن جريج: وبلغني أن جبريل -عليه السلام- حين هزم2 بعقبه3 في موضع زمزم، قال لأم إسماعيل, وأشار لها إلى موضع البيت: هذا أول بيت وضع للناس، وهو بيت الله العتيق, واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه للناس ويعمرانه فلا يزال معمورًا محرمًا مكرمًا إلى يوم القيامة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، وهو الصواب. ولدى ابن الأثير في النهاية: "راث علينا خبر فلان يريث: إذا أبطأ" ومعه الحديث: "وعد جبريل -عليه السلام- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأتيه فراث عليه" ورواية أ: "قرأت" وفي ب: "آب". 2 لدى ابن الأثير في النهاية "هزم" وفيه: "إن زمزم هزمة جبريل" أي: ضربها برجله فنبع الماء. 3 تحرف في "أ، ب" إلى "بعقبة". ج / 1 ص -33- قال ابن جريج: فماتت أم إسماعيل قبل أن يرفعه إبراهيم وإسماعيل, ودفنت في موضع الحجر. حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني علي بن عبد الله بن الوازع, عن أيوب السختياني, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس أن الملك الذي أخرج زمزم لهاجر قال لها: وسيأتي أبو هذا الغلام فيبني بيتًا هذا مكانه, وأشار لها إلى موضع البيت ثم انطلق الملك. ما ذكر من نزول جرهم مع أم إسماعيل في الحرم: حدثني جدي, عن مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن جريج, عن كثير بن كثير, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أخرج الله ماء زمزم لأم إسماعيل فبينا هي على ذلك إذ مر ركب من جرهم, قافلين من الشام في الطريق السفلى, فرأى الركب الطير على الماء فقال بعضهم: ما كان بهذا الوادي من ماء ولا أنيس!. يقول ابن عباس: فأرسلوا جريين1 لهم حتى أتيا أم إسماعيل فكلماها ثم رجعا إلى ركبهما, فأخبراهم بمكانها. قال: فرجع الركب كلهم حتى حيوها فردت عليهم وقالوا: لمن هذا الماء؟ قالت أم إسماعيل: هو لي، قالوا لها: أتأذنين لنا أن ننزل معك عليه؟ قالت: نعم. يقول ابن عباس: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم: "ألفى2 ذلك أم إسماعيل وقد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 لدى ابن الأثير في النهاية: "جرا" وفي حديث أم إسماعيل: "فأرسلوا جريا" أي: رسولًا. 2 في أ، ب: "ألقى" بالقاف، والمثبت رواية الأصل وهي الصواب، وألفاه: وجده وصادفه. ج / 1 ص -34- أحبت الأنس فنزلوا وبعثوا إلى أهاليهم, فقدموا إليهم وسكنوا تحت الدوح، واعترشوا عليها العروش1 فكانت معهم هي وابنها، حتى ترعرع الغلام ونفسوا2 فيه وأعجبهم. وتوفيت أم إسماعيل وطعامهم الصيد يخرجون من الحرم, ويخرج معهم إسماعيل فيصيد، فلما بلغ أنكحوه جارية منهم، قال: وهي في كتاب المبتدأ عن عباد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق: اسم امرأة إسماعيل: عمارة بنت سعيد بن أسامة. يقول ابن عباس: فأقبل إبراهيم من الشام يقول: حتى أطالع تركتي, فأقبل إبراهيم -عليه السلام- حتى قدم مكة فوجد امرأة إسماعيل فسألها عنه فقالت: هو غائب، ولم تلن له في القول فقال لها إبراهيم: قولي لإسماعيل: قد جاء بعدك شيخ كذا وكذا وهو يقرئ عليك السلام ويقول لك: غير عتبة بيتك؛ فإني لم أرضها. يقول ابن عباس: وكان إسماعيل عليه السلام كلما جاء سأل أهله: هل جاءكم أحد بعدي؟ فلما رجع سأل أهله فقالت امرأته: قد جاء بعدك شيخ فنعتته له فقال لها إسماعيل: قلت له شيئًا؟ قالت: لا قال: فهل قال لك من شيء؟ قالت: نعم, أقرئي عليه السلام وقولي له: غير عتبة بيتك فإني لم أرضها لك, قال إسماعيل: أنت عتبة بيتي فارجعي إلى أهلك, فردها إسماعيل إلى أهلها فأنكحوه امرأة أخرى. يقول ابن عباس: ثم لبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث, ثم رجع إبراهيم فوجد إسماعيل غائبًا ووجد امرأته الآخرة3 فوقف فسلم فردت عليه السلام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أ، ب: "العرش" والمثبت رواية الأصل. 2 لدى ابن الأثير في النهاية: "نفس". وفي حديث إسماعيل -عليه السلام: "أنه تعلم العربية وأنفسهم" أي: أعجبهم, وصار عندهم نفيسًا. 3 كذا في الأصل أ، وفي ب: "الأخرى". ج / 1 ص -35- واستنزلته وعرضت عليه الطعام والشراب فقال: ما طعامكم وشرابكم؟ قالت: اللحم والماء قال: هل من حب أو غيره من الطعام؟ قالت: لا قال: بارك الله لكم في اللحم والماء. قال ابن عباس: يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو وجد عندها يومئذ حبا لدعا لهم بالبركة فيه, فكانت أرضًا ذات زرع". ثم ولى إبراهيم -عليه السلام- وقال: قولي له: قد جاء بعدك شيخ فقال: إني وجدت عتبة بيتك صالحة فاقررها, فرجع إسماعيل عليه السلام إلى أهله فقال: هل جاءكم بعدي أحد؟ قالت: نعم قد جاء بعدك شيخ كذا وكذا قال: فهل عهد إليكم من شيء؟ قالت: نعم يقول: اني وجدت عتبة بيتك صالحة فاقررها. ما ذكر من بناء إبراهيم -عليه السلام- الكعبة: حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي, قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن جريج, عن كثير بن كثير, عن سعيد بن جبير قال: حدثنا عبد الله بن عباس قال: لبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث, ثم جاء الثالثة فوجد إسماعيل -عليه السلام- قاعدًا تحت الدوحة التي بناحية البئر يبري نبلًا أو نبالًا له, فسلم عليه ونزل إليه فقعد معه, فقال إبراهيم: يا إسماعيل, إن الله تعالى قد أمرني بأمر فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك، فقال إبراهيم: يا إسماعيل, أمرني ربي أن أبني له بيتًا، قال له إسماعيل: وأين؟ يقول ابن عباس: فأشار له إلى أكمة مرتفعة على ما حولها عليها رضراض من حصباء, يأتيها السيل من نواحيها ولا يركبها. يقول ابن عباس: فقاما يحفران عن القواعد, ويحفرانها ويقولان: ربنا تقبل ج / 1 ص -36- منا إنك سميع الدعاء {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]. ويحمل له إسماعيل الحجارة على رقبته ويبني الشيخ إبراهيم, فلما ارتفع البناء وشق على الشيخ إبراهيم تناوله قرب له إسماعيل هذا الحجر -يعني المقام- فكان يقوم عليه ويبني ويحوله في نواحي البيت, حتى انتهى إلى وجه البيت. يقول ابن عباس: فلذلك سمي مقام إبراهيم لقيامه عليه. حدثني مهدي بن أبي المهدي، قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر, عن أيوب السختياني وكثير بن كثير -يزيد أحدهما على صاحبه- عن سعيد بن جبير في حديث حدث به, طويل عن ابن عباس قال: فجاء إبراهيم وإسماعيل يبري نبلًا له أو نباله تحت الدوحة قريبًا من زمزم, فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بولده, والولد بوالده. قال معمر: وسمعت رجلًا يقول: بكيا حتى أجابتهما الطير. قال سعيد: فقال: يا إسماعيل إن الله عز وجل قد أمرني بأمر قال: فأطع ربك فيما أمرك قال: وتعينني؟ قال: وأعينك قال: فإن الله تعالى قد أمرني أن أبني له بيتًا ههنا, فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت. حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، قال: أخبرني ابن جريج قال: قال مجاهد: أقبل إبراهيم والسكينة والصرد والملك من الشام فقالت السكينة: يا إبراهيم ربض علي البيت؛ فلذلك لا يطوف بالبيت ملك من هذه الملوك ولا أعرابي نافر إلا رأيت عليه السكينة قال: وقال ابن جريج: أقبلت معه السكينة لها رأس كرأس الهرة, وجناحان. وحدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن ابن جريج قال: قال علي بن أبي طالب: أقبل إبراهيم عليه السلام والملك والسكينة والصرد دليلًا حتى تبوأ البيت الحرام كما تبوأت العنكبوت بيتها, فحفر فأبرز عن ربض أمثال خلف الإبل لا يحرك الصخرة إلا ثلاثون رجلًا. قال: ثم قال لإبراهيم: "قم فابن لي بيتًا" قال: يا رب وأين؟ قال: "سنريك" ج / 1 ص -37- قال: فبعث الله تعالى سحابة فيها رأس يكلم1 إبراهيم, فقال: يا إبراهيم, إن ربك يأمرك أن تخط قدر هذه السحابة, فجعل ينظر إليها ويأخذ قدرها فقال له الرأس: أقد فعلت؟ قال: نعم, فارتفعت السحابة فأبرز عن أس ثابت من الأرض, فبناه إبراهيم عليه السلام. قال: وحدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن أبان, عن ابن إسحاق السبيعي, عن حارثة بن مضرب, عن علي بن أبي طالب في حديث حدث به عن زمزم قال: ثم نزلت السكينة كأنها غمامة أو ضبابة في وسطها كهيئة الرأس يتكلم يقول: يا إبراهيم,, خذ قدري من الأرض، لا تزد ولا تنقص، فخط فذلك بكة وما حواليه مكة. حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه أنه أخبر2 قال: لما ابتعث الله تعالى إبراهيم خليله ليبني له البيت, طلب الأساس الأول الذي وضع بنو آدم في موضع الخيمة التي عزى الله بها آدم -عليه السلام- من خيام الجنة حين وضعت له بمكة في موضع البيت الحرام, فلم يزل إبراهيم يحفر حتى وصل إلى القواعد التي أسس بنو آدم في زمانهم في موضع الخيمة، فلما وصل إليها أظل الله له مكان البيت بغمامة، فكانت حفاف البيت الأول، ثم لم تزل راكدة على حفافه تظل إبراهيم وتهديه مكان القواعد حتى رفع القواعد قامة, ثم انكشطت الغمامة فذلك قوله عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] أي: الغمامة التي ركدت على الحفاف ليهتدي بها مكان القواعد, فلم يزل والحمد لله منذ يوم رفعه الله معمورًا. حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني هاشم قال: أخبرنا حماد, عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، وفي أ: "يتكلم" وفي ب: "تكلم". 2 كذا في الأصل أ, وفي ب: "أخبره". ج / 1 ص -38- عن علي بن أبي طالب في قوله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96, 97] قال: إنه ليس بأول بيت, كان نوح في البيوت قبل إبراهيم, وكان إبراهيم في البيوت, ولكنه أول بيت وضع للناس {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} هذه الآيات قال: إن إبراهيم أمر ببناء البيت فضاق به ذرعًا فلم يدر كيف يبني, فأرسل الله تعالى إليه السكينة وهي ريح خَجُوج1 لها رأس حتى تطوقت مثل الحجفة فبنى عليها وكان يبني كل يوم سافا ومكة يومئذ شديدة الحر، فلما بلغ موضع الحجر قال لإسماعيل: اذهب فالتمس حجرًا أضعه ههنا؛ ليهدى الناس به. فذهب إسماعيل يطوف في الجبال وجاء جبريل بالحجر الأسود, وجاء إسماعيل فقال: من أين لك هذا الحجر؟ قال: من عند من لم يتكل على بنائي وبنائك. ثم انهدم فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته قبيلة من جرهم، ثم انهدم فبنته قريش. فلما أرادوا أن يضعوا الحجر تنازعوا فيه فقالوا: أول رجل يدخل علينا من هذا الباب فهو يضعه، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر بثوب فبسط ثم وضعه فيه, ثم قال: "ليأخذ من كل قبيلة رجل من ناحية الثوب" ثم رفعوه ثم أخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضعه. حدثني جدي قال: حدثني سفيان بن عيينة, عن بشر بن عاصم, عن سعيد بن المسيب قال: أخبرني علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- قال: أقبل إبراهيم من أرمينية معه السكينة تدله حتى تبوأ البيت كما تبوأت العنكبوت بيتها, فرفعوا عن أحجار الحجر يطيقه أو لا يطيقه ثلاثون رجلًا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 لدى ابن الأثير في النهاية "خجج". في حديث علي -رضي الله عنه- وذكر بناء الكعبة "فبعث الله السكينة، وهي ريح خجوج، فتطوقت بالبيت" يقال: ريح خجوج أي: شديدة المرور في غير استواء. ج / 1 ص -39- حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر, عن قتادة في قوله عز وجل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] قال: التي كانت قواعد البيت قبل ذلك، قال الخزاعي: وحدثناه أبو عبيد الله بإسناد عن سفيان مثله. حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني هاشم قال: حدثنا أبو عوانة, عن ابن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: أما والله ما بنياه بقصة ولا مدر ولا كان معهما من الأعوان والأموال ما يسقفانه, ولكنهما أعلماه فطافا به. حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن مجاهد عن الشعبي قال: لما أمر إبراهيم أن يبني البيت وانتهى إلى موضع الحجر قال لإسماعيل: ائتني بحجر ليكون علمًا للناس يبتدئون منه الطواف, فأتاه بحجر فلم يرضه فأتى إبراهيم بهذا الحجر ثم قال: أتاني به من لم يكلني على حجرك. وحدثني جدي, قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج, عن بشر بن عاصم قال: أقبل إبراهيم من أرمينية معه السكينة والملك والصرد دليلًا يتبوأ البيت كما تبوأت العنكبوت بيتها, فرفع صخرة فما رفعها عنه إلا ثلاثون رجلًا فقالت السكينة: ابن علي فلذلك لا يدخله أعرابي نافر ولا جبار إلا رأيت عليه السكينة. وحدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا بشر بن السري البصري, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن أبي قلابة قال: قال الله تعالى: "يا آدم, إني مهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي" فلم يزل كذلك حتى كان زمن الطوفان فرفع، حتى بوأ لإبراهيم مكانه فبناه من خمسة أجبل من حرا، وثبير، ولبنان، والطور، والجبل الأحمر. وحدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عمر بن سهل, عن يزيد بن ج / 1 ص -40- نافع, عن سعيد, عن قتادة في قوله عز وجل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ} [البقرة: 127] قال: ذكر لنا أنه بناه من خمسة أجبل من طور سينا، وطور زيتا، ولبنان، والجودي، وحرا، وذكر لنا أن قواعده من حراء. حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال: حدثنا العلاء, عن عمر بن مرة عن يوسف بن ماهك قال: قال عبد الله بن عمرو: إن جبريل -عليه السلام- هو الذي نزل عليه بالحجر من الجنة، وإنه وضعه حيث رأيتم، وإنكم لن تزالوا بخير ما دام بين ظهرانيكم، فتمسكوا به ما استطعتم, فإنه يوشك أن يجيء فيرجع به من حيث جاء به. حدثني جدي عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: لما أمر إبراهيم -خليل الله تعالى- أن يبني البيت الحرام أقبل من أرمينية على البراق معه السكينة لها وجه يتكلم، وهي بعد ريح هفافة، ومعه ملك يدله على موضع البيت حتى انتهى إلى مكة وبها إسماعيل, وهو يومئذ ابن عشرين سنة وقد توفيت أمه قبل ذلك ودفنت في موضع الحجر، فقال: يا إسماعيل, إن الله تعالى قد أمرني أن أبني له بيتًا، فقال له إسماعيل: وأين موضعه؟ قال: فأشار له الملك إلى موضع البيت قال: فقاما يحفران عن القواعد ليس معهما غيرهما, فبلغ إبراهيم الأساس أساس آدم الأول فحفر عن ربض في البيت, فوجد حجارة عظامًا ما يطيق الحجر منها ثلاثون رجلا، ثم بنى على أساس آدم الأول وتطوقت السكينة كأنها حية على الأساس الأول، وقالت: يا إبراهيم, ابن علي, فبنى عليها فلذلك لا يطوف بالبيت أعرابي نافر ولا جبار إلا رأيت عليه السكينة, فبنى البيت وجعل طوله في السماء تسعة أذرع وعرضه في الأرض اثنين وثلاثين ذراعًا من الركن الأسود إلى الركن الشامي الذي عند الحجر من وجهه, وجعل عرض ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي الذي فيه الحجر اثنين وعشرين ذراعًا، وجعل طول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني واحدا وثلاثين ذراعًا، ج / 1 ص -41- وجعل عرض شقها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعًا؛ فلذلك سميت الكعبة لأنها على خلقة الكعب. قال: وكذلك بنيان أساس آدم عليه السلام، وجعل بابها بالأرض غير مبوب حتى كان تبع أسعد الحميري هو الذي جعل لها بابًا وغلقًا فارسيًّا، وكساها كسوة تامة ونحر عندها. قال: وجعل إبراهيم -عليه السلام- الحجر إلى جنب البيت عريشًا من أراك تقتحمه العنز, فكان زربًا لغنم إسماعيل. قال: وحفر إبراهيم -عليه السلام- جُبًّا في بطن البيت على يمين من دخله يكون خزانة للبيت, يلقى فيه ما يهدى للكعبة, وهو الجب الذي نصب عليه عمرو بن لحي هبل الصنم الذي كانت قريش تعبده وتستقسم عنده بالأزلام حين جاء به من هيت من أرض الجزيرة. قال: وكان إبراهيم يبني وينقل له إسماعيل الحجارة على رقبته, فلما ارتفع البنيان قرب له المقام فكان يقوم عليه ويبني ويحوله إسماعيل في نواحي البيت, حتى انتهى إلى موضع الركن الأسود. قال إبراهيم لإسماعيل: يا إسماعيل, أبغني حجرًا أضعه ههنا يكون للناس علمًا يبتدئون منه الطواف. فذهب إسماعيل يطلب له حجرًا ورجع وقد جاءه جبريل بالحجر الأسود, وكان الله عز وجل استودع الركن أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح، وقال: "إذا رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له". قال: فجاءه إسماعيل فقال له: يا أبت, من أين لك هذا؟ قال: جاءني به من لم يكلني إلى حجرك, جاء به جبريل، فلما وضع جبريل الحجر في مكانه وبنى عليه إبراهيم وهو حينئذ يتلألأ تلألؤًا من شدة بياضه، فأضاء نوره شرقًا، وغربًا، ويمنًا، وشامًا، قال: فكان نوره يضيء إلى منتهى أنصاب الحرم ج / 1 ص -42- من كل ناحية من نواحي الحرم. قال: وإنما شدة سواده؛ لأنه أصابه الحريق مرة بعد مرة في الجاهلية، والإسلام. فأما حريقه في الجاهلية، فإنه ذهبت امرأة في زمن قريش تجمر الكعبة, فطارت شرارة في أستار الكعبة فاحترقت الكعبة واحترق الركن الأسود واسود وتوهنت الكعبة، فكان هو الذي هاج قريشًا على هدمها وبنائها. وأما حريقه في الإسلام ففي عصر ابن الزبير أيام حاصره الحصين بن نمير الكندي، احترقت الكعبة واحترق الركن فتفلق بثلاث فلق, حتى شعبه ابن الزبير بالفضة فسواده لذلك. قال: ولولا ما مس الركن من أنجاس الجاهلية وأرجاسها ما مسه ذو عاهة إلا شفي. قال سعيد بن سالم: قال ابن جريج: وكان ابن الزبير بنى الكعبة من الذرع على ما بناها إبراهيم عليه السلام قال: وهي مكعبة على خلقة الكعب؛ فلذلك سميت الكعبة. قال: ولم يكن إبراهيم سقف الكعبة ولا بناها بمدر, وإنما رضمها رضمًا1. حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: السكينة لها رأس كرأس الهرة، وجناحان. حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا بشر بن السري قال: حدثنا قيس بن الربيع, عن سلمة بن كهيل, عن أبي الأحوص, عن علي بن أبي طالب قال: السكينة لها رأس كرأس الإنسان, ثم هي بعد ريح هفَّافة. حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا الفزاري, عن جويبر عن الضحاك قال: السكينة: الرحمة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 لدى ابن الأثير في النهاية "رضم" الرضام: دون الهضاب، وقيل: صخور بعضها على بعض. ج / 1 ص -43- ذكر حج إبراهيم -عليه السلام- وأذانه بالحج وحج الأنبياء بعده، وطوافه وطواف الأنبياء بعده: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: لما فرغ إبراهيم -خليل الرحمن- من بناء البيت الحرام جاءه جبريل فقال: طف به سبعًا, فطاف به سبعًا هو وإسماعيل يستلمان الأركان كلها في كل طواف، فلما أكملا سبعًا هو وإسماعيل صليا خلف المقام ركعتين قال: فقام معه جبريل فأراه المناسك كلها: الصفا والمروة ومنى ومزدلفة وعرفة. قال: فلما دخل منى وهبط من العقبة تمثل له إبليس عند جمرة العقبة، فقال له جبريل: ارمه، فرماه إبراهيم بسبع حصيات فغاب عنه، ثم برز له عند الجمرة الوسطى فقال له جبريل: ارمه، فرماه بسبع حصيات فغاب عنه، ثم برز له عند الجمرة السفلى فقال له جبريل: ارمه، فرماه بسبع حصيات مثل حصى الخذف فغاب عنه إبليس. ثم مضى إبراهيم في حجه وجبريل يوقفه على المواقف ويعلمه المناسك حتى انتهى إلى عرفة، فلما انتهى إليها قال له جبريل: أعرفت مناسكك؟ قال إبراهيم: نعم قال: فسميت عرفات بذلك؛ لقوله: أعرفت مناسكك؟ قال: ثم أمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج قال: فقال إبراهيم: يا رب ما يبلغ صوتي قال الله سبحانه: "أذن وعلي البلاغ" قال: فعلا على المقام فأشرف به حتى صار أرفع الجبال وأطولها, فجمعت له الأرض يومئذ سهلها وجبلها وبرها وبحرها وإنسها وجنها, حتى أسمعهم جميعًا. قال: فأدخل إصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه1 يمنًا وشامًا وشرقًا وغربًا وبدأ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، ب. وفي أ: "يوجهه". ج / 1 ص -44- بشق اليمن فقال: أيها الناس, كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم، فأجابوه من تحت التخوم السبعة, ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أقطار الأرض كلها: لبيك اللهم لبيك قال: وكانت الحجارة على ما هي عليه اليوم, إلا أن الله عز وجل أراد أن يجعل المقام آية فكان أثر قدميه في المقام إلى اليوم قال: أفلا تراهم اليوم يقولون: لبيك اللهم لبيك؟ قال: فكل من حج إلى اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم, وإنما حجهم على قدر إجابتهم يومئذ. فمن حج حجتين فقد كان أجاب مرتين، أو ثلاثًا فثلاثًا على هذا, قال: وأثر قدمي إبراهيم في المقام آية وذلك قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]. وقال ابن إسحاق: وبلغني أن آدم -عليه السلام- كان استلم الأركان كلها قبل إبراهيم, وحجه إسحاق وسارة من الشام، قال: وكان إبراهيم -عليه السلام- يحجه كل سنة على البراق، قال: وحجت بعد ذلك الأنبياء والأمم. وحدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: حج إبراهيم وإسماعيل ماشيين. قال أبو محمد عبيد الله المخزومي: حدثنا ابن عيينة بإسناده مثله. حدثنا الأزرقي قال: وحدثني جدي قال: حدثنا يحيى بن سليم, عن ابن خيثم قال: سمعت عبد الرحمن بن سابط يقول: سمعت عبد الله بن ضمرة السلولي يقول: ما بين الركن إلى المقام إلى زمزم قبر تسعة وتسعين نبيًّا, جاءوا حجاجًا فقبروا هنالك. حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني هاشم, عن حماد بن سلمة, عن عطاء بن السائب, عن محمد بن سابط عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق بمكة ج / 1 ص -45- فيتعبد فيها النبي ومن معه حتى يموت، فمات بها نوح، وهود، وصالح, وشعيب، وقبورهم بين زمزم والحجر". وحدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن خصيف عن مجاهد أنه قال: حج موسى النبي على جمل أحمر فمر بالروحاء عليه عباءتان قطوانيتان, متزرا بإحداهما مرتديا بالأخرى, فطاف بالبيت، ثم طاف بين الصفا والمروة فبينا هو بين الصفا والمروة إذ سمع صوتًا من السماء وهو يقول: "لبيك عبدي أنا معك" فخر موسى ساجدًا. حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن خصيف عن مجاهد أنه قال: حج خمسة وسبعون نبيا كلهم قد طاف بالبيت, وصلى في مسجد منى, فإن استطعت أن لا تفوتك الصلاة في مسجد منى فافعل. حدثني جدي قال: حدثنا مروان بن معاوية, عن الأشعث بن سوار, عن عكرمة عن ابن عباس قال: صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا كلهم مخطمون بالليف. قال مروان بن معاوية: يعني: رواحلهم. حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرنا خصيف بن عبد الرحمن عن مجاهد أنه حدثه قال: لما قال إبراهيم: ربنا أرنا مناسكنا، أمر أن يرفع القواعد من البيت، ثم أري الصفا والمروة وقيل: هذا من شعائر الله. قال: ثم خرج به جبريل, فلما مر بجمرة العقبة إذا بإبليس عليها فقال جبريل: كبر وارمه, ثم ارتفع إبليس إلى الجمرة الوسطى فقال له جبريل: كبر وارمه, ثم ارتفع إبليس إلى الجمرة القصوى فقال له جبريل: كبر وارمه، ثم انطلق إلى المشعر الحرام ثم أتى به عرفة, فقال له جبريل: هل عرفت ما أريتك, ثلاث مرات؟ قال: نعم قال: فأذن في الناس بالحج قال: كيف أقول؟ قال: قل: يا أيها الناس أجيبوا ربكم ثلاث مرات, قال: فقالوا: لبيك ج / 1 ص -46- اللهم لبيك قال: فمن أجاب إبراهيم يومئذ فهو حاجّ. قال خصيف: قال مجاهد حين حدثني بهذا الحديث: أهل القدر لا يصدقون بهذا الحديث. حدثني جدي قال عثمان: وأخبرني موسى بن عبيدة قال: لما أُمر إبراهيم بالأذان في الناس بالحج استدار بالأرض فدعا في كل وجه: يا أيها الناس أجيبوا ربكم وحجوا قال: فلبى الناس من كل مشرق ومغرب, وتطأطأت الجبال حتى بعد صوته. قال عثمان: وأخبرني ابن جريج، قال: قال ابن عباس -رضوان الله عليه: {يَأْتُوكَ رِجَالًا}: مشاة, {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}: بعيد. قال غيره: {يَأْتُوكَ رِجَالًا}: مشاة على أرجلهم, {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}: لا يدخل الحرم بعير إلا وهو ضامر, {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}: بعيد. قال عطاء: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}: أبرزها لنا, وأعلمناها. وقال مجاهد: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}: مذابحنا. قال: وأخبرني عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثني بعض أهل العلم أن عبد الله بن الزبير قال لعبيد بن عمير الليثي: كيف بلغك أن إبراهيم -عليه السلام- دعا إلى الحج؟ قال: بلغني أنه لما رفع إبراهيم القواعد وإسماعيل وانتهى إلى ما أراد الله سبحانه من ذلك وحضر الحج, استقبل اليمن فدعا إلى الله عز وجل وإلى حج بيته, فأجيب أن: لبيك لبيك. ثم استقبل المشرق, فدعا إلى الله وإلى حج بيته فأجيب أن: لبيك لبيك، وإلى المغرب بمثل ذلك، وإلى الشام بمثل ذلك. ثم حج إسماعيل ومن معه من المسلمين من جرهم, وهم سكان الحرم يومئذ مع إسماعيل وهم أصهاره، وصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء بمنى, ثم بات بهم حتى أصبح وصلى بهم الغداة، ثم غدا بهم إلى ج / 1 ص -47- نمرة فقام بهم هنالك حتى إذا مالت الشمس جمع بين الظهر والعصر بعرفة في مسجد إبراهيم, ثم راح بهم إلى الموقف من عرفة فوقف بهم, وهو الموقف من عرفة الذي يقف عليه الإمام يريه ويعلمه. فلما غربت الشمس دفع به وبمن معه حتى أتى المزدلفة، فجمع بين الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة, ثم بات حتى إذا طلع الفجر صلى بهم صلاة الغداة، ثم وقف به على قزح من المزدلفة وبمن معه وهو الموقف الذي يقف به الإمام، حتى إذا أسفر غير مشرق دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف ترمى الجمار، حتى فرغ له من الحج كله، وأذن به في الناس. ثم انصرف إبراهيم راجعًا إلى الشام, فتوفي بها عليه السلام. قال عثمان: أخبرني ابن إسحاق قال: أمر الله -عز وجل- إبراهيم -عليه السلام- بالحج وإقامته للناس، وأراه مناسك البيت, وشرع له فرائضه. وكان إبراهيم يومئذ حين أمر بذلك ببيت المقدس من إيلياء. قال عثمان: وأخبرني زهير بن محمد قال: لما فرغ إبراهيم من البيت الحرام قال: أي رب, إني قد فعلت فأرنا مناسكنا, فبعث الله تعالى إليه جبريل فحج به حتى إذا جاء يوم النحر عرض له إبليس، فقال: احصب, فحصب بسبع حصبات, ثم الغد ثم اليوم الثالث فملأ ما بين الجبلين. ثم علا على ثبير، فقال: يا عباد الله أجيبوا ربكم, فسمع دعوته من بين الأبحر ممن في قلبه مثقال ذرة من ايمان, فقالوا: لبيك اللهم لبيك قال: ولم يزل على وجه الأرض سبعة من المسلمين فصاعدًا, لولا ذاك لأهلكت الأرض ومن عليها. قال عثمان: وأخبرني زهير بن محمد أن أول من أجاب إبراهيم حين أذن بالحج, أهل اليمن. ج / 1 ص -48- وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني عثمان بن الأسود عن عطاء بن أبي رباح أن موسى بن عمران طاف بين الصفا والمروة وعليه عباءة قطوانية وهو يقول: لبيك اللهم لبيك, فأجابه ربه -عز وجل: "لبيك يا موسى وها أنا معك". وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: حدثني غالب بن عبيد الله قال: سمعت مجاهدًا يذكر عن ابن عباس -رضوان الله عليه- قال: مر بصفاح الروحاء ستون نبيا، إبلهم مخطمة بالليف. قال عثمان: وأخبرني غالب بن عبيد الله قال: سمعت مجاهدًا يذكر عن ابن عباس قال: أقبل موسى -نبي الله تعالى- يلبي تجاوبه جبال الشام, على جمل أحمر, عليه عباءتان قطوانيتان1. قال عثمان: وأخبرني ابن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم, عن عروة بن الزبير أنه قال: بلغني أن البيت وضع لآدم -عليه السلام- يطوف به ويعبد الله عنده, وأن نوحًا قد حجه وجاءه وعظمه قبل الغرق, فلما أصاب الأرض الغرق حين أهلك الله قوم نوح أصاب البيت ما أصاب الأرض من الغرق, فكانت ربوة حمراء معروف مكانه, فبعث الله عز وجل هودًا إلى عاد فتشاغل بأمر قومه حتى هلك ولم يحجه, ثم بعث الله تعالى صالحًا عليه السلام إلى ثمود فتشاغل حتى هلك ولم يحجه، ثم بوأه الله -عز وجل- لإبراهيم فحجه, وعلم مناسكه، ودعا إلى زيارته، ثم لم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا حجه. قال عثمان: وأخبرني ابن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم, عن سعيد بن المسيب, عن رجل كان من أهل العلم أنه كان يقول: كأني أنظر إلى موسى بن عمران متهبطًا2 من هرشى [بين رابغ والأبواء]3 عليه عباءة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 لدى ابن الأثير في النهاية "قطا" فيه: "كأني أنظر إلى موسى بن عمران في هذا الوادي محرمًا بين قطوانيتين" القطوانية: عباءة بيضاء قصيرة الخمل. 2 كذا في الأصل, وفي سائر الأصول: "منهبطا" وتهبّط: انحدر في بطء. 3 ما بين حاصرتين من الأصل، وساقط من سائر الأصول. ولدى ابن الأثير في النهاية "هرش" ومنه ذكر "ثنية هرشى" وهي ثنية بين مكة والمدينة, وقيل: هرشى: جبل قرب الجحفة, ولدى ياقوت: "هرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة, ترى البحر". ج / 1 ص -49- قطوانية يلبي بحجه. قال عثمان: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن عباس -رضوان الله عليه- أنه كان يقول: لقد سلك فج الروحاء سبعون نبيًّا حجاجًا عليهم لباس الصوف, مخطمي إبلهم بحبال الليف، ولقد صلى في مسجد الخيف سبعون نبيًّا. حدثني جدي قال: قال عثمان بن ساج: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثني طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي أن موسى -عليه السلام- حين حج طاف بالبيت فلما خرج إلى الصفا لقيه جبريل عليه السلام فقال: يا صفي الله, إنه الشد, إذا هبطت بطن الوادي فاحتزم موسى نبي الله على وسطه بثوبه, فلما انحدر عن الصفا وبلغ بطن الوادي سعى وهو يقول: لبيك اللهم لبيك قال: يقول الله تعالى: "لبيك يا موسى, ها أنا ذا معك". قال عثمان: وأخبرني صادق أنه بلغه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد مر بفج الروحاء" -أو قال: "قد مر بهذا الفج- سبعون نبيا على نوق حمر خطمها الليف، ولبوسهم العباء، وتلبيتهم شتى، منهم يونس بن متى فكان يونس يقول: لبيك فراج الكرب لبيك، وكان موسى يقول: لبيك, أنا عبدك, لبيك، قال: وتلبية عيسى: لبيك, أنا عبدك ابن أمتك بنت عبديك, لبيك". قال عثمان: وأخبرني مقاتل قال: في المسجد الحرام بين زمزم والركن قبر سبعين نبيا, منهم: هود، وصالح، وإسماعيل، وقبر آدم، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف في بيت المقدس. حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه قال: خطب صالح الذين آمنوا معه فقال لهم: إن هذه دار قد سخط الله عليها وعلى أهلها فاظعنوا عنها؛ فإنها ليست لكم بدار قالوا: رأينا لرأيك ج / 1 ص -50- تبع فمرنا نفعل قال: تلحقون بحرم الله وأمنه لا أرى لكم دونه، فأهلوا من ساعتهم بالحج ثم أحرموا في العباء وارتحلوا قلصا حمرا مخطمة بحبال الليف, ثم انطلقوا آمين البيت الحرام حتى وردوا مكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا, فتلك قبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني هاشم. وكذلك فعل هود ومن آمن معه, وشعيب ومن آمن معه. وحدثني جدي, عن رجل من أهل العلم قال: حدثني محمد بن مسلم الرازي, عن جرير بن عبد الحميد الرازي, عن الفضل بن عطية, عن عطاء بن السائب أن إبراهيم -عليه السلام- رأى رجلًا يطوف بالبيت فأنكره فسأله: ممن أنت؟ قال: من أصحاب ذي القرنين قال: وأين هو؟ قال: هو ذا بالأبطح, فتلقاه إبراهيم "فاعتنقه"1 فقيل لذي القرنين: لم لا تركب؟ قال: ما كنت لأركب وهذا يمشي, فحج ماشيًا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ساقط من: أ. قوله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} وما جاء في ذلك: حدثنا أبو محمد قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن جريج قال: بلغنا أن اليهود قالت: بيت المقدس أعظم من الكعبة؛ لأنه مهاجر الأنبياء, ولأنه في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: الكعبة أعظم, فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فنزل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} حتى بلغ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 96, 97] وليس ذلك في بيت المقدس، {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وليس ذلك في بيت المقدس. ج / 1 ص -51- قال عثمان: وأخبرني خصيف قال: {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} قال: أول مسجد وُضع للناس. وقال مجاهد: {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} مثل قوله: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. قال عثمان: وأخبرني محمد بن أبان, عن زيد بن أسلم أنه قرأ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} حتى بلغ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}، قال: الآيات البينات هي: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، وقال: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]. وقال عثمان: وأخبرني محمد بن إسحاق أن قول الله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} أي: مسجد {مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين} وقال: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92]. قال عثمان: وأخبرني يحيى بن أبي أنيسة في قول الله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} قال: كان موضع الكعبة قد سماه الله عز وجل بيتًا قبل أن تكون الكعبة في الأرض, وقد بني قبله بيت ولكن الله سماه بيتًا، وجعله الله {مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} قبلة لهم. أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ما جاء في مسألة إبراهيم الأمن والرزق لأهل مكة -شرفها الله تعالى- والكتب التي وجد فيها تعظيم الحرم: حدثنا أبو الوليد قال: وأخبرني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني موسى بن عبيدة الربذي, عن محمد بن كعب القرظي قال: دعا إبراهيم -عليه السلام- للمؤمنين وترك الكفار لم يدع لهم بشيء, فقال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} [البقرة: 126]. ج / 1 ص -52- وقال زيد بن أسلم: سأل إبراهيم -عليه السلام- ذلك لمن آمن به ثم مصير الكافر إلى النار، قال عثمان: وأخبرني محمد بن السائب الكلبي قال: قال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126] فاستجاب الله عز وجل له, فجعله بلدًا آمنًا وأمن فيه الخائف, ورزق أهله من الثمرات تحمل إليهم من الأفق. قال عثمان: وقال مقاتل بن حيان: إنما اختص إبراهيم في مسألته في الرزق للذين آمنوا فقال تعالى: الذين كفروا سأرزقهم مع الذين آمنوا, ولكني أمتعهم قليلًا في الدنيا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير. قال عثمان: وقال مجاهد: جعل الله هذا البلد آمنًا, لا يخاف فيه من دخله. وحدثني جدي قال: حدثه إبراهيم بن محمد بن المنتشر قال: حدثني سعيد بن السائب بن يسار قال: سمعت بعض ولد نافع بن جبير بن مطعم وغيره يذكرون أنهم سمعوا أنه لما دعا إبراهيم لمكة أن يرزق أهله من الثمرات, نقل الله عز وجل أرض الطائف من الشام فوضعها هنالك رزقًا للحرم. حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد عن محمد بن المنكدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما وضع الله الحرم نقل إليه الطائف من الشام". حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا يحيى بن سليم قال: سمعت عبد الرحمن بن نافع بن جبير بن مطعم يقول: سمعت الزهري يقول: إن الله -عز وجل- نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم خليل الله قوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}. حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن جريج, عن كثير بن كثير عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: جاء إبراهيم يطالع إسماعيل -عليهما السلام- فوجده غائبًا ووجد امرأته الآخرة، وهي السيدة بنت مضاض بن ج / 1 ص -53- عمرو الجرهمي، فوقف فسلم فردت عليه السلام واستنزلته وعرضت عليه الطعام والشراب فقال: ما طعامكم وشرابكم؟ قالت: اللحم والماء، قال: هل من حَبّ أو غيره من الطعام؟ قالت: لا قال: بارك الله لكم في اللحم والماء. قال ابن عباس -رضوان الله عليه: يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو وجد عندها يومئذ حبًّا لدعا لهم بالبركة فيه، فكانت تكون أرضًا ذات زرع". حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن كثير بن كثير, عن سعيد بن جبير مثله وزاد فيه, قال سعيد بن جبير: ولا يخلى1 أحد على اللحم والماء في غير مكة إلا وجع بطنه, وإن أخلي عليهما بمكة لم يجد كذلك أذى. قال سعيد بن سالم: فلا أدري عن ابن عباس يحدث بذلك سعيد بن جبير أم لا يعني: قوله: ولا يخلى أحد على اللحم والماء بغير مكة إلا وجع بطنه. حدثني جدي, قال: حدثنا مسلم بن خالد, عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن ابن عباس رضوان الله عليهما قال: وجد في المقام كتاب: هذا بيت الله الحرام بمكة، توكل الله برزق أهله من ثلاث سبل، مبارك لأهله في اللحم والماء واللبن، لا يحله أول من أهله. ووجد في حجر في الحجر كتاب من خلقة الحجر: "أنا الله ذو بكة الحرام، وضعتها يوم صنعت الشمس والقمر, وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى تزول أخشباها, مبارك لأهلها في اللحم والماء". وحدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدثنا رشيد بن أبي كريب, عن أبيه عن ابن عباس رضوان الله عليه قال: لما هدموا الكعبة البيت وبلغوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 لدى ابن الأثير في النهاية "خلا" ومنه الحديث: "لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه" يعني الماء اللحم أي: ينفرد بهما. ج / 1 ص -54- أساس إبراهيم وجدوا في حجر من الأساس كتابًا فدعوا له رجلًا من أهل اليمن، وآخر من الرهبان، فإذا فيه: "أنا الله ذو بكة, حرمتها يوم خلقت السموات والأرض والشمس والقمر, ويوم صنعت هذين الجبلين وحففتها بسبعة أملاك حنفاء". حدثني جدي, عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج قال: وأخبرني ابن جريج قال: أخبرنا مجاهد قال: إن في حجر في الحجر: "أنا الله ذو بكة, صغتها يوم صغت الشمس والقمر, وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، مبارك لأهلها في اللحم والماء، يحلها أهلها ولا يحلها أول من أهلها, وقال: لا تزول حتى تزول الأخشبان" قال أبو محمد الخزاعي: الأخشبان يعني الجبلين. وأخبرني جدي عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني خصيف بن عبد الرحمن عن مجاهد قال: وجد في بعض الزبور: "أنا الله ذو بكة, جعلتها بين هذين الجبلين, وصغتها يوم صغت الشمس والقمر, وحففتها بسبعة أملاك حنفاء, وجعلت رزق أهلها من ثلاث سبل, فليس يؤتى أهل مكة إلا من ثلاث طرق: أعلى الوادي وأسفله وكدا1, وباركت لأهلها في اللحم والماء". حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان، قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير, عن أبيه عباد أنه حدثه أنهم وجدوا في بئر الكعبة في نقضها كتابين من صفر مثل بيض النعامة, مكتوب في أحدهما: هذا بيت الله الحرام, رزق الله أهله العبادة, لا يحله أول من أهله, والآخر: براءة لبني فلان حي من العرب, من حجه لله حجوها. حدثني جدي قال: قال عثمان: أخبرني ابن إسحاق أن قريشًا وجدت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تحرف في ب إلى: "كذا". ج / 1 ص -55- في الركن كتابًا بالسريانية فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من اليهود, فإذا هو: "أنا الله ذو بكة, خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر, وحففتها بسبعة أملاك حنفاء, لا تزول حتى يزول1 أخشباها, مبارك لأهلها في الماء واللبن". حدثني جدي قال: قال عثمان: أخبرني محمد بن إسحاق قال: زعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا حجرًا في الكعبة قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بأربعين حجة, وذلك عام الفيل إن كان ما ذكر لي حقا: من يزرع خيرًا يحصد غبطة، ومن يزرع شرًّا يحصد ندامة, تعملون السيئات وتجزون الحسنات, أجل كما لا يجتنى من الشوك العنب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أ، ب: "حتى تزول". ذكر ولاية بني إسماعيل بن إبراهيم الكعبة بعده، وأمر جرهم: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا مهدي بن أبي المهدي, حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر عن قتادة أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال لقريش: إنه كان ولاة هذا البيت قبلكم طسما, فاستخفوا بحقه، واستحلوا حرمته فأهلكهم الله ثم وليته بعدهم جرهم فاستخفوا بحقه فأهلكهم الله, فلا تهاونوا به وعظموا حرمته. حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن إسحاق قال: وُلِدَ لإسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- اثنا عشر رجلًا وأمهم السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي, فولدت له اثني عشر رجلًا: نابت بن إسماعيل، وقيدار بن إسماعيل، وواصل بن إسماعيل، وميَّاس بن إسماعيل، وطيما بن إسماعيل, ويطور بن إسماعيل، ونبش بن إسماعيل، ج / 1 ص -56- وقيدما بن إسماعيل. وكان عمر إسماعيل -فيما يذكرون- ثلاثين ومائة سنة, فمن نابت بن إسماعيل، وقيدار بن إسماعيل نشر الله العرب, وكان أكبرهم قيدار ونابت ابنا إسماعيل, ومنهما نشر الله العرب. وكان من حديث جرهم وبني إسماعيل أن إسماعيل لما توفي دفن مع أمه في الحجر، وزعموا أن فيه دفنت حين ماتت فولي البيت نابت بن إسماعيل ما شاء الله أن يليه، ثم توفي نابت بن إسماعيل, فولي البيت بعده مضاض بن عمرو الجرهمي وهو جد نابت بن إسماعيل أبو أمه, وضم بني نابت بن إسماعيل وبني إسماعيل إليه فصاروا مع جدهم أبي أمهم مضاض بن عمرو ومع أخوالهم من جرهم. وجرهم وقطورا يومئذ أهل مكة, وعلى جرهم مضاض بن عمرو ملكًا عليهم، وعلى قطورا رجل منهم يقال له: السميدع ملكًا عليهم, وكانا حين ظعنا من اليمن أقبلا سيارة، وكانوا إذا خرجوا من اليمن لم يخرجوا إلا ولهم ملك يقيم أمرهم. فلما نزلا مكة رأيا بلدًا طيبًا وإذا ماء وشجر فأعجبهما ونزلا به؛ فنزل مضاض بن عمرو بمن معه من جرهم أعلى مكة وقعيقعان فحاز ذلك, ونزل السميدع أجيادين وأسفل مكة فما حاز ذلك. وكان مضاض بن عمرو يعشر من دخل مكة من أعلاها، وكان السميدع يعشر من دخل مكة من أسفلها ومن كدا, وكل في قومه على حياله لا يدخل واحد منهما على صاحبه في ملكه. ثم إن جرهما وقطورا بغى بعضهم على بعض وتنافسوا الملك بها واقتتلوا بها حتى نشبت الحرب أو شبت الحرب بينهم على الملك, وولاة الأمر بمكة مع مضاض بن عمرو بنو نابت بن إسماعيل وبنو إسماعيل, وإليه ولاية البيت دون السميدع. فلم يزل بينهم البغي حتى سار بعضهم إلى بعض فخرج مضاض بن عمرو ج / 1 ص -57- من قعيقعان في كتيبة سائرًا إلى السميدع ومع كتيبته عدتها من الرماح، والدرق، والسيوف, والجعاب تقعقع ذلك معه, ويقال: ما سميت قعيقعان إلا بذلك وخرج السميدع بقطورا من أجياد معه الخيل والرجال ويقال: ما سمي أجياد أجيادًا إلا لخروج الخيل الجياد منه مع السميدع, حتى التقوا بفاضح فاقتتلوا قتالًا شديدًا فقتل السميدع وفضحت قطورا ويقال: ما سمي فاضح فاضحا إلا بذلك. ثم إن القوم تداعوا للصلح فساروا حتى نزلوا المطابخ شعبًا بأعلى مكة يقال له: شعب عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس فاصطلحوا بهذا الشعب وأسلموا الأمر إلى مضاض بن عمرو. فلما جمع إليه أمر أهل مكة وصار ملكها له دون السميدع نحر للناس وأطعمهم فأطبخ للناس, فأكلوا فيقال: ما سميت المطابخ مطابخ إلا بذلك. قال: فكان الذي كان بين مضاض بن عمرو والسميدع أول بغي كان بمكة فيما يزعمون, فقال مضاض بن عمرو الجرهمي: هي تلك الحرب يذكر السميدع، وقتله، وبغيه والتماسه ما ليس له: ونحن قتلنا سيد الحي عنوة فأصبح فيها وهو حيران موجع وما كان يبغي أن يكون سواؤنا بها ملكا حتى أتانا السميدع فذاق وبالا حين حاول ملكنا وعالج منا غصة تتجرع فنحن عمرنا البيت كنا ولاته نحامي عنه من أتانا وندفع وما كان يبغي أن يلي ذاك غيرنا ولم يكن حين قبلنا ثم نمنع وكنا ملوكًا في الدهور التي مضت ورثنا ملوكا لا ترام وتوضع قال ابن إسحاق: وقد زعم بعض أهل العلم إنما سميت المطابخ لما كان تبع نحر بها وأطعم بها وكانت منزله، قال: ثم نشر الله تعالى بني إسماعيل بمكة, وأخوالهم من جرهم إذ ذاك الحكام بمكة وولاة البيت, كانوا كذلك بعد نابت ج / 1 ص -58- ابن إسماعيل, فلما ضاقت عليهم مكة وانتشروا بها انبسطوا في الأرض وابتغوا المعاش والتفسح في الأرض فلا يأتون قومًا, ولا ينزلون بلدًا إلا أظهرهم الله -عز وجل- عليهم بدينهم فوطئوهم، وغلبوهم عليها حتى ملكوا البلاد ونفوا عنها العماليق ومن كان ساكنًا بلادهم التي كانوا اصطلحوا عليها من غيرهم, وجرهم على ذلك بمكة ولاة البيت, لا ينازعهم إياه بنو إسماعيل لخئولتهم وقرابتهم وإعظام الحرم أن يكون به بغي أو قتال. حدثني بعض أهل العلم قال: كانت العماليق هم ولاة الحكم بمكة, فضيعوا حرمة الحرم واستحلوا فيه أمورًا عظامًا ونالوا ما لم يكونوا ينالون, فقام رجل منهم يقال له: عموق فقال: يا قوم أبقوا على أنفسكم فقد رأيتم وسمعتم من هلك من صدر الأمم قبلكم قوم هود، وصالح، وشعيب فلا تفعلوا وتواصلوا, فلا تستخفوا بحرم الله وموضع بيته, وإياكم والظلم والإلحاد فيه فإنه ما سكنه أحد قط فظلم فيه وألحد إلا قطع الله دابرهم، واستأصل شأفتهم، وبدل أرضها غيرهم حتى لا يبقى لهم باقية. فلم يقبلوا ذلك منه وتمادوا في هلكة أنفسهم، قالوا: ثم إن جرهما وقطورا خرجوا سيارة من اليمن وأجدبت بلادهم عليهم فساروا بذراريهم ونعمهم1 وأموالهم وقالوا: نطلب مكانًا فيه مرعى تسمن فيه ماشيتنا, وإن أعجبنا أقمنا فيه, فإن كل بلاد ينزلها أحد ومعه ذريته وماله فهي وطنه, وإلا رجعنا إلى بلدنا. فلما قدموا مكة وجدوا فيها ماء طيبًا, وعضاهًا ملتفة من سلم وسمر, ونباتًا يسمن مواشيهم, وسعة من البلاد, ودفئا من البرد في الشتاء فقالوا: إن هذا الموضع يجمع لنا ما نريد فأقاموا مع العماليق. وكان لا يخرج من اليمن قوم إلا ولهم ملك يقيم أمرهم, وكان ذلك سنة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في ب. وفي الأصل: "وأنفسهم" وفي أ: "وألفتهم". ج / 1 ص -59- فيهم ولو كانوا نفرًا يسيرًا, فكان مضاض بن عمرو ملك جرهم والمطاع فيهم, وكان السميدع ملك قطورا. فنزل مضاض بن عمرو أعلى مكة وكان يعشر من دخلها من أعلاها, وكان حوزهم وجه الكعبة والركن الأسود والمقام وموضع زمزم مصعدًا يمينًا وشمالًا, وقعيقعان إلى أعلى الوادي. ونزل السميدع أسفل مكة وأجيادين, وكان يعشر من دخل مكة من أسفلها, وكان حوزهم المسفلة ظهر الكعبة والركن اليماني والغربي وأجيادين والثنية إلى الرمضة, فبنيا فيها البيوت واتسعا في المنازل وكثروا على العماليق. فنازعتهم العماليق فمنعتهم جرهم, وأخرجوهم من الحرم كله, فكانوا في أطرافه لا يدخلونه فقال لهم صاحبهم عموق: ألم أقل لكم لا تستخفوا بحرمة الحرم فغلبتموني، فجعل مضاض والسميدع يقطعان المنازل لمن ورد عليهما من قومهما, وكثروا وربلوا وأعجبتهم البلاد, وكانوا قومًا عربًا وكان اللسان عربيا. فكان إبراهيم خليل الله -عليه السلام- يزور إسماعيل -عليه السلام- فلما سمع لسانهم وإعرابهم سمع لهم كلامًا حسنًا ورأى قومًا عربًا, وكان إسماعيل قد أخذ بلسانهم, أمر إسماعيل أن ينكح فيهم, فخطب إلى مضاض بن عمرو ابنته رعلة فزوجه إياها, فولدت له عشرة ذكور وهي أم البيت, وهي زوجته التي غسلت رأس إبراهيم حين وضع رجله على المقام. قالوا: وتوفي إسماعيل ودفن في الحجر وكانت أمه قد دفنت في الحجر أيضًا, وترك ولدًا من رعلة بنة مضاض بن عمرو الجرهمي فقام مضاض بأمر ولد إسماعيل وكفلهم لأنهم بنو ابنته. فلم يزل أمر جرهم يعظم بمكة ويستفحل حتى ولوا البيت, وكانوا ولاته وحجابه وولاة الأحكام بمكة فجاء سيل فدخل البيت فانهدم, فأعادته جرهم ج / 1 ص -60- على بناء إبراهيم -عليه السلام- وكان طوله في السماء تسعة أذرع. وقال بعض أهل العلم: كان الذي بنى البيت لجرهم أبو الجدرة, فسمي عمرا الجادر وسموا بني الجدرة. قال: ثم إن جرهمًا استخفوا بأمر البيت والحرم، وارتكبوا أمورًا عظامًا، وأحدثوا فيها أحداثًا لم تكن, فقام مضاض بن عمرو بن الحارث فيهم فقال: يا قوم احذروا البغي1 فإنه لا بقاء لأهله, قد رأيتم من كان قبلكم من العماليق استخفوا بالحرم فلم يعظموه وتنازعوا بينهم, واختلفوا حتى سلطكم الله عليهم فأخرجتموهم فتفرقوا في البلاد, فلا تستخفوا بحق الحرم وحرمة بيت الله, ولا تظلموا من دخله وجاءه معظمًا لحرمته, أو آخر جاء بائعًا لسلعته أو مرتغبًا في جواركم فإنكم إن فعلتم ذلك تخوفت أن تخرجوا منه خروج ذل وصغار حتى لا يقدر أحد منكم أن يصل إلى الحرم, ولا إلى زيارة البيت الذي هو لكم حرز وأمن, والطير يأمن فيه. قال قائل منهم, يقال له مجدع: من الذي يخرجنا منه؟ ألسنا أعز العرب وأكثرهم رجالًا وسلاحًا؟ فقال مضاض بن عمرو: إذا جاء الأمر بطل ما تقولون, فلم يقصروا عن شيء مما كانوا يصنعون. وكان للبيت خزانة بئر في بطنه يلقى فيها الحلي والمتاع الذي يهدى له وهو يومئذ لا سقف له فتواعد له خمسة نفر من جرهم أن يسرقوا ما فيه, فقام على كل زاوية من البيت رجل منهم واقتحم الخامس فجعل الله عز وجل أعلاه أسفله, وسقط منكسًا فهلك وفر الأربعة الآخرون, فعند ذلك مسحت الأركان الأربعة. وقد بلغنا في الحديث أن إبراهيم خليل الله مسح الأركان الأربعة كلها أيضًا، وبلغنا في الحديث أن آدم مسح قبل ذلك الأركان الأربعة, فلما كان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل ب. وفي أ: "النغي". ج / 1 ص -61- من أمر هؤلاء الذين حاولوا سرقة ما في خزانة الكعبة ما كان, بعث الله حية سوداء الظهر، بيضاء البطن رأسها مثل رأس الجدي فحرست البيت خمسمائة سنة لا يقربه أحد بشيء من معاصي الله إلا أهلكه الله تعالى، ولا يقدر أحد أن يروم سرقة ما كان في الكعبة. فلما أرادت قريش بناء البيت منعتهم الحية هدمه, فلما رأوا ذلك اعتزلوا عند المقام ثم دعوا الله تعالى فقالوا: اللهم ربنا إنما أردنا عمارة بيتك, فجاء طير أسود الظهر، أبيض البطن, أصفر الرجلين فأخذها فاحتملها فجرها حتى أدخلها أجياد. وقال بعض أهل العلم: إن جرهمًا لما طغت في الحرم دخل رجل منهم وامرأة يقال لهما: إساف ونائلة البيت ففجرا فيه فمسخهما الله تعالى حجرين, فأخرجا من الكعبة فنصبا على الصفا والمروة ليعتبر بهما من رآهما, وليزدجر الناس عن مثل ما ارتكبا, فلم يزل أمرهما يدرس ويتقادم حتى صارا صنمين يعبدان. وقال بعض أهل العلم: إن عمرو بن لحي دعا الناس إلى عبادتهما وقال للناس: إنما نصبا ههنا ليعبدا, وإن آباءكم ومن قبلكم كانوا يعبدونهما, وإنما ألقاه إبليس عليه وكان عمرو بن لحي فيهم شريفًا سيدًا مطاعًا ما قال لهم فهو دين متبع. قال: ثم حولهما قصي بن كلاب بعد ذلك, فوضعهما يذبح عندهما وجاه الكعبة عند موضع زمزم. وقد اختلف علينا في نسبهما فقال قائل: إساف ابن بغا ونائلة بنت ذئب, فالذي ثبت عندنا من ذلك عمن نثق به منهم عبد الرحمن بن أبي الزناد كان يقول: هو أساف بن سهيل, ونائلة بنت عمرو بن ذئب. وقال بعض أهل العلم: إنه لم يفجر بها في البيت وإنما قبّلها، قالوا: فلم ج / 1 ص -62- يزالا يعبدان حتى كان يوم الفتح فكسرا. وكانت مكة لا يقر فيها ظالم، ولا باغٍ، ولا فاجر إلا نفي منها وكان نزلها بعهد العماليق وجرهم جبابرة فكل من أراد البيت بسوء أهلكه الله, فكانت تسمى بذلك الباسة. ويروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: سميت بكة؛ لأنها كانت تبكّ أعناق الجبابرة. وحدثني جدي قال: ويروى عن عبد الله بن الزبير أنه كان يقول: سمي البيت العتيق؛ لأنه عتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه. وروي عن عطاء بن يسار ومحمد بن كعب القرظي أنهما كانا يقولان: إنما سمي البيت العتيق؛ لقدمه. حدثني جدي وإبراهيم بن محمد الشافعي قالا: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن خيثم قال: كان بمكة حي يقال لهم: العماليق, فأحدثوا فيها أحداثًا فجعل الله تعالى يقودهم بالغيث ويسوقهم بالسنة، يضع الغيث أمامهم فيذهبون ليرجعوا فلا يجدون شيئًا فيتبعون الغيث حتى ألحقهم بمساقط رءوس آبائهم، وكانوا من حمير, ثم بعث الله -عز وجل- عليهم الطوفان. قال أبو خالد الزنجي: فقلت لابن خيثم: وما الطوفان؟ قال: الموت. حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي, عن عطاء عن ابن عباس -رضوان الله عليه- أنه كان بمكة حي يقال لهم: العماليق فكانوا في عزة وكثرة، وثروة, وكانت لهم أموال كثيرة من خيل، وإبل، وماشية وكانت ترعى بمكة وما حولها من مر، ونعمان وما حول ذلك، وكانت الخرف عليهم مظلة، والأربعة مغدقة، والأودية نجالا، والعضاه ملتفة, والأرض مبقلة, وكانوا في عيش رخي فلم يزل بهم البغي والإسراف على أنفسهم والإلحاد بالظلم وإظهار المعاصي والاضطهاد لمن قاربهم ولم يقبلوا ما ج / 1 ص -63- أوتوا بشكر الله حتى سلبهم الله تعالى ذلك, فنقصهم بحبس المطر عنهم، وتسليط الجدب عليهم, فكانوا يكرون بمكة الظل ويبيعون الماء, فأخرجهم الله تعالى من مكة بالذر سلطه عليهم حتى خرجوا من الحرم فكانوا حوله, ثم ساقهم الله بالجدب يضع الغيث أمامهم ويسوقهم بالجدب حتى ألحقهم الله تعالى بمساقط رءوس آبائهم وكانوا قومًا عربًا من حمير, فلما دخلوا بلاد اليمن تفرقوا وهلكوا, فأبدل الله تعالى الحرم بعدهم بجرهم, فكانوا سكانه حتى بغوا فيه واستخفوا بحقه, فأهلكهم الله عز وجل جميعًا. ما ذكر من ولاية خزاعة الكعبة بعد جرهم، وأمر مكة: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن الكلبي عن أبي صالح قال: لما طالت ولاية جرهم استحلوا من الحرم أمورًا عظاما ونالوا ما لم يكونوا ينالون واستخفوا بحرمة الحرم وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها سرا وعلانية, وكلما عدا سفيه منهم على منكر وجد من أشرافهم من يمنعه ويدفع عنه, وظلموا من دخلها من غير أهلها حتى دخل رجل منهم بامرأته الكعبة فيقال: فجر بها أو قبلها فمسخا حجرين, فرق أمرهم فيها وضعفوا وتنازعوا أمرهم بينهم واختلفوا, وكانوا قبل ذلك من أعز حي في العرب, وأكثرهم رجالًا وأموالًا وسلاحًا وأعز عزة. فلما رأى ذلك رجل منهم يقال له: مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو, قام فيهم خطيبًا فوعظهم وقال: يا قوم, أبقوا على أنفسكم وراقبوا الله في حرمه وأمنه, فقد رأيتم وسمعتم من هلك من صدر هذه الأمم قبلكم, قوم هود وقوم صالح وشعيب, فلا تفعلوا وتواصلوا, وتواصوا ج / 1 ص -64- بالمعروف وانتهوا عن المنكر, ولا تستخفوا بحرم الله تعالى وبيته الحرام، ولا يغرنكم1 ما أنتم فيه من الأمن والقوة فيه. وإياكم والإلحاد فيه بالظلم, فإنه بوار. وايم الله لقد علمتم أنه ما سكنه أحد قط فظلم فيه وألحد إلا قطع الله عز وجل دابرهم، واستأصل شأفتهم، وبدل أرضها غيرهم، فاحذروا البغي فإنه لا بقاء لأهله, قد رأيتم وسمعتم من سكنه قبلكم من طسم وجديس والعماليق ممن كانوا أطول منكم أعمارًا وأشد قوة، وأكثر رجالًا وأموالًا وأولادًا, فلما استخفوا بحرم الله وألحدوا فيه بالظلم أخرجهم الله منها بالأنواع الشتى, فمنهم من أخرج بالذر، ومنهم من أخرج بالجدب، ومنهم من أخرج بالسيف. وقد سكنتم مساكنهم وورثتم الأرض من بعدهم فوقروا حرم الله, وعظموا بيته الحرام, وتنزهوا عنه وعما فيه, ولا تظلموا من دخله وجاء معظمًا لحرماته, وآخر جاء بائعًا لسلعته أو مرتغبًا في جواركم، فإنكم إن فعلتم ذلك تخوفت أن تخرجوا من حرم الله خروج ذل وصغار, حتى لا يقدر أحد منكم أن يصل إلى الحرم, ولا إلى زيارة البيت الذي هو لكم حرز وأمن, والطير والوحوش تأمن فيه. فقال له قائل منهم يرد عليه يقال له مجذَّع: من الذي يخرجنا منه؟ ألسنا أعز العرب وأكثرهم رجالًا وسلاحًا؟ فقال له مضاض بن عمرو: إذا جاء الأمر بطل ما تقولون, فلم يقصروا عن شيء مما كانوا يصنعون. فلما رأى مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض ما تعمل جرهم في الحرم وما تسرق من مال الكعبة سرا وعلانية, عمد إلى غزالين كانا في الكعبة من ذهب وأسياف قلعية, فدفنها في موضع بئر زمزم وكان ماء زمزم قد نضب وذهب لما أحدثت جرهم في الحرم ما أحدثت حتى غبي مكان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في ب، وفي الأصل: "ولا يغركم" وفي أ: "ولا يغرنك". ج / 1 ص -65- البئر ودرس, فقام مضاض بن عمرو وبعض ولده في ليلة مظلمة فحفر في موضع زمزم وأعمق, ثم دفن فيه الأسياف والغزالين. فبينا هم على ذلك إذ كان من أمر أهل مأرب ما ذكر أنه ألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر الذي يقال له: مزيقياء بن ماء السماء وهو عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وكانت قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب, وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين, فباع عمرو بن عامر أمواله وسار هو وقومه من بلد إلى بلد لا يطئون بلدًا إلا غلبوا عليه وقهروا أهله حتى يخرجوا منه؛ ولذلك حديث طويل اختصرناه. فلما قاربوا مكة ساروا ومعهم طريفة الكاهنة, فقالت لهم: سيروا وأسيروا1 فلن تجتمعوا2 أنتم ومن خلفتم أبدًا فهذا لكم أصل وأنتم له فرع, ثم قالت: مه مه, وحق ما أقول ما علمني ما أقول إلا الحكيم المحكم رب جميع الإنس من عرب وعجم. فقالوا لها: ما شأنك يا طريفة؟ قالت: خذوا البعير فخضبوه بالدم تلون أرض جرهم جيران بيته المحرم، قال: فلما انتهى إلى مكة وأهلها جرهم وقد قهروا الناس وحازوا ولاية البيت على بني إسماعيل وغيرهم أرسل إليهم ثعلبة بن عمرو بن عامر: يا قوم إنا قد خرجنا من بلادنا فلم ننزل بلدًا إلا فسح أهلها لنا وتزحزحوا عنا فنقيم معهم حتى نرسل روادنا فيرتادوا لنا بلدًا يحملنا, فافسحوا لنا في بلادكم حتى نقيم قدر ما نستريح ونرسل روادنا إلى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في الأصل: "سيرا". 2 كذا في الأصل، ب. وفي أ: "فلن تجمعوا". ج / 1 ص -66- الشام وإلى الشرق فحيثما بلغنا أنه أمثل لحقنا به, وأرجو أن يكون مقامنا معكم يسيرًا. فأبت جرهم ذلك إباء شديدًا واستكبروا في أنفسهم وقالوا: لا والله, ما نحب أن تنزلوا معنا فتضيقوا علينا مراتعنا ومواردنا, فارحلوا عنا حيث أحببتم فلا حاجة لنا بجواركم، فأرسل إليهم ثعلبة أنه لا بد لي من المقام بهذا البلد حولا حتى يرجع إلي رسلي التي أرسلت, فإن تركتموني طوعًا نزلت وحمدتكم وواسيتكم في الرعي والماء، وإن أبيتم أقمت على كرهكم, ثم لم ترتعوا معي إلا فضلًا ولن تشربوا إلا رنقًا. سئل أبو الوليد عن الرنق فقال: الكدر من الماء, وأنشد لزهير: كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت من طيب الراح لما بعد أن غبقا سح السقاة على ناجودها شبما من ماء لينة لا طلقا ولا رنقا وإن قاتلتموني قاتلتكم, ثم إن ظهرت عليكم سبيت النساء، وقتلت الرجال ولم أترك أحدًا منكم ينزل الحرم أبدًا. فأبت جرهم أن تتركه طوعًا وتعبت لقتاله, فاقتتلوا ثلاثة أيام وأفرغ عليهم الصبر ومنعوا النصر ثم انهزمت جرهم, فلم ينفلت منهم إلا الشريد. وكان مضاض بن عمرو بن الحارث قد اعتزل جرهمًا ولم يعن جرهم في ذلك, وقال: قد كنت أحذركم هذا. ثم رحل هو وولده وأهل بيته حتى نزلوا قنونا وحلى وما حول ذلك فبقايا جرهم بها إلى اليوم وفنيت جرهم, أفناهم السيف في تلك الحرب. وأقام ثعلبة بمكة وما حولها في قومه وعساكره حولا فأصابتهم الحمى وكانوا في بلد لا يدرون فيه ما الحمى, فدعوا طريفة فأخبروها الخبر1، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في ب، وفي الأصل أ: "فدعوا طريفة الخبر". ج / 1 ص -67- فشكوا إليها الذي أصابهم, فقالت لهم: قد أصابني بؤس الذي تشكون1 وهو مفرق ما بيننا. قالوا: فماذا تأمرين؟ فقالت: فيكم ومنكم الأمير وعلي التسيير قالوا: فما تقولين؟ قالت: من كان منكم ذا هم بعيد، وجمل شديد، ومزاد جديد، فليلحق بقصر عمان المشيد, فكان أزد عمان. ثم قالت: من كان منكم ذا جلد وقصر وصبر على أزمات الدهر, فعليه بالأراك من بطن مر, فكانت خزاعة. ثم قالت: من كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل فكانت الأوس والخزرج. ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والملك والتأمير، وتلبس الديباج والحرير، فليلحق ببصرى وعوير -وهما من أرض الشام- فكان الذين سكنوهما آل جفنة من غسان. ثم قالت: من كان منكم يريد الثياب الرقاق, والخيل العتاق، وكنوز الأرزاق، والدم المهراق، فليلحق بأرض العراق, فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش ومن كان بالحيرة من غسان وآل محرق, حتى جاءهم روادهم فافترقوا من مكة فرقتين فرقة توجهت إلى عمان وهم أزد عمان. وسار ثعلبة بن عمرو بن عامر نحو الشام, فنزلت الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر وهم الأنصار بالمدينة, ومضت غسان فنزلوا بالشام ولهم حديث طويل اختصرناه. وانخزعت خزاعة بمكة فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو لحي, فولي أمر مكة وحجابة الكعبة. وقال حسان بن ثابت الأنصاري يذكر انخزاع خزاعة بمكة ومسير الأوس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في ب، وفي الأصل: "قد أصابوا الذي يشكون" وفي أ: "قد أصابوا بؤس الذي تشكون". ج / 1 ص -68- والخزرج إلى المدينة، وغسان إلى الشام: فلما هبطنا بطن مر تخزعت خزاعة منا في حلول كراكر حموا كل وادٍ من تهامة واحتموا بصم القنا والمرهفات البواتر فكان لها المرباع في كل غارة تشنّ بنجد والفجاج العوابر خزاعتنا أهل اجتهاد وهجرة وأنصارنا جند النبي المهاجر وسرنا فلما أن هبطنا بيثرب بلا وهن منا ولا بتشاجر وجدنا بها رزقًا عدامل بقيت وآثار عاد بالحلال الظواهر فحلت بها الأنصار ثم تبوأت بيثربها دارا على خير طاير بنو الخزرج الأخيار والأوس إنهم حموها بفتيان الصباح البواكر نفوا من طغا في الدهر عنها وذبّبوا يهودا بأطراف الرماح الخواطر وسارت لنا سيارة ذات قوة بكوم المطايا والخيول الجماهر ج / 1 ص -69- يؤمون نحو الشام حتى تمكنوا ملوكًا بأرض الشام فوق المنابر يصيبون فصل القول في كل خطبة إذا وصلوا أيمانهم بالمحاضر أولاك بنو ماء السماء توارثوا دمشقًا بملك كابرًا بعد كابر قال: فلما حازت خزاعة أمر مكة وصاروا أهلها, جاءهم بنو إسماعيل وقد كانوا اعتزلوا حرب جرهم وخزاعة فلم يدخلوا في ذلك فسألوهم السكنى معهم وحولهم فأذنوا لهم, فلما رأى ذلك مضاض بن عمرو بن الحارث وقد كان أصابه من الصبابة إلى مكة ما أحزنه, أرسل إلى خزاعة يستأذنها في الدخول عليهم والنزول معهم بمكة في جوارهم ومتّ إليهم برأيه وتوريعه قومه عن القتال وسوء السيرة في الحرم واعتزاله الحرب, فأبت خزاعة أن تقررهم ونفتهم عن الحرم كله ولم يتركوهم ينزلون معهم فقال عمرو بن لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر لقومه: من وجد منكم جرهميا قد قارب الحرم فدمه هدر. فنزعت إبل لمضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي من قنونا تريد مكة فخرج في طلبها حتى وجد أثرها قد دخلت مكة, فمضى على الجبال من نحو أجياد, حتى ظهر على أبي قبيس يتبصر الإبل في بطن وادي مكة فأبصر الإبل تنحر وتؤكل لا سبيل له إليها, فخاف إن هبط الوادي أن يقتل فولى منصرفًا إلى أهله وأنشأ يقول: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر ولم يتربع واسطا فجنوبه إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر بلى نحن كنا أهلها فأزالنا صروف الليالي والجدود العواثر ج / 1 ص -70- وبدلنا ربي بها دار غربة بها الذيب يعوي والعدو المحاصر فإن تملأ الدنيا علينا بكلها وتصبح حال بعدنا وتشاجر فكنا ولاة البيت من بعد نابت نطوف بهذا البيت والخير ظاهر ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا فليس لحي غيرنا ثم فاخر فأنكح جدي خير شخص علمته فأبناؤنا منه ونحن الأصاهر فأخرجنا منها المليك بقدرة كذلك حال الناس تجري المقادر أقول إذا نام الخلي ولم أنم إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر وبدلت منهم أوجها لا أحبها وحمير قد بدلتها واليحابر وصرنا أحاديثًا وكنا بغبطة كذلك عضتنا السنون الغوابر فسحَّت دموع العين تبكي لبلدة بها حرم أمن وفيها المشاعر بوادٍ أنيس ليس يؤذى حمامه ولا منفرا يومًا وفيها العصافر وفيها وحوش لا تراب أنيسة إذا خرجت منها فما أن تغادر فيا ليت شعري هل تعمر بعدنا جياد فممضى سيله فالظواهر فبطن منى وحش كأن لم يسر به مضاض ومن حبي عدي عماير وقال أيضًا: يا أيها الحي سيروا إن قصركم أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا إنا كنا كنتمو كنا فغيرنا دهر فسوف كما صرنا تصيرونا أرجوا المطي وأرخوا من أزمتها قبل الممات وقضّوا ما تقضونا قد مال دهر علينا ثم أهلكنا بالبغي فيه وند الناس ناسونا إن التفكر لا يجري بصاحبه عند البديهة في علم له دونا ج / 1 ص -71- قضوا أموركم بالحزم إن لها أمور رشد رشدتم ثم مسنونا واستخبروا في صنيع الناس قبلكم كما استبان طريق عنده الهونا كنا زمانًا ملوك الناس قبلكم بمسكن في حرام اللّه مسكونا قال: فانطلق مضاض بن عمرو نحو اليمن إلى أهله وهم يتذاكرون ما حال بينهم وبين مكة, وما فارقوا من أمنها وملكها, فحزنوا على ذلك حزنًا شديدًا, فبكوا على مكة وجعلوا يقولون الأشعار في مكة. واحتازت خزاعة بحجابة الكعبة وولاية أمر مكة, وفيهم بنو إسماعيل بن إبراهيم بمكة وما حولها, لا ينازعهم أحد منهم في شيء من ذلك ولا يطلبونه. فتزوج لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر, فهيرة بنت عامر بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي ملك جرهم, فولدت له عمرًا وهو عمرو بن لحي, وبلغ بمكة وفي العرب من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده في الجاهلية. وهو الذي قسم بين العرب في حطمة حطموها عشرة آلاف ناقة وكان قد أعور عشرين فحلا وكان الرجل في الجاهلية إذا ملك ألف ناقة فقأ عين فحل إبله, فكان قد فقأ عين عشرين فحلا، وكان أول من أطعم الحاج بمكة سدايف الإبل ولحمانها على الثريد وعم في تلك السنة جميع حاج العرب بثلاثة أثواب من برود اليمن, وكان قد ذهب شرفه في العرب كل مذهب, وكان قوله فيهم دينًا متبعًا لا يخالف, وهو الذي بحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحام وسيب السائبة ونصب الأصنام حول الكعبة، وجاء بهبل من هيت من أرض الجزيرة فنصبه في بطن الكعبة فكانت قريش والعرب تستقسم عنده بالأزلام، وهو أول من غير الحنيفية دين إبراهيم -عليه السلام- وكان أمره بمكة في العرب مطاعًا لا يعصى. ج / 1 ص -72- وكان بمكة رجل من جرهم على دين إبراهيم وإسماعيل وكان شاعرًا, فقال لعمرو بن لحي حين غير الحنيفية: يا عمرو لا تظلم بمكة, إنها بلد حرام سائل بعاد أين هم وكذاك تحترم الأنام وبني العماليق الذين لهم بها كان السوام فزعموا أن عمرو بن لحي أخرج ذلك الجرهمي من مكة, فنزل بأطم من أعراض مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو الشام فقال الجرهمي وقد تشوق إلى مكة: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة وأهلي1 معًا بالمأزمين حلول وهل أرين العيس تنفخ في البرا لها بمنى والمأزمين ذميل منازل كنا أهلها لم تحل بنا أزمان بها فيما أراه تحول مضى أولونا راضين بشأنهم جميعًا وغالتني بمكة غول قال: فكان عمرو بن لحي يلي البيت وولده من بعده خمسمائة سنة, حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو, فتزوج إليه قصي ابنته حبى بنة حليل, وكانوا هم حجابه وخزانه والقوام به وولاة الحكم بمكة, وهو عامر لم يخرب فيه خراب ولم تبن خزاعة فيه شيئًا بعد جرهم ولم تسرق منه شيئًا علمناه ولا سمعنا به, وترافدوا على تعظيمه والذب عنه, وقال في ذلك عمرو بن الحارث بن عمرو الغبشاني: نحن وليناه فلم نغشه وابن مضاض قائم يهشه يأخذ ما يهدى له يفشه نترك مال اللّه ما نمشه حدثني محمد بن يحيى, قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران قال: خرج أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي قبيل الإسلام في نفر من قريش يريدون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، ب. وفي أ: "وأهل". ج / 1 ص -73- اليمن, فأصابهم عطش شديد ببعض الطريق وأمسوا على غير الطريق فساروا جميعًا, فقال لهم أبو سلمة: إني أرى ناقتي تنازعني شقا أفلا أرسلها وأتبعها؟ قالوا: فافعل, فأرسل ناقته وتبعها فأصبحوا على ماء وحاضر فاستقوا وسقوا, فإنهم لعلى ذلك إذ أقبل إليهم رجل فقال: من القوم؟ فقالوا: من قريش قال: فرجع إلى شجرة فقام أمام الماء فتكلم عندها بشيء ثم رجع إلينا فقال: لينطلقن أحدكم معي إلى رجل يدعوه. قال أبو سلمة: فانطلقت معه فوقف بي تحت شجرة فإذا وكر معلق قال: فصوَّت به يا أبه يا أبه, قال: فزعزع شيخ رأسه فأجابه، قال: هذا الرجل قال لي: من الرجل؟ قلت: من قريش قال: من أيها؟ قلت: من بني مخزوم بن يقظة قال: أيهم؟ قلت: أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة قال: أيهات منك أنا ويقظة سن, أتدري من يقول: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأزالنا صروف الدهر والجدود العواثر؟ قلت: لا قال: أنا قائلها, أنا عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي, أتدري لم سمي أجياد أجيادًا؟ قلت: لا قال: جادت بالدماء يوم التقينا نحن وقطورا, أتدري لم سمي قعيقعان "قعيقعان"1؟ قلت: لا قال: لتقعقع السلاح في ظهورنا لما طلعنا عليهم منه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 من ب. ج / 1 ص -74- باب ما جاء في ولاية قصي بن كلاب البيت الحرام, وأمر مكة بعد خزاعة, وما ذكر من ذلك: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن ابن جريج وعن ابن إسحاق -يزيد أحدهما على صاحبه- قالا: أقامت خزاعة على ما كانت عليه من ولاية البيت والحكم بمكة ثلاثمائة سنة, وكان بعض التبابعة قد سار إليه وأراد هدمه وتخريبه, فقامت دونه خزاعة فقاتلت عليه أشد القتال حتى رجع ثم آخر فكذلك, وأما التبع الثالث الذي نحر له وكساه وجعل له غلقًا وأقام عنده أيامًا ينحر كل يوم مائة بدنة, لا يرزأ هو ولا أحد من أهل عسكره شيئًا منها يردها الناس في الفجاج والشعاب, فيأخذون منها حاجتهم ثم تقع عليها الطير فتأكل, ثم تنتابها السباع إذا أمست لا يرد عنها إنسان ولا طير ولا سبع ثم رجع إلى اليمن, إنما كان في عهد قريش. فلبثت خزاعة على ما هي عليه وقريش إذ ذاك في بني كنانة متفرقة, وقد قدم في بعض الزمان حاج قضاعة فيهم ربيعة بن حرام بن ضبة بن عبد بن كبير بن عذرة بن سعد بن زيد, وقد هلك كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وترك زهرة وقصيا ابني كلاب مع أمهما فاطمة بنت عمرو بن سعد بن سيل، وسعد بن سيل الذي يقول فيه الشاعر وكان أشجع أهل زمانه: لا أرى في الناس شخصًا واحدًا فاعلموا ذاك كسعد بن سيل فارس أضبط فيه عسرة فإذا ما عاين القرن نزل فارس يستدرج الخيل كما يدرج الحر القطامي الحجل وزهرة أكبرهما, فتزوج ربيعة بن حرام أمهما وزهرة رجل بالغ وقصي فطيم أو في سن الفطيم, فاحتملها ربيعة إلى بلادهم من أرض عذرة من ج / 1 ص -75- أشراف الشام, فاحتملت معها قصيا لصغره وتخلف زهرة في قومه, فولدت فاطمة بنة عمرو بن سعد لربيعة: رزاح بن ربيعة, فكان أخا قصي بن كلاب لأمه, ولربيعة بن حرام من امرأة أخرى ثلاثة نفر: حن، ومحمود، وجلهمة بنو ربيعة. فبينا قصي بن كلاب في أرض قضاعة لا ينتمي إلا إلى ربيعة بن حرام, إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء وقصي قد بلغ فقال له القضاعي: ألا تلحق بنسبك وقومك فإنك لست منا؟ فرجع قصي إلى أمه وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي, فسألها عما قال له فقالت: والله أنت يا بني خير منه وأكرم, أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة, وقومك عند البيت الحرام وما حوله. فأجمع قصي للخروج إلى قومه واللحاق بهم, وكره الغربة في أرض قضاعة, فقالت له أمه: يا بني لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام فتخرج في حاج العرب, فإني أخشى عليك. فأقام قصي حتى دخل الشهر الحرام, وخرج في حاج قضاعة حتى قدم مكة, فلما فرغ من الحج أقام بها, وكان قصي رجلًا جليدًا حازمًا بارعًا, فخطب إلى حليل بن حبشية بن سلول الخزاعي ابنته حبى بنة حليل, فعرف حليل النسب ورغب في الرجل فزوجه, وحليل يومئذ يلي الكعبة وأمر مكة. فأقام قصي معه حتى ولدت حبى لقصي عبد الدار وهو أكبر ولده، وعبد مناف, وعبد العزى، وعبدًا بني قصي. فكان حليل يفتح البيت, فإذا اعتل أعطى ابنته حبى المفتاح ففتحته, فإذا اعتلت أعطت المفتاح زوجها قصيا أو بعض ولدها فيفتحه. وكان قصي يعمل في حيازته إليه وقطع ذكر خزاعة عنه، فلما حضرت حليلا الوفاة نظر إلى قصي، وإلى ما انتشر له من الولد من ابنته, فرأى أن ج / 1 ص -76- يجعلها في ولد ابنته, فدعا قصيا فجعل له ولاية البيت وأسلم إليه المفتاح, وكان يكون عند حبى، فلما هلك حليل أبت خزاعة أن تدعه وذاك, وأخذوا المفتاح من حبى فمشى قصي إلى رجال من قومه من قريش وبني كنانة ودعاهم إلى أن يقوموا معه في ذلك, وأن ينصروه ويعضدوه, فأجابوه إلى نصره. وأرسل قصي إلى أخيه لأمه رزاح بن ربيعة وهو ببلاد قومه من قضاعة يدعوه إلى نصره, ويعلمه ما حالت خزاعة بينه وبين ولاية البيت, ويسأله الخروج إليه بمن أجابه من قومه, فقام رزاح في قومه فأجابوه إلى ذلك, فخرج رزاح بن ربيعة ومعه إخوته من أبيه: حن ومحمود وجلهمة بنو ربيعة بن حرام فيمن تبعهم من قضاعة في حاج العرب, مجتمعين لنصر قصي والقيام معه. فلما اجتمع الناس بمكة خرجوا إلى الحج فوقفوا بعرفة وبجمع, ونزلوا منى وقصي مجمع على ما أجمع عليه من قتالهم بمن معه من قريش، وبني كنانة، ومن قدم عليه مع أخيه رزاح من قضاعة, فلما كان آخر أيام منى أرسلت قضاعة إلى خزاعة يسألونهم أن يسلموا إلى قصي ما جعل له حليل, وعظموا عليهم القتال في الحرم وحذروهم الظلم والبغي بمكة وذكروهم ما كانت فيه جرهم وما صارت إليه حين ألحدوا فيه بالظلم والبغي, فأبت خزاعة أن تسلم ذلك, فاقتتلوا بمفضى مأزمي منى قال: فسمي ذلك المكان المفجر لما فجر فيه وسفك فيه من الدماء وانتهك من حرمته, فاقتتلوا قتالًا شديدًا حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعًا, وفشت فيهم الجراحات, وحاج العرب جميعًا من مضر واليمن مستكفون ينظرون إلى قتالهم. ثم تداعوا إلى الصلح ودخلت قبائل العرب بينهم, وعظموا على الفريقين سفك الدماء والفجور في الحرم, فاصطلحوا على أن يحكِّموا بينهم رجلًا من العرب فيما اختلفوا فيه, فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ج / 1 ص -77- الليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة, وكان رجلًا شريفًا, فقال لهم: موعدكم فناء الكعبة غدًا فاجتمع إليه الناس وعدوا القتلى فكانت في خزاعة أكثر منها في قريش وقضاعة وكنانة, وليس كل بني كنانة قاتل مع قصي, إنما كانت مع قريش من بني كنانة قلال يسير1، واعتزلت عنها بكر بن عبد مناة قاطبة. فلما اجتمع الناس بفناء الكعبة قام يعمر بن عوف فقال: ألا إني قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدمي هاتين, فلا تباعة لأحد على أحد في دم, وإني قد حكمت لقصي بحجابة الكعبة وولاية أمر مكة دون خزاعة لما جعل له حليل, وأن يخلى بينه وبين ذلك, وأن لا تخرج خزاعة عن مساكنها من مكة؛ قال: فسمي يعمر من ذلك اليوم الشداخ. فسلمت ذلك خزاعة لقصي وعظموا سفك الدماء في الحرم, وافترق الناس فولي قصي بن كلاب حجابة الكعبة وأمر مكة وجمع قومه من قريش من منازلهم وإلى مكة يستعز بهم, وتملك على قومه فملكوه، وخزاعة مقيمة بمكة على رباعهم وسكناتهم لم يحركوا ولم يخرجوا منها, فلم يزالوا على ذلك حتى الآن. وقال قصي في ذلك, وهو يتشكر لأخيه رزاح بن ربيعة2: أنا ابن العاصمين بني لؤي بمكة مولدي وبها ربيت ولي البطحاء قد علمت معد ومروتها رضيت بها رضيت وفيها وفيها كانت الآباء قبلي فما شويت أخي ولا شويت فلست لغالب أن لم تأثل بها أولاد قيدر والنبيت رزاح ناصري وبه أسامي فلست أخاف ضيمًا ما حييت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، أ. وفي ب: "قبائل يسيرة". 2 الروض الأنف 1/ 237، شفاء الغرام 2/ 110. ج / 1 ص -78- فكان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكًا، وأطاع له به قومه, فكانت إليه الحجابة والرفادة والسقاية والندوة واللواء والقيادة, فلما جمع قصي قريشًا بمكة سمي مجمعًا, وفي ذلك يقول حذافة بن غانم الجمحي يمدحه1: أبوهم قصي كان يدعى مجمعًا به جمع اللّه القبائل من فهر هم نزلوها والمياه قليلة وليس بها إلا كهول بني عمرو يعني: خزاعة. قال إسحاق بن أحمد: وزادني أبو جعفر محمد بن الوليد بن كعب الخزاعي2: أقمنا بها والناس فيها قلائل وليس بها إلا كهول بني عمرو هم ملكوا3 البطحاء مجدًا وسؤددا وهم طردوا عنها غواة بني بكر وهم حفروها والمياه قليلة ولم يستقى إلا بنكد من الحفر حليل الذي عادى كنانة كلها ورابط بيت اللّه في العسر واليسر أحازم إما أهلكن فلا تزل لهم شاكرا حتى توسد في القبر ويقال: من أجل تجمع قريش إلى قصي سميت قريش قريشًا، قال أبو الوليد: وأنشدني عبد العزيز بن إسماعيل الحلبي في التقرش, وهو الاجتماع4: أيجدي كثحنا للطعان إذا اقترش القنا وتقعقع الحجف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شفاء الغرام 2/ 110. 2 شفاء الغرام 2/ 110. 3 كذا في الأصل أ, ومثله في شفاء الغرام 2/ 110. وفي ب "ملئوا" ومثله في الروض الأنف 1/ 234. 4 كذا في الأصل ب, وفي أ: "الإجماع". ج / 1 ص -79- ولبعضهم: قوارش بالرماح كان فيها شواطن ينتزعن به انتزاعا والتجمع: التقرش في بعض كلام العرب, ويقال: كان يقال لقصي: القرشي ولم يسم قرشي قبله. ويقال أيضًا: إن النضر بن كنانة كان يسمى القرشي. وقد قيل أيضًا: إنما سميت قريش قريشًا أنها كانت تجارًا تكتسب وتتجر وتحترش, فشبهت بحوت في البحر. حدثني أبو الحسن الوليد بن أبان الرازي, عن علي بن جعفر بن محمد, عن أبيه قال: قيل لابن عباس: لم سميت قريش قريشًا؟ قال: بأمر بين مشهور بدابة في البحر تسمى قريش, والدليل على ذلك قول تبع حين يقول: وقريش هي التي تسكن البحر بها سميت قريش قريشا تأكل الغث والسمين ولا تترك فيه لذي جناحين ريشا هكذا في البلاد حتى قريش يأكلون البلاد أكلا كشيشا ولهم آخر الزمان نبي يكثر القتل فيهم والخموشا ثم رجع إلى حديث ابن جريج ومحمد بن إسحاق قال: فحاز قصي شرف مكة وأنشأ دار الندوة, وفيها كانت قريش تقضي أمورها, ولم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصي إلا ابن أربعين سنة للمشورة, وكان يدخلها ولد قصي كلهم أجمعون وحلفاؤهم, فلما كبر قصي ورق كان عبد الدار بكره وأكبر ولده وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه وذهب شرفه كل مذهب, وعبد الدار وعبد العزى وعبد بنو قصي بها لم يبلغوا ولا أحد من قومهم من قريش ما بلغ عبد مناف من الذكر والشرف والعز. وكان قصي وحبى بنة حليل يحبان عبد الدار, ويرقان عليه لما يريان عليه من ج / 1 ص -80- شرف عبد مناف وهو أصغر منه فقالت له حبى: لا والله لا أرضى حتى تخص عبد الدار بشيء تلحقه بأخيه, فقال قصي: والله لألحقنه به ولأحبونه بذروة الشرف حتى لا يدخل أحد من قريش ولا غيرها الكعبة إلا بإذنه ولا يقضون أمرًا ولا يعقدون لواء إلا عنده, وكان ينظر في العواقب. فأجمع قصي على أن يقسم أمور مكة الستة التي فيها الذكر، والشرف، والعز بين ابنيه؛ فأعطى عبد الدار السدانة وهي الحجابة, ودار الندوة، واللواء، وأعطى عبد مناف السقاية، والرفادة، والقيادة. فأما السقاية فحياض من أدم كانت على عهد قصي توضع بفناء الكعبة, ويسقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل, ويسقاه الحاج. وأما الرفادة فخرج كانت قريش تخرجه من أموالها في كل موسم, فتدفعه إلى قصي يصنع به طعامًا للحاج, يأكله من لم يكن معه سعة ولا زاد. فلما هلك قصي أقيم أمره في قومه بعد وفاته على ما كان عليه في حياته, وولي عبد الدار حجابة البيت، وولاية دار الندوة، واللواء فلم يزل يليه حتى هلك, وجعل عبد الدار الحجابة بعده إلى ابنه عثمان بن عبد الدار، وجعل دار الندوة إلى ابنه عبد مناف بن عبد الدار. فلم يزل بنو عبد مناف بن عبد الدار يلون الندوة دون ولد عبد الدار, فكانت قريش إذا أرادت أن تشاور في أمر فتحها لهم عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار أو بعض ولده أو ولد أخيه، وكانت الجارية إذا حاضت أدخلت دار الندوة ثم شق عليها بعض ولد عبد مناف بن عبد الدار درعها ثم درَّعها إياه, وانقلب بها أهلها فحجبوها, وكان عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار يسمى محيضًا، وإنما سميت دار الندوة لاجتماع النداة فيها يندونها, يجلسون فيها لإبرام أمرهم وتشاورهم. ولم يزل بنو عثمان بن عبد الدار يلون الحجابة دون ولد عبد الدار ثم ج / 1 ص -81- وليها عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، ثم وليها أبو طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، ثم وليها ولده من بعده حتى كان فتح مكة فقبضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أيديهم وفتح الكعبة ودخلها, ثم خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكعبة مشتملًا على المفتاح فقال له العباس بن عبد المطلب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, أعطنا الحجابة مع السقاية, فأنزل الله -عز وجل- على نبيه -صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: فما سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل تلك الساعة, فتلاها ثم دعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح وقال: "غيبوه" ثم قال: "خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله سبحانه، واعملوا فيها بالمعروف خالدة تالدة, لا ينزعها من أيديكم إلا ظالم". فخرج عثمان بن طلحة إلى هجرته مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقام ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة فلم يزل يحجب هو وولده وولد أخيه وهب بن عثمان, حتى قدم ولد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة وولد مسافع بن طلحة بن أبي طلحة من المدينة, وكانوا بها دهرًا طويلًا, فلما قدموا حجبوا مع بني عمهم, فولد أبي طلحة جميعًا يحجبون. وأما اللواء فكان في أيدي بني عبد الدار كلهم, يليه منهم ذوو السن والشرف في الجاهلية, حتى كان يوم أحد فقُتل عليه من قُتل منهم. وأما السقاية، والرفادة، والقيادة فلم تزل لعبد مناف بن قصي يقوم بها حتى توفي, فولي بعده هاشم بن عبد مناف السقاية والرفادة, وولي عبد شمس بن عبد مناف القيادة, وكان هاشم بن عبد مناف يطعم الناس في كل موسم بما يجتمع عنده من ترافد قريش, كان يشتري بما يجتمع عنده دقيقًا ويأخذ من كل ذبيحة من بدنة أو بقرة أو شاة فخذها فيجمع ذلك كله ثم يحرز به الدقيق ويطعمه الحاج, فلم يزل على ذلك من أمره حتى أصاب الناس في سنة جدب شديد, فخرج هاشم بن عبد مناف إلى الشام فاشترى بما اجتمع عنده ج / 1 ص -82- من ماله دقيقًا وكعكًا, فقدم به مكة في الموسم فهشم ذلك الكعك ونحر الجزور1 وطبخه وجعله ثريدًا, وأطعم الناس وكانوا في مجاعة شديدة حتى أشبعهم, فسمي بذلك هاشمًا وكان اسمه عمرا, ففي ذلك يقول ابن الزبعرى السهمي2: كانت قريش بيضة فتفلقت فالمح3 خالصها لعبد مناف الرايشين وليس يوجد رايش والقائلين هلم للأضياف والخالطين غنيهم بفقيرهم حتى يعود فقيرهم كالكاف والضاربين الكيس تبرق بيضه والمانعين البيض بالأسياف عمرو العلا هشم الثريد لمعشر كانوا بمكة مسنتين عجاف يعني بعمرو العلا: هاشمًا. فلم يزل هاشم على ذلك حتى توفي, وكان عبد المطلب يفعل ذلك فلما توفي عبد المطلب, قام بذلك أبو طالب في كل موسم حتى جاء الإسلام وهو على ذلك، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أرسل بمال يعمل به الطعام مع أبي بكر -رضي الله عنه- حين حج أبو بكر بالناس سنة تسع, ثم عمل في حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع, ثم أقام أبو بكر في خلافته ثم عمر -رضي الله عنه- في خلافته, ثم الخلفاء هلم جرا حتى الآن4. وهو طعام الموسم الذي تطعمه الخلفاء اليوم في أيام الحج بمكة وبمنى, حتى تنقضي أيام الموسم. وأما السقاية فلم تزل بيد عبد مناف, فكان يسقي الماء من بئر رم، وبئر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل ب, ومثله في شفاء الغرام 2/ 111. وفي أ: "الجزر" والجزور: ما يصلح لأن يذبح من الإبل, وجمعه: جزر. 2 شفاء الغرام 2/ 141. 3 المح: خالص كل شيء, وما في جوف البيضة من صفرة، أو من صفرة وبياض. 4 شفاء الغرام 2/ 141. ج / 1 ص -83- خم1 على الإبل في المزاد والقرب, ثم يسكب ذلك الماء في حياض من أدم بفناء الكعبة, فيرده الحاج حتى يتفرقوا. فكان يستعذب ذلك الماء, وقد كان قصي حفر بمكة آبارًا وكان الماء بمكة عزيزًا إنما يشرب الناس من آبار خارجة من الحرم, فأول ما حفر قصي بمكة حفر بئرًا يقال لها: العجول, كان موضعها في دار أم هانئ بنت أبي طالب بالحزورة, وكانت العرب إذا قدمت مكة يردونها فيسقون منها ويتراجزون عليها, قال قائل فيها2: أروى من العجول ثمت انطلق إن قصيا قد وفى وقد صدق بالشبع للحي وري المغتبق وحفر قصي أيضًا بئرًا عند الردم الأعلى عند دار أبان بن عثمان التي كانت لآل جحش بن رئاب ثم دثرت, فنثلها جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وأحياها, ثم حفر هاشم بن عبد مناف بذّر, وقال حين حفرها: لأجعلنها للناس بلاغًا وهي البئر التي في حق المقوم بن عبد المطلب في ظهر دار الطلوب مولاة زبيدة بالبطحاء, في أصل المستنذر وهي التي يقول فيها بعض ولد هاشم: نحن حفرنا بذر بجانب المستنذر نسقي الحجيج الأكبر3 وحفر هاشم أيضًا سجلة4 وهي البئر التي يقال لها: بئر جبير بن مطعم, دخلت في دار القوارير, فكانت سجلة لهاشم بن عبد مناف, فلم تزل لولده حتى وهبها أسد بن هاشم للمطعم بن عدي حين حفر عبد المطلب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في شفاء الغرام 2/ 141. وفي الأصول: "بئر كرادم وبئر خمّ" ورم: بئر في ضواحي مكة، وكذلك خم: بئران حفرهما عبد شمس بن عبد مناف "ياقوت". 2 شفاء الغرام 2/ 142. 3 شفاء الغرام 2/ 142. 4 سجلة: كانت برباط السدرة, كما ذكر الفاسي. ج / 1 ص -84- زمزم واستغنوا عنها، ويقال: وهبها له عبد المطلب حين حفر عبد المطلب زمزم واستغنى عنها وسأله المطعم بن عدي أن يضع حوضًا من أدم إلى جانب زمزم يسقى فيه من ماء بئره, فأذن له في ذلك وكان يفعل، فلم يزل هاشم بن عبد مناف يسقي الحاج حتى توفي, فقام بأمر السقاية بعده عبد المطلب بن هاشم فلم يزل كذلك حتى حفر زمزم فعفت على آبار مكة كلها، وكان منها مشرب الحاج، قال: وكانت لعبد المطلب إبل كثيرة, فإذا كان الموسم جمعها ثم يسقي لبنها بالعسل في حوض من أدم عند زمزم, ويشتري الزبيب فينبذه بماء زمزم ويسقيه الحاج لأن1 يكسر غلظ ماء زمزم, وكانت إذ ذاك غليظة جدا، وكان الناس إذ ذاك لهم في بيوتهم أسقية يسقون فيها الماء من هذه البئار, ثم ينبذون فيها القبضات من الزبيب والتمر لأن يكسر عنهم غلظ ماء آبار مكة, وكان الماء العذب بمكة عزيزًا لا يوجد إلا لإنسان يستعذب له من بئر ميمون وخارج من مكة، فلبث عبد المطلب يسقي الناس حتى توفي2. فقام بأمر السقاية بعده العباس بن عبد المطلب فلم تزل في يده, وكان للعباس كرم بالطائف وكان يحمل زبيبه إليها, وكان يداين أهل الطائف ويقتضي منهم الزبيب فينبذ ذلك كله ويسقيه الحاج أيام الموسم حتى ينقضي في الجاهلية وصدر الإسلام حتى دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة يوم الفتح, فقبض السقاية من العباس بن عبد المطلب والحجابة من عثمان بن طلحة. فقام العباس بن عبد المطلب فبسط يده وقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمع لنا الحجابة والسقاية, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أعطيكم ما ترزءون فيه ولا ترزءون منه". فقام بين عضادتي باب الكعبة فقال: "ألا إن كل دم أو مال أو مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي هاتين إلا سقاية الحاج وسدانة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 لدى الفاسي 2/ 143: "لأنه". 2 شفاء الغرام 2/ 143. ج / 1 ص -85- الكعبة, فإني قد أمضيتهما لأهلهما على ما كانتا عليه في الجاهلية" فقبضها العباس فكانت في يده حتى توفي, فوليها بعده عبد الله بن العباس -رضي الله عنه- فكان يفعل فيها كفعله دون بني عبد المطلب. وكان محمد بن الحنفية قد كلم فيها ابن عباس فقال له ابن عباس: ما لك ولها؟ نحن أولى بها منك في الجاهلية والإسلام، قد كان أبوك تكلم فيها فأقمت البينة [وشهد لي] طلحة بن عبيد الله، وعامر بن ربيعة، وأزهر بن عبد عوف، ومخرمة بن نوفل أن العباس بن عبد المطلب كان يليها في الجاهلية بعد عبد المطلب وجدك أبا طالب في إبله في باديته بعرنة, وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاها العباس يوم الفتح دون بني عبد المطلب, فعرف ذلك من حضر1. فكانت بيد عبد الله بن عباس بعد أبيه ولا ينازعه فيها منازع، ولا يتكلم فيها متكلم حتى توفي فكانت بيد علي بن عبد الله بن عباس يفعل فيها كفعل أبيه وجده, يأتيه الزبيب من ماله بالطائف وينبده حتى توفي, وكانت بيد ولده حتى الآن2. وأما القيادة فوليها من بني عبد مناف، عبد شمس بن عبد مناف, ثم وليها من بعده أمية بن عبد شمس، ثم من بعده حرب بن أمية, فقاد بالناس يوم عكاظ في حرب قريش وقيس عيلان، وفي الفجارين: الفجار الأول والفجار الثاني, وقاد الناس قبل ذلك بذات نكيف في حرب قريش وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة, والأحابيش يومئذ مع بني بكر تحالفوا3 على جبل يقال له: الحبشي على قريش فسموا الأحابيش بذلك4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شفاء الغرام 2/ 144, وما بين حاصرتين منه. 2 شفاء الغرام 2/ 144. 3 كذا في الأصل ب, ومثله في شفاء الغرام. وفي أ: "يحالفوا". 4 شفاء الغرام 2/ 144. ج / 1 ص -86- ثم كان أبو سفيان بن حرب يقود قريشًا بعد أبيه حتى كان يوم بدر فقاد الناس عتبة بن ربيعة بن عبد شمس, وكان أبو سفيان بن حرب في العير يقود الناس, فلما أن كان يوم أحد قاد الناس أبو سفيان بن حرب وقاد الناس يوم الأحزاب, وكانت آخر وقعة لقريش وحرب, حتى جاء الله بالإسلام وفتح مكة1. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شفاء الغرام 2/ 144. أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ما جاء في انتشار ولد إسماعيل, وعبادتهم الحجارة, وتغيير الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن إسحاق أن بني إسماعيل وجرهم من ساكني مكة ضاقت عليهم مكة فتفسحوا في البلاد والتمسوا المعاش, فيزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم إلا احتملوا معهم1 من حجارة الحرم تعظيمًا للحرم وصبابة بمكة وبالكعبة حيثما حلوا وضعوه فطافوا به كالطواف بالكعبة, حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم من حجارة الحرم خاصة، حتى خلفت الخلوف بعد الخلوف ونسوا ما كانوا عليه,واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم من الضلالات وانتحوا2 ما كان يعبد قوم نوح منها على إرث ما كان بقي فيهم من ذكرها وفيهم على ذلك بقايا من عهد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل أ، ومثله في شفاء الغرام. وفي ب: "إلا احتمل معه". 2 كذا في الأصل, وتحت حاء الكلمة علامة الإهمال للتأكيد, ومثله في أ، وشفاء الغرام. وفي ب: "انتجسوا". ج / 1 ص -87- إبراهيم وإسماعيل يتمسكون1 بها من تعظيم البيت والطواف به, والحج والعمرة, والوقوف على عرفة ومزدلفة, وهدي البدن، والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه2. وكان أول من غير دين إبراهيم وإسماعيل ونصب الأوثان وسيب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحام: عمرو بن لحي3. حدثنا جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن جريج قال: قال عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه -يعني: أمعاءه- في النار, على رأسه فروة" فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من في النار؟" قال: من بيني وبينك من الأمم". وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هو أول من جعل البحيرة والسائبة والوصيلة والحام, ونصب الأوثان حول الكعبة، وغير الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل أ, ومثله في شفاء الغرام. وفي ب: "يتنسكون". 2 شفاء الغرام 2/ 35, 36. 3 شفاء الغرام 2/ 36. باب ما جاء في أول من نصب الأصنام في الكعبة, والاستقسام بالأزلام: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي أحمد بن محمد قال: حدثنا سعيد بن سالم القداح, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: إن البئر التي كانت في جوف الكعبة، كانت على يمين من دخلها وكان عمقها ثلاثة أذرع, يقال: إن إبراهيم وإسماعيل حفراها ليكون فيها ما يهدى للكعبة, فلم تزل كذلك حتى كان عمرو بن لحي فقدم بصنم ج / 1 ص -88- يقال له: هبل من هيت من أرض الجزيرة، وكان هبل من أعظم أصنام قريش عندها, فنصبه على البئر في بطن الكعبة وأمر الناس بعبادته, فكان الرجل إذا قدم من سفر بدأ به على أهله بعد طوافه بالبيت وحلق رأسه عنده، وهبل الذي يقول له أبو سفيان يوم أحد: اعل هبل أي: أظهر دينك, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "الله أعلى وأجل". وكان اسم البئر التي في بطن الكعبة الأخسف, وكانت العرب تسميها الأخشف. قال محمد بن إسحاق: كان عند هبل في الكعبة سبعة قداح, كل قدح منها فيه كتاب؛ قدح فيه العقل إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة عليهم, فعلى من خرج حمله وقدح فيه نعم للأمر إذا أرادوه يضرب به في القداح, فإن خرج قدح فيه نعم عملوا به، وقدح فيه لا فإذا أرادوا الأمر ضربوا به في القداح فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه منكم وقدح فيه ملصق وقدح فيه من غيركم وقدح فيه المياه, فإذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح, فحيثما خرج عملوا به1. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلامًا أو2 ينكحوا منكحًا أو يدفنوا ميتًا أو شكوا في نسب أحد, ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها, ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا: يا إلهنا, هذا فلان أردنا به كذا وكذا, فأخرج الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب, فإن خرج عليه منكم كان منهم وسطًا3, وإن خرج عليه من غيركم كان حليفًا, وإن خرج عليه ملصق كان ملصقًا على منزلته فيهم لا نسب له ولا حلف, وإن خرج عليه شيء مما سوى هذا مما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ابن هشام 1/ 152. 2 كذا في الأصل ب. وفي أ: "أن". 3 كذا في الأصل، ومثله لدى الفاسي في شفاء الغرام 2/ 444 وهو ينقل عن المصنف وفي أ، ب: "وسيطًا". ج / 1 ص -89- يعملون به نعم عملوا به, وإن خرج لا, أخروه عامه ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى ينتهون في أمرهم ذلك إلى ما خرجت به القداح, وبذلك فعل عبد المطلب بابنه حين أراد أن يذبحه1. وقال محمد بن إسحاق: كان هبل من خرز2 العقيق على صورة إنسان, وكانت يده اليمنى مكسورة فأدركته قريش فجعلت له يدًا من ذهب, وكانت له خزانة للقربان، وكانت له سبعة قداح يضرب بها على الميت والعذرة والنكاح, وكان قربانه مائة بعير وكان له حاجب, وكانوا إذا جاءوا هبل بالقربان ضربوا بالقداح, وقالوا: إنا اختلفنا فهب السراحا ثلاثة يا هبل فصاحا الميت والعذرة والنكاحا والبرء في المرضى والصحاحا إن لم تقله فمر القداحا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شفاء الغرام 2/ 444. 2 كذا في الأصول، ولدى الفاسي وهو ينقل عن المصنف: "حجر". باب ما جاء في أول من نصب الأصنام, وما كان من كسرها: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: حدثني محمد بن إسحاق أن جرهمًا لما طغت في الحرم دخل رجل منهم بامرأة منهم الكعبة ففجر بها, ويقال: إنما قبلها فيها فمسخا حجرين, اسم الرجل: إساف بن بغا، واسم المرأة: نائلة بنت ذئب, فأخرجا ج / 1 ص -90- من الكعبة, فنصب أحدهما على الصفا والآخر على المروة، وإنما نصبا هنالك ليعتبر بهما الناس ويزدجروا عن مثل ما ارتكبا لما يرون من الحال التي صارا إليها, فلم يزل الأمر يدرس ويتقادم حتى صارا يمسحان, يتمسح بهما من وقف على الصفا والمروة, ثم صارا وثنين يعبدان، فلما كان عمرو بن لحي أمر الناس بعبادتهما والتمسح بهما, وقال للناس: إن من كان قبلكم كان يعبدهما. فكانا كذلك حتى كان قصي بن كلاب فصارت إليه الحجابة وأمر مكة فحولهما من الصفا والمروة, فجعل أحدهما بلصق الكعبة وجعل الآخر في موضع زمزم, ويقال: جعلهما جميعًا في موضع زمزم, وكان ينحر عندهما, وكان أهل الجاهلية يمرون بإساف ونائلة ويتمسحون بهما, وكان الطائف إذا طاف بالبيت يبدأ بإساف فيستلمه, فإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة فاستلمها. فكانا كذلك حتى كان يوم الفتح, فكسرهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع ما كسر من الأصنام. حدثني محمد بن يحيى المديني, عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى, عن ابن حزم عن عمرة أنها قالت: كان إساف ونائلة رجلًا وامرأة فمسخا حجرين, فأخرجا من جوف الكعبة وعليهما ثيابهما, فجعل أحدهما بلصق الكعبة والآخر عند زمزم. وكان يطرح بينهما ما يهدى للكعبة، ويقال: إن ذلك الموضع كان يسمى الحطيم, وإنما نصبا هنالك ليعتبر بهما الناس. فلم يزل أمرهما يدرس حتى جعلا وثنين يعبدان, وكانت ثيابهما كلما بليت أخلفوا لهما ثيابًا ثم أخذ الذي بلصق الكعبة فجعل مع الذي عند زمزم, وكانوا يذبحون عندهما, ولم تكن تدنو منهما امرأة طامث, ففي ذلك يقول الشاعر بشر بن أبي حازم الأسدي أسد خزيمة: عليه الطير ما يدنون منه مقامات العوارك من إساف حدثني جدي, قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: ج / 1 ص -91- أخبرني ابن إسحاق, عن عبد الله بن أبي بكر, عن علي بن عبد الله بن عباس قال: لقد دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة يوم الفتح وإن بها ثلاثمائة وستين صنمًا قد شدها إبليس بالرصاص, وكان بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضيب فكان يقوم عليها ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل, إن الباطل كان زهوقا" ثم يشير إليها بقضيبه فتتساقط على ظهورها. وحدثني جدي, عن سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا, فجعل يطعنها ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل, إن الباطل كان زهوقا، جاء الحق وما يبدئ الباطل ولا يعيد". حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران, عن محمد بن عبد العزيز, عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس, قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا منها ما قد شد بالرصاص, فطاف على راحلته وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل, إن الباطل كان زهوقا" ويشير إليها فما منها صنم أشار إلى وجهه إلا وقع على دبره، ولا أشار إلى دبره إلا وقع على وجهه حتى وقعت كلها. وقال ابن إسحاق: لما صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الظهر يوم الفتح, أمر بالأصنام التي كانت حول الكعبة كلها فجمعت ثم حرقت بالنار وكسرت. وفي ذلك يقول فضالة بن عمير بن الملوح الليثي في ذكر يوم الفتح1: أوما رأيت محمدًا وجنوده بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت نور اللّه أصبح بينا والشرك يغشى وجهه الإظلام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شفاء الغرام 2/ 446. ج / 1 ص -92- حدثني جدي, عن محمد بن إدريس, عن الواقدي, عن ابن أبي سبرة, عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس, عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما يزيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن يشير بالقضيب إلى الصنم فيقع لوجهه, فطاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعًا على راحلته يستلم الركن الأسود بمحجنه, فلما فرغ من سبعه نزل عن راحلته ثم انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المقام وجاءه معمر بن عبد الله بن نضلة فأخرج راحلته والدرع عليه والمغفر وعمامته بين كتفيه, فصلى ركعتين ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها وقال: "لولا أن تغلب عبد المطلب لنزعت منها دلوًا". فنزع له العباس بن عبد المطلب دلوًا فشرب وأمر بهبل فكسر وهو واقف عليه, فقال الزبير بن العوام لأبي سفيان بن حرب: يا أبا سفيان, قد كسر هبل أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم عليك، فقال أبو سفيان: دع هذا عنك يابن العوام, فقد أرى أن لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان. حدثني جدي, عن محمد بن إدريس, عن الواقدي عن أشياخه قالوا: كان إساف ونائلة رجلًا وامرأة، الرجل إساف بن عمرو والمرأة نائلة بنت سهيل من جرهم, فزنيا في جوف الكعبة فمسخا حجرين فاتخذوهما يعبدونهما, وكانوا يذبحون عندهما ويحلقون رءوسهم عندهما إذا نسكوا، فلما كسرت الأصنام كُسرا, فخرجت من أحدهما امرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها, عريانة ناشرة الشعر, تدعو بالويل فقيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك فقال: "تلك نائلة قد أيست أن تعبد ببلادكم أبدًا". ويقال: رن إبليس ثلاث رنات؛ رنة حين لعن فتغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورنة حين رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا بمكة يصلي، ورنة حين افتتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة فاجتمعت إليه ذريته, فقال إبليس: ايأسوا أن تردوا أمة محمد على الشرك بعد يومهم هذا أبدًا، ولكن أفشوا فيهم النوح والشعر. ج / 1 ص -93- وذكر الواقدي عن أشياخه قال: نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح بمكة: من كان يؤمن بالله ورسوله فلا يدعن في بيته صنمًا إلا كسره, فجعل المسلمون يكسرون تلك الأصنام قال: وكان عكرمة بن أبي جهل حين أسلم لا يسمع بصنم في بيت من بيوت قريش إلا مشى إليه حتى يكسره، وكان أبو تجارة يعملها في الجاهلية ويبيعها, ولم يكن في قريش رجل بمكة إلا وفي بيته صنم. وقال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة, عن سليمان بن سحيم, عن بعض آل جبير بن مطعم, عن جبير بن مطعم قال: لما كان يوم الفتح, نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يتركن في بيته صنمًا إلا كسره وأحرقه وثمنه حرام. قال جبير: وقد كنت أرى قبل ذلك الأصنام يطاف بها بمكة, فيشتريها أهل البدو فيخرجون بها إلى بيوتهم, وما من رجل من قريش إلا وفي بيته صنم, إذا دخل يمسحه وإذا خرج يمسحه تبركًا به. قال الواقدي: وأخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن عبد الحميد بن سهيل, قال: لما أسلمت هند بنت عتبة جعلت تضرب صنمًا في بيتها بالقدوم فلذة فلذة, وهي تقول: كنا منك في غرور. باب ما جاء في الأصنام التي كانت على الصفا والمروة, ومن نصبها, وما جاء في ذلك: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم القداح, عن عثمان بن ساج, قال: أخبرني ابن إسحاق قال: نصب عمرو بن لحي الخلصة بأسفل مكة, فكانوا يلبسونها القلائد ويهدون إليها الشعير والحنطة، ويصبون عليها اللبن، ويذبحون لها، ويعلقون عليها بيض النعام, ونصب على الصفا صنمًا يقال له: نهيك مجاود الريح, ونصب على المروة صنمًا يقال له: مطعم الطير. ج / 1 ص -94- ما جاء في مناة, وأول من نصبها: حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق أن عمرو بن لحي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديدا وهي التي كانت للأزد وغسان يحجونها ويعظمونها, فإذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى لم يحلقوا إلا عند مناة, وكانوا يهلون لها ومن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة لمكان الصنمين اللذين عليهما نهيك مجاود الريح, ومطعم الطير. وكان هذا الحي من الأنصار يهلون بمناة وكانوا إذا أهلوا بحج أو عمرة لم يظل أحدًا منهم سقف بيت حتى يفرغ من حجته أو عمرته، وكان الرجل إذا أحرم لم يدخل بيته، وإن كانت له فيه حاجة تسور من ظهر بيته لأن لا يجن رتاج الباب رأسه, فلما جاء الله بالإسلام وهدم أمر الجاهلية أنزل الله تعالى في ذلك: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة: 189] قال: وكانت مناة للأوس والخزرج وغسان من الأزد ومن دان بدينهم من أهل يثرب وأهل الشام, وكانت على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد. وحدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن السائب الكلبي قال: كانت مناة صخرة لهذيل, وكانت بقديد. ج / 1 ص -95- باب ما جاء في اللات والعزى, وما جاء في بدوهما كيف كان: حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن محمد بن السائب الكلبي, عن أبي صالح عن ابن عباس أن رجلًا ممن مضى كان يقعد على صخرة لثقيف يبيع السمن من الحاج إذا مروا فيلت سويقهم, وكان ذا غنم فسميت صخرة اللات فمات، فلما فقده الناس قال لهم عمرو: إن ربكم كان اللات فدخل في جوف الصخرة، وكان العزى ثلاث شجرات سمرات بنخلة, وكان أول من دعا إلى عبادتها عمرو بن ربيعة والحارث بن كعب, وقال لهم عمرو: إن ربكم يتصيف باللات لبرد الطائف، ويشتو بالعزى لحر تهامة، وكان في كل واحدة شيطان يعبد، فلما بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بعث بعد الفتح خالد بن الوليد إلى العزى ليقطعها فقطعها، ثم جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت فيهن؟" قال: لا شيء، قال: "ما قطعتهن, فارجع فاقطع" فرجع فقطع، فوجد تحت أصلها امرأة ناشرة شعرها قائمة عليهن, كأنها تنوح عليهن فرجع فقال: إني رأيت كذا وكذا قال: "صدقت". حدثني جدي, قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرنا محمد بن إسحاق أن عمرو بن لحي اتخذ العزى بنخلة, فكانوا إذا فرغوا من حجهم وطوافهم بالكعبة لم يحلوا حتى يأتوا العزى فيطوفوا بها ويحلوا عندها ويعكفوا عندها يومًا، وكانت لخزاعة. وكانت قريش وبنو كنانة كلها يعظمون العزى مع خزاعة وجميع مضر, وكان سدنتها الذين يحجبونها بني شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم. وقال عثمان: وأخبرنا محمد بن السائب الكلبي قال: كانت بنو نصر وجشم وسعد بن بكر وهم عجز هوازن يعبدون العزى، قال الكلبي: وكانت ج / 1 ص -96- اللات والعزى ومناة في كل واحدة منهن شيطانة تكلمهم, وترايا للسدنة وهم الحجبة, وذلك من صنيع إبليس وأمره. حدثني جدي, عن محمد بن إدريس, عن الواقدي عن عبد الله بن يزيد عن سعيد بن عمرو الهذلي, قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة يوم الجمعة لعشر ليالٍ بقين من شهر رمضان, فبث السرايا في كل وجه يأمرهم أن يغيروا على من لم يكن على الإسلام، فخرج هشام بن العاصي في مائتين قبل يلملم، وخرج خالد بن سعيد بن العاصي في ثلاثمائة قبل عرنة, وبعث خالد بن الوليد إلى العزى يهدمها, فخرج خالد في ثلاثين فارسًا من أصحابه إلى العزى حتى انتهى إليها فهدمها, ثم رجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أهدمت؟" قال: نعم يا رسول الله، قال: "هل رأيت شيئًا؟" قال: لا، قال: "فإنك لم تهدمها, فارجع إليها فاهدمها" فخرج خالد بن الوليد وهو متغيظ فلما انتهى إليها جرد سيفه فخرجت إليه امرأة سوداء عريانة, ناشرة شعرها, فجعل السادن يصيح بها، قال خالد: وأخذني اقشعرار في ظهري, فجعل يصيح بها ويقول1: أعزاي شدي شدة لا تكذبي أعزى ألقي بالقناع وشمري أعزى إن لم تقتلي المرء خالدًا فبوئي بإثم عاجل أو تنصري فأقبل خالد بن الوليد بالسيف إليها, وهو يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت اللّه قد أهانك2 فقال: فضربها بالسيف فجزلها باثنتين, ثم رجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره فقال: "نعم تلك العزى, قد أيست أن تعبد ببلادكم أبدًا". ثم قال خالد: يا رسول الله, الحمد لله الذي أكرمنا بك وأنقذنا بك من الهلكة, لقد كنت أرى أبي يأتي العزى بخير ماله من الإبل والغنم فيذبحها للعزى ويقيم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كتاب الطبقات الكبير لابن سعد 5/ 32. 2 المصدر السابق، وما بين حاصرتين منه. ج / 1 ص -97- عندها ثلاثًا ثم ينصرف إلينا مسرورًا, ونظرت إلى ما مات عليه أبي وإلى ذلك الرأي الذي كان يعاش في فضله وكيف خدع حتى صار يذبح لما لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الأمر إلى الله, فمن يسره للهدى تيسر له، ومن يسره للضلالة كان فيها" وكان هدمها لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان, وكان سادنها أفلح بن النضر السلمي من بني سليم؛ فلما حضرته الوفاة دخل عليه أبو لهب يعوده وهو حزين, فقال له: ما لي أراك حزينًا؟ قال: أخاف أن تضيع العزى من بعدي، قال له أبو لهب: فلا تحزن فأنا أقوم عليها بعدك, فجعل أبو لهب يقول لكل من لقي: إن تظهر العزى كنت قد اتخذت عندها يدًا بقيامي عليها، وإن يظهر محمد على العزى -وما أراه يظهر- فابن أخي، فأنزل الله تبارك وتعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]. حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن عبد الملك بن عمير, عمن حدثه قال: جاء حسان بن ثابت الأنصاري إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد فقال: يا رسول الله, ائذن لي أن أقول, فإني لا أقول إلا حقا، قال: "قل" فأنشأ يقول: شهدت بإذن اللّه أن محمدًا رسول الذي فوق السموات من عل فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وأنا أشهد" فقال حسان بن ثابت: وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما1 له عمل في دينه متقبل فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وأنا أشهد" فقال حسان بن ثابت: وأن الذي عاد اليهود ابن مريم رسول أتى من عند ذي العرش مرسل فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "وأنا أشهد" فقال حسان بن ثابت: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، ومثله في الديوان وطبقات ابن سعد والأغاني، وفي أ، ب: "كليهما". ج / 1 ص -98- وأن أخا الأحقاف إذ يعذلونه1 يجاهد في ذات الإله ويعدل فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وأنا أشهد" فقال حسان بن ثابت: وأن التي2 بالجزع من بطن نخلة ومن دانها فل عن الحق معزل فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "وأنا أشهد"3. قال سفيان: يعني العزى, وأما مناة فكانت بالمشلل من قديد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في الأصل أ: "يعدلونه" بالدال المهملة. والمثبت من ب والديوان وطبقات ابن سعد والأغاني. 2 كذا في الأصل ب والديوان وطبقات ابن سعد. وفي أ "الذي" ومثله في الأغاني. 3 الطبقات الكبير لابن سعد 4/ 323، والديوان 305، والأغاني 4/ 152. ما جاء في ذات أنواط: حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي, عن محمد بن إدريس, عن محمد بن عمر الواقدي, عن معمر بن راشد البصري عن الزهري, عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي -وهو الحارث بن مالك- قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء يقال لها: ذات أنواط, يأتونها كل سنة فيعلقون عليها أسلحتهم ويذبحون عندها ويعكفون عندها يومًا, قال: فرأينا يومًا ونحن نسير مع النبي -صلى الله عليه وسلم- شجرة عظيمة خضراء فسايرتنا من جانب الطريق فقلنا: يا رسول الله, اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، الله أكبر؛ قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} الآية, إنها السنن؛ سنن من كان قبلكم". ج / 1 ص -99- حدثني جدي, عن محمد بن إدريس, عن الواقدي قال: أخبرني ابن أبي حبيبة عن داود بن الحسين, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: كانت ذات أنواط شجرة يعظمها أهل الجاهلية يذبحون لها, ويعكفون عندها يومًا، وكان من حج منهم وضع زاده عندها ويدخل بغير زاد تعظيمًا لها, فلما مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين قال له رهط من أصحابه, فيهم الحارث بن مالك: يا رسول الله, اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال: فكبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "هكذا فعل قوم موسى بموسى عليه السلام". ما جاء في كسر الأصنام: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن محمد بن إدريس, عن محمد بن عمر الواقدي قال: أخبرني عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن عمرو الهذلي قال: لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة بث السرايا, فبعث خالد بن الوليد إلى العزى, وبعث إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة الطفيل بن عمرو الدوسي, فجعل يحرقه بالنار ويقول: يا ذا الكفين لست من عبادكا ميلادنا أقدم من ميلادكا إني حششت النار في فؤادكا1 وبعث سعيد بن عبيد الأشهلي إلى مناة بالمشلل فهدمها, وبعث عمرو بن العاصي إلى سواع صنم هذيل فهدمه, وكان عمرو يقول: انتهيت إليه وعنده السادن فقال: ما تريد؟ قلت: هدم سواع قال: وما لك وله؟ قلت: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا تقدر على هدمه، قلت: لم؟ قال: يمتنع قال عمرو: حتى الآن أنت في الباطل ويحك! وهل يسمع ويبصر؟ قال عمرو: فدنوت منه فكسرته وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته ولم يجدوا فيه شيئًا, ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله تعالى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في ب، ومثله في كتاب الطبقات الكبير 2/ 145. وفي الأصل أ, الألف ساقطة. ج / 1 ص -100- مسير تبع إلى مكة شرفها الله تعالى: حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن إسحاق قال: سار تبع الأول إلى الكعبة وأراد هدمها وتخريبها, وخزاعة يومئذ تلي البيت وأمر مكة، فقامت خزاعة دونه وقاتلت عنه أشد القتال, حتى رجع ثم تبع آخر فكذلك. وأما التبابعة الذين أرادوا هدم الكعبة وتخريبها ثلاثة, وقد كان قبل ذلك منهم من يسير في البلاد فإذا دخل مكة عظم الحرم والبيت, وأما التبع الثالث الذي أراد هدم البيت فإنما كان في أول زمان قريش. قال: وكان سبب خروجه ومسيره إليه أن قومًا من هذيل من بني لحيان جاءوه فقالوا: إن بمكة بيتًا تعظمه العرب جميعًا وتفد إليه وتنحر عنده وتحجه وتعتمره، وإن قريشًا تليه فقد حازت شرفه وذكره, وأنت أولى أن يكون ذلك البيت وشرفه وذكره لك؛ فلو سرت إليه وخربته وبنيت عندك بيتًا ثم صرفت حاج العرب إليه, كنت أحق به منهم. قال: فأجمع المسير إليه. حدثني جدي, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن موسى بن عيسى المديني قال: لما كان تبع بالدف من جمدان بين أمج وعسفان, دفت بهم دوابهم وأظلمت الأرض عليهم, فدعا أحبارًا كانوا معه من أهل الكتاب فسألهم فقالوا: هل ج / 1 ص -101- هممت لهذا البيت بشيء؟ قال: أردت أن أهدمه, قالوا: فانو له خيرًا, أن تكسوه وتنحر عنده, ففعل فانجلت عنهم الظلمة, وإنما سمي الدف من أجل ذلك. ثم رجع إلى حديث ابن إسحاق قال: فسار حتى إذا كان بالدف من جمدان بين أمج وعسفان دفت بهم الأرض وغشيتهم ظلمة شديدة وريح، فدعا أحبارًا كانوا معه من أهل الكتاب فسألهم فقالوا: هل هممت لهذا البيت بسوء؟ فأخبرهم بما قال له الهذليون وبما أراد أن يفعل, فقالت الأحبار: والله ما أرادوا إلا هلاكك وهلاك قومك, إن هذا بيت الله الحرام ولم يرده أحد قط بسوء إلا هلك. قال: فما الحيلة؟ قالوا: تنوي له خيرًا, أن تعظمه وتكسوه وتنحر عنده وتحسن إلى أهله ففعل, فانجلت عنهم الظلمة وسكنت الريح وانطلقت بهم ركابهم ودوابهم، فأمر تبع بالهذليين فضربت أعناقهم وصلبهم، وإنما كانوا فعلوا ذلك حسدًا لقريش على ولايتهم البيت. ثم سار تبع حتى قدم مكة فكان سلاحه بقعيقعان فيقال: فبذلك سمي قعيقعان وكانت خيله بأجياد, ويقال: إنما سميت أجياد أجيادًا بجياد خيل تبع؛ وكانت مطابخه في الشعب الذي يقال له: شعب عبد الله بن عامر بن كريز؛ فلذلك سمي الشعب المطابخ. فأقام بمكة أيامًا ينحر في كل يوم مائة بدنة لا يرزأ هو ولا أحد ممن في عسكره منها شيئًا يردها الناس فيأخذون منها حاجتهم، ثم تقع الطير فتأكل، ثم تنتابها السباع إذا أمست لا يصد عنها1 شيء من الأشياء إنسان ولا طائر ولا سبع, يفعل ذلك كل يوم مقامه أجمع, ثم كسا البيت كسوة كاملة، كساه العصب وجعل له بابًا يغلق بضبة فارسية. قال ابن جريج: كان تبع أول من كسا البيت كسوة كاملة, أُري في المنام أن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، ومثله في ب. وفي أ: "لا يصدعها". ج / 1 ص -102- يكسوها فكساها الأنطاع، ثم أُري أن يكسوها فكساها الوصائل ثيابا حبرة من عصب اليمن، وجعل لها بابًا يغلق، ولم يكن يغلق قبل ذلك1. وقال تبع في ذلك, وفي مسيره شعرًا: وكسونا البيت الذي حرم اللّـ ـه ملاء معصبا وبرودا وأقمنا به من الشهر عشرًا وجعلنا لبابه إقليدا وخرجنا منه نؤم سهيلا فرفعنا2 لواءنا معقودا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 1/ 80. 2 كذا في الأصل، ومثله في أ، والروض الأنف 1/ 85، وابن هشام 13/ 30, وفي ب: "قد رفعنا". ذكر مبتدأ حديث الفيل: حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن محمد بن إسحاق قال: كان من حديث الفيل فيما ذكر بعض أهل مكة عن سعيد بن جبير, وعكرمة، عن ابن عباس، وعمن لقي من علماء أهل اليمن وكان جل الحديث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن ملكًا من ملوك حمير يقال له: زرعة ذو نواس1 وكان قد تهود واستجمعت معه حمير على ذلك إلا ما كان من أهل نجران, وهم من أشلاء سبأ فإنهم كانوا على دين النصرانية على أصل حكم الإنجيل وبقايا من دين الحواريين. ولهم رأس يقال له: عبد الله بن ثامر، فدعاهم ذو نواس إلى اليهودية فأبوا, فخيرهم فاختاروا القتل, فخد لهم أخدودًا وصنف لهم القتل؛ فمنهم من قتل صبرًا، ومنهم من أوقد له النار في الأخدود فألقاه في النار إلا رجلًا من سبأ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، ومثله في ب، والروض الأنف. وفي أ: "النواس". ج / 1 ص -103- يقال له: دوس بن ذي ثعلبان، فذهب على فرس له يركض حتى أعجزهم في الرمل, فأتى قيصر فذكر له ما بلغ منهم واستنصره, فقال له: بعدت بلادك عنا, ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة, فإنه على ديننا فينصرك. فكتب له إلى النجاشي يأمره بنصره، فلما قدم على النجاشي بعث معه رجلًا من الحبشة يقال له: أرياط وقال: إن دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها، وأخرب ثلث بلادها. فلما دخلوا أرض اليمن تناوشوا شيئًا من قتال ثم ظهر عليهم أرياط, وخرج زرعة ذو نواس على فرسه فاستعرض به البحر حتى لجج به فماتا في البحر, وكان آخر العهد به, فدخلها أرياط فعمل ما أمر به النجاشي، فقال قائل من أهل اليمن في ذلك مثلًا يضربه: لا كدوس, ولا كأعلاق رحله. وقال ذو جدن فيما أصاب أهل اليمن, وما نزل بهم1: دعيني لا أبا لك لن تطيقي لحاك اللّه قد أنزفت ريقي لدى عزف القيان إذا انتشينا وإذ نسقى من الخمر الرحيق وشرب الخمر ليس علي عار إذا لم يشكنى فيها رفيقي وغمدان الذي نبيت عنه بنوه مسمكًا في رأس نيق مصابيح السليط يلحن فيه إذا يمسي كتوماض2 البروق فأصبح بعد جدته رمادًا وغير حسنه لهب الحريق وأسلم ذو نواس مستميتا وحذر قومه ضنك المضيق وقال ذو جدن أيضًا3: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ابن هشام 1/ 38. 2 كذا في "ب" وابن هشام, وفي الأصل أ: "كتيماض". 3 ابن هشام 1/ 38. ج / 1 ص -104- هونكما1 لن يرد الدمع ما فاتا لا تهلكي أسفًا في إثر من ماتا أبعد بينون لا عين ولا أثر وبعد سلحين يبني الناس أبياتا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصول، ولدى ابن هشام: "هونك" وهونكما من باب قول العرب للواحد: افعلا، وهو كثير في القرآن الكريم. ذكر الفيل حين ساقته الحبشة: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن محمد بن إسحاق أنه قال: لما ظهرت الحبشة على أرض اليمن كان ملكهم إلى أرياط وأبرهة، وكان أرياط فوق أبرهة, فأقام أرياط باليمن سنتين في سلطانه لا ينازعه أحد، ثم نازعه أبرهة الحبشي الملك، وكان في جند من الحبشة فانحاز إلى كل واحد منهما من الحبشة طائفة ثم سار أحدهما إلى الآخر, فكان أرياط يكون بصنعاء ومخاليفها، وكان أبرهة يكون بالجند ومخاليفها. فلما تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض, أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لا تصنع بأن تلقي الحبشة بعضهم ببعض فتفنيها بيننا، فابرز لي وأبرز لك, فأينا ما أصاب صاحبه انصرف إليه جنده. فأرسل إليه أرياط: قد أنصفت، فخرج أرياط وكان رجلًا عظيمًا طويلًا وسيمًا وفي يده حربة له, وخرج له أبرهة وكان رجلًا قصيرًا حادرًا لحيمًا دحداحًا, وكان ذا دين في النصرانية؛ وخلف أبرهة عبد له يحمي ظهره يقال له: عتودة؛ فلما دنا أحدهما من صاحبه رفع أرياط الحربة فضرب بها رأس أبرهة يريد يافوخه فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفتيه, فبذلك سمي أبرهة الأشرم، وحمل غلام أبرهة عتودة على أرياط ج / 1 ص -105- من خلف أبرهة فزرقه بالحربة فقتله، فانصرف جند أرياط إلى أبرهة, فاجتمعت عليه الحبشة باليمن. وكان ما صنع أبرهة من قتله أرياط بغير علم النجاشي ملك الحبشة بأرض أكسوم من بلاد الحبش, فلما بلغه ذلك غضب غضبًا شديدًا وقال: عُدي على أميري بغير أمري فقتله, ثم حلف النجاشي لا يدع أبرهة حتى يطأ أرضه ويجز ناصيته. فلما بلغ ذلك أبرهة حلق رأسه ثم ملأ جرابًا من تراب أرض اليمن ثم بعث به إلى النجاشي وكتب إليه: أيها الملك, إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك, اختلفنا في أمرك وكلنا طاعته لك, إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة منه وأضبط وأسوس لهم منه، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت به إليه مع جراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه فيبر بذلك قسمه. فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه, وكتب له أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري فأقام أبرهة باليمن؛ وبنى أبرهة عند ذلك القليس بصنعاء إلى جنب غمدان, فبنى كنيسة وأحكمها وسماها القليس, وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة: إني قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك, ولست بمنتهٍ حتى أصرف حاج العرب إليها. قال أبو الوليد: أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثني من أثق به من مشيخة أهل اليمن بصنعاء أن يوسف ذا نواس وهو صاحب الأخدود الذي حرق أهل الكتاب بنجران, لما غرقه الله عز وجل وجاءت الحبشة إلى أرض اليمن فعبروا من دهلك حتى دخلوا صنعاء وحرقوا غمدان, وكان أعظم قصر يعلم في الأرض وغلبوا على اليمن, وبنى أبرهة الحبشي القليس للنجاشي وكتب إليه: إني قد بنيت لك بصنعاء بيتًا لم تبن العرب ولا العجم مثله, ولن أنتهي حتى أصرف حاج العرب إليه ويتركوا الحج إلى بيتهم. فبنى القليس بحجارة قصر بلقيس الذي بمأرب, وبلقيس صاحبة الصرح ج / 1 ص -106- الذي ذكره الله في القرآن في قصة سليمان, وكان سليمان حين تزوجها ينزل عليها فيه إذا جاءها فوضع الرجال نسقًا يناول بعضهم بعضًا الحجارة والآلة, حتى نقل ما كان في قصر بلقيس مما احتاج إليه من حجر أو رخام أو آلة للبناء وجد في بنائه, وأنه كان مربعًا مستوي التربيع, وجعل طوله في السماء ستين ذراعًا وكبسه من داخله عشرة أذرع في السماء، وكان يصعد إليه بدرج الرخام وحوله سور بينه وبين القليس مائتا ذراع مطيف به من كل جانب، وجعل بين ذلك كله بحجارة تسميها أهل اليمن الجروب منقوشة مطابقة لا يدخل بين أطباقها الإبرة مطبقة به, وجعل طول ما بنى به من الجروب عشرين ذراعًا في السماء, ثم فصل ما بين حجارة الجروب بحجارة مثلثة تشبه الشرف مداخلة بعضها ببعض حجرًا أخضر، وحجرًا أحمر، وحجرًا أبيض، وحجرًا أصفر، وحجرًا أسود؛ وفيما بين كل ساقين خشب ساسم مدور الرأس غلظ الخشبة حضن الرجل ناتئة على البناء فكان مفصلًا بهذا البناء في هذه الصفة، ثم فصل بإفريز من رخام منقوش طوله في السماء ذراعان، وكان الرخام ناتئًا على البناء ذراعًا، ثم فصل فوق الرخام بحجارة سود لها بريق من حجارة نقم جبل صنعاء المشرف عليها. ثم وضع فوقها حجارة صفر لها بريق، ثم وضع فوقها حجارة بيض لها بريق، فكان هذا ظاهر حائط القليس، وكان عرض حائط القليس ستة أذرع. وذكروا أنهم لا يحفظون ذرع طول القليس ولا عرضه، وكان له باب من نحاس عشرة أذرع طولًا في أربعة أذرع عرضًا, وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه طوله ثمانون ذراعًا في أربعين ذراعًا, معلق العمل بالساج المنقوش ومسامير الذهب والفضة. ثم يدخل من البيت إلى إيوان طوله أربعون ذراعًا عن يمينه وعن يساره، وعقوده مضروبة بالفسيفساء مشجرة بين أضعافها كواكب الذهب ظاهرة, ثم يدخل من الإيوان إلى قبة ثلاثون ذراعًا في ثلاثين ذراعًا، جدرها بالفسيفساء وفيها صلب منقوشة بالفسيفساء والذهب ج / 1 ص -107- والفضة، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة عشرة أذرع في عشرة أذرع, تغشي عين من نظر إليها من بطن القبة, تؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة. وكان تحت الرخامة منبر من خشب اللبخ -وهو عندهم الأبنوس- مفصل بالعاج الأبيض، ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهبًا وفضة. وكان في القبة سلاسل فضة, وكان في القبة أو في البيت خشبة ساج منقوشة طولها ستون ذراعًا يقال لها: كعيب, وخشبة من ساج نحوها في الطول يقال لها: امرأة كعيب, كانوا يتبركون بهما في الجاهلية, وكان يقال لكعيب: الأحوزي, والأحوزي بلسانهم الحر. وكان أبرهة عند بناء القليس قد أخذ العمال بالعمل أخذًا شديدًا, وكان آلى أن لا تطلع الشمس على عامل لم يضع يده في عمله فيؤتى به إلا قطع يده. قال: فتخلف رجل ممن كان يعمل فيه حتى طلعت الشمس وكانت له أم عجوز فذهب بها معه لتستوهبه من أبرهة، فأتته وهو بأزز1 للناس فذكرت له علة ابنها واستوهبته منه فقال: لا أكذب نفسي ولا أفسد علي عمالي, فأمر بقطع يده فقالت له أمه: اضرب بمعولك ساعي بهر، اليوم لك وغدًا لغيرك، ليس كل الدهر لك. فقال: ادنوها فقال لها: إن هذا الملك أيكون لغيري؟ قالت: نعم. وكان أبرهة قد أجمع أن يبني القليس حتى يظهر على ظهره فيرى منه بحر عدن فقال: لا أبني حجرًا على حجر بعد يومي هذا, وأعفى الناس من العمل، وتفسير قولها: ساعي بهر تقول: اضرب بمعولك ما كان حديدًا، فانتشر خبر بناء أبرهة هذا البيت في العرب فدعا رجل من النساءة من بني مالك بن كنانة فتبين منهم فأمرهما أن يذهبا إلى ذلك البيت الذي بناه أبرهة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في أ، والعبارة ساقطة من الأصل، وفي ب: "وهو بارز للناس" والأزز: الجمع الكثير المزدحم. ج / 1 ص -108- بصنعاء فيحدثا فيه فذهب بهما ففعلا ذلك، فدخل أبرهة البيت فرأى أثرهما فيه فقال: من فعل هذا؟ فقيل: رجلان من العرب فغضب من ذلك, وقال: لا أنتهي حتى أهدم بيتهم الذي بمكة. قال: فساق الفيل إلى بيت الله الحرام ليهدمه, فكان من أمر الفيل ما كان. فلم يزل القليس على ما كان عليه حتى ولى أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين العباس بن الربيع بن عبيد الله الحارثي اليمن فذكر العباس ما في القليس من النقض والذهب والفضة وعظم ذلك عنده, وقيل له: إنك تصيب فيه مالًا كثيرًا وكنزًا فتاقت نفسه إلى هدمه وأخذ ما فيه, فبعث إلى ابن لوهب بن منبه فاستشاره في هدمه وقال: إن غير واحد من أهل اليمن قد أشاروا علي أن لا أهدمه, وعظم على أمر كعيب وذكر أن أهل الجاهلية كانوا يتبركون به وأنه كان يكلمهم ويخبرهم بأشياء مما يحبون ويكرهون. قال ابن وهب: كل ما بلغك باطل, وانما كعيب صنم من أصنام الجاهلية فتنوا به, فمر بالدهل -وهو الطبل- وبمزمار فليكونا قريبا ثم اعله الهدامين، ثم مرهم بالهدم فإن الدهل والمزمار أنشط لهم، وأطيب لأنفسهم، وأنت مصيب من نقضه مالا عظيمًا مع أنك تثاب من الفسقة الذين حرقوا غمدان, وتكون قد محوت عن قومك اسم بناء الحبش وقطعت ذكرهم. وكان بصنعاء يهودي عالم, قال: فجاء قبل ذلك إلى العباس بن الربيع يتقرب إليه فقال له: إن ملكًا يهدم القليس يلي اليمن أربعين سنة قال: فلما اجتمع له قول اليهودي ومشورة ابن وهب بن منبه أجمع على هدمه. قال أبو الوليد: فحدثني الثقة قال: شهدت العباس وهو يهدمه فأصاب منه مالًا عظيمًا, ثم رأيته دعا بالسلاسل فعلقها في كعيب والخشبة التي معه فاحتملها الرجال فلم يقربها أحد مخافة لما كان أهل اليمن يقولون فيها, فدعا بالورديين -وهي العجل- فأعلق فيها السلاسل ثم جبذها الثيران ج / 1 ص -109- وجبذها الناس معها حتى أبرزوها من السور, فلما أن لم ير الناس شيئًا مما كانوا يخافون من مضرتها وثب رجل من أهل العراق كان تاجرًا بصنعاء فاشترى الخشبة وقطعها لدار له, فلم يلبث العراقي أن جذم فقال رعاع الناس هذا لشرائه كعيبًا. قال: ثم رأيت أهل صنعاء بعد ذلك يطوفون بالقليس, فيلقطون منه قطع الذهب والفضة. ثم رجع إلى حديث ابن إسحاق قال: فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة بذلك إلى النجاشي, غضب رجل من النساءة أحد بني فقيم, من بني مالك بن كنانة, فخرج حتى أتى القليس فقعد فيها -أي أحدث فيها- ثم خرج حتى لحق بأرضه فأخبر بذلك أبرهة فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: صنعه رجل من العرب من أهل البيت الذي تحج العرب إليه بمكة؛ لما سمع بقولك: أصرف إليها حاج العرب فغضب فجاءها فقعد فيها أي: إنها ليست لذلك بأهل، فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه, ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت, ثم سار وخرج بالفيل معه. فسمعت بذلك العرب فأعظموه وقطعوا به, ورأوا أن جهاده حق عليهم حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام, فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له: ذو نفر فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وإلى مجاهدته عن بيت الله الحرام وما يريد من هدمه وإخراجه, فأجابه من أجابه إلى ذلك ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر فأتي به أسيرًا, فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني, فعسى أن يكون مقامي معك خيرًا لك من قتلي, فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق, وكان أبرهة رجلًا حليمًا ورعًا ذا دين في النصرانية. ومضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج إليه حتى إذا كان في أرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبائل خثعم: شهران وناهس ومن اتبعه من قبائل العرب فقاتله فهزمه أبرهة, وأخذ له نفيل أسيرًا فأتي به ج / 1 ص -110- فقال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني, فإني دليلك بأرض العرب وهاتان يداي على قبائل خثعم: شهران وناهس بالسمع والطاعة, فأعفاه وخلى سبيله وخرج به معه يدله. حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف فقالوا له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون وليس لك عندنا خلاف وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد يعنون اللات, إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم, وبعثوا معه أبا رغال يدله على مكة. فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزلهم بالمغمس, فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك فرجمت العرب قبره فهو قبره الذي يرجم بالمغمس, وهو الذي يقول فيه جرير بن الخطفي: إذا مات الفرزدق فارجموه كما ترمون قبر أبي رغال فلما نزل أبرهة المغمس بعث رجلًا من الحبشة يقال له: الأسود بن مقصود1 على خيل له حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم, فأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم وهو يومئذ كبير قريش وسيدها, فهمَّت قريش وخزاعة وكنانة وهذيل ومن كان في الحرم بقتاله ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك. وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة فقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم ثم قل لهم: إن الملك يقول لكم: إني لم آت لحربكم, إنما جئت لهدم هذا البيت, فإن لم تعرضوا لي بقتال فلا حاجة لي بدمائكم, فإن هو لم يرد حربي فأتني به. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل وسيرة ابن هشام 1/ 48. وفي أ، ب: "مفصود" بالفاء. ج / 1 ص -111- فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها فقيل له: عبد المطلب, فأرسل إلى عبد المطلب فقال بما قال أبرهة, فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت إبراهيم خليله -عليه السلام- أو كما قال, فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه, وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع "عنه"1. فقال له حناطة: فانطلق "معي"1 إليه, فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان له صديقًا حتى دخل عليه وهو في محبسه فقال: يا ذا نفر، هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ قال ذو نفر: وما غناء رجل أسير في يدي ملك ينتظر أن يقتله بكرة أو عشية، ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسًا سايس الفيل صديق لي فسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك ويكلمه فيما بدا لك, ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك، قال: حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والجبل والوحوش في رءوس الجبال, وقد أصاب الملك له مائتي بعير فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت فقال: أفعل فكلم أنيس أبرهة فقال له: أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عير مكة, وهو يطعم الناس بالسهل والجبل والوحوش في رءوس الجبال, فأذن له عليك فليكلمك في حاجته, فأذن له أبرهة، وكان عبد المطلب أوسم الناس وأعظمهم وأجملهم2 فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة معه على سريره, فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال لترجمانه: قل له: ما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 من الروض الأنف. 2 كذا في ب، ومثله لدى ابن هشام في السيرة 1/ 49. وفي أ: "وأعظمه وأجمله". ج / 1 ص -112- حاجتك؟ قال له الترجمان: إن الملك يقول لك: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن يرد الملك علي مائتي بعير أصابها لي, فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، تكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك وقد جئت لهدمه لا تكلمني فيه! قال عبد المطلب: إني أنا رب إبلي, وإن للبيت ربا سيمنعه, قال: ما كان ليمتنع مني قال: أنت وذاك. قال ابن إسحاق: وقد كان فيما يزعم بعض أهل العلم, قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة الحميري, يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل1 بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد بني بكر وخويلد بن واثلة الهذلي وهو يومئذ سيد هذيل, فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم. والله أعلم أكان ذلك أم لا، وقد كان أبرهة رد على عبد المطلب الإبل التي كان أصاب. فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر, وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال خوفًا عليهم من معرة الجيش, ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله عز وجل ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة: يا رب إن المرء يمـ ـنع رحله فامنع حلالك2 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الطبري، وهو بضم الدال وكسر الهمزة، وفي سائر الأصول: "الديل" وما أثبتناه هو الذي عليه جمهور العلماء, إلا أن جماعة من النحويين، ومنهم الكسائي يقولون فيه: "الديل" من غير همز، ويكسرون الدال, والمعروف أن الدئل "بالهمز" هم الذين في كنانة، وكذلك هم في الهون بن خزيمة أيضًا. وأما الديل "من غير همز" فهم في الأزد، وفي إياد، وفي عبد القيس، وفي تغلب. وهناك غير هذين "الدول" أيضًا "بضم الدال وإسكان الواو" وهؤلاء في ربيعة من نزار، وفي عنزة، وفي ثعلبة وفي الرباب "راجع لسان العرب مادة: دأل". 2 الحلال -بالكسر- جمع حلة، وهي جماعة البيوت، ويريد هنا: القوم الحلول، والحلال أيضًا: متاع البيت, وجائز أن يكون هذا المعنى الثاني مرادًا هنا. ج / 1 ص -113- لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدوا1 محالك2 إن كنت تاركهم وقبـ ـلتنا فأمر ما بدا لك3 ولئن فعلت فإنه أمر يتم به فعالك ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة, وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها, وقال عبد المطلب أيضًا: قلت والأشرم تردى خيله إن ذا الأشرم غر بالحرم كاده تبع فيما جندت حمير والحي من آل قدم فانثنى عنه وفي أوداجه خارج4 أمسك منه بالكظم نحن أهل اللّه في بلدته لم يزل ذاك على عهد إبرهم5 نعبد اللّه وفينا شيمة صلة6 القربى وإيفاء الذمم إن للبيت لربا مانعا من يرده بأثام يصطلم يعني إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام. ولما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبأ جيشه, وكان اسم الفيل محمودًا, وأبرهة مجمع لهدم الكعبة ثم الانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنب الفيل فالتقم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تحرف في أ، ب إلى "عدوا" بالعين المهملة, وصوابه من الأصل وابن هشام. وغدوا: غدا، وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك، فحذفت لأمه، ولم يستعمل تاما إلا في الشعر. 2 المحال: القوة والشدة. 3 في الأصل أ: "فلئن فعلت فربما أولا فأمر بذلك" وهو غير صحيح عروضيا, والمثبت رواية ب، وابن هشام 1/ 51. 4 كذا في الأصل أ، ومنائح الكرام 1/ 440. وفي ب: "حارج" بالحاء المهملة. 5 كذا في الأصل أ، ومنائح الكرام 1/ 440. وفي ب: "إبراهيم". 6 كذا في الأصل ب. وفي أ "ضلة" بالضاد. ج / 1 ص -114- أذنه فقال: ابرك محمود وارجع راشدًا من حيث جئت, فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل, وضربوا الفيل ليقوم فأبى, فضربوا رأسه بالطبرزين فأبى, فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى, فوجهوه راجعًا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك, فوجهوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها, حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب أحدًا منهم إلا هلك، وليس كلهم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي منها جاءوا ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن, فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته: أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب غير الغالب!1 وقال نفيل أيضًا حين ولوا, وعاينوا ما نزل بهم2: ألا حييت عنا يا ردينا نعمناكم مع الإصباح عينا ردينة لو رأيت ولن تريه لدى جنب المحصب ما رأينا إذن لعذرتني وحمدت أمري ولم تأسي على ما فات بينا حمدت اللّه إذ عاينت طيرًا وخفت حجارة تلقى علينا وكل القوم يسأل عن نفيل كأن عليّ للحبشان دينا فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون "بكل مهلك" على كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم تسقط "أنامله" أنملة أنملة، كلما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تاريخ الطبري 2/ 136. 2 ابن هشام 1/ 53. ج / 1 ص -115- سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمث1 قيحًا ودمًا, حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر [فما مات] حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون2. وأقام بمكة فلال من الجيش وعسفاء وبعض من ضمه العسكر، فكانوا بمكة يعتملون ويرعون لأهل مكة. قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رئي بها من مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر من ذلك العام3. قال أبو الوليد: وقال بعض المكيين: إنه أول ما كانت بمكة حمام اليمام حمام مكة الحرمية ذلك الزمان، يقال: إنها من نسل الطير التي رمت أصحاب الفيل, حين خرجت من البحر من جدة. ولما هلك أبرهة، ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة وبه كان يكنى، ثم ملك بعد يكسوم أخوه مسروق بن أبرهة، وهو الذي قتلته الفرس حين جاءهم سيف بن ذي يزن وكان آخر ملوك الحبشة, وكانوا أربعة, فجميع ما ملكوا أرض اليمن من حين دخلوها إلى أن قتلوا ثلاثون سنة. ولما رد الله سبحانه عن مكة الحبشة وأصابهم ما أصابهم من النقمة, أعظمت العرب قريشًا وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مئونة عدوهم، فجعلوا يقولون في ذلك الأشعار يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة, وما دفع عن قريش من كيدهم4. ويذكرون الأشرم والفيل ومساقه إلى الحرم، وما أراد من هدم البيت واستحلال حرمته. قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في الأصل أ: "تمد" والمثبت رواية ب، وابن هشام. ومث يمث: رشح. 2 ابن هشام 1/ 54 وما بين حاصرتين منه. 3 ابن هشام 1/ 54. 4 ابن هشام 1/ 57. ج / 1 ص -116- حزم, عن عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة, عن عائشة أم المؤمنين قالت: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان [الناس]1. قال ابن إسحاق: فلما قتلت الحبش ورجع الملك إلى حمير, سُرَّت بذلك جميع العرب لرجوع الملك فيها وهلاك الحبشة، فخرجت وفود العرب جميعها لتهنئة سيف بن ذي يزن، فخرج وفد قريش، ووفد ثقيف، وعجز هوازن وهم: نصر وجشم وسعد بن بكر, ومعهم وفد عدوان وفهم ابني عمرو بن قيس فيهم مسعود بن معتب، ووفد غطفان، ووفد تميم، وأسد، ووفد قبائل قضاعة والأزد فأجازهم وأكرمهم, وفضل قريشًا عليهم في الجائزة لمكانهم في الحرم, وجوارهم بيت الله تعالى. قال أبو الوليد: وحدثني عبد الله بن شبيب الربعي، قال: حدثنا عمرو بن بكر بن بكار قال: حدثني أحمد بن القاسم الربعي مولى قيس بن ثعلبة, عن الكلبي, عن أبي صالح عن ابن عباس قال: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين, أتاه وفود العرب وأشرافها وشعراؤها لتهنئته وتمدحه, وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه، فأتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم, وأمية بن عبد شمس، وخويلد بن أسد في ناس من وجوه قريش من أهل مكة فأتوه بصنعاء وهو في قصر له يقال له: غمدان، وهو الذي يقول فيه الشاعر أبو الصلت الثقفي أبو أمية بن أبي الصلت2: لا تطلب الثأر إلا كابن ذي يزن خيَّم في البحر للأعداء أحوالا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ابن هشام 1/ 57, وما بين حاصرتين منه. 2 ابن هشام 1/ 65, والطبري 2/ 147. ج / 1 ص -117- أتى هرقلا وقد شالت نعامتهم فلم يجد عنده النصر الذي سالا ثم انتحى نحو كسرى بعد عاشرة من السنين يهين النفس والمالا حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم تخالهم فوق متن الأرض أجبالا بيض مرازبة غلب أساورة أسد يربين في الغيضات أشبالا للّه درهم من فتية صبر ما إن رأيت لهم في الناس أمثالا لا يضجرون وإن جزت1 مغافرهم ولا ترى منهم في الطعن ميالا أرسلت أسدًا على سود الكلاب فقد أضحى شريدهم في الناس فلالا فاشرب هنيئًا عليك التاج مرتفعا في رأس غمدان دارًا منك محلالا تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، وفي أ: "حَرَّت" وفي ب: "حزت" والمغفر: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة. ج / 1 ص -118- فالتطّ بالمسك إذ شالت نعامتهم وأسبل اليوم في برديك إسبالا فاستأذنوا عليه فأذن لهم, فإذا الملك متضمخ بالعنبر يلصف1 ووميض المسك من مفرقه إلى قدمه وسيفه بين يديه، وعن يمينه وعن يساره الملوك وأبناء الملوك, فدنا عبد المطلب فاستأذن في الكلام فقال له سيف بن ذي يزن: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك, فقال له عبد المطلب: إن الله -عز وجل- قد أحلك أيها الملك محلًّا رفيعًا، صعبًا، منيعًا، شامخًا، باذخًا، وأنبتك منبتًا طابت أرومته، وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن، وأنت أبيت اللعن رأس العرب، وربيعها الذي تخصب به، وأنت أيها الملك رأس العرب الذي له تنقاد, وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي تلجأ إليه العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف2، فلن يخمد ذكر من أنت سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه. أيها الملك, نحن أهل حرم الله وسدنة بيته, أشخصنا إليك الذي أبهجنا لكشفك الكرب الذي فدحنا, فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة. قال: وأيهم أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف, قال: ابن أختنا! قال: نعم. قال: ادنُ، فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحبًا وأهلًا, وناقة ورحلا، ومستناخًا سهلًا، وملكًا ربحلًا3 يعطي عطاء جزلًا، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم, فأنتم أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم؛ قال: ثم قال: انهضوا إلى دار ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل ب, وفي أ: "بلصف" ولصف: برق وتلألأ. 2 كذا في الأصل ب, وفي أ: "حلف". 3 الربحل كقمطر: العظيم الشأن من الناس. ج / 1 ص -119- الضيافة والوفود، فأقاموا شهرًا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم في الانصراف. قال: وأجرى عليهم الأنزال ثم انتبه لهم انتباهة, فأرسل إلى عبد المطلب فأدناه وأخلى مجلسه ثم قال: يا عبد المطلب, إني مفوض إليك من سر علمي أمرًا لو غيرك يكون لم أبح به له، ولكني وجدتك معدنه فأطلعتك طلعه, وليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه, فإن الله بالغ فيه أمره، إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون، الذي اخترناه لأنفسنا واحتجناه دون غيرنا, خبرًا جسيمًا، وخطرًا عظيمًا فيه شرف للحياة، وفضيلة للناس عامة, ولرهطك كافة, ولك خاصة. قال: أيها الملك مثلك سر وبر, فما هو فداك أهل الوبر والمدر زمرًا بعد زمر؟ قال: فإذا ولد بتهامة غلام به علامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزعامة، إلى يوم القيامة. فقال له عبد المطلب: أبيت اللعن, لقد أتيت بخبر ما آب بمثله وافد قوم، ولولا هيبة الملك وإعظامه وإجلاله لسألته من سارة آبائي ما أزداد به سرورًا، فإن رأى الملك أن يخبرني بإفصاح فقد أوضح لي بعض الإيضاح. قال: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد, اسمه محمد, بين كتفيه شامة، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه، وقد ولدناه مرارًا, والله باعثه جهارًا، وجاعل له منا أنصارًا، يعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم كرائم الأرض، يعبد الرحمن، ويدخر الشيطان، ويكسر الأوثان, ويخمد النيران، قوله فضل1، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله. قال: فخر عبد المطلب ساجدًا, فقال له: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك، فهل أحسست من أمره شيئًا؟ قال: نعم أيها الملك، كان لي ابن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ب: "فصل". ج / 1 ص -120- وكنت به معجبًا وعليه رفيقًا, فزوجته كريمة من كرائم قومه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فجاءت بغلام سميته محمدًا، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه، بين كتفيه شامة، وفيه كل ما ذكرت من علامة. قال له: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النصب، إنك يا عبد المطلب لجده غير الكذب، وإن الذي قلت لكما قلت, فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء, ولن يجعل الله تعالى لهم عليه سبيلا، فاطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة، من أن تكون لك الرياسة, فيبتغون لك الغوائل، وينصبون لك الحبائل، وهم فاعلون أو أبناؤهم, ولولا أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي، حتى أصير بيثرب دار مملكته، فإني أجد في الكتاب الناطق، والعلم السابق، أن بيثرب استحكام أمره، وأهل نصره، وموضع قبره، ولولا أني أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأوطأت أسنان العرب كعبه، ولأعليت على حداثة سنه ذكره، ولكني صارف ذلك إليك، عن غير تقصير بمن معك. ثم أمر لكل رجل منهم بمائة من الإبل, وعشرة أعبد، وعشر إماء، وعشرة أرطال ذهب، وعشرة أرطال فضة, وكرش مملوءة عنبرًا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك, ثم قال له: ائتني بخبره، وما يكون من أمره عند رأس الحول, فمات سيف بن ذي يزن من قبل أن يحول الحول. وكان عبد المطلب يقول: أيها الناس, لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاد، ولكن ليغبطني بما يبقى لي ولعقبي شرفه وذكره وفخره, فإذا قيل له: وما ذاك؟ يقول: ستعلمن ولو بعد حين. وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس: جلبنا النصح نحقبها المطايا إلى أكوار أجمال ونوق ج / 1 ص -121- مغلغلة مراتعها تعالى إلى صنعاء من فج عميق تؤم بنا ابن ذي يزن وتفري ذوات بطونها أم الطريق ونرعى من مخايلها بروقا مواقفة الوميض إلى بروق ولما واقفت صنعاء صارت بدار الملك والحسب العريق قال أبو الوليد: وقد ذكر الله تعالى الفيل وما صنع بأصحابه فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ...} إلى آخرها, ولو لم ينطق القرآن به لكان في الأخبار المتواطئة والأشعار المتظاهرة في الجاهلية والإسلام حجة وبيان لشهرته, وما كانت العرب تؤرخ به فكانوا يؤرخون في كتبهم وديوانهم من سنة الفيل. وفيها ولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم تزل قريش والعرب بمكة جميعًا تؤرخ بعام الفيل، ثم أرخت بعام الفجار، ثم أرخت ببنيان الكعبة فلم تزل تؤرخ به حتى جاء الله بالإسلام, فأرخ المسلمون من عام الهجرة، ولقد بلغ من شهرة أمر الفيل وصنع الله بأصحابه واستفاضة ذلك فيهم حتى قالت عائشة -رضي الله عنها- على حداثة سنها: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين ببطن مكة يستطعمان, وقد ذكر غير واحد من أحداث قريش أنه رآهما أعميين. ج / 1 ص -122- ما جاء في شواهد الشعر في ذلك: قال أبو الطفيل الغنوي وهو جاهلي: ترعى مذانب وسمي أطاع لها بالجزع حيث عصى أصحابه الفيل وقال صيفي بن عامر -وهو أبو قيس بن الأسلت الخزرجي, وهو جاهلي- يعنى قريشًا1: فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا بأركان هذا البيت بين الأخاشب فعندكم منه بلاء ومصدق غداة أبي يكسوم هادي الكتائب فلما أجازوا بطن نعمان ردهم جنود المليك بين ساف وحاصب فولوا سراعا نادمين ولم يؤب إلى أهله ملحبش2 غير عصائب وقال أبو قيس بن الأسلت3: ومن صنعه يوم فيل الحبو ش إذ كلما بعثوه رزم محاجنهم تحت أقرابه وقد شرموا أنفه فانخرم4 وقد جعلوا سوطه مغولا إذا يمموه قفاه كلم فأرسل من فوقهم حاصبا يلفهم مثل لف القزم يحث على الطير أجنادهم وقد ثأجوا كثوَّاج الغنم وقال أبو الصلت الثقفي, وهو جاهلي5: إن آيات ربنا بينات ما يماري فيهن إلا كفور حبس الفيل بالمغمس حتى ظل يحبو كأنه معقور واضعًا خلفه الجران كما قطِّـ ـر صخر من كبكب محدور وقال المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سيرة ابن هشام 1/ 59. 2 كذا في الأصل وسيرة ابن هشام، يريد: من الحبش, وفي أ: "ملجيش" وفي ب: "بالجيش". 3 سيرة ابن هشام 1/ 58. 4 كذا في سيرة ابن هشام, وفي الأصول: "وقد كلموا أنفه بالخزم". 5 سيرة ابن هشام 1/ 60. ج / 1 ص -123- أنت حبست الفيل بالمغمس حبسته كأنه مكردس من بعد ما هم بشر مجلس بمحبس ترهق فيه الأنفس وقت بثاث ربنا لم تدنس يا واهب الحي الجميع الأحمس وما لهم من طارق ومنفس وجاره مثل الجواري الكنس أنت لنا في كل أمر مضرس وفي هنات أخذت بالأنفس وقال ابن الذئبة1 الثقفي2: لعمرك ما للفتى من مفرّ مع الموت يلحقه والكبر لعمرك ما للفتى صحرة3 لعمرك ما إن له من وزر أبعد قبائل من حمير أتوا ذات صبح بذات العبر بألف ألوف وحرابة كمثل السماء قبيل المطر يصم صراحهم المقربات ينفون من قاتلوا بالذفر سعالى مثل عديد الترا ب تيبس منها رطاب الشجر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في السيرة لابن هشام ولديه موضحًا: الذئبة: أمه واسمه: ربيعة بن عبد باليل بن سالم بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي. وفي الأصول: "أذينة". 2 سيرة ابن هشام 1/ 39. 3 كذا في سيرة ابن هشام. والصحرة: المتسع، أخذ من لفظ الصحراء. وفي الأصول: "عصرة". أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ج / 1 ص -124- ما جاء في ذكر بناء قريش الكعبة في الجاهلية: حدثني أبو الوليد, قال: حدثني جدي, عن داود بن عبد الرحمن العطار قال: حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم القارئ, عن أبي الطفيل قال: قلت: يا خال, حدثني عن بنيان الكعبة قبل أن بنتها قريش. قال: كانت برضم يابس ليس بمدر تنزوه العناق, وتوضع الكسوة على الجدر ثم تدلى. ثم إن سفينة للروم أقبلت حتى إذا كانت بالشعيبة وهي يومئذ ساحل مكة قبل جدة, فانكسرت فسمعت بها قريش فركبوا إليها وأخذوا خشبها وروميا كان فيها يقال له: باقوم, نجارًا بناءً، فلما قدموا به مكة قالوا: لو بنينا بيت ربنا, فاجتمعوا لذلك ونقلوا الحجارة من الضواحي, فبينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينقلها معهم إذ انكشفت نمرته فنودي: يا محمد عورتك, فذلك أول ما نودي والله أعلم، فما رئيت له عورة بعدها. فلما جمعوا الحجارة وهموا بنقضها، خرجت لهم حية سوداء الظهر بيضاء البطن لها رأس مثل رأس الجدي, تمنعهم كلما أرادوا هدمها، فلما رأوا ذلك اعتزلوا عند المقام وهو يومئذ في مكانه اليوم, ثم قالوا: ربنا أردنا عمارة بيتك, فرأوا طائرًا أسود ظهره، أبيض بطنه، أصفر الرجلين أخذها فجرها حتى أدخلها أجياد ثم هدموها وبنوها عشرين ذراعًا طولها. قال أبو الطفيل: فاستقصرت قريش لقصر الخشب, فتركوا منها في الحجر ستة أذرع وشبرًا. قال: حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال: جلس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في الحجر وأرسل إلى رجل من بني زهرة قديم فسأله عن بنيان الكعبة فقال: إن قريشًا تقوت في بنائها فعجزوا واستقصروا, فبنوا وتركوا بعضها في الحجر فقال عمر: صدقت. قال: حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر عن الزهري قال: لما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحلم, أجمرت امرأة من قريش الكعبة فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترقت, فوهى البيت للحريق الذي أصابه فتشاغلت قريش في هدم الكعبة فهابوا هدمها, فقال لهم الوليد بن المغيرة: أتريدون بهدمها الإصلاح أم ج / 1 ص -125- الإساءة؟ قالوا: بل نريد الإصلاح قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، قالوا: من الذي يعلوها فيهدمها؟ قال الوليد بن المغيرة: أنا أعلوها فأهدمها, فارتقى الوليد على جدر البيت ومعه الفأس فقال: اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح، ثم هدم فلما رأت قريش ما هدم منها ولم يأتهم ما يخافون من العذاب هدموا معه, حتى إذا بنوا فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن: أي القبائل تلي رفعه؟ حتى كاد يشتجر بينهم فقالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة فاصطلحوا على ذلك, فطلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو غلام عليه وشاح نمرة فحكموه, فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية الثوب ثم ارتقى, وأمرهم أن يرفعوه إليه فرفعوه إليه, وكان هو الذي وضعه. حدثني جدي, قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه قال: جلس رجال من قريش في المسجد الحرام فيهم: حويطب بن عبد العزى ومخرمة بن نوفل, فتذاكروا بنيان قريش الكعبة وما هاجهم على ذلك, وذكروا كيف كان بناؤها قبل ذلك, قالوا: كانت الكعبة مبنية برضم يابس ليس بمدر, وكان بابها بالأرض ولم يكن لها سقف وإنما تدلى الكسوة على الجدر من خارج وتربط من أعلى الجدر من بطنها. وكان في بطن الكعبة عن يمين من دخلها جب يكون فيه ما يهدى إلى الكعبة من مال, وحلية كهيئة الخزانة, وكان يكون على ذلك الجب حية تحرسه بعثها الله منذ زمن جرهم, وذلك أنه عدا على ذلك الجب قوم من جرهم فسرقوا مالها وحليتها مرة بعد مرة, فبعث الله تلك الحية فحرست الكعبة وما فيها خمسمائة سنة, فلم تزل كذلك حتى بنت قريش الكعبة وكان قرنا الكبش الذي ذبحه إبراهيم خليل الرحمن معلقين في بطنها بالجدر تلقاء من دخلها، يخلقان ويطيبان إذا طيب البيت, فكان فيها معاليق من حلية كانت تهدى إلى الكعبة فكانت على ذلك من أمرها. ج / 1 ص -126- ثم إن امرأة ذهبت تجمر الكعبة فطارت من مجمرتها شرارة فأحرقت كسوتها, وكانت الكسوة عليها ركامًا بعضها فوق بعض, فلما أحرقت الكعبة توهنت جدرانها من كل جانب وتصدعت, وكانت الخرف1 والأربعة مظلة والسيول متواترة، ولمكة سيول عوارم, فجاء سيل عظيم على تلك الحال فدخل الكعبة وصدع جدرانها وأخافهم, ففزعت من ذلك قريش فزعًا شديدًا وهابوا هدمها, وخشوا إن مسوها أن ينزل عليهم العذاب. قال: فبينا هم على ذلك ينتظرون ويتشاورون إذ أقبلت سفينة للروم حتى إذا كانت بالشعيبة -وهي يومئذ ساحل مكة قبل جدة- انكسرت فسمعت بها قريش فركبوا إليها, فاشتروا خشبها وأذنوا لأهلها أن يدخلوا مكة فيبيعوا ما معهم من متاعهم على أن لا يعشروهم2، قال: وكانوا يعشرون من دخلها من تجار الروم كما كانت الروم تعشر من دخل منهم بلادها، فكان في السفينة رومي نجار بناء يسمى باقوم. فلما قدموا بالخشب مكة قالوا: لو بنينا بيت ربنا, فأجمعوا لذلك وتعاونوا عليه وترافدوا في النفقة, وربعوا قبائل قريش أرباعًا ثم اقترعوا عند هبل في بطن الكعبة على جوانبها, فطار قدح بني عبد مناف وبني زهرة على الوجه الذي فيه الباب وهو الشرقي, وقدح بني عبد الدار وبني أسد بن عبد العزى وبني عدي بن كعب على الشق الذي يلي الحجر وهو الشق الشامي, وطار قدح بني سهم وبني جمح وبني عامر بن لؤي على ظهر الكعبة وهو الشق الغربي, وطار قدح بني تميم وبني مخزوم وقبائل من قريش ضموا معهم على الشق اليماني الذي يلي الصفا وأجياد، فنقلوا الحجارة ورسول الله يومئذ غلام لم ينزل عليه الوحي ينقل معهم الحجارة على رقبته, فبينا هو ينقلها إذ انكشفت نمرة كانت عليه فنودي: يا محمد عورتك, وذلك أول ما نودي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الخرف: جمع خريف، والأربعة: جمع ربيع. 2 عشر المال: أخذ عشره مكسًا. ج / 1 ص -127- والله أعلم, فما رئيت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عورة بعد ذلك, ولُبِجَ1 برسول الله من الفزع حين نودي، فأخذه العباس بن عبد المطلب فضمه إليه وقال: لو جعلت بعض نمرتك على عاتقك تقيك الحجارة، قال: "ما أصابني هذا إلا من التعري" فشد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إزاره وجعل ينقل معهم. وكانوا ينقلون بأنفسهم تبررًا وتبركًا بالكعبة. فلما اجتمع لهم ما يريدون من الحجارة والخشب وما يحتاجون إليه عدوا على هدمها, فخرجت الحية التي كانت في بطنها تحرسها سوداء الظهر، بيضاء البطن، رأسها مثل رأس الجدي، تمنعهم كلما أرادوا هدمها، فلما رأوا ذلك اعتزلوا عند مقام إبراهيم -وهو يومئذ بمكانه الذي هو فيه اليوم, فقال لهم الوليد بن المغيرة: يا قوم, ألستم تريدون بهدمها الإصلاح؟ قالوا: بلى. قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، ولكن لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلا من طيب أموالكم, ولا تدخلوا فيه مالًا من ربا، ولا مالًا من ميسر، ولا مهر بغي، وجنبوه الخبيث من أموالكم؛ فإن الله لا يقبل إلا طيبًا ففعلوا. ثم وقفوا عند المقام فقاموا يدعون ربهم ويقولون: اللهم إن كان لك في هدمها رضًا فأتمه, واشغل عنا هذا الثعبان, فأقبل طائر من جو السماء كهيئة العقاب ظهره أسود، وبطنه أبيض، ورجلاه صفراوان والحية على جدر البيت فاغرة فاها, فأخذ برأسها ثم طار بها حتى أدخلها أجياد الصغير فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله سبحانه وتعالى قد رضي عملكم, وقبل نفقتكم فاهدموه. فهابت قريش هدمه وقالوا: من يبدأ فيهدمه؟ فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمه، أنا شيخ كبير فإن أصابني أمر كان قد دنا أجلي وإن كان غير ذلك لم يرزأني. فعلا البيت وفي يده عتلة يهدم بها فتزعزع من تحت رجله حجر فقال: اللهم لم ترع؟ إنما أردنا الإصلاح وجعل يهدمه حجرًا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 لبج به: صرع وسقط من قيام. ج / 1 ص -128- حجرًا بالعتلة, فهدم يومه ذلك فقالت قريش: إنا نخاف أن ينزل به العذاب إذا أمسى. فلما أمسى لم تر بأسًا, فأصبح الوليد بن المغيرة غاديًا على عمله فهدمت قريش معه حتى بلغوا الأساس الأول الذي رفع عليه إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت, فأبصروا حجارة كأنها الإبل الخلف لا يطيق الحجر منها ثلاثون رجلًا، يحرك الحجر منها فترتج جوانبها، قد تشبك بعضها ببعض فأدخل الوليد بن المغيرة عتلته بين الحجرين فانفلقت منه فلقة عظيمة فأخذها أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم, فنزت من يده حتى عادت في مكانها وطارت من تحتها برقة كادت أن تخطف أبصارهم, ورجفت مكة بأسرها؛ فلما رأوا ذلك أمسكوا عن أن ينظروا ما تحت ذلك, فلما جمعوا ما أخرجوا من النفقة قلت النفقة عن أن تبلغ لهم عمارة البيت كله, فتشاوروا في ذلك فأجمع رأيهم على أن يقصروا عن القواعد ويحجروا ما يقدرون عليه من بناء البيت ويتركوا بقيته في الحجر عليه جدار مدار يطوف الناس من ورائه, ففعلوا ذلك وبنوا في بطن الكعبة أساسًا يبنون عليه من شق الحجر وتركوا من ورائه من فناء البيت في الحجر ستة أذرع وشبرًا, فبنوا على ذلك فلما وضعوا أيديهم في بنائها قالوا: ارفعوا بابها من الأرض واكبسوها حتى لا تدخلها السيول, ولا ترقى إلا بسلم, ولا يدخلها إلا من أردتم, إن كرهتم أحدًا دفعتموه1. ففعلوا ذلك وبنوها بساف2 من حجارة، وساف من خشب بين الحجارة حتى انتهوا إلى موضع الركن فاختلفوا في وضعه, وكثر الكلام فيه وتنافسوا في ذلك فقال بنو عبد مناف وزهرة: هو في الشق الذي وقع لنا, وقالت تيم ومخزوم: هو في الشق الذي وقع لنا, وقالت سائر القبائل: لم يكن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 1/ 156. 2 الساف: المدماك، أو السطر والصف. ج / 1 ص -129- الركن مما استهمنا عليه1. فقال أبو أمية بن المغيرة: يا قوم, إنما أردنا البر ولم نرد الشر, فلا تحاسدوا ولا تنافسوا, فإنكم إذا اختلفتم تشتَّتت أموركم، وطمع فيكم غيركم ولكن حكموا بينكم أول من يطلع عليكم من هذا الفج، قالوا: رضينا وسلمنا، فطلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هذا الأمين قد رضينا به، فحكّموه، فبسط رداءه ثم وضع فيه الركن فدعا من كل ربع رجلًا, فأخذوا بأطراف الثوب فكان من بني عبد مناف عتبة بن ربيعة, وكان في الربع الثاني أبو زمعة بن الأسود وكان أسن القوم، وفي الربع الثالث العاصي بن وائل، وفي الربع الرابع أبو حذيفة بن المغيرة, فرفع القوم الركن وقام النبي -صلى الله عليه وسلم- على الجدر ثم وضعه بيده, فذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي -صلى الله عليه وسلم- حجرًا ليشد به الركن فقال العباس بن عبد المطلب: لا, [ونحاه] وناول العباس النبي -صلى الله عليه وسلم- حجرًا فشد به الركن, فغضب النجدي حيث نحي فقال النجدي: وا عجباه لقوم أهل شرف وعقول وسن وأموال عمدوا إلى أصغرهم سنا، وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحوزتهم كأنهم خدم له!! أما والله ليفوتنهم سبقًا, وليقسمن عليهم حظوظًا وجدودًا, ويقال: إنه إبليس2. فبنوا حتى رفعوا أربعة أذرع وشبرًا ثم كبسوها, ووضعوا بابها مرتفعًا على هذا الذرع ورفعوها بمدماك خشب ومدماك حجارة حتى بلغوا السقف. فقال لهم باقوم الرومي: أتحبون أن تجعلوا سقفها مكبسًا أو مسطحًا؟ فقالوا: بل ابن بيت ربنا مسطحًا. قال: فبنوه مسطحًا وجعلوا فيه ست دعائم في صفين, في كل صف ثلاث دعائم من الشق الشامي الذي يلي الحجر إلى الشق اليماني, وجعلوا ارتفاعها من خارجها من الأرض إلى أعلاها ثمانية عشر ذراعًا, وكانت قبل ذلك تسعة أذرع فزادت قريش في ارتفاعها في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 1/ 157. 2 إتحاف الورى 1/ 157, 158 وما بين حاصرتين منه. ج / 1 ص -130- السماء تسعة أذرع أخر, وبنوها من أعلاها إلى أسفلها بمدماك من حجارة, ومدماك من خشب وكان الخشب خمسة عشر مدماكًا, والحجارة ستة عشر مدماكًا1. وجعلوا ميزابها يسكب في الحجر, وجعلوا درجة من خشب في بطنها في الركن الشامي يصعد منها إلى ظهرها، وزوقوا سقفها وجدرانها من بطنها ودعائمها وجعلوا في دعائمها صور الأنبياء، وصور الشجر، وصور الملائكة. فكان فيها صورة إبراهيم خليل الرحمن شيخا يستقسم بالأزلام، وصورة عيسى ابن مريم وأمه، وصورة الملائكة عليهم السلام أجمعين. فلما كان يوم فتح مكة دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب فجاء بماء زمزم, ثم أمر بثوب وأمر بطمس تلك الصور، فطمست. قال: ووضع كفيه على صورة عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام وقال: "امحوا جميع الصور إلا ما تحت يدي" فرفع يديه عن عيسى ابن مريم وأمه ونظر إلى صورة إبراهيم فقال: "قاتلهم الله, جعلوه يستقسم بالأزلام, ما لإبراهيم وللأزلام". وجعلوا لها بابًا واحدًا فكان يغلق ويفتح، وكانوا قد أخرجوا ما كان في البيت من حلية ومال وقرني الكبش, وجعلوه عند أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي, وأخرجوا هبل وكان على الجب الذي فيه نصبه عمرو بن لحي هنالك ونصب عند المقام حتى فرغوا من بناء البيت, فردوا ذلك المال في الجب وعلقوا فيه الحلية وقرني الكبش, وردوا الجب في مكانه فيما يلي الشق الشامي ونصبوا هبل على الجب كما كان قبل ذلك وجعلوا له سلمًا يصعد عليه إلى بطنها, وكسوها حين فرغوا من بنائها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 1/ 159. ج / 1 ص -131- حبرات يمانية1. حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه, عن حويطب بن عبد العزى قال: كانت في الكعبة حلق أمثال لجم البهم, يدخل الخائف فيها يده فلا يريبه أحد, فجاء خائف ليدخل يده فاجتبذه رجل فشلت يده, فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشل. وحدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج قال: سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي رباح وأنا أسمع: أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى؟ قال: نعم, أدركت فيه تمثال مريم مزوقًا, في حجرها عيسى ابنها قاعدًا مزوقًا. قال: وكانت في البيت أعمدة ست سوارٍ, وصفها كما نقطت في هذا التربيع: قال: وكان تمثال عيسى ابن مريم ومريم -عليهما السلام- في العمود الذي يلي الباب. قال ابن جريج: فقلت لعطاء: متى هلك؟ قال: في الحريق في عصر ابن الزبير, وقلت: أعلى عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان؟ قال: لا أدري, وإني لأظنه قد كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له سليمان: أفرأيت تماثيل صور كانت في البيت، من طمسها؟ قال: لا أدري, غير أني أدركت من تلك الصور اثنتين درسهما وأراهما والطمس عليهما. قال ابن جريج: ثم عاودت عطاء بعد حين فخط لي ست سوارٍ كما خططت ثم قال: تمثال عيسى وأمه -عليهما السلام- في الوسطى من اللاتي تلين الباب الذي يلينا إذا دخلنا. قال ابن جريج: الذي خط هذا التربيع ونقط هذا النقط. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 1/ 159, 160. ج / 1 ص -132- حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن عمرو بن دينار قال: أدركت في بطن الكعبة قبل أن تهدم تمثال عيسى ابن مريم وأمه. وحدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن قال: أخبرني بعض الحجبة, عن مسافع بن شيبة بن عثمان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا شيبة, امح كل صورة فيه إلا ما تحت يدي" قال: فرفع يده عن عيسى ابن مريم وأمه. حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج, عن عمرو بن دينار أنه سمع أبا الشعثاء يقول: إنما يكره ما فيه الروح، قال عمرو: أن يصنع التمثال على ما فيه الروح, فأما الشجر وما ليس فيه روح فلا. حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج, عن سليمان بن موسى, عن جابر بن عبد الله قال: زجر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصور, وأمر عمر بن الخطاب زمن الفتح أن يدخل البيت فيمحو ما فيه من صورة, ولم يدخله حتى محي. حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن عبيد عن الحسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدخل الكعبة حتى أمر عمر بن الخطاب أن يطمس على كل صورة فيها. حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, قال: حدثنا يزيد بن عياض بن جعدبة, عن ابن شهاب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل الكعبة يوم الفتح وفيها صور الملائكة وغيرها, فرأى صورة إبراهيم فقال: "قاتلهم الله, جعلوه شيخًا يستقسم بالأزلام" ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها وقال: "امحوا ما فيها من الصور, إلا صورة مريم". أخبرني محمد بن يحيى, عن الثقة عنده, عن ابن إسحاق عن حكيم بن عباد بن حنيف وغيره من أهل العلم, أن قريشًا كانت قد جعلت في الكعبة ج / 1 ص -133- صورًا فيها عيسى ابن مريم ومريم -عليهما السلام. قال ابن شهاب: قالت أسماء بنت شقر: إن امرأة من غسان حجت في حاج العرب, فلما رأت صورة مريم في الكعبة قالت: بأبي وأمي إنك لعربية، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يمحوا تلك الصور إلا ما كان من صورة عيسى ومريم. حدثني محمد بن يحيى عن الثقة عنده, عن ابن إسحاق, عن محمد بن جعفر بن الزبير, عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور, عن صفية بنت شيبة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة يوم الفتح أقبل حتى أتى البيت فطاف به سبعًا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده, فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة, ففتحت له فدخلها, فوجد فيها حمامة من عيدان فطرحها. حدثني محمد بن يحيى بن أبي عمر قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي, عن أيوب, عن عكرمة قال: لما كان يوم الفتح دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيت, فإذا فيه صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام, وأحسبه قال: والكبش أو رأس الكبش, فأمرهم أن يمحوها قال: فما دخل حتى محيت قال: فلما دخل رأى الأزلام قد صورت في يد إبراهيم فقال: "قاتلهم الله, لقد أبى أنهما لم يستقسما بالأزلام". حدثني جدي وإبراهيم بن محمد الشافعي قالا: حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن خيثم قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غلامًا حيث هدمت الكعبة فكان ينقل الحجارة, فوضع على ظهره إزاره يتقي به فلبج به, فأخذه العباس فضمه إليه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني نهيت أن أتعرى". حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول: اسم الذي بنى الكعبة باقوم وكان روميا, كان في سفينة أصابتها ريح فحجبتها -يقول: حبستها- فخرجت إليها قريش بجدة فأخذوا السفينة وخشبها, وقالوا: ابنه لنا بنيان الشام. ج / 1 ص -134- حدثني جدي محمد بن يحيى, عن سفيان, عن عمرو بن دينار قال: لما أرادوا أن يبنوا الكعبة خرجت حية فحالت بينهم وبين بنائهم, وكانت تشرف على الجدار قال: فقالوا: إن أراد الله أن نتممه فسيكفيكموها ثم قال عمرو: فسمعت ابن عمير يقول: فجاء طير أبيض فأخذ بأنيابها, فذهب بها نحو الحجون. وحدثني محمد بن يحيى قال: حدثني هشام بن سليمان المخزومي, عن ابن جريج, عن عبد الله بن عبيد بن عمير, عن الوليد, عن عطاء بن حباب أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وفد على عبد الملك بن مروان في خلافته فقال له عبد الملك بن مروان: ما أظن أبا خبيب -يعني ابن الزبير- سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها، قال الحارث: أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا في بناء البيت, ولولا حداثة عهد قومك بالكفر أعدت فيه ما تركوه منه, فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلم لأريك ما تركوا منه"، فأراها قريبًا من سبعة أذرع. وزاد الوليد في الحديث: "وجعلت لها بابين موضوعين بالأرض بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟" قالت: قلت: لا. قال: "تعززًا لئلا يدخلها أحد إلا من أرادوا، فكانوا إذا كرهوا أن يدخلها الرجل يدعونه يرتقي, حتى إذا كاد أن يدخل يدفعونه فيسقط". قال عبد الملك: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم. قال: فنكت بعصاه ساعة ثم قال: إني وددت أني تركته وما يحمل. حدثني جدي قال: حدثني مالك بن أنس, عن ابن شهاب, عن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألم تري أن قومك حين بنوا البيت استقصروا عن قواعد إبراهيم؟" قالت: فقلت: يا رسول الله, ألا تردها على قواعده؟ قال: "لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت" قال عبد الله بن ج / 1 ص -135- عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أراه ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر, إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم. أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا سليم بن مسلم عن المثنى بن الصباح قال: سمعت عمرو بن شعيب يقول: كان طول الكعبة في السماء تسعة أذرع, فاستقصروا طولها وكرهوا أن يكون بغير سقف، وأرادوا الزيادة فيها فبنوها وزادوا في طولها تسعة أذرع، وتركوا في الحجر من عرضها ستة أذرع وعظم ذراع قصرت بهم النفقة. أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, حدثني ابن أبي سبرة, عن يحيى بن شبل عن أبي جعفر قال: كان باب الكعبة على عهد إبراهيم وجرهم بالأرض حتى بنتها قريش، قال أبو حذيفة بن المغيرة: يا معشر قريش, ارفعوا باب الكعبة حتى لا يدخل عليكم إلا بسلم, فإنه لا يدخل عليكم إلا من أردتم، فإن جاء أحد ممن تكرهون رميتم به فيسقط فكان نكالًا لمن رآه, ففعلت قريش ذلك وردموا الردم الأعلى وصرفوا السيل عن الكعبة, وكسوها الوصائل. وحدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن محمد بن أبي حميد, عن مودود مولى عمر بن علي, عن عمر بن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا وضعت الركن بيدي يوم اختلفت قريش في وضعه". حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي قال: حدثني خالد بن القاسم, عن ابن أبي تجراة عن أمه قالت: أنا أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضع الركن بيده فقلت: لمن الثوب الذي وضع فيه الحجر؟ قالت: للوليد بن المغيرة, ويقال: حمل الحجر في كساء طاروني كان للنبي -صلى الله عليه وسلم. وحدثني محمد بن يحيى عن الواقدي, عن ابن أبي سبرة, عن عبد الله بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث, عن هشام, عن سعيد بن المسيب قال: الذي أخذ الحجر الذي انفلق من غمز العتلة من أساس الكعبة فنزا من ج / 1 ص -136- يده فرجع مكانه, أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن هشام بن عمارة, عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم قال: الذي أخذ الحجر فنزا من يده, عامر بن نوفل بن عبد مناف, قال الواقدي: وقد ثبت أنه أبو وهب بن عمرو بن عائذ. حدثني محمد بن يحيى عن الواقدي, عن الوليد بن كثير, عن يعقوب بن عتبة قال: اجتمع عند معاوية بن أبي سفيان وهو خليفة نفر من قريش, منهم: جعدة بن هبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعبد الله بن زمعة بن الأسود, فتذاكروا أحاديث العرب فقال معاوية: من الرجل الذي نزا الحجر من يده حين حفر أساس البيت, حتى عاد مكانه؟ قالوا: من أعلم من أمير المؤمنين بهذا، قال: علي ذلك، ليس كل العلم وعيناه ولا حفظناه, لقد علمنا أمورًا فنسيناها، قالوا جميعًا: هو أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، قال معاوية: كذلك كنت أسمع من أبي وكان حاضرًا في ذلك اليوم، قال: فمن قال حين اختلفت قريش في بنيان مقدم البيت: يا معشر قريش لا تنافسوا ولا تباغضوا فيطمع فيكم غيركم, ولكن جَزِّئوا البيت أربعة أجزاء ثم ربعوا القبائل فلتكن أرباعًا؟ قالوا: إنه أبو أمية بن المغيرة قال: هكذا كنت أسمع أبي يقول. قال: فمن القائل حين اختلفت قريش في وضع الركن: حكموا بينكم أول من يطلع من هذا الباب؟ قالوا: أبو حذيفة بن المغيرة قال: نعم، قال: فمن النفر الذين رفعوا الثوب حين وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: جدك عتبة بن ربيعة أحدهم، قال: كذلك كنت أسمع أبي يقول. قال: فمن كان من الربع الثاني؟ قالوا: أبو زمعة بن الأسود بن المطلب قال: كذلك كنت أسمع أبي يقول، قال: فمن كان في الربع الثالث؟ قالوا: أبو حذيفة بن المغيرة، قال: كذلك كنت أسمع أبي يقول، قال: فمن كان في الربع الرابع؟ قالوا: أبو قيس بن عدي ج / 1 ص -137- السهمي، قال: هذه واحدة قد أخذتها عليكم, العاصي بن وائل، قال: فمن قال: يا معشر قريش, لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلا طيبًا من كسبكم؟ قالوا: أبو حذيفة بن المغيرة قال: هذه أخرى قد أخذتها عليكم, القائل هذا والمتكلم به أبو أحيحة سعيد بن العاصي قال: فأسكت القوم. حدثني سعيد بن محمد رجل من قريش قال: حدثني عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن أبيه, عن جده, عن عمر بن علي بن أبي طالب, عن علي بن أبي طالب قال: لما احترقت الكعبة في الجاهلية هدمتها قريش لتبنيها, فكشف عن ركن من أركانها من الأساس, فإذا حجر فيه مكتوب: أنا يعفر بن عبد قرا, أقرأ على ربي السلام من رأس ثلاثة آلاف سنة1. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 1/ 154. باب ما جاء في فتح الكعبة, ومتى كانوا يفتحونها؟ ودخولهم إياها، وأول من خلع النعل والخف عند دخولها: حدثنا أبو الوليد قال: أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد الله بن يزيد, عن سعيد بن عمرو الهذلي عن أبيه قال: رأيت قريشًا يفتحون البيت في الجاهلية يوم الاثنين والخميس, وكان حجابه يجلسون عند بابه فيرتقي الرجل إذا كانوا لا يريدون دخوله فيدفع ويطرح, وربما عطب, وكانوا لا يدخلون الكعبة بحذاء, يعظمون ذلك ويضعون نعالهم تحت الدرجة. أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن أشياخه قالوا: لما فرغت قريش من بناء الكعبة كان أول من خلع الخف والنعل فلم يدخلها بهما, الوليد بن المغيرة؛ إعظامًا لها فجرى ذلك سنة. ج / 1 ص -138- حدثني محمد بن يحيى, حدثنا عبد العزيز بن عمران, عن عبد الله بن أبي سليمان, عن أبيه أن فاختة بنة زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى -وهي أم حكيم بن حزام- دخلت الكعبة وهي حامل فأدركها المخاض فيها, فولدت حكيمًا في الكعبة فحملت في نطع, وأخذ ما تحت مثبرها1 فغسل عند حوض زمزم, وأخذت ثيابها التي ولدت فيها فجعلت لقى -واللقى2 أنه لم يكن يطوف أحد بالبيت إلا عريانًا- إلا الحمس, فإنهم كانوا يطوفون بالبيت وعليهم الثياب, وكان من طاف من غير الحمس في ثيابه فإذا طاف الرجل أو المرأة وفرغ من طوافه جاء بثيابه التي طاف فيها, فطرحها حول البيت فلا يمسها أحد ولا يحركها حتى تبلى من وطء الأقدام, ومن الشمس والرياح والمطر, وقال ورقة بن نوفل يذكر اللقى: كفى حزنًا كري عليها كأنها لَقًى بين أيدي الطائفين حريم3 يقول: لا يمس. حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن إسحاق الهمداني, عن زيد بن يثيع قال: سألنا عليا -عليه السلام: بأي شيء بعثك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في حجته سنة تسع؟ قال: بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع مسلم ومشرك في الحرم بعد عامهم هذا، ومن كان له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد فأربعة أشهر. قال أبو محمد: ووجدت في كتاب قديم فيما سمع من أبي الوليد, ومن كان له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد فعهده إلى مدته, ومن لم يكن له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد فعهده أربعة أشهر. حدثنا جدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني، عن معمر، عن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 المثبر -بفتح الميم: مسقط الولد. 2 اللقى: الشيء الملقى المطرح, ويقال: المنسى. 3 سيرة ابن هشام 1/ 203. ج / 1 ص -139- الزهري أن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس: قريش وأحلافها -والأحمسي: المشدد في دينه في بعض كلام العرب- فمن جاء من غيرهم وضع ثيابه وطاف في ثوب أحمسي قال: فإن لم يجد من يعيره من الحمس ثوبًا, فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانًا, وإن طاف في ثيابه ألقاها إذا قضى طوافه يحرمها فيجعلها عندها؛ فلذلك قال تبارك وتعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. حدثني جدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر, عن ابن طاوس عن أبيه قال: السملة1 من الزينة. حدثني جدي, عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود, عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع طاوسًا يقول: يا بني آدم, لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة فتبلوا حتى يأتي، {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} يقول: لم يأمرهم بالحرير ولا بالديباج, ولكنه كان أهل الجاهلية يطوف أحدهم بالبيت عريانًا ويدع ثيابه وراء المسجد فيجدها, ثم إن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه, في ذلك نزلت: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا جرير، عن منصور, عن مجاهد في قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة. قال ابن جريج: لما أن أهلك الله تعالى من أهلك من أبرهة الحبشي صاحب الفيل, وسلط عليه الطير الأبابيل عظمت جميع العرب قريشًا وأهل مكة, وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم, فازدادوا في تعظيم الحرم والمشاعر الحرام والشهر الحرام ووقروها, ورأوا أن دينهم خير الأديان وأحبها إلى الله تعالى، وقالت قريش وأهل مكة: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في أ، ب. وفي الأصل: "الشملة". والسمل: الخلق من الثياب، والشملة: الكساء والمئزر يتشح به. ج / 1 ص -140- نحن أهل الله وبنو إبراهيم خليل الله وولاة البيت الحرام وسكان حرمه وقطانه, فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا, ولا تعرف العرب لأحد مثل ما تعرف لنا, فابتدعوا عند ذلك أحداثًا في دينهم أداروها بينهم فقالوا: لا تعظمون شيئًا من الحل كما تعظمون الحرم, فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم, وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم, فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها, وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويقرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها إلا أنهم قالوا: نحن الحمس أهل الحرم, فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرم ولا نعظم غيره. ثم جعلوا لمن ولدوا من سائر العرب من سكان الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم, يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم، وكانت خزاعة وكنانة قد دخلوا معهم في ذلك. ثم ابتدعوا في ذلك أمورًا لم تكن، حتى قالوا: لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا1 الأقط ولا يسلئوا السمن وهم حرم, ولا يدخلوا بيتًا من شعر, ولا يستظلوا -إن استظلوا- إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرمًا, ثم رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل في الحرم, إذا كانوا حجاجًا أو عمارًا، ولا يأكلوا في الحرم إلا من طعام أهل الحرم إما قرى وإما شراء، وكانوا مما سنوا به أنه إذا حج الصرورة من غير الحمس2. والحمس: أهل مكة قريش وكنانة وخزاعة ومن دان بدينهم ممن ولدوا من حلفائهم وإن كان من ساكني الحل, والأحمسي: المشدد في دينه، فإذا حج ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في سيرة ابن هشام. وفي الأصول: "يأقطوا" والأقط: شيء يتخذ من المخيض الغنمي. 2 سيرة ابن هشام 1/ 202، إتحاف الورى 1/ 64. ج / 1 ص -141- الصرورة1 من غير الحمس -رجلًا كان أو امرأة- لا يطوف بالبيت إلا عريانًا الصرورة أول ما يطوف إلا أن يطوف في ثوب أحمسي إما إعارة وإما إجارة، يقف أحدهم بباب المسجد فيقول: من يعير مصونا؟2 من يعير ثوبًا؟ فإن أعاره أحمسي ثوبًا أو أكراه طاف به، وإن لم يعره ألقى ثيابه بباب المسجد من خارج ثم دخل الطواف وهو عريان، يبدأ بإساف فيستلمه، ثم يستلم الركن الأسود، ثم يأخذ عن يمينه ويطوف ويجعل الكعبة عن يمينه، فإذا ختم طوافه سبعًا استلم الركن، ثم استلم نائلة فيختم بها طوافه، ثم يخرج فيجد ثيابه كما تركها لم تمس فيأخذها فيلبسها, ولا يعود إلى الطواف بعد ذلك عريانًا3. ولم يكن يطوف بالبيت عريان إلا الصرورة من غير الحمس، فأما الحمس فكانت تطوف في ثيابها, فإن تكرم متكرم من رجل أو امرأة من غير الحمس ولم يجد ثياب أحمسي يطوف فيها ومعه فضل ثياب يلبسها غير ثيابه التي عليه، فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل، فإذا فرغ من طوافه نزع ثيابه ثم جعلها لقًى يطرحها بين إساف ونائلة، فلا يمسها أحد ولا ينتفع بها حتى تبلى من وطء الأقدام ومن الشمس والرياح والمطر، وقال الشاعر يذكر ذلك اللقى: كفى حزنًا كري عليه كأنه لقًى بين أيدي الطائفين حريم4 يقول: لا يمس, فصار هذا كله سنة فيهم، وذلك من صنع إبليس وتزيينه لهم ما يلبس عليهم من تغيير الحنيفية دين إبراهيم، فجاءت امرأة يومًا وكان لها جمال وهيئة، فطلبت ثيابًا عارية فلم تجد من يعيرها، فلم تجد بدا من أن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الصرورة: من لم يسبق له الحج. 2 في الأصل: "مضمونًا" والمثبت من بقية الأصول، ومثله في إتحاف الورى. 3 إتحاف الورى 1/ 66. 4 إتحاف الورى 1/ 67. ج / 1 ص -142- تطوف عريانة فنزعت ثيابها بباب المسجد, ثم دخلت المسجد عريانة فوضعت يديها على فرجها وجعلت تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله قال: فجعل فتيان مكة ينظرون إليها وكان لها حديث طويل، وقد تزوجت في قريش1. قال: وجاءت امرأة أيضًا تطوف عريانة وكان لها جمال، فرآها رجل فأعجبته، فدخل الطواف وطاف في جنبها لأن يمسها, فأدنى عضده من عضدها، فالتزقت عضده بعضدها, فخرجا من المسجد من ناحية بني سهم هاربين على وجوههما, فزعين لما أصابهما من العقوبة، فلقيهما شيخ من قريش -خارجًا من المسجد- فسألهما عن شأنهما، فأخبراه بقضيتهما، فأفتاهما أن يعودا، فرجعا إلى المكان الذي أصابهما فيه ما أصابهما، فيدعوان ويخلصان ألا يعودا، فرجعا إلى مكانهما فدعوا الله سبحانه وأخلصا إليه ألا يعودا, فافترقت أعضادهما, فذهب كل واحد منهما في ناحية2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سيرة ابن هشام 1/ 202، إتحاف الورى 1/ 68. 2 إتحاف الورى 1/ 69. حج أهل الجاهلية, وإنساء الشهور ومواسمهم, وما جاء في ذلك: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن محمد بن إسحاق عن الكلبي, عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس قال: كانت العرب على دينين، حلة وحمس، فالحمس: قريش وكل من ولدت من العرب وكنانة وخزاعة والأوس والخزرج ج / 1 ص -143- وجشم وبنو ربيعة بن عامر بن صعصعة وأزد شنوءة وجذم وزبيد وبنو ذكوان من بني سليم وعمرو اللات وثقيف وغطفان والغوث وعدوان وعلاف وقضاعة، وكانت قريش إذا أنكحوا عربيا امرأة منهم اشترطوا عليه أن كل من ولدت له فهو أحمسي على دينهم، وزوج الأدرم تيم بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابنته مجدا ابنه تيم بن ربيعة بن عامر1 بن صعصعة على أن ولده منها أحمسي على سنة قريش, وفيها يقول لبيد بن ربيعة بن جعفر الكلابي: سقى قومي بني مجد وأسقى نميرًا والقبائل من هلال2 وذكروا أن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان تزوج سلمى بنت ضبيعة بن علي بن يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان، فولدت له هوازن، فمرض مرضًا شديدًا، فنذرت سلمى لئن برأ لتحمسنه، فلما برئ حمسته، فلم تكن نساؤهم ينسجن ولا يغزلن الشعر ولا يسلأن السمن إذا أحرموا. قال: وكانت الحمس إذا أحرموا ألا يأتقطوا الأقط، ولا يأكلوا السمن ولا يسلئوه، ولا يمخضوا اللبن، ولا يأكلوا الزبد، ولا يلبسوا الوبر، ولا الشعر، ولا يستظلوا به ما داموا حرمًا، ولا يغزلوا الوبر، ولا الشعر ولا ينسجوه، وإنما يستظلون بالأدم ولا يأكلون شيئًا من نبات الحرم. وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ولا يخفرون فيها الذمة ولا يظلمون فيها، ويطوفون بالبيت وعليهم ثيابهم، وكانوا إذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل. وفي أ: "ابنته مجدا ابنة تيم ربيعة بن عامز" وفي ب: "ابنه مجدًا ابنة تيم بن ربيعة". وفي المحبر ص178: "مجد بنت تيم بن غالب بن فهر" ومثله في كتاب النسب لأبي عبيد القاسم بن سلام ص259. وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ص486، والعمدة لابن رشيق 2/ 911. 2 المحبر ص178، اللسان "مجد". ج / 1 ص -144- وأول الإسلام، فإن كان من أهل المدر -يعني أهل البيوت والقرى- نقب نقبًا في ظهر بيته، فمنه يدخل ومنه يخرج، ولا يدخل من بابه، وكانت الحمس تقول: لا تعظموا شيئًا من الحل, ولا تجاوزوا الحرم في الحج فلا يهاب الناس حرمكم, ويروا ما تعظمون من الحل كالحرم فقصروا عن مناسك الحج والموقف من عرفة وهو من الحل، فلم يكونوا يقفون به ولا يفيضون منه، وجعلوا موقفهم في طرف الحرم من نمرة بمفضى المأزمين يقفون به عشية عرفة, ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة, ويفيضون منه إلى المزدلفة، فإذا عممت الشمس رءوس الجبال، دفعوا وكانوا يقولون: نحن أهل الحرم لا نخرج من الحرم ونحن الحمس، فتحمست قريش ومن ولدت فتحمست معهم هذه القبائل، فسميت الحمس. وإنما سميت الحمس حمسًا للتشديد في دينهم، فالأحمسي في لغتهم المشدد في دينه، وكانت الحمس من دينهم إذا أحرموا أن لا يدخلوا بيتًا من البيوت ولا يستظلوا تحت سقف بيت، ينقب أحدهم نقبًا في ظهر بيته، فمنه يدخل إلى حجرته ومنه يخرج ولا يدخل من بابه، ولا يجوز تحت أسكفة1 بابه ولا عارضته، فإذا أرادوا بعض أطعمتهم ومتاعهم، تسوروا من ظهر بيوتهم وأدبارها حتى يظهروا على السطوح, ثم ينزلون في حجرتهم ويحرمون أن يمروا تحت عتبة الباب. وكانوا كذلك حتى بعث الله نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فأحرم عام الحديبية، فدخل بيته وكان معه رجل من الأنصار فوقف الأنصاري بالباب فقال له: "ألا تدخل؟" فقال الأنصاري: إني أحمسي يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وأنا أحمسي, ديني ودينك سواء"، فدخل الأنصاري مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما رآه دخل من بابه، فأنزل الله عز وجل: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الأسكفة: عتبة الباب. ج / 1 ص -145- وكانت الحلة تطوف بالبيت أول ما يطوف الرجل والمرأة في أول حجة يحجها عراة، وكان بنو عامر بن صعصعة وعك ممن يفعل ذلك، فكانوا إذا طافت المرأة منهم عريانة، تضع إحدى يديها على قبلها والأخرى على دبرها ثم تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله1 قال ابن عباس: فكانت قبائل من العرب من بني عامر وغيرهم يطوفون بالبيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل، فإذا بلغ أحدهم إلى باب المسجد قال للحمس: من يعير مصونا؟ من يعير معوزًا؟ فإن أعاره أحمسي ثوبه طاف به وإلا ألقى ثيابه بباب المسجد ثم دخل للطواف، فطاف بالبيت سبعًا عريانًا، وكانوا يقولون: لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب، ثم يرجع إلى ثيابه فيجدها لم تحرك، وكان بعض نسائهم تتخذ سيورًا فتعلقها في حقوتها وتستتر بها، وهو يوم تقول فيه قول العامرية: اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله إلا أن يتكرم منهم متكرم فيطوف في ثيابه، فإن طاف فيها لم يحل له أن يلبسها أبدًا ولا ينتفع بها ويطرحها لقًى, واللقى: هذه الثياب التي يطوفون فيها, يرمون بها باب المسجد, فلا يمسها أحد من خلق الله حتى تبليها الشمس والأمطار والرياح ووطء الأقدام, وفيه يقول ورقة بن نوفل الأسدي: كفى حزنًا كري عليه كأنه لقًى بين أيدي الطائفين حريم قال الكلبي: فكان أول من أنسأ الشهور من مضر، مالك بن كنانة، وذلك أن مالك بن كنانة نكح إلى معاوية بن ثور الكندي وهو يومئذ في كندة، وكانت النساءة قبل ذلك في كندة؛ لأنهم كانوا قبل ذلك ملوك العرب من ربيعة ومضر، وكانت كندة من أرداف المقاول, فنسأ ثعلبة بن مالك ثم نسأ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سيرة ابن هشام 1/ 202. ج / 1 ص -146- بعده الحارث بن مالك بن كنانة وهو القلمس، ثم نسأ بعده سرير بن القلمس، ثم كانت النساءة في بني ثعلبة حتى جاء الإسلام. وكان آخر من نسأ منهم أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن عبد بن فقيم، وهو الذي جاء في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الركن الأسود، فلما رأى الناس يزدحمون عليه قال: أيها الناس أنا له جار, فأخروا عنه فخفقه عمر بالدرة ثم قال: أيها الجلف الجافي, قد أذهب الله عزك بالإسلام. فكل هؤلاء قد نسئوا في الجاهلية والذي ينسأ لهم إذا أرادوا أن لا يحلوا المحرم قام بفناء الكعبة يوم الصدر فقال: أيها الناس, لا تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم, فإني أجاب ولا أعاب، ولا يعاب لقول قلته, فهنالك يحرمون المحرم ذلك العام. وكان أهل الجاهلية يسمون المحرم صفرا الأول، وصفر، صفرا الآخر، فيقولون: صفران وشهرا ربيع وجماديان ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة، فكان ينسأ الأنساء سنة ويترك سنة؛ ليحلوا الشهور المحرمة ويحرموا الشهور التي ليست بمحرمة. وكان ذلك من فعل إبليس ألقاه على ألسنتهم فرأوه حسنًا، فإذا كانت السنة التي ينسأ فيها، يقوم فيخطب بفناء الكعبة ويجتمع الناس إليه يوم الصدر فيقول: يا أيها الناس, إني قد أنسأت العام صفرا الأول -يعني المحرم- فيطرحونه من الشهور ولا يعتدون به، ويبتدئون العدة فيقولون لصفر وشهر ربيع الأول صفرين, ويقولون لشهر ربيع الآخر ولجمادى الأولى شهري ربيع، ويقولون لجمادى الآخرة ولرجب جماديين، ويقولون لشعبان رجبا، ولشهر رمضان شعبان، ويقولون لشوال شهر رمضان، ولذي القعدة شوالا، ولذي الحجة ذا القعدة، ولصفر الأول وهو المحرم، الشهر الذي أنسأه ذا الحجة، فيحجون تلك السنة في المحرم، ويبطل من هذه السنة شهرا ينسؤه. ج / 1 ص -147- ثم يخطبهم في السنة الثانية في وجه الكعبة أيضًا فيقول: أيها الناس, لا تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم، فإني أجاب ولا أعاب، ولا يعاب لقول قلته، اللهم إني قد أحللت دماء المحلين طيئ وخثعم في الأشهر الحرم، وإنما أحل دماءهم؛ لأنهم كانوا يعدون على الناس في الأشهر الحرم من بين العرب فيعرونهم, يطلبون بثأرهم ولا يقفون عن حرمات الأشهر الحرم كما يفعل غيرهم من العرب. فكان سائر العرب من الحلة والحمس، لا يعدون في الأشهر الحرم على أحد ولو لقي أحدهم قاتل أبيه أو أخيه، ولا يستاقون مالا، إعظاما للشهور الحرم، إلا خثعما وطيئا فإنهم كانوا يعدون في الأشهر الحرم، فهنالك يحرمون من تلك السنة المحرم وهو صفر الأول ثم يعدون الشهور على عدتهم التي عدوها في العام الأول, فيحجون في كل شهر حجتين، ثم ينسأ في السنة الثانية، فينسأ صفر الأول في عدتهم هذه وهو صفر الآخر في العدة الثانية حتى تكون حجتهم في صفر أيضًا حجتين، وكذلك الشهور كلها حتى يستدير الحج في كل أربع وعشرين سنة إلى المحرم الذي ابتدءوا منه الإنساء، يحجون في الشهور كلها في كل شهر حجتين. فلما جاء الله بالإسلام، أنزل في كتابه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] فأنزل الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]. فلما كان عام فتح مكة سنة ثمانٍ, استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس على مكة ومضى إلى حنين فغزا هوازن، فلما فرغ منها مضى إلى الطائف ثم رجع عن الطائف إلى الجعرانة فقسم بها غنائم حنين في ذي القعدة، ثم دخل مكة ليلًا معتمرًا، فطاف البيت وبين الصفا والمروة من ليلته ومضى إلى الجعرانة فأصبح بها كبائت، فأنشأ الخروج ج / 1 ص -148- منها راجعًا إلى المدينة، فهبط من الجعرانة في بطن سرف, حتى لقي طريق المدينة من سرف. ولم يؤذن للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج تلك السنة، وذلك أن الحج وقع تلك السنة في ذي القعدة، ولم يبلغنا أنه استعمل عتابًا على الحج تلك السنة، سنة ثمان، ولا أمره فيه بشيء، فلما جاء الحج، حج المسلمون والمشركون فدفعوا معًا فكان المسلمون في ناحية يدفع بهم عتاب بن أسيد ويقف بهم المواقف؛ لأنه أمير البلد، وكان المشركون ممن كان لهم عهد ومن لم يكن لهم عهد في ناحية يدفع بهم أبو سيارة العدواني على أتان عوراء رسنها ليف. قال: فلما كان سنة تسع، وقع الحج في ذي الحجة، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى مكة, واستعمله على الحج وعلمه المناسك وأمره بالوقوف على عرفة وعلى جمع، ثم نزلت سورة براءة خلاف أبي بكر, فبعث بها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع علي -عليه السلام- وأمره إذا خطب أبو بكر وفرغ من خطبته قام علي، فقرأ على الناس سورة براءة ونبذ إلى المشركين عهدهم، وقال: "لا يجتمعن مسلم ومشرك على هذا الموقف بعد عامهم هذا" وكان أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- الذي يخطب على الناس ويصلي بهم ويدفع بهم في الموقف. فلما كان سنة عشر، أذن الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في الحج، فحج رسول الله حجة الوداع -وهي حجة التمام- فوقف بعرفة فقال: "يأيها الناس, إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض, فلا شهر ينسأ ولا عدة تخطأ، وإن الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة" قال: "وكانت الإفاضة في الجاهلية إلى صوفة, وصوفة رجل يقال له: أخزم بن العاص بن عمرو بن مازن بن الأسد, وكان أخزم قد تصدق بابن له على الكعبة يخدمها، فجعل إليه حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر الخزاعي الإفاضة بالناس على الموقف وحبشية يومئذ يلي حجابة الكعبة ج / 1 ص -149- وأمر مكة يصطف الناس على الموقف فيقول حبشية: أجيزي صوفة فيقول الصوفي: أجيزوا أيها الناس فيجوزون". يقال: إن امرأة من جرهم تزوجها أخزم بن العاص بن عمرو بن مازن بن الأسد وكانت عاقرًا, فنذرت إن ولدت غلامًا أن تصدق به على الكعبة عبدًا لها يخدمها ويقوم عليها، فولدت من أخزم الغوث، فتصدقت به عليها، فكان يخدمها في الدهر الأول مع أخواله من جرهم, فولي الإجازة بالناس لمكانه من الكعبة وقالت أمه حين أتمت نذرها وخدم الغوث بن أخزم الكعبة: إني جعلت رب من بنيه1 ربيطة بمكة العليه فباركن لي بها أليه واجعله لي من صالح البريه2 فولي الغوث بن أخزم الإجازة من عرفة وولده من بعده في زمن جرهم وخزاعة حتى انقرضوا، ثم صارت الإفاضة في عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر في زمن قريش في عهد قصي، وكانت من بني عدوان في آل زيد بن عدوان يتوارثونه، حتى كان الذي قام عليه الإسلام سيارة العدواني وهو عمير الأعزل بن خالد بن سعيد بن الحارث بن زيد بن عدوان، وكان أيضًا من عدوان حاكم العرب عامر بن الظرب. فإذا كان الحج في الشهر الذي يسمونه ذا الحجة، خرج الناس إلى مواسمهم فيصبحون بعكاظ يوم هلال ذي القعدة, فيقيمون به عشرين ليلة تقوم فيها أسواقهم بعكاظ والناس على مداعيهم وراياتهم منحازين في المنازل, تضبط كل قبيلة أشرفها وقادتها ويدخل بعضهم في بعض للبيع والشراء ويجتمعون في بطن السوق، فإذا مضت العشرون انصرفوا إلى مجنة فأقاموا بها عشرًا، أسواقهم قائمة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في سيرة ابن هشام: "من بييه". 2 سيرة ابن هشام 1/ 119. ج / 1 ص -150- فأقاموا به ثماني ليال أسواقهم قائمة، ثم يخرجون يوم التروية من ذي المجاز إلى عرفة فيتروون ذلك اليوم من الماء بذي المجاز. وإنما سمي يوم التروية؛ لترويهم من الماء بذي المجاز، ينادي بعضهم بعضًا: ترووا من الماء؛ لأنه لا ماء بعرفة ولا بالمزدلفة يومئذ، وكان يوم التروية آخر أسواقهم، وإنما كان يحضر هذه المواسم بعكاظ، ومجنة، وذي المجاز التجار ومن1 كان يريد التجارة، ومن لم يكن له تجارة ولا بيع فإنه يخرج من أهله متى أراد، ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة، خرج من مكة يوم التروية، فيتروون من الماء فتنزل الحمس أطراف الحرم من نمرة يوم عرفة, وتنزل الحلة عرفة. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته التي دعا فيها بمكة قبل الهجرة لا يقف مع قريش والحمس في طرف الحرم، وكان يقف مع الناس بعرفة. قال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: أضللت بعيرًا يوم عرفة فخرجت أقصه وأتبعه بعرفة إذ أبصرت محمدًا بعرفة فقلت: هذا من الحمس ما يوقفه ههنا؟ فعجبت له، قال: وكانوا لا يتبايعون في يوم عرفة ولا أيام منى، فلما أن جاء الله بالإسلام أحل الله ذلك لهم, فأنزل الله تعالى في كتابه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وفي قراءة أبي بن كعب في مواسم الحج -يعني: منى وعرفة وعكاظا ومجنة وذا المجاز- فهذه مواسم الحج، فإذا جاءوا عرفة أقاموا بها يوم عرفة فتقف الحلة على الموقف من عرفة عشية عرفة, وتقف الحمس على أنصاب الحرم من نمرة, فإذا دفع الناس من عرفة وأفاضوا أفاضت الحمس من أنصاب الحرم وأفاضت الحلة من عرفة حتى يلتقوا بمزدلفة جميعًا. وكانوا يدفعون من عرفة إذا طفلت الشمس للغروب, وكانت على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم، فإذا كان هذا الوقت دفعت الحلة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل أ. وفي ب: "من". ج / 1 ص -151- من عرفة ودفعت معها الحمس من أنصاب الحرم حتى يأتوا جميعًا مزدلفة فيبيتوا بها حتى إذا كان في الغلس، وقفت الحلة والحمس على قزح، فلا يزالون عليه حتى إذا طلعت الشمس وصارت على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم دفعوا من مزدلفة, وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير, أي: أشرق بالشمس حتى ندفع من المزدلفة, فأنزل الله في الحمس: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] -يعني: من عرفة- والناس الذين كانوا يدفعون منها أهل اليمن وربيعة وتميم. فلما حج النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس بعرفة فقال: "إن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من عرفة إذا صارت الشمس على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم, ويدفعون من مزدلفة إذا طلعت الشمس على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم, وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس، ونحل فطر الصائم، وندفع من مزدلفة غدًا -إن شاء الله- قبل طلوع الشمس, هدينا مخالف لهدي أهل الشرك الشرك والأوثان". قال الكلبي: وكانت هذه الأسواق بعكاظ، ومجنة، وذي المجاز قائمة في الإسلام، حتى كان حديثًا من الدهر: فأما عكاظ فإنما تركت عام خرجت الحرورية1 بمكة مع أبي حمزة المختار بن عوف الأزدي الإباضي2 في سنة تسع وعشرين ومائة، خاف الناس أن ينهبوا وخافوا الفتنة فتركت حتى الآن. ثم تركت مجنة وذو المجاز بعد ذلك، واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى وبعرفة. قال أبو الوليد: وعكاظ وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الحرورية: طائفة من الخوارج تنسب إلى حروراء بقرب الكوفة؛ لأنه كان بها أول اجتماعهم وتحكيمهم من خالفوا عليا. 2 الإباضية: فرقة من الخوارج شاع أمرها في أواخر الدولة الأموية، تنسب إلى عبد الله بن إباض التميمي. ج / 1 ص -152- عمل الطائف على بريد منها, وهي سوق لقيس بن عيلان وثقيف وأرضها لنصر, ومجنة سوق بأسفل مكة على بريد منها وهي سوق لكنانة, وأرضها من أرض كنانة, وهي التي يقول فيها بلال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بفخ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يومًا مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل1 وشامة وطفيل: جبلان مشرفان على مجنة، وذو المجاز: سوق لهذيل عن يمين الموقف من عرفة, قريب من كبكب على فرسخ من عرفة, وحباشة: سوق الأزد وهي في ديار الأوصام من بارق من صدر قنونى وحلي من ناحية اليمن, وهي من مكة على ست ليالٍ وهي آخر سوق خربت من أسواق الجاهلية. وكان والي مكة يستعمل عليها رجلًا يخرج معه بجند فيقيمون بها ثلاثة أيام من أول رجب متوالية، حتى قتلت الأزد واليًا كان عليها من غني, بعثه داود بن عيسى بن موسى في سنة سبع وتسعين ومائة، فأشار فقهاء أهل مكة على داود بن عيسى بتخريبها فخربها, وتركت إلى اليوم. وإنما ترك ذكر حباشة مع هذه الأسواق؛ لأنها لم تكن في مواسم الحج ولا في أشهره, وإنما كانت في رجب. قال: وكانوا يرون أن أفجر الفجور العمرة في أشهر الحج، تقول قريش وغيرها من العرب: لا تحضروا سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز إلا محرمين بالحج, وكانوا يعظمون أن يأتوا شيئًا من المحارم أو يعدو بعضهم على بعض في الأشهر الحرم وفي الحرم. وإنما سمي الفجار لما صنع فيه من الفجور، وسفك فيه من الدماء، فكانوا يأمنون في الأشهر الحرم وفي الحرم وكانوا يقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الوبر، ودخل صفر, حلت العمرة لمن اعتمر -يعنون: إذا برأ دبر الإبل التي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سيرة ابن هشام 2/ 589. ج / 1 ص -153- كانوا شهدوا الموسم وحجوا عليها وعفى وبرها, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الإسلام: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" فاعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمره كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية، وعمرة القضاء من قابل، وعمرته من الجعرانة كلها في ذي القعدة وأرسل عائشة -رضي الله عنها- مع أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر ليلة الحصبة, فاعتمرت من التنعيم. قال: وكان من سنتهم أن الرجل يحدث الحدث بقتل الرجل، أو يلطمه، أو يضربه فيربط لحا من لحا الحرم قلادة في رقبته ويقول: أنا صرورة1 فيقال: دعوا الصرورة بجهله وإن رمى بجعره في رجله فلا يعرض له أحد، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا صرورة2 في الإسلام, وإن من أحدث حدثًا أُخذ بحدثه". قال: فكان عمرو بن لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر الخزاعي وهو الذي غير دين الحنيفية دين إبراهيم -عليه السلام- كان فيهم شريفًا، سيدًا، مطاعًا, يطعم الطعام، ويحمل المغرم وكان ما قال لهم فهو دين متبع لا يعصى. وكان إبليس يلقي على لسانه الشيء الذي يغير به الإسلام فيستحسنه فيعمل به فيعمله أهل الجاهلية، وهو الذي جاء بهبل من أرض الجزيرة فجعله في الكعبة وجعل عنده سبعة قداح يستقسمون بها, في كل قدح منها كتاب يعملون بما يخرج فيه، فإذا أراد الرجل أمرًا أو سفرًا أخرج منها قدحين, في أحدهما مكتوب: أمرني ربي، وفي الآخر: نهاني ثم يضرب بهما ومعهما قدح غفل, فإن خرج الناهي جلس، وإن خرج الآمر مضى، وإن خرج الغفل أعاد الضرب حتى يخرج, أما الناهي وأما الآمر والباقي من القداح سبعة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تحرف في الأصول إلى: "ضرورة" بالضاد المعجمة, والصرورة -بالصاد المهملة: من لم يتزوج, ومن لم يحج. 2 تحرف في الأصول أيضًا إلى الضرورة -بالضاد المعجمة- وصوابه لدى صاحب الكنز برقم 44430. ج / 1 ص -154- مكتوب عليها, منها قدح مكتوب عليه العقل، وقدح فيه نعم، وقدح فيه لا، وقدح فيه منكم، وقدح فيه من غيركم, وقدح فيه ملصق، وقدح فيه المائة, فإذا أرادوا أن يختنوا غلامًا، أو ينكحوا أيما، أو يدفنوا ميتًا ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور ثم قالوا لغاضرة بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي, وكانت القداح إليه فقالوا: هذه مائة درهم وجزور, لقد أردنا كذا وكذا, فاضرب لنا على فلان ابن فلان فإن كان كما قال أهله, خرج العقل أو نعم أو "منكم" فما خرج من ذلك انتهوا إليه في أنفسهم، وإن خرج "لا" ضرب على المائة, فإن خرج "منكم" كان منهم وسيطًا، وإن خرج "من غيركم" كان حليفًا، وإن خرج "ملصق" كان دعيا نفيا, فمكثوا زمانًا وهم يخلطون، وكان عمرو بن لحي غير تلبية إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام بينما هو يسير على راحلته في بعض مواسم الحج وهو يلبي, إذ مثل له إبليس في صورة شيخ نجدي على بعير أصهب فسايره ساعة ثم لبى إبليس فقال: لبيك اللهم لبيك، فقال عمرو بن لحي مثل ذلك، فقال إبليس: لبيك لا شريك لك، فقال عمرو مثل ذلك فقال إبليس: إلا شريك هو لك فقال عمرو: وما هذا؟ قال إبليس لعنه الله: إن بعد هذا ما يصلحه إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك؛ فقال عمرو بن لحي: ما أرى بهذا بأسًا, فلباها فلبى الناس على ذلك وكانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك, فلم تزل تلك تلبيتهم حتى جاء الله بالإسلام ولبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلبية إبراهيم الصحيحة: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك", فلباها المسلمون. ج / 1 ص -155- إكرام أهل الجاهلية الحاج: حدثنا أبو الوليد قال: أخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق أن هاشم بن عبد مناف كان يقول لقريش إذا حضر الحج: يا معشر قريش, إنكم جيران الله وأهل بيته خصكم الله بذلك وأكرمكم به, ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره, فأكرموا ضيافه وزوار بيته, يأتونكم شعثًا غبرًا من كل بلد، فكانت قريش ترافد على ذلك حتى إن كان أهل البيت ليرسلون بالشيء اليسير رغبة في ذلك, فيقبل منهم لما يرجى لهم من منفعته. إطعام أهل الجاهلية حاج البيت: حدثنا أبو الوليد قال: أخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق أن قصي بن كلاب بن مرة قال لقريش: يا معشر قريش, إنكم جيران الله وأهل الحرم، وإن الحاج ضيفان الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام هذا الحج، حتى يصدروا عنكم. ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجًا تخرجه قريش في كل موسم من أموالهم، فيدفعونه إلى قصي، فيصنعه طعامًا للحاج أيام الموسم بمكة ومنى، فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه وهي الرفادة, حتى قام الإسلام وهو في الإسلام إلى يومك هذا، وهو الطعام الذي يصنعه السلطان بمكة ومنى للناس حتى ينقضي الحاج. ج / 1 ص -156- ما جاء في حريق الكعبة, وما أصابها من الرمي من أبي قبيس بالمنجنيق: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي أحمد بن محمد وإبراهيم بن محمد الشافعي، عن مسلم بن خالد, عن ابن خيثم, عن عبيد الله بن سعد أنه دخل مع عبد الله بن عمرو بن العاص المسجد الحرام، والكعبة محرقة، حين أدبر جيش الحصين بن نمير، والكعبة تتناثر حجارتها، فوقف ومعه ناس غير قليل فبكى حتى إني لأنظر إلى دموعه تحدر كحلًا في عينيه من إثمد، كأنه رءوس الذباب على وجنتيه، فقال: يأيها الناس، والله لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتلو ابن نبيكم بعد نبيكم، ومحرقو بيت ربكم لقلتم: ما من أحد أكذب من أبي هريرة، أنحن نقتل ابن نبينا ونحرق بيت ربنا؟ فقد والله فعلتم، لقد قتلتم ابن نبيكم، وحرقتم بيت الله، فانتظروا النقمة، فوالذي نفس عبد الله بن عمرو بيده، ليلبسنكم الله شيعًا وليذيقن بعضكم بأس بعض، يقولها ثلاثًا، ثم رفع صوته في المسجد، فما في المسجد أحد إلا وهو يفهم ما يقول، فإن لم يكن يفهم فإنه يسمع رجع صوته، فقال: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟ فوالذي نفس عبد الله بن عمرو بيده، لو قد ألبسكم الله شيعًا وأذاق بعضكم بأس بعض؛ لبطن الأرض خير لمن عليها، لم يأمر بالمعروف ولم ينهَ عن المنكر. حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن حسن بن محمد بن علي بن الحنفية، قال: أول ما تكلم في القدر حين احترقت الكعبة، فقال رجل: طارت شررة فاحترقت ثياب الكعبة، وكان ذلك من قدر الله، وقال الآخر: ما قدر الله هذا. حدثنا مهدي بن أبي المهدي, عن عبد الملك الذماري، قال: أخبرنا سفيان ج / 1 ص -157- الثوري, عن سلمة بن كهيل, عن عليم الكندي، قال: قال سلمان الفارسي: لتحرقن هذه الكعبة على يدي رجل من أهل الزبير. أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد الله بن جعفر الزهري قال: سألت أبا عون: متى كان احتراق الكعبة؟ قال: يوم السبت لليال خلون من شهر ربيع الأول، قبل أن يأتينا نعي يزيد بن معاوية بتسعة وعشرين يومًا، وجاء نعيه في هلال شهر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين، قلت: وما كان سبب احتراقها؟ قال: جاءنا موت يزيد، توفي لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر، والحصين بن نمير يومئذ عندنا، وكان احتراقها بعد الصاعقة التي أصابت أهل الشام بعشرين ليلة، قال أبو عون: ما كان احتراقها إلا منا، وذلك أن رجلًا منا -وهو مسلم بن أبي خليفة المذحجي- كان هو وأصحابه يوقدون في خصاص لهم حول البيت، فأخذ نارًا في زج رمحه في النفط، وكان يوم ريح، فطارت منها شررة فاحترقت الكعبة حتى صارت إلى الخشب، فقلنا لهم: هذا عملكم, رميتم بيت الله عز وجل بالنفط والنار! فأنكروا ذلك. قال: حدثني محمد بن يحيى قال: قال الواقدي: حدثني رباح بن مسلم, عن أبيه قال: كانوا يوقدون في الخصاص، فأقبلت شررة هبت بها الريح، فاحترقت ثياب الكعبة واحترق الخشب. حدثني محمد بن يحيى قال: قال الواقدي: وحدثني عبد الله بن يزيد, عن عروة بن أذينة قال: قدمت مكة مع أبي يوم احترقت الكعبة، فرأيت الخشب قد خلصت إليه النار، ورأيتها مجردة من الحريق ورأيت الركن قد اسودّ فقلت: ما أصاب الكعبة؟ فأشاروا إلى رجل من أصحاب ابن الزبير، فقالوا: هذا احترقت الكعبة في سببه؛ أخذ نارًا في رأس رمح له، فطارت به الريح فضربت أستار الكعبة فيما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود. ج / 1 ص -158- حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن سعيد بن عبد العزيز, عن رجل من قومه قال: نصبنا المنجنيق على أبي قبيس فاعتقبه1 الرجال، وقد ألجأنا القوم إلى المسجد، فبنوا خصاصًا حول البيت في المسجد ورفافًا من خشب تكنهم من حجارة المنجنيق، فكنت أراهم إذا أمطرنا عليهم الحجارة يكتنون2 تحت تلك الرفاف، قال: فوهن الرمي بحجارة المنجنيق الكعبة, فهي تنقض. حدثنا محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن رباح بن مسلم عن أبيه قال: رأيت الحجارة تصك وجه الكعبة من أبي قبيس حتى تخرقها، فلقد رأيتها كأنها جيوب النساء، وترتج من أعلاها إلى أسفلها، ولقد رأيت الحجر يمر، فيهوي الآخر على إثره، فيسلك طريقه، حتى بعث الله عليهم صاعقة بعد العصر، فاحترق المنجنيق واحترق تحته ثمانية عشر رجلًا من أهل الشام، فجعلنا نقول: قد أظلهم العذاب، فكنا أيامًا في راحة حتى عملوا منجنيقًا آخر, فنصبوه على أبي قبيس3. حدثني محمد بن إسماعيل بن أبي عصيدة... قال: حدثني أبو النضر هاشم بن القاسم الليثي, عن مولى لابن المرتفع, عن ابن المرتفع، قال: كنا مع ابن الزبير في الحجر، فأول حجر من المنجنيق وقع في الكعبة، فسمعنا لها أنينًا كأنين المريض, آه آه4. حدثني جدي, حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج، قال: أخبرتني عجوز من أهل مكة كانت مع عبد الله بن الزبير بمكة، فقلت لها: أخبريني عن احتراق الكعبة كيف كان؟ قالت: كان المسجد فيه خيام كثيرة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل أ. وفي ب: "واعتنقه". 2 كذا في الأصل أ. ومثله في إتحاف الورى 2/ 61. وفي ب: "يكنون". 3 إتحاف الورى 2/ 61. 4 إتحاف الورى 2/ 61. ج / 1 ص -159- فطارت النار من خيمة منها فاحترقت الخيام، والتهب المسجد حتى تعلقت النار بالبيت فاحترق، قال عثمان: وبلغني أنه لما قدم جيش الحصين بن نمير، أحرق بعض أهل الشام على باب بني جمح والمسجد يومئذ خياما وفساطيط، فمشى الحريق حتى أخذ في البيت، فظن الفريقان كلاهما أنهم هالكون، فضعف بناء الكعبة، حتى إن الطير ليقع عليه فتتناثر حجارته. باب ما جاء في بناء ابن الزبير الكعبة, وما زاد فيها من الأذرع التي كانت في الحجر من الكعبة, وما نقص منها الحجاج: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي أحمد بن محمد, عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، قال: سمعت غير واحد من أهل العلم ممن حضر ابن الزبير حين هدم الكعبة وبناها، قالوا: لما أبطأ عبد الله بن الزبير عن بيعة يزيد بن معاوية، وتخلف وخشي منهم؛ لحق بمكة ليمتنع بالحرم، وجمع مواليه، وجعل يظهر عيب يزيد بن معاوية ويشتمه ويذكر شربه الخمر وغير ذلك ويثبط الناس عنه، ويجتمع الناس إليه فيقوم فيهم بين الأيام فيذكر مساوئ بني أمية فيطنب في ذلك، فبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فأقسم أن لا يؤتى به إلا مغلولًا، فأرسل إليه رجلًا من أهل الشام، في خيل من خيل الشام، فعظم على ابن الزبير الفتنة وقال: لأن يستحل الحرم بسببك، فإنه غير تاركك ولا تقوى عليه، وقد لج في أمرك وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولًا، وقد عملت لك غلا من فضة، وتلبس فوقه الثياب، وتبر قسم أمير المؤمنين، فالصلح خير عاقبة وأجمل بك وبه؛ فقال: دعوني أيامًا حتى أنظر في أمري، فشاور أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فأبت عليه أن يذهب مغلولًا وقالت: يا بني, عش كريمًا ومت كريمًا، ولا تمكن بني ج / 1 ص -160- أمية من نفسك فتلعب بك، فالموت أحسن من هذا، فأبى عليه أن يذهب إليه في غل، وامتنع في مواليه ومن تألف إليه من أهل مكة وغيرهم، وكان يقال لهم: الزبيرية. فبينما يزيد على بعثة الجيوش إليه، إذ أتى يزيد خبر أهل المدينة وما فعلوا بعامله, ومن كان معه بالمدينة من بني أمية, وإخراجهم إياهم منها إلا من كان من ولد عثمان بن عفان. فجهز إليهم مسلم بن عقبة المري، في أهل الشام وأمره بقتال أهل المدينة، فإذا فرغ من ذلك سار إلى ابن الزبير بمكة، وكان مسلم مريضًا، في بطنه الماء الأصفر، فقال له يزيد: إن حدث بك الموت، فولِّ الحصين بن نمير الكندي على جيشك. فسار حتى قدم المدينة فقاتله أهل المدينة فظفر بهم ودخلها، وقتل من قتل منهم، وأسرف في القتل، فسمي بذلك مسرفًا، وأنهب1 المدينة ثلاثًا. ثم سار إلى مكة، فلما كان ببعض الطريق حضرته الوفاة، فدعا الحصين بن نمير فقال له: يا برذعة الحمار، لولا أني أكره أن أتزود عند الموت معصية أمير المؤمنين ما وليتك، انظر إذا قدمت مكة فاحذر أن تمكن قريشًا من أذنك فتبول فيها، لا تكن إلا الوقاف، ثم الثقاف2، ثم الانصراف. فتوفي مسلم المسرف، ومضى الحصين بن نمير إلى مكة، فقاتل ابن الزبير بها أيامًا، وجمع ابن الزبير أصحابه، فتحصن بهم في المسجد الحرام وحول الكعبة، وضرب أصحاب ابن الزبير في المسجد خيامًا ورفافًا يكتنّون فيها من حجارة المنجنيق, ويستظلون فيها3 من الشمس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أنهب الشيء: جعله نهبًا يُغار عليه. 2 أي: المجالد بالسلاح. 3 كذا في الأصل ب. وفي أ: "بها". ج / 1 ص -161- وكان الحصين بن نمير قد نصب المنجنيق على أبي قبيس وعلى الأحمر -وهما أخشبا مكة- فكان يرميهم بها فتصيب الحجارة الكعبة، حتى تخرقت كسوتها عليها، فصارت كأنها جيوب النساء، فوهن الرمي بالمنجنيق الكعبة، فذهب رجل من أصحاب ابن الزبير يوقد نارًا في بعض تلك الخيام، مما يلي الصفا بين الركن الأسود والركن اليماني، والمسجد يومئذ ضيق صغير، فطارت شررة في الخيمة فاحترقت، وكانت في ذلك اليوم رياح شديدة، والكعبة يومئذ مبنية بناء قريش مدماكا من ساج، ومدماكا من حجارة من أسفلها إلى أعلاها، وعليها الكسوة، فطارت الرياح بلهب تلك النار فاحترقت كسوة الكعبة واحترق الساج الذي بين البناء، وكان احتراقها يوم السبت لثلاث ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول قبل أن يأتي نعي يزيد بن معاوية بسبعة وعشرين يومًا، وجاء نعيه في هلال شهر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين، وكان توفي لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين؛ وكانت خلافته ثلاث سنين وسبعة أشهر. فلما احترقت الكعبة؛ واحترق الركن الأسود فتصدع، كان ابن الزبير بعد ربطه بالفضة، فضعفت جدرات1 الكعبة، حتى إنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها، وتقع الحمام عليها، فتتناثر حجارتها وهي مجردة متوهنة من كل جانب، ففزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعًا، والحصين بن نمير مقيم، محاصر ابن الزبير. فأرسل ابن الزبير رجالًا من أهل مكة من قريش وغيرهم، فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد، ورجال من بني أمية إلى الحصين، فكلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة، وقالوا: إن ذلك كان منكم رميتموها بالنفط فأنكروا ذلك وقالوا: قد توفي أمير المؤمنين فعلى ماذا تقاتل؟ ارجع إلى الشام حتى تنظر ماذا يجتمع عليه رأي صاحبك -يعنون معاوية بن يزيد- وهل يجمع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل أ. وفي ب: "جدارات". ج / 1 ص -162- الناس عليه؟ فلم يزالوا حتى لان لهم، وقال له عبد الله بن خالد بن أسيد: أراك تتهمني في يزيد, ولم يزالوا به حتى رجع إلى الشام. فلما أدبر جيش الحصين بن نمير، وكان خروجه من مكة لخمس ليالٍ خلون من ربيع الآخر سنة أربع وستين، دعا ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم وشاورهم في هدم الكعبة، فأشار عليه ناس غير كثير بهدمها، وأبى أكثر الناس هدمها، وكان أشدهم عليه إباء عبد الله بن عباس، وقال له: دعها على ما أقرها عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى فيتهاون الناس في حرمتها، ولكن ارقعها، فقال ابن الزبير: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الله سبحانه، وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلى أسفله، حتى إن الحمام ليقع عليه فتتناثر حجارته؛ وكان ممن أشار عليه بهدمها جابر بن عبد الله -وكان جاء معتمرًا- وعبيد بن عمير، وعبد الله بن صفوان بن أمية. فأقام أيامًا يشاور وينظر ثم أجمع على هدمها، وكان يحب أن يكون هو الذي يردها على ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "على قواعد إبراهيم" وعلى ما وصفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها، فأراد أن يبنيها بالورس ويرسل إلى اليمن في ورس يشترى له، فقيل له: إن الورس يرفَتُّ1 ويذهب، ولكن ابنها بالقَصَّة2، فسأل عن القصة فأخبر أن قصة صنعاء هي أجود القصة، فأرسل إلى صنعاء بأربعمائة دينار يشترى له بها قصة ويكترى عليها، وأمر بتنجيح ذلك. ثم سأل رجالًا من أهل العلم من أهل مكة: من أين أخذت قريش حجارتها؟ فأخبروه بمقلعها، فنقل له من الحجارة قدر ما يحتاج إليه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 يرفتّ أي: ينكسر ويتحطم ويصير رفاتا, والرفات: الحطام, والفتات من كل ما تكسر واندقّ. 2 القَصَّة -بالفتح: الجص، لغة حجازية. ج / 1 ص -163- فلما اجتمعت الحجارة وأراد هدمها خرج أهل مكة منها إلى منى، فأقاموا بها ثلاثًا فرقًا من أن ينزل عليهم عذاب لهدمها، فأمر ابن الزبير بهدمها، فما اجترأ أحد على ذلك، فلما رأى ذلك، علاها هو بنفسه فأخذ المعول وجعل يهدمها ويرمي بحجارتها، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترءوا فصعدوا يهدمونها، وأرقى ابن الزبير فوقها عبيدًا من الحبش يهدمونها؛ رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشي، الذي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" قال: وقال مجاهد: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: كأني به أصيلع، أفيدع, قائم عليها, يهدمها بمسحاته. قال مجاهد: فلما هدم ابن الزبير الكعبة، جئت أنظر، هل أرى الصفة التي قال عبد الله بن عمرو؟ فلم أرها فهدموها وأعانهم الناس، فما ترجّلت الشمس حتى ألصقها كلها بالأرض من جوانبها جميعًا1. وكان هدمها يوم السبت النصف من جمادى الآخرة سنة أربع وستين، ولم يقرب ابن عباس مكة حين هدمت الكعبة, حتى فرغ منها، وأرسل إلى ابن الزبير: لا تدع الناس بغير قبلة، انصب لهم حول الكعبة الخشب، واجعل عليها الستور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلوا إليها، ففعل ذلك ابن الزبير، وقال ابن الزبير: أشهد لسمعت عائشة -رضي الله عنها- تقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا في بناء البيت، وعجزت بهم النفقة، فتركوا في الحجر منها أذرعًا، ولولا حداثة قومك بالكفر، لهدمت الكعبة وأعدت ما تركوا منها، ولجعلت لها بابين موضوعين بالأرض، بابًا شرقيا يدخل منه الناس، وبابًا غربيا يخرج منه الناس، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟" قالت: قلت: لا، قال: "تعززًا ألا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها، يدعونه أن يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط، فإن بدا لقومك هدمها، فهلمي لأريك ما تركوا في الحجر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 70. ج / 1 ص -164- منها" فأراها قريبًا من سبعة أذرع1. فلما هدم ابن الزبير الكعبة وسواها بالأرض، كشف عن أساس إبراهيم فوجدوه داخلًا في الحجر نحوًا من ستة أذرع وشبر، كأنها أعناق الإبل أخذ بعضها بعضًا، كتشبيك الأصابع بعضها ببعض، يحرك الحجر من القواعد فتحرك الأركان كلها، فدعا ابن الزبير خمسين رجلًا من وجوه الناس وأشرافهم وأشهدهم على ذلك الأساس، قال: فأدخل رجل من القوم -كان أيدًا- يقال له: عبد الله بن مطيع العدوي، عتلة كانت في يده في ركن من أركان البيت، فتزعزعت الأركان جميعًا، ويقال: إن مكة كلها رجفت رجفة شديدة حين زعزع الأساس، وخاف الناس خوفًا شديدًا، حتى ندم كل من كان أشار على ابن الزبير بهدمها، وأعظموا ذلك إعظامًا شديدًا وأسقط في أيديهم، فقال لهم ابن الزبير: اشهدوا، ثم وضع البناء على ذلك الأساس، ووضع حدات الباب، باب الكعبة على مدماك على الشاذروان اللاصق بالأرض، وجعل الباب الآخر بإزائه في ظهر الكعبة مقابله، وجعل عتبته على الحجر الأخضر الطويل الذي في الشاذروان الذي في ظهر الكعبة قريبًا من الركن اليماني2. وكان البناة يبنون من وراء الستر، والناس يطوفون من خارج، فلما ارتفع البنيان إلى موضع الركن، وكان ابن الزبير حين هدم البيت، جعل الركن في ديباجة وأدخله في تابوت وأقفل عليه ووضعه عنده في دار الندوة، وعمد إلى ما كان في الكعبة من حلية فوضعها في خزانة الكعبة، في دار شيبة بن عثمان، فلما بلغ البناء موضع الركن أمر ابن الزبير بموضعه، فنقر في حجرين: حجر من المدماك الذي تحته، وحجر من المدماك الذي فوقه، بقدر الركن وطوبق بينهما، فلما فرغوا منه أمر ابن الزبير ابنه عباد بن عبد الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 70, 71. 2 إتحاف الورى 2/ 71, 72. ج / 1 ص -165- ابن الزبير، وجبير بن شيبة بن عثمان، أن يجعلوا الركن في ثوب، وقال لهم ابن الزبير: إذا دخلت في الصلاة، صلاة الظهر، فاحملوه واجعلوه في موضعه، فأنا أطوِّل الصلاة، فإذا فرغتم فكبروا حتى أخفف صلاتي -وكان ذلك في حر شديد- فلما أقيمت الصلاة، كبر ابن الزبير وصلى بهم ركعة، خرج عباد بالركن من دار الندوة وهو يحمله ومعه جبير بن شيبة بن عثمان -ودار الندوة يومئذ قريبة من الكعبة- فخرقا به الصفوف حتى أدخلاه في الستر الذي دون البناء، فكان الذي وضعه في موضعه هذا عباد بن عبد الله بن الزبير، وأعانه عليه جبير بن شيبة، فلما أقروه في موضعه وطوبق عليه الحجران كبروا، فخفف ابن الزبير صلاته1. وتسامع الناس بذلك، وغضبت فيه رجال من قريش، حين لم يحضرهم ابن الزبير، وقالوا: والله لقد رفع في الجاهلية حين بنته قريش، فحكموا فيه أول من يدخل عليهم من باب المسجد، فطلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعله في ردائه، ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كل قبيلة من قريش رجلًا, فأخذوا بأركان الثوب ثم وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موضعه2. وكان الركن قد تصدع من الحريق بثلاث فرق، فانشظت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد ذلك بدهر طويل، فشده ابن الزبير بالفضة، إلا تلك الشظية من أعلاه -موضعها بين في أعلى الركن- وطول الركن ذراعان، قد أخذ عرض جدار الكعبة، ومؤخر الركن داخله في الجدر، مضرس على ثلاثة رءوس. قال ابن جريج: فسمعت من يصف لون مؤخره الذي في الجدر، قال بعضهم: هو مورد، وقال بعضهم: هو أبيض3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 72, 73. 2 إتحاف الورى 2/ 74. 3 إتحاف الورى 2/ 74. ج / 1 ص -166- قالوا: وكانت الكعبة يوم هدمها ابن الزبير ثمانية عشر ذراعًا في السماء، فلما أن بلغ ابن الزبير بالبناء ثمانية عشر ذراعًا، قصرت بحال الزيادة التي زاد من الحجر فيها، واستسمج ذلك إذ صارت عريضة لا طول لها، فقال: قد كانت قبل قريش تسعة أذرع حتى زادت قريش فيها تسعة أذرع طولًا في السماء، فأنا أزيد تسعة أذرع أخرى، فبناها سبعة وعشرين ذراعًا في السماء، وهي سبعة وعشرون مدماكًا، وعرض جدارها ذراعان، وجعل فيها ثلاث دعائم، وكانت قريش في الجاهلية جعلت فيها ست دعائم، وأرسل ابن الزبير إلى صنعاء فأتى من رخام بها يقال له: البلق، فجعله في الروازن التي في سقفها للضوء، وكان باب الكعبة قبل بناء ابن الزبير مصراعًا واحدًا، فجعل لها1 ابن الزبير مصراعين طولهما أحد عشر ذراعًا من الأرض إلى منتهى أعلاهما اليوم، وجعل الباب الآخر الذي في ظهرها بإزائه على الشاذروان الذي على الأساس مثله، وجعل ميزابها يسكب في الحجر، وجعل لها درجة في بطنها في الركن الشامي من خشب معرجة, يصعد فيها إلى ظهرها. فلما فرغ ابن الزبير من بناء الكعبة، خَلَّقها من داخلها وخارجها من أعلاها إلى أسفلها، وكساها القُبَاطي، وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، فمن قدر أن ينحر بدنة فليفعل، ومن لم يقدر على بدنة فليذبح شاة، ومن لم يقدر فليتصدق بقدر طوله2. وخرج ماشيًا وخرج الناس معه مشاة حتى اعتمروا من التنعيم؛ شكرًا لله سبحانه، ولم يُرَ يوم كان أكثر عتيقًا ولا أكثر بدنة منحورة ولا شاة مذبوحة ولا صدقة من ذلك اليوم، ونحر ابن الزبير مائة بدنة، فلما طاف بالكعبة استلم الأركان الأربعة جميعًا، وقال: إنما كان ترك استلام هذين الركنين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ب: "له". 2 إتحاف الورى 2/ 75. ج / 1 ص -167- الشامي والغربي؛ لأن البيت لم يكن تامًّا، فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا طاف به الطائف استلم الأركان جميعًا، ويدخل البيت من هذا الباب ويخرج من الباب الغربي، وأبوابه لاصقة بالأرض، حتى قتل ابن الزبير رحمه الله1. ودخل الحجاج مكة، فكتب إلى عبد الملك بن مروان، أن ابن الزبير زاد في البيت ما ليس منه، وأحدث فيه بابًا آخر، فكتب إليه يستأذنه في رد البيت على ما كان عليه في الجاهلية، فكتب إليه عبد الملك بن مروان أن سد بابها الغربي الذي كان فتح ابن الزبير، واهدم ما كان زاد فيها من الحجر، واكبسها به على ما كانت عليه، فهدم الحجاج منها ستة أذرع وشبرًا، مما يلي الحجر، وبناها على أساس قريش الذي كانت استقصرت عليه، وكبسها بما هدم منها، وسد الباب الذي في ظهرها، وترك سائرها لم يحرك منها شيئًا2. فكل شيء فيها اليوم بناء ابن الزبير، إلا الجدر الذي في الحجر، فإنه بناء الحجاج وسد الباب الذي في ظهرها، وما تحت عتبة الباب الشرقي الذي يدخل منه اليوم إلى الأرض أربعة أذرع وشبر، كل هذا بناء الحجاج، والدرجة التي في بطنها اليوم والبابان اللذان عليها اليوم هما أيضًا من عمل الحجاج. فلما فرغ الحجاج من هذا كله، وفد بعد ذلك الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب -يعني ابن الزبير- سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها في أمر الكعبة، فقال الحارث: أنا سمعته من عائشة، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا في بناء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الجامع اللطيف ص87. 2 الجامع اللطيف ص87, 88، إخبار الكرام 146. ج / 1 ص -168- البيت، ولولا حداثة عهد قومك بالكفر، أعدت فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه" فأراها قريبًا من سبعة أذرع، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وجعلت لها بابين موضوعين على الأرض: بابا شرقيا يدخل الناس منه، وبابا غربيا يخرج الناس منه" قال عبد الملك بن مروان: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أنا سمعت هذا منها، قال: فجعل ينكت منكسا بقضيب في يده ساعة طويلة، ثم قال: وددت والله أني تركت ابن الزبير وما تحمل من ذلك. قال ابن جريج: وكان باب الكعبة الذي عمله ابن الزبير، طوله في السماء أحد عشر ذراعًا، فلما كان الحجاج نقض من الباب أربعة أذرع وشبرًا، عمل لها هذين البابين وطولهما ستة أذرع وشبر، فلما كان في خلافة الوليد بن عبد الملك، بعث إلى واليه على مكة خالد بن عبد الله القسري بستة وثلاثين ألف دينار، فضرب منها على بابي الكعبة صفائح الذهب، وعلى ميزاب الكعبة، وعلى الأساطين التي في بطنها، وعلى الأركان في جوفها. قال أبو الوليد: قال جدي: فكل ما كان على الميزاب وعلى الأركان في جوفها من الذهب، فهو من عمل الوليد بن عبد الملك، وهو أول من ذهب البيت في الإسلام، فأما ما كان على الباب من عمل الوليد بن عبد الملك من الذهب، فإنه رق وتفرق. فرفع ذلك إلى أمير المؤمنين محمد بن الرشيد في خلافته، فأرسل إلى سالم بن الجراح عامل كان له على صوافي مكة، بثمانية عشر ألف دينار ليضرب بها صفائح الذهب على بابي الكعبة، فقلع ما كان على الباب من الصفائح وزاد عليها من الثمانية عشر ألف دينار، فضرب عليه الصفائح التي هي عليه اليوم والمسامير وحلقتي باب الكعبة وعلى الفياريز والعتب, وذلك كله من عمل أمير المؤمنين محمد بن هارون الرشيد، ولم يقلع في ذلك بابي ج / 1 ص -169- الكعبة، ولكن ضربت عليهما الصفائح والمسامير وهما على حالهما. قال أبو الوليد: أخبرني المثنى بن جبير الصواف أنهم حين فرقوا ذهب باب الكعبة، وجدوا فيه ثمانية وعشرين ألف مثقال، فزادوا عليها خمسة عشر ألف دينار، وأن الذي على الباب من الذهب ثلاثة وثلاثون ألف دينار، وقالوا أيضًا: إنه لما قلع الذهب عن الباب ألبس الباب ثوبًا أصفر. قال ابن جريج: وعمل الوليد بن عبد الملك الرخام الأحمر والأخضر والأبيض الذي في بطنها مؤزرًا به جدراتها، وفرشها بالرخام وأرسل به من الشام، وجعل الجزعة التي تلقى من دخل الكعبة، من بين يدي من قام يتوخى مصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موضعها، وجعل عليها طوقًا من ذهب. فجميع ما في الكعبة من الرخام فهو من عمل الوليد بن عبد الملك، وهو أول من فرشها بالرخام وأزر به جدراتها، وهو أول من زخرف المساجد. وحدثني جدي قال: لما جرد حسين بن حسن الطالبي الكعبة في سنة مائتين في الفتنة، لم يبق عليها شيئًا مما كان عليها من الكسوة، فجئت فاستدرت بجوانبها وعددت مداميكها فوجدتها سبعة وعشرين مدماكًا، ورأيت موضع الصلة التي بنى الحجاج مما يلي الحجر، أثر لحم البناء فيها، بين بناء ابن الزبير القديم وبين بناء الحجاج بن يوسف، شبه الصدع، وهو منه كالمتبري بأقل من الأصبع من أعلاها بين، ذلك لمن رآه، ورأيت موضع الباب الذي سده الحجاج في ظهر الكعبة على الحجر الأخضر الذي في الشاذروان، تبين حداته من أعلاه إلى أسفله، ورأيت السد الذي في الباب الشرقي الذي يدخل منه اليوم من العتبة إلى الأرض، وحجارة سد الباب الذي في ظهرها, وما بني من هذا الباب الشرقي ألطف من حجارة مداميك جدران الكعبة بكثير، وكل ذلك بالمنقوش. حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثنا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت ج / 1 ص -170- عبد الرحمن بن سعد1 بن زرارة عن عائشة أم المؤمنين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لها: "يا عائشة, لولا حداثة قومك بالكفر لرددت في الكعبة ما نقصوا منها، ولجعلت لها بابًا آخر". حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدثنا حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس, عن عكرمة, عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة: "إذا فتح الله لي إن شاء الله، رددت الكعبة على ما كانت عليه على عهد إبراهيم، فأدخلت من الحجر فيها، وجعلت لها بابًا بالأرض، وجعلت لها بابًا آخر، فإن قريشًا إنما جعلوا الدرجة؛ لأن لا يدخل الناس إلا بإذن". حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن داود بن سابور, عن مجاهد، قال: لما عزم ابن الزبير على هدم الكعبة، خرجنا إلى منى ننتظر العذاب ثلاثًا، وأمر ابن الزبير الناس أن يهدموا، فلم يجترئ أحد على هدمها، فلما رآهم لا يقدمون عليها، أخذ هو بنفسه المعول ثم ارتقى فوقها فهدم، فلما رأى الناس أنه لم يصبه شيء اجترءوا على هدمها، قال: فهدموا وأدخل عامة الحجر فيها، فلما ظهر الحجاج رد الذي كان ابن الزبير أدخل من الحجر، فقال عبد الملك بن مروان: وددنا أنا تركنا أبا خبيب وما تولى من ذلك, يعني ابن الزبير. وحدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: رأيت ابن الزبير هدم الكعبة وأراهم أساسًا داخلًا في الحجر أخذ بعضه بعضًا، كلما حرك منه شيء تحرك كله، فبنى عليه الكعبة. حدثني مهدي بن أبي المهدي, عن عيسى بن يونس, عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، قال: حدثني يزيد مولى ابن الزبير قال: شهدت ابن الزبير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تحرف في الأصول إلى: "أسعد", وصوابه من تقريب التهذيب ص667. ج / 1 ص -171- احتفر في الحجر، فأصاب أساس البيت حجارة حمر كأنها الخلايق، تحرك الحجر فيهتز له البيت، فأصاب في الحجر من البيت ستة أذرع وشبرًا، وأصاب فيه موضع قبر، فقال ابن الزبير: هذا قبر إسماعيل، فجمع قريشًا ثم قال لهم: اشهدوا, ثم بنى. حدثني محمد بن واضح, عن سليم بن مسلم, عن عمر بن قيس, عن سعيد بن مينا -وكان على سوق مكة لابن الزبير- قال: لما أراد ابن الزبير بناء الكعبة عالج الأساس، فإذا وضع الباني العتلة في حجر ارتجت جوانب البيت، فأمسك عنه. حدثني إبراهيم بن محمد الشافعي, عن سفيان بن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: رأيت ابن الزبير حين هدم الكعبة، أراهم أساسًا آخذًا بعضه ببعض، كلما حرك منه شيء تحرك كله، قال: فرأيت فضل البيت في الحجر، قال سفيان: فذكر نحوًا من ستة أذرع. حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن أبي نجيح, عن سليمان بن مينا, عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: إذا رأيت قريشًا هدموا البيت ثم بنوه فزوقوه، فإن استطعت أن تموت فمت. حدثني جدي, عن مسلم بن خالد الزنجي، عن يسار بن عبد الرحمن، قال: شهدت ابن الزبير حين فرغ من بناء البيت كساه القباطي، وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، قال: فما رأيت يومًا كان أكثر عتيقًا ولا أكثر بدنة مذبوحة من يومئذٍ. أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن موسى بن يعقوب, عن عمه، قال: هدم ابن الزبير البيت حتى وضعه بالأرض، وبناها من أسها وأدخل الحجر عنده، وكان قد احترق، واحترق الخشب والحجارة، وانصدع الركن بثلاث فرق، فرأيته منكسرًا، حتى شده ابن الزبير بالفضة، ثم أدخل الحجر في البيت، ونصب الخشب حول البيت، ثم سترها، وبنوا من وراء ج / 1 ص -172- الستر، حتى بلغ الركن الأسود فوضعه وشده بالفضة، ثم رد البيت على بنائه، وزاد في طولها فجعلها سبعة وعشرين ذراعًا، وخلق جوفها، ولطخ جدرها بالمسك حين فرغ منها، وجعل لها بابين موضوعين بالأرض: بابًا في وجهها، وبابًا بإزائه من خلفها، يدخل من هذا الذي في وجهها ويخرج من الآخر، واعتمر حين فرغ من الكعبة، ماشيًا مع رجال من قريش وغيرهم، منهم عبد الله بن صفوان وعبيد بن عمير. حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن موسى بن يعقوب عن عمه, عن الحارث بن عبد الله بن وهب بن زمعة، قال: ارتحل الحصين بن نمير من مكة لخمس ليال خلون من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين، وأمر ابن الزبير بالخصاص التي كانت حول الكعبة فهدمت، وبالمسجد فكنس مما فيه من الحجارة والدماء، فإذا الكعبة متوهنة ترتج من أعلاها إلى أسفلها، فيها أمثال جيوب النساء من حجارة المنجنيق، وإذا الركن قد اسود واحترق وتفلق من الحريق، فرأيته ثلاث فرق، فشاور ابن الزبير الناس في هدمها، فأشار عليه جابر بن عبد الله، وعبيد بن عمير بهدمها، وأبى ذلك عليه ابن عباس، وقال: أنا أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى، فيتهاون الناس بحرمتها، فلا أحب ذلك. أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن شرحبيل عن أبي عون, عن أبيه قال: رأيت الحجر قد انفلق واسود من الحريق، فأنظر إلى جوفه أبيض كأنه الفضة، وقد كان شاور المسور بن مخرمة بن نوفل قبل أن يموت بهدمها وبنائها، فأشار عليه بذلك. حدثنا محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد الله بن محمد عن أبيه, عن جده، أنه سمع عبد الله بن عمر يسأل نائل بن قيس الجذامي عن الأساس، فقال نائل: اتبعنا الأساس في الحجر فوجدنا أساس البيت واصلًا بالحجر، كأنه أصابعي هذه، وشبك بين أصابعه، فسمعت ابن عمر يكبر ج / 1 ص -173- ويحمد الله -عز وجل- على ذلك. أخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن محمد بن عمرو, عن أبي الزبير، قال: سمعت عبد الرحمن بن سابط يقول: دعانا ابن الزبير خمسين رجلًا من قريش، فنظرنا إلى الأساس، فإذا هو واصل بالحجر مشبك كأصابع يدي هاتين، وشبك بين أصابعه، فقال ابن الزبير: اشهدوا ثم بنى. قال عبد الرحمن بن سابط: فجلست مع ابن عباس فأخبرته، فقال ابن عباس: ما زلنا نعلم أن من البيت في الحجر. حدثنا محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن إبراهيم بن موسى, عن عكرمة بن خالد المخزومي، قال: هدم ابن الزبير البيت حتى سواه بالأرض، وحفر أساسه وأدخل الحجر فيه، وكان الناس يطوفون من وراء الستر ويصلون إلى موضعه، وجعل الركن في تابوت في سرقة من حرير، فأما ما كان من حلي البيت وما وجد فيه من ثياب أو طيب، فإنه جعله عند الحجبة في خزانة الكعبة حتى أعاد بناءها، قال عكرمة: فرأيت الحجر الأسود، فإذا هو ذراع أو يزيد. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن شرحبيل بن أبي عون, عن أبيه، قال: لما هدم عبد الله بن الزبير البيت، ندم كل من كان أشار عليه وأعظموا ذلك. حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن سليمان بن داود بن الحصين, عن أبيه, عن عكرمة عن ابن عباس أنه أبى على ابن الزبير هدمها، وقال: أخاف أن يأتي بعدك من يهدمها، ثم يأتي بعد ذلك آخر، فإذا هي تهدم أبدًا وتبنى، فسكت عبد الله بن الزبير، ولم يقرب ابن عباس مكة حتى فرغ منها. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن إبراهيم بن موسى, عن عكرمة بن خالد، قال: لما بنى ابن الزبير الكعبة انتهى به إلى الأساس ج / 1 ص -174- الأول، وأدخل الحجر فيها، فلما انتهى إلى موضع الركن الأسود، جاء به ابن الزبير وولده حتى رفعوه ووضعوه بأيديهم في ساعة خالية، تحروا بها غفلة الناس نصف النهار في يوم صائف. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن عبد العزيز بن المطلب, عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي جعفر، قال: ابن الزبير وضعه وولده نصف النهار في حر شديد، فرأيت قريشًا غضبوا في ذلك. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج عن خلاد بن عطاء, عن أبيه -وكان يعمل في البيت محتسبًا- قال: وكان الركن في تابوت مقفل عليه، فلما كان وقت وضعه وقد نقر له حجران طوبق بينهما، ثم أدخل فيه، فلما فرغ من ذلك خرج ابن الزبير في يوم صائف نصف النهار، فأشار إلى جبير بن شيبة الحجبي، فأدخلاه في موضعه وبنى عليه، قال عطاء أبو خلاد: وأنا حاضر ذلك. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج, عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي, عن مسافع الحجبي، قال: لما بنى ابن الزبير البيت حتى بلغ موضع الركن تواعد الحجبة، قال مسافع: وأنا فيهم، فلما دخل ابن الزبير في الصلاة, حسبت الظهر، خرج الحجبة بالركن من الصفوف وأنا فيهم، فرفعناه فجاء حمزة بن عبد الله بن الزبير وأخذ بطرف الثوب فرفع معنا، وأخبرني مسافع أن الركن أخذ عرض الضفير، ضفير البيت. حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج وعبد الله بن عمر بن حفص, عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي عن أمه، قالت: كان الحجر الأسود قبل الحريق مثل لون المقام، فلما احترق اسودّ، قال: فلما احترقت الكعبة تصدع بثلاث فرق، فشده ابن الزبير بالفضة. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن علي بن زيد عن أبيه، عن جده، قال: رأيت ابن الزبير هدمها كلها، فلما بنى وفرغ، خلق جوفها ج / 1 ص -175- بالعنبر والمسك ولطخ جدرها من خارج بالمسك وسترها بالديباج، وأدخل الحجر فيها ورد الركن الأسود في موضعه، وكان قد انكسر بثلاث فرق من الحريق الذي أصاب الكعبة، وكان الركن عند ابن الزبير في بيته في صندوق عليه قفل، فلما بلغ البناء موضع الركن، جاء ابن الزبير حتى وضعه هو بنفسه وشده بالفضة، فهو مشدود بالفضة واعتمر من خيمة جمانة ماشيًا، فرأى الناس أن قد أحسن ابن الزبير ولبى، حتى نظر إلى البيت. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج, عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: وفد الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة, على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما أظن أن أبا خبيب -يعني ابن الزبير- سمع من عائشة -رضي الله عنها- ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث: أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا في بنيان الكعبة، ولولا حداثة قومك بالشرك أعدت فيها ما تركوا منها، فإن بدا لقومك أن يبنوها، فهلمي لأريك ما تركوا من البيت" فأراها قريبًا من سبعة أذرع. حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن عطاف بن خالد المخزومي, عن أبيه, عن قبيصة بن ذؤيب، قال: سمعته يقول: لقد كان عبد الملك بن مروان ندم حين هدم البيت, ورده على بنيانه الأول، قال: ليتني كنت حملت ابن الزبير وما تحمل. حدثنا محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن إبراهيم بن شعيب مولى لقريش، عن المسور بن رفاعة, عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما حج سليمان بن عبد الملك وهو خليفة، طاف بالبيت وأنا إلى جنبه، قال: كيف كان بناء الكعبة حين بناها ابن الزبير؟ فأشار له عمر بن عبد العزيز وهو إلى جنبه، من الشق الآخر إلى ما كان ابن الزبير فعل، وأنه جعل لها بابين، وأدخل الحجر في البيت، فقال سليمان: ليت أن أمير المؤمنين -يعني عبد الملك- ج / 1 ص -176- كان ولى ابن الزبير ما تولى من ذلك، فقال له عمر بن عبد العزيز: أما إني قد سمعته يقول: ليت أني تركت ابن الزبير وما تحمل، قال سليمان: أنت سمعته يقول ذلك؟ قال: نعم, ثم التفت إلى محمد بن كعب فقال: كم طولها؟ قال: سبعة وعشرون ذراعًا، قال: وعلى ذلك كانت؟ قال: لا، قال: فكم كانت؟ قال: كانت على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر ذراعًا، قال: فمن زاد فيها؟ قال: ابن الزبير، قال سليمان: لولا أنه أمر، كان أمير المؤمنين فعله، لأحببت أن أردها على ما بناها ابن الزبير، ثم قال: علي بحجاب البيت، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب القرظي، فجعل سليمان ينظر إلى ما فيها من الحلي، فقال لابن كعب: ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين أقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة، ثم أقره الولاة بعده: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية -رضي الله تعالى عنهم- قال: صدقت. أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ج / 1 ص -124- ما جاء في ذكر بناء قريش الكعبة في الجاهلية: حدثني أبو الوليد, قال: حدثني جدي, عن داود بن عبد الرحمن العطار قال: حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم القارئ, عن أبي الطفيل قال: قلت: يا خال, حدثني عن بنيان الكعبة قبل أن بنتها قريش. قال: كانت برضم يابس ليس بمدر تنزوه العناق, وتوضع الكسوة على الجدر ثم تدلى. ثم إن سفينة للروم أقبلت حتى إذا كانت بالشعيبة وهي يومئذ ساحل مكة قبل جدة, فانكسرت فسمعت بها قريش فركبوا إليها وأخذوا خشبها وروميا كان فيها يقال له: باقوم, نجارًا بناءً، فلما قدموا به مكة قالوا: لو بنينا بيت ربنا, فاجتمعوا لذلك ونقلوا الحجارة من الضواحي, فبينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينقلها معهم إذ انكشفت نمرته فنودي: يا محمد عورتك, فذلك أول ما نودي والله أعلم، فما رئيت له عورة بعدها. فلما جمعوا الحجارة وهموا بنقضها، خرجت لهم حية سوداء الظهر بيضاء البطن لها رأس مثل رأس الجدي, تمنعهم كلما أرادوا هدمها، فلما رأوا ذلك اعتزلوا عند المقام وهو يومئذ في مكانه اليوم, ثم قالوا: ربنا أردنا عمارة بيتك, فرأوا طائرًا أسود ظهره، أبيض بطنه، أصفر الرجلين أخذها فجرها حتى أدخلها أجياد ثم هدموها وبنوها عشرين ذراعًا طولها. قال أبو الطفيل: فاستقصرت قريش لقصر الخشب, فتركوا منها في الحجر ستة أذرع وشبرًا. قال: حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال: جلس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في الحجر وأرسل إلى رجل من بني زهرة قديم فسأله عن بنيان الكعبة فقال: إن قريشًا تقوت في بنائها فعجزوا واستقصروا, فبنوا وتركوا بعضها في الحجر فقال عمر: صدقت. قال: حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر عن الزهري قال: لما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحلم, أجمرت امرأة من قريش الكعبة فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترقت, فوهى البيت للحريق الذي أصابه فتشاغلت قريش في هدم الكعبة فهابوا هدمها, فقال لهم الوليد بن المغيرة: أتريدون بهدمها الإصلاح أم ج / 1 ص -125- الإساءة؟ قالوا: بل نريد الإصلاح قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، قالوا: من الذي يعلوها فيهدمها؟ قال الوليد بن المغيرة: أنا أعلوها فأهدمها, فارتقى الوليد على جدر البيت ومعه الفأس فقال: اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح، ثم هدم فلما رأت قريش ما هدم منها ولم يأتهم ما يخافون من العذاب هدموا معه, حتى إذا بنوا فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن: أي القبائل تلي رفعه؟ حتى كاد يشتجر بينهم فقالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة فاصطلحوا على ذلك, فطلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو غلام عليه وشاح نمرة فحكموه, فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية الثوب ثم ارتقى, وأمرهم أن يرفعوه إليه فرفعوه إليه, وكان هو الذي وضعه. حدثني جدي, قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه قال: جلس رجال من قريش في المسجد الحرام فيهم: حويطب بن عبد العزى ومخرمة بن نوفل, فتذاكروا بنيان قريش الكعبة وما هاجهم على ذلك, وذكروا كيف كان بناؤها قبل ذلك, قالوا: كانت الكعبة مبنية برضم يابس ليس بمدر, وكان بابها بالأرض ولم يكن لها سقف وإنما تدلى الكسوة على الجدر من خارج وتربط من أعلى الجدر من بطنها. وكان في بطن الكعبة عن يمين من دخلها جب يكون فيه ما يهدى إلى الكعبة من مال, وحلية كهيئة الخزانة, وكان يكون على ذلك الجب حية تحرسه بعثها الله منذ زمن جرهم, وذلك أنه عدا على ذلك الجب قوم من جرهم فسرقوا مالها وحليتها مرة بعد مرة, فبعث الله تلك الحية فحرست الكعبة وما فيها خمسمائة سنة, فلم تزل كذلك حتى بنت قريش الكعبة وكان قرنا الكبش الذي ذبحه إبراهيم خليل الرحمن معلقين في بطنها بالجدر تلقاء من دخلها، يخلقان ويطيبان إذا طيب البيت, فكان فيها معاليق من حلية كانت تهدى إلى الكعبة فكانت على ذلك من أمرها. ج / 1 ص -126- ثم إن امرأة ذهبت تجمر الكعبة فطارت من مجمرتها شرارة فأحرقت كسوتها, وكانت الكسوة عليها ركامًا بعضها فوق بعض, فلما أحرقت الكعبة توهنت جدرانها من كل جانب وتصدعت, وكانت الخرف1 والأربعة مظلة والسيول متواترة، ولمكة سيول عوارم, فجاء سيل عظيم على تلك الحال فدخل الكعبة وصدع جدرانها وأخافهم, ففزعت من ذلك قريش فزعًا شديدًا وهابوا هدمها, وخشوا إن مسوها أن ينزل عليهم العذاب. قال: فبينا هم على ذلك ينتظرون ويتشاورون إذ أقبلت سفينة للروم حتى إذا كانت بالشعيبة -وهي يومئذ ساحل مكة قبل جدة- انكسرت فسمعت بها قريش فركبوا إليها, فاشتروا خشبها وأذنوا لأهلها أن يدخلوا مكة فيبيعوا ما معهم من متاعهم على أن لا يعشروهم2، قال: وكانوا يعشرون من دخلها من تجار الروم كما كانت الروم تعشر من دخل منهم بلادها، فكان في السفينة رومي نجار بناء يسمى باقوم. فلما قدموا بالخشب مكة قالوا: لو بنينا بيت ربنا, فأجمعوا لذلك وتعاونوا عليه وترافدوا في النفقة, وربعوا قبائل قريش أرباعًا ثم اقترعوا عند هبل في بطن الكعبة على جوانبها, فطار قدح بني عبد مناف وبني زهرة على الوجه الذي فيه الباب وهو الشرقي, وقدح بني عبد الدار وبني أسد بن عبد العزى وبني عدي بن كعب على الشق الذي يلي الحجر وهو الشق الشامي, وطار قدح بني سهم وبني جمح وبني عامر بن لؤي على ظهر الكعبة وهو الشق الغربي, وطار قدح بني تميم وبني مخزوم وقبائل من قريش ضموا معهم على الشق اليماني الذي يلي الصفا وأجياد، فنقلوا الحجارة ورسول الله يومئذ غلام لم ينزل عليه الوحي ينقل معهم الحجارة على رقبته, فبينا هو ينقلها إذ انكشفت نمرة كانت عليه فنودي: يا محمد عورتك, وذلك أول ما نودي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الخرف: جمع خريف، والأربعة: جمع ربيع. 2 عشر المال: أخذ عشره مكسًا. ج / 1 ص -127- والله أعلم, فما رئيت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عورة بعد ذلك, ولُبِجَ1 برسول الله من الفزع حين نودي، فأخذه العباس بن عبد المطلب فضمه إليه وقال: لو جعلت بعض نمرتك على عاتقك تقيك الحجارة، قال: "ما أصابني هذا إلا من التعري" فشد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إزاره وجعل ينقل معهم. وكانوا ينقلون بأنفسهم تبررًا وتبركًا بالكعبة. فلما اجتمع لهم ما يريدون من الحجارة والخشب وما يحتاجون إليه عدوا على هدمها, فخرجت الحية التي كانت في بطنها تحرسها سوداء الظهر، بيضاء البطن، رأسها مثل رأس الجدي، تمنعهم كلما أرادوا هدمها، فلما رأوا ذلك اعتزلوا عند مقام إبراهيم -وهو يومئذ بمكانه الذي هو فيه اليوم, فقال لهم الوليد بن المغيرة: يا قوم, ألستم تريدون بهدمها الإصلاح؟ قالوا: بلى. قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، ولكن لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلا من طيب أموالكم, ولا تدخلوا فيه مالًا من ربا، ولا مالًا من ميسر، ولا مهر بغي، وجنبوه الخبيث من أموالكم؛ فإن الله لا يقبل إلا طيبًا ففعلوا. ثم وقفوا عند المقام فقاموا يدعون ربهم ويقولون: اللهم إن كان لك في هدمها رضًا فأتمه, واشغل عنا هذا الثعبان, فأقبل طائر من جو السماء كهيئة العقاب ظهره أسود، وبطنه أبيض، ورجلاه صفراوان والحية على جدر البيت فاغرة فاها, فأخذ برأسها ثم طار بها حتى أدخلها أجياد الصغير فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله سبحانه وتعالى قد رضي عملكم, وقبل نفقتكم فاهدموه. فهابت قريش هدمه وقالوا: من يبدأ فيهدمه؟ فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمه، أنا شيخ كبير فإن أصابني أمر كان قد دنا أجلي وإن كان غير ذلك لم يرزأني. فعلا البيت وفي يده عتلة يهدم بها فتزعزع من تحت رجله حجر فقال: اللهم لم ترع؟ إنما أردنا الإصلاح وجعل يهدمه حجرًا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 لبج به: صرع وسقط من قيام. ج / 1 ص -128- حجرًا بالعتلة, فهدم يومه ذلك فقالت قريش: إنا نخاف أن ينزل به العذاب إذا أمسى. فلما أمسى لم تر بأسًا, فأصبح الوليد بن المغيرة غاديًا على عمله فهدمت قريش معه حتى بلغوا الأساس الأول الذي رفع عليه إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت, فأبصروا حجارة كأنها الإبل الخلف لا يطيق الحجر منها ثلاثون رجلًا، يحرك الحجر منها فترتج جوانبها، قد تشبك بعضها ببعض فأدخل الوليد بن المغيرة عتلته بين الحجرين فانفلقت منه فلقة عظيمة فأخذها أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم, فنزت من يده حتى عادت في مكانها وطارت من تحتها برقة كادت أن تخطف أبصارهم, ورجفت مكة بأسرها؛ فلما رأوا ذلك أمسكوا عن أن ينظروا ما تحت ذلك, فلما جمعوا ما أخرجوا من النفقة قلت النفقة عن أن تبلغ لهم عمارة البيت كله, فتشاوروا في ذلك فأجمع رأيهم على أن يقصروا عن القواعد ويحجروا ما يقدرون عليه من بناء البيت ويتركوا بقيته في الحجر عليه جدار مدار يطوف الناس من ورائه, ففعلوا ذلك وبنوا في بطن الكعبة أساسًا يبنون عليه من شق الحجر وتركوا من ورائه من فناء البيت في الحجر ستة أذرع وشبرًا, فبنوا على ذلك فلما وضعوا أيديهم في بنائها قالوا: ارفعوا بابها من الأرض واكبسوها حتى لا تدخلها السيول, ولا ترقى إلا بسلم, ولا يدخلها إلا من أردتم, إن كرهتم أحدًا دفعتموه1. ففعلوا ذلك وبنوها بساف2 من حجارة، وساف من خشب بين الحجارة حتى انتهوا إلى موضع الركن فاختلفوا في وضعه, وكثر الكلام فيه وتنافسوا في ذلك فقال بنو عبد مناف وزهرة: هو في الشق الذي وقع لنا, وقالت تيم ومخزوم: هو في الشق الذي وقع لنا, وقالت سائر القبائل: لم يكن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 1/ 156. 2 الساف: المدماك، أو السطر والصف. ج / 1 ص -129- الركن مما استهمنا عليه1. فقال أبو أمية بن المغيرة: يا قوم, إنما أردنا البر ولم نرد الشر, فلا تحاسدوا ولا تنافسوا, فإنكم إذا اختلفتم تشتَّتت أموركم، وطمع فيكم غيركم ولكن حكموا بينكم أول من يطلع عليكم من هذا الفج، قالوا: رضينا وسلمنا، فطلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هذا الأمين قد رضينا به، فحكّموه، فبسط رداءه ثم وضع فيه الركن فدعا من كل ربع رجلًا, فأخذوا بأطراف الثوب فكان من بني عبد مناف عتبة بن ربيعة, وكان في الربع الثاني أبو زمعة بن الأسود وكان أسن القوم، وفي الربع الثالث العاصي بن وائل، وفي الربع الرابع أبو حذيفة بن المغيرة, فرفع القوم الركن وقام النبي -صلى الله عليه وسلم- على الجدر ثم وضعه بيده, فذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي -صلى الله عليه وسلم- حجرًا ليشد به الركن فقال العباس بن عبد المطلب: لا, [ونحاه] وناول العباس النبي -صلى الله عليه وسلم- حجرًا فشد به الركن, فغضب النجدي حيث نحي فقال النجدي: وا عجباه لقوم أهل شرف وعقول وسن وأموال عمدوا إلى أصغرهم سنا، وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحوزتهم كأنهم خدم له!! أما والله ليفوتنهم سبقًا, وليقسمن عليهم حظوظًا وجدودًا, ويقال: إنه إبليس2. فبنوا حتى رفعوا أربعة أذرع وشبرًا ثم كبسوها, ووضعوا بابها مرتفعًا على هذا الذرع ورفعوها بمدماك خشب ومدماك حجارة حتى بلغوا السقف. فقال لهم باقوم الرومي: أتحبون أن تجعلوا سقفها مكبسًا أو مسطحًا؟ فقالوا: بل ابن بيت ربنا مسطحًا. قال: فبنوه مسطحًا وجعلوا فيه ست دعائم في صفين, في كل صف ثلاث دعائم من الشق الشامي الذي يلي الحجر إلى الشق اليماني, وجعلوا ارتفاعها من خارجها من الأرض إلى أعلاها ثمانية عشر ذراعًا, وكانت قبل ذلك تسعة أذرع فزادت قريش في ارتفاعها في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 1/ 157. 2 إتحاف الورى 1/ 157, 158 وما بين حاصرتين منه. ج / 1 ص -130- السماء تسعة أذرع أخر, وبنوها من أعلاها إلى أسفلها بمدماك من حجارة, ومدماك من خشب وكان الخشب خمسة عشر مدماكًا, والحجارة ستة عشر مدماكًا1. وجعلوا ميزابها يسكب في الحجر, وجعلوا درجة من خشب في بطنها في الركن الشامي يصعد منها إلى ظهرها، وزوقوا سقفها وجدرانها من بطنها ودعائمها وجعلوا في دعائمها صور الأنبياء، وصور الشجر، وصور الملائكة. فكان فيها صورة إبراهيم خليل الرحمن شيخا يستقسم بالأزلام، وصورة عيسى ابن مريم وأمه، وصورة الملائكة عليهم السلام أجمعين. فلما كان يوم فتح مكة دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب فجاء بماء زمزم, ثم أمر بثوب وأمر بطمس تلك الصور، فطمست. قال: ووضع كفيه على صورة عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام وقال: "امحوا جميع الصور إلا ما تحت يدي" فرفع يديه عن عيسى ابن مريم وأمه ونظر إلى صورة إبراهيم فقال: "قاتلهم الله, جعلوه يستقسم بالأزلام, ما لإبراهيم وللأزلام". وجعلوا لها بابًا واحدًا فكان يغلق ويفتح، وكانوا قد أخرجوا ما كان في البيت من حلية ومال وقرني الكبش, وجعلوه عند أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي, وأخرجوا هبل وكان على الجب الذي فيه نصبه عمرو بن لحي هنالك ونصب عند المقام حتى فرغوا من بناء البيت, فردوا ذلك المال في الجب وعلقوا فيه الحلية وقرني الكبش, وردوا الجب في مكانه فيما يلي الشق الشامي ونصبوا هبل على الجب كما كان قبل ذلك وجعلوا له سلمًا يصعد عليه إلى بطنها, وكسوها حين فرغوا من بنائها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 1/ 159. ج / 1 ص -131- حبرات يمانية1. حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه, عن حويطب بن عبد العزى قال: كانت في الكعبة حلق أمثال لجم البهم, يدخل الخائف فيها يده فلا يريبه أحد, فجاء خائف ليدخل يده فاجتبذه رجل فشلت يده, فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشل. وحدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج قال: سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي رباح وأنا أسمع: أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى؟ قال: نعم, أدركت فيه تمثال مريم مزوقًا, في حجرها عيسى ابنها قاعدًا مزوقًا. قال: وكانت في البيت أعمدة ست سوارٍ, وصفها كما نقطت في هذا التربيع: قال: وكان تمثال عيسى ابن مريم ومريم -عليهما السلام- في العمود الذي يلي الباب. قال ابن جريج: فقلت لعطاء: متى هلك؟ قال: في الحريق في عصر ابن الزبير, وقلت: أعلى عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان؟ قال: لا أدري, وإني لأظنه قد كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له سليمان: أفرأيت تماثيل صور كانت في البيت، من طمسها؟ قال: لا أدري, غير أني أدركت من تلك الصور اثنتين درسهما وأراهما والطمس عليهما. قال ابن جريج: ثم عاودت عطاء بعد حين فخط لي ست سوارٍ كما خططت ثم قال: تمثال عيسى وأمه -عليهما السلام- في الوسطى من اللاتي تلين الباب الذي يلينا إذا دخلنا. قال ابن جريج: الذي خط هذا التربيع ونقط هذا النقط. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 1/ 159, 160. ج / 1 ص -132- حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن عمرو بن دينار قال: أدركت في بطن الكعبة قبل أن تهدم تمثال عيسى ابن مريم وأمه. وحدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن قال: أخبرني بعض الحجبة, عن مسافع بن شيبة بن عثمان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا شيبة, امح كل صورة فيه إلا ما تحت يدي" قال: فرفع يده عن عيسى ابن مريم وأمه. حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج, عن عمرو بن دينار أنه سمع أبا الشعثاء يقول: إنما يكره ما فيه الروح، قال عمرو: أن يصنع التمثال على ما فيه الروح, فأما الشجر وما ليس فيه روح فلا. حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج, عن سليمان بن موسى, عن جابر بن عبد الله قال: زجر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصور, وأمر عمر بن الخطاب زمن الفتح أن يدخل البيت فيمحو ما فيه من صورة, ولم يدخله حتى محي. حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن عبيد عن الحسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدخل الكعبة حتى أمر عمر بن الخطاب أن يطمس على كل صورة فيها. حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, قال: حدثنا يزيد بن عياض بن جعدبة, عن ابن شهاب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل الكعبة يوم الفتح وفيها صور الملائكة وغيرها, فرأى صورة إبراهيم فقال: "قاتلهم الله, جعلوه شيخًا يستقسم بالأزلام" ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها وقال: "امحوا ما فيها من الصور, إلا صورة مريم". أخبرني محمد بن يحيى, عن الثقة عنده, عن ابن إسحاق عن حكيم بن عباد بن حنيف وغيره من أهل العلم, أن قريشًا كانت قد جعلت في الكعبة ج / 1 ص -133- صورًا فيها عيسى ابن مريم ومريم -عليهما السلام. قال ابن شهاب: قالت أسماء بنت شقر: إن امرأة من غسان حجت في حاج العرب, فلما رأت صورة مريم في الكعبة قالت: بأبي وأمي إنك لعربية، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يمحوا تلك الصور إلا ما كان من صورة عيسى ومريم. حدثني محمد بن يحيى عن الثقة عنده, عن ابن إسحاق, عن محمد بن جعفر بن الزبير, عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور, عن صفية بنت شيبة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة يوم الفتح أقبل حتى أتى البيت فطاف به سبعًا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده, فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة, ففتحت له فدخلها, فوجد فيها حمامة من عيدان فطرحها. حدثني محمد بن يحيى بن أبي عمر قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي, عن أيوب, عن عكرمة قال: لما كان يوم الفتح دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيت, فإذا فيه صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام, وأحسبه قال: والكبش أو رأس الكبش, فأمرهم أن يمحوها قال: فما دخل حتى محيت قال: فلما دخل رأى الأزلام قد صورت في يد إبراهيم فقال: "قاتلهم الله, لقد أبى أنهما لم يستقسما بالأزلام". حدثني جدي وإبراهيم بن محمد الشافعي قالا: حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن خيثم قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غلامًا حيث هدمت الكعبة فكان ينقل الحجارة, فوضع على ظهره إزاره يتقي به فلبج به, فأخذه العباس فضمه إليه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني نهيت أن أتعرى". حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول: اسم الذي بنى الكعبة باقوم وكان روميا, كان في سفينة أصابتها ريح فحجبتها -يقول: حبستها- فخرجت إليها قريش بجدة فأخذوا السفينة وخشبها, وقالوا: ابنه لنا بنيان الشام. ج / 1 ص -134- حدثني جدي محمد بن يحيى, عن سفيان, عن عمرو بن دينار قال: لما أرادوا أن يبنوا الكعبة خرجت حية فحالت بينهم وبين بنائهم, وكانت تشرف على الجدار قال: فقالوا: إن أراد الله أن نتممه فسيكفيكموها ثم قال عمرو: فسمعت ابن عمير يقول: فجاء طير أبيض فأخذ بأنيابها, فذهب بها نحو الحجون. وحدثني محمد بن يحيى قال: حدثني هشام بن سليمان المخزومي, عن ابن جريج, عن عبد الله بن عبيد بن عمير, عن الوليد, عن عطاء بن حباب أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وفد على عبد الملك بن مروان في خلافته فقال له عبد الملك بن مروان: ما أظن أبا خبيب -يعني ابن الزبير- سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها، قال الحارث: أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا في بناء البيت, ولولا حداثة عهد قومك بالكفر أعدت فيه ما تركوه منه, فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلم لأريك ما تركوا منه"، فأراها قريبًا من سبعة أذرع. وزاد الوليد في الحديث: "وجعلت لها بابين موضوعين بالأرض بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟" قالت: قلت: لا. قال: "تعززًا لئلا يدخلها أحد إلا من أرادوا، فكانوا إذا كرهوا أن يدخلها الرجل يدعونه يرتقي, حتى إذا كاد أن يدخل يدفعونه فيسقط". قال عبد الملك: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم. قال: فنكت بعصاه ساعة ثم قال: إني وددت أني تركته وما يحمل. حدثني جدي قال: حدثني مالك بن أنس, عن ابن شهاب, عن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألم تري أن قومك حين بنوا البيت استقصروا عن قواعد إبراهيم؟" قالت: فقلت: يا رسول الله, ألا تردها على قواعده؟ قال: "لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت" قال عبد الله بن ج / 1 ص -135- عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أراه ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر, إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم. أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا سليم بن مسلم عن المثنى بن الصباح قال: سمعت عمرو بن شعيب يقول: كان طول الكعبة في السماء تسعة أذرع, فاستقصروا طولها وكرهوا أن يكون بغير سقف، وأرادوا الزيادة فيها فبنوها وزادوا في طولها تسعة أذرع، وتركوا في الحجر من عرضها ستة أذرع وعظم ذراع قصرت بهم النفقة. أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, حدثني ابن أبي سبرة, عن يحيى بن شبل عن أبي جعفر قال: كان باب الكعبة على عهد إبراهيم وجرهم بالأرض حتى بنتها قريش، قال أبو حذيفة بن المغيرة: يا معشر قريش, ارفعوا باب الكعبة حتى لا يدخل عليكم إلا بسلم, فإنه لا يدخل عليكم إلا من أردتم، فإن جاء أحد ممن تكرهون رميتم به فيسقط فكان نكالًا لمن رآه, ففعلت قريش ذلك وردموا الردم الأعلى وصرفوا السيل عن الكعبة, وكسوها الوصائل. وحدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن محمد بن أبي حميد, عن مودود مولى عمر بن علي, عن عمر بن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا وضعت الركن بيدي يوم اختلفت قريش في وضعه". حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي قال: حدثني خالد بن القاسم, عن ابن أبي تجراة عن أمه قالت: أنا أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضع الركن بيده فقلت: لمن الثوب الذي وضع فيه الحجر؟ قالت: للوليد بن المغيرة, ويقال: حمل الحجر في كساء طاروني كان للنبي -صلى الله عليه وسلم. وحدثني محمد بن يحيى عن الواقدي, عن ابن أبي سبرة, عن عبد الله بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث, عن هشام, عن سعيد بن المسيب قال: الذي أخذ الحجر الذي انفلق من غمز العتلة من أساس الكعبة فنزا من ج / 1 ص -136- يده فرجع مكانه, أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن هشام بن عمارة, عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم قال: الذي أخذ الحجر فنزا من يده, عامر بن نوفل بن عبد مناف, قال الواقدي: وقد ثبت أنه أبو وهب بن عمرو بن عائذ. حدثني محمد بن يحيى عن الواقدي, عن الوليد بن كثير, عن يعقوب بن عتبة قال: اجتمع عند معاوية بن أبي سفيان وهو خليفة نفر من قريش, منهم: جعدة بن هبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعبد الله بن زمعة بن الأسود, فتذاكروا أحاديث العرب فقال معاوية: من الرجل الذي نزا الحجر من يده حين حفر أساس البيت, حتى عاد مكانه؟ قالوا: من أعلم من أمير المؤمنين بهذا، قال: علي ذلك، ليس كل العلم وعيناه ولا حفظناه, لقد علمنا أمورًا فنسيناها، قالوا جميعًا: هو أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، قال معاوية: كذلك كنت أسمع من أبي وكان حاضرًا في ذلك اليوم، قال: فمن قال حين اختلفت قريش في بنيان مقدم البيت: يا معشر قريش لا تنافسوا ولا تباغضوا فيطمع فيكم غيركم, ولكن جَزِّئوا البيت أربعة أجزاء ثم ربعوا القبائل فلتكن أرباعًا؟ قالوا: إنه أبو أمية بن المغيرة قال: هكذا كنت أسمع أبي يقول. قال: فمن القائل حين اختلفت قريش في وضع الركن: حكموا بينكم أول من يطلع من هذا الباب؟ قالوا: أبو حذيفة بن المغيرة قال: نعم، قال: فمن النفر الذين رفعوا الثوب حين وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: جدك عتبة بن ربيعة أحدهم، قال: كذلك كنت أسمع أبي يقول. قال: فمن كان من الربع الثاني؟ قالوا: أبو زمعة بن الأسود بن المطلب قال: كذلك كنت أسمع أبي يقول، قال: فمن كان في الربع الثالث؟ قالوا: أبو حذيفة بن المغيرة، قال: كذلك كنت أسمع أبي يقول، قال: فمن كان في الربع الرابع؟ قالوا: أبو قيس بن عدي ج / 1 ص -137- السهمي، قال: هذه واحدة قد أخذتها عليكم, العاصي بن وائل، قال: فمن قال: يا معشر قريش, لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلا طيبًا من كسبكم؟ قالوا: أبو حذيفة بن المغيرة قال: هذه أخرى قد أخذتها عليكم, القائل هذا والمتكلم به أبو أحيحة سعيد بن العاصي قال: فأسكت القوم. حدثني سعيد بن محمد رجل من قريش قال: حدثني عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن أبيه, عن جده, عن عمر بن علي بن أبي طالب, عن علي بن أبي طالب قال: لما احترقت الكعبة في الجاهلية هدمتها قريش لتبنيها, فكشف عن ركن من أركانها من الأساس, فإذا حجر فيه مكتوب: أنا يعفر بن عبد قرا, أقرأ على ربي السلام من رأس ثلاثة آلاف سنة1. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 1/ 154. باب ما جاء في فتح الكعبة, ومتى كانوا يفتحونها؟ ودخولهم إياها، وأول من خلع النعل والخف عند دخولها: حدثنا أبو الوليد قال: أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد الله بن يزيد, عن سعيد بن عمرو الهذلي عن أبيه قال: رأيت قريشًا يفتحون البيت في الجاهلية يوم الاثنين والخميس, وكان حجابه يجلسون عند بابه فيرتقي الرجل إذا كانوا لا يريدون دخوله فيدفع ويطرح, وربما عطب, وكانوا لا يدخلون الكعبة بحذاء, يعظمون ذلك ويضعون نعالهم تحت الدرجة. أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن أشياخه قالوا: لما فرغت قريش من بناء الكعبة كان أول من خلع الخف والنعل فلم يدخلها بهما, الوليد بن المغيرة؛ إعظامًا لها فجرى ذلك سنة. ج / 1 ص -138- حدثني محمد بن يحيى, حدثنا عبد العزيز بن عمران, عن عبد الله بن أبي سليمان, عن أبيه أن فاختة بنة زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى -وهي أم حكيم بن حزام- دخلت الكعبة وهي حامل فأدركها المخاض فيها, فولدت حكيمًا في الكعبة فحملت في نطع, وأخذ ما تحت مثبرها1 فغسل عند حوض زمزم, وأخذت ثيابها التي ولدت فيها فجعلت لقى -واللقى2 أنه لم يكن يطوف أحد بالبيت إلا عريانًا- إلا الحمس, فإنهم كانوا يطوفون بالبيت وعليهم الثياب, وكان من طاف من غير الحمس في ثيابه فإذا طاف الرجل أو المرأة وفرغ من طوافه جاء بثيابه التي طاف فيها, فطرحها حول البيت فلا يمسها أحد ولا يحركها حتى تبلى من وطء الأقدام, ومن الشمس والرياح والمطر, وقال ورقة بن نوفل يذكر اللقى: كفى حزنًا كري عليها كأنها لَقًى بين أيدي الطائفين حريم3 يقول: لا يمس. حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن إسحاق الهمداني, عن زيد بن يثيع قال: سألنا عليا -عليه السلام: بأي شيء بعثك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في حجته سنة تسع؟ قال: بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع مسلم ومشرك في الحرم بعد عامهم هذا، ومن كان له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد فأربعة أشهر. قال أبو محمد: ووجدت في كتاب قديم فيما سمع من أبي الوليد, ومن كان له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد فعهده إلى مدته, ومن لم يكن له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد فعهده أربعة أشهر. حدثنا جدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني، عن معمر، عن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 المثبر -بفتح الميم: مسقط الولد. 2 اللقى: الشيء الملقى المطرح, ويقال: المنسى. 3 سيرة ابن هشام 1/ 203. ج / 1 ص -139- الزهري أن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس: قريش وأحلافها -والأحمسي: المشدد في دينه في بعض كلام العرب- فمن جاء من غيرهم وضع ثيابه وطاف في ثوب أحمسي قال: فإن لم يجد من يعيره من الحمس ثوبًا, فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانًا, وإن طاف في ثيابه ألقاها إذا قضى طوافه يحرمها فيجعلها عندها؛ فلذلك قال تبارك وتعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. حدثني جدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر, عن ابن طاوس عن أبيه قال: السملة1 من الزينة. حدثني جدي, عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود, عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع طاوسًا يقول: يا بني آدم, لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة فتبلوا حتى يأتي، {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} يقول: لم يأمرهم بالحرير ولا بالديباج, ولكنه كان أهل الجاهلية يطوف أحدهم بالبيت عريانًا ويدع ثيابه وراء المسجد فيجدها, ثم إن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه, في ذلك نزلت: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا جرير، عن منصور, عن مجاهد في قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة. قال ابن جريج: لما أن أهلك الله تعالى من أهلك من أبرهة الحبشي صاحب الفيل, وسلط عليه الطير الأبابيل عظمت جميع العرب قريشًا وأهل مكة, وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم, فازدادوا في تعظيم الحرم والمشاعر الحرام والشهر الحرام ووقروها, ورأوا أن دينهم خير الأديان وأحبها إلى الله تعالى، وقالت قريش وأهل مكة: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في أ، ب. وفي الأصل: "الشملة". والسمل: الخلق من الثياب، والشملة: الكساء والمئزر يتشح به. ج / 1 ص -140- نحن أهل الله وبنو إبراهيم خليل الله وولاة البيت الحرام وسكان حرمه وقطانه, فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا, ولا تعرف العرب لأحد مثل ما تعرف لنا, فابتدعوا عند ذلك أحداثًا في دينهم أداروها بينهم فقالوا: لا تعظمون شيئًا من الحل كما تعظمون الحرم, فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم, وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم, فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها, وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويقرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها إلا أنهم قالوا: نحن الحمس أهل الحرم, فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرم ولا نعظم غيره. ثم جعلوا لمن ولدوا من سائر العرب من سكان الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم, يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم، وكانت خزاعة وكنانة قد دخلوا معهم في ذلك. ثم ابتدعوا في ذلك أمورًا لم تكن، حتى قالوا: لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا1 الأقط ولا يسلئوا السمن وهم حرم, ولا يدخلوا بيتًا من شعر, ولا يستظلوا -إن استظلوا- إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرمًا, ثم رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل في الحرم, إذا كانوا حجاجًا أو عمارًا، ولا يأكلوا في الحرم إلا من طعام أهل الحرم إما قرى وإما شراء، وكانوا مما سنوا به أنه إذا حج الصرورة من غير الحمس2. والحمس: أهل مكة قريش وكنانة وخزاعة ومن دان بدينهم ممن ولدوا من حلفائهم وإن كان من ساكني الحل, والأحمسي: المشدد في دينه، فإذا حج ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في سيرة ابن هشام. وفي الأصول: "يأقطوا" والأقط: شيء يتخذ من المخيض الغنمي. 2 سيرة ابن هشام 1/ 202، إتحاف الورى 1/ 64. ج / 1 ص -141- الصرورة1 من غير الحمس -رجلًا كان أو امرأة- لا يطوف بالبيت إلا عريانًا الصرورة أول ما يطوف إلا أن يطوف في ثوب أحمسي إما إعارة وإما إجارة، يقف أحدهم بباب المسجد فيقول: من يعير مصونا؟2 من يعير ثوبًا؟ فإن أعاره أحمسي ثوبًا أو أكراه طاف به، وإن لم يعره ألقى ثيابه بباب المسجد من خارج ثم دخل الطواف وهو عريان، يبدأ بإساف فيستلمه، ثم يستلم الركن الأسود، ثم يأخذ عن يمينه ويطوف ويجعل الكعبة عن يمينه، فإذا ختم طوافه سبعًا استلم الركن، ثم استلم نائلة فيختم بها طوافه، ثم يخرج فيجد ثيابه كما تركها لم تمس فيأخذها فيلبسها, ولا يعود إلى الطواف بعد ذلك عريانًا3. ولم يكن يطوف بالبيت عريان إلا الصرورة من غير الحمس، فأما الحمس فكانت تطوف في ثيابها, فإن تكرم متكرم من رجل أو امرأة من غير الحمس ولم يجد ثياب أحمسي يطوف فيها ومعه فضل ثياب يلبسها غير ثيابه التي عليه، فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل، فإذا فرغ من طوافه نزع ثيابه ثم جعلها لقًى يطرحها بين إساف ونائلة، فلا يمسها أحد ولا ينتفع بها حتى تبلى من وطء الأقدام ومن الشمس والرياح والمطر، وقال الشاعر يذكر ذلك اللقى: كفى حزنًا كري عليه كأنه لقًى بين أيدي الطائفين حريم4 يقول: لا يمس, فصار هذا كله سنة فيهم، وذلك من صنع إبليس وتزيينه لهم ما يلبس عليهم من تغيير الحنيفية دين إبراهيم، فجاءت امرأة يومًا وكان لها جمال وهيئة، فطلبت ثيابًا عارية فلم تجد من يعيرها، فلم تجد بدا من أن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الصرورة: من لم يسبق له الحج. 2 في الأصل: "مضمونًا" والمثبت من بقية الأصول، ومثله في إتحاف الورى. 3 إتحاف الورى 1/ 66. 4 إتحاف الورى 1/ 67. ج / 1 ص -142- تطوف عريانة فنزعت ثيابها بباب المسجد, ثم دخلت المسجد عريانة فوضعت يديها على فرجها وجعلت تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله قال: فجعل فتيان مكة ينظرون إليها وكان لها حديث طويل، وقد تزوجت في قريش1. قال: وجاءت امرأة أيضًا تطوف عريانة وكان لها جمال، فرآها رجل فأعجبته، فدخل الطواف وطاف في جنبها لأن يمسها, فأدنى عضده من عضدها، فالتزقت عضده بعضدها, فخرجا من المسجد من ناحية بني سهم هاربين على وجوههما, فزعين لما أصابهما من العقوبة، فلقيهما شيخ من قريش -خارجًا من المسجد- فسألهما عن شأنهما، فأخبراه بقضيتهما، فأفتاهما أن يعودا، فرجعا إلى المكان الذي أصابهما فيه ما أصابهما، فيدعوان ويخلصان ألا يعودا، فرجعا إلى مكانهما فدعوا الله سبحانه وأخلصا إليه ألا يعودا, فافترقت أعضادهما, فذهب كل واحد منهما في ناحية2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سيرة ابن هشام 1/ 202، إتحاف الورى 1/ 68. 2 إتحاف الورى 1/ 69. حج أهل الجاهلية, وإنساء الشهور ومواسمهم, وما جاء في ذلك: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن محمد بن إسحاق عن الكلبي, عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس قال: كانت العرب على دينين، حلة وحمس، فالحمس: قريش وكل من ولدت من العرب وكنانة وخزاعة والأوس والخزرج ج / 1 ص -143- وجشم وبنو ربيعة بن عامر بن صعصعة وأزد شنوءة وجذم وزبيد وبنو ذكوان من بني سليم وعمرو اللات وثقيف وغطفان والغوث وعدوان وعلاف وقضاعة، وكانت قريش إذا أنكحوا عربيا امرأة منهم اشترطوا عليه أن كل من ولدت له فهو أحمسي على دينهم، وزوج الأدرم تيم بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابنته مجدا ابنه تيم بن ربيعة بن عامر1 بن صعصعة على أن ولده منها أحمسي على سنة قريش, وفيها يقول لبيد بن ربيعة بن جعفر الكلابي: سقى قومي بني مجد وأسقى نميرًا والقبائل من هلال2 وذكروا أن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان تزوج سلمى بنت ضبيعة بن علي بن يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان، فولدت له هوازن، فمرض مرضًا شديدًا، فنذرت سلمى لئن برأ لتحمسنه، فلما برئ حمسته، فلم تكن نساؤهم ينسجن ولا يغزلن الشعر ولا يسلأن السمن إذا أحرموا. قال: وكانت الحمس إذا أحرموا ألا يأتقطوا الأقط، ولا يأكلوا السمن ولا يسلئوه، ولا يمخضوا اللبن، ولا يأكلوا الزبد، ولا يلبسوا الوبر، ولا الشعر، ولا يستظلوا به ما داموا حرمًا، ولا يغزلوا الوبر، ولا الشعر ولا ينسجوه، وإنما يستظلون بالأدم ولا يأكلون شيئًا من نبات الحرم. وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ولا يخفرون فيها الذمة ولا يظلمون فيها، ويطوفون بالبيت وعليهم ثيابهم، وكانوا إذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل. وفي أ: "ابنته مجدا ابنة تيم ربيعة بن عامز" وفي ب: "ابنه مجدًا ابنة تيم بن ربيعة". وفي المحبر ص178: "مجد بنت تيم بن غالب بن فهر" ومثله في كتاب النسب لأبي عبيد القاسم بن سلام ص259. وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ص486، والعمدة لابن رشيق 2/ 911. 2 المحبر ص178، اللسان "مجد". ج / 1 ص -144- وأول الإسلام، فإن كان من أهل المدر -يعني أهل البيوت والقرى- نقب نقبًا في ظهر بيته، فمنه يدخل ومنه يخرج، ولا يدخل من بابه، وكانت الحمس تقول: لا تعظموا شيئًا من الحل, ولا تجاوزوا الحرم في الحج فلا يهاب الناس حرمكم, ويروا ما تعظمون من الحل كالحرم فقصروا عن مناسك الحج والموقف من عرفة وهو من الحل، فلم يكونوا يقفون به ولا يفيضون منه، وجعلوا موقفهم في طرف الحرم من نمرة بمفضى المأزمين يقفون به عشية عرفة, ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة, ويفيضون منه إلى المزدلفة، فإذا عممت الشمس رءوس الجبال، دفعوا وكانوا يقولون: نحن أهل الحرم لا نخرج من الحرم ونحن الحمس، فتحمست قريش ومن ولدت فتحمست معهم هذه القبائل، فسميت الحمس. وإنما سميت الحمس حمسًا للتشديد في دينهم، فالأحمسي في لغتهم المشدد في دينه، وكانت الحمس من دينهم إذا أحرموا أن لا يدخلوا بيتًا من البيوت ولا يستظلوا تحت سقف بيت، ينقب أحدهم نقبًا في ظهر بيته، فمنه يدخل إلى حجرته ومنه يخرج ولا يدخل من بابه، ولا يجوز تحت أسكفة1 بابه ولا عارضته، فإذا أرادوا بعض أطعمتهم ومتاعهم، تسوروا من ظهر بيوتهم وأدبارها حتى يظهروا على السطوح, ثم ينزلون في حجرتهم ويحرمون أن يمروا تحت عتبة الباب. وكانوا كذلك حتى بعث الله نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فأحرم عام الحديبية، فدخل بيته وكان معه رجل من الأنصار فوقف الأنصاري بالباب فقال له: "ألا تدخل؟" فقال الأنصاري: إني أحمسي يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وأنا أحمسي, ديني ودينك سواء"، فدخل الأنصاري مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما رآه دخل من بابه، فأنزل الله عز وجل: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الأسكفة: عتبة الباب. ج / 1 ص -145- وكانت الحلة تطوف بالبيت أول ما يطوف الرجل والمرأة في أول حجة يحجها عراة، وكان بنو عامر بن صعصعة وعك ممن يفعل ذلك، فكانوا إذا طافت المرأة منهم عريانة، تضع إحدى يديها على قبلها والأخرى على دبرها ثم تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله1 قال ابن عباس: فكانت قبائل من العرب من بني عامر وغيرهم يطوفون بالبيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل، فإذا بلغ أحدهم إلى باب المسجد قال للحمس: من يعير مصونا؟ من يعير معوزًا؟ فإن أعاره أحمسي ثوبه طاف به وإلا ألقى ثيابه بباب المسجد ثم دخل للطواف، فطاف بالبيت سبعًا عريانًا، وكانوا يقولون: لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب، ثم يرجع إلى ثيابه فيجدها لم تحرك، وكان بعض نسائهم تتخذ سيورًا فتعلقها في حقوتها وتستتر بها، وهو يوم تقول فيه قول العامرية: اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله إلا أن يتكرم منهم متكرم فيطوف في ثيابه، فإن طاف فيها لم يحل له أن يلبسها أبدًا ولا ينتفع بها ويطرحها لقًى, واللقى: هذه الثياب التي يطوفون فيها, يرمون بها باب المسجد, فلا يمسها أحد من خلق الله حتى تبليها الشمس والأمطار والرياح ووطء الأقدام, وفيه يقول ورقة بن نوفل الأسدي: كفى حزنًا كري عليه كأنه لقًى بين أيدي الطائفين حريم قال الكلبي: فكان أول من أنسأ الشهور من مضر، مالك بن كنانة، وذلك أن مالك بن كنانة نكح إلى معاوية بن ثور الكندي وهو يومئذ في كندة، وكانت النساءة قبل ذلك في كندة؛ لأنهم كانوا قبل ذلك ملوك العرب من ربيعة ومضر، وكانت كندة من أرداف المقاول, فنسأ ثعلبة بن مالك ثم نسأ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سيرة ابن هشام 1/ 202. ج / 1 ص -146- بعده الحارث بن مالك بن كنانة وهو القلمس، ثم نسأ بعده سرير بن القلمس، ثم كانت النساءة في بني ثعلبة حتى جاء الإسلام. وكان آخر من نسأ منهم أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن عبد بن فقيم، وهو الذي جاء في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الركن الأسود، فلما رأى الناس يزدحمون عليه قال: أيها الناس أنا له جار, فأخروا عنه فخفقه عمر بالدرة ثم قال: أيها الجلف الجافي, قد أذهب الله عزك بالإسلام. فكل هؤلاء قد نسئوا في الجاهلية والذي ينسأ لهم إذا أرادوا أن لا يحلوا المحرم قام بفناء الكعبة يوم الصدر فقال: أيها الناس, لا تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم, فإني أجاب ولا أعاب، ولا يعاب لقول قلته, فهنالك يحرمون المحرم ذلك العام. وكان أهل الجاهلية يسمون المحرم صفرا الأول، وصفر، صفرا الآخر، فيقولون: صفران وشهرا ربيع وجماديان ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة، فكان ينسأ الأنساء سنة ويترك سنة؛ ليحلوا الشهور المحرمة ويحرموا الشهور التي ليست بمحرمة. وكان ذلك من فعل إبليس ألقاه على ألسنتهم فرأوه حسنًا، فإذا كانت السنة التي ينسأ فيها، يقوم فيخطب بفناء الكعبة ويجتمع الناس إليه يوم الصدر فيقول: يا أيها الناس, إني قد أنسأت العام صفرا الأول -يعني المحرم- فيطرحونه من الشهور ولا يعتدون به، ويبتدئون العدة فيقولون لصفر وشهر ربيع الأول صفرين, ويقولون لشهر ربيع الآخر ولجمادى الأولى شهري ربيع، ويقولون لجمادى الآخرة ولرجب جماديين، ويقولون لشعبان رجبا، ولشهر رمضان شعبان، ويقولون لشوال شهر رمضان، ولذي القعدة شوالا، ولذي الحجة ذا القعدة، ولصفر الأول وهو المحرم، الشهر الذي أنسأه ذا الحجة، فيحجون تلك السنة في المحرم، ويبطل من هذه السنة شهرا ينسؤه. ج / 1 ص -147- ثم يخطبهم في السنة الثانية في وجه الكعبة أيضًا فيقول: أيها الناس, لا تحلوا حرماتكم، وعظموا شعائركم، فإني أجاب ولا أعاب، ولا يعاب لقول قلته، اللهم إني قد أحللت دماء المحلين طيئ وخثعم في الأشهر الحرم، وإنما أحل دماءهم؛ لأنهم كانوا يعدون على الناس في الأشهر الحرم من بين العرب فيعرونهم, يطلبون بثأرهم ولا يقفون عن حرمات الأشهر الحرم كما يفعل غيرهم من العرب. فكان سائر العرب من الحلة والحمس، لا يعدون في الأشهر الحرم على أحد ولو لقي أحدهم قاتل أبيه أو أخيه، ولا يستاقون مالا، إعظاما للشهور الحرم، إلا خثعما وطيئا فإنهم كانوا يعدون في الأشهر الحرم، فهنالك يحرمون من تلك السنة المحرم وهو صفر الأول ثم يعدون الشهور على عدتهم التي عدوها في العام الأول, فيحجون في كل شهر حجتين، ثم ينسأ في السنة الثانية، فينسأ صفر الأول في عدتهم هذه وهو صفر الآخر في العدة الثانية حتى تكون حجتهم في صفر أيضًا حجتين، وكذلك الشهور كلها حتى يستدير الحج في كل أربع وعشرين سنة إلى المحرم الذي ابتدءوا منه الإنساء، يحجون في الشهور كلها في كل شهر حجتين. فلما جاء الله بالإسلام، أنزل في كتابه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] فأنزل الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]. فلما كان عام فتح مكة سنة ثمانٍ, استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس على مكة ومضى إلى حنين فغزا هوازن، فلما فرغ منها مضى إلى الطائف ثم رجع عن الطائف إلى الجعرانة فقسم بها غنائم حنين في ذي القعدة، ثم دخل مكة ليلًا معتمرًا، فطاف البيت وبين الصفا والمروة من ليلته ومضى إلى الجعرانة فأصبح بها كبائت، فأنشأ الخروج ج / 1 ص -148- منها راجعًا إلى المدينة، فهبط من الجعرانة في بطن سرف, حتى لقي طريق المدينة من سرف. ولم يؤذن للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج تلك السنة، وذلك أن الحج وقع تلك السنة في ذي القعدة، ولم يبلغنا أنه استعمل عتابًا على الحج تلك السنة، سنة ثمان، ولا أمره فيه بشيء، فلما جاء الحج، حج المسلمون والمشركون فدفعوا معًا فكان المسلمون في ناحية يدفع بهم عتاب بن أسيد ويقف بهم المواقف؛ لأنه أمير البلد، وكان المشركون ممن كان لهم عهد ومن لم يكن لهم عهد في ناحية يدفع بهم أبو سيارة العدواني على أتان عوراء رسنها ليف. قال: فلما كان سنة تسع، وقع الحج في ذي الحجة، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى مكة, واستعمله على الحج وعلمه المناسك وأمره بالوقوف على عرفة وعلى جمع، ثم نزلت سورة براءة خلاف أبي بكر, فبعث بها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع علي -عليه السلام- وأمره إذا خطب أبو بكر وفرغ من خطبته قام علي، فقرأ على الناس سورة براءة ونبذ إلى المشركين عهدهم، وقال: "لا يجتمعن مسلم ومشرك على هذا الموقف بعد عامهم هذا" وكان أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- الذي يخطب على الناس ويصلي بهم ويدفع بهم في الموقف. فلما كان سنة عشر، أذن الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في الحج، فحج رسول الله حجة الوداع -وهي حجة التمام- فوقف بعرفة فقال: "يأيها الناس, إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض, فلا شهر ينسأ ولا عدة تخطأ، وإن الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة" قال: "وكانت الإفاضة في الجاهلية إلى صوفة, وصوفة رجل يقال له: أخزم بن العاص بن عمرو بن مازن بن الأسد, وكان أخزم قد تصدق بابن له على الكعبة يخدمها، فجعل إليه حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر الخزاعي الإفاضة بالناس على الموقف وحبشية يومئذ يلي حجابة الكعبة ج / 1 ص -149- وأمر مكة يصطف الناس على الموقف فيقول حبشية: أجيزي صوفة فيقول الصوفي: أجيزوا أيها الناس فيجوزون". يقال: إن امرأة من جرهم تزوجها أخزم بن العاص بن عمرو بن مازن بن الأسد وكانت عاقرًا, فنذرت إن ولدت غلامًا أن تصدق به على الكعبة عبدًا لها يخدمها ويقوم عليها، فولدت من أخزم الغوث، فتصدقت به عليها، فكان يخدمها في الدهر الأول مع أخواله من جرهم, فولي الإجازة بالناس لمكانه من الكعبة وقالت أمه حين أتمت نذرها وخدم الغوث بن أخزم الكعبة: إني جعلت رب من بنيه1 ربيطة بمكة العليه فباركن لي بها أليه واجعله لي من صالح البريه2 فولي الغوث بن أخزم الإجازة من عرفة وولده من بعده في زمن جرهم وخزاعة حتى انقرضوا، ثم صارت الإفاضة في عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر في زمن قريش في عهد قصي، وكانت من بني عدوان في آل زيد بن عدوان يتوارثونه، حتى كان الذي قام عليه الإسلام سيارة العدواني وهو عمير الأعزل بن خالد بن سعيد بن الحارث بن زيد بن عدوان، وكان أيضًا من عدوان حاكم العرب عامر بن الظرب. فإذا كان الحج في الشهر الذي يسمونه ذا الحجة، خرج الناس إلى مواسمهم فيصبحون بعكاظ يوم هلال ذي القعدة, فيقيمون به عشرين ليلة تقوم فيها أسواقهم بعكاظ والناس على مداعيهم وراياتهم منحازين في المنازل, تضبط كل قبيلة أشرفها وقادتها ويدخل بعضهم في بعض للبيع والشراء ويجتمعون في بطن السوق، فإذا مضت العشرون انصرفوا إلى مجنة فأقاموا بها عشرًا، أسواقهم قائمة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في سيرة ابن هشام: "من بييه". 2 سيرة ابن هشام 1/ 119. ج / 1 ص -150- فأقاموا به ثماني ليال أسواقهم قائمة، ثم يخرجون يوم التروية من ذي المجاز إلى عرفة فيتروون ذلك اليوم من الماء بذي المجاز. وإنما سمي يوم التروية؛ لترويهم من الماء بذي المجاز، ينادي بعضهم بعضًا: ترووا من الماء؛ لأنه لا ماء بعرفة ولا بالمزدلفة يومئذ، وكان يوم التروية آخر أسواقهم، وإنما كان يحضر هذه المواسم بعكاظ، ومجنة، وذي المجاز التجار ومن1 كان يريد التجارة، ومن لم يكن له تجارة ولا بيع فإنه يخرج من أهله متى أراد، ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة، خرج من مكة يوم التروية، فيتروون من الماء فتنزل الحمس أطراف الحرم من نمرة يوم عرفة, وتنزل الحلة عرفة. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته التي دعا فيها بمكة قبل الهجرة لا يقف مع قريش والحمس في طرف الحرم، وكان يقف مع الناس بعرفة. قال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: أضللت بعيرًا يوم عرفة فخرجت أقصه وأتبعه بعرفة إذ أبصرت محمدًا بعرفة فقلت: هذا من الحمس ما يوقفه ههنا؟ فعجبت له، قال: وكانوا لا يتبايعون في يوم عرفة ولا أيام منى، فلما أن جاء الله بالإسلام أحل الله ذلك لهم, فأنزل الله تعالى في كتابه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وفي قراءة أبي بن كعب في مواسم الحج -يعني: منى وعرفة وعكاظا ومجنة وذا المجاز- فهذه مواسم الحج، فإذا جاءوا عرفة أقاموا بها يوم عرفة فتقف الحلة على الموقف من عرفة عشية عرفة, وتقف الحمس على أنصاب الحرم من نمرة, فإذا دفع الناس من عرفة وأفاضوا أفاضت الحمس من أنصاب الحرم وأفاضت الحلة من عرفة حتى يلتقوا بمزدلفة جميعًا. وكانوا يدفعون من عرفة إذا طفلت الشمس للغروب, وكانت على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم، فإذا كان هذا الوقت دفعت الحلة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل أ. وفي ب: "من". ج / 1 ص -151- من عرفة ودفعت معها الحمس من أنصاب الحرم حتى يأتوا جميعًا مزدلفة فيبيتوا بها حتى إذا كان في الغلس، وقفت الحلة والحمس على قزح، فلا يزالون عليه حتى إذا طلعت الشمس وصارت على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم دفعوا من مزدلفة, وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير, أي: أشرق بالشمس حتى ندفع من المزدلفة, فأنزل الله في الحمس: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] -يعني: من عرفة- والناس الذين كانوا يدفعون منها أهل اليمن وربيعة وتميم. فلما حج النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس بعرفة فقال: "إن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من عرفة إذا صارت الشمس على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم, ويدفعون من مزدلفة إذا طلعت الشمس على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم, وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس، ونحل فطر الصائم، وندفع من مزدلفة غدًا -إن شاء الله- قبل طلوع الشمس, هدينا مخالف لهدي أهل الشرك الشرك والأوثان". قال الكلبي: وكانت هذه الأسواق بعكاظ، ومجنة، وذي المجاز قائمة في الإسلام، حتى كان حديثًا من الدهر: فأما عكاظ فإنما تركت عام خرجت الحرورية1 بمكة مع أبي حمزة المختار بن عوف الأزدي الإباضي2 في سنة تسع وعشرين ومائة، خاف الناس أن ينهبوا وخافوا الفتنة فتركت حتى الآن. ثم تركت مجنة وذو المجاز بعد ذلك، واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى وبعرفة. قال أبو الوليد: وعكاظ وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الحرورية: طائفة من الخوارج تنسب إلى حروراء بقرب الكوفة؛ لأنه كان بها أول اجتماعهم وتحكيمهم من خالفوا عليا. 2 الإباضية: فرقة من الخوارج شاع أمرها في أواخر الدولة الأموية، تنسب إلى عبد الله بن إباض التميمي. ج / 1 ص -152- عمل الطائف على بريد منها, وهي سوق لقيس بن عيلان وثقيف وأرضها لنصر, ومجنة سوق بأسفل مكة على بريد منها وهي سوق لكنانة, وأرضها من أرض كنانة, وهي التي يقول فيها بلال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بفخ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يومًا مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل1 وشامة وطفيل: جبلان مشرفان على مجنة، وذو المجاز: سوق لهذيل عن يمين الموقف من عرفة, قريب من كبكب على فرسخ من عرفة, وحباشة: سوق الأزد وهي في ديار الأوصام من بارق من صدر قنونى وحلي من ناحية اليمن, وهي من مكة على ست ليالٍ وهي آخر سوق خربت من أسواق الجاهلية. وكان والي مكة يستعمل عليها رجلًا يخرج معه بجند فيقيمون بها ثلاثة أيام من أول رجب متوالية، حتى قتلت الأزد واليًا كان عليها من غني, بعثه داود بن عيسى بن موسى في سنة سبع وتسعين ومائة، فأشار فقهاء أهل مكة على داود بن عيسى بتخريبها فخربها, وتركت إلى اليوم. وإنما ترك ذكر حباشة مع هذه الأسواق؛ لأنها لم تكن في مواسم الحج ولا في أشهره, وإنما كانت في رجب. قال: وكانوا يرون أن أفجر الفجور العمرة في أشهر الحج، تقول قريش وغيرها من العرب: لا تحضروا سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز إلا محرمين بالحج, وكانوا يعظمون أن يأتوا شيئًا من المحارم أو يعدو بعضهم على بعض في الأشهر الحرم وفي الحرم. وإنما سمي الفجار لما صنع فيه من الفجور، وسفك فيه من الدماء، فكانوا يأمنون في الأشهر الحرم وفي الحرم وكانوا يقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الوبر، ودخل صفر, حلت العمرة لمن اعتمر -يعنون: إذا برأ دبر الإبل التي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سيرة ابن هشام 2/ 589. ج / 1 ص -153- كانوا شهدوا الموسم وحجوا عليها وعفى وبرها, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الإسلام: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" فاعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمره كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية، وعمرة القضاء من قابل، وعمرته من الجعرانة كلها في ذي القعدة وأرسل عائشة -رضي الله عنها- مع أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر ليلة الحصبة, فاعتمرت من التنعيم. قال: وكان من سنتهم أن الرجل يحدث الحدث بقتل الرجل، أو يلطمه، أو يضربه فيربط لحا من لحا الحرم قلادة في رقبته ويقول: أنا صرورة1 فيقال: دعوا الصرورة بجهله وإن رمى بجعره في رجله فلا يعرض له أحد، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا صرورة2 في الإسلام, وإن من أحدث حدثًا أُخذ بحدثه". قال: فكان عمرو بن لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر الخزاعي وهو الذي غير دين الحنيفية دين إبراهيم -عليه السلام- كان فيهم شريفًا، سيدًا، مطاعًا, يطعم الطعام، ويحمل المغرم وكان ما قال لهم فهو دين متبع لا يعصى. وكان إبليس يلقي على لسانه الشيء الذي يغير به الإسلام فيستحسنه فيعمل به فيعمله أهل الجاهلية، وهو الذي جاء بهبل من أرض الجزيرة فجعله في الكعبة وجعل عنده سبعة قداح يستقسمون بها, في كل قدح منها كتاب يعملون بما يخرج فيه، فإذا أراد الرجل أمرًا أو سفرًا أخرج منها قدحين, في أحدهما مكتوب: أمرني ربي، وفي الآخر: نهاني ثم يضرب بهما ومعهما قدح غفل, فإن خرج الناهي جلس، وإن خرج الآمر مضى، وإن خرج الغفل أعاد الضرب حتى يخرج, أما الناهي وأما الآمر والباقي من القداح سبعة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تحرف في الأصول إلى: "ضرورة" بالضاد المعجمة, والصرورة -بالصاد المهملة: من لم يتزوج, ومن لم يحج. 2 تحرف في الأصول أيضًا إلى الضرورة -بالضاد المعجمة- وصوابه لدى صاحب الكنز برقم 44430. ج / 1 ص -154- مكتوب عليها, منها قدح مكتوب عليه العقل، وقدح فيه نعم، وقدح فيه لا، وقدح فيه منكم، وقدح فيه من غيركم, وقدح فيه ملصق، وقدح فيه المائة, فإذا أرادوا أن يختنوا غلامًا، أو ينكحوا أيما، أو يدفنوا ميتًا ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور ثم قالوا لغاضرة بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي, وكانت القداح إليه فقالوا: هذه مائة درهم وجزور, لقد أردنا كذا وكذا, فاضرب لنا على فلان ابن فلان فإن كان كما قال أهله, خرج العقل أو نعم أو "منكم" فما خرج من ذلك انتهوا إليه في أنفسهم، وإن خرج "لا" ضرب على المائة, فإن خرج "منكم" كان منهم وسيطًا، وإن خرج "من غيركم" كان حليفًا، وإن خرج "ملصق" كان دعيا نفيا, فمكثوا زمانًا وهم يخلطون، وكان عمرو بن لحي غير تلبية إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام بينما هو يسير على راحلته في بعض مواسم الحج وهو يلبي, إذ مثل له إبليس في صورة شيخ نجدي على بعير أصهب فسايره ساعة ثم لبى إبليس فقال: لبيك اللهم لبيك، فقال عمرو بن لحي مثل ذلك، فقال إبليس: لبيك لا شريك لك، فقال عمرو مثل ذلك فقال إبليس: إلا شريك هو لك فقال عمرو: وما هذا؟ قال إبليس لعنه الله: إن بعد هذا ما يصلحه إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك؛ فقال عمرو بن لحي: ما أرى بهذا بأسًا, فلباها فلبى الناس على ذلك وكانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك, فلم تزل تلك تلبيتهم حتى جاء الله بالإسلام ولبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلبية إبراهيم الصحيحة: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك", فلباها المسلمون. ج / 1 ص -155- إكرام أهل الجاهلية الحاج: حدثنا أبو الوليد قال: أخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق أن هاشم بن عبد مناف كان يقول لقريش إذا حضر الحج: يا معشر قريش, إنكم جيران الله وأهل بيته خصكم الله بذلك وأكرمكم به, ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره, فأكرموا ضيافه وزوار بيته, يأتونكم شعثًا غبرًا من كل بلد، فكانت قريش ترافد على ذلك حتى إن كان أهل البيت ليرسلون بالشيء اليسير رغبة في ذلك, فيقبل منهم لما يرجى لهم من منفعته. إطعام أهل الجاهلية حاج البيت: حدثنا أبو الوليد قال: أخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن إسحاق أن قصي بن كلاب بن مرة قال لقريش: يا معشر قريش, إنكم جيران الله وأهل الحرم، وإن الحاج ضيفان الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام هذا الحج، حتى يصدروا عنكم. ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجًا تخرجه قريش في كل موسم من أموالهم، فيدفعونه إلى قصي، فيصنعه طعامًا للحاج أيام الموسم بمكة ومنى، فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه وهي الرفادة, حتى قام الإسلام وهو في الإسلام إلى يومك هذا، وهو الطعام الذي يصنعه السلطان بمكة ومنى للناس حتى ينقضي الحاج. ج / 1 ص -156- ما جاء في حريق الكعبة, وما أصابها من الرمي من أبي قبيس بالمنجنيق: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي أحمد بن محمد وإبراهيم بن محمد الشافعي، عن مسلم بن خالد, عن ابن خيثم, عن عبيد الله بن سعد أنه دخل مع عبد الله بن عمرو بن العاص المسجد الحرام، والكعبة محرقة، حين أدبر جيش الحصين بن نمير، والكعبة تتناثر حجارتها، فوقف ومعه ناس غير قليل فبكى حتى إني لأنظر إلى دموعه تحدر كحلًا في عينيه من إثمد، كأنه رءوس الذباب على وجنتيه، فقال: يأيها الناس، والله لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتلو ابن نبيكم بعد نبيكم، ومحرقو بيت ربكم لقلتم: ما من أحد أكذب من أبي هريرة، أنحن نقتل ابن نبينا ونحرق بيت ربنا؟ فقد والله فعلتم، لقد قتلتم ابن نبيكم، وحرقتم بيت الله، فانتظروا النقمة، فوالذي نفس عبد الله بن عمرو بيده، ليلبسنكم الله شيعًا وليذيقن بعضكم بأس بعض، يقولها ثلاثًا، ثم رفع صوته في المسجد، فما في المسجد أحد إلا وهو يفهم ما يقول، فإن لم يكن يفهم فإنه يسمع رجع صوته، فقال: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟ فوالذي نفس عبد الله بن عمرو بيده، لو قد ألبسكم الله شيعًا وأذاق بعضكم بأس بعض؛ لبطن الأرض خير لمن عليها، لم يأمر بالمعروف ولم ينهَ عن المنكر. حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن حسن بن محمد بن علي بن الحنفية، قال: أول ما تكلم في القدر حين احترقت الكعبة، فقال رجل: طارت شررة فاحترقت ثياب الكعبة، وكان ذلك من قدر الله، وقال الآخر: ما قدر الله هذا. حدثنا مهدي بن أبي المهدي, عن عبد الملك الذماري، قال: أخبرنا سفيان ج / 1 ص -157- الثوري, عن سلمة بن كهيل, عن عليم الكندي، قال: قال سلمان الفارسي: لتحرقن هذه الكعبة على يدي رجل من أهل الزبير. أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد الله بن جعفر الزهري قال: سألت أبا عون: متى كان احتراق الكعبة؟ قال: يوم السبت لليال خلون من شهر ربيع الأول، قبل أن يأتينا نعي يزيد بن معاوية بتسعة وعشرين يومًا، وجاء نعيه في هلال شهر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين، قلت: وما كان سبب احتراقها؟ قال: جاءنا موت يزيد، توفي لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر، والحصين بن نمير يومئذ عندنا، وكان احتراقها بعد الصاعقة التي أصابت أهل الشام بعشرين ليلة، قال أبو عون: ما كان احتراقها إلا منا، وذلك أن رجلًا منا -وهو مسلم بن أبي خليفة المذحجي- كان هو وأصحابه يوقدون في خصاص لهم حول البيت، فأخذ نارًا في زج رمحه في النفط، وكان يوم ريح، فطارت منها شررة فاحترقت الكعبة حتى صارت إلى الخشب، فقلنا لهم: هذا عملكم, رميتم بيت الله عز وجل بالنفط والنار! فأنكروا ذلك. قال: حدثني محمد بن يحيى قال: قال الواقدي: حدثني رباح بن مسلم, عن أبيه قال: كانوا يوقدون في الخصاص، فأقبلت شررة هبت بها الريح، فاحترقت ثياب الكعبة واحترق الخشب. حدثني محمد بن يحيى قال: قال الواقدي: وحدثني عبد الله بن يزيد, عن عروة بن أذينة قال: قدمت مكة مع أبي يوم احترقت الكعبة، فرأيت الخشب قد خلصت إليه النار، ورأيتها مجردة من الحريق ورأيت الركن قد اسودّ فقلت: ما أصاب الكعبة؟ فأشاروا إلى رجل من أصحاب ابن الزبير، فقالوا: هذا احترقت الكعبة في سببه؛ أخذ نارًا في رأس رمح له، فطارت به الريح فضربت أستار الكعبة فيما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود. ج / 1 ص -158- حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن سعيد بن عبد العزيز, عن رجل من قومه قال: نصبنا المنجنيق على أبي قبيس فاعتقبه1 الرجال، وقد ألجأنا القوم إلى المسجد، فبنوا خصاصًا حول البيت في المسجد ورفافًا من خشب تكنهم من حجارة المنجنيق، فكنت أراهم إذا أمطرنا عليهم الحجارة يكتنون2 تحت تلك الرفاف، قال: فوهن الرمي بحجارة المنجنيق الكعبة, فهي تنقض. حدثنا محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن رباح بن مسلم عن أبيه قال: رأيت الحجارة تصك وجه الكعبة من أبي قبيس حتى تخرقها، فلقد رأيتها كأنها جيوب النساء، وترتج من أعلاها إلى أسفلها، ولقد رأيت الحجر يمر، فيهوي الآخر على إثره، فيسلك طريقه، حتى بعث الله عليهم صاعقة بعد العصر، فاحترق المنجنيق واحترق تحته ثمانية عشر رجلًا من أهل الشام، فجعلنا نقول: قد أظلهم العذاب، فكنا أيامًا في راحة حتى عملوا منجنيقًا آخر, فنصبوه على أبي قبيس3. حدثني محمد بن إسماعيل بن أبي عصيدة... قال: حدثني أبو النضر هاشم بن القاسم الليثي, عن مولى لابن المرتفع, عن ابن المرتفع، قال: كنا مع ابن الزبير في الحجر، فأول حجر من المنجنيق وقع في الكعبة، فسمعنا لها أنينًا كأنين المريض, آه آه4. حدثني جدي, حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج، قال: أخبرتني عجوز من أهل مكة كانت مع عبد الله بن الزبير بمكة، فقلت لها: أخبريني عن احتراق الكعبة كيف كان؟ قالت: كان المسجد فيه خيام كثيرة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل أ. وفي ب: "واعتنقه". 2 كذا في الأصل أ. ومثله في إتحاف الورى 2/ 61. وفي ب: "يكنون". 3 إتحاف الورى 2/ 61. 4 إتحاف الورى 2/ 61. ج / 1 ص -159- فطارت النار من خيمة منها فاحترقت الخيام، والتهب المسجد حتى تعلقت النار بالبيت فاحترق، قال عثمان: وبلغني أنه لما قدم جيش الحصين بن نمير، أحرق بعض أهل الشام على باب بني جمح والمسجد يومئذ خياما وفساطيط، فمشى الحريق حتى أخذ في البيت، فظن الفريقان كلاهما أنهم هالكون، فضعف بناء الكعبة، حتى إن الطير ليقع عليه فتتناثر حجارته. باب ما جاء في بناء ابن الزبير الكعبة, وما زاد فيها من الأذرع التي كانت في الحجر من الكعبة, وما نقص منها الحجاج: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي أحمد بن محمد, عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، قال: سمعت غير واحد من أهل العلم ممن حضر ابن الزبير حين هدم الكعبة وبناها، قالوا: لما أبطأ عبد الله بن الزبير عن بيعة يزيد بن معاوية، وتخلف وخشي منهم؛ لحق بمكة ليمتنع بالحرم، وجمع مواليه، وجعل يظهر عيب يزيد بن معاوية ويشتمه ويذكر شربه الخمر وغير ذلك ويثبط الناس عنه، ويجتمع الناس إليه فيقوم فيهم بين الأيام فيذكر مساوئ بني أمية فيطنب في ذلك، فبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فأقسم أن لا يؤتى به إلا مغلولًا، فأرسل إليه رجلًا من أهل الشام، في خيل من خيل الشام، فعظم على ابن الزبير الفتنة وقال: لأن يستحل الحرم بسببك، فإنه غير تاركك ولا تقوى عليه، وقد لج في أمرك وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولًا، وقد عملت لك غلا من فضة، وتلبس فوقه الثياب، وتبر قسم أمير المؤمنين، فالصلح خير عاقبة وأجمل بك وبه؛ فقال: دعوني أيامًا حتى أنظر في أمري، فشاور أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فأبت عليه أن يذهب مغلولًا وقالت: يا بني, عش كريمًا ومت كريمًا، ولا تمكن بني ج / 1 ص -160- أمية من نفسك فتلعب بك، فالموت أحسن من هذا، فأبى عليه أن يذهب إليه في غل، وامتنع في مواليه ومن تألف إليه من أهل مكة وغيرهم، وكان يقال لهم: الزبيرية. فبينما يزيد على بعثة الجيوش إليه، إذ أتى يزيد خبر أهل المدينة وما فعلوا بعامله, ومن كان معه بالمدينة من بني أمية, وإخراجهم إياهم منها إلا من كان من ولد عثمان بن عفان. فجهز إليهم مسلم بن عقبة المري، في أهل الشام وأمره بقتال أهل المدينة، فإذا فرغ من ذلك سار إلى ابن الزبير بمكة، وكان مسلم مريضًا، في بطنه الماء الأصفر، فقال له يزيد: إن حدث بك الموت، فولِّ الحصين بن نمير الكندي على جيشك. فسار حتى قدم المدينة فقاتله أهل المدينة فظفر بهم ودخلها، وقتل من قتل منهم، وأسرف في القتل، فسمي بذلك مسرفًا، وأنهب1 المدينة ثلاثًا. ثم سار إلى مكة، فلما كان ببعض الطريق حضرته الوفاة، فدعا الحصين بن نمير فقال له: يا برذعة الحمار، لولا أني أكره أن أتزود عند الموت معصية أمير المؤمنين ما وليتك، انظر إذا قدمت مكة فاحذر أن تمكن قريشًا من أذنك فتبول فيها، لا تكن إلا الوقاف، ثم الثقاف2، ثم الانصراف. فتوفي مسلم المسرف، ومضى الحصين بن نمير إلى مكة، فقاتل ابن الزبير بها أيامًا، وجمع ابن الزبير أصحابه، فتحصن بهم في المسجد الحرام وحول الكعبة، وضرب أصحاب ابن الزبير في المسجد خيامًا ورفافًا يكتنّون فيها من حجارة المنجنيق, ويستظلون فيها3 من الشمس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أنهب الشيء: جعله نهبًا يُغار عليه. 2 أي: المجالد بالسلاح. 3 كذا في الأصل ب. وفي أ: "بها". ج / 1 ص -161- وكان الحصين بن نمير قد نصب المنجنيق على أبي قبيس وعلى الأحمر -وهما أخشبا مكة- فكان يرميهم بها فتصيب الحجارة الكعبة، حتى تخرقت كسوتها عليها، فصارت كأنها جيوب النساء، فوهن الرمي بالمنجنيق الكعبة، فذهب رجل من أصحاب ابن الزبير يوقد نارًا في بعض تلك الخيام، مما يلي الصفا بين الركن الأسود والركن اليماني، والمسجد يومئذ ضيق صغير، فطارت شررة في الخيمة فاحترقت، وكانت في ذلك اليوم رياح شديدة، والكعبة يومئذ مبنية بناء قريش مدماكا من ساج، ومدماكا من حجارة من أسفلها إلى أعلاها، وعليها الكسوة، فطارت الرياح بلهب تلك النار فاحترقت كسوة الكعبة واحترق الساج الذي بين البناء، وكان احتراقها يوم السبت لثلاث ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول قبل أن يأتي نعي يزيد بن معاوية بسبعة وعشرين يومًا، وجاء نعيه في هلال شهر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين، وكان توفي لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين؛ وكانت خلافته ثلاث سنين وسبعة أشهر. فلما احترقت الكعبة؛ واحترق الركن الأسود فتصدع، كان ابن الزبير بعد ربطه بالفضة، فضعفت جدرات1 الكعبة، حتى إنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها، وتقع الحمام عليها، فتتناثر حجارتها وهي مجردة متوهنة من كل جانب، ففزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعًا، والحصين بن نمير مقيم، محاصر ابن الزبير. فأرسل ابن الزبير رجالًا من أهل مكة من قريش وغيرهم، فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد، ورجال من بني أمية إلى الحصين، فكلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة، وقالوا: إن ذلك كان منكم رميتموها بالنفط فأنكروا ذلك وقالوا: قد توفي أمير المؤمنين فعلى ماذا تقاتل؟ ارجع إلى الشام حتى تنظر ماذا يجتمع عليه رأي صاحبك -يعنون معاوية بن يزيد- وهل يجمع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل أ. وفي ب: "جدارات". ج / 1 ص -162- الناس عليه؟ فلم يزالوا حتى لان لهم، وقال له عبد الله بن خالد بن أسيد: أراك تتهمني في يزيد, ولم يزالوا به حتى رجع إلى الشام. فلما أدبر جيش الحصين بن نمير، وكان خروجه من مكة لخمس ليالٍ خلون من ربيع الآخر سنة أربع وستين، دعا ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم وشاورهم في هدم الكعبة، فأشار عليه ناس غير كثير بهدمها، وأبى أكثر الناس هدمها، وكان أشدهم عليه إباء عبد الله بن عباس، وقال له: دعها على ما أقرها عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى فيتهاون الناس في حرمتها، ولكن ارقعها، فقال ابن الزبير: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الله سبحانه، وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلى أسفله، حتى إن الحمام ليقع عليه فتتناثر حجارته؛ وكان ممن أشار عليه بهدمها جابر بن عبد الله -وكان جاء معتمرًا- وعبيد بن عمير، وعبد الله بن صفوان بن أمية. فأقام أيامًا يشاور وينظر ثم أجمع على هدمها، وكان يحب أن يكون هو الذي يردها على ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "على قواعد إبراهيم" وعلى ما وصفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها، فأراد أن يبنيها بالورس ويرسل إلى اليمن في ورس يشترى له، فقيل له: إن الورس يرفَتُّ1 ويذهب، ولكن ابنها بالقَصَّة2، فسأل عن القصة فأخبر أن قصة صنعاء هي أجود القصة، فأرسل إلى صنعاء بأربعمائة دينار يشترى له بها قصة ويكترى عليها، وأمر بتنجيح ذلك. ثم سأل رجالًا من أهل العلم من أهل مكة: من أين أخذت قريش حجارتها؟ فأخبروه بمقلعها، فنقل له من الحجارة قدر ما يحتاج إليه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 يرفتّ أي: ينكسر ويتحطم ويصير رفاتا, والرفات: الحطام, والفتات من كل ما تكسر واندقّ. 2 القَصَّة -بالفتح: الجص، لغة حجازية. ج / 1 ص -163- فلما اجتمعت الحجارة وأراد هدمها خرج أهل مكة منها إلى منى، فأقاموا بها ثلاثًا فرقًا من أن ينزل عليهم عذاب لهدمها، فأمر ابن الزبير بهدمها، فما اجترأ أحد على ذلك، فلما رأى ذلك، علاها هو بنفسه فأخذ المعول وجعل يهدمها ويرمي بحجارتها، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترءوا فصعدوا يهدمونها، وأرقى ابن الزبير فوقها عبيدًا من الحبش يهدمونها؛ رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشي، الذي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" قال: وقال مجاهد: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: كأني به أصيلع، أفيدع, قائم عليها, يهدمها بمسحاته. قال مجاهد: فلما هدم ابن الزبير الكعبة، جئت أنظر، هل أرى الصفة التي قال عبد الله بن عمرو؟ فلم أرها فهدموها وأعانهم الناس، فما ترجّلت الشمس حتى ألصقها كلها بالأرض من جوانبها جميعًا1. وكان هدمها يوم السبت النصف من جمادى الآخرة سنة أربع وستين، ولم يقرب ابن عباس مكة حين هدمت الكعبة, حتى فرغ منها، وأرسل إلى ابن الزبير: لا تدع الناس بغير قبلة، انصب لهم حول الكعبة الخشب، واجعل عليها الستور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلوا إليها، ففعل ذلك ابن الزبير، وقال ابن الزبير: أشهد لسمعت عائشة -رضي الله عنها- تقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا في بناء البيت، وعجزت بهم النفقة، فتركوا في الحجر منها أذرعًا، ولولا حداثة قومك بالكفر، لهدمت الكعبة وأعدت ما تركوا منها، ولجعلت لها بابين موضوعين بالأرض، بابًا شرقيا يدخل منه الناس، وبابًا غربيا يخرج منه الناس، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟" قالت: قلت: لا، قال: "تعززًا ألا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها، يدعونه أن يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط، فإن بدا لقومك هدمها، فهلمي لأريك ما تركوا في الحجر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 70. ج / 1 ص -164- منها" فأراها قريبًا من سبعة أذرع1. فلما هدم ابن الزبير الكعبة وسواها بالأرض، كشف عن أساس إبراهيم فوجدوه داخلًا في الحجر نحوًا من ستة أذرع وشبر، كأنها أعناق الإبل أخذ بعضها بعضًا، كتشبيك الأصابع بعضها ببعض، يحرك الحجر من القواعد فتحرك الأركان كلها، فدعا ابن الزبير خمسين رجلًا من وجوه الناس وأشرافهم وأشهدهم على ذلك الأساس، قال: فأدخل رجل من القوم -كان أيدًا- يقال له: عبد الله بن مطيع العدوي، عتلة كانت في يده في ركن من أركان البيت، فتزعزعت الأركان جميعًا، ويقال: إن مكة كلها رجفت رجفة شديدة حين زعزع الأساس، وخاف الناس خوفًا شديدًا، حتى ندم كل من كان أشار على ابن الزبير بهدمها، وأعظموا ذلك إعظامًا شديدًا وأسقط في أيديهم، فقال لهم ابن الزبير: اشهدوا، ثم وضع البناء على ذلك الأساس، ووضع حدات الباب، باب الكعبة على مدماك على الشاذروان اللاصق بالأرض، وجعل الباب الآخر بإزائه في ظهر الكعبة مقابله، وجعل عتبته على الحجر الأخضر الطويل الذي في الشاذروان الذي في ظهر الكعبة قريبًا من الركن اليماني2. وكان البناة يبنون من وراء الستر، والناس يطوفون من خارج، فلما ارتفع البنيان إلى موضع الركن، وكان ابن الزبير حين هدم البيت، جعل الركن في ديباجة وأدخله في تابوت وأقفل عليه ووضعه عنده في دار الندوة، وعمد إلى ما كان في الكعبة من حلية فوضعها في خزانة الكعبة، في دار شيبة بن عثمان، فلما بلغ البناء موضع الركن أمر ابن الزبير بموضعه، فنقر في حجرين: حجر من المدماك الذي تحته، وحجر من المدماك الذي فوقه، بقدر الركن وطوبق بينهما، فلما فرغوا منه أمر ابن الزبير ابنه عباد بن عبد الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 70, 71. 2 إتحاف الورى 2/ 71, 72. ج / 1 ص -165- ابن الزبير، وجبير بن شيبة بن عثمان، أن يجعلوا الركن في ثوب، وقال لهم ابن الزبير: إذا دخلت في الصلاة، صلاة الظهر، فاحملوه واجعلوه في موضعه، فأنا أطوِّل الصلاة، فإذا فرغتم فكبروا حتى أخفف صلاتي -وكان ذلك في حر شديد- فلما أقيمت الصلاة، كبر ابن الزبير وصلى بهم ركعة، خرج عباد بالركن من دار الندوة وهو يحمله ومعه جبير بن شيبة بن عثمان -ودار الندوة يومئذ قريبة من الكعبة- فخرقا به الصفوف حتى أدخلاه في الستر الذي دون البناء، فكان الذي وضعه في موضعه هذا عباد بن عبد الله بن الزبير، وأعانه عليه جبير بن شيبة، فلما أقروه في موضعه وطوبق عليه الحجران كبروا، فخفف ابن الزبير صلاته1. وتسامع الناس بذلك، وغضبت فيه رجال من قريش، حين لم يحضرهم ابن الزبير، وقالوا: والله لقد رفع في الجاهلية حين بنته قريش، فحكموا فيه أول من يدخل عليهم من باب المسجد، فطلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعله في ردائه، ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كل قبيلة من قريش رجلًا, فأخذوا بأركان الثوب ثم وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موضعه2. وكان الركن قد تصدع من الحريق بثلاث فرق، فانشظت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد ذلك بدهر طويل، فشده ابن الزبير بالفضة، إلا تلك الشظية من أعلاه -موضعها بين في أعلى الركن- وطول الركن ذراعان، قد أخذ عرض جدار الكعبة، ومؤخر الركن داخله في الجدر، مضرس على ثلاثة رءوس. قال ابن جريج: فسمعت من يصف لون مؤخره الذي في الجدر، قال بعضهم: هو مورد، وقال بعضهم: هو أبيض3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 72, 73. 2 إتحاف الورى 2/ 74. 3 إتحاف الورى 2/ 74. ج / 1 ص -166- قالوا: وكانت الكعبة يوم هدمها ابن الزبير ثمانية عشر ذراعًا في السماء، فلما أن بلغ ابن الزبير بالبناء ثمانية عشر ذراعًا، قصرت بحال الزيادة التي زاد من الحجر فيها، واستسمج ذلك إذ صارت عريضة لا طول لها، فقال: قد كانت قبل قريش تسعة أذرع حتى زادت قريش فيها تسعة أذرع طولًا في السماء، فأنا أزيد تسعة أذرع أخرى، فبناها سبعة وعشرين ذراعًا في السماء، وهي سبعة وعشرون مدماكًا، وعرض جدارها ذراعان، وجعل فيها ثلاث دعائم، وكانت قريش في الجاهلية جعلت فيها ست دعائم، وأرسل ابن الزبير إلى صنعاء فأتى من رخام بها يقال له: البلق، فجعله في الروازن التي في سقفها للضوء، وكان باب الكعبة قبل بناء ابن الزبير مصراعًا واحدًا، فجعل لها1 ابن الزبير مصراعين طولهما أحد عشر ذراعًا من الأرض إلى منتهى أعلاهما اليوم، وجعل الباب الآخر الذي في ظهرها بإزائه على الشاذروان الذي على الأساس مثله، وجعل ميزابها يسكب في الحجر، وجعل لها درجة في بطنها في الركن الشامي من خشب معرجة, يصعد فيها إلى ظهرها. فلما فرغ ابن الزبير من بناء الكعبة، خَلَّقها من داخلها وخارجها من أعلاها إلى أسفلها، وكساها القُبَاطي، وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، فمن قدر أن ينحر بدنة فليفعل، ومن لم يقدر على بدنة فليذبح شاة، ومن لم يقدر فليتصدق بقدر طوله2. وخرج ماشيًا وخرج الناس معه مشاة حتى اعتمروا من التنعيم؛ شكرًا لله سبحانه، ولم يُرَ يوم كان أكثر عتيقًا ولا أكثر بدنة منحورة ولا شاة مذبوحة ولا صدقة من ذلك اليوم، ونحر ابن الزبير مائة بدنة، فلما طاف بالكعبة استلم الأركان الأربعة جميعًا، وقال: إنما كان ترك استلام هذين الركنين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ب: "له". 2 إتحاف الورى 2/ 75. ج / 1 ص -167- الشامي والغربي؛ لأن البيت لم يكن تامًّا، فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا طاف به الطائف استلم الأركان جميعًا، ويدخل البيت من هذا الباب ويخرج من الباب الغربي، وأبوابه لاصقة بالأرض، حتى قتل ابن الزبير رحمه الله1. ودخل الحجاج مكة، فكتب إلى عبد الملك بن مروان، أن ابن الزبير زاد في البيت ما ليس منه، وأحدث فيه بابًا آخر، فكتب إليه يستأذنه في رد البيت على ما كان عليه في الجاهلية، فكتب إليه عبد الملك بن مروان أن سد بابها الغربي الذي كان فتح ابن الزبير، واهدم ما كان زاد فيها من الحجر، واكبسها به على ما كانت عليه، فهدم الحجاج منها ستة أذرع وشبرًا، مما يلي الحجر، وبناها على أساس قريش الذي كانت استقصرت عليه، وكبسها بما هدم منها، وسد الباب الذي في ظهرها، وترك سائرها لم يحرك منها شيئًا2. فكل شيء فيها اليوم بناء ابن الزبير، إلا الجدر الذي في الحجر، فإنه بناء الحجاج وسد الباب الذي في ظهرها، وما تحت عتبة الباب الشرقي الذي يدخل منه اليوم إلى الأرض أربعة أذرع وشبر، كل هذا بناء الحجاج، والدرجة التي في بطنها اليوم والبابان اللذان عليها اليوم هما أيضًا من عمل الحجاج. فلما فرغ الحجاج من هذا كله، وفد بعد ذلك الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب -يعني ابن الزبير- سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها في أمر الكعبة، فقال الحارث: أنا سمعته من عائشة، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا في بناء ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الجامع اللطيف ص87. 2 الجامع اللطيف ص87, 88، إخبار الكرام 146. ج / 1 ص -168- البيت، ولولا حداثة عهد قومك بالكفر، أعدت فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه" فأراها قريبًا من سبعة أذرع، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وجعلت لها بابين موضوعين على الأرض: بابا شرقيا يدخل الناس منه، وبابا غربيا يخرج الناس منه" قال عبد الملك بن مروان: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أنا سمعت هذا منها، قال: فجعل ينكت منكسا بقضيب في يده ساعة طويلة، ثم قال: وددت والله أني تركت ابن الزبير وما تحمل من ذلك. قال ابن جريج: وكان باب الكعبة الذي عمله ابن الزبير، طوله في السماء أحد عشر ذراعًا، فلما كان الحجاج نقض من الباب أربعة أذرع وشبرًا، عمل لها هذين البابين وطولهما ستة أذرع وشبر، فلما كان في خلافة الوليد بن عبد الملك، بعث إلى واليه على مكة خالد بن عبد الله القسري بستة وثلاثين ألف دينار، فضرب منها على بابي الكعبة صفائح الذهب، وعلى ميزاب الكعبة، وعلى الأساطين التي في بطنها، وعلى الأركان في جوفها. قال أبو الوليد: قال جدي: فكل ما كان على الميزاب وعلى الأركان في جوفها من الذهب، فهو من عمل الوليد بن عبد الملك، وهو أول من ذهب البيت في الإسلام، فأما ما كان على الباب من عمل الوليد بن عبد الملك من الذهب، فإنه رق وتفرق. فرفع ذلك إلى أمير المؤمنين محمد بن الرشيد في خلافته، فأرسل إلى سالم بن الجراح عامل كان له على صوافي مكة، بثمانية عشر ألف دينار ليضرب بها صفائح الذهب على بابي الكعبة، فقلع ما كان على الباب من الصفائح وزاد عليها من الثمانية عشر ألف دينار، فضرب عليه الصفائح التي هي عليه اليوم والمسامير وحلقتي باب الكعبة وعلى الفياريز والعتب, وذلك كله من عمل أمير المؤمنين محمد بن هارون الرشيد، ولم يقلع في ذلك بابي ج / 1 ص -169- الكعبة، ولكن ضربت عليهما الصفائح والمسامير وهما على حالهما. قال أبو الوليد: أخبرني المثنى بن جبير الصواف أنهم حين فرقوا ذهب باب الكعبة، وجدوا فيه ثمانية وعشرين ألف مثقال، فزادوا عليها خمسة عشر ألف دينار، وأن الذي على الباب من الذهب ثلاثة وثلاثون ألف دينار، وقالوا أيضًا: إنه لما قلع الذهب عن الباب ألبس الباب ثوبًا أصفر. قال ابن جريج: وعمل الوليد بن عبد الملك الرخام الأحمر والأخضر والأبيض الذي في بطنها مؤزرًا به جدراتها، وفرشها بالرخام وأرسل به من الشام، وجعل الجزعة التي تلقى من دخل الكعبة، من بين يدي من قام يتوخى مصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موضعها، وجعل عليها طوقًا من ذهب. فجميع ما في الكعبة من الرخام فهو من عمل الوليد بن عبد الملك، وهو أول من فرشها بالرخام وأزر به جدراتها، وهو أول من زخرف المساجد. وحدثني جدي قال: لما جرد حسين بن حسن الطالبي الكعبة في سنة مائتين في الفتنة، لم يبق عليها شيئًا مما كان عليها من الكسوة، فجئت فاستدرت بجوانبها وعددت مداميكها فوجدتها سبعة وعشرين مدماكًا، ورأيت موضع الصلة التي بنى الحجاج مما يلي الحجر، أثر لحم البناء فيها، بين بناء ابن الزبير القديم وبين بناء الحجاج بن يوسف، شبه الصدع، وهو منه كالمتبري بأقل من الأصبع من أعلاها بين، ذلك لمن رآه، ورأيت موضع الباب الذي سده الحجاج في ظهر الكعبة على الحجر الأخضر الذي في الشاذروان، تبين حداته من أعلاه إلى أسفله، ورأيت السد الذي في الباب الشرقي الذي يدخل منه اليوم من العتبة إلى الأرض، وحجارة سد الباب الذي في ظهرها, وما بني من هذا الباب الشرقي ألطف من حجارة مداميك جدران الكعبة بكثير، وكل ذلك بالمنقوش. حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثنا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت ج / 1 ص -170- عبد الرحمن بن سعد1 بن زرارة عن عائشة أم المؤمنين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لها: "يا عائشة, لولا حداثة قومك بالكفر لرددت في الكعبة ما نقصوا منها، ولجعلت لها بابًا آخر". حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدثنا حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس, عن عكرمة, عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة: "إذا فتح الله لي إن شاء الله، رددت الكعبة على ما كانت عليه على عهد إبراهيم، فأدخلت من الحجر فيها، وجعلت لها بابًا بالأرض، وجعلت لها بابًا آخر، فإن قريشًا إنما جعلوا الدرجة؛ لأن لا يدخل الناس إلا بإذن". حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن داود بن سابور, عن مجاهد، قال: لما عزم ابن الزبير على هدم الكعبة، خرجنا إلى منى ننتظر العذاب ثلاثًا، وأمر ابن الزبير الناس أن يهدموا، فلم يجترئ أحد على هدمها، فلما رآهم لا يقدمون عليها، أخذ هو بنفسه المعول ثم ارتقى فوقها فهدم، فلما رأى الناس أنه لم يصبه شيء اجترءوا على هدمها، قال: فهدموا وأدخل عامة الحجر فيها، فلما ظهر الحجاج رد الذي كان ابن الزبير أدخل من الحجر، فقال عبد الملك بن مروان: وددنا أنا تركنا أبا خبيب وما تولى من ذلك, يعني ابن الزبير. وحدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: رأيت ابن الزبير هدم الكعبة وأراهم أساسًا داخلًا في الحجر أخذ بعضه بعضًا، كلما حرك منه شيء تحرك كله، فبنى عليه الكعبة. حدثني مهدي بن أبي المهدي, عن عيسى بن يونس, عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، قال: حدثني يزيد مولى ابن الزبير قال: شهدت ابن الزبير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تحرف في الأصول إلى: "أسعد", وصوابه من تقريب التهذيب ص667. ج / 1 ص -171- احتفر في الحجر، فأصاب أساس البيت حجارة حمر كأنها الخلايق، تحرك الحجر فيهتز له البيت، فأصاب في الحجر من البيت ستة أذرع وشبرًا، وأصاب فيه موضع قبر، فقال ابن الزبير: هذا قبر إسماعيل، فجمع قريشًا ثم قال لهم: اشهدوا, ثم بنى. حدثني محمد بن واضح, عن سليم بن مسلم, عن عمر بن قيس, عن سعيد بن مينا -وكان على سوق مكة لابن الزبير- قال: لما أراد ابن الزبير بناء الكعبة عالج الأساس، فإذا وضع الباني العتلة في حجر ارتجت جوانب البيت، فأمسك عنه. حدثني إبراهيم بن محمد الشافعي, عن سفيان بن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: رأيت ابن الزبير حين هدم الكعبة، أراهم أساسًا آخذًا بعضه ببعض، كلما حرك منه شيء تحرك كله، قال: فرأيت فضل البيت في الحجر، قال سفيان: فذكر نحوًا من ستة أذرع. حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن أبي نجيح, عن سليمان بن مينا, عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: إذا رأيت قريشًا هدموا البيت ثم بنوه فزوقوه، فإن استطعت أن تموت فمت. حدثني جدي, عن مسلم بن خالد الزنجي، عن يسار بن عبد الرحمن، قال: شهدت ابن الزبير حين فرغ من بناء البيت كساه القباطي، وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، قال: فما رأيت يومًا كان أكثر عتيقًا ولا أكثر بدنة مذبوحة من يومئذٍ. أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن موسى بن يعقوب, عن عمه، قال: هدم ابن الزبير البيت حتى وضعه بالأرض، وبناها من أسها وأدخل الحجر عنده، وكان قد احترق، واحترق الخشب والحجارة، وانصدع الركن بثلاث فرق، فرأيته منكسرًا، حتى شده ابن الزبير بالفضة، ثم أدخل الحجر في البيت، ونصب الخشب حول البيت، ثم سترها، وبنوا من وراء ج / 1 ص -172- الستر، حتى بلغ الركن الأسود فوضعه وشده بالفضة، ثم رد البيت على بنائه، وزاد في طولها فجعلها سبعة وعشرين ذراعًا، وخلق جوفها، ولطخ جدرها بالمسك حين فرغ منها، وجعل لها بابين موضوعين بالأرض: بابًا في وجهها، وبابًا بإزائه من خلفها، يدخل من هذا الذي في وجهها ويخرج من الآخر، واعتمر حين فرغ من الكعبة، ماشيًا مع رجال من قريش وغيرهم، منهم عبد الله بن صفوان وعبيد بن عمير. حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن موسى بن يعقوب عن عمه, عن الحارث بن عبد الله بن وهب بن زمعة، قال: ارتحل الحصين بن نمير من مكة لخمس ليال خلون من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين، وأمر ابن الزبير بالخصاص التي كانت حول الكعبة فهدمت، وبالمسجد فكنس مما فيه من الحجارة والدماء، فإذا الكعبة متوهنة ترتج من أعلاها إلى أسفلها، فيها أمثال جيوب النساء من حجارة المنجنيق، وإذا الركن قد اسود واحترق وتفلق من الحريق، فرأيته ثلاث فرق، فشاور ابن الزبير الناس في هدمها، فأشار عليه جابر بن عبد الله، وعبيد بن عمير بهدمها، وأبى ذلك عليه ابن عباس، وقال: أنا أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى، فيتهاون الناس بحرمتها، فلا أحب ذلك. أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن شرحبيل عن أبي عون, عن أبيه قال: رأيت الحجر قد انفلق واسود من الحريق، فأنظر إلى جوفه أبيض كأنه الفضة، وقد كان شاور المسور بن مخرمة بن نوفل قبل أن يموت بهدمها وبنائها، فأشار عليه بذلك. حدثنا محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد الله بن محمد عن أبيه, عن جده، أنه سمع عبد الله بن عمر يسأل نائل بن قيس الجذامي عن الأساس، فقال نائل: اتبعنا الأساس في الحجر فوجدنا أساس البيت واصلًا بالحجر، كأنه أصابعي هذه، وشبك بين أصابعه، فسمعت ابن عمر يكبر ج / 1 ص -173- ويحمد الله -عز وجل- على ذلك. أخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن محمد بن عمرو, عن أبي الزبير، قال: سمعت عبد الرحمن بن سابط يقول: دعانا ابن الزبير خمسين رجلًا من قريش، فنظرنا إلى الأساس، فإذا هو واصل بالحجر مشبك كأصابع يدي هاتين، وشبك بين أصابعه، فقال ابن الزبير: اشهدوا ثم بنى. قال عبد الرحمن بن سابط: فجلست مع ابن عباس فأخبرته، فقال ابن عباس: ما زلنا نعلم أن من البيت في الحجر. حدثنا محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن إبراهيم بن موسى, عن عكرمة بن خالد المخزومي، قال: هدم ابن الزبير البيت حتى سواه بالأرض، وحفر أساسه وأدخل الحجر فيه، وكان الناس يطوفون من وراء الستر ويصلون إلى موضعه، وجعل الركن في تابوت في سرقة من حرير، فأما ما كان من حلي البيت وما وجد فيه من ثياب أو طيب، فإنه جعله عند الحجبة في خزانة الكعبة حتى أعاد بناءها، قال عكرمة: فرأيت الحجر الأسود، فإذا هو ذراع أو يزيد. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن شرحبيل بن أبي عون, عن أبيه، قال: لما هدم عبد الله بن الزبير البيت، ندم كل من كان أشار عليه وأعظموا ذلك. حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن سليمان بن داود بن الحصين, عن أبيه, عن عكرمة عن ابن عباس أنه أبى على ابن الزبير هدمها، وقال: أخاف أن يأتي بعدك من يهدمها، ثم يأتي بعد ذلك آخر، فإذا هي تهدم أبدًا وتبنى، فسكت عبد الله بن الزبير، ولم يقرب ابن عباس مكة حتى فرغ منها. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن إبراهيم بن موسى, عن عكرمة بن خالد، قال: لما بنى ابن الزبير الكعبة انتهى به إلى الأساس ج / 1 ص -174- الأول، وأدخل الحجر فيها، فلما انتهى إلى موضع الركن الأسود، جاء به ابن الزبير وولده حتى رفعوه ووضعوه بأيديهم في ساعة خالية، تحروا بها غفلة الناس نصف النهار في يوم صائف. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن عبد العزيز بن المطلب, عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي جعفر، قال: ابن الزبير وضعه وولده نصف النهار في حر شديد، فرأيت قريشًا غضبوا في ذلك. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج عن خلاد بن عطاء, عن أبيه -وكان يعمل في البيت محتسبًا- قال: وكان الركن في تابوت مقفل عليه، فلما كان وقت وضعه وقد نقر له حجران طوبق بينهما، ثم أدخل فيه، فلما فرغ من ذلك خرج ابن الزبير في يوم صائف نصف النهار، فأشار إلى جبير بن شيبة الحجبي، فأدخلاه في موضعه وبنى عليه، قال عطاء أبو خلاد: وأنا حاضر ذلك. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج, عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي, عن مسافع الحجبي، قال: لما بنى ابن الزبير البيت حتى بلغ موضع الركن تواعد الحجبة، قال مسافع: وأنا فيهم، فلما دخل ابن الزبير في الصلاة, حسبت الظهر، خرج الحجبة بالركن من الصفوف وأنا فيهم، فرفعناه فجاء حمزة بن عبد الله بن الزبير وأخذ بطرف الثوب فرفع معنا، وأخبرني مسافع أن الركن أخذ عرض الضفير، ضفير البيت. حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج وعبد الله بن عمر بن حفص, عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي عن أمه، قالت: كان الحجر الأسود قبل الحريق مثل لون المقام، فلما احترق اسودّ، قال: فلما احترقت الكعبة تصدع بثلاث فرق، فشده ابن الزبير بالفضة. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن علي بن زيد عن أبيه، عن جده، قال: رأيت ابن الزبير هدمها كلها، فلما بنى وفرغ، خلق جوفها ج / 1 ص -175- بالعنبر والمسك ولطخ جدرها من خارج بالمسك وسترها بالديباج، وأدخل الحجر فيها ورد الركن الأسود في موضعه، وكان قد انكسر بثلاث فرق من الحريق الذي أصاب الكعبة، وكان الركن عند ابن الزبير في بيته في صندوق عليه قفل، فلما بلغ البناء موضع الركن، جاء ابن الزبير حتى وضعه هو بنفسه وشده بالفضة، فهو مشدود بالفضة واعتمر من خيمة جمانة ماشيًا، فرأى الناس أن قد أحسن ابن الزبير ولبى، حتى نظر إلى البيت. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج, عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: وفد الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة, على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما أظن أن أبا خبيب -يعني ابن الزبير- سمع من عائشة -رضي الله عنها- ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث: أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا في بنيان الكعبة، ولولا حداثة قومك بالشرك أعدت فيها ما تركوا منها، فإن بدا لقومك أن يبنوها، فهلمي لأريك ما تركوا من البيت" فأراها قريبًا من سبعة أذرع. حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن عطاف بن خالد المخزومي, عن أبيه, عن قبيصة بن ذؤيب، قال: سمعته يقول: لقد كان عبد الملك بن مروان ندم حين هدم البيت, ورده على بنيانه الأول، قال: ليتني كنت حملت ابن الزبير وما تحمل. حدثنا محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن إبراهيم بن شعيب مولى لقريش، عن المسور بن رفاعة, عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما حج سليمان بن عبد الملك وهو خليفة، طاف بالبيت وأنا إلى جنبه، قال: كيف كان بناء الكعبة حين بناها ابن الزبير؟ فأشار له عمر بن عبد العزيز وهو إلى جنبه، من الشق الآخر إلى ما كان ابن الزبير فعل، وأنه جعل لها بابين، وأدخل الحجر في البيت، فقال سليمان: ليت أن أمير المؤمنين -يعني عبد الملك- ج / 1 ص -176- كان ولى ابن الزبير ما تولى من ذلك، فقال له عمر بن عبد العزيز: أما إني قد سمعته يقول: ليت أني تركت ابن الزبير وما تحمل، قال سليمان: أنت سمعته يقول ذلك؟ قال: نعم, ثم التفت إلى محمد بن كعب فقال: كم طولها؟ قال: سبعة وعشرون ذراعًا، قال: وعلى ذلك كانت؟ قال: لا، قال: فكم كانت؟ قال: كانت على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر ذراعًا، قال: فمن زاد فيها؟ قال: ابن الزبير، قال سليمان: لولا أنه أمر، كان أمير المؤمنين فعله، لأحببت أن أردها على ما بناها ابن الزبير، ثم قال: علي بحجاب البيت، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب القرظي، فجعل سليمان ينظر إلى ما فيها من الحلي، فقال لابن كعب: ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين أقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة، ثم أقره الولاة بعده: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية -رضي الله تعالى عنهم- قال: صدقت. أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ما جاء في مقلع الكعبة من أين قلع: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن جريج، قال: لما أراد ابن الزبير هدم الكعبة، سأل رجالًا من أهل العلم من أهل مكة: من أين كانت قريش أخذت حجارة الكعبة حين بنتها؟ فأخبر أنهم بنوها من حراء ومن ثبير ومن المقطع، وهو الجبل المشرف على مسجد القاسم بن عبيد بن خلف بن الأسود الخزاعي، على يمين من أراد المشاش من مكة مشرفًا على الطريق، وإنما سمي المقطع؛ لأنه جبل صلب الحجارة، فكان يوقد بالنار ثم يقطع، ويقال: إنما سمي المقطع؛ لأن أهل الجاهلية من أهل مكة كانوا إذا خرجوا من مكة, قلدوا أنفسهم ورواحلهم من عضاه الحرم، فإذا لقيهم أحد قالوا: هذا من أهل الله، فلا يعرض له، حتى إذا دخلوا الحرم ج / 1 ص -177- أمنوا فصاروا عند المقطع، فقطعوا قلائدهم وقلائد رواحلهم التي من عضاه الحرم هنالك، فسمي بذلك المقطع، ومن قافية الخندمة, والخندمة: جبل في ظهر أبي قبيس من ظهرها المشرف على دار أبي صيفي المخزومي في شعب آل سفيان دون شعب الخوز، وذلك الموضع عن يمين من انحدر من الثنية التي يسلك فيها من شعب ابن عامر إلى شعب آل سفيان، ثم إلى منى، وهذا الموضع مرتفع في الجبل، موضع مقلعه بين هذه الثنية وبين الثنية التي تشرف على شعب الخوز، يسلك منها من منى إلى مكة، من سلك شعب الخوز، ومن جبل عند الثنية البيضاء التي في طريق جدة، وهو الجبل المشرف على ذي طوى، ويقال له: حلحلة، قال جدي: ومنه بنيت دار العباس بن محمد التي على الصيارفة بمكة، ومن جبل بأسفل مكة عن يسار من انحدر من ثنية بني عضل، ويقال لهذا الجبل: مقلع الكعبة، ومن مزدلفة من حجر بها يقال له: المفجري، فهذه الجبال السبعة التي يعرفها أهل العلم من أهل مكة، أنها مقلع الكعبة، قال مسلم بن خالد: ولم يثبت عندنا أنها بنيت من غير هذه الأجبل1. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 180. في معاليق الكعبة وقرني الكبش, ومن علق تلك المعاليق: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي, عن خاله مسافع بن شيبة, عن صفية بنت شيبة أن امرأة من بني سليم ولدت عامتهم، قالت لعثمان بن طلحة: لم دعاك1 النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد خروجه من البيت؟ قال: قال لي: "إني رأيت قرني الكبش في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تحرف في ب إلى: "دعك". ج / 1 ص -178- البيت، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصليًا" قال عثمان: وهو الكبش الذي فدي به إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام. حدثني محمد بن يحيى، عن سليم بن مسلم, عن عمرو بن قيس أنه كان يقول: كان قرنا الكبش في الكعبة، فلما هدمها ابن الزبير وكشفها، وجدوهما في جدار الكعبة مطليين بمشق، قال: فتناولهما فلما مسهما، همدا من الأيدي. قال محمد بن يحيى: عن هشام بن سليمان, عن ابن جريج, عن عبد الله بن شيبة بن عثمان، قال: سألته: هل كان في الكعبة قرنا كبش؟ قال: نعم كان فيها، قلت: رأيتهما؟ قال: حسبت أنه قال: أبي أخبرني أنه رآهما، وعن ابن جريج عن عجوز، قالت: رأيتهما وبهما مغرة. حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن أشياخه قال: لما فتح عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مدائن كسرى، كان مما بعث به إليه هلالان، فبعث بهما فعلقهما في الكعبة، وبعث عبد الملك بن مروان بالشمستين وقدحين من قوارير وضرب على الأسطوانة الوسطى الذهب من أسفلها إلى أعلاها صفائح، وبعث الوليد بن عبد الملك بقدحين، وبعث الوليد بن يزيد بالسرير الزينبي1 وبهلالين، وكتب عليهما اسمه، بسم الله الرحمن الرحيم، أمر عبد الله الخليفة الوليد بن يزيد أمير المؤمنين في سنة إحدى ومائة؛ قال أبو الوليد: أخبرنيه إسحاق بن سلمة الصائغ، أنه قرأ حين خلق الكعبة, وأخبرنيه غير واحد من الحجبة سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وبعث أبو العباس بالصحفة الخضراء، وبعث أبو جعفر بالقارورة الفرعونية, كل هذا معلق في البيت، وكان هارون الرشيد قد وضع في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إخبار الكرام ص167. ج / 1 ص -179- الكعبة قصبتين علقهما مع المعاليق في سنة ست وثمانين ومائة، وفيهما بيعة محمد وعبد الله ابنيه وما عقد لهما وما أخذ عليهما من العهود، وبعث المأمون بالياقوتة التي تعلق في كل سنة في وجه الكعبة في الموسم: بسلسلة من ذهب، وبعث أمير المؤمنين جعفر المتوكل بشمسة عملها من ذهب مكللة بالدر الفاخر والياقوت الرفيع والزبرجد بسلسلة من ذهب تعلق في وجه الكعبة في كل موسم1. حدثني سعيد بن يحيى البلخي، قال: أسلم ملك من ملوك التبت2 وكان له صنم من ذهب يعبده في صورة إنسان، وكان على رأس الصنم تاج من الذهب مكلل بخرز الجوهر والياقوت الأحمر والأخضر والزبرجد، وكان على سرير مربع مرتفع من الأرض على قوائم، والسرير من فضة، وكان على السرير فرشة الديباج، وعلى أطراف الفرش أزرار من ذهب وفضة مرخاة، والأزرار على قدر الكدن3 في وجه السرير، فلما أسلم ذلك الملك, أهدى السرير والصنم إلى الكعبة، فبعث به إلى أمير المؤمنين عبد الله المأمون هدية للكعبة، والمأمون يومئذ بمرو من خراسان، فبعث به المأمون إلى الحسن بن سهل بواسط، وأمره أن يبعث به إلى الكعبة، فبعث به مع نصير بن إبراهيم الأعجمي رجل من أهل بلخ من القواد، فقدم به مكة في سنة إحدى ومائتين، وحج بالناس تلك السنة إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى، فلما صدر الناس من منى، نصب نصير بن إبراهيم السرير وما عليه من الفرشة والصنم، في وسط رحبة عمر بن الخطاب، بين الصفا والمروة، فمكث ثلاثة أيام منصوبًا ومعهم لوح من فضة مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إخبار الكرام ص168. 2 التبت: بلاد واسعة على جبال شامخة بين الصين والروس والهند. 3 في الأصول: "الكرين" وفي إتحاف الورى: "الكرير" وفي شفاء الغرام: "الكرسي" ولعل الأولى ما أثبتناه. والكدن بمعنى: الثوب الذي يكون على الخدر والرحل ومركب من مراكب النساء. ج / 1 ص -180- هذا سرير فلان ابن فلان ملك التبت، أسلم وبعث بهذا السرير هدية إلى الكعبة، فاحمدوا الله الذي هداه للإسلام، وكان يقف على السرير محمد بن سعيد ابن أخت نصير الأعجمي، فيقرؤه على الناس بكرة وعشية، ويحمد الله الذي هدى ملك التبت إلى الإسلام، ثم دفعه إلى الحجبة، وأشهد عليهم بقبضه، فجعلوه في خزانة الكعبة، في دار شيبة بن عثمان1، حتى استخلف حمدون بن علي بن عيسى بن ماهان -يزيدَ بن محمد بن حنظلة المخزومي على مكة، وخرج إلى اليمن فخالفه إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي إلى مكة مقبلًا من اليمن، فسمع به يزيد بن محمد فخندق على مكة وسكها بالبنيان من أنقابها، وأرسل إلى الحجبة فأخذ السرير وما عليه منهم، فاستعان به على حربه، وقال: أمير المؤمنين يخلفه لها، وضربه دنانير ودراهم، وذلك في سنة اثنتين ومائتين، فبقي التاج واللوح في الكعبة إلى اليوم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 271، شفاء الغرام 1/ 190. نسخة ما في اللوح الذي في جوف الكعبة, الذي كان مع السرير: بسم الله الرحمن الرحيم، أمر عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين -أكرمه الله- ذا الرياستين، الفضل بن سهل بالبعثة بهذا السرير من خراسان إلى بيت الله الحرام، في سنة مائتين وهو سرير الأصبهبذ1 كابل شاه بعد مهراب بني دومي كابل شاه، المحمول تاجه إلى مكة المخزون سريره في بيت مال المسلمين، بالمشرق في سنة سبع وتسعين ومائة2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الأصبهبذ: نائب الولاية، أو أميرها، أو ملكها, وهو هنا: ملك كابل. 2 إتحاف الورى 2/ 274. ج / 1 ص -181- ومن نبأ أمر الأصبهبذ، أنه أضعف عليه الخراج والفدية عن بلاد كابل والقندهار1، ونصبت المنابر وبنيت المساجد فيها، وخرج الأصبهبذ كابل شاه، نازلًا عن سريره هذا خاضعًا لله مستسلمًا، حتى حاول حدود كابل وأرض الطخارستان2, ووضع يده في يد صاحب جبل "خراسان"3 ذي الرياستين على ما سامه ذو الرياستين، من خطة الذل للدين ولإمام المسلمين، ثم أقام البريد من القندهار إلى الباميان4، وأضاف بلاد كابل والقندهار إلى بلاد خراسان، وأذعن للوالي مع الجنود مقيمًا حدود الله والإسلام، عاملًا بأحكامه فيه وفيمن اختار الإسلام معه، وأقام على العهد في مملكته، وسير الإمام -أكرمه الله- الرايات الخضر5 على يدي ذي الرياستين إلى القشمير6، وفي ناحية التبت ما سيرها, فأظهره الله سبحانه على بوخان7 وراور8 بلاد بلور صاحب جبل خاقان وجبل التبت، وبعث به إلى العراق مع فرسان التبت، ومن ناحية السرير ما طلب على باراب وشاوغر وزاول، وبلاد أطرار، وقتل قائد الثغر وسبى أولاد جبغويه الخرلخي مع خاتوناته، بعد إحجاره إياه ببلاد كيماك وبعد غلبه ما غلب على مدينة كاسان وبعث بمفاتيح قلاع فرغانة إلى العرب، فمن قرأ هذه السطور فليعن على تعزيز الإسلام وتذليل الشرك بقول أو فعل؛ فإن ذلك واجب على الناس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القندهار: هي اليوم من ديار الأفغان، وكانت عاصمتها في القديم "هامش ب1/ ص228". 2 الطخارستان: هي ولاية واسعة, تشمل عدة بلاد من نواحي خراسان. 3 من ب. 4 بلدة, وولاية في الجبال بين بلخ وهراة وغزنة. 5 الرايات الخضر: كانت رايات العباسيين سوداء, وفي بعض عهد المأمون جعلها خضراء لغرض سياسي، ثم عاد إلى السواد بعد مدة "هامش إتحاف الورى 2/ 276". 6 القشمير والكشمير: ولاية بين الهند وباكستان وفيها -حاليا- حكومة مستقلة داخليا, وتتبع الحكومة المركزية بالهند "هامش إتحاف الورى 2/ 276". 7 بوخان: يرجح محقق "ب" أنها بوغوخان, ومعناها: أمير الجبل للمقاطعة المعروفة. 8 راور: يقول محقق "ب": إنها مخففة عن راهور فارسية, بمعنى: أمير الطريق, وقد لقب بها أمير بلاد البلور. ج / 1 ص -182- تعزيز الدين إذا قامت به الأئمة، ومن أراد الزهد والجهاد وأبواب البر والمعاونة على ما يكسب الإسلام كهذا العز وهذه المفاخر، وقد نسخنا ما كان حفر على صفيحة تاج مهرب بني دومي كابل شاه، في سنة سبع وتسعين ومائة على هذا اللوح, ومن نصر دين الله نصره الله؛ لقوله تبارك وتعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]1. وكتب الحسن بن سهل, صنو ذي الرياستين في سنة مائتين: وشخص أمير المؤمنين هارون الرشيد، من الرقة يريد الحج يوم الاثنين لسبع ليالٍ بقين من شهر رمضان سنة ست وثمانين ومائة، فلم يدخل مدينة السلام، ونزل منزلًا منها على سبعة فراسخ على شاطئ الفرات، يقال له: الدارب وقد بني له بها منزل، ثم شخص خارجًا ومعه الأمين ولي العهد محمد ابن أمير المؤمنين والمأمون ولي العهد من بعده عبد الله ابن أمير المؤمنين، ومعه جميع وزرائه وقرابته، فعدل إلى المدينة من الربذة وقدمها، فأقام بها يومين، لم يصنع الأول منهما شيئًا إلا الصلاة في المسجد والتسليم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وجلس في اليوم الثاني في المقصورة حيال المنبر، فأمر بالمقصورة فغلقت كلها، ودعا بدفاتر العطاء، فأخرج يومه ذلك لأهل العطاء ثلاثة أعطية، وبدأ بالعطاء بنفسه فبودئ باسمه ووزن له عطاؤه فجعله في كمه، ثم فعل ذلك بالأمين والمأمون، ثم ببني هاشم المبدئين في الدعوة على غيرهم، فأعطوا كذلك عشيتهم. ثم قام إلى منزله فأصبح غاديًا من المدينة الشريفة إلى مكة المعظمة، فلما قدمها عزل العثماني صهره محمد بن عبد الله عن صلاة مكة، وولى مكانه سليمان بن جعفر بن سليمان، فلما كان قبل التروية بيوم بعد الصبح، صعد المنبر فخطب خطبة الحج، ثم فتح له باب البيت فدخله وحده ليس معه غيره، وقام مسرور على باب البيت وأجيف أحد المصراعين، فمكث فيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الخبر بطوله لدى ابن فهد, في إتحاف الورى 2/ 275-277. ج / 1 ص -183- طويلًا في جوف الكعبة، ثم دعا بالأمين محمد ولي العهد، فكلمه طويلًا في جوف الكعبة، ثم دعا بالمأمون عبد الله ففعل به مثل ذلك، ثم دعا بسليمان بن أبي جعفر، ثم دعا بالفضل بن الربيع، ثم بعيسى بن جعفر وجعفر بن جعفر وجعفر بن موسى أمير المؤمنين، فدخلوا عليه جميعًا، ثم دخل بعدهم الحارث وأبان ومحمد بن خالد وعبيد بن يقطين ونظراؤهم، ودعا بيحيى بن خالد، ولم يكن حاضرًا، فأتي به معجلًا حتى دخل، ودعا بجعفر بن يحيى، ثم كتب وليا العهد، كل واحد منهما على نفسه، كتابًا لأمير المؤمنين فيما أخذ على كل واحد منهما لصاحبه، وتوكَّد فيه عليهما بخط يده1. وحضرت الصلاة صلاة الظهر من قبل فراغهم، فنزل أمير المؤمنين، فصلى بهم الظهر ثم عاد إلى الكعبة فكان فيها إلى أن فرغوا من الكتابين، وأحضروا الناس سوى من سمينا: قاضي مكة محمد بن عبد الرحمن المخزومي، وأسد بن عمرو قاضي مدينة الشرقية، وبعض من حجبة البيت، ثم حضرت صلاة العصر عند فراغهم, فنزل أمير المؤمنين فصلى بهم, ثم طافوا سبعًا ثم دخل منزله من دار العجلة وأمر بحشر من حضر من الهاشميين وغيرهم ليشهدوا على الكتابين، وأرسل إلى سليمان بن أبي جعفر وعيسى بن جعفر وجعفر بن موسى وقد كانوا انصرفوا، فردوا من منازلهم فجاءوا متضجرين، وأخرج إليهم الكتابين وقد وضع عليهما الطين، وليس من الخواتيم إلا خاتما وليي العهد، فقرئا على جميع من حضر ليشهدوا عليهما2، ولم يثبت في الكتابين إلا أسماء من كان في الكعبة، حيث كتب الكتابان ولم يختم غيرهم، ولم يكن الكتابان طُيِّنا ولا طُوِيا ولا خُتِما في جوف الكعبة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 234, 235. 2 في الأصول عليه, والمثبت من إتحاف الورى 2/ 235. ج / 1 ص -184- ثم أمر أمير المؤمنين بعد أن شهدوا على الكتابين أن يعلقا في داخل الكعبة قبالة بابها مع المعاليق التي فيها حيث يراهما الناس، وضمنهما الحجبة واستحلفهم على حفظهما والقيام بهما وأن يصونوهما ويعلقوهما في وقت الحج منشورين، وصنع لهما قصبتان من ذهب فكللوهما بفصوص الياقوت، والزبرجد، واللؤلؤ، ثم انصرف أمير المؤمنين بعد قضاء نسكه، فسار مقتصدًا لم يعد المراحل حتى وافى الكوفة1. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 235, 236. نسخة الكتابين1 اللذين كتبا في بطن الكعبة اللذين شهد عليهما، ونسخة الشرط الذي كتبه محمد بن أمير المؤمنين في بطن الكعبة: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه له محمد بن هارون أمير المؤمنين، في صحة من بدنه وعقله وجواز من أمره, طائعًا غير مكره: إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد من بعده، وجعل لي البيعة في رقاب المسلمين جميعًا، وولى أخي عبد الله بن أمير المؤمنين هارون العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين بعدي، برضاء مني وتسليم طائعًا غير مكره، وولاه خراسان بثغورها وكورها "وحربها"2 وجنودها وخراجها وطرزها, وبريدها وبيوت أموالها, وصدقاتها, وعشرها وعشورها, وجميع أعمالها في حياته وبعد وفاته، فشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين "برضا مني وطيب نفسي أن لأخي عبد الله بن هارون"2 علي الوفاء، بما جعل له أمير المؤمنين هارون من البيعة والعهد, وولاية الخلافة, وأمور المسلمين بعدي، وتسليم ذلك له وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها، وما أقطعه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أوردهما ابن فهد بنصهما في إتحاف الورى 2/ 236 وما بعدها. 2 إضافة عن تاريخ الطبري 10/ 74. ج / 1 ص -185- أمير المؤمنين هارون من قطيعة, وجعل له من عقدة أو ضيعة من ضياعه وعقده, أو ابتاع له من الضياع والعقد، وما أعطاه في حياته وصحته من مال أو حلي أو جواهر أو متاع, أو كسوة أو رقيق أو منزل أو دواب أو قليل أو كثير، فهو لعبد الله ابن أمير المؤمنين موفرًا عليه مسلمًا له، وقد عرفت ذلك كله شيئًا شيئًا باسمه وأصنافه ومواضعه، أنا وعبد الله بن هارون أمير المؤمنين، فإن اختلفنا في شيء منه فالقول فيه قول عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، لا أتبعه بشيء من ذلك ولا آخذه منه, ولا أنتقصه صغيرًا ولا كبيرًا, ولا من ولاية خراسان ولا غيرها مما ولاه أمير المؤمنين من الأعمال، ولا أعزله عن شيء منها, ولا أخلعه ولا أستبدل به غيره، ولا أقدم "عليه"1 قبله في العهد والخلافة أحدًا من الناس جميعًا، ولا أدخل عليه مكروهًا في نفسه ودمه, ولا شعره ولا بشره, ولا خاص ولا عام من أمور ولايته, ولا أمواله ولا قطائعه ولا عقده، ولا أغير عليه شيئًا بسبب من الأسباب، ولا آخذه ولا أحدًا من عماله وكتابه وولاة أمره، ممن صحبه وأقام معه, لمحاسبة، ولا أتتبع شيئًا مما جرى على يديه وأيديهم في ولايته خراسان وأعمالها، وغيرها مما ولاه أمير المؤمنين في حياته وصحته، من الجباية والأموال والطرز والبريد والصدقات والعشر والعشور وغير ذلك، ولا آمر بذلك أحدًا من الناس, ولا أرخص فيه لغيري, ولا أحدث فيه نفسي بشيء أمضيه عليه، ولا ألتمس فيه قطيعته، ولا أنقص شيئًا مما جعل له هارون أمير المؤمنين, وأعطاه في حياته وخلافته وسلطانه من جميع ما سميت في كتابي هذا، وآخذ له علي وعلى جميع الناس البيعة، ولا أرخص لأحد من الناس كلهم في جميع ما ولاه، ولا في خلعه ولا في مخالفته، ولا أسمع من أحد من البرية في ذلك قولًا، ولا أرضى بذلك في سر ولا علانية، ولا أغمض عليه ولا أتغافل عليه, ولا أقبل من بر من العباد ولا فاجر, ولا صادق ولا كاذب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إضافة من إتحاف الورى 2/ 237. ج / 1 ص -186- ولا ناصح ولا غاش, ولا قريب ولا بعيد, ولا أحد من ولد آدم -عليه السلام- من ذكر ولا أنثى، مشورة ولا مكيدة ولا حيلة في شيء من الأمور؛ سرها وعلانيتها, وحقها وباطلها, وباطنها وظاهرها، ولا لسبب من الأسباب, أراد بذلك إفساد شيء، مما أعطيت عبد الله بن هارون أمير المؤمنين من نفسي، وأوجبت له علي وشرطت وسميت في كتابي هذا، وأراد به أحد من الناس أجمعين سوءًا أو مكروهًا أو أراد خلعه أو محاربته أو الوصول إلى نفسه ودمه أو حرمه, أو سلطانه أو ماله, أو ولايته جميعًا أو فرادى, مسرين أو مظهرين له، أن أنصره وأحوطه وأدفع عنه كما أدفع عن نفسي ومهجتي ودمي وشعري وبشري وحرمي وسلطاني، وأجهز الجنود إليه وأعينه على كل من غشه وخالفه، ولا أسلمه ولا أتخلى منه، ويكون أمري وأمره في ذلك واحدًا أبدًا ما كنت حيًّا. وإن حدث بأمير المؤمنين حدث الموت، وأنا وعبد الله بن أمير المؤمنين بحضرة أمير المؤمنين أو أحدنا، أو كنا غائبين عنه جميعًا مجتمعين كنا أو متفرقين، وليس عبد الله بن هارون أمير المؤمنين في ولايته بخراسان، فعلي لعبد الله بن هارون أمير المؤمنين أن أمضيه إلى خراسان، وأسلم له ولايتها وأعمالها كلها وجنودها ولا أعوقه عنها, ولا أحبسه قبلي ولا في شيء من البلدان دون خراسان، وأعجل إشخاصه إلى خراسان واليًا عليها وعلى جميع أعمالها، منفردًا بها, مفوضًا إليه جميع أعمالها كلها، وأُشخص معه جميع من ضم إليه أمير المؤمنين من قواده وجنوده, وأصحابه وكتابه، وعماله، ومواليه، وخدمه، ومن تبعه من صنوف الناس بأهليهم وأموالهم، ولا أحبس عنه أحدًا منهم، ولا أشرك معه في شيء منها أحدًا، ولا أرسل عليه أمينًا، ولا كاتبًا ولا بندارًا1، ولا أضرب على يديه في قليل ولا كثير. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 البندار: التاجر يحتكر البضائع ويتربص بها غلاء السعر، والبنادرة هم: التجار يلزمون المعادن, واحدها: بندار. ج / 1 ص -187- وأعطيت هارون أمير المؤمنين وعبد الله بن هارون على ما شرطت لهما على نفسي من جميع ما سميت وكتبت في كتابي هذا، عهد الله وميثاقه, وذمة أمير المؤمنين وذمتي, وذمم آبائي، وذمم المؤمنين، وأشد ما أخذ الله -عز وجل- على النبيين والمرسلين وخلقه أجمعين من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمر الله -عز وجل- بالوفاء بها, ونهى عن نقضها وتبديلها، فإن أنا نقضت شيئًا مما شرطت لهارون أمير المؤمنين ولعبد الله بن هارون أمير المؤمنين، وسميت في كتابي هذا، أو حدثت نفسي أن أنقض شيئًا مما أنا عليه، أو غيرت أو بدلت أو حدثت أو غدرت أو قبلت من أحد من الناس, صغيرًا أو كبيرًا، برًّا أو فاجرًا، ذكرًا أو أنثى، جماعة أو فرادى، فبرئت من الله سبحانه, ومن ولايته, ومن دينه، ومن محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولقيت الله -عز وجل- يوم القيامة كافرًا به مشركًا، وكل امرأة هي اليوم لي أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة، طالق ثلاثًا البتة طلاق الحرج، وعلي المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة, نذرًا واجبًا لله تعالى في عنقي, حافيًا راجلًا، لا يقبل الله مني إلا الوفاء بذلك، وكل مال هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة الحرام، وكل مملوك هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة فهم أحرار لوجه الله تعالى، وكل ما جعلت لأمير المؤمنين ولعبد الله بن هارون أمير المؤمنين وكتبته وشرطته لهما، وحلفت عليه وسميت في كتابي هذا لازمًا لي الوفاء به ولا أضمر غيره، ولا أنوي إلا إياه، فإن أضمرت أو نويت غيره فهذه العهود والمواثيق والأيمان كلها لازمة لي واجبة علي، وقواد أمير المؤمنين وجنوده وأهل الآفاق والأمصار وعوام المسلمين براء من بيعتي وخلافتي وعهدي وولايتي، وهم في حل من خلعي وإخراجي، ومن ولايتي عليهم حتى أكون سوقة من السوق, وكرجل من عرض المسلمين, لا حق لي عليهم ولا ولاية ولا تبعة لي قبلهم، ولا بيعة لي في أعناقهم، وهم في حل من الأيمان التي أعطوني، براء من تبعتها ووزرها في الدنيا والآخرة. ج / 1 ص -188- شهد سليمان بن أمير المؤمنين المنصور، وعيسى بن جعفر، وجعفر بن جعفر، وعبد الله بن المهدي، وجعفر بن موسى أمير المؤمنين، وإسحاق بن موسى أمير المؤمنين، وإسحاق بن عيسى بن علي، وأحمد بن إسماعيل بن علي، وسليم بن جعفر بن سليمان، وعيسى بن صالح بن علي، وداود بن عيسى بن موسى، ويحيى بن عيسى بن موسى, وداود بن سليمان بن جعفر، وخزيمة بن حازم، وهرثمة بن أعين، ويحيى بن خالد، والفضل بن يحيى، وجعفر بن يحيى, والفضل بن الربيع مولى أمير المؤمنين، والعباس بن الفضل بن الربيع مولى أمير المؤمنين، وعبد الله بن الربيع مولى أمير المؤمنين، والقاسم بن الربيع مولى أمير المؤمنين، ودقاقة بن عبد العزيز العبسي، وسليمان بن عبد الله بن الأصم، والربيع بن عبد الله الحارثي، وعبد الرحمن بن أبي السمراء الغساني, ومحمد بن عبد الرحمن قاضي مكة، وعبد الكريم بن شعيب الحجبي, وإبراهيم بن عبد الله الحجبي، وعبد الله بن شعيب الحجبي، ومحمد بن عبد الله بن عثمان الحجبي، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن نبيه الحجبي، وعبد الواحد بن عبد الله الحجبي، وإسماعيل بن عبد الرحمن بن نبيه الحجبي، وأبان مولى أمير المؤمنين، ومحمد بن منصور، وإسماعيل بن ضبيح، والحارث مولى أمير المؤمنين، وخالد مولى أمير المؤمنين، وكتب في ذي الحجة, سنة ست وثمانين ومائة. ج / 1 ص -189- نسخة الشرط الذي كتبه عبد الله بن هارون أمير المؤمنين, في بطن الكعبة1: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه له عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، في صحة من عقله وجواز من أمره وصدق نية، فيما كتب في كتابه ومعرفة ما فيه من الفضل والصلاح له ولأهل بيته ولجماعة المسلمين: إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين في سلطانه، بعد أخي محمد بن هارون أمير المؤمنين، وولاني في حياته وبعده ثغور خراسان وكورها وجميع أعمالها، من الصدقات والعشر والعشور والبريد والطرز وغير ذلك، واشترط لي على محمد بن أمير المؤمنين الوفاء بما عقد لي به من الخلافة والولاية للعباد والبلاد بعده، وولاني خراسان وجميع أعمالها، ولا يعرض لي في شيء مما أقطعني أمير المؤمنين أو ابتاع لي من الضياع والعقد والدور والرباع، أو ابتعت منه من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من الأموال والجوهر والكساء والمتاع والدواب "والرقيق وغير ذلك، ولا يعرض لي ولا لأحد من عمالي وكتابي"2 في سبب محاسبة, ولا يتبع لي في ذلك، ولا لأحد منهم أبدًا، ولا يدخل علي ولا على أحد ممن كان معي ومني، ولا عمالي ولا كتابي, ومن استعنت به من جميع الناس، مكروهًا في دم ولا نفس ولا شعر ولا بشر, ولا مال ولا صغير "من الأمور"2 ولا كبير، فأجابه إلى ذلك وأقر به، وكتب له به كتابًا وكتبه على نفسه ورضي به أمير المؤمنين هارون وقبله وعرف صدق نيته، فشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين، وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد بن أمير المؤمنين وأطيعه ولا أعصيه، وأنصحه ولا أغشه، وأوفي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أورده ابن فهد في إتحاف الورى 2/ 241 وما بعدها. 2 إضافة عن تاريخ الطبري. ج / 1 ص -190- بيعته وولايته، ولا أغدر، ولا أنكث، وأنفذ كتبه وأموره, وأحسن مؤازرته ومكانفته، وأجاهد عدوه في ناحيتي بأحسن جهاد، ما وفى لي بما شرط لي ولعبد الله هارون أمير المؤمنين، وسماه في الكتاب الذي كتبه لأمير المؤمنين، ورضي به أمير المؤمنين وقبله ولم ينقص شيئًا من ذلك ولا ينقص أمرًا من الأمور التي اشترطها لي عليه هارون أمير المؤمنين. وإن احتاج محمد بن هارون أمير المؤمنين إلى جند, وكتب إلي يأمرني بإشخاصهم إليه، أو إلى ناحية من النواحي, أو إلى عدو من أعدائه خالفه, أو أراد نقص شيء من سلطانه وسلطاني الذي أسنده هارون أمير المؤمنين إلينا وولانا "إياه فعلي"1 أن أنفذ أمره ولا أخالفه, ولا أقصر في شيء إن كتب به إلي. وإن أراد محمد بن أمير المؤمنين، أن يولي رجلًا من ولده العهد والخلافة من بعدي، فذلك له ما وفى لي بما جعل لي أمير المؤمنين هارون واشترط لي عليه وشرطه على نفسه في أمري، وعلي إنفاذ ذلك والوفاء له بذلك، ولا أنقض ذلك ولا أغيره ولا أبدله ولا أقدم فيه أحدًا من ولدي ولا قريبًا ولا بعيدًا من الناس أجمعين، إلا أن يولي هارون أمير المؤمنين أحدًا من ولده العهد من بعدي، فيلزمني ومحمدًا الوفاء بذلك. وجعلت لأمير المؤمنين ومحمد بن أمير المؤمنين علي الوفاء بما اشترطت وسميت في كتابي هذا ما وفى له محمد بن أمير المؤمنين، ولمحمد بن أمير المؤمنين هارون بجميع ما اشترط لي هارون أمير المؤمنين عليه في نفسي، وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من جميع الأشياء المسماة في الكتاب الذي كتبه له عبد الله وميثاقه وذمة أمير المؤمنين وذمتي وذمم آبائي وذمم المؤمنين، وأشد ما أخذ الله -عز وجل- على النبيين والمرسلين وخلقه أجمعين من عهوده ومواثيقه والأيمان المؤكدة التي أمر الله عز وجل بالوفاء بها، فإن نقضت شيئًا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إضافة عن تاريخ الطبري. ج / 1 ص -191- مما شرطت وسميت في كتابي هذا له، أو غيرت أو بدلت, أو نكثت أو غدرت، فبرئت من الله تعالى, ومن ولايته, ومن دينه, ومن محمد رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولقيت الله سبحانه يوم القيامة كافرًا مشركًا به. وكل امرأة هي اليوم لي أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة، طالق ثلاثًا البتة طلاق الحرج، وكل مملوك لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله تعالى، وعلي المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجة نذرًا واجبًا علي وفي عنقي، حافيًا راجلًا لا يقبل الله مني إلا الوفاء به، وكل مال هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة، وكل ما جعلت لعبد الله هارون أمير المؤمنين وشرطت في كتابي هذا لازم لي، لا أضمر غيره ولا أنوي سواه، شهد تسمية الشهود في ذلك الذين شهدوا على محمد بن أمير المؤمنين. فلم يزل الشرطان معلقين في جوف الكعبة، حتى مات هارون الرشيد أمير المؤمنين وبعدما مات بسنتين في خلافة محمد بن الرشيد، ثم كلم الفضل بن الربيع محمد بن عبد الله الحجبي أن يأتيه بهما؛ فنزعهما من الكعبة وذهب بهما إلى بغداد, فأخذهما الفضل فخرقهما وأحرقهما بالنار. نسخة ما كان حفر1 على صحيفة التاج2: بسم الله الرحمن الرحيم, أمر الإمام المأمون أمير المؤمنين -أكرمه الله- بحمل هذا التاج من خراسان، وتعليقه في الموضع الذي علق فيه الشرطان في بيت الله الحرام؛ شكرًا لله عز وجل على الظفر بمن غدر, وتبجيلًا للكعبة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، ومثله في إتحاف الورى, وفي أ، ب: "كتب". 2 انظر في ذلك: إتحاف الورى 2/ 273 وما بعدها. ج / 1 ص -192- إذا استخفّ بها من نكث, وحال عما أكد على نفسه فيها، ورجا الإمام عظيم الثواب من الله -عز وجل- بسده الثلمة التي اخترمها، المخلوع في الدين, فإنه قد كان جريئًا على الغدر والاستخفاف بما أكد في بيت الله عز وجل وحرمه، وتوخى الإمام تذكير من تنفعه الذكرى ليزيدهم به يقينًا في دينهم، وتعظيمًا لبيت ربهم, وتحذيرًا لمن استخفّ وتعدى, فإنما علقنا هذا التاج بعد غدر المخلوع وإخراجه الشرطين وإحراقه إياهما. فأخرجه الله من ملكه بالسيف، وأحرق محلته بالنار عبرة وعظة وعقوبة بما كسبت يداه، وما الله بظلام للعبيد. وبعد عقد الإمام المأمون -أكرمه الله- بخراسان لذي الرياستين الفضل بن سهل وتوليته إياه المشرق وبلوغ الراية السوداء بلاد كابل ونهر السند, وتصيير مهرب بني دومي كابل شاه سريره وتاجه على يدي ذي الرياستين إلى باب الإمام المأمون أمير المؤمنين، وإسلام كابل شاه وأهل طاعته على يدي الإمام بمرو. فأمر الإمام -جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا- الثروة1 من الأئمة المهديين: أن يدفع السرير إلى خزانة بيت مال المسلمين بالمشرق، ويعلق التاج في بيت الله الحرام بمكة، وبعث به ذو الرياستين والي الإمام على المشرق, ومدبر خيوله، وصاحب دعوته, بعدما اجتمع المسلمون على طاعة الإمام المأمون أمير المؤمنين -أكرمه الله- ووفوا له بوفائه بعهد الله, وأطاعوه بتمسكه بطاعة الله عز وجل, وكانفوه بعمله بكتاب الله وإحيائه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبرئوا به من المخلوع لغدره ونكثه وتبديله, فالحمد لله رب العالمين معز من أطاعه, ومذل من عصاه، ورافع من وفى، وواضع من غدر، وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه وسلم، وكتب الحسن بن سهل صنو ذي الرياستين في سنة تسع وتسعين ومائة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل, وفي بقية الأصول: "لثروة" وعلق عليها محقق "ب" بأن اللفظة محرفة على كل حال... والثروة: الكثير من المال والناس، وفي الحديث: "ما بعث الله نبيًّا بعد لوط إلا في ثروة من قومه". ج / 1 ص -193- ذكر الجب الذي كان في الجاهلية في الكعبة, ومال الكعبة الذي يهدى لها, وما جاء في ذلك: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا جدي, عن مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، قال: كان في الكعبة على يمين من دخلها جب عميق حفره إبراهيم خليل الرحمن وإسماعيل -عليهما السلام- حين رفعا القواعد، وكان يكون فيه ما يهدى للكعبة من حلي أو ذهب أو فضة أو طيب أو غير ذلك، وكانت الكعبة ليس لها سقف، فسرق منها على عهد جرهم مال مرة بعد مرة، وكانت جرهم ترتضي لذلك رجلًا يكون عليه يحرسه، فبينا رجل ممن ارتضوه عندها إذ سولت له نفسه فانتظر حتى إذا انتصف النهار، وقلصت الظلال، وقامت المجالس، وانقطعت الطرق، ومكة إذ ذاك شديدة الحر، فبسط رداءه، ثم نزل في البئر فأخرج ما فيها فجعله في ثوبه، فأرسل الله -عز وجل- حجرًا من البئر فحبسه حتى راح الناس، فوجدوه فأخرجوه، وأعادوا ما وجدوا في ثوبه في البئر، فسميت تلك البئر الأخسف. فلما أن خسف بالجرهمي وحبسه الله عز وجل، بعث الله عند ذلك ثعبانًا وأسكنه في ذلك الجب في بطن الكعبة أكثر من خمسمائة سنة يحرس ما فيه، فلا يدخله أحد إلا رفع رأسه وفتح فاه، فلا يراه أحد إلا ذعر منه، وكان ربما يشرف على جدار الكعبة، فأقام كذلك في زمن جرهم وزمن خزاعة وصدرًا من عصر قريش، حتى اجتمعت قريش في الجاهلية على هدم البيت ج / 1 ص -194- وعمارته، فحال بينهم وبين هدمه حتى دعت قريش عند المقام عليه والنبي -صلى الله عليه وسلم- معهم وهو يومئذ غلام لم ينزل عليه الوحي بعد، فجاء عقاب فاختطفه ثم طار به نحو أجياد الصغير. قال: حدثني جدي: قال: حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن عبيد, عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن لا أدع في الكعبة صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها؛ فقال له أبي بن كعب: والله ما ذلك لك. فقال عمر: لم؟ فقال: إن الله عز وجل قد بين موضع كل شيء, وأقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال عمر: صدقت. حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن سفيان بن سعيد الثوري, عن واصل الأحدب, عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: جلست إلى شيبة بن عثمان في المسجد الحرام، فقال: جلس إلي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مجلسك هذا، فقال: لقد هممت أن لا أترك فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها -يعني الكعبة- قال شيبة: فقلت له: إنه قد كان لك صاحبان لم يفعلاه، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر -رضي الله عنه- فقال عمر: هما المرآن أقتدي بهما. حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن إبراهيم بن ميسرة, عن رجل عن الحسين بن علي أن عمر -رضي الله عنه- قال لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه: لقد هممت أن أقسم هذا المال -يعني مال الكعبة- فقال له علي: إن استطعت ذلك. فقال عمر: وما لي لا أستطيع ذلك أولا تعينني على ذلك؟ فقال علي: إن استطعت ذلك، فرددها عمر ثلاثًا، فقال علي -رضي الله عنه: ليس ذلك إليك، فقال عمر: صدقت. وحدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن أشياخه، قالوا: قال عمر -رضي الله عنه: لقد هممت أن لا أترك في الكعبة شيئًا إلا قسمته؛ فقال له أبي بن كعب: والله ما ذلك لك؛ قال: ولم؟ قال: قرر الله موضع كل مال ج / 1 ص -195- وأقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: صدقت. وكان ابن عباس يقول: سمعت عمر -رضي الله عنه- يقول: إن تركي هذا المال في الكعبة لا آخذه فأقسمه في سبيل الله تعالى وفي سبيل الخير، وعلي بن أبي طالب يسمع ما يقول، فقال: ما تقول يابن أبي طالب؟ أحلف بالله لئن شجعتني عليه لأفعلن. قال: فقال له علي: أتجعله فيئا وأحرى صاحبه رجل يأتي في آخر الزمان ضرب أدم طويل، فمضى عمر، قال: وذكروا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجد في الجب الذي كان في الكعبة سبعين ألف أوقية من ذهب مما كان يهدى إلى البيت، وأن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- قال: يا رسول الله, لو استعنت بهذا المال على حربك، فلم يحركه، ثم ذكر لأبي بكر فلم يحركه. حدثني محمد بن يحيى قال: حدثني بعض الحجبة في سنة ثمان وثمانين ومائة، أن ذلك المال بعينه في خزانة الكعبة، ثم لا أدري ما حاله بعد، حدثني جدي وغيره من مشيخة أهل مكة وبعض الحجبة: أن الحسين بن الحسن العلوي عمد إلى خزانة الكعبة في سنة مائتين في الفتنة حين أخذ الطالبيون مكة، فأخذ مما فيها مالًا عظيمًا وانتقله إليه؛ وقال: ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعًا لا ينتفع به؟ نحن أحق به نستعين به على حربنا1. حدثني جدي قال: سمعت عبد الله بن زرارة بن مصعب بن شيبة بن جبير بن شيبة بن عثمان، يقول: حضرت الوفاة فتى منا من أصحابنا من الحجبة بالبوباة2 من قرن، فاشتد عليه الموت جدا، فمكث أيامًا ينزع نزعًا شديدًا حتى رأوا منه ما غمهم وأحزنهم من شدة كربه، فقال له أبوه: يا بني لعلك أصبت من هذا الأبرق شيئًا -يعني مال الكعبة- قال: نعم يا أبت، أربعمائة دينار، فقال أبوه: اللهم، إن هذه الأربعمائة دينار علي في أنضر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 265. 2 اسم لصحراء بأرض تهامة. ج / 1 ص -196- مالي للكعبة، ثم انحرف إلى أصحابه فقال: اشهدوا أن للكعبة علي أربعمائة دينار في أنضر مالي أؤديها إليها، قال: فسري عنه, ثم لم يلبث الفتى أن مات1. قال أبو الوليد: وسمعت يوسف بن إبراهيم بن محمد العطار يحدث عن عبد الله بن زرارة، أن مال الكعبة كان يدعى الأبرق ولم يخالط مالا قط إلا محقه، ولم يرزأ أحد منه قط من أصحابنا إلا بان النقص في ماله، وأدنى ما يصيب صاحبه أن يشدد عليه الموت، قال: ولم يزل من مضى من مشيخة الحجبة يحذرونه أبناءهم ويخوفونهم إياه ويوصونهم بالتنزه عنه، ويقولون: لن تزالوا بخير ما دمتم أعفة عنه, وإن كان الرجل ليصيب منه الشيء فيضعه عند الناس. حدثني مسافع بن عبد الرحمن الحجبي قال: لما بويع بمكة لمحمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- في الفتنة في سنة مائتين حين ظهرت المبيضة2 بمكة, أرسل إلى الحجبة فتسلف منهم من مال الكعبة خمسة آلاف دينار، وقال: نستعين بها على أمرنا، فإذا أفاء الله علينا رددناها في مال الكعبة، فدفعوا إليه وكتبوا عليه بذلك كتابًا, وأشهدوا فيه شهودًا، فلما خلع نفسه ورفع إلى أمير المؤمنين المأمون، تقدم الحجبة واستعدوا عليه عند أمير المؤمنين، فقضاهم أمير المؤمنين المأمون عن محمد بن جعفر خمسة آلاف دينار وكتب لهم بها إلى إسحاق بن عباس بن عباد بن محمد وهو والٍ على اليمن، فقبضتها الحجبة وردوها في خزانة الكعبة. حدثني جدي, قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثنا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شفاء الغرام 1/ 194. 2 المبيضة: فرقة من الثنوية، وهم أصحاب المقنع، سموا بذلك لتبييضهم ثيابهم, مخالفة للمسودة العباسيين، وكذلك كان يطلق على كل جماعة خارجة على الدولة العباسية. ج / 1 ص -197- أيوب بن موسى عن سعيد بن يسار الخزاعي عن ابن عمر، أنه كان في دار خالد بن أسيد بمكة، فجاءه رجل فقال: أرسل معي بحلي إلى الكعبة، فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: ما أحمقكم يا أهل العراق, أما فيكم مسكين؟ أما فيكم يتيم؟ أما فيكم فقير؟ إن كعبة الله لغنية عن الذهب والفضة, ولو شاء الله لجعلها ذهبًا وفضة. قال ابن يسار: فكان معي حلي بعثت بها إلى الكعبة فقلت له: وأنا مستحي، فقال: وأنت أيضًا، ثم قال لي كما قال للآخر. ذكر من كسا الكعبة في الجاهلية: حدثنا عم أبي أبو محمد قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى, عن همام بن منبه, عن أبي هريرة, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن سب أسعد الحميري وهو تبع، وكان هو أول من كسا الكعبة. وحدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن محمد بن إسحاق قال: بلغني عن غير واحد من أهل العلم أن أول من كسا الكعبة كسوة كاملة تُبَّع وهو أسعد, أرى في النوم أنه يكسوها فكساها الأنطاع, ثم أرى أن يكسوها فكساها الوصائل ثيابا حبرة من عصب اليمن وجعل لها بابًا يغلق, وقال أسعد في ذلك: وكسونا البيت الذي حرم اللـ ـه ملاء معضدًا وبرودا وأقمنا به من الشهر عشرًا وجعلنا لبابه إقليدا وخرجنا منه نؤم سهيلا قد رفعنا لواءنا معقودا1 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سيرة ابن هشام 1/ 25 وهامش 4. ج / 1 ص -198- وحدثني محمد بن يحيى قال: حدثني سليم بن مسلم, عن ابن جريج أنه كان يقول: أول من كسا الكعبة كسوة كاملة تبع, كساها العصب وجعل لها بابًا يغلق. حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن أفلح بن حميد, عن أبيه, عن النوار بنت مالك بن صرمة أم زيد بن ثابت قالت: رأيت على الكعبة قبل أن ألد زيد بن ثابت وأنا به نسء, مطارف خز خضراء وصفراء, وكرارًا, وأكسية من أكسية الأعراب وشقاق شعر, الكرار: الخيش الرقيق واحدها: كر. حدثني جدي أحمد بن محمد, عن الواقدي, عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة, عن هلال بن أسامة, عن عطاء بن يسار عن عمر بن الحكم السلمي قال: نذرت أمي بدنة تنحرها عند البيت وجللتها شقتين من شعر ووبر, فنحرت البدنة وسترت الكعبة بالشقتين والنبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذ بمكة لم يهاجر, فأنظر إلى البيت يومئذ وعليه كسًا شتى من وصائل وأنطاع وكرار وخز ونمارق عراقية -أي ميسانية- كل هذا قد رأيته عليه. وحدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن ابن جريج, عن ابن أبي مليكة أنه قال: بلغني أن الكعبة كانت تكسى في الجاهلية كسا شتى, كانت البدنة تجلل الحبرة والبرود والأكسية وغير ذلك من عصب اليمن وكان هذا يهدى للكعبة سوى جلال البدن هدايا من كسا شتى خز وحبرة وأنماط فيعلق فتكسى منه الكعبة ويجعل ما بقي في خزانة الكعبة، فإذا بلي منها شيء أخلف عليها مكانه ثوب آخر ولا ينزع مما عليها شيء من ذلك, وكان يهدى إليها خلوق ومجمر, وكانت تطيب بذلك في بطنها ومن خارجها. وحدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: كانت قريش في الجاهلية ترافد في كسوة الكعبة، فيضربون ذلك على القبائل بقدر احتمالها، من عهد قصي بن كلاب حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان يختلف إلى اليمن يتجر بها ج / 1 ص -199- فأثري في المال، فقال لقريش: أنا أكسو وحدي الكعبة سنة وجميع قريش سنة، فكان يفعل ذلك حتى مات, يأتي بالحبرة الجيدة من الجند1 فيكسوها الكعبة فسمته قريش العدل؛ لأنه عدل فعله بفعل قريش كلها, فسموه إلى اليوم العدل ويقال لولده: بنو العدل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الجند: من أرض السكاسك باليمن. ذكر كسوة الكعبة في الإسلام, وطيبها, وخدمها, وأول من فعل ذلك: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثنا أبي, عن خالد, عن ابن المهاجر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس يوم عاشوراء فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "هذا يوم عاشوراء, يوم تنقضي فيه السنة، وتستر فيه الكعبة، وترفع فيه الأعمال، ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم, فمن أحب منكم أن يصوم فليصم". وحدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن ابن جريج قال: كانت الكعبة فيما مضى إنما تكسى يوم عاشوراء، إذا ذهب آخر الحاج حتى كان بنو هاشم، فكانوا يعلقون عليها القمص يوم التروية من الديباج؛ لأن يرى الناس ذلك عليها بهاء وجمالا، فإذا كان يوم عاشوراء علقوا عليها الإزار. حدثني جدي, عن ابن عيينة, عن إسماعيل بن أمية, عن نافع قال: كان ابن عمر يكسو بدنه إذا أراد أن يحرم القباطي والحبرة، فإذا كان يوم عرفة ألبسها إياها, فإذا كان يوم النحر نزعها ثم أرسل بها إلى شيبة بن عثمان فناطها على الكعبة. ج / 1 ص -200- وأخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة, عن أبيه قال: كسي البيت في الجاهلية الأنطاع, ثم كساه النبي -صلى الله عليه وسلم- الثياب اليمانية، ثم كساه عمر وعثمان القباطي، ثم كساه الحجاج الديباج, ويقال: أول من كساه الديباج يزيد بن معاوية, ويقال: ابن الزبير، ويقال: عبد الملك بن مروان، وأول من خلق جوف الكعبة ابن الزبير، وأول من دعا على الكعبة عبد الله بن شيبة ويلقب الأعجم, فدعا لعبد الملك بن هشام وكان خليفة. حدثني محمد بن يحيى, عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى, عن حبيب بن أبي ثابت قال: كسا النبي -صلى الله عليه وسلم- الكعبة، وكساها أبو بكر، وعمر -رضي الله عنهما. وأخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثنا سليم بن مسلم, عن موسى بن عبيدة الربذي أن عمر بن الخطاب كسا الكعبة القباطي من بيت المال. قال أبو الوليد: وحدثني جدي قال: حدثني سعيد بن سالم, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كسا الكعبة القباطي من بيت المال، وكان يكتب فيها إلى مصر تحاك له هناك، ثم عثمان من بعده، فلما كان معاوية بن أبي سفيان كساها كسوتين: كسوة عمر القباطي، وكسوة ديباج، فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء، وتكسى القباطي في آخر شهر رمضان للفطر, وأجرى لها معاوية وظيفة من الطيب لكل صلاة, وكان يبعث بالطيب والمجمر والخلوق في الموسم وفي رجب, وأخدمها عبيدًا بعث بهم إليها فكانوا يخدمونها, ثم اتبعت ذلك الولاة بعده. وحدثني جدي, عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، قال: حدثني علقمة بن أبي علقمة, عن أمه, عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: كسوة البيت على الأمراء. وحدثني جدي, عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثني هشام ج / 1 ص -201- ابن عروة أن عبد الله بن الزبير كسا الكعبة الديباج. وحدثني محمد بن يحيى, عن سليم بن مسلم, عن ابن جريج قال: كان معاوية أول من طيب الكعبة بالخلوق والمجمر, وأجرى الزيت لقناديل المسجد من بيت المال. وأخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد العزيز بن المطلب, عن إسحاق بن عبد الله, عن أبي جعفر محمد بن علي قال: كان الناس يهدون إلى الكعبة كسوة ويهدون إليها البدن عليها الحبرات, فيبعث بالحبرات إلى البيت كسوة، فلما كان يزيد بن معاوية كساها الديباج الخسرواني, فلما كان ابن الزبير اتبع أثره فكان يبعث إلى مصعب بن الزبير بالكسوة كل سنة, فكانت تكسى يوم عاشوراء. وأخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد الله بن عمر, عن نافع قال: كان ابن عمر يجلل بدنة بالأنماط, فإذا نحرها بعث بالأنماط إلى الحجبة فيجعلونها على الكعبة قبل أن تكسى الكعبة. وأخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن أشياخه قالوا: فلما ولي عبد الملك بن مروان كان يبعث كل سنة بالديباج فيمر به على المدينة فينشر يومًا في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الأساطين ههنا وههنا, ثم يطوى ويبعث به إلى مكة, وكان يبعث بالطيب إليها وبالمجمر وإلى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم كان أول من أخدم الكعبة يزيد بن معاوية, وهم الذين يسترون البيت. حدثني جدي قال: كانت الكعبة تكسى في كل سنة كسوتان: كسوة ديباج، وكسوة قباطي؛ فأما الديباج فتكساه يوم التروية فيعلق عليها القميص ويدلى ولا يخاط, فإذا صدر الناس من منى خيط القميص وترك الإزار حتى تذهب الحجاج لئلا يخرقوه, فإذا كان العاشوراء علق عليها الإزار فوصل بالقميص فلا تزال هذه الكسوة الديباج عليها, حتى يوم سبعة وعشرين من شهر رمضان, فتكسى القباطي للفطر. ج / 1 ص -202- فلما كانت خلافة المأمون رفع إليه أن الديباج يبلى ويتخرق قبل أن يبلغ الفطر, ويرقع حتى يسمج، فسأل مباركا الطبري مولاه وهو يومئذ على بريد مكة وصوافيها: في أي الكسوة الكعبة أحسن؟ فقال له: في البياض, فأمر بكسوة من ديباج أبيض فعملت فعلقت سنة ست ومائتين وأرسل بها إلى الكعبة فصارت الكعبة تكسى ثلاث كسًا: الديباج الأحمر يوم التروية، وتكسى القباطي يوم هلال رجب، وجعلت كسوة الديباج الأبيض التي أحدثها المأمون يوم سبعة وعشرين من شهر رمضان للفطر, وهي تكسى إلى اليوم ثلاث كسًا، ثم رفع إلى المأمون أيضًا أن إزار الديباج الأبيض الذي كساها يتخرق ويبلى في أيام الحج من مس الحجاج قبل أن يخاط عليها إزار الديباج الأحمر الذي يخاط في العاشور, فبعث بفضل إزار ديباج أبيض تكساه يوم التروية أو يوم السابع فيستر به ما تخرق من الإزار الذي كسيته للفطر إلى أن يخاط عليها إزار الديباج الأحمر في العاشور، ثم رفع إلى أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله أن إزار الديباج الأحمر يبلى قبل هلال رجب من مس الناس وتمسحهم بالكعبة فزادها إزارين مع الإزار الأول, فأذال قميصها الديباج الأحمر وأسبله حتى بلغ الأرض؛ سئل أبو الوليد عن أذال فقال: أسبل؛ وقال الشاعر في معنى ذلك: على ابن أبي العاصي دلاص حصينة أجاد المسدى سردها فأذالها ثم جعل فوقه في كل شهرين إزار, وذلك في سنة أربعين ومائتين لكسوة سنة إحدى وأربعين ومائتين, ثم نظر الحجبة فإذا الإزار الثاني لا يحتاج إليه فوضع في تابوت الكعبة وكتبوا إلى أمير المؤمنين أن إزارًا واحدًا مع ما أذيل من قمصها يجزيها, فصار يبعث بإزار واحد فتكساه بعد ثلاثة أشهر ويكون الذيل ثلاثة أشهر. قال أبو الوليد: ثم أمر أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله عز وجل ج / 1 ص -203- بإذالة القميص القباطي, حتى بلغ الشاذروان الذي تحت الكعبة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين. حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: أطيب الكعبة أحب إلي من أن أهدي إليها ذهبًا وفضة. حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثني علقمة بن أبي علقمة عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: طيبوا البيت؛ فإن ذلك من تطهيره. حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثنا هشام بن عروة أن عبد الله بن الزبير خلق جوف الكعبة أجمع. حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثنا هشام بن عروة أن عبد الله بن الزبير كان يجمر الكعبة كل يوم برطل من مجمر, ويجمر الكعبة كل يوم جمعة برطلين من مجمر. ما جاء في تجريد الكعبة, وأول من جردها: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا جدي وإبراهيم بن محمد الشافعي, عن مسلم بن خالد, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان ينزع كسوة البيت في كل سنة فيقسمها على الحاج, فيستظلون بها على السمر بمكة1. حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد المكي قال: سمعت ابن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 عرف الطيب "مخطوط". ج / 1 ص -204- أبي مليكة يقول: كانت على الكعبة كسًا كثيرة من كسوة أهل الجاهلية من الأنطاع والأكسية والكرار والأنماط, فكانت ركامًا بعضها فوق بعض, فلما كسيت في الإسلام من بيت المال كان يخفف عنها الشيء بعد الشيء، وكانت تكسى في خلافة عمر وعثمان -رضي الله عنهما- القباطي, يؤتى به من مصر، غير أن عثمان -رضي الله عنه- كساها سنة برودًا يمانية أمر بعملها عامله على اليمن يعلى بن منبه, فكان أول من ظاهر لها كسوتين، فلما كان معاوية كساها الديباج مع القباطي فقال شيبة بن عثمان: لو طرح عنها ما عليها من كسا الجاهلية فخفف عنها؛ حتى لا يكون مما مسه المشركون شيء لنجاستهم1, فكتب في ذلك إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشام فكتب إليه أن جردها وبعث إليه بكسوة من ديباج وقباطي وحبرة، قال: فرأيت شيبة جردها حتى لم يترك عليها شيئًا مما كان عليها, وخلق جدراتها كلها وطيبها ثم كساها تلك الكسوة التي بعث بها معاوية إليها, وقسم الثياب التي كانت عليها على أهل مكة, وكان ابن عباس حاضرًا في المسجد الحرام وهم يجردونها قال: فما رأيته أنكر ذلك ولا كرهه. حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن ابن جريج, عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة قال: جرد شيبة بن عثمان الكعبة قبل الحريق فخلقها وطيبها، قلت: وما تلك الثياب؟ قال: من كل نحو كرار وأنطاع وخير من ذلك, وكان شيبة يكسو منها حتى رأى على امرأة حائض من كسوته فدفنها في بيت حتى هلكت, يعني الثياب. حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن إبراهيم بن يزيد, عن ابن أبي مليكة قال: رأيت شيبة بن عثمان جرَّد الكعبة, فرأيت عليها كسوة شتى: كرارًا وأنطاعًا ومسوحًا وخيرًا من ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل, وفي أ، ب: "لنحاسيتهم". ج / 1 ص -205- حدثنا محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة, عن هلال بن أسامة, عن عطاء بن يسار قال: قدمت مكة معتمرًا فجلست إلى ابن عباس في صفة زمزم, وشيبة بن عثمان يومئذ يجرد الكعبة. قال عطاء بن يسار: فرأيت جدارها ورأيت خلوقها وطيبها, ورأيت تلك الثياب التي أخبرني عمر بن الحكم السلمي أنه رآها في حديث نذر أمه البدنة قد وضعت بالأرض, فرأيت شيبة بن عثمان يومئذ يقسمها أو قسم بعضها فأخذت يومئذ كساء من نسج الأعراب فلم أر ابن عباس أنكر شيئًا مما صنع شيبة بن عثمان. قال عطاء بن يسار: وكانت قبل هذا لا تجرد, إنما يخفف عنها بعض كسوتها وتترك عليها, حتى كان شيبة بن عثمان أول من جردها وكشفها. وأخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا هشام بن سليمان المخزومي, عن ابن جريج, عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة أنه قال: جرد شيبة بن عثمان الكعبة قبل الحريق من ثياب كان أهل الجاهلية كسوها إياها, ثم خلقها وطيبها قلت: وما كانت تلك الثياب؟ قال: من كل، كرارًا وأنطاعًا وخيرًا من ذلك, وكان شيبة يقسم تلك الثياب فرأى على امرأة حائض ثوبًا من كسوة الكعبة, فرفعه شيبة فأمسك ما بقي من الكسوة حتى هلكت, يعني الثياب. حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثني علقمة بن أبي علقمة, عن أمه, عن عائشة أم المؤمنين أن شيبة بن عثمان دخل على عائشة فقال: يا أم المؤمنين, تجتمع عليها الثياب فتكثر فيعمد إلى بيَّار فيحفرها ويعمقها, فتدفن فيها ثياب الكعبة لكي لا تلبسها الحائض والجنب قالت عائشة: ما أصبت, وبئس ما صنعت, لا تعد لذلك فإن ثياب الكعبة إذا نزعت عنها لا يضرها من لبسها من حائض أو جنب, ولكن بعها واجعل ثمنها في سبيل الله تعالى والمساكين وابن السبيل. وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي، عن موسى بن ضمرة بن سعيد ج / 1 ص -206- المازني, عن عبد الرحمن بن محمد, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: قال: رأيت شيبة بن عثمان يسأل ابن عباس عن ثياب الكعبة, ثم ساق مثل حديث عائشة فقال له ابن عباس مثل ما قالت عائشة -رضي الله عنها. وأخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن خالد بن إلياس, عن الأعرج عن فاطمة الخزاعية قالت: سألت أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقالت: "إذا نزعت عنها ثيابها فلا يضرها من لبسها من الناس, من حائض أو جنب". قال أبو الوليد: سمعت غير واحد من مشيخة أهل مكة يقول: حج المهدي أمير المؤمنين سنة ستين ومائة فجرد الكعبة, وأمر بالمسجد الحرام فهدم, وزاد فيه الزيادة الأولى. وأخبرني عبد الله بن إسحاق الحجبي, عن جدته فاطمة بنت عبد الله قالت: حج المهدي فجرد الكعبة, وطلى جدرانها من خارج بالغالية والمسك والعنبر قالت: فأخبرني جدك -تعني زوجها محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الحجبي- قال: صعدنا على ظهر الكعبة بقوارير من الغالية, فجعلنا نفرغها على جدرات الكعبة من خارج من جوانبها كلها, وعبيد الكعبة قد تعلقوا بالبكرات التي تخاط عليها ثياب الكعبة, ويطلون بالغالية جدراتها من أسفلها إلى أعلاها1؛ قال أبو محمد الخزاعي: أنا رأيتها وقد غير الجدر الذي بناه الحجاج مما يلي الحجر, وقد انفتح من البناء الأول الذي بناه ابن الزبير مقدار أصبع من دبرها ومن وجهها, وقد رهم بالجص الأبيض. حدثني جدي قال: حج المهدي أمير المؤمنين سنة ستين ومائة فرفع إليه أنه قد اجتمع على الكعبة كسوة كثيرة حتى إنها قد أثقلتها ويخاف على جدراتها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 عرف الطيب "مخطوط". ج / 1 ص -207- من ثقل الكسوة, فجردها حتى لم يبق عليها من كسوتها شيئًا ثم ضمخها من خارجها وداخلها بالغالية والمسك والعنبر, وطلى جدراتها كلها من أسفلها إلى أعلاها من جوانبها كلها, ثم أفرغ عليها ثلاث كسا من قباطي وخز وديباج, والمهدي قاعد على ظهر المسجد مما يلي دار الندوة ينظر إليها وهي تطلى بالغالية وحين كسيت ثم لم يحرك ولم يخفف عنها من كسوتها الشيء, حتى كان سنة المائتين وكثرت الكسوة أيضًا عليها جدا, فجردها حسين بن حسن الطالبي في الفتنة وهو يومئذ قد أخذ مكة ليالي دعت المبيضة إلى أنفسها, وأخذوا مكة فجردها حتى لم يبق عليها من كسوتها شيئًا، قال جدي: فاستدرت بجوانبها وهي مجردة فرأيت حدات الباب الذي كان ابن الزبير جعله في ظهرها وسده الحجاج بأمر عبد الملك, فرأيت حداته وعتبه على حالها, وعددت حجارته التي سد بها فوجدتها ثمانية وعشرين حجرًا في تسعة مداميك, في كل مدماك ثلاثة أحجار إلا المدماك الأعلى, فإن فيه أربعة أحجار, رأيت الصلة التي بنى الحجاج مما يلي الحجر حين هدم ما زاد ابن الزبير قال: فرأيت تلك الصلة بينة في الجدر وهي كالمتبرية من الجدر الآخر، قال إسحاق: ورأيت جدراتها كلون العنبر الأشهب حين جردت في آخر ذي الحجة من سنة ثلاث وستين ومائتين, وأحسبه من تلك الغالية، قال: وكان تجريد الحسين بن الحسن إياها أول يوم من المحرم, يوم السبت سنة مائتين، ثم كساها حسين بن حسن كسوتين من قز رقيق, إحداهما صفراء والأخرى بيضاء, مكتوب بينهما: بسم الله الرحمن الرحيم, وصلى الله على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأخيار, أمر أبو السرايا الأصفر بن الأصفر داعية آل محمد1 بعمل هذه الكسوة لبيت الله الحرام2. قال أبو الوليد: وابتدأت كسوتها من سنة المائتين, وعدتها إلى سنة أربع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تحرف في أ، ب إلى: "إلى محمد" وصوابه من الأصل، وعرف الطيب وهو ينقل عن المصنف. 2 عرف الطيب "مخطوط". ج / 1 ص -208- وأربعين ومائتين مائة وسبعون ثوبًا. قال محمد الخزاعي: وأنا رأيتها وقد عمر الجدر الذي بناه الحجاج مما يلي الحجر, فانفتح من البناء الأول الذي بناه ابن الزبير مقدار نصف أصبع من وجهها ومن دبرها وقد رهم بالجص الأبيض, وقد رأيتها حين جردت في آخر ذي الحجة سنة ثلاث وستين ومائتين, فرأيت جدراتها كلون العنبر الأشهب من تلك الغالية. ما جاء في دفع النبي -صلى الله عليه وسلم- المفتاح إلى عثمان بن طلحة: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي وإبراهيم بن محمد الشافعي, عن مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن شهاب الزهري قال: دفع النبي -صلى الله عليه وسلم- مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة فقال: "ها يا عثمان, غيبوه" قال: فخرج عثمان إلى الهجرة وخلفه شيبة فحجب. وأخبرني جدي قال: أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن جريج أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خذوها يا بني أبي طلحة, خذوا ما أعطاكم الله ورسوله تالدة خالدة, لا ينزعها منكم إلا ظالم". وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن ابن جريج, عن مجاهد في قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] قال: نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة حين قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- مفتاح الكعبة ودخل به الكعبة يوم الفتح, فخرج وهو يتلو هذه الآية, فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح وقال: "خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله سبحانه, لا ينزعها منكم إلا ظالم". قال: وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكعبة خرج وهو يتلو هذه الآية، فداه أبي وأمي ما سمعته يتلوها قبل ذلك. ج / 1 ص -209- وأخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا سليم بن مسلم, عن غالب بن عبيد الله أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: دفع النبي -صلى الله عليه وسلم- مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة يوم الفتح, ثم قال: "خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة, لا يظلمكموها إلا كافر" وسمعت غيره يقول: "إلا ظالم". وأخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا سليم بن مسلم, عن عبد الوهاب بن مجاهد, عن أبيه قال: أنزل الله تعالى في الكعبة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. حدثني جدي, عن محمد بن إدريس, عن الواقدي, عن أشياخه قالوا: انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح بعدما طاف على راحلته فجلس ناحية من المسجد والناس حوله, ثم أرسل بلالًا إلى عثمان بن طلحة فقال -صلى الله عليه وسلم: "قل له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تأتيه بمفتاح الكعبة" فجاء بلال إلى عثمان فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تأتيه بمفتاح الكعبة فقال عثمان: نعم, فخرج إلى أمه سلافة بنت سعد بن شهيد الأنصارية ورجع بلال إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره أنه قال: نعم, ثم جلس بلال مع الناس فقال عثمان لأمه, والمفتاح يومئذ عندها: يا أمت أعطيني المفتاح؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسل إلي وأمرني أن آتي به إليه, فقالت له أمه: أعيذك بالله أن تكون الذي تذهب بمأثرة قومك على يديك فقال: والله لتدفعنه أو ليأتينك غيري فيأخذه منك, فأدخلته في حجرها وقالت: أي رجل يدخل يده ههنا؟ فبينما هما على ذلك إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في الدار وعمر رافع صوته حين رأى إبطاء عثمان: يا عثمان اخرج، فقالت أمه: يا بني خذ المفتاح فلئن تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيم وعدي, فأخذه عثمان فأتى به النبي -صلى الله عليه وسلم- فناوله إياه, فلما ناوله إياه فتح الكعبة وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالكعبة فغلقت عليه ومعه أسامة بن زيد، وبلال بن رباح، وعثمان بن طلحة فمكث فيها ما شاء الله وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، قال ابن عمر: ج / 1 ص -210- فسألت بلالا: أين صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: جعل عمودين عن يمينه, وعمودًا عن يساره, وثلاثة وراءه، قالوا: ثم خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمفتاح في يده ووقف على الباب خالد بن الوليد يذبّ الناس عن الباب, حتى خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم. حدثني جدي, عن ابن إدريس, عن الواقدي قال: حدثني علي بن محمد بن عبد الله العمري عن منصور الحجبي عن أمه صفية بنة شيبة عن برة بنة أبي تجراه قالت: أنا أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين خرج من البيت فوقف على الباب, فأخذ بعضادتي الباب, فأشرف على الناس وفي يده المفتاح, ثم جعله في كمه -صلى الله عليه وسلم. وحدثني جدي, عن محمد بن إدريس, عن الواقدي, عن أشياخه قالوا: فلما أشرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد لبط بالناس حول الكعبة, خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبته وقد كتبناها في غير هذا الموضع من كتابنا بغير هذا الإسناد, ثم نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه المفتاح فتنحى ناحية من المسجد فجلس وكان قد قبض السقاية من العباس، وقبض المفتاح من عثمان بن طلحة, فلما جلس بسط العباس بن عبد المطلب يده فقال: بأبي وأمي يا رسول الله, اجمع لنا الحجابة والسقاية, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أعطيكم ما ترزءون فيه, ولا أعطيكم ما ترزءون منه" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ادع لي عثمان" فقام عثمان بن عفان فقال: ادع لي عثمان، فقام عثمان بن طلحة وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعثمان بن طلحة يومًا وهو بمكة يدعوه إلى الإسلام ومع عثمان المفتاح فقال -صلى الله عليه وسلم: "لعلك سترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعه حيث شئت" فقال عثمان: لقد هلكت قريش يومئذ إذًا وذلت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بل عزت وعمرت يومئذ يا عثمان" قال عثمان: فدعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أخذه المفتاح فذكرت قوله -صلى الله عليه وسلم- وما كان قال لي, فأقبلت فاستقبلته ببشر واستقبلني ببشر ثم قال: "خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة, لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله ج / 1 ص -211- سبحانه وتعالى استأمنكم على بيته, فخذوها بأمانة الله عز وجل" قال عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت إليه فقال -صلى الله عليه وسلم: "ألم يكن الذي قلت لك؟" قال: فذكرت قوله بمكة فقلت: بلى أشهد أنك رسول الله, فأعطاه المفتاح والنبي -صلى الله عليه وسلم- مضطبع عليه بثوبه وقال عليه الصلاة والسلام: "غيبوه". الصلاة في الكعبة, وأين صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- منها: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن أيوب السختياني, عن نافع عن عبد الله بن عمر قال: أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح على ناقة لأسامة بن زيد حتى أناخ بفناء الكعبة ثم دعا بعثمان بن طلحة فقال: "ائتني بالمفتاح" فذهب عثمان إلى أمه فأبت أن تعطيه إياه فقال: والله لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي أو ظهري، قال: فأعطته إياه، فجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فدفعه إليه ففتح الباب, فدخله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة فأجافوا عليهم الباب مليا ثم فتح الباب وكنت فتى قويا فبدرت فزحمت الناس, فكنت أول من دخل الكعبة, فرأيت بلالًا عند الباب فقلت له: أي بلال, أين صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: بين العمودين المقدمين, وكانت الكعبة على ستة أعمدة, قال ابن عمر: فنسيت أسأله: كم صلى صلى الله عليه وسلم؟1 وحدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن موسى بن عقبة, عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل وجعل الباب قبل ظهره, فمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه حين تدخل قريب من ثلاثة أذرع, فصلى وهو يتوخى المكان الذي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شفاء الغرام 1/ 225. ج / 1 ص -212- أخبره بلال أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى فيه, وليس على أحد بأس أن يصلي في أي جوانب البيت شاء1. وحدثني جدي إبراهيم بن محمد الشافعي, عن مسلم بن خالد, عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين, عن عطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن البصري وطاوس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل يوم الفتح البيت, فصلى فيه ركعتين, ثم خرج وقد لبط بالناس حول الكعبة. وحدثني جدي, عن مسلم بن خالد, عن جعفر بن محمد, عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في الكعبة بين العمودين. وحدثني جدي ويوسف بن محمد بن إبراهيم العطار -يزيد أحدهما على صاحبه في اللفظ والمعنى واحد- قالا: حدثنا عبد الله بن زرارة بن مصعب بن شيبة بن جبير بن شيبة بن عثمان عن أبيه, عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة, عن أخيه شيبة بن جبير بن شيبة بن عثمان قال: حج معاوية بن أبي سفيان وهو خليفة, فاشترى دار الندوة من ابن الرهين العبدري بمائة ألف درهم, فجاء شيبة بن عثمان فقال له: إن لي فيها حقا وقد أخذتها بالشفعة، فقال له معاوية: فأحضر المال قال: أروح به إليك العشية, وكان ذلك بعدما صدر الناس من الحج, وقد كان معاوية تهيأ للخروج إلى الشام فصلى معاوية بالناس العصر, ثم دخل الطواف فطاف بالبيت سبعًا, وصلى خلف المقام ركعتين ثم انصرف فدخل دار الندوة, فقام إليه شيبة حين أراد أن يدخل الدار فقال: يا أمير المؤمنين قد أحضرت المال قال: فاثبت حتى يأتيك رأيي2, فأجيف الباب وأرخي الستر، وركب معاوية من الدار دوابه3 وخرج من الباب الآخر [مسافرًا] ومضى معاوية إلى المدينة [وشيبة لا يشعر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شفاء الغرام 1/ 226. 2 كذا في الأصل، ومثله في إتحاف الورى، وفي بقية الأصول: "رأي". 3 كذا في الأصل، ومثله في إتحاف الورى، وفي بقية الأصول: "دؤابة". ج / 1 ص -213- به] فلم يزل شيبة جالسا بالباب حتى جاء المؤذن فسلم وأذنه بصلاة المغرب, فخرج والي مكة عبد الله بن خالد بن أسيد فقام إليه شيبة فقال: أين أمير المؤمنين؟ قال: قد راح إلى الشام، قال شيبة: والله لا كلمته أبدًا1. فلما حج معاوية حجته الثانية بعث إلى شيبة أن يفتح له الكعبة, حتى يدخلها ويصلي فيها، قال شيبة بن جبير بن شيبة: فأرسلني جدي بالمفتاح وأنا غلام حدث وأبي شيبة بن عثمان أن يفتح له الباب ولم يأته ولم يسلم عليه قال شيبة بن جبير: فلما رآني معاوية استصغرني وقال: من أنت يا حبيب؟ قال: قلت: أنا شيبة بن جبير قال: لا بأس يابن أخي, غضب أبو عثمان شيبة مكان شيبة, ففتحت له الكعبة فلما دخل أجفت عليه الباب ولم يدخل معه الكعبة إلا حاجبه أبو يوسف الحميري, فبينا معاوية يدعو في البيت ويصلي إذا بحلقة باب الكعبة تحرك تحريكًا ضعيفًا فقال لي: يا شيبة انظر, هذا عثمان بن محمد بن أبي سفيان, فإن كان إياه فأدخله, ففتحت الباب فإذا هو هو فأدخلته ثم حركت الحلقة تحريكًا هو أشد من الأول فقال: انظر هذا الوليد بن عتبة بن أبي سفيان, فإن كان إياه فأدخله ففتحت فإذا هو هو فأدخلته, ثم قال لأبي يوسف الحميري: انظر عبد الله بن عمر, فإني رأيته آنفًا خلف المقام حتى أسأله: أين صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من الكعبة؟ فقام أبو يوسف الحميري فجاء بعبد الله بن عمر فقال له معاوية: يا أبا عبد الرحمن أين صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام دخلها؟ قال: بين العمودين المقدمين, اجعل بينك وبين الجدر ذراعين أو ثلاثة, فبينا نحن كذلك إذ رج الباب رجًّا شديدًا وحركت الحلقة تحريكًا أشد من الأول, فقال معاوية [لشيبة]: انظر هذا عبد الله بن الزبير, فإن كان إياه فأدخله فنظرت فإذا هو هو فأدخلته, فأقبل على معاوية وهو مغضب فقال: إيها يابن أبي سفيان, ترسل إلى عبد الله بن عمر تسأله عن شيء أنا أعلم به منك ومنه, حسدًا لي ونفاسة علي، فقال له ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 34-35، وما بين حاصرتين منه. ج / 1 ص -214- معاوية: على رسلك يا أبا بكر, فإنما نرضاك لبعض دنيانا فصلى معه وخرج [قال شيبة] وخرجت معه فدخل زمزم فنزع منها دلوًا فشرب منه وصب باقيه على رأسه وثيابه, ثم خرج فمر بعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- خلف المقام في حلقة فنظر إليه محدقًا فقال له عبد الرحمن: ما نظرك إلي؟ فوالله لأبي خير من أبيك, ولأمي خير من أمك, ولأنا خير منك, فلم يجبه بشيء ومضى حتى دخل دار الندوة، فلما جلس في مجلسه قال: عجلوا علي بعبد الرحمن بن أبي بكر فقد رأيته خلف المقام قال: فأدخل عليه فقال: مرحبًا يابن الشيخ الصالح قد علمت أن الذي خرج منك آنفًا لجفائنا بك, وذلك لنأي دارنا عن دارك, فارفع حوائجك فقال: علي من الدين كذا، وأحتاج إلى كذا، وأجز لي كذا، وأقطعني كذا، فقال معاوية: قد قضيت جميع حوائجك قال: وصلتك حم يا أمير المؤمنين, إن كنت لأبرنا بنا وأوصلنا لنا1. حدثني أحمد بن ميسرة المكي قال: حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد, عن أبيه قال: حدثني نافع أن ابن عمر أخبره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل الكعبة فجاء مسرعًا لينظر كيف يصنع النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فجاء وعلى الباب زحام شديد فزاحم الناس حتى دخل فقال: وكان يومئذ شابا قويا فلما دخل لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- خارجًا قال: فسأل بلالًا وكان خلف النبي -صلى الله عليه وسلم: أين صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فأشار له بلال إلى السارية الثانية عند الباب قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن يمينها تقدم عنها شيئًا. حدثني أحمد بن ميسرة, عن عبد المجيد بن عبد العزيز, عن أبيه قال: بلغني أن الفضل بن العباس -رضوان الله عليهما- دخل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذ فقال: لم أره صلى فيها، فقال أبي: وذلك فيما بلغني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعانه لحاجة فجاء وقد صلى ولم يره، قال عبد المجيد: قال أبي: وذلك أنه بعثه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الخبر بطوله لدى ابن فهد في إتحاف الورى 2/ 37-39 وما بين حاصرتين منه. ج / 1 ص -215- فجاء بذنوب من ماء زمزم ليطمس به الصور التي في الكعبة, فصلى خلفه فلذلك لم يره صلى. وحدثني جدي ومحمد بن يحيى ومحمد بن سلمة, عن مالك بن أنس, عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقها عليه فمكث فيها، قال عبد الله بن عمر: سألت بلالا: ماذا صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: جعل عمودًا عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة من ورائه, وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى. وحدثني جدي, عن مسلم بن خالد, عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه رأى علي بن حسين يصلي في الكعبة. وحدثني جدي, حدثنا مسلم بن خالد الزنجي قال: رأيت صدقة بن يسار يدخل البيت كلما فتح فقلت له: ما أكثر دخولك البيت يا أبا عبد الله! قال: والله إني لأجد في نفسي أن أراه مفتوحًا ثم لأصلي فيه. حدثني جدي قال: أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي, عن موسى بن عقبة قال: طفت مع سالم بن عبد الله بن عمر خمسة أسبع, كلما طفنا سبعًا دخلنا الكعبة فصلينا فيها ركعتين. وحدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار, عن ابن جريج, عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قدم مكة حاجًّا أو معتمرًا فوجد البيت مفتوحًا, لم يبدأ بشيء أول من أن يدخله. حدثني جدي قال: حدثنا سفيان, عن مسعر, عن سماك الحنفي قال: سألت ابن عمر عن الصلاة في الكعبة فقال: صل فيها، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى فيها وستأتي آخر فينهاك فلا تطعه, يعني ابن عباس, فأتيت ابن عباس فسألته فقال: ائتم به كله ولا تجعلن شيئًا منه خلفك, وستأتي آخر فيأمرك به ج / 1 ص -216- فلا تطعه, يعني ابن عمر1. حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن مسعر, عن سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول: ليس من أمر حجك دخولك البيت. قال: وحدثني جدي قال: سمعت سفيان يقول: سمعت غير واحد من أهل العلم يذكرون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح, ثم حج فلم يدخلها2. قال: وحدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن قال: أوصاني عبد الكريم بن أبي المخارق أن لا أخرج من منزلي يوم الجمعة حتى أصلي ركعتين, ولا أدخل الكعبة حتى أغتسل. وحدثني جدي قال: حدثنا سالم بن سالم البلخي قال: حدثنا ابن جريج أن عطاء جاء يومًا وقد فاتته الظهر مع الإمام, فدخل الكعبة وصلى في جوفها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شفاء الغرام 1/ 232. 2 شفاء الغرام 1/ 230. ما جاء في رقي بلال الكعبة, وأذانه عليها يوم الفتح1: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد المكي, عن ابن أبي مليكة قال: لما كان يوم الفتح رقي بلال فأذن على ظهر الكعبة فقال بعض الناس: يا عباد الله, لهذا العبد الأسود أن يؤذن على ظهر الكعبة؟! فقال بعضهم: إن يسخط الله عليه هذا الأمر يغيره, فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الآية [الحجرات: 13]. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 انظر في ذلك: شفاء الغرام 1/ 212. ج / 1 ص -217- وأخبرني جدي، عن محمد بن إدريس الشافعي, عن الواقدي عن أشياخه قالوا: جاءت الظهر يوم الفتح فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلالًا أن يؤذن بالظهر فوق ظهر الكعبة, وقريش فوق رءوس الجبال وقد فر وجوههم وتغيبوا خوفًا أن يقتلوا, فمنهم من يطلب الأمان، ومنهم من قد أمن, فلما أذن بلال رفع صوته كأشد ما يكون قال: فلما قال: أشهد أن محمدًا رسول الله تقول جويرية بنت أبي جهل: قد لعمري رفع لك ذكرك، أما الصلاة فسنصلي ووالله ما نحب من قتل الأحبة أبدًا, ولقد جاء إلى أبي الذي كان جاء إلى محمد من النبوة فردها ولم يرد خلاف قومه، وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع بهذا اليوم، وكان أسيد مات قبل الفتح بيوم. وقال الحارث بن هشام: واثكلاه ليتني مت قبل أن أسمع بلالًا ينهق فوق الكعبة. وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث الجليل أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بنية أبي طلحة، وقال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخطًا لله فسيغيره الله، وقال أبو سفيان بن حرب: أما أنا فلا أقول شيئًا، لو قلت شيئًا لأخبرته هذه الحصاة، فأتى جبريل -عليه السلام- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره خبرهم, فأقبل حتى وقف عليهم فقال: "أما أنت يا فلان فقلت: كذا، وأما أنت يا فلان فقلت: كذا، وأما أنت يا فلان فقلت: كذا" فقال أبو سفيان: أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئًا فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أبو الوليد: وكان بلال لأيتام من بني السباق بن عبد الدار أوصى به أبوهم إلى أمية بن خلف الجمحي وأمية الذي كان يعذبه, وكان اسم أخيه كحيل بن رباح. ج / 1 ص -218- باب ما جاء في الحبشي الذي يهدم الكعبة, وما جاء فيمن أرادها بسوء, وغير ذلك: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص السعيدي, عن جده, عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: اخرجوا يأهل مكة قبل إحدى الصيلمين؛ قيل: وما الصيلمان؟ قال: ريح سوداء تحشر الذرة والجعل، قيل: فما الأخرى؟ قال: تجيش البحر بمن فيه من السودان ثم يسيلون سيل النمل, حتى ينتهوا إلى الكعبة فيخربوها, والذي نفس عبد الله بيده لأنظر إلى صفته في كتاب الله أفيحج أصيلع قائما يهدمها بمسحاته، قيل له: فأي المنازل يومئذ أمثل؟ قال: الشعف, يعني رءوس الجبال. وحدثني جدي, عن ابن عيينة, عن زياد بن سعد, عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة". حدثني جدي قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يقول: كأني به أصيلع أفيدع قائمًا عليها يهدمها بمسحاته، قال مجاهد: فلما هدم ابن الزبير الكعبة جئت أنظر هل أرى الصفة التي قال عبد الله بن عمرو, فلم أرها. وحدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن هشام بن حسان, عن حفصة بنت سيرين, عن أبي العالية, عن علي بن أبي طالب أنه قال: استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه, فكأني أنظر إليه حبشيا أصيلع أصيمع قائمًا عليها يهدمها بمسحاته. حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن أمية بن صفوان بن عبد الله بن ج / 1 ص -219- صفوان, عن جده عبد الله بن صفوان, عن حفصة أنها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليؤمن هذا البيت حبش, حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأوسطهم وينادي أولهم آخرهم فخسف بهم, فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم" فقال رجل لجدي: اشهد ما كذبت على حفصة ولا كذبت حفصة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أمية: فلما جاء جيش الحجاج لم نشك أنهم هم حبش. حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني هاشم قال: حدثنا سعيد بن سلمة, عن موسى بن جبير بن شيبة, عن أبي أمامة بن سهل, عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اتركوا الحبشة ما تركتكم, فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة". وحدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن موسى بن أبي عيسى المديني قال: لما كان تبع بالدف من جمدان دفت بهم دوابهم وأظلمت عليهم الأرض, فدعا الأحبار فسألهم فقالوا: هل هممت لهذا البيت بشيء؟ قال: أردت أن أهدمه، قالوا: فانو له خيرًا أن تكسوه، وتنحر عنده ففعل فانجلت عنهم الظلمة قال: وإنما سمي الدف من أجل ذلك. وحدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, أخبرني رجل عن سعيد بن إسماعيل أنه سمع أبا هريرة يحدث أبا قتادة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يبايع للرجل بين الركن والمقام ولن يستحل هذا البيت إلا أهله, فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب, وتأتي الحبش فيخربونه خرابًا لا يعمر بعده أبدًا, وهم الذين يستخرجون كنزه". أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ج / 1 ص -220- ما يقال عند النظر إلى الكعبة: حدثنا جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن إبراهيم عن طريف, عن حميد بن يعقوب, عن ابن المسيب قال: سمعت من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كلمة ما بقي أحد ممن سمعها منه غيري, سمعته يقول حين رأى البيت: اللهم أنت السلام ومنك السلام, فحينا ربنا بالسلام. حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن جريج قال: أخبرني يحيى بن سعيد, عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان عمر بن الخطاب إذا رأى البيت قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام, فحينا ربنا بالسلام. حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن جريج قال: حدثت عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ترفع الأيدي في سبعة مواطن: في بدء الصلاة، وإذا رأيت البيت، وعلى الصفا والمروة، وعشية عرفة, وبجمع، وعند الجمرتين، وعلى الميت". وحدثني جدي، عن مسلم بن خالد, عن ابن جريج قال: حدثت عن مكحول أنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى البيت رفع يديه فقال: "اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة, وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمره تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبرًّا"، ثم يقول الذي حدثني هذا الحديث وذلك حين دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة: ابن جريج هو القائل. حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني غالب بن عبد الله, عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا نظر إلى البيت قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام, فحينا ربنا بالسلام. ج / 1 ص -221- ما جاء في أسماء الكعبة, ولم سميت الكعبة؟ ولئلا يبنى بيت يشرف عليها: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح قال: إنما سميت الكعبة؛ لأنها مكعبة على خلقة الكعب قال: وكان الناس يبنون بيوتهم مدورة تعظيمًا للكعبة, فأول من بنى بيتًا مربعًا حميد بن زهير فقالت قريش: ربع حميد بن زهير بيتًا، إما حياة وإما موتًا1. وحدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا بشر بن السري, عن إبراهيم بن طهمان, عن إبراهيم بن أبي المهاجر, عن مجاهد, عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: إنما سميت بكة؛ لأنه يجتمع فيها الرجال والنساء. وحدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا بشر بن السري, عن أبي عوانة, عن مغيرة, عن إبراهيم قال: بكة موضع البيت، ومكة القرية. وحدثني محمد بن يحيى قال: حدثنا سليم بن مسلم, عن ابن جريج أنه كان يقول: إنما سميت بكة؛ لتباك الناس بأقدامهم قدام الكعبة, ويقال: إنما سميت بكة؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة. حدثني جدي, عن ابن عيينة, عن ابن شيبة الحجبي, عن شيبة بن عثمان أنه كان يشرف فلا يرى بيتًا مشرفًا على الكعبة إلا أمر بهدمه. وحدثني جدي عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب القرظي قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه عتق من الجبابرة، قال عثمان: وأخبرني يحيى بن أبي أنيسة عن ابن شهاب الزهري أنه بلغه إنما سمي البيت العتيق من أجل أن الله -عز وجل- ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الجامع اللطيف ص31. ج / 1 ص -222- أعتقه من الجبابرة، قال عثمان: وقال مجاهد والسدي: إنما سمي البيت العتيق الكعبة أعتقها الله من الجبابرة, فلا يتجبرون فيها إذا طافوا, وكان البيت يدعى "قادسًا" ويدعى "ناذرًا" ويدعى "القرية القديمة" ويدعى "البيت العتيق". قال عثمان: وأخبرني النضر بن عربي, عن مجاهد قال: البيت العتيق أعتقه الله -عز وجل- من كل جبار, فلا يستطيع جبار يدعي أنه له، ولا يقال: بيت فلان ولا ينسب إلا إلى الله عز وجل. حدثنا جدي, عن داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: من أسماء مكة1 هي "مكة" وهي "بكة" وهي "أم رحم" وهي "أم القرى" وهي "صلاح" وهي "كوثى" وهي "الباسة" وأول من تقدم في صلاح فأسمع أهلها, وأول من أذن بمكة حبيب بن عبد الرحمن. وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن أبي أنيسة قال: بكة موضع البيت، ومكة هي الحرم كله، قال عثمان: وأخبرني محمد بن السائب الكلبي في قول الله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] قال: وهي الكعبة. قال عثمان: وأخبرني يحيى بن أبي أنيسة, عن ليث بن أبي سليم, عن مجاهد قال: سمعته يقول: بكة البيت وما حواليه مكة, وإنما سميت بكة؛ لأن الناس يبك بعضهم بعضًا في الطواف. وقال غيره: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} أول مسجد بني للناس المؤمنين الذي ببكة، وبكة ما بين الجبلين تبك الرجال والنساء, لا يضر أحد كيف صلى إن مر أحد بين يديه، ومكة الحرم كله والبيت قبلة أهل المسجد، والمسجد قبلة أهل مكة، والحرم قبلة الناس كلهم مبارك، فيه المغفرة وتضعيف الأجر في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 انظر في أسماء مكة: شفاء الغرام 1/ 75. ج / 1 ص -223- الطواف والصلاة تعدل مائة صلاة {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} قبلة لهم. وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني محمد بن أبان, عن زيد بن أسلم قال: بكة الكعبة والمسجد مبارك للناس، ومكة ذو طوى وهو بطن مكة الذي ذكره الله -عز وجل- في سورة الفتح. وحدثني جدي, عن ابن أبي يحيى قال: بلغني أن أسماء مكة: "مكة" و"بكة" و"أم رحم" و"أم القرى" و"الباسة" و"البيت العتيق" و"الحاطمة" تحطم من استخف بها و"الباسة" تبسهم بسًّا أي: تخرجهم إخراجًا إذا غشموا وظلموا. وحدثني جدي, عن مسلم بن خالد, عن ابن خيثم, عن يوسف بن ماهك قال: كنت جالسًا مع عبد الله بن عمرو بن العاص في ناحية المسجد الحرام, إذ نظر إلى بيت مشرف على أبي قبيس فقال: أبيت ذلك؟ فقلت: نعم فقال: إذا رأيت بيوتها -يعني بذلك مكة- قد علت أخشبيها وفجرت بطونها أنهارًا، فقد أزف الأمر1. قال أبو الوليد: قال جدي: لما بنى العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس داره التي بمكة على الصيارفة حيال المسجد الحرام, أمر قوامه أن لا يرفعوها فيشرفوا بها على الكعبة، وأن يجعلوا أعلاها دون الكعبة فتكون دونها؛ إعظامًا للكعبة أن تشرف عليها2. قال جدي: فلم تبق بمكة دار لسلطان ولا غيره حول المسجد الحرام تشرف على الكعبة إلا هدمت أو خربت إلا هذه الدار, فإنها على حالها إلى اليوم3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الجامع اللطيف ص31. 2 أورد ابن فهد بنصه في حسن القرى ص9 نقلًا عن المصنف. 3 حسن القرى ص9. ج / 1 ص -224- ما جاء في قول الله عز وجل: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}: حدثنا أبو الوليد قال: وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن محمد بن السائب الكلبي قال: أما {مَثَابَةً لِلنَّاسِ} فإن الناس لا يقضون منه وطرًا يثوبون إليه كل عام، وأما أمنًا فإن الله عز وجل جعله أمنًا, من دخله كان آمنًا, ومن أحدث حدثًا في بلد غيره ثم لجأ إليه فهو آمن إذا دخله, ولكن أهل مكة لا ينبغي لهم أن يكنوه، ولا يكسوه، ولا يأووه، ولا يبايعوه, ولا يطعموه، ولا يسقوه, فإذا خرج أقيم عليه الحد، ومن أحدث فيه حدثًا أخذ بحدثه. ما جاء في قول الله سبحانه: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ}: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن جريج قال: ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- القلائد حين جاء الإسلام. قال عثمان: وأخبرني النضر بن عربي, عن عكرمة قال: {قِيَامًا لِلنَّاسِ} نظامًا لهم {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} قال: كان ذلك في الجاهلية قيامًا, من أجل من ذلك شيئًا عجلت له العقوبة على إحلاله. قال عثمان: أخبرني محمد بن السائب الكلبي قال: {قِيَامًا لِلنَّاسِ} أمنًا للناس {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} كل هذا كان أمنًا للناس في ج / 1 ص -225- جاهليتهم ومن بعدما أسلموا. قال عثمان: قال الضحاك: {قِيَامًا لِلنَّاسِ} قيامًا لدينهم, ومعالم حجهم. قال عثمان: وأخبرني يحيى بن أبي أنيسة قال: جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس, وما ذكر من الشهر الحرام والهدي والقلائد حياة لهم في دينهم ومعايشهم, لا يستحلون ذلك وأن يأمنوا في ذلك. قال عثمان: وقال السدي: {قِيَامًا لِلنَّاسِ} هو قيام لدينهم وحجهم {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} قيام للهدي والقلائد لا يستحلون فيه. ما جاء في تطهير إبراهيم وإسماعيل البيت للطائفين والقائمين والركع السجود, وما جاء في ذلك: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن ابن جريج قال: قال عطاء: عن عبيد بن عمير الليثي قال: {طَهِّرَا بَيْتِيَ} من الآفات والريب, قال ابن جريج: الآفات: الشرور والريب، قال عثمان: وأخبرني محمد بن السائب الكلبي أن الله عهد إلى إبراهيم -عليه السلام- إذ بنى البيت أن طهره من الأوثان, فلا ينصب حوله وثن, وأما الطائفون فمن اعتز به من بلد غيره وأما العاكفون والقائمون فأهل البلد, والركع السجود فأهل الصلاة، قال السدي: {طَهِّرَا بَيْتِيَ} يعني: أمنا بيتي. قال عثمان: أخبرني ابن إسحاق أن الله -عز وجل- لما أمر إبراهيم بعمارة البيت الحرام ورفع قواعده وتطهيره للطائفين والعاكفين عنده والركع السجود وهو يومئذ بالبيت المقدس من إيلياء وإسحاق فيما يذكرون يومئذ وصيف خرج إبراهيم حتى قدم مكة, وإسماعيل قد نكح النساء. وحدثني جدي, عن ابن عيينة, عن سفيان بن سعيد الثوري، عن جابر الجعفي, عن مجاهد وعطاء في قوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] قال: {الْعَاكِفُ فِيهِ} أهل مكة، والبادي: الغرباء سواء هم في حرمته. ج / 1 ص -226- ما جاء في أول من استصبح حول الكعبة, وفي المسجد الحرام بمكة, وليلة هلال المحرم: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا إسحاق بن نافع يقال له: الجارف -وليس هو الخزاعي الذي حدث عنه أبو الوليد- عن ابن بزيع بن شموءل قال: سمعت مسلم بن خالد الزنجي يقول: بلغنا أن أول من استصبح لأهل الطواف في المسجد الحرام عقبة بن الأزرق بن عمرو, وكانت داره لاصقة بالمسجد الحرام من ناحية وجه الكعبة, والمسجد يومئذ ضيق ليس بين جدر المسجد وبين المقام إلا شيء يسير, فكان يضع على حرف داره، وجدر داره وجدر المسجد واحد، مصباحًا كبيرًا يستصبح فيه فيضيء له وجه الكعبة والمقام وأعلى المسجد، قال: وأول من أجرى للمسجد زيتًا وقناديل, معاوية بن أبي سفيان رحمة الله عليه. حدثني جدي قال: وحدثني عبد الرحمن بن أبي الحسن بن القاسم بن عقبة بن الأزرق عن أبيه قال: أول من استصبح لأهل الطواف وأهل المسجد الحرام جدي عقبة بن الأزرق بن عمرو الغساني, كان يضع على حرف داره مصباحًا عظيمًا فيضيء لأهل الطواف وأهل1 المسجد, وكانت داره لاصقة بالمسجد والمسجد يومئذ ضيق إنما جدراته جدرات دور الناس قال: فلم يزل يضع ذلك المصباح على حرف داره, حتى كان خالد بن عبد الله القسري ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في ب, وفي الأصل أ: "أعلى". ج / 1 ص -227- فوضع مصباح زمزم مقابل الركن الأسود في خلافة عبد الملك بن مروان, فمنعنا أن نضع ذلك المصباح فرفعناه، قال: فدخلت دارنا تلك في المسجد حين وسع، دخل بعضها حين وسع ابن الزبير المسجد, ودخلت بقيتها في توسيع المهدي الأول. حدثني جدي قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: كان عمر بن عبد العزيز يأمر الناس ليلة هلال المحرم يوقدون النار في فجاج مكة, ويضعون المصابيح للمعتمرين مخافة السرق، قال أبو الوليد: فلم يزل مصباح زمزم على عمود طويل مقابل الركن الأسود الذي وضعه خالد بن عبد الله القسري, فلما كان محمد بن سليمان على مكة في خلافة المأمون في سنة ست عشرة ومائتين, وضع عمودًا طويلًا مقابله بحذاء الركن الغربي, فلما ولي مكة محمد بن داود جعل عمودين طويلين أحدهما بحذاء الركن اليماني والآخر بحذاء الركن الشامي, فلما ولي هارون الواثق بالله أمر بعمد من شبه طوال عشرة, فجعلت حول الطواف يستصبح عليها لأهل الطواف, وأمر بثماني ثريات كبار يستصبح فيها وتعلق في المسجد الحرام, في كل وجه اثنتان. وحدثني جدي قال: أول من استصبح بين الصفا والمروة خالد بن عبد الله القسري في خلافة سليمان بن عبد الملك في الحج وفي رجب، قال أبو الوليد: قال جدي: أول من أثقب النفاطات بين الصفا والمروة في ليالي الحج وبين المأزمين -مأزمي عرفة- أمير المؤمنين أبو إسحاق المعتصم بالله الطاهر بن عبد الله بن طاهر, سنة حج في سنة تسع عشرة ومائتين, فجرى ذلك إلى اليوم. قال الخزاعي: أخبرني أبو عمران موسى بن منويه قال: أخبرني الثقة, أن هذه العمد الصفر كانت في قصر بابك الخرمي بناحية أرمينية, كانت في صحن داره يستصبح فيها, فلما خذله الله وقتل بابك وأتي برأسه إلى سامراء وطيف به ج / 1 ص -228- في البلدان وكان قد قتل خلقًا عظيمًا من المسلمين وأراح الله منه، هدمت داره وأخذت هذه الأعمدة التي حول البيت الحرام في الصف الأول، ومنها في دار الخلافة أربعة أعمدة وبعث بهذه الأعمدة المعتصم بالله أمير المؤمنين في سنة مائتين ونيف وثلاثين, فهذا خبر الأعمدة الصفر التي حول الكعبة وهي عشر أساطين, وكانت أربع عشرة أسطوانة فأربع في دار الخلافة بسامراء. أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ذكر ما كان عليه ذرع الكعبة حتى صار إلى ما هو عليه اليوم من خارج وداخل: قال أبو الوليد: كان إبراهيم خليل الرحمن بنى الكعبة البيت الحرام, فجعل طولها في السماء تسعة أذرع وطولها في الأرض ثلاثين ذراعًا وعرضها في الأرض اثنين وعشرين ذراعًا. وكان غير مسقف في عهد إبراهيم ثم بنتها قريش في الجاهلية والنبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذ غلام فزادت في طولها في السماء تسعة أذرع أخرى, فكانت في السماء ثمانية عشر ذراعًا وسقفوها ونقصوا من طولها في الأرض ستة أذرع وشبرًا, فتركوها في الحجر واستقصرت دون قواعد إبراهيم وجعلوا ربضًا في بطن الكعبة وبنوا عليه حين قصرت بهم النفقة وحجروا الحجر على بقية البيت؛ لأن يطوف الطائف من ورائه, فلم يزل على ذلك حتى كان زمن عبد الله بن الزبير فهدم الكعبة وردها إلى قواعد إبراهيم, وزاد في طولها في السماء تسعة أذرع أخرى على بناء قريش, فصارت في السماء سبعة وعشرين ذراعًا، وأوطأ بابها بالأرض, وفتح في ظهرها بابًا آخر مقابل هذا الباب، وكانت على ذلك حتى قتل ابن الزبير وظهر الحجاج وأخذ مكة، فكتب إليه عبد الملك بن مروان يأمره أن يهدم ما كان ابن الزبير زاد من الحجر في الكعبة, ففعل وردها إلى قواعد قريش التي استقصرت في بطن البيت, وكبسها بما فضل من حجارتها, وسد بابها الذي في ظهرها, ورفع بابها هذا الذي في وجهها, والذي هي عليه اليوم من الذرع. ج / 1 ص -229- باب ذرع البيت من خارج1: طولها في السماء سبعة وعشرون ذراعًا، وذرع طول وجه الكعبة من الركن الأسود إلى الركن الشامي خمسة وعشرون ذراعًا، وذرع دبرها من الركن اليماني إلى الركن الغربي خمسة وعشرون ذراعًا، وذرع شقها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرون ذراعًا، وذرع شقها الذي فيه الحجر من الركن الشامي إلى الركن الغربي أحد وعشرون ذراعًا، وذرع جميع الكعبة مكسرًا أربعمائة ذراع وثمانية عشر ذراعًا، وذرع نفذ جدار الكعبة ذراعان، والذراع أربع وعشرون إصبعًا، والكعبة لها سقفان أحدهما فوق الآخر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 انظر في ذلك: شفاء الغرام 1/ 176. ذرع الكعبة من داخلها1: قال أبو الوليد: ذرع طول الكعبة في السماء من داخلها إلى السقف الأسفل مما يلي باب الكعبة ثمانية عشر ذراعًا ونصف, وطول الكعبة في السماء إلى السقف الأعلى عشرون ذراعًا، وفي سقف الكعبة أربع روازن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 انظر في ذلك: شفاء الغرام 1/ 176. ج / 1 ص -230- نافذة من السقف الأعلى إلى السقف الأسفل للضوء، وعلى الروازن رخام كان ابن الزبير أتى به من اليمن من صنعاء يقال له: البلق، وبين السقفين فرجة، وذرع التحجير الذي فوق ظهر سطح الكعبة ذراعان ونصف, وذرع عرض جدر التحجير كما يدور ذراع، وفي التحجير ملبن مربع من ساج في جدرات سطح الكعبة كما يدور، وفيه حلق حديد تشد فيها ثياب الكعبة. وكانت أرض سطح الكعبة بالفسيفساء ثم كانت تكف عليهم إذا جاء المطر, فقلعته الحجبة بعد السنة المائتين وشيدوه بالمرمر المطبوخ والجص، شيد به تشييدًا، وميزاب الكعبة في وسط الجدر الذي يلي الحجر بين الركن الشامي والركن الغربي يسكب في بطن الحجر، وذرع طول الميزاب أربعة أذرع، وسعته ثماني أصابع في ارتفاع مثلها، والميزاب ملبس صفائح ذهب داخله وخارجه. وكان الذي جعل عليه الذهب الوليد بن عبد الملك، وذرع مسيل الماء في الجدر ذراع وسبع عشرة إصبعًا، وذرع داخل الكعبة من وجهها من الركن الذي فيه الحجر الأسود إلى الركن الشامي وفيه باب الكعبة تسعة عشر ذراعًا وعشر أصابع، وذرع ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي وهو الشق الذي يلي الحجر خمسة عشر ذراعًا وثماني عشرة إصبعًا، وذرع ما بين الركن الغربي إلى الركن اليماني وهو ظهر الكعبة عشرون ذراعًا وست أصابع، وذرع ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود ستة عشر ذراعًا وست أصابع. وفي الكعبة ثلاثة كراسي من ساج طول كل كرسي في السماء ذراع ونصف وعرض كل كرسي منها ذراع وثماني أصابع في مثلها، والكراسي ملبسة ذهب وفوق الذهب ديباج وتحت الكراسي رخام أحمر بقدر سعة الكراسي, وطول الرخام في السماء سبع أصابع وعلى الكراسي أساطين متفرقة ملبسة، الأسطوانة الأولى التي على باب الكعبة ثلثها ملبس صفائح ذهب وفضة وبقيتها مموهة, وذرع غلظها ذراعان ونصف وفوق الأساطين كراسي ساج مربعة منقوشة بالذهب والزخرف, وعلى الكراسي ثلاث جوايز ج / 1 ص -231- ساج أطرافها على الجدر الذي فيه باب الكعبة, وأطرافها الأخرى على الجدر الذي يستقبل باب الكعبة وهو دبرها، والجوايز منقوشة بالذهب والزخرف وسقف الكعبة منقوش بالذهب والزخرف, ويدور تحت السقف إفريز منقوش بالذهب والزخرف, وتحت الإفريز طوق من فسيفساء. ذرع ما بين الأساطين: وذرع ما بين الجدر الذي يلي الركن الأسود والركن اليماني إلى الأسطوانة الأولى أربعة أذرع ونصف, وذرع ما بين الأسطوانة الأولى إلى الأسطوانة الثانية أربعة أذرع ونصف, وذرع ما بين الأسطوانة الثانية إلى الأسطوانة الثالثة أربعة أذرع ونصف, وذرع ما بين الأسطوانة الثالثة إلى الجدر الذي يلي الحجر ذراعان وثماني أصابع, وبين الأساطين من المعاليق سبعة وعشرون معلاقًا، والمعاليق في ثلثي الأساطين والمعاليق في عمد حديد وسلاسل المعاليق فضة, وبين الجدر الذي بين الحجر الأسود والركن اليماني إلى الأسطوانة الأولى أحد عشر معلاقًا, ومن الأسطوانة الأولى إلى الأسطوانة الثانية ثمانية معاليق فيها تاجان, ومن الأسطوانة الثانية إلى الأسطوانة الثالثة ثمانية وبقيتها مموهة، ثم أمرت السيدة أم أمير المؤمنين في سنة عشر وثلاثمائة غلامها لؤلؤا بأن يلبسها كلها ذهبًا, وهذه المعاليق على ما وصفنا إلى سنة تسع وثلاثين ومائتين. ج / 1 ص -232- صفة الروازن التي للضوء في سقف الكعبة: قال أبو الوليد: وفي سقف الكعبة أربع روازن, منها: روزنة حيال الركن الغربي, والثانية حيال الركن اليماني, والثالثة حيال الركن الأسود, والرابعة حيال الأسطوانة الوسطى، وهي التي تلي الجدر بين الركن الأسود والركن اليماني، والروازن مربعة في أعلاها رخام يماني, يدخل منه الضوء إلى بطن الكعبة. صفة الجزعة وذرعها: قال أبو الوليد: وفي الجدر الذي مقابل باب الكعبة وهو دبرها جزعة سوداء مخططة ببياض وذرع سعتها انتا عشر أصبعًا في مثلها وهي مدورة, وحولها طوق ذهب عرضه ثلاث أصابع وهي تستقبل من دخل من باب الكعبة وارتفاعها من بطن الكعبة ستة أذرع ونصف, يقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى مقابل موضعها، جعلها حيال حاجبه الأيمن، قال أبو الوليد: وهذه الجزعة أرسل بها الوليد بن عبد الملك فجعلت هناك. صفة الدرجة: وفي الكعبة إذا دخلتها على يمينك درجة يظهر عليها إلى سطح الكعبة وهي مربعة مع جدري الكعبة في زاوية الركن الشامي منها داخل في الكعبة ج / 1 ص -233- من جدرها الذي فيه بابها ثلاثة أذرع ونصف، وذرع الجدر الآخر الذي يلي الحجر ثلاثة أذرع ونصف، وذرع باب الدرجة في السماء ثلاثة أذرع ونصف، وذرع عرضه ذراع ونصف، وبابها ساج فرد أعسر وهو في حد جدر الكعبة وكان ساجه باديًا ليس عليه ذهب ولا فضة, حتى أمر به أمير المؤمنين المتوكل على الله فضربت على الباب صفائح من فضة, وجعل له غلقا من فضة في المحرم سنة سبع وثلاثين ومائتين، وعلى الباب ملبن ساج ملبس فضة، وفي الباب حلقة فضة, وعلى الباب قفل من حديد في الملبن الذي يلي جدار الكعبة وباب الدرجة عن يمين من دخل الكعبة مقابله, وطول الدرجة في السماء من بطن الكعبة عشرون ذراعًا وعدد أضفارها ثمانية وأربعون ضفرًا, وفيها ثماني مستراحات وعرض الدرجة ذراع وأربع أصابع, وفي الدرجة ثماني كواء داخلة في الكعبة منها أربع حيال الباب وأربع حيال الأسطوانة التي تلي الجدر الذي يلي الحجر, وعلى بابها الذي يلي سطح الكعبة باب ساج طوله ذراعان ونصف, وعرض ذلك الباب ذراعان. صفة الإزار1 الرخام الأسفل الذي في بطن الكعبة: وبطن الكعبة موزرة مدارة من داخلها برخام أبيض وأحمر وأخضر وألواح ملبسة ذهبًا وفضة وهما إزاران، إزار أسفل فيه ثمانية وثلاثون لوحًا طول كل لوح ذراعان وثماني أصابع, من ذلك الألواح البيض أحد وعشرون لوحًا, منها في الجدر الذي بين الركن الغربي والركن اليماني سبعة ألواح، ومنها في الجدر الذي بين الركن اليماني والركن الأسود ستة ألواح، ومنها في الملتزم لوحان, ومنها في الجدر الذي فيه باب الكعبة ثلاثة ألواح، ومنها في الجدر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إزار الحائط: ما يلصق به بأسفله للتقوية أو الصيانة أو الزينة. ج / 1 ص -234- الذي يلي الحجر أربعة ألواح، وعدد الألواح الخضر تسعة عشر لوحًا, منها في الجدر الذي بين الركن الغربي والركن اليماني أربعة، ومنها في الجدر الذي بين الركن الغربي والركن اليماني أربعة، ومنها في الجدر الذي بين الركن اليماني والحجر الأسود أربعة, ومنها في الجدر الذي فيه الباب خمسة، ومنها في الملتزم لوحان، ومنها في الجدر الذي يلي الحجر أربعة. صفة الإزار الأعلى: قال أبو الوليد: وفي الإزار الأعلى الثاني اثنان وأربعون لوحًا, طول كل لوح أربعة أذرع وأربع أصابع. الألواح البيض من ذلك عشرون لوحًا, منها في الجدر الذي بين الركن اليماني والركن الأسود خمسة، ومنها لوح في الملتزم، ومنها في الجدر الذي فيه الباب خمسة، ومنها في الجدر الذي يلي الحجر تسعة. ومن الألواح الحمر تسعة، منها في الجدر الذي بين الركن الغربي والركن اليماني ثلاثة، ومنها في الجدر الذي بين الركن اليماني والركن الأسود لوحان، ومنها في الجدر الذي فيه الباب لوحان، ومنها في الجدر الذي يلي الحجر لوحان. ومن الألواح الخضر ستة، منها في الجدر الذي بين الركن الغربي والركن اليماني لوحان، ومنها في الجدر الذي بين الركن اليماني والركن الأسود لوحان، ومنها في الجدر الذي يلي الحجر لوحان. ومن الألواح الملبسة الذهب والفضة التي في الأركان ستة ألواح, طول كل لوح منها أربعة أذرع وأربع أصابع, وعرض كل لوح منها ذراع وأربع أصابع, منها لوح في طرف زاوية الجدر الذي يلي الدرجة وهو الشامي, ولوح في ج / 1 ص -235- زاوية الركن الغربي, وهو مما يلي الحجر, وفي طرف الجدر الذي بين الركن الغربي والركن اليماني لوحان, وفي طرف الجدر الذي بين الركن اليماني والركن الأسود لوح وهو مما يلي الركن اليماني، وفي الملتزم لوح, وفي الجدر الذي على يمينك إذا دخلت الكعبة لوح. صفة المسامير التي في بطن الكعبة: قال أبو الوليد: وفي الألواح من المسامير ستة عشر مسمارًا، منها في الألواح التي تلي الملتزم ثلاثة، وفي الألواح التي بين الركن اليماني والركن الأسود وهي التي تلي الركن اليماني ثلاثة، ومنها مسمار في بطن الكعبة على ثلاثة أذرع ونصف، وفي بقية الألواح مسمار أو مسماران، والمسامير مفضضة مقبوة منقوشة تدوير كل مسمار سبع أصابع، والمسامير من بطن الكعبة على أربعة أذرع ونصف وفوق الإزار إزار من رخام منقوش مدار في جوانب البيت كله وفي نقشه حبل غير منقوش بذهب, وبين هذا الإزار الذي فيه الحبل إزار صغير كما يدور البيت منقوش عليه بماء الذهب من تحت الإفريز الذي تحت السقف، والإفريز من فسيفساء منقوش واصل بالسقف. صفة فرش أرض البيت بالرخام: قال أبو الوليد: وأرض الكعبة مفروشة برخام أبيض وأحمر وأخضر، عدد الرخام ست وثلاثون رخامة، منها أربع خضر بين الأساطين وبين جدري الكعبة, عرض كل رخامة ذراع وأربع أصابع, وعرضهن من عرض كراسي ج / 1 ص -236- الأساطين ومن الجدر الذي فيه الباب باب الكعبة إلى الرخام الأخضر الذي بين الأساطين ست عشرة رخامة, منها ست بيض وسبع حمر, طولهن سبعة أذرع وخمسة عشر إصبعًا، وبين جدار الدرجة وبين الرخام الأخضر ثلاث رخامات, منها اثنتان بيضاوان وواحدة حمراء, طول كل رخامة منها أربعة أذرع ونصف، وست عشرة رخامة: ثمان بيض وثمان حمر, طول كل رخامة سبعة أذرع وتسع أصابع, وأطرافهن في حد الرخام الأخضر الذي بين الأساطين والجدرين وأطرافهن في الجدر الذي يستقبل باب الكعبة منها رخامة بيضاء عرضها ذراعان وإصبعان، ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في موضعها، وهي الثالثة من الرخام البيض من حد الركن اليماني, وطرفها في الأسطوانة الأولى من حيال باب الكعبة، وعند عتبة باب الكعبة رخامتان خضراء وحمراء مفروشتان. ذكر ما غير من فرش أرض الكعبة: قال أبو الوليد: وذلك إلى آخر شهور سنة أربعين ومائتين, ومحمد المنتصر بالله ولي عهد المسلمين يومئذ يلي أمر مكة والحجاز وغيرهما، فكتب والي مكة إليه: إني دخلت الكعبة فرأيت الرخام المفروش به أرضها قد تكسر وصار قطعًا صغارًا, ورأيت ما على جدراتها من الرخام قد تزايل تهندمه ووهى عن مواضعه وأحضرت من فقهاء أهل مكة وصلحائهم جماعة وشاورتهم في ذلك, فأجمع ظنهم بأن ما على ظهر الكعبة من الكسوة قد أثقلها ووهَّنها, ولم يأمنوا أن يكون ذلك قد أضر بجدراتها, وأنها لو جردت أو خفف عنها بعض ما عليها من الكسوة كان أصلح وأوفق1 لها، فأنهيت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، ومثله في أ، وإتحاف الورى. وفي ب: "أوثق". ج / 1 ص -237- ذلك إلى أمير المؤمنين؛ ليرى رأيه الميمون فيه, ويأمر في ذلك بما يوفقه الله -عز وجل- ويسدده له, وكان فرش أرض الكعبة قد تثلم منه شيء كثير شائن1. وكتب صاحب البريد إلى أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله بمثل ما كتب به العامل بمكة من ذلك, وواتر2 كتبهما به وتماليا في ذلك3. وذكر في بعض كتبهما أن أمطار الخريف قد كثرت، وتواترت بمكة ومنى في هذا العام, فهدمت منازل كثيرة، وأن السيل حمل في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإبراهيم نبي الله -عليه السلام- المعروف بمسجد الخيف، فهدم سقوفه وعامة جدراته, وذهب بما فيه من الحصباء فأعراه، وهدم من دار الإمارة بمنى وما فيها من الحجر جدرات وعدة أبيات، وهدم العقبة المعروفة بجمرة العقبة وبركة الياقوتة وبرك المأزمين, والحياض المتصلة بها، وبركة العيرة, وأن العمل في ذلك إن لم يتدارك ويبادر بإصلاحه كان على سيل زيادة, وهو عمل كثير لا يفرغ منه إلا في أشهر كثيرة4. ورفع جماعة من الحجبة إلى أمير المؤمنين المتوكل على الله رقعة ذكروا فيها: أن ما كتب به العامل بمكة من ذكر الرخام المتكسر في أرض الكعبة لم يزل على ما هو عليه، وأن ذلك لكثرة وطء من يدخل الكعبة من الحاجّ والمعتمرين والمجاورين وأهل مكة, وأنه لا يرزؤها ولا يضرها، وأنه ليس في جدراتها من الرخام المتزايل، ولا على ظهرها من الكسوة ما يخاف بسببه وهن ولا غيره، وأن زاويتين من زوايا الكعبة من داخلها ملبس ذهبًا وزاويتين فضة, وأن ذلك لو كان ذهبًا كله كان أحسن وأزين، وأن قطعة فضة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 304, 305. 2 كذا في الأصل، ومثله في إتحاف الورى وفي أ، ب: "وتواترت". 3 إتحاف الورى 2/ 305. 4 إتحاف الورى 2/ 305. ج / 1 ص -238- مركبة على بعض جدرات الكعبة شبه المنطقة, فوق الإزار الثاني من الرخام تحت الإزار الأعلى من الرخام المنقوش المذهب في زيق في الوسط فيه الجزعة التي تستقبل من توخى مصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتلك القطعة في الزيق مبتدأ منطقة كانت عملت في خلافة محمد بن الرشيد, عملها سالم بن الجراح أيام عمل الذهب على باب الكعبة، ثم جاء خلع محمد قبل أن يتم فوقف عن عملها، ولو كان بدل تلك القطعة منطقة فضة مركبة في أعلى إزار الكعبة في تربيعها كان أبهى وأحسن، وأن الكرسي المنصوب المقعد فيه مقام إبراهيم -عليه السلام- ملبس صفائح من رصاص، ولو عمل مكان الرصاص فضة كان أشبه به, وأحسن, وأوفق له1. فأمر أمير المؤمنين المتوكل على الله بعمل ذلك أجمع، فوجه رجلًا من صناعه يقال له: إسحاق بن سلمة الصائغ, شيخا له معرفة بالصناعات ورفق وتجارب، ووجه معه من الصناع من تخيرهم إسحاق بن سلمة من صناعات شتى من الصوغ والرخاميين وغيرهم من الصناع نيفًا وثلاثين رجلًا، ومن الرخام الألواح الثخان ليشق كل لوح منها بمكة لوحين، مائة لوح، ووجه بذهب وفضة وآلات لشق الرخام ولعمل الذهب والفضة. ورفع الحجبة أيضًا رقعة إلى أمير المؤمنين يذكرون له أن العامل بمكة إن تسلط على أمر الكعبة أو كانت له مع إسحاق بن سلمة في ذلك يد لم يؤمن أن يعمد إلى ما كان صحيحًا أو يتعلل فيه فيخربه أو يهدمه، ويحدث في ذلك أشياء لا تؤمن عواقبها يطلب بذلك إضرارهم وأنهم لا يأمنون ذلك منه2. فأمر أمير المؤمنين بكتاب إلى العامل بمكة في جواب ما كان هو وصاحب البريد كتبا به، أن أمير المؤمنين قد أمر بتوجيه إسحاق بن سلمة الصائغ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل أ, ومثله في إتحاف الورى. وفي ب: "وأوثق". 2 إتحاف الورى 2/ 307. ج / 1 ص -239- للوقوف على تلك الأعمال، ورد الأمر فيها إلى إسحاق ليعمل بما فيه الصلاح والإحكام إن شاء الله تعالى، فقدم إسحاق بن سلمة الصائغ بمن معه من الصناع والذهب والفضة والرخام والآلات مكة لليلة بقيت من رجب سنة إحدى وأربعين ومائتين, ومعه كتاب منشور مختوم في أسفله بخاتم أمير المؤمنين إلى العامل بمكة, وغيره من العمال بمعاونة إسحاق بن سلمة ومكانفته على ما يحتاج إليه من ترويج هذه الأعمال, وأن لا يجعلوا على أنفسهم في مخالفة ما أمروا به من ذلك سبيلا1. فدخل إسحاق بن سلمة الكعبة في شعبان بعد قدومه مكة بأيام، ودخل معه العامل بمكة, وصاحب البريد, وجماعة من الحجبة, وناس من أهل مكة من صلحائهم من القرشيين، وجماعة من الصناع الذين قدم بهم معه, وأحضر منجنيقًا طويلا ألصقة إلى جانب الحدر الذي يقابل من دخل الكعبة, وصعد عليه إسحاق بن سلمة ومعه خيط وسابورة2، فأرسل الخيط من أعلى المنجنيق وهو قائم عليه، ثم نزل وفعل ذلك بجدراتها الأربعة فوجدها كأصح ما يكون من البناء وأحكمه, فسأل الحجبة: هل يجوز التكبير داخل الكعبة؟ فقالوا: نعم, فكبر وكبر من حضره داخل الكعبة وكبر الناس ممن في الطواف وغيرهم من خارجها، وخر من في داخل الكعبة جميعًا سجدًا لله وشكرًا، وقام إسحاق بن سلمة بين بابي الكعبة، فأشرف على الناس وقال: يأيها الناس, احمدوا الله تعالى على عمارة بيته، فإنا لم نجد فيه من الحدث مما كتب به إلى أمير المؤمنين شيئًا، بل وجدنا الكعبة وجدراتها وأحكام بنائها وإتقانها على أتقن ما يكون3. وابتدأ إسحاق بن سلمة عمل الذهب والفضة والرخام في الدار المعروفة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 315. 2 السابورة: المسبار الذي يسبر ويقاس به الغور ونحوه، ولعلها الآلة التي يضبط بها استقامة الجدران واستواؤها من أعلاها إلى أسلفها. 3 إتحاف الورى 2/ 315. ج / 1 ص -240- بخالصة, في دار الخزانة عند الخياطين1. وصار إلى منى فأمر بعمل ضفيرة تتخذ ليرد سيل الجبل عن المسجد ودار الإمارة, فاتخذ هناك ضفيرة عريضة مرتفعة السمك وأحكمها بالحجارة والنورة والرماد, فصار ما ينحدر من السيل يتسرب في أصل الضفيرة من خارجها, ويخرج إلى الشارع الأعظم بمنى, ولا يدخل المسجد ولا دار الإمارة منه شيء, وصار ما بين الضفيرة والمسجد -وهو عن يسار الإمام- رفقًا للمسجد وزيادة في سعته, ثم هدم المسجد وما كان من دار الإمارة مستهدمًا وأعاد بناءه, ورم ما كان مسترما وأحكم العقبة وجدراتها, وأصلح الطريق التي سلكها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من منى إلى الشعب, ومعه العباس بن عبد المطلب الذي يقال له: شعب الأنصار, الذي أخذ فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيعة على الأنصار2. وكانت هذه الطريق قد عفت ودرست, فكانت الجمرة زائلة عن موضعها، أزالها جهال الناس برميهم الحصا، وغفل عنها حتى أزيحت عن موضعها شيئًا يسيرًا منها من فوقها, فردها إلى موضعها الذي لم تزل عليه، وبنى من ورائها جدارًا أعلاه عليها, ومسجدًا متصلًا بذلك الجدار لئلا يصل إليها من يريد الرمي من أعلاها, وإنما السنة لمن أراد الرمي أن يقف من تحتها من بطن الوادي, فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه, ويرمي كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من بعده، وفرغ من البرك وأحكم عملها3. وعمل الفضة على كرسي المقام مكان الرصاص الذي عليه، واتخذ له قبة من خشب الساج مقبوة الرأس بضباب لها من حديد, ملبسة الداخل بالأدم, وكانت القبة قبل ذلك مسطحة4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 316. 2 إتحاف الورى 2/ 316. 3 إتحاف الورى 2/ 316, 317. 4 إتحاف الورى 2/ 317. ج / 1 ص -241- وكان العامل بمكة قد أمر بكتاب يقرأ لأمير المؤمنين، فجلس خلف المقام وأقام كاتبه قائمًا على الصندوق يقرأ الكتاب فأعظم ذلك المسلمون إعظامًا شديدًا وأنكروه أشد النكرة، وخاف الحجبة أن يعود لمثلها، فرفعوا في ذلك رقعة إلى أمير المؤمنين, فأمره أمير المؤمنين أن يتخذ كرسيا يقرأ عليه الكتب, وأن ينزه المقام عن ذلك ويعظم1. وعمل إسحاق الذهب على زاويتي الكعبة من داخلها مكان ما كان هنالك من الفضة ملبسًا، وكسر الذهب الذي كان على الزاويتين الباقيتين وأعاد عمله، فصار ذلك أجمع على مثال واحد منقوشة مؤلفة ناتئة، وعمل منطقة من فضة وركبها فوق إزار الكعبة في تربيعها كلها، منقوشة مؤلفة جليلة ناتئة يكون عرض المنطقة ثلثي ذراع, وعمل طوقًا من ذهب منقوش متصلًا بهذه المنطقة فركبه حول الجزعة التي تقابل من دخل من باب الكعبة فوق الطوق الذهب القديم الذي كان مركبًا حولها من عمل الوليد بن عبد الملك, وكره أن يقلع ذلك الطوق الأول لسبب تكسر خفي في الجزعة, فتركه على حاله لئلا يحدث في الجزعة حادث، وقلع الرخام المتزايل من جدرات الكعبة -وكان يسيرًا رخامتين أو ثلاثًا- وأعاد نصبه كلها بجص صنعاني كان كتب فيه إلى عامل صنعاء، فحمل إليه منه جص مطبوخ صحيح غير مدقوق اثنا عشر حملًا، فدقه ونخله وخلطه بماء زمزم ونصب به هذا الرخام، وفي أعلى هذه المنطقة الفضة رخام منقوش محفور فألبس ذلك الرخام ذهبًا رقيقًا من الذهب الذي يتخذ للسقوف, فصار كأنه سبيكة مضروبة عليه إلى موضع الفسيفساء الذي تحت سقف الكعبة, وغسل الفسيفساء بماء الورد وحماض الأترج2، ونقض ما كان من الأصباغ المزخرفة على السقف وعلى الإزار الذي دون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 317. 2 كذا لدى ابن فهد في إتحاف الورى وهو ينقل عن المصنف. وفي الأصول: "الأترنج" والأترج: شجر يعلو ناعم الأغصان والورق الثمر، وثمره كالليمون الكبار، وهو ذهبي اللون، ذكي الرائحة. ج / 1 ص -242- السقف فوق الفسيفساء, ثم ألبسها ثيابا قباطيا أخرجها إليه الحجبة مما عندهم في خزانة الكعبة, وألبس تلك الثياب ذهبًا رقيقًا وزخرفه بالأصباغ1. وكانت عتبة باب الكعبة السفلى قطعتين من خشب الساج قد رثتا ونخرتا من طول الزمان عليهما, فأخرجهما وصير مكانهما قطعة من خشب الساج وألبسها صفائح فضة من الفضة التي كانت في الزاويتين التي صير مكانهما ذهبًا, ولم يقلع في ذلك بابا الكعبة, وحرفا فأزيلا شيئًا يسيرًا وهما قائمان منصوبان, وكان في الجدر الذي في ظهر الباب يمنة من دخل الكعبة رزة وكلاب من صفر يشد به الباب إذا فتح بذلك الكلاب لئلا يتحرك عن موضعه, فقلع ذلك الصفر وصير مكانه فضة, وألبس ما حول باب الدرجة فضة مضروبة2. وكان الرخام الذي قدم به معه إسحاق رخاما يسمى المسير, غير مشاكل لما كان على جدرات الكعبة من الرخام, فشقه وسواه, وقلع ما كان على جدرات المسجد الحرام في ظهر الصناديق التي يكون فيها طيب الكعبة وكسوتها من الرخام, وقلع الرخام الذي كان على جدر المسجد الذي بين باب الصفا وبين باب السمانين, واسم ذلك الرخام البذنجنا, ونصب الرخام المسير الذي جاء به مكانه على جدرات المسجد3. وأنزل المعاليق المعلقة بين الأساطين ونفضها من الغبار وغسلها وجلاها, وألبس عمدها الحديد المعترضة بين الأساطين ذهبًا من الذهب الرقيق, وأعاد تعليقها في مواضعها على التأليف4. وفرغ من ذلك أجمع ومن جميع الأعمال التي بمنى، يوم النصف من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 318, 319. 2 إتحاف الورى 2/ 319. 3 إتحاف الورى 2/ 319, 320. 4 إتحاف الورى 2/ 320. ج / 1 ص -243- شعبان سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وأحضر الحجبة في ذلك اليوم أجزاء القرآن، وهم جماعة فتفرقوها بينهم وإسحاق بن سلمة معهم حتى ختموا القرآن، وأحضروا ماء ورد ومسكًا وعودًا وسكا مسحوقًا، فطيبوا به جدرات الكعبة وأرضها وأجافوا بابها عليهم عند فراغهم من الختمة، فدعوا ودعا من حضر الطواف وضجوا بالتضرع والبكاء إلى الله -عز وجل- ودعوا لأمير المؤمنين ولولاة عهود المسلمين ولأنفسهم ولجميع المسلمين، فكان يومهم ذلك يومًا شريفًا حسنًا. قال أبو الوليد: وأخبرني إسحاق بن سلمة الصائغ أن مبلغ ما كان في الأربع الزوايا من الذهب والطوق الذي حول الجزعة، نحو من ثمانية آلاف مثقال، وأن ما في منطقة الفضة وما كان على عتبة الباب السفلى من الصفائح وعلى كرسي المقام من الفضة، نحو من سبعين ألف درهم، وما ركب من الذهب الرقيق على جدرات الكعبة وسقفها، نحو من مائتي حق يكون في كل حق خمسة مثاقيل. وخلط إسحاق بن سلمة ما بقي قبله مع هذا الجص الصنعاني, وما قلع من أرض الكعبة من الرخام المتكسر مما لا يصلح إعادته في شيء من العمل وثلاثة حقاق من هذا الذهب الرقيق وجراب فيه تراب مما قشر من جدرات الكعبة ومسامير فضة صغار قبل الحجبة، لما عسى أن يحتاجوا إليه لها، وانصرف بعد فراغه من الحج في آخر سنة اثنتين وأربعين ومائتين. صفة باب الكعبة: وذرع طول باب الكعبة في السماء ستة أذرع وعشرة أصابع، وعرض ما بين جداريه ثلاثة أذرع وثماني عشرة إصبعًا، والجداران وعتبة الباب العليا ج / 1 ص -244- ونجاف الباب ملبس صفائح ذهب منقوش، وفي جدار عضادتي الباب أربع عشرة حلقة من حديد مموهة بالفضة متفرقة, في كل جدار سبع حلق يشد بها جوف الباب من أستار الكعبة، وفي عتبة باب الكعبة ثمانية عشر مسمارًا، منها أربعة على الباب، وأربعة عشر في وجه العتبة، والمسامير حديد ملبسة ذهبًا مقبوة منقوشة تدوير حول كل مسمار سبع أصابع، وملبن باب الكعبة الذي يطأ عليه من دخلها داخل في الجدر عشر أصابع، والملبن ساج ملبس صفائح ذهب، وعرض وجه الملبن عشر أصابع، وعرض وجهه الآخر أربع أصابع, وفي الملبن من المسامير ستة وأربعون مسمارًا، منها سبعة في أعلى الملبن وهي تلي العتبة، وفي الجانب الأيمن تسعة عشر مسمارًا، وفي الجانب الأيسر عشرون مسمارًا، والمسامير مقبوة ملبسة ذهبًا منقوشة، تدوير حول كل مسمار منها سبع أصابع، وذرع طول باب الكعبة في السماء ستة أذرع وعشر أصابع, وهما مصراعان عرض كل مصراع ذراع وثماني عشرة أصبعًا, وعود الباب ساج وغلظه ثلاث أصابع فإذا غلقا فعرضهما ثلاثة أذرع ونصف، وفي كل مصراع ست عوارض، والعوارض من ساسم, وظهر الباب من داخل ملبس صفائح فضة. وفي المصراع الأيمن من داخل غلق رومي, وأم الغلق ملبسة فضة وطول الغلق أربع عشرة إصبعًا. وفي المصراع الأيسر حلقة فضة يكون فيها غلق الباب إذا غلق. وفي الباب الأيسر سكرة ووجه الباب ملبس صفائح ذهب منقوشة وصفائح ساذج ما بين المسامير التي في العوارض صفائح مربعة منقوشة, في كل مصراع خمس صفائح, وتدوير حول الصفائح الساذج صفائح منقوشة. وفي الباب الأيسر أنف الباب ملبسًا ذهبًا منقوشًا, طرفاه مربعان، وعلى الأنف كتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية [البقرة: 149]. محمد رسول الله. ج / 1 ص -245- وعدد المسامير مائتا مسمار, منها مائة كبار, منها في العوارض اثنان وسبعون مسمارًا, في كل عارضة ستة مسامير، وفي كل مصارع عشرة مسامير، وبين كل عارضتين مسماران في طرفي الباب, ومنها حول خرتة الباب التي يدخل فيها الرومي اثنا عشر مسمارًا صغارًا، ومنها في المصراع الأيمن مسماران من فضة ساذج, مموهان تدوير حول كل مسمار ست أصابع, وبينهما حاجز يفتح فيه الغلق الرومي الداخل وما بين المسامير تسع أصابع والمسامير مقبوة ملبسة ذهبًا وهي منقوشة تدوير كل مسمار سبع أصابع, والمسامير الصغار التي في المصراع الأيسر خمسون مسمارًا وهي مضروبة حول الصفائح المربعة المنقوشة التي بين العوارض، حول كل صفيحة عشرة مسامير والمسامير ملبسة ذهبًا مقبوة منقوشة وهي على صفائح ساذج, عرض الصفائح إصبعان كما يدور حول الصفيحة المنقوشة, ورجلا البابين حديد, ملبسان ذهبًا وفي المصراعين سلوقيتان فضة مموهتان, وفي السلوقيتين لبنتان من ذهب مربعتان, وفوق اللبنتين لبنتان صغيرتان, وفي طرف السلوقيتين حلقتا ذهب سعة كل حلقة ثماني أصابع, وهما حلقتا قفل الباب وهما على ذراعين وستة عشر إصبعًا من الباب. باب صفة الشاذروان, وذرع الكعبة: ذرع الكعبة من خارجها في السماء من البلاط المفروش حولها تسعة وعشرون ذراعًا وست عشرة إصبعًا, وطولها من الشاذروان سبعة وعشرون ذراعًا, وعدد حجارة الشاذروان التي حول الكعبة ثمانية وستون حجرًا في ثلاثة وجوه من ذلك, من حد الركن الغربي إلى الركن اليماني خمسة وعشرون حجرًا، منها حجر طوله ثلاثة أذرع ونصف وهو عتبة الباب الذي سد في ظهر الكعبة وبينه وبين الركن اليماني أربعة أذرع, وفي الركن اليماني ج / 1 ص -246- حجر مدور، وبين الركن اليماني والركن الأسود تسعة عشر حجرًا, ومن حد الشاذروان إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعًا ليس فيه شاذروان, ومن حد الركن الشامي إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود ثلاثة وعشرون حجرًا, ومن حد الشاذروان الذي يلي الملتزم إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود ذراعان ليس فيهما شاذروان وهو الملتزم, وطول الشاذروان في السماء ستة عشر إصبعًا وعرضه ذراع وطول درجة الكعبة التي يصعد عليها الناس إلى بطن الكعبة من خارج ثمانية أذرع ونصف وعرضها ثلاثة أذرع ونصف, وفيها من الدرج ثلاث عشرة درجة وهي من خشب الساج. ذكر الحجر: حدثنا أبو محمد إسحاق بن أحمد الخزاعي, حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا جدي, حدثنا سعيد بن سالم وعبد الرزاق بن همام قالا: حدثنا ابن جريج قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء بن خباب, قال أبو الوليد: وحدثني محمد بن يحيى, حدثنا هشام بن سليمان المخزومي, عن ابن جريج, عن عبد الله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء بن خباب أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وفد على عبد الملك بن مروان في خلافته فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب -يعني ابن الزبير- سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها, قال الحارث: أنا سمعته منها قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن قومك استقصروا في بناء البيت، ولولا حداثة عهد قومك بالكفر أعدت فيه ما تركوا منه" فأراها قريبًا من سبعة أذرع, وزاد الوليد بن عطاء بن خباب في الحديث: "وجعلت لها بابين موضوعين بالأرض شرقيا وغربيا, وهل تدرين لم كان ج / 1 ص -247- قومك رفعوا بابها؟" قالت: قلت: لا قال: "تعززا لئلا يدخلها أحد إلا من أرادوا, فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد يدخلها دفعوه فسقط" قال عبد الملك: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: قلت: نعم قال: فنكت بعصاه ساعة ثم قال: لوددت أني تركته وما تحمل. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن هشام بن عروة, عن عروة عن عائشة قالت: ما أبالي صليت في الحجر أو في الكعبة. حدثنا أبو الوليد, حدثنا إبراهيم بن محمد الشافعي, حدثنا الدراوردي, عن علقمة بن أبي علقمة, عن أبيه, عن عائشة أنها قالت: كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه, فأخذ رسول الله -صلى الله عليه سلم- بيدي فأدخلني الحجر فقال لي: "صلي في الحجر إذا أردت دخول البيت, فإنما هو قطعة من البيت, ولكن قومك استقصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت"1. حدثنا أبو الوليد حدثني جدي, عن سفيان, عن هشام بن حجير قال: قال ابن عباس: الحجر من البيت. حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا جدي, عن خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن سلمة المخزومي قال: حدثني المبارك بن حسان الأنماطي قال: رأيت عمر بن عبد العزيز في الحجر فسمعته يقول: شكا إسماعيل -عليه السلام- إلى ربه -عز وجل- حر مكة, فأوحى الله تعالى إليه: "إني أفتح لك بابًا من الجنة في الحجر, يجري عليك منه الروح إلى يوم القيامة" وفي ذلك الموضع توفي، قال خالد: فيرون أن ذلك الموضع ما بين الميزاب إلى باب الحجر الغربي فيه قبره. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن خالد بن عبد الرحمن قال: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الجامع اللطيف ص130. ج / 1 ص -248- حدثني الحارث بن أبي بكر الزهري, عن صفوان بن عبد الله بن صفوان الجمحي قال: حفر ابن الزبير الحجر فوجد فيه سفطًا من حجارة خضر, فسأل قريشًا عنه فلم يجد عند أحد منهم فيه علمًا قال: فأرسل إلى عبد الله بن صفوان فسأله فقال: هذا قبر إسماعيل -عليه السلام- فلا تحركه قال: فتركه. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني محمد بن يحيى قال: أخبرنا هشام بن سليمان المخزومي, عن عبد الله بن عبيد بن عمير أنه قال: دخل بين عائشة وبين أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر كلام, فحلف أن لا يكلمها فأرادته على أن يأتيها فأبى, فقيل لها: إن له ساعة من الليل يطوفها فرصدته بباب الحجر حتى إذا مر بها أخذت بثوبه فجذبته, فأدخلته الحجر ثم قالت له: فلان عبدي حر وفلان والذي أنا في بيته وجعلت تعتذر إليه وتحلف له. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني محمد بن يحيى, حدثنا هشام بن سليمان المخزومي, عن أم كلثوم بنة أبي عوف أن عائشة سألت أن يفتح لها باب الكعبة ليلًا فأبى عليها شيبة بن عثمان, فقالت لأختها أم كلثوم بنة أبي بكر: انطلقي بنا حتى ندخل الكعبة, فدخلت الحجر. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي وإبراهيم بن محمد الشافعي, عن مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن أبي نجيح قال: وجد في الحجر حجر مدفون مكتوب فيه: مبارك لأهلها في الماء واللبن, لا تزول حتى تزول أخشباها، وقال ابن إسحاق: كان قبر إسماعيل -عليه السلام- وقبر أمه هاجر في الحجر. حدثنا أبو الوليد قال: وأخبرني محمد بن يحيى, عن أبيه أن أمير المؤمنين المنصور أبا جعفر حج وزياد بن عبيد الله الحارثي يومئذ أمير مكة, فطاف أبو جعفر ثم دعا زيادًا فقال: إني رأيت الحجر حجارته بادية فلا أصبحن حتى يستر جدار الحجر بالرخام, فدعا زياد بالعمال فعملوه على السرج قبل أن يصبح, وكان قبل ذلك مبنيًّا بحجارة بادية ليس عليها رخام, ثم كان المهدي بعد قد جدد رخامه. ج / 1 ص -249- حدثنا أبو الوليد قال: وأخبرني محمد بن يحيى, عن أبيه قال: ثم رأيت جعفر بن سليمان بن علي وهو أمير مكة والمدينة في سنة إحدى وستين ومائة بلط بطن الحجر بالرخام, وذلك عام زاد المهدي في المسجد الحرام زيادته الأولى وشرع أبواب المسجد على المسعى, قال أبو محمد الخزاعي: أنا أدركت هذا الرخام الذي عمله وكان رخامًا أبيض وأخضر وأحمر مزورا بثوابير صغار, ومداخلا بعضه في بعض أحسن من هذا العمل, ثم تكسر فجدده أبو العباس عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى وهو أمير مكة في سنة إحدى وأربعين ومائتين, ثم جدد بعد ذلك في سنة ثلاث وثمانين ومائتين. الجلوس في الحجر, وما جاء في ذلك: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي عن سعيد بن سالم, عن ابن جريج قال: كنا جلوسًا مع عطاء بن أبي رباح في المسجد الحرام فتذاكرنا ابن عباس وفضله وعلي بن عبد الله بن عباس في الطواف وخلفه ابنه محمد بن علي فعجبنا من تمام قامتهما وحسن وجوههما, فقال عطاء: وأين حسنهما من حسن عبد الله بن عباس؟ ما رأيت القمر ليلة أربع عشرة، وأنا في المسجد الحرام طالعًا من جبل أبي قبيس إلا ذكرت وجه ابن عباس, ولقد رأيتنا جلوسًا معه في الحجر إذ أتاه شيخ قديم بدوي من هذيل يهدج على عصاه فسأله عن مسألة فأجابه, فقال الشيخ لبعض من في المجلس: من هذا الفتى؟ فقالوا: هذا عبد الله بن العباس بن عبد المطلب, فقال الشيخ: سبحان الذي مسخ حسن عبد المطلب إلى ما أرى، فقال عطاء: سمعت ابن عباس يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامة وأحسن الناس وجهًا, ما رآه قط شيء إلا أحبه, وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره ولا ج / 1 ص -250- يجلس معه عليه أحد, وكان الندي من قريش حرب بن أمية فمن دونه يجلسون حوله دون المفرش, فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو غلام يدرج ليجلس على المفرش فجذبوه فبكى, فقال عبد المطلب, وذلك بعدما حجب بصره: ما لابني يبكي؟ قالوا له: إنه أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه, فقال عبد المطلب: دعوا ابني, فإنه يحس بشرف أرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغ عربي قط، قال: وتوفي عبد المطلب والنبي -صلى الله عليه وسلم- ابن ثماني سنين, وكان خلف جنازته يبكي حتى دفن بالحجون. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن ابن جريج, عن ابن أبي مليكة أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو كان عندي سعة قدمت في البيت من الحجر أذرعًا, وفتحت له بابًا آخر يخرج الناس منه". حدثنا أبو الوليد, حدثنا سعيد بن منصور, حدثنا خالد بن عبد الله, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير أن عائشة سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يفتح لها الباب ليلًا, فجاء عثمان بن طلحة بالمفتاح إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله, إنها لم تفتح بليل قط قال: "فلا تفتحها" ثم قال لعائشة: "إن قومك لما بنوا البيت قصرت بهم النفقة, فتركوا بعض البيت في الحجر, فادخلي الحجر فصلي فيه". حدثنا أبو الوليد, حدثنا سعيد بن منصور, حدثنا عتاب, عن خصيف, عن مجاهد قال: جاءت عائشة فدخلت البيت في ستاره ومعها نسوة, فأغلقت الحجبة البيت دون النساء فجعلن ينادين: يا أم المؤمنين قال مجاهد: فسمعت عائشة تقول: عليكن بالحجر, فإنه من البيت. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن ابن عيينة, عن إبراهيم بن ميسرة قال: تذاكروا المهدي عند طاوس وهو جالس في الحجر فقلت: يا أبا عبد الرحمن, أهو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لا، إنه لم يستكمل العدل ج / 1 ص -251- وإن ذلك إذا كان زيد المحسن في إحسانه, وحط عن المسيء من إساءته, ولوددت أني أدركته وعلامته كذا وكذا. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي: حدثنا ابن عيينة, حدثنا الوليد بن كثير, عن ابن ثدرس, عن أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قالت: لما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] جاءت أم جميل بنت حرب بن أمية امرأة أبي لهب ولها ولولة وفي يدها فهر, فدخلت المسجد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في الحجر ومعه أبو بكر -رضي الله عنه- فأقبلت وهي تلملم الفهر في يدها وتقول: مذممًا أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا، قالت: فقال أبو بكر -رضي الله عنه: يا رسول الله هذه أم جميل وأنا أخشى عليك منها, وهي امرأة, فلو قمت، فقال: "إنها لن تراني" وقرأ قرآنًا اعتصم به، ثم قرأ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] قلت: فجاءت حتى وقفت على أبي بكر -رضي الله عنه- وهو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم تره فقالت: يا أبا بكر فأين صاحبك؟ قال: الساعة كان ههنا قالت: إنه ذكر لي أنه هجاني, وايم الله إني لشاعرة وإن زوجي لشاعر, ولقد علمت قريش أني بنت سيدها، قال سفيان: قال الوليد في حديثه: فدخلت الطواف فعثرت في مرطها فقالت: نفس مذمم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ألا ترى يا أبا بكر ما يدفع الله تعالى به عني من شتم قريش, يسمونني مذممًا وأنا محمد" فقالت لها أم حكيم بنة عبد المطلب: مهلًا يا أم جميل، إني لحصان فما أكلم، وثقاف فما أعلم, وكلتانا من بني العم، ثم قريش بعد أعلم. قال أبو الوليد: فلم يزل رخام الحجر الذي عمله المهدي بعد عمل أبي جعفر أمير المؤمنين على حاله, وكان سيله يخرج من تحت الأحجار التي على بابها الغربي حتى رث في خلافة المتوكل على الله جعفر أمير المؤمنين فقلع في سنة إحدى وأربعين ومائتين, وألبس رخامًا حسنًا قلع من جوانب المسجد الحرام من الشق الذي يلي باب العجلة إلى باب دار عمرو بن ج / 1 ص -252- العاص، ومما يلي أبواب بني مخزوم والباب الذي مقابل دار عبد الله بن جدعان. وكان عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن محمد الهاشمي أمر أن يقلع له لوح من رخام الحجر يسجد عليه فقلع له في الموسم, فأرسل أحمد بن طريف مولى العباس بن محمد الهاشمي برخامتين خضراوين من مصر هدية للحجر مكان ذلك اللوح, وهي الرخامة الخضراء على سطح جدار الحجر مقابل الميزاب على هيئة الزورق, والرخامة الأخرى هي الرخامة الخضراء التي تحت الميزاب تلي جدر الكعبة, فجعلتا في هذين الموضعين, وهما من أحسن رخام في المسجد خضرة. قال أبو محمد الخزاعي: ثم حولت التي كانت على ظهر الحجر, فجعلت تحت الميزاب مقابل الميزاب أمام الرخامتين اللتين على هيئة المحراب, في سنة ثلاث وثمانين ومائتين. ما جاء في الدعاء, والصلاة عند مثعب الكعبة: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن عطاء بن أبي رباح قال: من قام تحت مثعب الكعبة فدعا استجيب له, وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه1. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا عيسى بن يونس السبيعي, حدثنا عنبسة بن سعيد الرازي, عن إبراهيم بن عبد الله الخاطبي, عن عطاء عن ابن عباس قال: صلوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شفاء الغرام 1/ 349. ج / 1 ص -253- الأبرار. قيل لابن عباس: ما مصلى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب، قيل: وما شراب الأبرار؟ قال: ماء زمزم. حدثنا أبو الوليد, حدثنا محمد بن سليم, حدثنا الزنجي مسلم بن خالد, عن ابن جريج, عن عطاء أنه قال: من قام تحت ميزاب الكعبة فدعا استجيب له, وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني محمد بن أبي عمر, قال: حدثنا بشر بن السري, عن حماد بن سلمة قال: حدثتني أم شيبة قالت: سمعت أم عمرو امرأة الزبير تقول: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: أعزم بالله على امرأة صلت في الحجر. حدثنا أبو الوليد, حدثنا محمد بن أبي عمر المكي, حدثنا بشر بن السري, عن حماد بن سلمة, عن عطاء بن السائب قال: رأيت سعيد بن جبير يطوف, فإذا دخل الحجر وضع نعليه على جدر الحجر. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن جعفر بن محمد, عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا حاذى ميزاب الكعبة وهو في الطواف يقول: "اللهم إني أسألك الراحة عند الموت, والعفو عند الحساب". حدثنا أبو الوليد قال: حدثني مسافع بن عبد الرحمن الحجبي, حدثنا بشر بن السري, عن أيمن بن نابل1، قال: رقدت في الحجر فركضني سعيد بن جبير وقال: مثلك يرقد في هذا المكان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 بنون وموحدة قيده ابن حجر في التقريب ص56, وتحرف في الأصول إلى: "نايل" بالياء المثناة. ج / 1 ص -254- صفة الحجر وذرعه1: قال أبو الوليد: الحجر مدور وهو ما بين الركن الشامي والركن الغربي, وأرضه مفروشة برخام, وهو مستوٍ بالشاذروان الذي تحت إزار الكعبة, وعرضه من جدر الكعبة من تحت الميزاب إلى جدر الحجر سبعة عشر ذراعًا وثمان أصابع، وذرع ما بين بابي الحجر عشرون ذراعًا وعرضه اثنان وعشرون ذراعًا، وذرع "الجدار"2 من داخله في السماء ذراع وأربع عشرة إصبعًا، وذرعه مما يلي الباب الذي يلي المقام ذراع وعشر أصابع, وذرع جدر الحجر الغربي في السماء ذراع وعشرون إصبعًا, وذرع طول جدر الحجر من خارج مما يلي الركن الشامي ذراع وستة عشر إصبعًا, وطوله من وسطه في السماء ذراعان وثلاث أصابع, الرخام من ذلك ذراع وأربع عشرة إصبعًا, وعرض الجدار ذراعان إلا إصبعين, والجدر ملبس رخامًا وفي أعلاه في وسط الجدار رخامة خضراء طولها ذراعان إلا إصبعين, وعرضها ذراع وثلاث أصابع. قال أبو محمد الخزاعي: وقد حولت هذه الرخامة, فجعلت تحت الميزاب مما يلي الكعبة. قال أبو الوليد: وذرع باب الحجر الذي يلي المشرق مما يلي المقام خمسة أذرع وثلاث أصابع, وفي عتبة هذا الباب حجران ارتفاعهما من بطن الحجر أربع أصابع, وذرع باب الحجر الذي يلي المغرب سبعة أذرع, وفي عتبة بابه أربعة أحجار, وارتفاعها من بطن الحجر أربع أصابع, ومخرج سيل ماء الحجر من وسطه من تحت الحجارة في ثقب بين حجرين. قال أبو محمد الخزاعي: قد كان على ما ذكره أبو الوليد, ثم كان رخامه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 انظر في ذلك: شفاء الغرام 1/ 347 وهو ينقل عن المصنف. 2 الإضافة من شفاء الغرام. ج / 1 ص -255- قد تكسر من وطء الناس, فعمل في خلافة المتوكل على الله وأمير مكة يومئذ أبو العباس عبد الله بن محمد بن داود, فرفعت أرض الحجر شيئًا حتى كان ماؤه يخرج من فوق الأحجار التي في عتبة الباب الغربي, فكان كذلك حتى عمر في خلافة أمير المؤمنين المعتضد بالله, فأشرف العمال في رفع أرضه حتى صارت أرفع من حجارة عتبتي البابين, حتى احتاجوا إلى أن يكسروا طرفي العمل المشرف على بابي الحجر, ولو كانوا جعلوه مستويًا مع العتبتين كما كان, كان أصوب. قال أبو الوليد: وذرع تدوير الحجر من داخله ثمانية وثلاثون ذراعًا, وذرع تدوير الحجر من خارج أربعون ذراعًا وست أصابع, وذرع ما بين حدات الحجر من الشق الشرقي إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود تسعة وعشرون ذراعًا وأربع عشرة إصبعًا، وذرع ما بين حدات الحجر من شق المغرب إلى حد الركن اليماني اثنان وثلاثون ذراعًا, وذرع طواف واحد حول الكعبة مائة ذراع وثلاثة وعشرون ذراعًا وثنتا عشرة إصبعًا، وذرع طواف سبع حول الكعبة ثمانمائة وستة وستون ذراعًا وعشرون إصبعًا. ما جاء في فضل الركن الأسود: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار قال: سمعت القاسم بن أبي بزة يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: الركن, والمقام من الجنة. وبه قال: حدثني جدي, عن مسلم بن خالد, عن ابن جريج, عن عطاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: ليس في الأرض من الجنة إلا الركن الأسود والمقام, فإنهما جوهرتان من جوهر الجنة, ولولا ما مسهما من أهل ج / 1 ص -256- الشرك, ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله عز وجل. وبه قال: حدثني جدي, عن مسلم بن خالد, وسفيان بن عيينة, عن ابن جريج, عن عطاء, عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال في الركن: لولا ما مسه من أنجاس الجاهلية وأرجاسهم, ما مسه ذو عاهة إلا برأ. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: نزل الركن, وإنه لأشد بياضًا من الفضة، قال: حدثني جدي, عن سفيان, عن ابن جريج مثله. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن وهب بن منبه أن عبد الله بن عباس أخبره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة وهي تطوف معه بالكعبة حين استلم الركن: "لولا ما طبع على هذا الحجر يا عائشة من أرجاس الجاهلية وأنجاسها, إذًا لاستشفي به من كل عاهة, وإذًا لألفي اليوم كهيئته يوم أنزله الله عز وجل وليعيدنه إلى ما خلقه أول مرة, وإنه لياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة, ولكن الله -سبحانه وتعالى- غيره بمعصية العاصين، وستر زينته عن الظلمة والأَثَمة؛ لأنه لا ينبغي لهم أن ينظروا إلى شيء كان بدؤه من الجنة". حدثنا أبو الوليد قال: وحدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار أنهما قالا: لولا ما تمسح به من الأرجاس في الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا شفي, وما من الجنة شيء في الأرض إلا هو. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا إبراهيم بن محمد, عن عبد الله بن عثمان بن خيثم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عز وجل- يبعث الركن الأسود له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به, يشهد لمن استلمه بحق". حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا عبد الله بن يحيى السهمي قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: الركن حجر من حجارة الجنة, ولولا ج / 1 ص -257- ما مسه من الأنجاس لكان كما نزل به. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا عيسى بن يونس قال: حدثني عبد الله بن مسلم بن هرمز, عن محمد بن عباد بن جعفر, عن ابن عباس قال: الركن يمين الله في الأرض, يصافح بها عباده كما يصافح أحدكم أخاه. حدثنا أبو الوليد, حدثنا محمد بن أبي عمر, حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد الأعمى, عن أبيه, عن أبي هارون العبدي, عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى مكة, فلما دخلنا الطواف قام عند الحجر وقال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع, ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك, ثم قبله ومضى في الطواف فقال له علي -عليه السلام: بلى يا أمير المؤمنين, هو يضر وينفع قال: وبم ذلك؟ قال: بكتاب الله تعالى قال: وأين ذلك من كتاب الله تعالى؟ قال: قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} الآية [الأعراف: 172] قال: فلما خلق الله عز وجل آدم مسح ظهره, فأخرج ذريته من صلبه فقررهم أنه الرب وهم العبيد, ثم كتب ميثاقهم في رق, وكان هذا الحجر له عينان ولسان فقال له: "افتح فاك" قال: فألقمه ذلك الرق وجعله في هذا الموضع وقال: "تشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة" قال: فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن. حدثنا أبو الوليد, حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا حماد بن سلمة, عن عبد الله بن عثمان بن خيثم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ليبعثن الله -عز وجل- هذا الحجر يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به, يشهد لمن استلمه بالحق. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني مهدي بن أبي المهدي, حدثنا يحيى بن سليم ج / 1 ص -258- المكي قال: سمعت ابن جريج يقول: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول: سمعت ابن عباس يقول: إن هذا الركن الأسود يمين الله -عز وجل- في الأرض يصافح بها عباده, مصافحة الرجل أخاه. حدثنا أبو الوليد, حدثني جدي, عن عبد الجبار بن الورد المكي قال: سمعت القاسم بن أبي بزة يقول: الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة, وأنزل الركن بين دار السائب بن أبي وداعة وبين دار مروان ودار ابن أبي محذورة. حدثنا مهدي بن أبي المهدي, حدثنا الحكم بن أبان قال: حدثني أبي, عن عكرمة قال: إن الحجر الأسود يمين الله في الأرض, فمن لم يدرك بيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمسح الحجر فقد بايع الله ورسوله. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني مهدي بن أبي المهدي, حدثنا مروان بن معاوية الفزاري, حدثنا العلاء, عن عمرو بن مرة, عن يوسف بن ماهك قال: قال عبد الله بن عمرو: إن جبريل -عليه السلام- نزل بالحجر من الجنة وإنه وضعه حيث رأيتم, وإنكم لم تزالوا بخير ما دام بين ظهرانيكم, فتمسكوا به ما استطعتم, فإنه يوشك أن يجيء فيرجع به من حيث جاء به. حدثنا أبو الوليد, حدثنا مهدي بن أبي المهدي, حدثنا يزيد بن أبي حكيم وابن عمارة وابن بكار, عن الحكم قال: سمعت عكرمة يقول: الركن ياقوتة من يواقيت الجنة, وإلى الجنة مصيره، قال: قال ابن عباس: لولا ما مسه من أيدي الجاهليين لأبرأ الأكمه والأبرص. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني محمد بن يحيى, حدثنا هشام بن سليمان, عن ابن جريج, عن منصور بن عبد الرحمن, عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أنزل الركن والمقام مع آدم -عليه السلام- ليلة نزل بين الركن والمقام, فلما أصبح رأى الركن والمقام فعرفهما فضمهما إليه, وأنس بهما. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني محمد بن يحيى، عن أبيه، عن محمد بن ج / 1 ص -259- عبد الملك بن جريج, عن أبيه أنه قال: كان سلمان الفارسي قاعدًا بين الركن وزمزم والناس يزدحمون على الركن فقال لجلسائه: هل تدرون ما هو؟ قالوا: هذا الحجر قال: قد أرى ولكنه من حجارة الجنة, أما والذي نفس سلمان الفارسي بيده ليجيئن يوم القيامة له عينان ولسان وشفتان, يشهد لمن استلمه بالحق. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني محمد بن يحيى, عن أبيه, عن محمد بن عبد الملك بن جريج, عن أبيه, عن مجاهد أنه قال: يأتي يوم القيامة الركن والمقام كل واحد منهما مثل أبي قبيس, يشهدان لمن وافاهما بالموافاة. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن أبي إسماعيل, عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي حسين, عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن الركن يمين الله عز وجل في الأرض يصافح بها خلقه, والذي نفس ابن عباس بيده, ما من امرئ مسلم يسأل الله عز وجل شيئًا عنده إلا أعطاه إياه، قال عثمان: وحدثت أن الله -تبارك وتعالى- لما أخذ ميثاق العباد جعله في الركن الأسود, فيبعثه الله -عز وجل- بالوفاء بعهده. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي وابن أبي عمر بن عامر قالا: حدثنا عبد الرحمن بن الحسن بن القاسم بن عقبة الأزرقي, عن أبيه, عن عبد الأعلى, عن عبد الله بن عامر بن كريز أنه قدم مع جدته أم عبد الله بن عامر معتمرة, فدخلت عليها صفية بنت شيبة فأكرمتها وأجازتها فقالت صفية: ما أدري ما أكرم به هذه المرأة أما دنياها فعظيمة, فنظرت حصاة مما كان نقر من الركن الأسود حين أصابه الحريق فجعلتها لها في حق ثم قالت لها: انظري هذه الحصاة فإنها حصاة من الركن الأسود, فاغسليها للمرضى فإني أرجو أن يجعل الله سبحانه لهم فيها الشفاء، فخرجت في أصحابها فلما خرجت من الحرم ونزلت في بعض المنازل صرع أصحابها فلم يبق منهم أحد إلا أخذته الحمى, فقامت فصلت ودعت ربها عز وجل, ثم التفتت إليهم فقالت: ج / 1 ص -260- ويحكم, انظروا في رحالكم ماذا خرجتم به من الحرم؟ فما الذي أصابكم إلا بذنب، قالوا: ما نعلم أنا خرجنا من الحرم بشيء قال: قالت لهم: أنا صاحبة الذنب, انظروا أمثلكم حياة وحركة قال: فقالوا: لا نعلم منا أحدًا أمثل من عبد الأعلى قالت: فشدوا له راحلة ففعلوا قال: ثم دعته فقالت: خذ هذا الحق الذي فيه هذه الحصاة فاذهب به إلى أختي صفية بنت شيبة فقل لها: إن الله سبحانه وضع في حرمه وأمنه أمرًا لم يكن لأحد أن يخرجه من حيث وضعه الله تعالى, فخرجنا بهذه الحصاة فأصابتنا فيها بلية عظيمة فصرع أصحابنا كلهم, فإياك أن تخرجيها من حرم الله عز وجل، قال عبد الأعلى: فما هو إلا أن دخلت الحرم, فجعلنا ننبعث رجلًا رجلًا. حدثنا أبو الوليد، حدثني جدي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى, عن أبي الزبير, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس عن أبي بن كعب, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الحجر الأسود نزل به ملك من السماء". وبه حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى, حدثني ليث بن سعد, عن مغيرة بن خالد المخزومي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: الحجر والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة. حدثنا أبو الوليد, حدثني جدي, حدثني إبراهيم بن محمد, حدثني عبد الله بن عثمان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: الركن والمقام من جوهر الجنة. حدثنا أبو الوليد، حدثني جدي, حدثني إبراهيم بن محمد, حدثني عبد الله بن أبي لبيد, عن ابن عباس قال: أنزل الركن الأسود من الجنة وهو يتلألأ تلألؤًا من شدة بياضه, فأخذه آدم -عليه السلام- فضمه إليه أنسًا به. حدثنا أبو الوليد, حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني يحيى بن أبي أنيسة, عن عطاء, عن عبد الله بن عباس قال: سمعته يقول: "الحجر الأسود من حجارة الجنة, ليس في الدنيا من الجنة ج / 1 ص -261- غيره، ولولا ما مسه من دنس الجاهلية وجهلها, ما مسه ذو عاهة إلا برأ". وبه عن عثمان بن ساج قال: أخبرني يحيى بن أبي أنيسة, عن ليث, عن مجاهد, عن عبد الله بن عباس أنه كان يقول: لولا أن الحجر تمسه الحائض وهي لا تشعر, والجنب وهو لا يشعر, ما مسه أجذم ولا أبرص إلا برأ. وبه عن سعيد بن سالم القداح, عن عثمان بن ساج, قال: أخبرني المثنى بن الصباح, عن مسافع الحجبي, عن عبد الله بن عمرو قال: أشهد بالله أن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة, لولا أن الله تعالى أطفأ نورهما لأضاء نورهما ما بين السماء والأرض. وبه عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, أخبرني معمر البصري, عن حميد الأعرج, عن مجاهد قال: الركن من الجنة, ولو لم يكن من الجنة لفني. حدثنا أبو الوليد, أخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, أخبرني يحيى بن أبي أنيسة, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده قال: قال عبد الله بن عمرو بن العاص: كان الحجر الأسود أبيض كاللبن, وكان طوله كعظم الذراع, وما اسوداده إلا من المشركين كانوا يمسحونه, ولولا ذلك ما مسه ذو عاهة إلا برأ. قال عثمان: وأخبرني ابن نبيه الحجبي, عن أمه أنها حدثته أن أباها حدثها أنه رأى الحجر قبل الحريق, وهو أبيض يتلألأ يتراءى الإنسان فيه وجهه. قال عثمان: وأخبرني زهير أنه بلغه أن الحجر من رضراض ياقوت الجنة, وكان أبيض يتلألأ فسوده أرجاس المشركين, وسيعود إلى ما كان عليه قال: وهو يوم القيامة مثل أبي قبيس في العظم، له عينان ولسان وشفتان, يشهد لمن استلمه بحق, ويشهد على من استلمه بغير حق. حدثنا أبو الوليد قال: أخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان ج / 1 ص -262- ابن ساج، عن عطاء, عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: نزل آدم -عليه السلام- من الجنة معه الحجر الأسود متأبطه, وهو ياقوتة من يواقيت الجنة, ولولا أن الله طمس ضوءه ما استطاع أحد أن ينظر إليه, ونزل بالباسنة ونخلة العجوة. قال أبو محمد الخزاعي: الباسنة: آلات الصناع. حدثنا أبو الوليد قال: أخبرني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن أبان بن أبي عياش أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سأل كعبًا عن الحجر فقال: مروة من مرو الجنة. باب ما جاء في تقبيل الركن الأسود, والسجود عليه: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سفيان بن عيينة, عن ابن جريج, عن محمد بن عباد بن جعفر قال: رأيت ابن عباس -رضي الله عنهما- جاء يوم التروية وعليه حلة مرجلا رأسه, فقبل الركن الأسود وسجد عليه, ثم قبله وسجد عليه ثلاثًا. حدثنا أبو الوليد، حدثني جدي, حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن هشام بن عروة, عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال وهو يطوف بالبيت: ما أنت إلا حجر, ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك, يريد: الركن. حدثنا أبو الوليد, حدثني مهدي بن أبي المهدي, حدثنا سفيان بن عاصم, عن ابن سرجس قال: رأيت الأصيلع -يعني عمر بن الخطاب- يقبل الحجر ويقول: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع, ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك, يريد: الركن. حدثنا أبو الوليد, حدثنا مهدي بن أبي المهدي، حدثنا إبراهيم بن الحكم ج / 1 ص -263- ابن أبان, حدثني أبي, حدثني عكرمة قال: كان عمر بن الخطاب إذا بلغ موضع الركن قال: أشهد أنك حجر لا تضر ولا تنفع وإن ربي الله الذي لا إله إلا هو, ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسحك ويقبلك, ما قبلتك ولا مسحتك. وبه حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان, عن أبيه قال: ردف عكرمة مولى ابن عباس دين, فخرج إلى اليمن يسأل فيه حتى بلغ عدن فقال له أبي: كم دينك؟ قال: كذا وكذا قال: فأقم وعلي دينك ومثله, فأقام عنده سنة فسمعت منه ما أريد. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان قال: أخبرني حنظلة بن أبي سفيان الجمحي قال: رأيت طاوسًا أتى الركن فقبله ثلاثًا ثم سجد عليه, وقال: قال عمر: إنك لحجر, ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك. باب ما جاء في فضل استلام الركن الأسود, واليماني: حدثنا أبو الوليد, حدثني جدي, حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار, حدثني معمر, عن عطاء بن السائب أن عبيد بن عمير، قال لابن عمر: إني أراك تزاحم على هذين الركنين فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن استلامهما يحط الخطايا حطًّا". حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثني داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج أن رجلًا يقال له: حميد بن نافع قال لابن عمر: رأيتك تصنع أشياء لا يصنعها غيرك، فقال ابن عمر: إنك لا تزال طاعنًا في شيء, ما هو؟ قال: رأيتك تصفر لحيتك, وتلبس النعال السبنية, ولا تهل في الحج والعمرة ج / 1 ص -264- حتى تنبعث بك ناقتك, ولا تستلم إلا هذين الركنين الشرقيين قال: أما ما ذكرت من تصفير لحيتي فإني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصفر لحيته، وأما ما ذكرت من النعال السبنية فإني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يلبس غيرها حتى مات، وأما ما ذكرت من استلام الركنين الشرقيين فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يستلم غيرهما حتى مات، وأما إهلالي حين تنبعث ناقتي فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يهل حتى تنبعث به راحلته. حدثنا أبو الوليد, حدثني أحمد بن ميسرة المكي, حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد, عن أبيه قال: سمعت غير واحد من أهل المدينة يذكرون أن رجلًا سأل ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن, نراك تفعل خصالًا أربعًا لا يفعلها الناس؛ نراك لا تستلم من الأركان إلا الحجر والركن اليماني، ونراك لا تلبس من النعال إلا السبنية، ونراك تصفر شعرك ويصبغ الناس بالحناء, ونراك لا تحرم حتى تنبعث بك راحلتك وتوجه, فقال عبد الله: إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك. حدثنا أبو الوليد, حدثني أحمد بن ميسرة, عن عبد المجيد بن أبي رواد, عن أبيه قال: وقد سمعت نافعًا يذكر هذه الخصال عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه. الزحام على استلام الركن الأسود, والركن اليماني: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني أحمد بن ميسرة, عن عبد المجيد بن عبد العزيز, عن أبيه, حدثني نافع عن ابن عمر, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان لا يدع الركن الأسود, والركن اليماني أن يستلمهما في كل طواف أتى عليهما، قال: وكان لا يستلم الآخرين. قال: وأخبرني نافع أن ابن عمر كان لا ج / 1 ص -265- يدعهما في كل طوف طاف بهما حتى يستلمهما, لقد زاحم على الركن مرة في شدة الزحام حتى رعف, فخرج فغسل عنه ثم رجع, فعاد يزاحم فلم يصل إليه حتى رعف الثانية, فخرج فغسل عنه ثم رجع فما تركه حتى استلمه. حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني ابن ميسرة, عن عبد المجيد, عن أبيه, عن نافع قال: لقد رأيت ابن عمر زاحم مرة على الركن اليماني حتى انبهر, فتنحى فجلس في ناحية الطواف حتى استراح ثم عاد, فلم يدعه حتى استلمه. قال أحمد بن ميسرة: قال: أخبرنا عبد المجيد قال أبي: ليس هذا بواجب على الناس, ولكنه كان يحب أن يصنع كما صنع النبي -صلى الله عليه وسلم. حدثنا أبو الوليد, حدثني جدي, حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, أخبرني حنظلة بن أبي سفيان الجمحي قال: سمعت سالم بن عبد الله يقول: إن عبد الله بن عمر كان لا يترك استلام الركنين في زحام ولا غيره, حتى رأيته زاحمنا عنه يوم النحر وأصابه دم, فقال: قد أخطأنا هذه المرة. حدثنا أبو الوليد, حدثني جدي, حدثنا ابن عيينة, عن إبراهيم بن أبي حرة قال: كنت أزاحم أنا وسالم بن عبد الله بن عمر على الركن حتى نستلمه. قال سفيان: وقال غير إبراهيم بن أبي حرة: كان سالم بن عبد الله لو زاحم الإبل لزحمها. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سفيان بن عيينة, عن طلحة بن يحيى قال: سألت القاسم بن محمد عن استلام الركن فقال: استلمه وزاحم عليه يابن أخي؛ فقد رأيت ابن عمر يزاحم عليه حتى يدمى. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن هشام بن عروة, عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الرحمن بن عوف: "كيف فعلت يا أبا محمد في استلام الركن الأسود؟" قال: كل ذلك أستلم وأترك قال: "أصبت, وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجنه, يكره أن يضرب عنه الناس. ج / 1 ص -266- حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا ابن عيينة, عن أبي يعقوب العبدي قال: سمعت رجلًا من خزاعة كان أميرًا على مكة منصرف الحاج عن مكة يقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر بن الخطاب: "يا عمر, إنك رجل قوي وإنك تؤذي الضعيف, فإذا رأيت خلوة فاستلمه وإلا فكبر وامض". حدثنا أبو الوليد, حدثني جدي, حدثنا سفيان بن عيينة, عن هشام بن عروة, عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الرحمن بن عوف: "كيف صنعت يا أبا محمد في استلام الحجر؟" وكان قد استأذنه في العمرة فقال: كلا قد فعلت, استلمت وتركت, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "أصبت". حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثني داود بن عبد الرحمن, عن هشام بن عروة أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يستلم إذا وجد فجوة, فإذا اشتد الزحام كبر كلما حاذاه. حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا جدي, حدثنا سعيد بن سالم, عن ابن جريج, أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول: إذا وجدت على الركن زحامًا فلا تؤذ, ولا تؤذى. حدثنا أبو الوليد, حدثني جدي, حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, أخبرني حنظلة بن أبي سفيان الجمحي قال: كان طاوس قل ما استلم الركنين إذا رأى عليهما زحامًا قال: وقال ابن عباس: لا تؤذ مسلمًا, ولا يؤذيك, إن رأيت منه خلوة فقبله أو استلمه وإلا فامض. ج / 1 ص -267- الختم بالاستلام, والاستلام في كل وتر: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثني داود بن عبد الرحمن, عن هشام بن عروة كان يختم طوافه باستلام الأركان كلها, وكان لا يدع الركن اليماني إلا أن يغلب عليه. حدثني جدي, حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح قال: طفنا مع طاوس حتى إذا حاذى بالركن قال: استلموا بنا هذا لنا خامس, قال ابن أبي نجيح: فظننت أنه يستحب أن يستلمه في الوتر. استلام الركنين الغربيين اللذين يليان الحجر: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, أخبرني موسى بن عقبة, عن أبي النضر أن عبد الله بن عمر لم يكن يدع الركنين اللذين يليان الحجر إلا أنه كان يرى أن البيت لم يتمم في ذلك الوجه. وبه عن عثمان بن ساج, أخبرني عثمان بن الأسود, عن مجاهد أنه قال: الركنان اللذان يليان الحجر لا يستلمان. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني أحمد بن ميسرة, عن عبد المجيد, عن أبيه, حدثني نافع, عن ابن عمر أنه طاف معه مرة, فلما حاذى الركن الغربي ذهب ليستلم وهو ناسٍ, فلما مد يده قبضها ولم يستلم, ثم أقبل علي فقال: إني نسيت. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم، عن ابن ج / 1 ص -268- جريج, أخبرني سليمان بن عتيق, عن عبد الله بن باباه, عن بعض آل يعلى بن أمية, عن يعلى بن أمية قال: طفت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فاستلمنا الركن الأسود، قال يعلى: فكنت مما يلي باب البيت, فلما حاذينا الركن الشامي مددت يدي لأستلم فقال: ما شأنك؟ فقلت: ألا تستلم؟ فقال: ألم تطف مع النبي -صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: بلى قال: أفرأيته يستلم هذين الركنين الغربيين؟ قال: قلت: لا، قال: أفليس لك في رسول الله أسوة حسنة؟ قال: قلت: بلى قال: فابعد عنه. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد, عن عثمان, عن موسى بن عقبة, أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر, أنه لم يزل يرى أباه عبد الله بن عمر في حج ولا عمرة إذا طاف بالبيت يدع مس الركن الأسود واليماني, وأنه لم يره يمس الركنين الآخرين. ترك استلام الأركان: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثني يحيى بن سليم, حدثنا إسماعيل بن كثير قال: حدثني مجاهد قال: كنا مع عبد الله بن عمر في الطواف فنظر إلى رجل يطوف كالبدوي, طويل مضطرب حجرة من الناس فقال: أي شيء تصنع ههنا؟ قال: أطوف فقال: مثل الجمل تخبط, ولا تستلم ولا تكبر ولا تذكر الله تعالى ثم قال له: ما اسمك؟ قال: حنين, قال: فكان ابن عمر إذا رأى الرجل لا يستلم الركن قال: أحنيني هو؟ حدثنا أبو الوليد, حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن جريج أن عبد الله بن عمر رأى رجلًا يطوف بالبيت لا يستلم فقال: يا هذا, ما تصنع ههنا؟ قال: أطوف قال: ما طفت. ج / 1 ص -269- وبه عن عثمان بن ساج قال: وأخبرني ابن أبي أنيسة, عن عطاء بن أبي رباح قال: طفت مع جابر بن عبد الله, ومع عبد الله بن عمرو بن العاص, ومع ابن عباس, ومع أبي سعيد الخدري, فما رأيت منهم إنسانًا استلمه حتى فرغ. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا ابن عيينة قال: رأيت عبد الله بن طاوس وطفت معه, فلما حاذى الركن رفع يده وكبر. استلام النساء الركن: حدثنا أبو الوليد, حدثني جدي, عن الزنجي, عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء قال: قالت امرأة وهي تطوف مع عائشة: انطلقي فاستلمي يا أم المؤمنين, فجذبتها وقالت: انطلقي عنا, وأبت أن تستلم. حدثنا أبو الوليد, حدثنا محمد بن أبي عمر, حدثنا حكام بن سلم الرازي, حدثنا المثنى بن الصباح قال: كنا نطوف مع عطاء بن أبي رباح فرأى امرأة تريد أن تستلم الركن, فصاح بها وزجرها: غطي يديك, لا حق للنساء في استلام الركن. قال أبو محمد: حدثنا يحيى بن المقرئ, حدثنا حكام بن سلم بإسناده مثله. تقبيل الركن اليماني, ووضع الخد عليه: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي وعبد الله بن مسلمة القعنبي قالا: حدثنا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي, حدثنا عبد الله بن مسلم بن هرمز, عن مجاهد قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستلم الركن اليماني, ويضع خده عليه. ج / 1 ص -270- استلام الركن اليماني, وفضله: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا سعيد بن سالم القداح, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يمر بالركن اليماني إلا وعنده ملك يقول: يا محمد, استلم. وبه عن عثمان, أخبرني ياسين, عن عبد الله بن حميد, عن إبراهيم النخعي, عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما مررت بالركن اليماني إلا وجدت جبريل عليه قائمًا". وبه قال: وأخبرني ياسين, عن عبد الله بن الزبير, عن أبيه أنه قال: يا بني, أدنني من الركن اليماني؛ فإنه كان يقال: إنه باب من أبواب الجنة. وبه عن عثمان قال: وأخبرني جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي, وقد مررنا قريبًا من الركن اليماني ونحن نطوف دونه فقلت: ما أبرد هذا المكان فقال: قد بلغني أنه باب من أبواب الجنة. وبه عن عثمان قال: وبلغني عن عطاء قال: قيل: يا رسول الله, رأيناك تكثر استلام الركن اليماني، قال: فقال -إن كان قاله: "ما أتيت عليه قط إلا وجبريل قائم عنده, يستغفر لمن استلمه". وبه عن عثمان, وأخبرني زهير بن محمد, عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين, عن مجاهد قال: من وضع يده على الركن اليماني ثم دعا, استجيب له قال: قلت له: قم بنا يا أبا الحجاج فلنفعل ذلك, ففعلنا ذلك. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, أخبرنا سعيد عن عثمان بن ساج, حدثنا عثمان بن الأسود, عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين, عن مجاهد قال: ما من إنسان يضع يده على الركن اليماني ويدعو, إلا استجيب له، قال: وبلغني أن بين الركن اليماني والركن الأسود سبعين ألف ملك لا يفارقونه, هم هنالك منذ خلق الله سبحانه البيت. ج / 1 ص -271- باب ما يقال عند استلام الركن الأسود: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: هل بلغك من قول يستحبّ عنده استلام الركن؟ قال: لا، وكأنه يأمر بالتكبير. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد, عن ابن جريج, عن نافع, عن ابن عمر أنه كان إذا استلم الركن قال: باسم الله, والله أكبر. حدثنا أبو الوليد قال: وأخبرني جدي, عن سعيد بن سالم قال: أخبرني موسى بن عبيدة, عن سعيد بن إبراهيم, عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كان يقول إذا كبر لاستلام الحجر: باسم الله, والله أكبر على ما هدانا الله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، آمنت بالله, وكفرت بالطاغوت وباللات والعزى وما يدعى من دون الله، إن وليي الله الذي نزل الكتاب, وهو يتولى الصالحين. قال عثمان: بلغني أنه يستحب أن يقال عند استلام الركن: باسم الله, والله أكبر, اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بما جاء به محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ج / 1 ص -272- باب ما يقال من الكلام بين الركن الأسود واليماني: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا سعيد بن سالم, عن ابن جريج, أخبرني يحيى بن عبيد أن عبد الله بن السائب أخبره أن أباه أخبره أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول فيما بين الركن اليماني والركن الأسود: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة, وقنا عذاب النار". حدثنا أبو الوليد, حدثني جدي, أخبرنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, أخبرني ياسين, حدثني إبراهيم, عن الحجاج بن الفرافصة, عن علي بن أبي طالب أنه كان إذا مر بالركن اليماني قال: باسم الله والله أكبر والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورحمة الله وبركاته, اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر والذل ومواقف الخزي في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة, وقنا عذاب النار. وبه عن عثمان قال: وأخبرني ياسين قال: أخبرني أبو بكر بن محمد, عن سعيد بن المسيب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا مر بالركن اليماني قال: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والذل والفقر ومواقف الخزي في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة, وقنا عذاب النار"، فقال رجل: يا رسول الله, أرأيت إن كنت عجلا قال: "وإن كنت أسرع من برق الخلب". قال أبو محمد الخزاعي: الخلب: السحاب الذي ليس فيه مطر. قال: وأخبرت أن ابن عباس -رضي الله عنهما- كان يقول بين الركنين: اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه, واحفظني في كل غائبة لي بخير, إنك على كل شيء قدير. قال عثمان: وبلغني أن رجلًا كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول بين الركن الأسود والركن اليماني ثلاث مرات: "اللهم أنت الله وأنت الرحمن, لا ج / 1 ص -273- إله غيرك وأنت الرب لا رب غيرك, وأنت القائم الدائم الذي لا تغفل, وأنت الذي خلقت ما يرى وما لا يرى, وأنت علمت كل شيء بغير تعليم, فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- من صنيعه فقال -إن كان قاله والله أعلم: "بشروه بالجنة, وأخبروه أنه في قومه مثل صاحب ياسين في قومه". حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثني عيسى بن يونس, حدثنا عبد الله بن مسلم بن هرمز, عن مجاهد أنه كان يقول: ملك موكل بالركن اليماني منذ خلق الله السموات والأرض يقول: آمين فقولوا: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة, وقنا عذاب النار. حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن ابن جريج, عن عمر بن قتادة, عن سالم بن عبد الله, عن أبيه قال: على الركن اليماني ملكان موكلان يؤمنان على دعاء من يمر بهما, وإن على الأسود ما لا يحصى. ما يقال عند استلام الركن, ومن أي جانب يستلم: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا ابن عيينة, عن عبد الكريم بن أبي أمية قال: يقال عند استلام الركن: اللهم إجابة دعوة نبيك, واتباع رضوانك, وعلى سنة نبيك -صلى الله عليه وسلم. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا سفيان بن عبد الكريم, عن مجاهد قال: لا بأس أن يستلم الحجر من قبل الباب. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, وأخبرني خصيف بن عبد الرحمن أن مجاهدًا قال له: لا تستلم الحجر من قبل الباب, ولكن استقبله استقبالًا. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن مسلم بن خالد, عن ابن جريج قال: أخبرت أن طاوسًا استقبله حين ابتدأ الطواف. حدثنا أبو الوليد، قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, أخبرني المثنى بن الصباح أن عطاء كان يستلم الحجر من أين شاء. ج / 1 ص -274- ما جاء في رفع الركن الأسود: حدثنا أبو الوليد، قال: أخبرني جدي, حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج قال: أخبرني زهير بن محمد, عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي, عن أمه, عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أكثروا استلام هذا الحجر؛ فإنكم توشكون أن تفقدوه بينما الناس يطوفون به ذات ليلة إذا أصبحوا وقد فقدوه, إن الله عز وجل لا يترك شيئًا من الجنة في الأرض إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة". حدثنا أبو الوليد، قال: حدثني جدي, عن سعيد بن عثمان, أخبرني إبراهيم الصائغ, عن رجل, عن عمرو بن ميمون الأودي, عن يوسف بن ماهك قال: إن الله تعالى جعل الركن عيد أهل هذه القبلة كما كانت المائدة عيدًا لبني إسرائيل, وإنكم لن تزالوا بخير ما دام بين ظهرانيكم, وإن جبريل وضعه في مكانه, وإنه يأتيه فيأخذه من مكانه. قال عثمان: وحدثت عن مجاهد أنه قال: كيف بكم إذا أسري بالقرآن ورفع من صدوركم ونسخ من قلوبكم ورفع الركن؟ قال عثمان: وبلغني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أول ما يرفع: الركن, والقرآن, ورؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام". حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, أخبرنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن مقاتل, عن علقمة بن مرثد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن الله تعالى يرفع القرآن من صدور الرجال, والحجر الأسود قبل يوم القيامة. ج / 1 ص -275- ما جاء في تقبيل الأيدي إذا استلم الركن: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثني جدي, حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن جريج, عن عطاء قال: رأيت عبد الله بن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله إذا استلموا الحجر قبلوا أيديهم, قال ابن جريج: قلت له: وابن عباس؟ قال: وابن عباس حسبت كثيرًا. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا عبد الله بن يحيى السهمي قال: رأيت عطاء بن أبي رباح وعكرمة بن خالد وابن أبي مليكة يطوفون بعد العصر ويصلون، ورأيتهم يستلمون الركن الأسود واليماني ويقبلون أيديهم ويمسحون بها وجوههم, وربما استلموا ولا يمسحون بها أفواههم ولا وجوههم. حدثنا أبو الوليد، قال: حدثني جدي, حدثنا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق, عن عبد الله بن أبي زياد قال: رأيت عطاء ومجاهدًا وسعيد بن جبير إذا استلموا الركن, قبلوا أيديهم. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن الزنجي, عن ابن جريج قال: قال عمرو بن دينار: جفا من استلم الركن ولم يقبل يده، قال ابن جريج: وأخبرت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا طاف على راحلته يستلم الركن بمحجنه, ثم يقبل طرف المحجن. حدثنا أبو الوليد، قال: حدثني جدي, حدثنا سفيان أنه سمع حميد بن حيان قال: رأيت سالم بن عبد الله إذا استلم يضع يده على خده أو جبهته، قال سفيان: ورأيت أيوب بن موسى إذا استلم الركن, يضع يده على جبهته أو على خده. حدثنا أبو الوليد، قال: حدثني جدي، عن سفيان, عن عبد الكريم, عن مجاهد قال: لا بأس أن تستلم الحجر من قبل الباب. ج / 1 ص -276- أول من استلم الركن الأسود قبل الصلاة, وبعدها من الأئمة: حدثنا أبو الوليد, قال: حدثني جدي، حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: أول من استلم الركن الأسود من الأئمة قبل الصلاة وبعدها ابن الزبير, فاستحسنت ذلك الولاة بعده فاتبعته. ذكر ما يدور بالحجر الأسود من الفضة: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: كان ابن الزبير أول من ربط الركن الأسود بالفضة لما أصابه الحريق, ثم كانت الفضة قد رقت وتزعزعت وتقلقلت حول الحجر الأسود حتى خافوا على الركن أن ينقص, فلما اعتمر أمير المؤمنين هارون الرشيد وجاور في سنة تسع وثمانين ومائة أمر بالحجارة التي بينها الحجر الأسود، فثقبت بالماس من فوقها وتحتها ثم أفرغ فيها الفضة, وكان الذي عمل ذلك ابن الطحان مولى ابن المشمعل, وهي الفضة التي هي عليه اليوم. ج / 1 ص -277- ذكر ذرع ما يدور بالحجر الأسود من الفضة: ذراع وأربع أصابع، وذرع ما بين الحجر إلى الأرض ذراعان وثلثا ذراع، وذرع ما بين الركن والمقام ثمانية وعشرون ذراعًا، وحول الحجر الأسود طوق من فضة مفرغ وهو يلي الجدر, ودخول الفضة التي حول الحجر الأسود ودخول الحجر الأسود في الجدر عن وجه حد الجدر إصبعان ونصف. ما جاء في الملتزم, والقيام في ظهر الكعبة: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا مسلم بن خالد, عن أبي الزبير المكي, عن ابن عباس قال: الملتزم والمدعى والمتعوذ ما بين الحجر والباب، قال أبو الزبير: فدعوت هنالك بدعاء بحذاء الملتزم, فاستجيب لي. حدثنا أبو الوليد، قال: حدثني جدي, أخبرنا ابن عيينة, عن حميد, عن مجاهد قال: رأيت ابن عباس, وهو يستعيذ ما بين الركن والباب. حدثنا أبو الوليد، قال: حدثني جدي, حدثنا يحيى بن سليم, حدثنا عثمان بن الأسود, عن مجاهد قال: ما بين الركن والباب يدعى الملتزم, ولا يقوم عبد ثم يدعو الله -عز وجل- بشيء إلا استجاب له. حدثنا أبو الوليد قال: وحدثني جدي, حدثنا سفيان, عن عبد الكريم, عن مجاهد قال: الصق خديك بالكعبة, ولا تضع جبهتك. حدثنا أبو الوليد, حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي, حدثنا عيسى بن يونس, عن المثنى بن الصباح, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه قال: طفت مع عبد الله بن عمرو, فلما جئنا دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ؟ قال: أعوذ بالله ج / 1 ص -278- من النار, ثم مضى حتى استلم الحجر, فقام بين الركن والباب ثم وضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه بسطًا, وقال: هكذا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل. حدثنا أبو الوليد, حدثني جدي, عن مسلم بن خالد الزنجي, عن عثمان بن يسار, عن المغيرة بن حكيم, عن سعد بن خيثمة أنه رأى أناسًا يتعلقون بالبيت فقال: والله لو رأيتنا وما نفعل هذا والله ما يرضى بعضهم حتى إنه ليستدبرها باسته. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني محمد بن يحيى, حدثنا عبد العزيز بن عمران, عن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير, عن عطاء قال: مر ابن الزبير بعبد الله بن عباس بين الباب والركن الأسود فقال: ليس ههنا الملتزم، الملتزم دبر البيت، قال ابن عباس: هناك ملتزم عجائز قريش. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, أخبرني المثنى بن الصباح عن عطاء قال: طاف عبد الملك بن مروان, والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة أسبوعًا حتى إذا كانا في دبر الكعبة تعوذ عبد الملك, فقال الحارث: أتدري من أحدث هذا؟ أحدثه عجائز قومك. قال عثمان: وبلغني عن مجاهد قال: قال معاوية بن أبي سفيان: من قام عند ظهر البيت فدعا, استجيب له, وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. حدثنا أبو الوليد, حدثنا سفيان بن حرب, حدثنا حماد بن زيد, عن أيوب قال: رأيت القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز يقفان في ظهر الكعبة بحيال الباب, فيتعوذان ويدعوان. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, حدثني زهير بن أبي بكر المديني, عن عطاء, عن ابن عباس قال: من التزم الكعبة ثم دعا استجيب له، فقيل له: وإن كانت استلامة ج / 1 ص -279- واحدة؟ قال: وإن كانت أوشك من برق الخلب. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني محمد بن يحيى, حدثنا هشام بن سليمان المخزومي, عن عبد الله بن أبي سليمان مولى بني مخزوم أنه قال: طاف آدم سبعًا بالبيت حين نزل, ثم صلى وجاه باب الكعبة ركعتين, ثم أتى الملتزم فقال: اللهم إنك تعلم سريرتي وعلانيتي فاقبل معذرتي, وتعلم ما في نفسي وما عندي فاغفر لي ذنوبي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، اللهم إني أسألك إيمانًا يباشر قلبي, ويقينًا صادقًا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي, والرضا بما قضيت علي, فأوحى الله تعالى إليه: "يا آدم, قد دعوتني بدعوات واستجبت لك, ولن يدعوني بها أحد من ولدك إلا كشفت همومه وغمومه, وكففت عليه ضيعته, ونزعت الفقر من قلبه, وجعلت الغنى بين عينيه, وتجرت له من وراء تجارة كل تاجر, وأتته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها" قال: فمنذ طاف آدم كانت سنة الطواف. حدثنا أبو الوليد, حدثني أحمد بن نصر العرني, عن عثمان بن اليمان, عن حفص بن سليمان, عن علقمة بن مرثد, عن سليمان بن بريدة, عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "طاف آدم بالبيت سبعًا حين نزل..." ثم نسق مثل هذا الحديث. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن ابن عيينة, عن حميد بن قيس, عن مجاهد قال: جئت ابن عباس وهو يتعوذ بين الباب والركن الأسود فقلت له: كيف تقرأ هذه الآية قالوا: "ساحران تظاهرا"؟ قال لي عكرمة مولاه: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا}. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن عبد المجيد, عن ابن جريج والمثنى بن الصباح, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه أنه قال: طاف محمد بن عبد الله بن عمرو مع أبيه عبد الله بن عمرو بن العاص, فلما كان في السابع أخذ بيده إلى دبر الكعبة فجبذه, وقال أحدهما: أعوذ بالله من النار، وقال ج / 1 ص -280- الآخر: أعوذ بالله من الشيطان, ثم مضى حتى أتى الركن فاستلمه, ثم قام بين الركن والباب فألصق وجهه وصدره بالبيت وقال: هكذا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن يحيى بن سليم, عن محمد بن السائب بن بركة, عن أمه أن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسلت إلى أصحاب المصابيح فأطفئوها ثم طافت في ستر وحجاب, قالت: وطفت معها فطافت ثلاثة أسبع, كلما طافت سبعًا وقفت بين الباب والحجر تدعو. حدثنا أبو الوليد، حدثني جدي, عن يحيى بن سليم, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد قال: كان يقال: ما بين الباب والحجر يدعى الملتزم, ولا يقوم عبد عنده فيدعو إلا رجوت أن يستجاب له، قال أبو الوليد: ذرع الملتزم وهو ما بين باب الكعبة وحد الركن الأسود أربعة أذرع. ما جاء في الصلاة في وجه الكعبة: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, أخبرنا مسلم بن خالد, عن عبد الرحمن بن الحارث, عن حكيم بن حكيم, عن نافع بن جبير بن مطعم عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمني جبريل عند باب الكعبة مرتين". حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عطاء أن موسى بن عبد الله بن جميل سلم على ابن عباس وهو يصلي في وجه الكعبة, فأخذ بيده. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح، ج / 1 ص -281- قال: قال عبد الله بن عمرو بن العاص: البيت كله قبلة, وقبلته وجهه, فإن أخطأك وجهه فقبلة النبي -صلى الله عليه وسلم، وقبلة النبي -صلى الله عليه وسلم- ما بين الميزاب إلى الركن الشامي الذي يلي المقام. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, عن سفيان, عن عمرو قال: رأيت ابن الزبير إذا صلى العصر تقدم إلى وجه الكعبة, فصلى ركعتين. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, حدثنا داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج, عن محمد بن عباد عن جعفر, عن ابن السائب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى يوم الفتح في وجه الكعبة حذو الطرقة البيضاء, ثم رفع يديه فقال: "هذه القبلة" قال أبو الوليد: قال جدي: كان داود بن عبد الرحمن يشير لنا إلى الموضع الذي صلى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجه الكعبة قبل أن يطلى على الشاذروان الذي تحت إزار الكعبة الجص والمرمر عند الحجر السابع أو التاسع، قال جدي: الذي يشك في باب الحجر الشرقي، قال أبو الوليد: قال جدي: إن رأيت المرمر والجص قد قرف عن الشاذروان فعد سبعة أحجار من باب الحجر الشرقي, فإن كان السابع حجرا طويلا من أطول السبعة فيه حفر شبه النقر فهو الموضع وإلا فهو التاسع، قال داود: وكان ابن جريج يشير لنا إلى هذا الموضع ويقول: هذا الموضع الذي صلى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الموضع الذي جعل فيه المقام حين ذهب به سيل أم نهشل إلى أن قدم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فرده إلى موضعه الذي كان فيه في الجاهلية, وفي عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر -رضي الله عنه- وبعض خلافة عمر -رضي الله عنه- إلى أن ذهب به السيل. إلى هنا انتهى الجزء الأول من كتاب "أخبار مكة" ويليه -إن شاء الله- الجزء الثاني، وأوله: باب ما جاء في فضل الطواف. ج / 1 ص -283- فهرس موضوعات الجزء الأول: الموضوع الصفحة مقدمة التحقيق 3 ذكر ما كانت الكعبة الشريفة عليه فوق الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض, وما جاء في ذلك 9 ذكر بناء الملائكة الكعبة قبل خلق آدم, ومبتدأ الطواف كيف كان 10 ذكر زيارة الملائكة البيت الحرام شرفها الله 12 ذكر هبوط آدم إلى الأرض, وبنائه الكعبة, وحجه وطوافه بالبيت 13 ما جاء في حج آدم -عليه السلام- ودعائه لذريته 19 سنة الطواف 21 ذكر وحشة آدم في الأرض حين نزلها, وفضل البيت الحرام والحرم 22 ما جاء في البيت المعمور 25 ما جاء في رفع البيت المعمور زمن الغرق, وما جاء فيه 26 ذكر بناء ولد آدم البيت الحرام بعد موت آدم عليه السلام 27 ما جاء في طواف سفينة نوح -عليه السلام- زمن الغرق بالبيت الحرام 28 أمر الكعبة بين نوح, وإبراهيم عليهما السلام 28 ما ذكر من تخير إبراهيم -عليه السلام- موضع البيت الحرام من الأرض 29 باب ما جاء في إسكان إبراهيم ابنه إسماعيل, وأمه هاجر في بدء أمره عند البيت الحرام كيف كان 30 ما ذكر من نزول جرهم مع أم إسماعيل في الحرم 33 ما ذكر من بناء إبراهيم -عليه السلام- الكعبة 35 ذكر حج إبراهيم -عليه السلام- وأذانه بالحج وحج الأنبياء بعده, وطوافه وطواف الأنبياء بعده 43 قوله عز وجل: {إن أول بيت وضع للناس} وما جاء في ذلك 50 ج / 1 ص -284- ما جاء في مسألة إبراهيم الأمن والرزق لأهل مكة -شرفها الله تعالى- والكتب التي وجد فيها تعظيم الحرم 51 ذكر ولاية بني إسماعيل بن إبراهيم الكعبة بعده, وأمر جرهم 55 ما ذكر من ولاية خزاعة الكعبة بعد جرهم, وأمر مكة 63 باب ما جاء في ولاية قصي بن كلاب البيت الحرام, وأمر مكة بعد خزاعة, وما ذكر من ذلك 74 ما جاء في انتشار ولد إسماعيل وعبادتهم الحجارة, وتغيير الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام 86 باب ما جاء في أول من نصب الأصنام في الكعبة, والاستقسام بالأزلام 87 باب ما جاء في أول من نصب الأصنام, وما كان من كسرها 88 باب ما جاء في الأصنام التي كانت على الصفا والمروة, ومن نصبها, وما جاء في ذلك 93 ما جاء في مناة, وأول من نصبها 94 باب ما جاء في اللات والعزى, وما جاء في بدوهما كيف كان 95 ما جاء في ذات أنواط 98 ما جاء في كسر الأصنام 99 مسير تبع إلى مكة شرفها الله تعالى 100 ذكر مبتدأ حديث الفيل 102 ذكر الفيل حين ساقته الحبشة 104 ما جاء في شواهد الشعر في ذلك 121 ما جاء في ذكر بناء قريش الكعبة في الجاهلية 123 باب ما جاء في فتح الكعبة، ومتى كانوا يفتحونها؟ ودخولهم إياها، وأول من خلع النعل والخف عند دخولها 137 حج أهل الجاهلية وإنساء الشهور ومواسمهم, وما جاء في ذلك 142 إكرام أهل الجاهلية الحاج 155 إطعام أهل الجاهلية حاج البيت 155 ما جاء في حريق الكعبة, وما أصابها من الرمي من أبي قبيس بالمنجنيق 156 ج / 1 ص -285- باب ما جاء في بناء ابن الزبير الكعبة، وما زاد فيها من الأذرع التي كانت في الحجر من الكعبة, وما نقص منها الحجاج 159 ما جاء في مقلع الكعبة من أين قلع 176 في معاليق الكعبة وقرني الكبش, ومن علق تلك المعاليق 177 نسخة ما في اللوح الذي في جوف الكعبة, الذي كان مع السرير 180 نسخة الكتابين اللذين كتبا في بطن الكعبة اللذين شهد عليهما, ونسخة الشرط الذي كتبه محمد ابن أمير المؤمنين في بطن الكعبة 184 نسخة الشرط الذي كتبه عبد الله بن هارون أمير المؤمنين في بطن الكعبة 189 نسخة ما كان حفر على صحيفة التاج 191 ذكر الجب الذي كان في الجاهلية في الكعبة, ومال الكعبة الذي يهدى لها, وما جاء في ذلك 193 ذكر من كسا الكعبة في الجاهلية 197 ذكر كسوة الكعبة في الإسلام, وطيبها, وخدمها, وأول من فعل ذلك 199 ما جاء في تجريد الكعبة, وأول من جردها 203 ما جاء في دفع النبي -صلى الله عليه وسلم- المفتاح إلى عثمان بن طلحة 208 الصلاة في الكعبة, وأين صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- منها؟ 211 ما جاء في رقي بلال الكعبة, وأذانه عليها يوم الفتح 216 باب ما جاء في الحبشي الذي يهدم الكعبة, وما جاء فيمن أرادها بسوء وغير ذلك 218 ما يقال عند النظر إلى الكعبة 220 ما جاء في أسماء الكعبة ولم سميت الكعبة؟ ولئلا يبنى بيت يشرف عليها 221 ما جاء في قول الله عز وجل: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنًا} 224 ما جاء في قول الله سبحانه: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس} 224 ما جاء في تطهير إبراهيم وإسماعيل البيت للطائفين والقائمين والركع السجود, وما جاء في ذلك 225 ما جاء في أول من استصبح حول الكعبة, وفي المسجد الحرام بمكة وليلة هلال المحرم 226 ج / 1 ص -286- ذكر ما كان عليه ذرع الكعبة حتى صار إلى ما هو عليه اليوم من خارج وداخل 228 باب ذرع البيت من خارج 229 ذرع الكعبة من داخلها 229 ذرع ما بين الأساطين 231 صفة الروازن التي للضوء في سقف الكعبة 232 صفة الجزعة وذرعها 232 صفة الدرجة 232 صفة الإزار الرخام الأسفل, الذي في بطن الكعبة 233 صفة الإزار الأعلى 234 صفة المسامير التي في بطن الكعبة 235 صفة فرش أرض البيت بالرخام 235 ذكر ما غير من فرش أرض الكعبة 236 صفة باب الكعبة 243 باب صفة الشاذروان, وذرع الكعبة 245 ذكر الحجر 246 الجلوس في الحجر, وما جاء في ذلك 249 ما جاء في الدعاء, والصلاة عند مثعب الكعبة 252 صفة الحجر, وذرعه 254 ما جاء في فضل الركن الأسود 255 باب ما جاء في تقبيل الركن الأسود, والسجود عليه 262 باب ما جاء في فضل استلام الركن الأسود, واليماني 263 الزحام على استلام الركن الأسود, والركن اليماني 264 الختم بالاستلام, والاستلام في كل وتر 267 استلام الركنين الغربيين اللذين يليان الحجر 267 ترك استلام الأركان 268 استلام النساء الركن 269 ج / 1 ص -287- تقبيل الركن اليماني, ووضع الخد عليه 269 استلام الركن اليماني وفضله 270 باب ما يقال عند استلام الركن الأسود 271 باب ما يقال من الكلام بين الركن الأسود واليماني 272 ما يقال عند استلام الركن, ومن أي جانب يستلم؟ 273 ما جاء في رفع الركن الأسود 274 ما جاء في تقبيل الأيدي إذا استلم الركن 275 أول من استلم الركن الأسود قبل الصلاة, وبعدها من الأئمة 276 ذكر ما يدور بالحجر الأسود من الفضة 276 ذكر ذرع ما يدور بالحجر الأسود من الفضة 277 ما جاء في الملتزم, والقيام في ظهر الكعبة 277 ما جاء في الصلاة في وجه الكعبة 280 فهرس موضوعات الجزء الأول 283 أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ج / 2 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم ذكر الطواف: باب ما جاء في فضل الطواف بالكعبة: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي، حدثنا داود بن عبد الرحمن حدثني معمر، عن عطاء بن السائب عن عبيد بن عمير، عن ابن عمر أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من طاف بالبيت كتب الله عز وجل له بكل خطوة حسنة ومحا عنه سيئة". حدثنا أبو الوليد حدثني جدي، حدثني عيسى بن يونس عن عبد الله بن أبي سليمان، حدثني مولى أبي سعيد الخدري قال: رأيت أبا سعيد يطوف بالبيت وهو متكئ على غلام له يقال له طهمان وهو يقول: لأن أطوف بهذا البيت أسبوعًا لا أقول فيه هجرًا، وأصلي ركعتين أحب إلي من أن أعتق طهمان، وضرب بيده على منكبه. حدثنا أبو الوليد حدثني جدي، أخبرنا الزنجي عن ابن جريج، أخبرني قدامة بن موسى بن قدامة بن مظعون أن أنس بن مالك قدم المدينة، فركب إليه عمر بن عبد العزيز فسأله عن الطواف للغرباء أفضل أم العمرة؟ قال: بل الطواف. حدثنا أبو الوليد حدثني جدي عن الزنجي، عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "هذا البيت دعامة الإسلام من خرج يؤم هذا البيت من حاج أو معتمر كان مضمونًا على الله إن قبضه أن يدخله الجنة، وإن رده أن يرده بأجر وغنيمة". وعن العلاء المكي، عن جابر بن ساج الجزري قال: جلس كعب الأحبار ج / 2 ص -4- أو سلمان الفارسي بفناء البيت، فقال: شكت الكعبة إلى ربها عز وجل ما نصب حولها من الأصنام، وما استقسم به من الأزلام فأوحى الله تعالى إليها أني منزل نورًا، وخالق بشرًا يحنون إليك حنين الحمام إلى بيضه، ويدفون اليك دفيف النسور فقال له قائل: وهل لها لسان؟ قال: نعم وأذنان وشفتان. حدثنا أبو الوليد حدثني يحيى بن سعيد، عن أخيه علي بن سعيد عن سعيد بن سالم، أخبرنا إسماعيل بن عياش، عن مغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أنه قال من توضأ وأسبغ الوضوء، ثم أتى الركن يستلمه خاض في الرحمة فإن استلمه فقال: بسم الله، والله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، غمرته الرحمة فإذا طاف بالبيت كتب الله عز وجل له بكل قدم سبعين ألف حسنة، وحط عنه سبعين ألف سيئة ورفع له سبعين ألف درجة، وشفع في سبعين من أهل بيته فإذا أتى مقام إبراهيم عليه السلام فصلى عنده ركعتين إيمانًا، واحتسابًا كتب الله له كعتق أربعة عشر محررًا من ولد إسماعيل، وخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه، قال القداح: وزاد فيه آخر وأتاه ملك فقال له: أعمل لما بقي فقد كفيت ما مضى. حدثنا أبو الوليد حدثني يحيى بن سعيد بن سالم القداح، حدثنا خلف بن ياسين عن أبي الفضل الفراء، عن المغيرة بن سعيد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرج المرء يريد الطواف بالبيت أقبل يخوض في الرحمة، فإذا دخله غمرته، ثم لا يرفع قدمًا ولا يضع قدمًا إلا كتب الله عز وجل له بكل قدم خمسمائة حسنة، وحط عنه خمسمائة سيئة، أو قال خطيئة ورفعت له خمسمائة درجة، فإذا فرغ من طوافه فصلى ركعتين دبر المقام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وكتب له أجر عتق عشر رقاب من ولد إسماعيل، واستقبله ملك على الركن فقال له: استأنف العمل فيما بقي فقد كفيت ما مضى، وشفع في سبعين من أهل بيته". ج / 2 ص -5- قال أبو محمد الخزاعي: حدثنا يحيى بن سعيد بن سالم بإسناده مثله، حدثنا أبو الوليد حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا محمد بن عمر بن إبراهيم الجبيري، عن عثمان بن عبد الرحمن عن عمرو بن يسار المكي، قال: إن الله تعالى إذا أراد أن يبعث ملكًا في بعض أموره إلى الأرض، استأذنه ذلك الملك في الطواف ببيته الحرام فهبط مهلًا، وإن البعير إذا حج عليه بورك في أربعين من أمهاته، وإذا حج عليه سبع مرار كان حقًا على الله عز وجل أن يرعى في رياض الجنة. حدثنا أبو الوليد، حدثني جدي حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: من طاف بهذا البيت سبعًا، وصلى عنده ركعتين كان له عدل عتق رقبة. حدثنا أبو الوليد حدثني جدي، حدثنا عطاف بن خالد المخزومي، عن إسماعيل بن نافع عن أنس بن مالك قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف فجاءه رجلان: أحدهما أنصاري، والآخر ثقفي، فسلما عليه ودعوا له، فقالا جئناك يا رسول الله لنسألك فقال: إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألان عنه فعلت، وإن شئتما أسكت فتسألان فعلت فقالا: أخبرنا يا رسول الله نزداد إيمانًا أو يقينًا -يشك إسماعيل بن نافع- فقال الأنصاري للثقفي: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الثقفي: بل أنت فاسأله فإني أعرف لك حقك قال: أخبرني يا رسول الله قال: "جئتني تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام وما لك فيه، وعن طوافك بالبيت وما لك فيه، وعن الركعتين بعد الطواف وما لك فيهما، وعن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن موقفك عشية عرفة وما لك فيه، وعن رميك الجمار وما لك فيه، وعن نحرك وما لك فيه، وعن حلقك رأسك وما لك فيه، وعن طوافك بالبيت بعد ذلك وما لك فيه". قال: أي والذي بعثك بالحق نبيًا إنه الذي جئت أسألك عنه، قال صلى الله عليه وسلم: "فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام ج / 2 ص -6- ما تضع ناقتك خفًا ولا ترفعه الا كتب الله لك بذلك حسنة ومحا عنك به خطيئة ورفع لك به درجة. وأما طوافك بالبيت فإنك لا تضع رجلًا، ولا ترفعها إلا كتب الله عز وجل لك به حسنة ومحا به عنك خطيئة ورفع لك درجة. وأما ركعتاك بعد الطواف فعدل سبعين رقبة من ولد إسماعيل، وأما طوافك بين الصفا والمروة فكعدل رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله عز وجل يهبط إلى السماء الدنيا، ثم يباهي بكم الملائكة ويقول: "هؤلاء عبادي جاءوني شعثًا غبرًا من كل فج عميق، يرجون رحمتي فلو كانت ذنوبهم عدد الرمل أو عدد القطر، أو زبد البحر لغفرتها أفيضوا فقد غفرت لكم ولمن شفعتم له". وأما رميك الجمار [فيغفر] لك بكل رمية [رميتها] كبيرة من الكبائر الموبقات الموجبات. وأما نحرك فمذخور لك عند ربك. وأما حلاقك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة، ويمحى عنك بها خطيئة" فقال: يا رسول الله: أرأيت إن كانت الذنوب أقل من ذلك؟ قال: "يذخر لك في حسناتك. وأما طوافك بالبيت بعد ذلك، فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يضع كفه بين كتفيك، فيقول لك: أعمل فيما تستقبل فقد غفر لك ما مضى"1. وقال الثقفي: أخبرني يا رسول الله قال: "جئتني تسألني عن الصلاة"، قال: إي والذي بعثك بالحق نبيًا لعنها2 جئت أسألك. قال: "إذا قمت إلى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى ص35-36. وما بين حاصرتين منه. 2 كذا في الأصل، أ. ومثله لدى المحب الطبري في القرى ص36. وفي ب "لعلمها". ج / 2 ص -7- الصلاة فأسبغ الوضوء، فإنك إذا تمضمضت انتثرت الذنوب من شفتيك، وإذا استنشقت انتثرت الذنوب من منخريك، وإذا غسلت وجهك انتثرت الذنوب من أشفار عينيك، وإذا غسلت يديك انتثرت الذنوب من أظفار يديك، فإذا مسحت رأسك انتثرت الذنوب من رأسك، فإذا غسلت قدميك انتثرت الذنوب من أظفار قدميك، فإذا قمت إلى الصلاة فاقرأ من القرآن ما تيسر، فإذا ركعت فأمكن يديك على ركبتيك، وافرق بين أصابعك واطمأن راكعًا، فإذا سجدت فأمكن رأسك من السجود حتى تطمئن ساجدا، وصل من أول الليل وآخره" قال: فإن صليت الليل كله؟ قال: "فأنت إذًا أنت"1. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني أحمد بن ميسرة المكي، حدثنا يحيى بن سليم قال: حدثني محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حج من مكة كان له بكل خطوة يخطوها بعيره سبعون حسنة، فإن حج ماشيًا كان له بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، تدري وما حسنات الحرم؟ الحسنة بمائة ألف حسنة". حدثنا أبو الوليد قال: حدثني ابن أبي عمر، حدثني إسماعيل بن إبراهيم الصائغ قال: حدثني هارون بن كعب، عن زيد الحواري، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه جمع بنيه عند موته فقال. يا بني لست آسى على شيء كما آسى أن لا أكون حججت ماشيًا فحجوا مشاة قالوا: ومن أين؟ قال من مكة حتى ترجعوا إليها، فإن للراكب بكل قدم سبعين حسنة، وللماشي بكل قدم سبعمائة حسنة من حسنات الحرم قالوا: وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة بمائة ألف حسنة، قال أبو محمد الخزاعي: حدثناه ابن أبي عمر بإسناده مثله. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن أخيه علي بن سعيد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى ص 36-37. ج / 2 ص -8- ابن سالم القداح، عن أبيه قال: أخبرني المثنى بن الصباح، عن عطاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: من طاف بالبيت سبعًا لم يتكلم فيه، إلا بذكر الله تعالى ثم ركع ركعتين، أو أربعًا كان كمن أعتق أربع رقاب. وبه عن سعيد بن سالم: أخبرنا إسرائيل بن يونس عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: من طاف بالبيت سبعًا كان له عدل عتق رقبة من تقبل منه. ما جاء في الرحمة التي تنزل على أهل الطواف، وفضل النظر إلى البيت: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا جدي، حدثني داود بن عبد الرحمن قال: حدثني أبو بكر المقدمي البصري، حدثنا إسماعيل بن مجاهد حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية أن الله عز وجل خلق لهذا البيت عشرين ومائة رحمة ينزلها في كل يوم فستون منها للطائفين، وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين، قال حسان: فنظرنا فإذا هي كلها للطائفين هو يطوف ويصلي وينظر. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني موسى بن عبيدة الربذي أخبرنا: عبد المجيد بن عمران العجلي، عن إبراهيم النخعي، أو حماد بن أبي سلمة قال: الناظر إلى الكعبة كالمجتهد في العبادة في غيرها من البلاد. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي عن سعيد بن سالم، وسليم بن مسلم عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله عز وجل على هذا البيت كل يوم وليلة، عشرين ومائة رحمة ج / 2 ص -9- ستون منها للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين". قال عثمان: وأخبرني ياسين، عن أبي الأشعث بن دينار، عن يونس بن خباب قال: النظر إلى الكعبة عبادة فيما سواها من الأرض عبادة الصائم، القائم الدائم القانت. قال عثمان: وأخبرني ياسين، عن رجل، عن مجاهد قال: النظر إلى الكعبة عبادة، ودخول فيها دخول في حسنة وخروج منها خروج من سيئة. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي حدثنا سعيد عن عثمان، قال: أخبرني ياسين، عن أبي بكر المدني عن عطاء قال: سمعت ابن عباس يقول: النظر إلى الكعبة محض الايمان. وبه حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، قال: أخبرني ياسين عن ابن المسيب قال: من نظر إلى الكعبة إيمانًا، وتصديقًا خرج من الخطايا كيوم ولدته أمه. قال عثمان: وأخبرني زهير بن محمد، عن أبي السائب المديني قال: من نظر إلى الكعبة إيمانًا، وتصديقًا تحاتت عنه الذنوب كما يتحات الورق من الشجر. قال عثمان: وأخبرني زهير بن محمد قال: الجالس في المسجد ينظر إلى البيت لا يطوف به، ولا يصلي أفضل من المصلي في بيته لا ينظر إلى البيت قال عثمان: وبلغني عن عطاء قال: النظر إلى البيت عبادة، والناظر إلى البيت بمنزلة الصائم القائم، الدائم المخبت المجاهد في سبيل الله سبحانه. ج / 2 ص -10- ما جاء في القيام على باب المسجد مستقبل البيت يدعو: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني عثمان بن الأسود قال: كنت مع مجاهد فخرجنا من باب المسجد، فاستقبلت الكعبة فرفعت يدي فقال: لا تفعل إن هذا من فعل اليهود. باب ما جاء في المشي في الطواف: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي، عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن مشي الإنسان في الطواف فقال: أحب له أن يمشي فيه مشيه في غيره. حدثني جدي قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار قال: رأيت ابن الزبير يطوف بالبيت فيسرع المشي ما رأيت أحدًا أسرع مشيًا منه، قال الخزاعي: حدثناه أبو عبيد الله قال: حدثنا سفيان عن عمرو بإسناده مثله. حدثني جدي عن سليم بن مسلم، عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه، عن ابن عباس قال: أسعد الناس بهذا الطواف قريش وأهل مكة، وذلك أنهم ألين الناس فيه مناكب، وأنهم يمشون فيه التؤدة. ج / 2 ص -11- باب إنشاد الشعر والإقران في الطواف الإحصاء، والكلام فيه وقراءة القرآن: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن محمد بن السائب، عن أمه أنها طافت مع عائشة ثلاثة أسبع فلم تفصل بينها بصلاة، فلما فرغت ركعت ست ركعات، قالت: فذكر لها نسوة من قريش حسان بن ثابت، وهي في الطواف فسبوه فقالت: أليس قد ذهب بصره؟ وهو القائل: هجوت محمدًا فأجبت عنه وعند اللّه في ذاك الجزاء فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء1 قال أبو محمد إسحاق: حدثناه أبو عبيد الله قال: حدثنا سفيان بإسناده مثله. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي، عن فضيل بن عياض قال: حدثنا منصور عن إبرهيم قال: القراءة في الطواف بدعة. حدثني جدي، عن الزنجي عن ابن جريج، قال: قال عطاء: من طاف بالبيت فليدع الحديث كله إلا ذكر الله تعالى وقراءة القرآن. حدثني جدي قال حدثنا: يحيى بن سليم قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو في الطواف: "كم تعد يا فلان؟ ثم قال: "تدري لم سألتك؟" قال: الله ورسوله أعلم. قال: لكي تكون أحصى لعددك". حدثني جدي، عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح قال: كان أكثر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الفاكهي 1/ 223. ج / 2 ص -12- كلام عمر وعبد الرحمن بن عوف في الطواف، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. حدثني جدي قال: حدثنا سفيان، عن إبراهيم بن ميسرة قال: كنت أطوف مع طاوس فسألته عن شيء فقال: ألم أقل لك؟ قال: قلت: لا أدري. قال: ألم أقل لك إن ابن عباس قال: إن الطواف صلاة فأقلوا فيه الكلام. حدثنا إسحاق قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سفيان، عن منصور عن إبراهيم، عن علقمة أنه قدم مكة فطاف سبعًا فقرأ فيه بالسبع الطوال، ثم طاف سبعًا آخر فقرأ فيه بالمائتين ثم طاف سبعًا آخر، فقرأ فيه بالمثاني، قال الخزاعي إسحاق بن أحمد: حدثناه أبو عبيد الله قال: حدثنا سفيان بإسناده مثله وزاد ثم طاف سبعًا آخر، فقرأ بالحواميم ثم طاف سبعًا آخر فقرأ إلى آخر القرآن. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج عن عطاء قال: القراءة في الطواف شيء أحدث. حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني زهير بن محمد، عن عبد الله بن توبة، عن عبد الله بن عمر أنه قيل له: يا أبا عبد الرحمن ما لنا نراك تستلم الركنين استلامًا، لا نرى أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟، قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما ويقول: استلامهما يمحو الخطايا، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من طاف سبعًا يحصيه كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، وحطت عنه سيئة ورفعت له درجة، ثم صلى ركعتين كان له كعتق". حدثني جدي، عن عيسى بن يونس، عن إسماعيل بن عبد الملك قال: رأيت سعيد بن جبير يتكلم في الطواف ويضحك. قال أبو الوليد: كتب إلي عبد الله بن أبي غسان رجل من رواة العلم من ساكن صنعاء، وحمل الكتاب ج / 2 ص -13- إلى رجل ممن أثق به وأملاه بمحضره يقول في كتابه: حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس، عن وهب بن الورد قال: كنت مع سفيان الثوري بعد العشاء الآخرة في الحجر، فانصرف سفيان وبقيت تحت الميزاب فسمعت من تحت الأستار، إلى الله أشكو وإليك يا جبريل ما ألقى من الناس من التفكه حولي بالكلام، وقال في كتابه: وأخبرني يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية قال: لئن عشت وطالت بك حياتك لترين الناس يطوفون حول الكعبة ولا يصلون. قال: وسمعت غير واحد من الفقهاء يقولون: بني هذا البيت على سبع وركعتين. حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء عن ابن عباس قال: حج آدم فطاف بالبيت سبعًا فلقيته الملائكة فقالوا: بر حجك يا آدم إنا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. قال: فما كنتم تقولون في الطواف؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال آدم: فزيدوا فيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله قال: فزادت الملائكة فيها ذلك قال: فلما حج إبراهيم عليه السلام بعد بنائه البيت فلقيته الملائكة في الطواف، فسلموا عليه فقال لهم إبراهيم: ماذا تقولون في طوافكم؟ قالوا: كنا نقول قبل أبيك آدم سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر فأعلمناه ذلك فقال: زيدوا فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله. فقال إبراهيم: زيدوا فيها العلي العظيم ففعلت الملائكة. ما جاء في القيام في الطواف: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني أحمد بن ميسرة المكي قال: حدثنا عبد المجيد بن أبي رواد قال: سألت أبي عن القيام في الطواف فقال: كان عبد ج / 2 ص -14- الكريم، بن أبي المخارق أول من نهاني عن ذلك قال: أخذت بيده فاحتبسته لأسأله عن شيء فأنكر علي ذلك نكرة شديدة، ووعظني فيه بأشياء قال: فبعثني ذلك على مسألته، فأخبرت إن المطلب بن أبي وداعة خرج نحو البادية، ثم قدم فرأى ناسًا قيامًا في الطواف يتحدثون فأنكر ذلك ثم قال: اتخذتم الطواف أندية قال أبي: ثم سألت نافعًا مولى ابن عمر فقلت: هل كان ابن عمر يقوم في الطواف؟ فقال: لا، رأيته قائمًا فيه حتى يفرغ منه إلا عند الحجر والركن اليماني، فإنه لا يدعهما إن يستلمهما في كل طواف طاف بهما. ما جاء في النقاب للنساء في الطواف: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن جريج عن عطاء أنه كره أن تطوف المرأة بالكعبة، وهي متنقبة حتى أخبرته صفية بنت شيبة أنها رأت عائشة تطوف بالبيت وهي متنقبة فرجع عن رأيه ذلك وأرخص فيه. حدثني أحمد بن ميسرة المكي، عن عبد المجيد عن أبيه قال: أخبرني عبد الكريم بن أبي المخارق أنه كان يكره للنساء التنقب في الطواف. من نذر أن يطوف على أربع ومن كره الإقران والطواف راكبًا: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثني سفيان عن عمرو بن دينار، عن عطاء عن ابن عباس أنه سئل عن امرأة نذرت أن تطوف على أربع قال: تطوف عن يديها سبعًا وعن رجليها سبعًا. ج / 2 ص -15- حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن ابن عياش بن أبي ربيعة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلين مقترنين، قد ربط أحدهما نفسه إلى صاحبه بطريق المدينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال الإقران؟" قالا: يا نبي الله نذرنا أن نقترن حتى نطوف بالبيت فقال: "أطلقا قرانكما فلا نذر إلا ما ابتغي به وجه الله". حدثني جدي قال: حدثنا سفيان، عن أبي جريج عن عطاء أن أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- طافت بالبيت يوم النحر راكبة من وراء المصلين، قال أبو الوليد: حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة، عن هشام بن عروة عن أبيه أن أم سلمة طافت بالبيت على بعير. حدثني جدي قال: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار قال: طاف رجل بالبيت على فرس فمنعوه فقال: أتمنعوني أن أطوف على كوكب؟ قال: فكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكتب عمر أن امنعوه. حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإفاضة على راحلته، واستلم الركن بمحجنه وقبل طرف المحجن وذلك ليلًا. ما جاء في طواف الحية1: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج عن بشر بن تيم، عن أبي الطفيل قال: كانت امرأة من الجن في الجاهلية تسكن ذا طوى وكان لها ابن ولم يكن لها ولد غيره، وكانت تحبه حبًا شديدًا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أورده ابن ظهيرة في الجامع اللطيف ص 62. ج / 2 ص -16- وكان شريفًا في قومه، فتزوج وأتى زوجته فلما كان يوم سابعه قال لأمه: يا أمت، إني أحب أن أطوف بالكعبة سبعًا نهارًا فقالت له أمه: أي بني، إني أخاف عليك سفهاء قريش فقال: أرجو السلامة فأذنت له فولى في صورة جان، فلما أدبر جعلت تعوذه وتقول: أعيذه بالكعبة المستوره ودعوات ابن أبي محذوره، وما تلا محمد من سوره إني إلى حياته فقيره وإنني بعيشه مسروره1 فمضى الجان نحو الطواف فطاف بالبيت سبعًا، وصلى خلف المقام ركعتين ثم أقبل منقلبًا، حتى إذا كان ببعض دور بني سهم، عرض له شاب من بني سهم أحمر أكشف أزرق أحول أعسر فقتله، فثارت بمكة غبرة حتى لم تبصر لها الجبال، قال أبو الطفيل: وبلغنا أنه إنما تثور تلك الغبرة عند موت عظيم من الجن قال: فأصبح من بني سهم على فرشهم موتي كثير من قتل الجن، وكان فيهم سبعون شيخًا أصلع سوى الشباب قال: فنهضت بنو سهم وحلفاؤهم ومواليها وعبيدها، فركبوا الجبال والشعاب بالثنية فما تركوا حية ولا عقربًا ولا حكًا ولا عضاية، ولا خنفسًا ولا شيئًا من الهوام يدب على وجه الأرض إلا قتلوه، فأقاموا بذلك ثلاثًا فسمعوا في الليلة الثالثة على أبي قبيس هاتفًا يهتف بصوت له جهوري يسمع به بين الجبلين، يا معشر قريش الله الله فإن لكم أحلامًا وعقولًا اعذرونا من بني سهم، فقد قتلوا منا أضعاف ما قتلنا منهم ادخلوا بيننا وبينهم بالصلح نعطيهم، ويعطونا العهد والميثاق أن لا يعود بعضنا لبعض بسوء أبدًا ففعلت ذلك قريش، واستوثقوا لبعض من بعض فسميت بنو سهم الغياطلة قتلة الجن2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 من قوله: "أعيذه" إلى قوله: "مسروره" ورد نثرا في أ، ب. وصوابه من الجامع اللطيف ص 63، وإخبار الكرام بأخبار المسجد الحرام ص 107. 2 الجامع اللطيف ص 63. ج / 2 ص -17- حدثنا أبو الوليد قال: وأخبرني محمد بن نبيهة السهمي، عن محمد بن هاشم السهمي قال: كنت بمال لي بتبالة أجد نخلًا لي به، وبين يدي جارية لي فارهة فصرعت قدمي فقلت لبعض خدمنا: هل رأيتم هذا منها من قبل هذا؟ قالوا: لا. قال: فوقفت عليها فقلت: يا معشر الجن أنا رجل من بني سهم، وقد علمتم ما كان بيننا، وبينكم في الجاهلية من الحرب، وما صرنا إليه من الصلح والعهد والميثاق أن لا يغدر بعضنا ببعض، ولا يعود إلى مكروه صاحبه، فإن وفيتم وفينا، وإن غدرتم عدنا إلى ما تعرفون. قال: فأفاقت الجارية ورفعت رأسها فما عيد إليها بمكروه حتى ماتت. حدثنا أبو محمد قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثني داود بن عبد الرحمن قال: حدثنا ابن جريج عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن طلق بن خبيب قال: كنا جلوسًا مع عبد الله بن عمرو بن العاص في الحجر، إذ قلص الظل وقامت المجالس، إذا نحن ببريق أيم طالع من هذا الباب، يعني باب بني شيبة، فاشرأبت له أعين الناس فطاف بالبيت سبعًا وصلى ركعتين وراء المقام فقمنا إليه فقلنا: ألا أيها المعتمر قد قضى الله نسكك، وإن بأرضنا عبيدًا وسفهاء، وأنا نخشى عليك منهم فكوم برأسه كومة بطحاء، فوضع ذنبه عليها فسما في السماء حتى مثل علينا فما نراه. قال أبو محمد الخزاعي: الأيم: الحية الذكر1. قال أبو الوليد: أقبل طاير أشف من الكُعَيْت2 شيئًا لونه لون الحبرة بريشة حمراء وريشة سوداء دقيق الساقين طويلهما له عنق طويلة، دقيق المنقار طويله كأنه من طير البحر، يوم السبت يوم سبع وعشرين من ذي القعدة سنة ست وعشرين ومائتين حين طلعت الشمس، والناس إذ ذاك في الطواف كثير من الحاج وغيرهم من ناحية أجياد الصغير، حتى وقع في المسجد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الجامع اللطيف ص61. 2 الكعيت: طائر من جنس البلبل. ج / 2 ص -18- الحرام وقريبًا من مصباح زمزم، مقابل الركن الأسود ساعة طويلة، قال: ثم طار حتى صدم الكعبة في نحو من وسطها بين الركن اليماني، والركن الأسود وهو إلى الأسود أقرب، ثم وقع على منكب رجل في الطواف عند الركن الأسود من الحاج من أهل خراسان محرم يلبي، وهو على منكبه الأيمن فطاف الرجل به أسابيع، والناس يدنون منه وينظرون إليه، وهو ساكن غير مستوحش منهم، والرجل الذي عليه الطير يمشي في الطواف في وسط الناس، وهم ينظرون إليه ويتعجبون، وعينا الرجل تدمعان على خديه ولحيته1. قال: وأخبرني محمد بن عبد الله بن ربيعة قال: رأيته على منكبه الأيمن، والناس يدنون منه وينظرون إليه فلا ينفر منهم ولا يطير. وطفت أسابيع ثلاثة كل ذلك أخرج من الطواف، فأركع خلف المقام ثم أعود وهو على منكب الرجل، قال: ثم جاء إنسان من أهل الطواف فوضع يده عليه فلم يطر، وطاف بعد ذلك به، ثم طار هو من قبل نفسه حتى وقع على يمين المقام ساعة طويلة، وهو يمد عنقه ويقبضها إلى جناحه، والناس مستكفون له ينظرون إليه عند المقام، إذ أقبل فتى من الحجبة فضرب بيده فيه، فأخذه ليريه رجلًا منهم كان يركع خلف المقام فصاح الطير في يده أشد صياح وأوحشه، لا يشبه صوته أصوات الطير ففزع منه، فأرسله من يده فطار حتى وقع بين يدي دار الندوة خارجًا من الظلال في الأرض قريبًا من الأسطوانة الحمراء، واجتمع الناس ينظرون إليه وهو مستأنس في ذلك كله غير مستوحش من الناس، ثم طار هو من قبل نفسه فخرج من باب المسجد الذي بين دار الندوة، ودار العجلة نحو قعيقعان2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الجامع اللطيف ص 62 نقلًا عن المؤلف. 2 الجامع اللطيف ص 62 نقلًا عن المؤلف. أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ج / 2 ص -19- باب: فضل العبادة في الحرم باب: من قال إن الكعبة قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة أهل الأرض ومتى صرفت القبلة إلى الكعبة؟ حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن عجلان، عن ابن أبي حسين قال: الكعبة قبلة أهل المسجد، والمسجد قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة أهل الأرض. وحدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: صرفت القبلة بعد الهجرة بسبعة عشر شهرًا. حدثني القعنبي عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح قال: قال عبد الله بن عمرو: البيت كله قبلة، وقبلته وجهه، فإن فاتك ذلك فعليك بقبلة النبي -صلى الله عليه وسلم، قال سفيان: هي ما بين الركن الشامي وميزاب الكعبة. ما جاء في الصلاة في كل وقت بمكة والطواف: حدثنا أبو الوليد، حدثني جدي حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير عن عبد الله ابن باباه، عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب، إن وليتم من أمر هذا البيت شيئًا فلا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار". حدثنا أبو الوليد حدثني جدي، عن عبد الرحمن بن حسن بن القاسم، عن أبيه قال: كان الرجال والنساء يطوفون معًا مختلطين حتى ولي مكة خالد بن عبد الله القسري، لعبد الملك بن مروان ففرق بين الرجال والنساء في ج / 2 ص -20- الطواف، وأجلس عند كل ركن حرسا معهم السياط، يفرقون بين الرجال والنساء، فاستمر ذلك إلى اليوم. قال جدي: سمعت سفيان بن عيينة يقول: خالد القسري أول من فرق بين الرجال والنساء في الطواف. حدثني جدي حدثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج أخبرني أبو بكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نظر إلى الكعبة فقال: "إن الله تعالى قد شرفك، وكرمك وحرمك والمؤمن أعظم حرمة عند الله تعالى منك"، قال أبو محمد الخزاعي: سمعت بعض المشايخ يقول: بلغ خالد بن عبد الله القسري قول الشاعر1: يا حبذا الموسم من موفد وحبذا الكعبة من مشهد وحبذا اللاتي يزاحمننا عند استلام الحجر الأسود فقال خالد: أما إنهن لا يزاحمنك بعد هذا، فأمر بالتفريق بين النساء والرجال في الطواف2. ما جاء في الطواف في المطر وفضل ذلك: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي ومحمد بن أبي عمر قالا: حدثنا داود بن عجلان أنه طاف مع أبي عقال في مطر قال: ونحن رجال فلما فرغنا من سبعنا أتينا نحو المقام، فوقف أبو عقال دون المقام فقال: ألا أحدثكم بحديث تسرون به أو تعجبون به؟ قلنا: بلى قال: طفت مع أنس بن مالك، والحسن وغيرهما في مطر فصلينا خلف المقام ركعتين فأقبل علينا أنس بوجهه فقال لنا: استأنفوا العمل فقد غفر لكم ما مضى هكذا قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 315. 2 الجامع اللطيف ص 120. ج / 2 ص -21- وطفنا معه في مطر1. قال أبو محمد الخزاعي: حدثنا محمد بن أبي عمر، عن داود بن عجلان باسناده مثله. ما جاء في فضل الطواف عند طلوع الشمس وعند غروبها: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي عن عبد الرحمن بن زيد العمى، عن أبيه عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "طوافان لا يوافقهما عبد مسلم إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه فيغفر له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت، طواف بعد صلاة الفجر يكون فراغه مع طلوع الشمس، وطواف بعد صلاة العصر يكون فراغه مع غروب الشمس"، قال الخزاعي عن إسحق: حدثناه ابن أبي عمر حدثنا عبد الرحمن بن زيد باسناده مثله، الصواب عبد الرحيم2". ما جاء في صيام شهر رمضان بمكة والإقامة بها وفضل ذلك: حدثنا أبو الوليد حدثني جدي، حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: ذكر عطاء بن كثير حديثًا رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم: "المقام بمكة سعادة، والخروج منها شقوة"، وقال عثمان: قال مقاتل: من نزل مكة والمدينة من غير أهلها محتسبًا حتى يموت دخل في شفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم. قال عثمان: وأخبرني حنظلة بن أبي سفيان الجمحي قال: سمعت سالم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الجامع اللطيف ص 118، القرى ص 330. 2 الجامع اللطيف ص 114، القرى ص 330. ج / 2 ص -22- ابن عبد الله يذكر أن غلامًا كان لعبد الله بن عمر يخرج له ثلاثمائة، وخمسين درهمًا في كل عام، ويعلف له ظهره ما كان بمكة حتى يخرج. قال ابن عمر. لأخرجنك إلى المدينة قال: فأنا أزيدك في خراجي. قال: ما بي ذلك يا بني. قال سالم: فرأيته ينفق على غلامه بالمدينة. حدثني ابن أبي عمر، حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمى، عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أدركه شهر رمضان بمكة فصامه كله، وقام منه ما تيسر كتب الله له مائة ألف شهر رمضان بغير مكة، وكتب له كل يوم حسنة وكل ليلة حسنة وكل يوم عتق رقبة، وكل ليلة عتق رقبة، وكل يوم حملان فرس في سبيل الله، وكل ليلة حملان فرس في سبيل الله تعالى"، قال الخزاعي: إسحاق حدثناه ابن أبي عمر قال: حدثنا عبد الرحيم بن زيد بإسناده مثله. أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ج / 2 ص -23- ذكر المقام: ما جاء في الحطيم وأين موضعه: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد عن ابن جريج قال: الحطيم ما بين الركن والمقام وزمزم، والحجر وكان إساف ونايلة رجل وامرأة دخلا الكعبة فقبلها فيها فمسخا حجرين، فأخرجا من الكعبة فنصب أحدهما في مكان زمزم والآخر في وجه الكعبة، ليعتبر بهما الناس ويزدجروا عن مثل ما ارتكبا. قال: فسمي هذا الموضع الحطيم؛ لأن الناس كانوا يحطمون هنالك بالأيمان ويستجاب فيه الدعاء على الظالم للمظلوم، فقل من دعا هنالك على ظالم إلا أهلك، وقل من حلف هنالك إثمًا إلا عجلت له العقوبة، فكان ذلك يحجز بين الناس عن الظلم، ويتهيب الناس الأيمان فلم يزل ذلك كذلك حتى جاء الله بالاسلام فأخر الله ذلك لما أراد إلى يوم القيامة. حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن ناسًا كانوا في الجاهلية حلفوا عند البيت على قسامة، وكانوا حلفوا على باطل، ثم خرجوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق نزلوا تحت صخرة فبينا هم قائلون إذ أقبلت الصخرة عليهم، فخرجوا من تحتها يشتدون فانفلقت بخمسين فلقة فأدركت كل رجل منها فلقة فقتلته وكانوا من بني عامر بن لؤي، قال الزنجي: فكان ذلك الذي أقل عددهم، فورث حويطب بن عبد العزى عامة رباعهم. حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن ابن أبي نجيح عن حويطب بن عبد العزى أنه قال: كان في الجاهلية في الكعبة حلق أمثال لجم البهم، يدخل الخائف فيها يده فلا يريبه أحد، فلما كان ذات يوم ذهب خائف ليدخل يده فيها، فاجتبذه رجل فشلت فيها يمينه فأدركه الإسلام وإنه لأشل. حدثني جدي وإبراهيم بن محمد الشافعي، عن مسلم بن خالد عن ابن أبي نجيح عن أبيه، عن حويطب بن عبد العزى قال: كنا جلوسًا بفناء الكعبة في الجاهلية، فجاءت امرأة إلى البيت تعوذ به من زوجها، فجاء زوجها فمد يده إليها فيبست يده، فلقد رأيته في الإسلام بعد وإنه لأشل. حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة، عن محمد بن سوقة قال: كنا جلوسًا مع سعيد بن جبير في ظل الكعبة فقال: أنتم الآن في أكرم ظل على وجه الأرض. حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي عن أشياخه قالوا: أقامت قريش بعد قصي على ما كان عليه قصي بن كلاب من تعظيم البيت والحرم، وكان الناس يكرهون الأيمان عند البيت مخافة العقوبة في أنفسهم، وأموالهم قال الواقدي: فحدثني عبد المجيد بن أبي أنس عن أبيه، عن أبي القاسم مولى ج / 2 ص -24- ربيعة بن الحارث، عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال: عدا رجل من بني كنانة من هذيل في الجاهلية على ابن عم له فظلمه واضطهده، فناشده الله تعالى والحرم، وعظم عليه فأبى إلا ظلمه فقال: والله لألحقن لحرم الله تعالى في الشهر الحرام فلأدعون الله عليك. فقال له ابن عمه مستهزئًا به: هذه ناقتي فلانة فأنا أقعدك على ظهرها، فاذهب فاجتهد. قال: فأعطاه ناقته وخرج حتى جاء الحرم في الشهر الحرام فقال: اللهم إني أدعوك دعاء جاهد مضطر على فلان ابن عمي لترميه بداء لا دواء له. قال: ثم انصرف فوجد ابن عمه قد رمي في بطنه، فصار مثل الزق فما زال ينتفخ حتى انشق. قال عبد المطلب: فحدثت بهذا الحديث ابن عباس فقال: أنا رأيت رجلًا دعا على ابن عم له بالعمى فرأيته يقاد أعمى. حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عكرمة عن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يسأل رجلًا من بني سليم عن ذهاب بصره، فقال: يا أمير المؤمنين كنا بني ضبعاء عشرة، وكان لنا ابن عم فكنا نظلمه ونضطهده، وكان يذكرنا الله والرحم أن لا نظلمه، وكنا أهل جاهلية نرتكب كل الأمور، فلما رأى ابن عمنا أنا لا نكف عنه، ولا نرد إليه ظلامته أمهل حتى إذا دخلت الأشهر الحرم انتهى إلى الحرم، فجعل يرفع يديه إلى الله تعالى ويقول: اللهم أدعوك دعاء جاهدا أقتل بني الضبعاء إلا واحدا ثم اضرب الرجل فذره قاعدا أعمى إذا ما قيد عني القائدا فمات إخوة لي تسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد، وبقيت أنا فعميت ورمى الله في رجلي وكمهت فليس يلائمني قائد. قال: فسمعت عمر بن الخطاب يقول: سبحان الله إن هذا لهو العجب. أخبرني محمد بن يحيى عن الواقدي، عن ابن أبي سبرة عن شريك بن أبي نمر، عن كريب عن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب ج / 2 ص -25- رضي الله عنه، يسأل ابن عمهم الذي دعا عليهم قال: دعوت عليهم ليالي رجب الشهر كله بهذا الدعاء، فأهلكوا في تسعة أشهر وأصاب الباقي ما أصابه. أخبرني محمد بن يحيى عن الواقدي، عن ابن أبي سبرة عن عبد المجيد بن سهيل، عن مكرمة عن ابن عباس قال: دعا رجل على ابن عم له استاق ذودًا له، فخرج يطلبه حتى أصابه في الحرم فقال: ذودي، فقال اللص: كذبت ليس الذود لك قال: فأحلف قال: إذ أحلف، فحلف عند المقام بالله الخالق رب هذا البيت ما الذود لك فقيل له: لا سبيل لك عليه، فقام رب الذود بين الركن والمقام باسطًا يديه، يدعو على صاحبه فما برح مقامه يدعو عليه حتى وله، فذهب عقله وجعل يصيح بمكة، فما لي وللذود ما لي ولفلان رب الذود، فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع ذوده فدفعها إلى المظلوم، فخرج بها وبقي الآخر متولهًا حتى وقع من جبل فتردى منه فأكلته السباع. حدثنا أبو الوليد، حدثنا محمد بن يحيى، عن الواقدي عن أيوب بن موسى أن امرأة كانت في الجاهلية معها ابن عم لها صغير، وكانت تخرج فتكتسب عليه ثم تأتي فتطعمه من كسبها فقالت له: يا بني إن أغيب عنك فإني أخاف عليك أن يظلمك ظالم، فإن جاءك ظالم بعدي فإن لله تعالى بمكة بيتًا لا يشبهه شيء من البيوت، ولا يقاربه مفسد وعليه ثياب، فإن ظلمك ظالم يومًا فعذبه فإن له ربًا يسمعك قال: فجاءه رجل فذهب به فاسترقه. قال: وكان أهل الجاهلية يعمرن أنعامهم فأعمر سيده ظهره، فلما رأى الغلام البيت عرف الصفة، فنزل يشتد حتى تعلق بالبيت، وجاء سيده فمد يده إليه ليأخذه فيبست يده فمد الأخرى فيبست يده الأخرى فاستفتى في الجاهلية فأفتي لينحر عن كل واحدة من يديه بدنة، ففعل فأطلقت له يداه وترك الغلام وخلي سبيله. ج / 2 ص -26- ما يستحلف فيه بين الركن والمقام: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي حدثنا سفيان، عن شيخ من بني البكاء قديم قد بلغ مائة سنة وصلى خلف معاوية بن أبي سفيان، يقال له وهب يحدث عن قومه: إن رجلًا منهم تزوج امرأة فسألته أمها بعيرًا من إبله فأبى فقالت: إني قد أرضعتكما فرفع ذلك إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فرأى أن تستحلف عند الكعبة أنها قد أرضعتهما، فلما أرادوا استحلافها أبت، وكأنها ورعت وتأثمت وقالت: إنما أردت معنى أن أفرق بينهما. حدثني جدي، عن عبد المجيد عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يحلف بين المقام والبيت في الشيء اليسير، أخاف أن يتهاون الناس به". حدثني جدي حدثنا عبد المجيد، عن ابن جريج عن عكرمة بن خالد قال: رأى عبد الرحمن بن عوف جماعة عند المقام فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يستحلف، قال: أفي دم؟ قالوا: لا. قال: أفي مال عظيم؟ قالوا: لا. قال: يوشك الناس أن يتهاونوا بهذا المقام. حدثني جدي قال حدثنا عبد المجيد، عن ابن جريج عن عطاء قال: لا يستحلف بين المقام والبيت في الشيء اليسير. ما جاء في المقام وفضله: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن قال: سمعت القاسم بن أبي بزة، يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص ج / 2 ص -27- قال: إن الركن والمقام من الجنة. حدثني جدي، عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس قال: ليس في الأرض من الجنة إلا الركن الأسود والمقام، فإنهما جوهرتان من جوهر الجنة، ولولا ما مسهما من أهل الشرك ما مسهما ذو عاهة، إلا شفاه الله. حدثني جدي قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن يحيى قال: حدثني ليث عن مجاهد أنه قال: لا يمس المقام فإنه آية من آيات الله عز وجل. ما جاء في الأثر الذي في المقام، وقيام إبراهيم عليه السلام عليه: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران: 97]، قال: أثر قدميه في المقام. حدثني جدي عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قام إبراهيم عليه السلام على هذا المقام، فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم، قال: فقالوا: لبيك اللهم لبيك قال: فمن حج إلي اليوم، فهو ممن استجاب لابراهيم عليه السلام. حدثني جدي قال: حدثنا مهدي بن أبي المهدي، حدثنا عمر بن سهل بن مروان، عن يزيد عن سعيد عن قتادة: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125]، قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثره، وأصابعه فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق وانماح. ج / 2 ص -28- حدثنا محمد بن يحيى، عن محمد بن عمر، عن ابن أبي سبرة عن موسى بن سعيد، عن نوفل بن معاوية الديلي قال: رأيت المقام في عهد عبد المطلب، وهو مثل المهاة، قال أبو محمد الخزاعي: سئل أبو الوليد عن المهاة، فقال: خرزة بيضاء وأنشد أبو الوليد: مهاة كمثل البدر بين السحائب تعلقها قلبي وما طرّ شاربي إلى أن أتى حلمي وشابت ذوائبي حدثني محمد بن يحيى، عن محمد بن عمر الواقدي، عن ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عمر بن الحكم عن أبي سعيد الخدري، قال: سألت عبد الله بن سلام عن الأثر الذي في المقام فقال: كانت الحجارة على ما هي عليه اليوم، إلا أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعل المقام آية من آياته، فلما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج قام على المقام، فارتفع المقام حتى صار أطول الجبال، وأشرف على ما تحته، فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم فأجابه الناس فقالوا: لبيك اللهم لبيك، فكان أثر قدميه فيه لما أراد الله سبحانه، فكان ينظر عن يمينه وعن شماله ويقول: أجيبوا ربكم فلما فرغ أمر بالمقام فوضعه قبلة، فكان يصلي إليه مستقبل الباب فهو قبلة إلى ما شاء الله. ثم كان إسماعيل بعد يصلي إليه إلى باب الكعبة. ثم كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر أن يصلي إلى بيت المقدس، فصلى إليه قبل أن يهاجر وبعد ما هاجر، ثم أحب الله تعالى أن يصرفه إلى قبلته التي رضي لنفسه ولأنبيائه عليهم السلام قال: فصلى إلى الميزاب وهو بالمدينة، ثم قدم مكة فكان يصلي إلى المقام ما كان بمكة. قال: حدثنا أبو الوليد حدثني جدي، حدثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج عن كثير بن كثير قال: كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير في أعلى المسجد ليلًا ج / 2 ص -29- فقال سعيد بن جبير: سلوني قبل أن لا تروني فسأله القوم فأكثروا، فكان مما سئل عنه أن قال رجل: أحق ما سمعنا يذكر في المقام مقام إبراهيم؟ فقال سعيد: وماذا سمعت؟ قال الرجل: سمعنا أن إبراهيم نبي الله سبحانه حين جاء من الشام حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة، حتى يرجع يقول الرجل: فقرب إليه المقام فرجل عليه فقال سعيد: ليس كذلك، حدثنا ابن عباس ولكنه حدثنا أنه حين كان بين أم إسماعيل بن إبراهيم، وبين سارة امرأة إبراهيم عليه السلام ما كان، أقبل إبراهيم نبي الله بأم إسماعيل وإسماعيل معها وهو صغير يرضعها حتى قدم بهما مكة، ومع أم إسماعيل شنة فيها ماء تشرب منها وتدر على ابنها، ليس معها زاد، يقول سعيد بن جبير: قال ابن عباس: فعمد بهما إلى دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد يشير لنا بين البئر وبين الصفة يقول: فوضعهما تحتها، ثم توجه إبراهيم خارجًا على دابته واتبعت أم إسماعيل أثره حتى أوفى إبراهيم بكذا يقول ابن عباس: فقالت له أم إسماعيل: إلى من تتركها وابنها؟ قال: إلى الله سبحانه قالت: رضيت بالله تعالى. فرجعت أم إسماعيل تحمل ابنها حتى قعدت تحت الدوحة، ووضعت ابنها إلى جنبها، ثم ساق حديثًا طويلًا يقول فيه: ثم جاء الثالثة فوجد إسماعيل قاعدًا تحت الدوحة إلى ناحية البئر يبري نبلًا له فسلم عليه ونزل إليه، فقعد معه فقال له إبراهيم عليه السلام: يا إسماعيل إن الله سبحانه قد أمرني بأمر، قال إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك قال إبراهيم: أمرني ربي أن أبني له بيتًا، قال له إسماعيل: وأين؟ يقول ابن عباس: فأشار إلى أكمة بين يديه مرتفعة على ما حولها، عليها رضراض من حصباء يأتيها السيل من نواحيها ولا يركبها، قال ابن عباس. فقاما يحفران عن القواعد ويقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ويحمل له إسماعيل الحجارة على رقبته ويبني الشيخ إبراهيم، فلما ارتفع البنيان وشق على الشيخ تناوله قرب له إسماعيل هذا الحجر، فكان يقوم عليه ويبني ويحوله في نواحي البيت حتى انتهى إلى وجه البيت يقول ابن عباس: فذلك مقام إبراهيم عليه السلام وقيامه عليه. ج / 2 ص -30- باب ما جاء في موضع المقام، وكيف رده عمر -رضي الله عنه- إلى موضعه هذا؟ حدثنا أبو الوليد، حدثني جدي حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي، عن أبيه عن جده قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة الكبير قبل أن يردم عمر بن الخطاب الردم الأعلى، وكان يقال لهذا الباب باب السيل، قال: فكانت السيول ربما دفعت المقام عن موضعه، وربما نحته إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقال له سيل أم نهشل، وإنما سمي بأم نهشل أنه ذهب بأم نهشل ابنة عبيدة بن أبي أحيحة سعيد بن العاصي فماتت فيه، فاحتمل المقام من موضعه هذا، فذهب به حتى وجد بأسفل مكة فأتى به فربط إلى أستار الكعبة في وجهها، وكتب في ذلك إلى عمر -رضي الله عنه- فأقبل عمر فزعًا فدخل بعمرة في شهر رمضان، وقد غبي موضعه وعفاه السيل، فدعا عمر بالناس فقال: أنشد الله عبدًا عنده علم في هذا المقام، فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك فقد كنت أخشى عليه هذا، فأخذت قدره من موضعه إلى الركن، ومن موضعه إلى باب الحجر ومن موضعه إلى زمزم بمقاط، وهو عندي في البيت فقال له عمر: فاجلس عندي، وأرسل إليها فأتى بها فمدها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا، فسأل الناس وشاورهم فقالوا: نعم هذا موضعه، فلما استثبت ذلك عمر -رضي الله عنه- وحق عنده أمر به فاعلم ببناء ربضه تحت المقام، ثم حوله فهو في مكانه هذا إلى اليوم. قال: وردم عمر الردوم الأعلى بالصخر وحصنه، قال ابن جريج: ولم يعله سيل بعد عمر -رضي الله عنه- حتى الآن. قال أبو الوليد: هو الردم الذي ج / 2 ص -31- دون زقاق النار قال جدي: وهو الردم الذي من دار أبان بن عثمان إلى دار ببة بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، ابن أخي أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. قال الخزاعي: ببة لقب له واسمه عبد الله بن ربيعة. قال أبو الوليد: قال جدي: فلم يظهر عليه سيل منذ عمله عمر -رضي الله عنه- إلى اليوم غير أنه قد جاء سيل في سنة اثنتين ومائتين يقال له سيل ابن حنظلة، فكشف عن بعض ربضه ورأينا حجارته، ورأينا فيه صخرًا ما رأينا مثله ولم يظهر عليه. قال أبو الوليد: قال لي جدي: طفت مع داود بن عبد الرحمن غير مرة، فأشار إلى الموضع الذي ربط عنده المقام في وجه الكعبة بأستارها إلى أن قدم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فرده قال: وقال داود: كنا إذا طفنا مع ابن جريج يشير لنا إليه. قال أبو الوليد: قال لي جدي: بعدما جصص شاذروان الكعبة بالجص والمرمر، وإنما جصص حديثًا من الدهر فقال لي وأنا معه في الطواف: اعدد من باب الحجر الشامي من حجارة شاذروان الكعبة، فإذا بلغت الحجر السابع، فإن كان حجرًا طويلًا هو أطول السبعة فيه حفر شبه النقر فهو موضعه، وإلا فهو التاسع من حجارة الشاذروان. قال جدي: نسيت عددها وقد كنت عددتها هي إما سبعة، وإما تسعة إلا أنه عند حجر طويل هو أطول السبعة أو التسعة فيه الحفر فإن رأيته قد قرف عنه الجص فاعدد وانظر إليه. حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: موضع المقام هذا الذي هو به اليوم هو موضعه في الجاهلية، وفي عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر فجعل في وجه الكعبة، حتى قدم عمر فرده بمحضر الناس. حدثني ابن أبي عمر قال: حدثنا ابن عيينة عن حبيب بن أبي الأشرس قال: كان سيل أم نهشل قبل أن يعمل عمر الردم بأعلى مكة، فاحتمل المقام ج / 2 ص -32- من مكانه فلم يدر أين موضعه، فلما قدم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سأل من يعلم موضعه؟ فقال المطلب بن أبي وداعة: أنا يا أمير المؤمنين قد كنت قدرته، وذرعته بمقاط وتخوفت عليه هذا من الحجر إليه، ومن الركن إليه ومن وجه الكعبة إليه. فقال: ائت به فجاء به فوضعه في موضعه هذا، وعمل عمر الردم عند ذلك، قال سفيان: فذلك الذي حدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن المقام كان عند سفع البيت، فأما موضعه الذي هو موضعه فموضعه الآن، وأما ما يقول الناس: إنه كان هنالك موضعه فلا، قال سفيان: وقد ذكر عمرو بن دينار نحوًا من حديث ابن أبي الأشرس هذا لا أميز أحدهما عن صاحبه. حدثني محمد بن يحيى قال: حدثنا سليم بن مسلم، عن ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن صفوان أنه قال: أمر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عبد الله بن السائب العابدي، وعمر نازل بمكة في دار ابن سباع بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، قال: فحوله ثم صلى المغرب وكان عمر قد اشتكى رأسه قال: فلما صليت ركعة جاء عمر فصلى ورائي قال: فلما قضى صلاته قال عمر: أحسنت فكنت أول من صلى خلف المقام حين حول إلى موضعه عبد الله بن السائب القائل. حدثني جدي قال: حدثنا سليم بن مسلم، عن ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن السائب، وكان يصلي بأهل مكة فقال: أنا أول من صلى خلف المقام حين رد في موضعه هذا، ثم دخل عمر وأنا في الصلاة فصلى خلفي صلاة المغرب. ج / 2 ص -33- ما جاء في الذهب الذي على المقام ومن جعله عليه: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: سمعت عبد الله بن شعيب بن شيبة بن جبير بن شيبة يقول: ذهبنا نرفع المقام في خلافة المهدي فانثلم قال: وهو من حجر رخو يشبه السنان، فخشينا أن يتفتت أو قال يتداعى فكتبنا في ذلك إلى المهدي، فبعث إلينا بألف دينار فضببنا بها المقام أسفله وأعلاه، وهو الذهب الذي عليه اليوم1. قال: سمعت يوسف بن محمد العطار، يحدث عن عبد الله بن شعيب نحوه، قال: ولم يزل ذلك الذهب عليه حتى ولي أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله، فجعل عليه ذهبًا فوق ذلك الذهب أحسن من ذلك العمل، فعمل في مصدر الحج سنة ست وثلاثين ومائتين، فهو الذهب الذي عليه اليوم وجعل فوق ذلك الذهب الذي كان عمله المهدي ولم يقلع عنه. وأخبرني غير واحد من مشيخة أهل مكة قالوا: حج المهدي أمير المؤمنين سنة ستين ومائة فنزل دار الندوة فجاء عبيد الله بن عثمان بن إبراهيم الحجبي بالمقام، مقام إبراهيم في ساعة خالية نصف النهار مشتمل عليه فقال للحاجب: ائذن لي على أمير المؤمنين، فإن معي شيئًا لم يدخل به على أحد قبله، وهو يسر أمير المؤمنين فأدخله عليه فكشف عن المقام فسر بذلك، وتمسح به وسكب فيه ماء ثم شربه وقال له: اخرج. وأرسل إلى بعض أهله فشربوا منه وتمسحوا به، ثم ادخل فاحتمله ورده مكانه وأمر له بجوائز عظيمة وأقطعه خيفًا بنخلة، يقال له ذات القوبع، فباعه من منيرة مولاة المهدى بعد ذلك بسبعة آلاف دينار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شفاء الغرام 1/ 328. ج / 2 ص -34- ذكر ذرع المقام: قال أبو الوليد: وذرع المقام ذراع، والمقام مربع سعة أعلاه أربع عشر إصبعا في أربع عشرة إصبعا، ومن أسفله مثل ذلك، وفي طرفيه من أعلاه وأسفله طوقا ذهب وما بين الطوقين من الحجر من المقام بارز بلا ذهب عليه، طوله من نواحيه كلها تسع أصابع، وعرضه عشر أصابع عرضًا في عشر أصابع طولا، وذلك قبل أن يجعل عليه هذا الذهب، الذي هو عليه اليوم من عمل أمير المؤمنين المتوكل على الله، وعرض حجر المقام من نواحيه إحدى وعشرون إصبعا، ووسطه مربع والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع ودخولهما منحرفتان، وبين القدمين من الحجر إصبعان، ووسطه قد استدق من التمسح به، والمقام في حوض من ساج مربع حوله رصاص ملبس به، وعلى الحوض صفائح رصاص ملبس بها ومن المقام في الحوض إصبعان، وعلى المقام صندوق ساج مسقف، ومن وراء المقام ملبن ساج في الأرض في طرفيه سلسلتان تدخلان في أسفل الصندوق، ويقفل فيهما بقفلان. [حدثنا أبو سعيد، عبد الله بن شبيب الربعي مولى أبي قبيس بن ثعلبة قال: حدثني علي بن جهم بن بدر الشامى قال: حدثني ابن مسهر عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال: أوصى مسلمة بن عبد الملك بالثلث من ثلث ماله لطلاب الأدب وقال: إنها صناعة مجفو أهلها]1. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ما بين الحاصرتين هكذا في الأصول، وفي هامش ب: "لا ندري المناسبة لذكر هذه العبارة في هذا المكان، ونرجح أن المؤلف وضعها في حاشية من الأصل، فجاء النساخ وضموها إلى الكتاب. والدليل أن السند لا يتصل بالأزرقي ولا برواية الخزاعي". أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ج / 2 ص -35- باب: ذكر زمزم باب: ما جاء في اخراج جبريل زمزم لأم إسماعيل عليهما السلام1 حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن جريج عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير قال: حدثنا عبد الله بن عباس أنه حين كان بين أم إسماعيل بن إبراهيم، وبين سارة امرأة إبراهيم ما كان أقبل إبراهيم نبي الله بأم إسماعيل وإسماعيل، وهو صغير ترضعه حتى قدم بهما مكة ومع أم إسماعيل شنة فيها ماء تشرب منه، وتدر على ابنها، وليس معها زاد يقول سعيد بن جبير: قال ابن عباس: فعمد بهما إلى دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد يشير لنا بين البئر وبين الصفة يقول: فوضعهما تحتها، ثم توجه إبراهيم خارجًا على دابته، واتبعت أم إسماعيل أثره حتى وافى إبراهيم بكذا. يقول ابن عباس: فقالت له أم إسماعيل: إلى من تتركها وولدها؟ قال: إلى الله عز وجل فقالت: قد رضيت بالله عز وجل، فرجعت أم إسماعيل تحمل ابنها حتى قعدت تحت الدوحة، ووضعت ابنها إلى جنبها، وعلقت شنتها تشرب منها، وترضع ابنها حتى فني ماء شنتها فانقطع درها فجاع ابنها، فاشتد جوعه حتى نظرت إليه أمه يتشحط، فخشيت أم إسماعيل أن يموت فأحزنها ذلك. يقول ابن عباس: قالت أم إسماعيل: لو تغيبت عنه حتى يموت ولا أرى موته. يقول ابن عباس: فعمدت أم إسماعيل إلى الصفا حين رأته مشرفًا تستوضح عليه أي ترى أحدًا بالوادي، ثم نظرت إلى المروة فقالت: لو ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 انظر في بئر زمزم: شفاء الغرام 1/ 397 وما بعدها، الجامع اللطيف ص 223، وما بعدها. ج / 2 ص -36- مشيت بين هذين الجبلين تعللت حتى يموت الصبي ولا أراه. يقول ابن عباس: فمشت بينهما أم إسماعيل ثلاث مرات، أو أربع ولا تجيز ببطن الوادي في ذلك إلا رملًا. يقول ابن عباس: ثم رجعت أم إسماعيل إلى ابنها فوجدته ينشع كما تركته، فأحزنها فعادت إلى الصفا تعلل حتى يموت ولا تراه، فمشت بين الصفا والمروة كما مشت أول مرة. يقول ابن عباس: حتى كان مشيها بينهما سبع مرات يقول: قال ابن عباس قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم: "فلذلك طاف الناس بين الصفا والمروة"، قال: فرجعت أم إسماعيل تطالع ابنها فوجدته كما تركته ينشع فسمعت صوتًا فراث1 عليها، ولم يكن معها أحد غيرها فقالت: قد أسمع صوتك فأغثني إن كان عندك خير، فخرج لها جبريل عليه السلام فاتبعته حتى ضرب برجله مكان البئر، فظهر ماء فوق الأرض حيث فحص جبريل. يقول ابن عباس: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم: "فحاضته أم إسماعيل بتراب ترده خشية أن يفوتها قبل أن تأتي بشنتها"، يقول أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم: "ولو تركته أم إسماعيل كان عينا معينا يجري". يقول ابن عباس: فجاءت أم إسماعيل بشنتها، فاستقت وشربت فدرت على ابنها. فبينا هي كذلك إذ مر ركب من جرهم قافلين من الشام في الطريق السفلى، فرأى الركب الطير على الماء فقال بعضهم: ما كان بهذا الوادي من ماء، ولا أنيس، يقول ابن عباس: فأرسلوا جريين لهم حتى أتيا أم إسماعيل، فكلماها ثم رجعا إلى ركبهما فأخبراهم بمكانها، فرجع الركب كلهم حتى حيوها فردت عليهم وقالوا: لمن هذا الماء؟ قالت أم إسماعيل: هو لي، قالوا: أتأذنين لنا أن نسكن معك عليه؟ قالت: نعم قال ابن عباس: قال أبو ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تحرف في أ، ب إلى: "رَأَت" وصوابه من الأصل. ورَاثَ: أبطأ. ج / 2 ص -37- القاسم -صلى الله عليه وسلم- "ألفى ذلك أم إسماعيل وقد أحبت الأنس فنزلوا، وبعثوا إلى أهليهم فقدموا وسكنوا تحت الدوح، واعترشوا عليها العرش فكانت معهم هي وابنها". وقال بعض أهل العلم: كانت جرهم تشرب من ماء زمزم، فمكثت بذلك ما شاء الله أن تمكث، فلما استخفت جرهم بالحرم، وتهاونت بحرمة البيت وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها سرًا وعلانية، وارتكبوا مع ذلك أمورًا عظاما، نضب ماء زمزم وانقطع، فلم يزل موضعه يدرس ويتقادم وتمر عليه السيول عصرًا بعد عصر حتى غبى مكانه. وقد كان عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي، قد وعظ جرهما في ارتكابهم الظلم في الحرم واستخفافهم بأمر البيت، وخوفهم النقم وقال لهم: إن مكة لا تقر ظالمًا فالله الله قبل أن يأتيكم من يخرجكم منها خروج ذل وصغار، فتتمنوا أن تتركوا تطوفون بالبيت فلا تقدروا على ذلك. فلما لم يزدجروا ولم يعوا وعظه عمد إلى غزالين كانا في الكعبة من ذهب، وأسياف قلعية كانت أيضًا في الكعبة، فحفر لذلك كله بليل في موضع زمزم ودفنه سرًا منهم حين خافهم عليه، فسلط الله عليهم خزاعة، فأخرجتهم من الحرم ووليت عليهم الكعبة والحكم بمكة ما شاء الله أن تليه، وموضع زمزم في ذلك لا يعرف لتقادم الزمان، حتى بوأه الله تعالى لعبد المطلب بن هاشم لما أراد الله من ذلك فخصه به من بين قريش. ما جاء في حفر عبد المطلب بن هاشم زمزم: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني، عن معمر عن الزهري قال: أول ما ذكر من عبد المطلب ج / 2 ص -38- ابن هاشم جد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن قريشًا خرجت فارة من أصحاب الفيل، وهو غلام شاب فقال: والله لا أخرج من حرم الله أبتغي العز في غيره قال: فجلس عند البيت وأجلت عنه قريش فقال: لا هم إن المرء يمـ نع رحله فامنع رحالك لا يغلبن صليبهم وضلالهم غدوا1 محالك قال: فلم يزل ثابتًا في الحرم حتى أهلك الله الفيل وأصحابه، فرجعت قريش وقد عظم فيها لصبره وتعظيمه محارم الله عز وجل، فبينما هو في ذلك وقد ولد له أكبر بنيه فأدرك وهو الحارث بن عبد المطلب، فأتي عبد المطلب في المنام فقيل له: احفر زمزم2 خبئة الشيخ الأعظم فاستيقظ فقال: اللهم بين لي، فأتي في المنام مرة أخرى فقيل له: احفر زمزم بين الفرث والدم عند نقرة الغراب في قرية النمل مستقبلة الأنصاب الحمر، فقام عبد المطلب فمشى حتى جلس في المسجد الحرام، ينظر ما سمي له من الآيات، فنحرت بقرة بالحزورة فانفلتت من جازرها بحشاشة نفسها، حتى غلبها الموت في المسجد في موضع زمزم، فجزرت تلك البقرة في مكانها حتى احتمل لحمها، فأقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث فبحث عن قرية النمل، فقام عبد المطلب فحفر هنالك، فجاءته قريش، فقالت لعبد المطلب: ما هذا الصنيع؟ إنا لم نكن نزنك بالجهل لم تحفر في مسجدنا؟ فقال عبد المطلب: إني لحافر هذا البئر ومجاهد من صدني عنها، فطفق هو وابنه الحارث، وليس له ولد يومئذ غيره فسفه عليهما يومئذ ناس من قريش فنازعوهما، وقاتلوهما وتناهى عنه ناس من قريش لما يعلمون من عتق نسبه، وصدقه واجتهاده في دينهم يومئذ، حتى إذا أمكن الحفر واشتد عليه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في الأصول: "عدوا" بالعين المهملة، والمثبت لدى ابن هشام في السيرة 1/ 51. وغدوا: غدا، وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك، فحذفت لامه، ولم يستعمل تاما إلا في الشعر. 2 انظر في ذكر حفر زمزم: سيرة ابن هشام 1/ 142 وما بعدها. ج / 2 ص -39- الأذى نذر إن وفى له عشرة من الولد أن ينحر أحدهم. ثم حفر حتى أدرك سيوفًا دفنت في زمزم حين دفنت، فلما رأت قريشا أنه قد أدرك السيوف قالوا: يا عبد المطلب أجزنا مما وجدت، فقال عبد المطلب: هذه السيوف لبيت الله الحرام، فحفر حتى انبط الماء في القرار ثم بحرها حتى لا ينزف، ثم بنى عليها حوضًا فطفق هو وابنه ينزعان فيملآن ذلك الحوض، فيشرب به الحاج فيكسره ناس من حسدة قريش بالليل، فيصلحه عبد المطلب حين يصبح. فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه فأري في المنام فقيل له: قل: اللهم إني لا أحلها لمغتسل، ولكن هي للشارب حل وبل ثم كفيتهم، فقام عبد المطلب يعنى حين اختلفت قريش في المسجد، فنادى بالذي أري، ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه ذلك عليه أحد من قريش، إلا رمي في جسده بداء حتى تركوا حوضه وسقايته. ثم تزوح عبد المطلب النساء، فولد له عشرة رهط فقال: اللهم إني كنت نذرت لك نحر أحدهم، وإني أقرع بينهم فأصب بذلك من شئت، فأقرع بينهم فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب، وكان أحب ولده إليه فقال عبد المطلب: اللهم أهو أحب اليك أم مائة من الإبل؟ ثم أقرع بينه وبين المائة من الإبل فكانت القرعة على المائة من الإبل فنحرها عبد المطلب. حدثني محمد بن يحيى عن الثقة عنده عن محمد بن إسحاق قال: حدثني غير واحد من أهل العلم أن عبد المطلب أري في منامه أن يحفر زمزم في موضعها، الذي هي فيه، فحفرها بين إساف ونائلة الوثنين اللذين كانا بمكة، فلما استقام حفرها وشرب أهل مكة، والحاج منها عفت على الآبار التي كانت بمكة قبلها لمكانها من البيت والمسجد، وفضلها على ما سواها من المياه؛ ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم في الموضع الذي ضرب فيه جبريل برجله، فهزمه ونبع الماء منه. ج / 2 ص -40- قال ابن إسحاق: وكان سبب حفرها أن عبد المطلب بن هاشم بينا هو نائم في الحجر، فأمر بحفر زمزم في منامه وهو دفين بين صنمي قريش إساف ونائلة عند منحر قريش. قال ابن إسحاق1: فحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله، عن عبد الله بن زرير الغافقي2 أنه سمع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال: احفر طيبة قال: قلت: وما طيبة3؟ قال: ثم ذهب عني فرجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر برة؟ قال: قلت: وما برة4؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان من الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم، قال: قلت وما زمزم؟ قال: لا تنزف5 أبدًا ولا تذم6 تسقي الحجيج الأعظم، عند قرية النمل7. قال: فلما أبان له شأنها ودل على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب ليس له يومئذ ولد غيره، فحفر فلما بدا لعبد المطلب الطي كبر، فعرفت قريش انه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر إسماعيل وإن لنا فيها حقًا فأشركنا معك فيها، فقال عبد المطلب: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر خصصت به دونكم وأُعطيته من بينكم. قالوا: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نحاكمك فيها قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد هذيم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سيرة ابن هشام 1/ 142. 2 تحرف في ب إلى: "عبد الله بن يزيد اليافعي" وصوابه من الأصل، أ، وسيرة ابن هشام". 3 قيل لزمزم طيبة؛ لأنها للطيبين والطيبات من ولد إبراهيم. 4 قيل لها برة؛ لأنها فاضات على الأبرار وغاضت عن الفجار. 5 لا تنزف: لا يفرغ ماؤها ولا يلحق قعرها. 6 لا تذم: أي لا توجد قليلة الماء. 7 سيرة ابن هشام 1/ 143. ج / 2 ص -41- قال: نعم وكانت بأشراف الشام1. فركب عبد المطلب، ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر. قال: والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة واستسقوا ممن معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا: إنا في مفازة نخشى فيها على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم، وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك فأمرنا بما شئت قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروه حتى يكون آخركم رجلًا واحدًا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعًا، قالوا: سمعنا ما أردت، فقام كل رجل منهم يحفر حفرته ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا لعجز لا نبتغي لأنفسنا حيلة. فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ارتحلوا، فارتحلوا حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قريش ينظرون إليهم وما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه ثم نزل فشرب وشربوا، واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل التي معه من قريش فقال: هلم إلى الماء فقد سقانا الله عز وجل، فاشربوا واستقوا، فشربوا واستقوا، فقالت القبائل التي نازعته: قد والله قضى الله عز وجل لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدًا الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة، هو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدًا. فرجع ورجعوا معه، ولم يمضوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سيرة ابن هشام 1/ 143. 2 سيرة ابن هشام 1/ 144. ج / 2 ص -42- قال ابن إسحاق: وسمعت أيضًا من يحدث في أمر زمزم: عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قيل لعبد المطلب حين أمر بحفر زمزم: أدع بالماء الرواء غير المكدر، فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش، فقال: أتعلمون أني قد أمرت أن أحفر زمزم؟ قالوا: فهل بين لك أين هي؟ قال: لا، قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت إن يكن حقًا من الله بين لك، وإن يكن من الشيطان لم يرجع إليك1. فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فأري فقيل: احفر زمزم إن حفرتها لم تذم وهي تراث أبيك الأعظم، فلما قيل له ذلك: قال: وأين هي؟ قال: قيل له: عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدًا، قال فغدا عبد المطلب، ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره فوجد قرية النمل، ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين: إساف ونائلة: فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر فقامت إليه قريش حين رأوا جده فقالت: والله لا ندعك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما، فقال عبد المطلب للحارث: دعني أحفر والله لأمضين لما أمرت به، فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه، وبين الحفر وكفوا عنه فلم يحفر إلا يسيرًا حتى بدا له الطي طي البير، فكبر وعرف أنه قد صدق2. فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين من ذهب، وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم حين خرجت من مكة، ووجد فيه أسيافًا قلعية وأدراعًا وسلاحًا فقالت له قريش: إن لنا معك في هذا شركًا وحقًا قال: لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم نضرب عليها بالقداح، قالوا: وكيف نصنع؟ قال: اجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، قالوا: أنصفت، فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين لعبد المطلب، وقدحين أبيضين لقريش. ثم قال: أعطوها من يضرب بها عند هبل3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سيرة ابن هشام 1/ 145. 2 سيرة ابن هشام 1/ 145-146. 3 سيرة ابن هشام 1/ 146-147. ج / 2 ص -43- وقام عبد المطلب فقال: لا همّ أنت الملك المحمود ربي وأنت المبدئ المعيد من عندك الطارف والتليد فاخرج لنا الغداة ما تريد فضرب بالقداح فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، وخرج الأسودان على الأسياف والدروع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش فضرب عبد المطلب الأسياف على باب الكعبة، وضرب فوقه أحد الغزالين من الذهب، فكان ذلك أول ذهب حليته الكعبة وجعل الغزال الآخر في بطن الكعبة في الجب، الذي كان فيها يجعل فيه ما يهدى إلى الكعبة، وكان هبل صنم قريش في بطن الكعبة على الجب فلم يزل الغزال في الكعبة، حتى أخذه النفر الذي كان من أمرهم ما كان، وهو مكتوب أخذه وقصته في غير هذا الموضع، فظهرت زمزم فكانت سقاية الحاج ففيها يقول مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس: يمدح عبد المطلب: فأي مناقب الخيرات لم تشدد به عضدا ألم تسق الحجيج وتنحر المدلابة الرفدا وزمزم من أرومته وتملأ عين من حسدا وكان عبد المطلب قد نذر لله عز وجل عليه، حين أمر بحفر زمزم لئن حفرها وتم له أمرها وتتام له من الولد عشرة ذكور، ليذبحن أحدهم لله عز وجل فزاد الله في شرفه وولده فولد له عشرة نفر، الحارث وأمه من بني سواءة بن عامر أخو هلال بن عامر، وعبد الله، وأبو طالب، والزبير وأمهم المخزومية، والعباس وضرار وأمهما النمرية، وأبو لهب، وأمه الخزاعية، والغيداق وأمه الغبشانية خزاعية، وحمزة والمقوم وأمهما الزهرية، فلما تتام له عشرة من الولد وعظم شرفه وحفر زمزم، وتم له سقيها، أقرع بين ولده أيهم يذبح، فخرجت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب أبى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ج / 2 ص -44- فقام إليه ليذبحه، فقامت له أخواله بنو مخزوم وعظماء قريش، وأهل الرأي منهم وقالوا: والله لا تذبحه فإنك إن تفعل تكن سنة علينا في أولادنا وسنة علينا في العرب. وقامت بنوه مع قريش في ذلك فقالت له قريش: إن بالحجاز عرافة لها تابع فسلها ثم أنت على رأس أمرك إن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك فيه فرج قبلته قال: فانطلقوا حتى قدموا المدينة فوجدوا المرأة فيها يقال لها تخيبر، فسألوها وقص عليها عبد المطلب خبره فقالت: ارجعوا اليوم عني حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا عنها حتى كان الغد ثم غدوا عليها فقالت: نعم قد جاءني الخبر كم الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل قال: وكانت كذلك قالت: فارجعوا إلى بلادكم وقربوا عشرًا من الإبل، ثم اضربوا عليها بالقداح وعلى صاحبكم، فإن خرجت على الإبل فانحروها، وإن خرجت على صاحبكم، فزيدوا من الإبل عشرًا ثم اضربوا بالقداح عليها وعلى صاحبكم حتى يرضى ربكم، فإذا خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم. قال: فرجعوا إلى مكة، فأقرع عبد المطلب على عبد الله وعلى عشر من الإبل فخرجت القرعة على عبد الله، فقالت قريش المطلب: يا عبد المطلب زد ربك حتى يرضى فلم يزل يزيد عشرًا عشرًا، وتخرج القرعة على عبد الله، وتقول قريش: زد ربك حتى يرضى ففعل حتى بلغ مائة من الإبل فخرجت القداح على الإبل فقالت قريش لعبد المطلب: انحرها فقد رضي ربك وقرعت، فقال: لم أنصف إذا ربي حتى تخرج القرعة على الإبل ثلاثًا، فأقرع عبد المطلب على ابنه عبد الله وعلى المائة من الإبل ثلاثًا كل ذلك تخرج القرعة على الإبل، فلما خرجت ثلاث مرات نحر الإبل في بطون الأودية والشعاب وعلى رؤوس الجبال لم يصد عنها إنسان، ولا طائر ولا سبع ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده شيئًا، وتجلبت لها الأعراب من حول ج / 2 ص -45- مكة وأغارت السباع على بقايا بقيت منها، فكان ذلك أول ما كانت الدية مائة من الإبل. ثم جاء الله بالاسلام فثبتت الدية عليه، قال: ولما انصرف عبد المطلب ذلك اليوم إلى منزله، مر بوهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وهو جالس في المسجد وهو يومئذ من أشراف أهل مكة، فزوج ابنته آمنة عبد الله بن عبد المطلب. ذكر فضل زمزم وما جاء في ذلك1: حدثنا أبو الوليد حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن وهب بن منبه أنه قال في زمزم: والذي نفسي بيده إنها لفي كتاب الله مضنونة، وإنها لفي كتاب الله تعالى برة وإنها لفي كتاب الله سبحانه شراب الأبرار، وإنها لفي كتاب الله طعام طعم وشفاء سقم. حدثني جدي عن الزنجي عن ابن خيثم قال: قدم علينا وهب بن منبه فاشتكى، فجئناه نعوده، فإذا عنده من ماء زمزم قال: فقلنا: لو استعذبت فإن هذا ماء فيه غلظ، قال: ما أريد أن أشربه حتى أخرج منها غيره، والذي نفس وهب بيده إنها لفي كتاب الله زمزم، لا تنزف ولا تذم، وإنها لفي كتاب الله برة شراب الأبرار، وإنها لفي كتاب الله مضنونة، وإنها لفي كتاب الله طعام طعم وشفاء سقم، والذي نفس وهب بيده لا يعمد إليها أحد، فيشرب منها حتى يتضلع إلا نزعت منه داء وأحدثت له شفاء2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 انظر في فضل زمزم: القرى ص 486، شفاء الغرام 1/ 406، الجامع اللطيف ص 229. 2 القرى ص 487. ج / 2 ص -46- حدثني جدي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن عبيد بن عمير عن كعب أنه قال لزمزم: إنا لنجدها مضنونة ضن بها لكم، أول من سقى ماءها إسماعيل عليه السلام طعام طعم وشفاء سقم. حدثنا جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تريد شفاء شفاك الله، وإن شربته لظمأ أرواك الله، وإن شربته لجوع أشبعك الله، وهي هزمة جبريل بعقبة وسقيا الله إسماعيل عليه السلام، قال أبو الوليد: والهزمة الغمرة بالعقب في الأرض، وقال: زمزم شقت من الهزمة1. حدثني جدي قال: حدثنا سفيان عن فرات القزاز، عن أبي الطفيل قال: سمعت عليًا يقول: خير واديين في الناس وادي مكة وواد بالهند الذي هبط به آدم عليه السلام، ومنه يؤتى بهذا الطيب الذي يتطيبون به، وشر واديين في الناس واد بالأحقاف وواد بحضرموت يقال له: برهوت، وخير بئر في الناس بير زمزم، وشر بئر في الناس بلهوت وإليها تجتمع أرواح الكفار وهي في برهوت2. حدثنا جدي، عن سفيان عن إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي حسين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، بعث إلى سهيل بن عمرو يستهديه من ماء زمزم فبعث إليه براويتين، وجعل عليهما كرًا غوطيًا. حدثنا جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج عن ابن جريج قال: حدثني ابن أبي حسين أنه قال: كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى سهيل بن عمرو، "إن جاءك كتابي هذا ليلًا فلا تصبحن، وإن جاءك نهارًا فلا تمسين حتى تبعث إلي بماء زمزم"، فاستعانت امرأته أثيلة الخزاعية جدة أيوب بن عبد الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى ص 488. 2 الجامع اللطيف ص 229. ج / 2 ص -47- فادلجناهما وجواريهما فلم يصبحا حتى قرنا مزادتين، وفرغتا منهما فجعلهما في كرين غوطيين ثم ملأهما وبعث بهما على بعير. حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد، حدثنا عبد الملك بن الحارث بن أبي ربيعة المخزومي، عن عكرمة بن خالد قال: بينما أنا ليلة في جوف الليل عند زمزم جالس، إذ نفر يطوفون عليهم ثياب بيض لم أر بياض ثيابهم لشيء قط، فلما فرغوا صلوا قريبًا مني فالتفت بعضهم فقال لأصحابه: اذهبوا بنا نشرب من شراب الأبرار، قال: فقاموا ودخلوا زمزم فقلت: والله لو دخلت على القوم فسألتهم، فقمت فدخلت، فإذا ليس فيها من البشر أحد1. حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد، عن رجل يقال له رباح مولى لآل الأخنس أنه قال: أعتقني أهلي فدخلت من البادية إلى مكة فأصابني بها جوع شديد، حتى كنت أكوم الحصا ثم أضع كبدي عليه، قال: فقمت ذات ليلة إلى زمزم فنزعت فشربت لبنًا كأنه لبن غنم مستوحمة أنفاسًا. حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن عمر بن عبد الله القيسي، عن جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم، عن عبد الله بن غنمة عن العباس بن عبد المطلب قال: تنافس الناس في زمزم في الجاهلية، حتى إن كان أهل العيال يغدون بعيالهم فيشربون منها، فتكون صبوحًا لهم وقد كنا نعدها عونًا على العيال. حدثني محمد بن يحيى، عن سليم بن مسلم عن سفيان الثوري، عن العلاء بن أبي العباس عن أبي الطفيل قال: سمعت ابن عباس يقول: كانت تسمى في الجاهلية شباعة -يعني زمزم- ويزعم أنها نعم العون على العيال. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الجامع اللطيف ص 229. ج / 2 ص -48- وحدثني محمد بن يحيى عن الواقدي، عن عبد الله بن المؤمل عن أبي الزبير عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ماء زمزم لما شرب له". وعن الواقدي عن عبد الحميد بن عمران عن خالد بن كيسان عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق". وحدثني جدي عن سعيد عن عثمان قال: حدثنا أبو سعيد، عن رجل من الأنصار عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "علامة ما بيننا وبين المنافقين أن يدلوا دلوًا من ماء زمزم فيتضلعوا منها، وما استطاع منافق قط يتضلع منها". وعن الواقدي عن الثوري، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء أن كعب الأحبار حمل منها ثنتي عشرة راوية إلى الشام. وعن الواقدي، عن ثور بن يزيد عن مكحول، عن كعب الأحبار أنه كان يحمل معه من ماء زمزم يتزوده إلى الشام، وعن الواقدي عن ابن أبي ذؤيب عن القاسم بن عباس، عن باباه مولى العباس بن عبد المطلب قال: جاء كعب الأحبار بإداوة1 من ماء إلى زمزم، ونحن ننزع عليها فنحيناه عنها، فقال العباس -رضي الله عنه: دعوه يفرغها فيها واستقى منهما إداوة وقال: إنهما ليتعارفان يعني إيليا وزمزم. حدثني جدي قال: حدثنا عيسى بن يونس قال: حدثنا عنبسة بن سعيد الرازي، عن إبراهيم بن عبد الله الخاطبي، عن عطاء عن ابن عباس قال: صلوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب الأبرار، قيل لابن عباس: ما مصلى الأخيار؟ قال تحت الميزاب، قيل وما شراب الأبرار؟ قال: ماء زمزم. حدثني جدي عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن جريج قال: سمعت أنه يقال: خير ماء في الأرض ماء زمزم وشر ماء في ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الإداوة: إناء صغير يحمل فيه الماء. ج / 2 ص -49- الأرض ماء برهوت، شعب من شعاب حضرموت، وخير بقاع الأرض المساجد، وشر بقاع الأرض الأسواق. حدثني جدي، عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن جريج قال: حدثني عبد الله بن أبي بريدة، عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ أن زبيد بن الصلت أخبره أن كعبًا قال: لزمزم برة مضنونة ضن بها لكم، أول من أخرجت له إسماعيل، ونجدها طعام طعم وشفاء سقم. قال ابن جريج: وأخبرني يزيد بن أبي زياد، عن شيخ من أهل الشام قال: سمعت كعبًا يقول: إني لأجد في كتاب الله تعالى المنزل أن زمزم طعام طعم، وشفاء سقم، حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني الكلبي عن عون بن حميد بن مل، عن عبد الله بن الصامت بن أخي أبي ذر أنه قال: قال لي عمي أبو ذر: يا بن أخي في حديث حدث به، عن مقدم أبي ذر مكة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكان في حديثهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: "متى كنت ههنا؟" قال: قلت: أربع عشرة بين يوم وليلة وما لي طعام، ولا شراب إلا ماء زمزم فما أجد على كبدي سخفة وجع، ولقد تكسرت عكن بطني فقال: "إنها طعام طعم"1. حدثني جدي عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج أخبرني عبد العزيز بن أبي رواد قال: أخبرني رباح عن الأسود قال: كنت مع أهلي بالبادية، فاتبعت بمكة فأعتقت فمكثت ثلاثة أيام لا أجد شيئًا آكله، قال: فمكثت أشرب من ماء زمزم، فانطلقت حتى أتيت زمزم فبركت على ركبتي، مخافة أن أستقي وأنا قائم فيرفعني الدلو من الجهد، فجعلت أنزع قليلًا قليلًا حتى أخرجت الدلو فشربت، فإذا أنا بصريف اللبن بين ثناياي فقلت: لعلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الجامع اللطيف ص 229. ج / 2 ص -50- ناعس، فضربت بالماء على وجهي وانطلقت وأنا أجد قوة اللبن وشبعه1. حدثني جدي عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني عبد العزيز بن أبي رواد ان راعيًا كان يرعى، وكان من العباد، فكان إذا ظمئ وجد فيها لبنًا، وإذا أراد أن يتوضأ وجد فيها ماء2. حدثني جدي عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج قال: أخبرني مقاتل عن الضحاك بن مزاحم، قال: بلغني أن التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق، وإن ماءها يذهب بالصداع، وإن الاطلاع فيها يجلو البصر، وأنه سيأتي عليها زمان يكون أعذب من النيل والفرات. قال: أبو محمد الخزاعي: وقد رأينا ذلك في سنة إحدى وثمانين ومائتين، وذلك أنه أصاب مكة أمطار كثيرة، فسال واديها بأسيال عظام في سنة تسع وسبعين وسنة ثمانين ومائتين، فكثر ماء زمزم وارتفع حتى كان قارب رأسها، فلم يكن بينه وبين شفتها العليا إلا سبعة أذرع أو نحوها، وما رأيتها قط كذلك، ولا سمعت من يذكر أنه رآها كذلك، وعذبت جدًا حتى كان ماؤها أعذب من مياه مكة التي يشربها أهلها، وكنت أنا وكثير من أهل مكة نختار الشرب منها لعذوبته، وأنا رأيناه أعذب من مياه العيون، ولم أسمع أحدًا من المشايخ يذكر أنه رآها بهذه العذوبة، ثم غلظت بعد ذلك في سنة ثلاث وثمانين وما بعدها، وكان الماء في الكثرة على حاله، وكنا نقدر أنها لو كانت في بطن وادي مكة لسال ماؤها على وجه الأرض؛ لأن المسجد أرفع من الوادي، وزمزم أرفع من المسجد، وكانت فجاج مكة وشعابها في هاتين السنتين، وبيوتها التي في هذه المواضع تنفجر ماء. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الجامع اللطيف ص 229. 2 الجامع اللطيف ص 230. ج / 2 ص -51- قال عثمان: وأخبرني خصيف، قبال: {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} قال: أول مسجد وضع للناس. وقال مجاهد: {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}، مثل قوله: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. قال عثمان: وأخبرني محمد بن أباب، عن زيد بن أسلم، أنه قرأ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}، حتى بلغ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}، قال: الآيات البينات هي: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، وقال: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]. قال عثمان: وأخبرني محمد بن إسحاق أن قول الله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} أي: مسجد: {مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ}. وقال: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92]. قال عثمان وأخبرني يحيى بن أبي أنيسة في قوله الله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} قال: كان موضع الكعبة قد سماه الله عز وجل بيتًا، قبل أن تكون الكعبة في الأرض، وقد بنى قبله بيت ولكن الله سماه بيتًا وجعله الله: {مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ}، قبلة لهم. ما جاء في مسألة إبراهيم الأمن والرزق لأهل مكة شرفها الله تعالى، والكتب التي وجد فيها تعظيم الحرم: حدثنا أبو الوليد، قال: وأخبرني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، قال: أخبرني موسى بن عبيدة الربذي، عن محمد بن كعب القرظي، قال: دعا إبراهيم للمؤمنين، وترك الكفار لم يدع لهم بشيء فقال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} [البقرة: 126]. ج / 2 ص -52- فعلت -أي ربما نزعت. حدثنا ابن جريج أيضًا عن عطاء قال: رأيت عقيل بن أبي طالب شيخًا كبيرًا يفتل الغرب، وكانت عليها غروب ودلاء، فرأيت رجالًا منهم بعد ما معهم مولى، في الأرض يلقون أرديتهم فينزعون في القمص، حتى إن أسافل قمصهم لمبتلة بالماء، فينزعون قبل الحج وأيام منى وبعده. قال ابن جريج: وأخبرني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن دواد بن علي بن عبد الله بن عباس، إن رجلًا نادى ابن عباس والناس حوله فقال: سنة تتبعون بهذا النبيذ أم هو أهون عليكم من العسل واللبن؟ فقال ابن عباس: جاء النبي صلى الله عليه وسلم عباسًا فقال: "اسقونا" فقال: إن هذا شراب قد مغث ومرث أفلا نسقيك لبنًا وعسلًا؟ فقال: "اسقونا مما تسقون منه الناس"، قال: فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم، ومعه أصحابه من المهاجرين والأنصار بعساس النبيذ، فلما شرب النبي -صلى الله عليه وسلم- عجل قبل أن يروى فرفع رأسه، فقال: "أحسنتم هكذا اصنعوا"، فقال ابن عباس: فرضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم، بذلك أحب إلينا من أن تسيل شعابنا علينا لبنًا وعسلًا، قال ابن جريج: قال عطاء: فلا يخطئني إذا أفضت أن أشرب من ماء زمزم، قال: وقد كنت فيما مضى أنزع مع الناس الدلو، التي أشرب منها اتباع السنة فأما مذ كبرت فلا أنزع، ينزع لي فأشرب، وإن لم يكن لي ظمأ اتباع صنيع محمد -صلى الله عليه وسلم، قال: فأما النبيذ فمرة أشرب منه ومرة لا أشرب منه. حدثني جدي قال: حدثنا سفيان عن ابن طاوس، عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم، أفاض في نسائه ليلًا، وطاف على راحلته يستلم الركن بمحجنه ويقبل طرف المحجن، ثم أتى زمزم فقال: "انزعوا فلولا أن تغلبوا عليها لنزعت"، فقال العباس -رضي الله عنه: إن يفعل فربما فعلت فداك أبي وأمي، ثم أمر بدلو فنزع له منها فشرب فمضمض، ثم مج في الدلو وأمر به فأهريق في زمزم، ثم أتى السقاية فقال: "اسقوني من النبيذ"، فقال عباس: يا رسول الله إن هذا ج / 2 ص -53- شراب قد مغث وثفل وخاضته الأيدي، ووقع فيه الذباب وفي البيت شراب هو أصفى منه، قال: "منه فاسقني"، يقول ذلك ثلاث مرات، وأعاد النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله ثلاث مرات كل ذلك يقول: "منه فاسقني"، فسقاه منه فشرب، قال ابن طاوس: فكان أبي يقول: هو من تمام الحج. حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة عن عاصم الأحول عن الشعبي، عن ابن عباس قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- نزع له دلو من ماء زمزم فشرب قائمًا. حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة، عن مسعر بن عبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بدلو من ماء زمزم، فاستنثر خارجًا من الدلو ومضمض ثم مج فيه، قال مسعر: مسكًا أو أطيب من المسك. حدثني جدي عن سعيد بن سالم، عن عثمان قال: أخبرني حنظلة بن أبي سفيان الجمحي أنه سمع طاوسًا يقول: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم، السقاية فقال: "اسقوني"، فقال عباس: إنهم قد مرثوه وأفسدوه أفأسقيك؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اسقوني منه"، فسقوه منه ثم نزعوا له دلوًا فغسلوا له وجهه وتمضمض فيه فقال: "أعيدوه فيها" ثم قال: "إنكم على عمل صالح لولا ان يتخذ سنة لأخذت بالرشاء والدلو". حدثني جدي عن عبد المجيد، عن عثمان بن الأسود عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صفة زمزم، فأمر بدلو فنزعت له من البئر فوضعها على شفة البئر، ثم وضع يده من تحت عراقي الدلو ثم قال: "بسم الله" ثم كرع فيها فأطال، ثم أطال فرفع رأسه فقال: "الحمد لله"، ثم عاد فقال: "بسم الله"، ثم كرع فيها فأطال وهو دون الأول، ثم رفع رأسه فقال: "الحمد لله"، ثم كرع فيها فقال: "بسم الله" فأطال وهو دون الثاني، ثم رفع رأسه فقال: "الحمد لله"، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "علامة ما بيننا وبين المنافقين لم يشربوا منها قط حتى يتضلعوا". ج / 2 ص -54- ما جاء في تحريم العباس بن عبد المطلب، زمزم للمغتسل فيها وغير ذلك: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سفيان عمن سمع عاصم بن بهدلة يحدث عن زر بن حبيش قال: رأيت عباس بن عبد المطلب في المسجد الحرام، وهو يطوف حول زمزم يقول: لا أحلها لمغتسل وهي لمتوضئ وشارب حل وبل، قال سفيان: يعني لمغتسل فيها، وذلك أنه وجد رجلًا من بني مخزوم، وقد نزع ثيابه، وقام يغتسل من حوضها عريانا. حدثني جدي قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عباس يقول: هي حل وبل، يعني زمزم، فسئل سفيان ما حل وبل؟ قال: حل محلل. حدثني جدي عن سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس أنه بلغه أن رجلًا من بني مخزوم اغتسل من زمزم فوجد من ذلك وجدًا شديدًا فقال: لا أحلها لمغتسل يعني في المسجد، وهي لشارب ومتوضئ حل وبل يقول: حل محلل. إذن النبي لأهل السقاية من أهل بيته في البيتوتة بمكة ليالي منى: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن جريج، حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: أن العباس استأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له، ج / 2 ص -55- قال ابن جريج: وأخبرني عطاء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص لأهل بيته أن يبيتوا بمكة ليالي منى من أجل شغلهم فيها، قلت: أترى لآل جبير رخصة؟ قال: لا، إنما ذلك لمن أرخص له النبي -صلى الله عليه وسلم-، قلت: أي أهل بيته رأيته يبيت بمكة، قال: لم أر أحدًا منهم يبيت بمكة إلا ابن عباس فكان يبيت بمكة ليالي منى. يظل ختى إذا كان الرمي انطلق فرمى، ثم دخل مكة فبات بها، وظل حتى مثلها أيام منى كلها. ما ذكر من غور الماء قبل يوم القيامة إلا زمزم: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني مقاتل، عن الضحاك بن مزاحم أن الله عز وجل يرفع المياه العذبة قبل يوم القيامة، وتغور المياه غير زمزم وتلقي الأرض ما في بطنها من ذهب وفضة، ويجيء الرجل بالجراب فيه الذهب والفضة، فيقول: من يقبل هذا مني؟ فيقول: لو أتيتني به أمس قبلته. ما كان عليه حوض زمزم في عهد ابن عباس ومجلسه: حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: قال لي عطاء: وإنما كانت سقايتهم التي يسقون بها، قال: كان لزمزم حوضان في الزمان الأول، فحوض بينها وبين الركن يشرب منه الماء، وحوض من ورائها للوضوء له سرب يذهب فيه الماء من باب وضوئهم الآن يعني باب الصفا، قال: فيصب النازع الماء وهو قائم على البئر في ج / 2 ص -56- هذا وفي هذا من قربها من البئر، قال الخزاعي: وفي ذلك يقول الشاعر: كأني لم أقطن بمكة ساعة ولم يلهني فيها ربيب منعم ولم أجلس الحوضين شرقي زمزم وهيهات أني منك لا أين زمزم1 قال: ولم يكن عليها شباك حينئذ قال: وأراد معاوية بن أبي سفيان أن يسقى في دار الندوة فأرسل إليه ابن عباس -رضي الله عنه، أن ليس ذلك لك فقال: صدق فسقي حينئذ بالمحصب ثم رجع فسقي بمنى، قال مسلم بن خالد: كان موضع السقاية التي للنبيذ بين الركن، وزمزم مما يلي ناحية الصفا فنحاها ابن الزبير إلى موضعها الذي هي فيه اليوم. وقال غير واحد من أهل العلم من أهل مكة: