اطلع الله بجهدك ... عامداً أودون جهدك
أعط مولاك كما تط ... لب من طاعة عبدك
لمحمود الوراقوقال محمود:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعمته ... إن المحب لمن يحب مطيع
وقال أيضاً:
إني شكرت لظالمي ظلمي ... وغفرت ذاك له على علمي
ورأيت أسدى إلي يداً ... لما أبان بجهله حلمي
رجعت إساءته عليه وإح ... ساني مضاعف الجرم
وغدوت ذا اجر ومحمدة ... وغدا بكسب الظلم والإثم
فكأنما الإحسان كان له ... وأنا المسيء إليه في الحكم
مازال يظلمني وأرحمه ... حتى بكيت له من الظلم
اخذ هذا المعنى من قول رجل من قريش لرجل قال له: إني مررت بقوم من قريش من آل الزبير أو غيرهم يشتمونك شتماً رحمتك منه، قال: فسمعتني أقول إلا خيراً! قال: إياهم فارحم.
وقال الصديق1: رحمه الله لرجل قال له: لأشتمنك شتماً يدخل معك في قبرك،قال: معك والله يدخل، لامعي.
وقال ابن مسعود: إن الرجل ليظلمني فأرحمه.
ـــــــ
1 ر: "أبو بكر الصديق"، س: "الصديق رضي الله عنه".
وقال رجل للشعبي كلاماً اقذع له فيه، فقال الشعبي: إن كنت صادقاٌ فغفر الله لي، وإن كنت كاذباٌ فغفر الله لك.
ويروى انه أتى مسجداً فصادف فيه قوماً يغتابونه فأخذ بعضادتي الباب، ثم قال:
هنيئاً مريئاً غير داء مخاطر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت
وذكر ابن عائشة أن رجلاً من أهل الشام قال: دخلت المدينة فرأيت رجلاً ركباً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتاً ولاثوباً ولا دابة منه، فمال قلبي إليه، فسألت عنه، فقيل: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، فامتلأ قلبي له بغضاً، وحسدت علياً أن يكون له أبن مثله، فصرت إليه، فقلت له: أنت ابن أبي طالب? فقال: أنا ابن ابنه فقلت: فبك وبأبيك أسبهما. فما انقضى كلامي قال لي: أحسبك غريباً. فقلت: أجل، قال: فمل بنا، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مال آسيناك، أو إلى حاجة عاوناك، قال: فانصرفت عنه، ووالله ما على الأرض أحد احب إلي منه.
لمحمود الوراق أيضاً
وقال محمود الوراق:
ياناظراً يرنو بعيني راقدٍ ... ومشاهداً للأمر غير مشاهد
منيت نفسك ضلةً وأبحتها ... طرق الرجاء وهن غير قراصد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درك الجنان بها وفور العابد
ونسيت ان الله أخرج آدماً ... منها إلى الدنيا بذنب واحد
للحسن بن هانئ الحكمى المعروف بأبى نواسوقال الحكم للفضل بن الربيع1:
ما من يدٍ في الناس واحدةٍ ... كيدٍ أبو العباس مولاها
نام الكرام على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك ثم أمنني ... من أن أخافك خوفك الله
فعفوت عني عفو مقتدر ... حلت له نقم فألفاها
ـــــــ
1 زيادات ر: هو أبو نواس الحسن بن هانىء، وهو منسوب إلى حكم، قبيله من مذحج".
لعبد الله بن محمد بن أبى عيينةوقال عبد الله بن أبي عيينه لذي اليمينين1:
لما رأيتك قاعداً مستقبلاً ... أيقنت أنك للهموم قرين
فارفض بها وتعر من أثوابها ... إن كان عندك للقضاء يقين
مالا يكون فلا يكون بحيلةٍ ... أبداً وما هو كائن سيكون
يسعى الذكي فلا ينال بسعيه ... حظاً ويحظى عاجز ومهين
سيكون ما هو كائن في وقته ... وأخو الجهالة متعب محزون
الله يعلم أن فرقة بيننا ... فيما أرى شيء علي يهون
ـــــــ
1 هو طاهر بن الحسين، وكان من أكبر أعوان المأمون، وفي زيادات ر: "سمى ذا اليمينين؛ لأنه ضرب إنسانا فجعله قسمين".
لصالح بن عبد القدوسوقال صالح بن عبد القدوس2:
إن يكن مابه أصبت جليلاً ... فذهاب العراء فيه أجل
كل آتٍ لاشك آتٍ وذو الجه ... ل معنى والغم والحزن فضل
ـــــــ
1 زيادات ر: "صلبه عبد الملك بن مروان على الزندقة- أعنى صالحا". وفي معجم الأدباء 7: 12 أن الذي قتله هو المهدي العباسي، ضربه بالسيف فشطره شطرين، وعلق بضعة أيام للناس، ثم دفن".
من الأبيات المنفردةوأنشد منشد من الأبيات المنفردة القائمة بأنفسها:
إذا أنت لم تعطي الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال1
ومنها قول ابن وهيب الحميري2:
وإني لأرجو الله حتى كأنني ... أرى بجميل الظن ما الله صانع
ـــــــ
1 حواشي الأصل: "هذا البيت قاله هشام بن عبد الملك ولم يقل شعرا غيره".
2 في ر، س: "ابن أبى وهيب" وصوابه ما في الأصل. وانظر معجم الشعراء 420.
وقال آخر:
ويعرف وجه الحزم حتى كأنما ... تخاطبه من كل أمر عواقبه
وقال أشجع السلمي:
رأي سرى وعيون الناس راقدة ... ما أخر الحزم رأي قدم الحذرا
وقال آخر: فلله مني جانب لا أضيعه وللهو مني والبطالة جانب وقال آخر:
يرى فلتات الرأي مقبل ... كأن في اليوم عيناً على غد
لعبد الصمد بن المعذل أيضاً
...
وقال عبد الصمد بن المعذل:
أمن على المجتدي ... وما أتبع المن من
كان لم يزل ما أتى ... وما قد مضى لم يكن
أرى الناس أحدوثة ... فكوني حديثاً حسن
وقال أيضاً:
زعمت عاذلتي أني لما ... حفظ البخل من المال مضيع
كلفتني عذرة الباخل إذا ... طرق الطارق والناس هجوع
ليس لي عذر وعندي بلغة ... إنما العذر لمن لا يستطيع
للحسن بن هانئ أيضاوقال الحسن بن هانىء الحكمى:
إليك غدت بي حاجة لم أبح بها ... اختف عليها شامتاً فأداري
فأرخ عليها ستر معروفك الذي ... سترت به قدما على عواري
وقال أيضاً:
قد قلت للعباس معتذراً ... من ضعف شكريه ومعترفاً
أنت امرؤ جللتني نعماً ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا
فإليك بعد اليوم تقدمة ... لاقتك بالتصريح منكشفاً
لاتحدثن إلي عارفة ... حسبي أقوم بشكر ما سلفا
لدعبل بن علي الخزاعي
وقال دعبل بن على الخزاعي:
أحببت قومي ولم أعدل بحبهم ... قالوا تعصبت جهل قول ذي بهت
دعني أصل رحمي إن كنت قاطعها ... لا بد للرحم الدنيا من الصلة
فاحفظ عشيرتك الأدنين إن لهم ... حقاً يفرق بين الزوج والمرة1
قومي بنوا مذحج والأزد أخوتهم ... وآل كندة والأحياء من علةٍ2
ثبت الحلوم فإن سلت حفائظهم ... سلوا السيوف فأرادوا كل ذي عنت
لاتعرضن بمزح لامرئٍ طبن ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة
فرب قافية بالمزح جارية ... مشؤومة لم يرد إنماؤها نمت
إني إذا قلت بيت مات قائله ... ومن يقال له والبيت لم يمت
وقال أيضاً:
نعوني ولما ينعني غير شامت ... وغير عدو قد أصيبت مقاتله
يقولون إن ذاق الردى مات شعره ... وهيهات عمر الشعر طالت طوائله
سأقضي ببيتٍ يحمد الناس أمره ... ويكثر من أهل الرواية حامله
يموت ردي الشعر من قبل أهله ... وجيده يبقى وإن مات قائله3
ـــــــ
1 المرة: لغة في المرأة "رغبة الآمل".
2 علة: قبيلة.
3 زيادات ر: "البيت الأخير ليس لدعبل، وإنما هو مضمن".
لإسماعيل بن القاسم أيضاً
وقال إسماعيل بن القاسم:
يا من يعيب وعيبه متشعب ... كم فيك من عيب وأنت تعيب!
لله درك كيف أنت وغايةٌ ... يدعوك ربك عندها فتجيب
وقال أيضاً:
يا علي بن ثابت بأمن مني ... صاحب جل فقده يوم بنتا
يا علي بن ثابت أي أنت ... أين أنت أنت بين القبور حيث دفنتا
قد لعمري حكيت لفي قصص المو ... ت وحركتني لها وسكنتا
وقال أيضاً:
صاحب كان لي هلك ... والسبيل التي سلك1
يا علي بن ثابت ... غفر الله لي ولك
كل حي مملك ... سوف يفنى ومالك
وقال أيضاُ:
طوتك خطوب دهرك كبعد نشرٍ ... كذاك خطوبه نشراً وطيا
فلو نشرت قواك لي المنايا ... شكوت إليك ما صنعت إليا
بكيتك يا أُخي بدمع عيني ... فلم يغني البكاء عليك شيا
كفى حزناً بدفنك ثم إني ... نفضت تراب قبرك عن يديا
وكانت في حياتك لي عضات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيا
وكان إسماعيل بن القاسم لا يكاد يخلي شعر من تقدم من الأخبار والآثار فينظم ذلك الكلام المشهود،ويناوله أقرب متناول، ويسرقه أخفى سرقة.
فقوله: وأنت اليوم أوعظ منك حيا، إنما أخذه من قول الموبذ لقباد الملك حيث مات، فإنه قال في ذلك الوقت: كان الملك أمسى أن انطق منه اليوم. وهو اليوم أوعظ منه أمس.
ـــــــ
1 زيادات ر: "والسبيل التي سلك: ابتداء وخبر، ومن قال غير هذا فقد أخطأ".
واحذ قوله:
قد لعمري حكيت لي قصص المو ... ت وحركتني لها وسكنتا
من قول نادب الإسكندر فإنه لما مات بكى من بحضرته فقال نادبه حركنا بسكونه.
لإسماعيل بن القاسم أيضا
وقال إسماعيل بن القاسم1:
ياعجباً للناس لو فكرروا، ... حاسبوا أنفسهم أبصروا
وعبروا الدنيا إلى غيرها ... فإنما الدنيا لهم معبر2
الخير مما ليس يخفى هو الـ ... ـمعروف والشر هو المنكر
والموعد الموت وما بعده الـ ... ـحشر الموعد الأكبر
لافخر إلا فخر أهل التقى ... غداً إذا ضمهم المحشر
ليعلمنّ الناس ان التّقى ... البر كانا خير ما يذخر
عجبت للإنسان في فخره ... وهو غداً في قبره يقبر
ما بال من أوّله نطفة ... وجيفة آخره يفخر!
أصبح لا يملك تقديم ما ... يرجو ولا تأخير ما يحذر
وأصبح الأمر إلى غيره ... في كل ما يقضى وما يقدر
أما قوله:
ياعجباً للناس لو فكروا ... وحاسبوا أنفسهم أبصروا
فمأخوذ من قولهم: الفكرة مرآة تريك حسنك من قبيحك. ومن قول لقمان لابنه: يا بنيّ لعاقل أن يخلي نفسه من أربعة أوقات: فوقت منها يناجي فيه ربّه، وقت يحاسب فيه نفسه، ووقت يكسب فيه لمعاشه، ووقت يخلي فيه بين نفسه وبين ذاتها، ليستعين بذلك على سائر الأوقات.
ـــــــ
1 زيادات ر: "وهو أبو العتاهية".
2 زيادات ر: "معبر بفتح الميم وكسرها لابن سراج، وبفتح الميم لا غير، رواية عاصم".
وقوله:
وعبروا الدنيا إلى غيرها ... فإنما الدنيا لهم معبر
مأخوذ من قول الحسن: اجعل الدنيا كالقنطرة تجوز عليها ولا تعمرها.
وقوله:
الخير مما ليس يخفى هو الـ ... ـمعروف والشر هو المنكر
مأخوذ من حديث عبد الله بن عمر بن العاص، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا عبد الله كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس مرجت عهودهم وأماناتهم، وصار الناس هكذا". وشبه بين أصابعه، فقلت: مرني يا رسول الله، فقال: "خذ ما عرفت ودع ما أنكرت، وعليك بخويصّة نفسك، وإياك وعوامّها".
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "في حثالة الناس" أما الحثالة فهو ما يبقى في الإناء من ردي الطعام، وضربه مثلاً. وقوله: "مرجت عهودهم". يقول: اختلطت وذهبن بهم كل مذهب، يقال: مرج الماء إذا سال ولم يكن له مانع، قال الله عز وجل: {مرج البحرين يلتقيان} 1.
وقوله:
ليعلمن الناس إن التقى ... والبر كانا خير ما يذخر
مأخوذ من قول أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا حشر الناس في صعيد واحد نادى منادٍ من قبل العرش: ليعلمن أهل لا لموقف، من أهل الكرم اليوم? ليقم المتقون!" ثم تلا رسول الله صلى الله وعليه وسلم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2 وقوله:
ما بال من أوله نطفة ... وجيفة آخره يفخر
مأخوذ منقول علي بن أبي طالب رشي الله عنه: وما ابن آدم والفخر إنما أوله نطفة،آخره جيفة، لا يرزق نفسه، ولا يدفع حتفه.
ـــــــ
1 سورة الرحمن 19.
2 سورة الحجرات 13.
لابن أبي عيينةوقال ابن أبي عيينة:
ما راح يوم على حي ولا ابتكرا ... إلا رأى عبرة فيه إن اعتبرا
ولا أنت ساعة في الدهر فانصرمت1 ... حتى تؤثر في في قوم لها أثرا
إن الليالي والأيام أنفسها ... عن غير أنفسها لم تكتم الخيرا
فأخذ هذا المعنى حبيب بن أوس الطائي وجمعه في ألفاظ يسيرة فقال:
عمري لقد نصح الزمان إنه ... لمن العجائب ناصح لا يشفق
فزاد بقوله: ناصح لا يشفق على قول ابن أبي عيينة شيئاً طريفاً، وهكذا يفعل الحاذق بالكلام. ولو قال قائل: إن أقرب ما تأخذ منه أبو العتاهية:
ليعلمن الناس أن التقى ... والبر كانا خير ما يذخر
من قول خليل بن أحمد:
قال أبو الحسن: زعم النسابون أنهم لا يعرفون أنهم منذ وقت النبي صلى الله وعليه وسلم إلى الوقت الذي ولد فيه احمد أبو الخليل أحداً سمي بأحمد غيره.
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح إلى الأعمال2
لكان قد قال قولاً.
وقال العباس بن الفرح:
أملي من دونه أجلي ... فمتى أفضي إلى إملي
ـــــــ
1 زيادات ر: "فانصرفت" أشبه للمطابقة، والمشهور "انصرفت".
2 كذا نسبته في الأصول والمشهور أن البيت للأخطل، وهو في ديوانه 158.
للخليل بن أحمدوقال الخليل بن أحمد، وكان مظر في النجوم فابعد ثم لم يرضها فقال:
أبلغا عني المنجم أني ... كافر بالذي قضته الكواكب
عالم،أن ما يكون وما كا ... ن بحتم من المهيمن واجب
لمحمد بن بشير يعيب المتكلمينقال محمد بن بشير يعيب المتكلمين، أنشدنيه الرياشي:
يا سائلي عن مقالة الشيع ... وعن صنوف الأهواء والبدع
دع من يقود الكلام ناحيةً ... فما يقود الكلام ذو وزع
كل أناس بد يّهم حسن ... ثم يصيرون بعد للشّنع
أكثر ما فيه أن يقال له ... لم يك في قوله بمنقطع
وأنشد الرياشي لغيره:
قد نقّر الناس حتى أحدثوا بدعاً ... في الدين بالرأي لم تبعث بها الرّسل
حتى استخف بحق الله أكثرهم ... وفي الذي حملوا من حقه شغل
وقال محمد بن بشير:
ويل لمن لم يرحم الله ... ومن تكون النار مثواه
يا حسرتا في كل يوم مضى ... يذكرني الموت وأنساه
من طال في الدنيا به عمره ... وعاش فالموت قصاره
كأنه قد قيل في مجلس ... قد كنت آتيه وأغشاه
صار البشيري إلى ربه ... يرحمنا الله وإيّاه
وقال أيضاُ:
أي صفو إلا إلى تكدير ... ونعيم إلا إلى تغيير
وسرورٍ ولذّةٍ وحبورٍ ... ليس رهناً لنا بيوم عسير
عجباً لي ومن رضاي بدنيا ... أنا فيها على شفا تغرير!
عالم لا أشك أني إلى اللـ ... ـه إذا متّ أو عذاب السعير
ثم ألهو ولست أدري إلى أيـ ... ـهما بعدة يصير مصيري
أي يوم عليّ أفظع من يو ... م به تبرز النّعاة سريري
كلما مرّ بي على أهل نادٍ ... كنت حسناً بهمم كثير المرور
قيل: من ذا على سرير المنايا ... قيل هذا محمد بن بشير
للحكمي أبي نواس أيضاُ
وقال الحكمي أبو نواس:
أخي ما بال قلبك ليس ينفي ... كأنك لاتظن الموت حقاً
ألا يا أبن الذين فنوا وبادوا ... أما والله ما ذهبوا لتبقى
وما أحد بزادك منك أحظى ... وما أحد بزادك منك أشقى
ولا لك غير تقوى الله زادٌ ... إذا جعلت إلى اللّهوات ترقى
ومما يستحسن من شعره قوله:
لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المر من ثمرة
فمثل هذا لو تقدم لكان في صدور الأمثال، كذالك قوله أيضاً:
فامض لاتمنن عليّ يداً ... منك المعروف من كدرة
وكان يقول: ذكر المعروف من المنعم إفساد له، وكتمانه من النعم عليه كفر له، وفي الشعر أبيات مختارة، فمنها:
وإذا مجّ القنا علقا ... وتراءى الموت في صورة
راح في ثنيي مفاضته ... أسد يدمى شبا ظفره
تتأبّى الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جزره
فاسل عن نوء تؤمله ... حسبك العباس من مطره
لا تعطّى عنه مكرمة ... بربا واد ولا خمره
ذللت تلك الفجاج له ... فهو مجتاز على بصره
وقد عابوا عليه قوله:
كيف لا يدنيك من أمل ... من رسول الله من نفره
وهو لعمري كلام مستهجن موضوع في غير موضعه، لأن حق رسول الله صلى الله وعليه وسلم أن يضاف إليه، ولا يضاف إلى غيره، ولو اتسع متسع فأجراه في باب الحيلة لخرج على الاحتيال، ولكنه عسر موضوع في غير موضعه، وباب الاحتيال فيه أن، تقول: قد يقول القائل من بني هاشم لغيره من أفناء قريش: منا رسول الله صلى الله وعليه وسلم،
وحق هذا أنه من القبيل الذي أنا منه. فقد أضاف إلى نفسه، وكذلك يقول القرشي لسائر العرب، كما قال حسان بن ثابت:
مازال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لاترام ومفخر
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... عليّ ومنهم أحمد المتخيّر
فقال: منهم كما قال من نفره، من النفر الذين العباس هذا الممدوح منهم.
وأما قول حسّان: منهم جعفر وابن أبن أمه عليّ ومنهم أحمد المتحيز فإن، العرب إذا كان العطف بالواو قدمت وأخرت، قال الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 1، وقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} 2، وقال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} 3، ولو كان بثم أو بالفاء لم يصلح إلا تقديم المقدم، ثم الذي يليه واحداً: أحدا.
وأما قوله في هذا الشعر:
وكريم الخال من يمنٍ ... وكريم العم من مضره
فأضاف مضر إليه، فهو كلام لا يمنع منه ممتنع، قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يوم الحمل للأشتر وهو مالك بن الحارث أخذ النخع ابن مرو بن علة بن جلد وكان على الميمنة: احمل. في أصحابه فكشف من بإزائه، ثم قال لهاشم بن عتبة بن مالك أحد بني زهرة بن كلاب وكان على المسيرة احمل. فحمل في المضرية فكشف من بإزائه. فقال عليّ رضي الله عنه لأصحابه: كيف رأيتم مضري ويمني! فأضاف القبيلتين إلى نفسه، قال جرير:
إن الذين ابتنوا مجداً ومكرمةً ... تلكم قريشي والأنصار أنصاري
ـــــــ
1 سورة التغابن 2.
2 سورة الرحمن 33.
3 سورة آل عمران 43.
لإسحاق بن خلف البهراتي يمدح علي بن عيسى القمىومما يستحسن من أشعار المحدثين قول إسحاق بن خلف البهراتي، ونسبه في بني حنيفة لسباء وقع عليه، يقول لعلي بن عيسى بن مريم بن موسى بن طلحة الأشعري المعروف بالقمي1:
وللكرد منك إذا زرتهم ... بكيدك يوم كيوم الحمل
ومازال عيسى بن موسى له ... مواهب غير النطاف المكل2
لسل السيوف وشق الصفوف ... لنقض الترات وضرب القلل
ولبس العجاجة والخافقات ... تريك المنا برؤوس الأسل
وقد كشرت عن شبا نابها ... عروس المنية بين الشعل
وجاءت تهادى وأبناؤها ... كأن عليهم شروق الطفل
خروسٌ نطوق إذا استنطقت ... جهول تطيش على من جهل
إذا خطبت أخذت مهرها ... رؤوساً تحادر قبل النقل
ألد إليه من المسمعات ... وحث الكؤوسه في يوم طل
وشرب المدام ومن يشتهيه ... معاط له بمزاح القبل
بعثنا النّواعج تحت الرحال ... تسافه أشدقها في الجدل
إذا ما حدين بمدح الأمير ... سبقن لحاظ المحثّ3 العجل
قوله: "تريك المنا" يريد المنايا وهذه كلمة تخف على ألسنتهم فيحذفونها، وزعم الأصمعي أنه سمع العرب تقول: درس المنا، يريدون المنازل، وجاء في التخفيف أعجب من هذا، حدثنا بعض أصحابنا عن الأصمعي وذكره سيبويه في كتابه ولم يذكر قائله، ولكن الأصمعي قال: كان أخوان متجاوران لا يكلم كل واحد منهما صاحبه سائر سنته حتى يأتي وقت الرعي. فيقول أحدهما لصاحبه: ألاتا? فيقول الآخر: بلى فا، يريد: ألا تنهض? فيقول الآخر، فأنهض. وحكى سيبويه في هذا الباب:
ـــــــ
1 زيادات ر: "منسوب إلى قمة وهي بلدة أو قرية من خراسان".
2 المكل: جمع مكول، وهي البئر.
3 زيادات ر: "من كسر الميم من حث، ومن ضم الميم جعله من أحث؛ يقال: حث وأحث على فعل وأفعل، لغتان".
بالخير خيراتٍ وإن شراً فا ... ولا أريد الشر إلا أن تا
يريد: وإن شراً فشر، ولا أريد الشر إلا أن تريد1.
وهذا خلاف ما تستعمله الحكماء، فإنه يقال: إن اللسان إذا كثرت حركته، رقت عذبته.
وحدثني أبو عثمان الجاحظ قال: قال لي محمد الجهم: لما كانت أيام الزّط أدمنت الفكر، وأمسكت عن القول، فأصابتني حبسةً في لساني.
وقال رجل من الأعراب يذكر آخر منهم:
كأن فيه لففاً إذا نطق ... من طوال تحبيسٍ وهم وأرق
وقال رجل لخالد بن صفوان: إنك لتكثر، فقال: أكثر لضربين: أحدهما فيما لاتغني فيه القلّة، والآخر لتمرين اللسان، فإن حبسه يورث العقلة.
وكان خالد يقول: لا تكون بليغاً حتى تكلم أمتك السوداء في الليلة الظلماء، في الحاجة المهمة، بما تكلم به في نادي قومك، فإنما اللسان عضوٌ إذا مرنته، مرن، وإذا أهملته خار، كاليد التي تخشنها بالممارسة، والبدن الذي تقويه برفع الحجر وما أشبه، والرّجل إذا عودته المشي مشت.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تزالون أصحاء ما نزعتم ونزوتم. فتزعم في القسي، نزوتم على طهور الخيل.
وقال بعض الحكماء: لا ينبغي للعاقل إن يخلي نفسه من ثلاث في غير إفراط الأكل، والمشي، والجماع. فأما الأكل فإن الأمعاء تضيق لتركه، وكان ابن الزبير رحمه الله يواصل فيما ذكروا بين خمس عشرة من يوم وليلة،ثم يفطر على سمن وصبر ليفتق أمعاءه. قال أبو العباس: قال الأول: والمشي، إن لم تتعهده أوشكت ان تطلبه فلا تجده، والجماع كالبئر إن نزحت جمّت، وإن تركت تحيّر ماؤها، وحق هذا كله القصد.
وقوله:
كأن عليهم شروق الطّفل
ـــــــ
1 زيادات ر: قال ش: قول أبي العباس: "إلا أن تريد" إنما هو إلا أن تشاء، ولو كان كما قال أبو العباس: كانت التاء مضمومة".
يريد: تألق الحديد، كأنه شمس طالعة عليهم، وإن لم تكن شمس وأحسن من هذا قوله سلامه بن جندل:
كأن النّعام باض فوق رؤوسهم ... وأعينهم تحت الحديد جواحم1
فهذا التشبيه المصيب.
وأما قوله:
أحب إليه من المسمعات
فقد قال مثله القاسم بن عيسى بن إدريس أبو ذلف العجلي:
يوماي يوم في أويس كالدمى ... لهوي، ويوم في قتال الديلم
هذا حليف غلائل مكسوة ... مسكاً وصافية كنضح العندم
ولذاك خالصة الدروع وضمّرٌ ... يكسوننا رهج الغبار الأقتم
وليومهن الفضل لولا لذّة ... سبقت بطعن الدّيلميّ المعلم
وأول هذه القصيدة طريق مستملح، وهو:
طواه الهوى فطوى من عدل ... وحالف ذا الصبوة المختبل
وأما قوله:
تسافه أشداقها في الجدل
فتسافه من السفه، وإنما يصفها بالمرح،وانها تميل ذا كذا مرة، كما
قال رؤبة:
يمشي العرضنى في الحديد المتقن
وكما قال الآخر:
إذا رأى السوط مشى الهيدبى ... ويتقى الأرض بمعج رقاق2
وكما قال الحطيئة:
وإن آنست حسا من السوط عارضت ... بي الجور حتى تستقيم ضحى الغد
ـــــــ
1 زيادات ر: "جواحم، أى متقدة".
2 زيادات ر: "الهيدبى، بالدال مهملة ومعجمة". وقوله: "بمعج رقاق، يريد قليلة اللحم".
والجدل: جمع جديل وهو الزمام المجدول، كما تقول: قتيل ومقتول، وأدنى العدد أجدلة، كقولك: قضيب وقضب وأقضبة، وكذلك كثيب ورغيف وجريت، وفعلان في المثير، يقال قضبان ورغيفان وجربان، ومثل قوله:
تسافه أشداقها في الجدل
قول حبيب بن أوس الطائي:
سفيه الرمح جاهله إذا ما ... بدا فضل السفيه على الحليم
لإسحاق أيضاُ يمدح الحسن بن سهل
ومما يستحسن من شعر إسحاق هذا قوله في الحسن بن سهل:
باب الأمير عراء ما به أحد ... إلا امرؤ واضع كفا على ذقن
قالت وقد أملت ما كنت آمله ... هذا الأمير ابن سهل حاتم اليمن
كفيتك الناس لا تلقى أخا طلب ... بفيء دارك يستعدي على الزمن
إن الرجاء الذي قد كنت آمله ... وضعته ورجاء الناس في كفن
في الله منه وجدوى كفه خلفٌ ... ليس السدى والندى في راحة الحسن
وإسحاق هذا هو الذي يقول في صفة السيف:
ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح
وكأنما ذر الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح
وإسحاق هذا هو الذي يقول في مدح العربية:
النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرة تكرمه إذا يلحن
وإذا طلبت من العلوم اجلها ... فاجلها منها مقيم الألسن
قال أبو العباس: واحسبه أخذ قوله:
والمرء تكرمه إذا لم يلحن
من حديث حدثناه أبو عثمان الخز اعي عن الأصمعي قال: كان يقال: ثلاثة يحكم لهم بالنبل حتى يدرى من هم: رجل رأيته راكباً، أو سمعته يعرب،
أو شممت منه طيباً. وثلاثة يحكم عليهم بالاستصغار حتى يدري من هم. وهم: بالفارسية، أو رجل رأيته على ظهر طريق ينازع في القدر.
لشاعر في عبد الله بن طاهرقال أبو العباس: أنشدني أحد الأمراء لشاعر من أهل الري يكنى أبا يزيد، شيئاً يقوله لعبد الله بن طاهر أحسن فيه وأصاب الفص، وقصد بالمدح إلى معدنه،واختاره لأهله:
اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً ... في شاذ مهر ودع غمدان لليمن
فأنت أولى بتاج الملك تلبسه ... من هوذة بن علي وابن ذي يزن
فأحسن الترتيب جداً، وإن كانت الملوك كلها تلبس التاج في ذلك الدهر.
وإنما ذكر ابن ذي يزن لقول أمية بن أبي الصلت الثقفي حيث يقول:
اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالاً
وقال الأعشى في هوذة بن علي، وإن لم يكن هوذة ملكاً:
من ير هوذة يسجد غير متئب ... إذا تعمم فوق التاج أو وضعا
له أكاليل بالياقوت فصلها ... صواغها لاترى عيباً ولاطبعاً
وقال أبو العباس: وحدثني التّوّزي قال: سمعت أبا عبيدة يقول عن أبي عمرو، قال: لم يتتوج معدي قط، وإنما كانت التيجان لليمن، فسأليه عن هوذة بن علي الحنفي، إنما خرزات تنظم له.
قال أبو العباس: وقد كتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هوذة بن علي يدعوه كما كتب إلى الملوك، وكان يجيز لطيمة كسرى في البر بجنبات اليمامة. واللطيمة: الإبل تحمل الطيب والبر. ووفد هوذة بن علي على كسرى بهذا السبب فسأله عن بنيه، فذكر منهم عدداً فقال: أيهم أحب إليك? فقال: الصغير حتى يكبر،والغائب حتى يقدم، والمريض حتى يصح. فقال له كسرى: ماغذاؤك في بلدك? فقال: الخبز، فقال كسرى لجلسائه: هذا عقل الخيز، يفضله على عقول أهل البوادي الذين يغتذون اللبن والتمر.
وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لقد هممت ألا أقبل هدية" ويروى: "أن لا أتهب هبةً إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي". وروى بعضهم: أو دوسي وذلك أن أعرابياً أهدى إليه هدية فمن بها، فذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الأمصار تفضيلاً على أهل البوادي.
لعبد الله بن محمد بن أبي عيينهوقال عبد الله بن محمد بن أبي عيينه يعاتب رجلاً من الأشراف:
أتيتك زائراً لقضاء حق ... فحال الستر دونك والحجاب
وعندك معشر فيهم أخ لي ... كأن إخاءه الآل السراب
ولست بساقط في قدر قوم ... وإن كرهوا كما يقع الذباب
ورائي مذهب عن كل ناء ... بجانبه إذا عز الذهاب
وقال أيضاً:
كنا ملوكاً إذا كان أولنا ... للجود والبأس والعلا خلقوا
كانوا جبالاً عزا يلاذ بها ... ورائحاتٍ بالوبل تنبعق1
كانوا بهم ترسل السماء على الـ ... أرض غياثاً ويشرق الأفق
لا يرتق الراتقون إن فتقوا ... فتقاً ولا يفتقون مارتقوا
ليسوا كمعزى مطيرةٍ بقيت ... فما بها من سحابةٍ لثق2
والضعف والجبن عند نائبةٍ ... تنوبهم والحذار والفرق
لهذا زمانٌ بالناس منقلبٌ ... ظهراً لبطنٍ جديده خلق
الأسد فيه على براثنها ... مستأخراتٌ تكاد تمزق
وكان سبب قوله هذا الشعر أن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس كان له صديقاً، وكان عبد الله بن محمد بن أبي عيينه من رؤساء من اخذ البصرة للمأمون في أيام المخلوع، وكان معاضداً لطاهر بن الحسين في حروبه، وكان إسماعيل بن جعفر جليل القدر، مطاعاً في مواليه وأهله،
ـــــــ
1 الرائحات: السحب، وتنبعق: تتخرق فينزل منها الماء.
2 اللثق: البلل.
وكانت الحال بينهما ألطف حال، فوصله ابن أبي عيينه بذي اليمينين فولاه البصرة وولى ابن أبي عيينه اليمامة والبحرين وغوص البحر فلما رجعا إلى البصرة تنكر إسماعيل لابن أبي عيينه، فهاج بينهما من التباعد على مثال ما كان بينهما من المقاربة،ثم عزل ابن أبي عيينه فلم يزل يهجو من أهله من يواصل إسماعيل، وكان أكبر أهله قدراً في ذلك الوقت يزيد بن المنجاب، وكان أعود قائم العين لم يطاع على علته إلا بشعر ابن أبي عيينه، وكان منهم. وكان سيد أهل البصرة محمد بن عباد بن حبيب بن الملهب، ومنهم سعيد بن المهلب بن المغيرة بن حرب بن محمد بن ملهب بن أبي صفرة، وكان قصيراً، وكان ابن عباد احول، فذلك حيث يقول ابن أبي عيينه في هذا الشعر الذي أمليناه:
تستقدم النعجتان والبرق1 ... في زمن سرو أهله الملق
عور وحول ثالث لهم ... كأنه بين أسطرٍ لحق2
ولهم يقول ولاثنين ظن أنهما معهم، وقد مروا به يريدون إسماعيل بن جعفر:
ألا قل لرهطٍ خمسةٍ أو ثلاثة ... يعدون من أبناء آل الملهب
على باب إسماعيل روحوا وبكروا ... دجاج القرى مبثوثة حول ثعلب
وأثنوا عليه بالجميل فإنه ... يسر لكم حبا هو الحب واقلب
يلين لكم عند اللقاء موارباً ... يخالفكم منه بناتٍ ومخلب
ولولا الذي تولونه لتكشفت ... سريرته عن بغضةٍ وتعصب
أبعد بلائي عنده إذا وجدته ... طريحاً كنصل القدح لما يركب
به صدأ قد عابه فجلوته ... بكفي حتى ضوؤه ضوء كوكب
وركبته في خوط نبع وريشة ... بقادمتي نسر ومتن معقب3
فما إن أتاني منه إلا مبوأ ... إلي بنصل كالحريق مذرب
ـــــــ
1 البرق: الخروف والجمع أبراق.
2 اللحق: اسم لما يلحق بالكتاب بعد الفراغ منه.
3 الخوط: الغض الناعم. راشه: ألزق فيه الريش. والمتن: الوتر.
ففللت منه حده وتركته ... كهدية ثوب الخز لما يهدب1
رضيتم بأخلاق الدّني وعفتم ... خلائق ماضيكم من العم والأب
وفي هذا يقول لطاهر بن الحسين:
مالي رأيتك تدني منتكثٍ ... إذا تغيب ملتاثٍ إذا حضرا2
إذا تنسم ريح الغدر قابلها ... حتى إذا نفخت في انفه غدراً
ومن يجيء على التقرب منك له ... وأنت تعرف فيه الميل والصعرا
أحلك الله من قحطان منزلةً ... في ا لرأس حيث احل السمع والبصرا
فلا تضع حق قحطان فتغضبها ... ولاربيعة كلا لا ولا مضرا
أعط الرجال على مقدار أنفسهم ... وأول كلا بما أولى وما صبرا
ولا تقولن وإني لست من أحد ... لا تمحق النيرين الشمس والقمرا
ويقول له في أخرى:
هو الصبر والتسليم لله والرضا ... إذا نزلت بي خطة لا أشاؤها
إذا نحن أبنا سالمين بأنفس ... كرام رجت أمراً فخاب رجاؤها
فأنفسنا خير الغنيمة إنها ... تؤوب وفيها ماؤها وحياؤها
هي الأنفس الكبر التي إن تقدمت ... أو استأخرت فالقتل بالسيف داؤها
سيعلم إسماعيل انه عداوتي ... له ريق أفعى لايصاب دواؤها
ولما حمل إسماعيل مقيداً ومعه أبناه أحدهما في سلسلة مقروناً معه، وكان الذي تولى ذلك أحمد بن أبي خالد في قصة كانت لإسماعيل أيام الخضرة3 فقال ابن أبي عيينه في ذلك:
مرّ إسماعيل وابنا ... ه معاً في الأسراء
جالساً في محملٍ ضن ... كٍ على غير وطاء
يتغنى القيد في رجـ ... ـليه ألوان الغناء
ـــــــ
1 يهدب: يقطع.
2 المنتكث: الهزيل، والملتاث: البطىء.
3 قال المر صفى: "أيام الخضرة هي الأيام التي أمر المأمون في جنده وقواده وبنى هاشم أن تطرح شعار السواد، وأن تلبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم يوم أن جعل على بن موسى بن جعفر ولى عهد المسلمين من بعده وسماه الرضا". رغبة الآمل 141: 4.
باكياً لا رقأت عيـ ... ـناه من طول البكاء
يا عقاب الدّجن في الأمـ ... ـن وفي الخوف ابن ماء 1
وقد كان تطير عليه بمثل ما نزل به، فمن ذلك قوله:
لا تعدم العزل يا أبا الحسن ... ولا هزالاً في دولة السمن
ولا انتقالاً من دار عافيةٍ ... إلى ديار البلاء والفتن
ولا خروجاً إلى القفار من الـ ... أرض وترك الأحباب والوطن
كم روحه فيك لي مهجرةٍ ... ودلجةٍ في بقية الو سن
في الحر والقرّ كي تولى على الـ ... بصرة عين الأمصار والمدن
إني أحاجيك يا أبا حسنٍ ... ما صورةٌ صورت فلم تكن?
وما بهيّ في العين منظره ... لو وزنوه با لزّفّ لم يزن?2
ظاهره رائعٌ وباطنه ... ملآن من سوءٍ ومن درن3
وهذا الشعر اعترض له فيه عمر بن زعبل، مولى بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، وكان منقطعاً إلى إسماعيل وولده، وكان لا يبلغ ابن أبي عيينه في الشعر ولا يدانيه، ومن أمثل شعره وما اعترض له به قوله:
إني أحاجيك ما حنيفٌ على الـ ... فطرة باع الرباح بالغبن
وما شييخٌ من تحت سدرته ... معلقٌ نعله على غصن?
ما سيوفٌ حمرٌ مصقلةٌ ... قد عرّيت من مقابض السفن4?
وما سهامٌ صفرٌ مجوّفةٌ ... تخشى خيوط الكتان والقطن?
وما ابن ماءٍ إن يخرجوه إلى الأر ... ض تسل نفسه من الأذن?
وما عقاب زوراء تلحم من ... خلف فتهوي قصداً على سنن?5
لها جناحان يحفزان بها ... نيطاً إليها بجذوتي وسن
يا ذا اليمينين اضرب علاوته6 ... يدفع وماني في النار في قرن7
ـــــــ
1 طائر بألف الماء.
2 الزف: ريش النعام.
3 الدرن هنا: الدنس.
4 السفن بالتحريك: جلد خشن غليظ يكون على قوائم السيوف.
5 زيادات ر: "قيل السفينة، وقيل الراية، وهو أصح؛ لأن جده حبس راية طاهر بن الحسين ثلاثة أعوام".
6 العلاوة: الرأس.
7 زيادات ر: قوله: "ومانى في النار في قرن" مانى: اسم علم، وكان رأسا من رءوس الزنادقة".
فأجاب إبراهيم السواق مولى آل المهلب وكان مقدماً في الشعر بأبيات لا أحفظ اكثرها، منها:
قد قبل ما قيل في أبي حسن ... فانتحروا في تطاول الزمن
وهذا السواق هو الذي يقول لبسر بن داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب:
سماؤك تمطر الذهبا ... وحربك تلتظي لهبا
وأي كتيبةٍ لاقتـ ... ـك لم تستحسن الهربا
ومن شعره السائر:
هبيني يا معذبتي أسأت ... وبالهجران قبلكم بدأت
فأين الفضل منك فدتك نفسي ... عليّ إذا أسأت كما أسأت!
ولابن أبي عيينه في هذا المعنى أشعار كثيرة في معاتبات ذي اليمينين وهجاء إسماعيل وغيره، سنذكرها بعد في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ومن شعره المستحسن قوله في عيسى بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان تزوج امرأة منهم يقال لها فاطمة بنت عمر بن حفص هزارمرد1، وهو من ولد قبيصة بن أبي صفرة، ولم يلده المهلب، وكان يقال لأبي صفرة ظالم ين سرّاق:
أفاطم قد زوجت عيسى فأيقني ... بذل لديه عاجلٍ غير آجل
فإنك قد زوجت من غير خبرةٍ ... فتى من بني العباس ليس بعاقل
فإن قلت من رهط النبي فإنه ... وإن كان حر الأصل عبد الشمائل
فقد ظفرت كفاه منك بطائل ... وما ظفرت كفاك منه بطائل
وقد قال فيه جعفر ومحمدٌ ... أقاويل حتى قالها كل قائل
وما قلت ما قالا لأنك أختنا ... وفي السر منا والذرا والكواهل
لعمري لقد أثبته في نصابه ... بأن صررت منه في محلل الحلائل
إذا ما بنو العباس يوماً تبادروا ... عرا المجد وابتاعوا كرام الفضائل
ـــــــ
1 زيادات ر: وقعت الرواية كما في الأصل، وصوابه: "هزاذ مرد" بالزاى والذال معجمة، ولا خلاف في الزاى".
رأيت أبا العباس يسمو بنفسه ... إلى بيع بياحاته والمباقل1
يرخم بيض العام تحت دجاجه ... ليخرج بيضاً من فراريج قابل
وقال أبو العباس: وولد عيسى من فاطمة هذه لهم شجاعةٌ ونجدةٌ وشدة أبدان، وفاطمة التي ذكرها هي التي كان ينسب بها أبو عيينه أخو عبد الله ويكني عنها بدنيا، ومن ذلك قوله لها:
دعوتك بالقرابة والجوار ... دعاء مصرحٍ بادي السرار
لأني عنك مشتغل بنفسي ... ومحترقٌ عليك بغير نار
وأنت توفرين وليس عندي ... على نار الصبابة من وقار
فأنت لأن ما بك دون ما بي ... تدارين العيون ولا أدري
ولو والله تشتاقين شوقي ... جمحت إلي خالعة العذار
وقال عبد الله يعاتب ذا اليمينين:
من مبلغ عني الأمير رسالةً ... محصورةً عندي عن الإنشاد
كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الحساد
وأظن لي منها لديك خبيثةً ... ستكون عند الزاد آخر زاد
مالي أرى أمري لديك كأنه ... من ثقله طود من الأطواد!
وأراك ترجيه وتمضي غيره ... في ساعة الإصدار والإيراد
الله يعلم ما أتيتك زائراً ... من ضيق ذات يد وضيق بلاد
لكن أتيتك زائراً لك راجياً ... بك رتبة الآباء والأجداد
قد كان لي بالمصر يومٌ جامعٌ ... لك مصلحٌ فيه لكل فساد
ودعوت منصوراً فأعلن بيعةً ... في جمع أهل المصر والأجناد
في الأرض منفسحٌ ورزق واسع ... لي عنك في غوري وفي إنجادي
وقال أيضاً يعاتبه:
أيا ذا اليمينين إن العتا ... ب يغري صدوراً ويشفي صدوراً
وكنت أرى أن ترك العتا ... ب خير وأجدر ألا يضيرا
ـــــــ
1 البياحة: شبكة تحبس البياح، وهو نوع من السمك، والمباقل: مواضع بيع البقل.
إلى أن ظننت بأن قد ظننت ... بأني لنفسي أرضى ألا الحقيرا
فأضمرت النفس في وهمها ... من الهم هما يكد الضميرا
ولابد للماء في مرجل ... على النار موقدة أن يفورا
ومن أشرب اليأس كان الغني ... ومن أشرب الحرص كان الفقيرا
علام وفيم أرى طاعتي ... لديك ونصري لك الدهر بورا
ألم أك بالمصير أدعو البعيد ... إليك وأدعو القريب العشيرا
ألم اك أول آتٍ أتاك ... بطاعة من كان خلفي بشيرا
وألزم غرزك في ماقط الـ ... ـحروب عليها مقيماُ صبوراً1
ففيم تقدم جفالةً ... إليك أمامي وأدعي أخيرا2
كأنك لم تر أن الفتى الـ ... حمي إذا زار يوماً أميرا
فقدم من دونه قبله ... ألست تراه يسخطٍ جديراً!
ألست ترى أن سف التراب ... به كان أكرم من أن يزورا
ولست ضعيف الهوى والمدى ... أكون الصبا وأكون الدبورا
ولكن شهاب فإن ترم بي ... مهما تجد كوكبي مستنيراً
فهل لك في الإذن لي راضياً ... فإني أرى الإذن غنماً كبيرا
وكان لك الله فيما ابتعثت ... له من جهاد ونصر نصيراً
ولاجعل الله في دولةٍ ... سبقت إليها وريح فتورا
فإن ورائي لي مذهباً ... بعيداً من الأرض قاعاً وقورا3
به الضب تحسبه بالفلاة ... إذا خفق الآل فيها بعيرا
ومالاً ومصراً على أهله ... يد الله من جائر أن يجورا
وإني لمن خير سكانه ... وأكثرهم بنفيري نفيراً
وقال عبد الله لعلي بن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وكان دعاه إلى نصرته حين ظهرت المبيضة4 فم يجبه، فتوعده علي، فقال عبد الله:
ـــــــ
1 الغرز: مساك رجل الركب. والمأقط: المضيق في الحرب.
2 الجفالة: كثير الجفول.
3 القاع: الأرض المستوية لانبات فيها. والقور: جمع قارة، وهي قمة الجبل.
4 قال المرصفى: "المبيضة قوم من أعداء الدولة العباسية، جعلوا شعارهم بيض الثياب يخالفون به شعار بنى العباس من لبس السواد".
أعلي إنك جاهل مغرور ... لاظلمةٌ لك، لا ولا لك نود
أكتبت توعدني إذا استبطأتني ... إني بحربك ما حييت جدير
فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطين أجنحة البعوض يضير
وإذا ارتحلت فإن نصري للألى ... أبوهم المهدي والمنصور
نبتت عليه لحومنا ودماؤنا ... وعليه قدر سعينا المشكور
وقال عبد الله قتل داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب من قتل بأرض السند بدم أخيه المغيرة بن يزيد:
أفنى تميماً سعدها وربابها ... بالسند قتل مغيرة بن يزيد
صعقت عليهم صعقةٌ عتكيةٌ1 ... جعلت لهم يوماً كيوم ثمود
ذاقت تميمٌ عركتين عذابنا ... بالسند من عمر ومن داود
قدنا الجياد من العراق إليهم ... مثل القطا مستنةً لورود2
يحملن من ولد المهلب عصبةً ... خلقت قلوبهم قلوب أسود
وفي المغيرة يقول في قصيدة مطولة:
إذا كر فيهم كرةً أفر جواله ... فرار بغاث الطير صادفن أجدلا
وما نيل إلا من بعيد بحاصبٍ ... من النيل والنشاب حتى تجدلا
وإني لمثن بالذي كان أهله ... أبو حاتم إن ناب دهر فأعضلا
فتى كان يستحيي من الذم أن يرى ... له مخرجاً يوماً عليه ومدخلاً
وكان يظن الموت عاراً على الفتى ... يد الدهر إلا أ، يصاب فيقتلا
منيّة أبناء المهلب أنهم ... يرون بها حتماً كتاباً معجلاً
وقد أطلق الله اللسان بقتل من ... قتلنا به منهم ومنّ وأفضلا
أناخ بهم داود يصرف نابه ... ويلقي عليهم كللاً ثمّ كللاً
يقتلهم جوعاً إذا ما تحصنوا ... وتقربهم هوج المجانيق جندلا
وهذا الشعر عجيب من شعره.
ـــــــ
1 عتكية: منسوبة إلى جده الأكبر عتيك بن الأسد بن عمران بن عمرو مزيقياء بن ماء السماء. رغبة الآمل 151: 4.
2 مستنة: مسرعة في طيرانها.
وفي هذه القصة يقول:
أبت إلا بكاءً وانتحابا ... وذكرا للمغيرة واكتئاباً
ألم تعلم بأن القتل ورد ... لنا كالماء حين صفا وطابا
وقلت لها: قري وثقي بقولي ... كأنك قد قرأت به كتابا
فقد جاء الكتاب به فقولي ... ألا لا تعدم الرّأي الصّوابا
جلبنا الخيل من بغداد شعثاً ... عوا بس تحمل الأسد الغضابا
بكل فتى أعزّ مهلّبيّ ... تخال بضوء صورته شهاباً
ومن قحطان كل أخي حفاظٍ ... إذا يدعى لنائبه أجايا
فما بلغت قرى كرمان حتى ... تخدّد لحمها عنها فذابا
وكان لهنّ في كرمان يوم ... أمر على الشراة بها الشرابا1
وإنّا تاركون غداً حديثاً ... بأرض السّند سعداً والرّبابا
تفاخر بابن أحورها تميمٌ ... لقد حان المفاخر لي وخابا
وفي مثل هذا البيت الأخير يقول أبو عيينه:
أعاذل صه لست من شيمتي ... وإن كنت لي ناصحاً مشفقا
أراك تفرقني دائباً ... وما ينبغي لي أن أفرقا2
أنا ابن الذي شاد لي منصباً ... وكان السّماك إذا حلقا
قريع العراق وبطريقهم ... وعزهم المرتجى المتّقى
فمن يستطيع إذا ما ذهبـ ... ـت أنطق في المجد أن ينطقا
أنا ابن المهلب ما فوق ذا ... لعالٍ إلى شرفٍ مرتقى
فدعني أغلب ثياب الصبا ... بجدّتها قبل أن تخلقا
قال أبو الحسن: وهذا شعر حسنٌ، أوله:
ألم تنه نفسك أن تعشقا ... وما أنت والعشق لولا الشّقا
أمن بعد شربك كأس النّهى ... وشمك ريحان أهل النّقا
عشقت فأصبحت في العاشقي ... ن أشهر من فرس أبلقّا
ـــــــ
1 الشراة: جماعة من الخوارج.
2 تفرقنى: تخوفنى.
ثم قال:
أعاذل صه لست من شيمتي
ثم قال بعد قوله:
فدعني أغلي ثياب الصّبا
أدنياي من غمر بحر الهوى ... خذي بيدي قبل أن أغرقا
أنا لك عبدٌ فكوني كمن ... إذا سره عبده أعتقا
وقال أبو الحسن: قوله "أنا لك عبدٌ" فوصل بالألف، فهذا إنما يجوز في الضرورة، والألف تثبت في الوقف لبيان الحركة، فلم يحتج إلى الألف، زمن أثبتها في الوصل قاسه على الوقف للضرورة، ظن كقوله:
فإن يك غثّاً أو سميناً فإنّني ... سأجعل عيينة لنفسه مقنعا
لأنه إذا وقف على الهاء وحدها، فأجرى الوصل على الوقف، وأنشدوا قول الأعشى:
فكيف أنا وانتحال القوا ... ف بعد المشيب كفى ذاك عاراً
والرواية الجيدة:
فكيف يكون انتحالي القواف بعد المشيب
سقى الله دنيا على نأيها ... من القطر منبعقاً ريّقاً
ألم أخدع النّاس عن حبّها ... وقد يخدع الكيس الأحمقا
بلى وسبقتهم إنّني ... أحب إلى المجد أن اسبقا
ويوم الجنازة إذا أرسلت ... على رقبةٍ أن جيء الخندقا
إلى السال فاختر لنا مجلساً ... قريباً وإياك أن تخرقا
هذا مما يغلط فيه عامة أهل البصرة، يقولون: السال بالخفيف، وإنما هو السال يا هذا، وجمعه سلاّن، وهو الغالّ وجمعه غلاّنٌ، وهو الشّقّ الخفيّ في الوادي:
فكنّا كغصنين من بانةٍ ... رطيبين حدثان ما أورقا
فقالت لترب لها استنشديـ ... ـه من شعره الحسن المنتقى
فقلت أمرت بكتمانه ... وحذرت إن شاع أن يسرقا
فقالت بعيشك! قولي له ... تمتّع لعلّك إن تنفقا
قوله: "لعلك أن تنفقا" اضطرار، وحقه "لعلك تنفق". لأن لعلّ من أخوات إن فأجريت مجراها، ومن أتى بأن فلمضارعتها عسى، كما قال متمم بن نويرة:
لعلك يوماً أن تلم ملمةٌ ... عليك من الللاّئي يدعنك أجدعا
وهو كثير.
قال أبو العباس: وزعم أبو معاذ النميري أنه يعتاد عبد الله بن محمد بن أبي عيينة، ويكثر المقام عنده، وكان راوية للشعره، وأم أبن أبي عيينة بن المهلب يقول لها: خيرة وهي من بني سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة، فأبطأت عليه أياماً فكتب إلي:
تمادى في الجفاء أبو معاذ ... وراوغني ولاذ بلا ملاذ
ولولا حق أخوالي قشير ... أتته قصائد غير اللّذاذ
كما راح الهلال بن حرب ... به سمة على عنق وحاذ1
يعني محمد بن حرب بن قبيصة بن مخارق الهلالي، وكان من أقعد الناس.
ولقبيصة بن المخارق صحبة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان قد سار إليه فأكرمه وبسط له رداءه وقال: "مرحباً بخالي"!، فقال: يا رسول الله، رق جلدي، ودق عظمي، وقلي مالي، وهنت على أهلي! فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد أبكيت بما ذكرت ملائكة المساء".
ومحمد بن حرب هذا ولي شرطة البصرة سبع مرات، وكان على شرطة جعفر بن سليمان على المدينة، وكان كثير الأدب فأغضب، ابن أبي عيينة
ـــــــ
1 الحاذ: الظهر.
في حكم جرى عليه بحضرة إسحاق بن عيسى - وكان على شرطته إذا ذاك - ففي ذلك يقول عبد الله بم أبي عيينة:
بأخوالي وأعمامي أقامت ... قريشٌ ملكها وبها تهاب
متى ما أدع أخوالي لحرب ... وأعمامي لنائبه أجابوا
أنا أبن أبي عيينة فرع قومي ... وكعب والدي وأبي كلاب
خلا ابن عكابة الظربان سهل ... له فسو تصاد به الضّباب
وآخر من هلال قد تداعى ... فصار كأنه الشّيء الخراب
باب نبذ من أقوال الحكماء...
قال أبو العباس: كان ابن شبرمة إذا نزلت به نازلةٌ قال: سحابة ثم تنقشع.
وكان يقال: أربع من كنوز الجنة: كتمان المصيبة، وكتمان الصدقة، وكتمان الوجع.
قال عمر بن الخطاب رحمه الله: لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت.
للعتبي يذكر ابناً له مات
وقال العتبّي محمد بن عبد الله، يذكر ابناً له مات:
أضحت بخدّي للدّموع رسوم ... أسفاً عليك وفي الفؤاد كلوم
والصبر يحمد فيا لمصائب كلها ... إلا عليك فإنه مذموم
وقال أبو العباس: وأحسب أنّ حبيباً الطائي سمع هذا فاسترقه في بيتين: أحدهما قوله في إدريس بن بدر الشامي:
دموع أجابت داعي الحزن همّع ... توصل منّا عن قلوب تقطّع
وقد كان يدعى لابس الصّبر حازماً ... فأصبح يدعى حازماً حين يجذع
والآخر قوله:
قالوا الرّحيل! فما شككت بأنها ... نفسي عن الدنيا تريد رحيلاً
الصّبر اجمل غير أن تلذّذاً ... في الحب أحرى أن يكون جميلاً
وقال سابق البربري:
وإن جاء ما لا تستطيعان دفعه ... فلا تجرعا مما قضى الله واصبرا
وقال آخر أيضاً:
اصبر على القدر المجلوب وارض به ... وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامرئٍ عيشٌ يسرّ به ... إلاّ سيتبع يوماً صفوة كدر
خالد بن صفوان مع بلال بن أبي بردةوكان خالد بن صفوان يدخل على بلال بن أبي بردة يحدثه فيلحن، فلما كثر ذلك على بلال قال له: أتحدثني أحاديث الخلفاء، وتلحن لحن السقّاءات!وقال التّوّزيّ: فكان خالد بن صفوان بعد ذلك يأتي المسجد ويتعلم الإعراب، وكفّ بصره فكان إذا مرّ به موكب بلال يقول: ما هذا? فيقال له: الأمير، فيقول خالد:
سحابة صيفٍ عن قليل تقشّع
فقيل ذلك لبلال،فاجلس معه من يأتيه بخبرة، ثم مرّ به بلال، فقال خالد كما كان يقول، فقيل ذلك لبلال،فأقبل على خالد فقال: لا تقشّع والله حتى تصبيك منها بشؤبوب بردٍ! فضربه مائتي سوط. وقال بعضهم: بل أمر به فديس بطنه.
قوله: "بشؤبوب" مهزوم، وهو الدّفعة من المطر بشدة، وجمعه شآبيب. وقال النابغة يخاطب القبيلة:
ولا تلاقي كما لاقت بنو أسدٍ ... فقد أصابهم منها بشؤبوب
يريد ما نال بني أسد من غارة النعمان عليهم، وضرب الشؤبوب مثلاً للغارة، والغارة تضرب لذلك مثلاً، كما يقال شنّ عليهم الغارة، أي صبها عليهم، قال ابن هرمة:
كم بازلٍ قد وجأت لبّتها ... بمستقبلّ الشؤبوب أو جمل
يريد ما وجأها به من جديدة، يقول: لمّا وجأتها دفعت بشؤبوب من الدم، فكأنه قال: بسنان مستهل الشؤيوب، أما ما أشبه بذلك.
خالد بن صفوان وسليمان بن عليوكان خالد بن صفوان أحد من إذا عرض له القول قال، فيقال: إن سليمان بن علي سأله عن ابنيه جعفر ومحمدٍ، فقال: كيف إحمادك جوار همايا أبا صفوان?فقال:
أبو مالكٍ جارٌ لها وابن برثنٍ ... فيا لك جاري ذلّة وصغار!
ش قوله: أبو مالك، صوابه أبو نافع وهو مولى لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
فأعرض عنه سليمان، من أحلم الناس وأكرمهم، وهو في الوقت الذي أعرض فيه عنه والي البصرة وعم الخليفة المنصور، والشعر الذي تمثل به خالد ليزيد بن مفرّغ الحميري، قال:
سقى الله داراً لي وأرضاً تركتها ... إلى جنب داري معقل بن يسار
أبو مالكٍ جارٌ لها وابن برثنٍ ... فيالك جاري ذلّة وصغار!
وكان الحسن يقول: لسان العاقل من وراء قلبه: فإن عرض له القول نظر، فإن كان له أن يقول قال، وإن كان عليه القول أمسك،ولسان الأحمق أمام قلبه،فإذا عرض له القول قال، كان عليه، أو له.
وخالدٌ لم يكن يقول الشّعر. ويروى أنه وعد الفرزدق شيئاً فأخّره عنه، وكان خالد أحد البخلاء، فمر به الفرزدق فهدّده،فامسك عنه حتى جاز الفرزدق، ثم أقبل على أصحابه فقال: عن هذا قد جعل إحدى يديه سطحاً، وملأ الأخرى ثم أقبل على أصحابه فقال: إن هذا قد جعل إحدى يديه سطحاً، وملأ الأخرى سلحاً، وقال: إن عمرتم سطحي، وإلا نضحتكم بسلحي!
من أخبار إياس بن معاويةوقال إياس بن معاوية المزنّي أبو واثلة - وكان أحد العقلاء الدّهاة الفضلاء - لخالد: لا ينبغي أن نجتمع في مجلس، فقال له خالد: وكيف يا أبا واثلة? فقال: لأنك لا تحب أن تسكت، وأنا لا أحب أن أسمع!
وخاصم إلى إياس رجلٌ رجلاً في دينٍ وهو قاضي البصرة، فطلب منه البينة، فم يأته بمقنع، فقيل للطالب: استجر وكيع بن أبي سودٍ حتى يشهد لك، فإن إياساً لا يجترئ على رد شهادته، ففعل، فقال وكيعٌ: فهم إياسٌ عنه فأقعده إلى جانبه، ثم سأله عن حاجته، فقال: جئت شاهداً، فقال له: يا أبا المطرف، أتشهد
كما تفعل الموالي والعجم? أنت تجل عن هذا? فقال: إذن والله لاأشهد، فقيل لوكيع بعد: إنما خدعك، فقال أولى لابن اللّخناء!
وشهد رجل من جلساء الحسن بشهادة عند إياس فرده، فشكا الرجل ذلك إلى الحسن فأتاه الحسن فقال: يا أبا واثلة، لم رددت شهادة فلان? فقال: يا أبا سعيد، إن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 1 وليس فلان ممن أرضى.
ـــــــ
1 سورة البقرة 282.
من أخبار أبي دلامةواختلف نصرانيّ إلى أبي دلامة مولى بني أسد يتطبّب لابنٍ له، فوعده إن برأ على يديه أن يعطيه ألف درهم، فبرأ ابنه، فقال للمتطبّب: إن الدراهم ليست عندي، ولكن والله لوصّلنّها إليك، ادّع على جاري فلان هذه الدراهم فإنه موسر، وأنا وابني نشهد لك، فليس د ون أخذها شيء، فصار النصرانيّ بالجار إلى ابن شبرمة، فسأله البينة، فطلع عليه أبو دلامة وابنه، ففهم القاضي، فلمال جلس بين يديه قال أبو دلامة:
إن النّاس غطّوني تغطّيت عنهم ... وإن يحثوني كان فيهم مباحث
وإن حفروا بئري حفرت بئارهم ... ليعلم قومٌ كيف تلك النّبائث
فقال ابن شبرمة: من ذا الذي يبحثك يا أبا دلامة? ثم قال للمدّعي: قد عرفت شاهديك! فخل عن خصمك، ورح العشيّة إليّ، فراح إليه فغرمها من ماله.
من أخبار عبيد الله بن الحسن العنبريوشهد أبو عبيدة عند عبيد الله بن الحسن العنبري على شهادة، ورجل عدل. فقال عبيد الله للمدّعي: أما أبو عبيدة فقد عرفته، فزدني شاهداً.
وكان عبيد الله أحد الأدباء الفقهاء الصّلحاء. وزعم ابن عائشة قال: عتبت عليه مرة في شيء، قال: فلقيني يدخل من باب المسجد يريد مجلس الحكم، وأخرج فقلت معرضاً به:
طمعت بليلى ان تريع وإنّما ... تقطع أعناق الرجال المطامع
فأنشدني معرّضاً تاركاً لما قصدت له:
وباينت ليلى في خلاءٍ ولم يكن ... شهود على ليلى عدولٌ مقانع
وكان ابن عائشة يتحدث عنه حديثاً عجيباً، ثم عرف مخرج ذلك الحديث.وذكر ابن عائشة ، وحدثني عنه جماعة لا أحصيهم كثرة: أن عبيد الله بن الحسن شهد عنده رجل من بني نهشل على أمر أحسبه ديناً فقال له: أتروي قول الأسود بن يعفر: نام الخلي فما أحسن رقادي.
فقال له الرجل : لا! فردّ شهادته وقال: لو كان في هذا خير روى شرف.
من أخبار سوار بن عبد اللهفحدثني شيخ من الأزد حديثاً ظننت أن عبيد الله إياه قصد، قال: تقدم رجل إلى سوّار بن عبد الله وسوّار ابن عم عبيد الله بن الحسن-يدّعي داراً، وامرأةٌ تدافعه وتقول لسوّار: إنها والله خطّةٌ ما وقع فيها كتاب قط. فأتى المدعي بشاهدين يعرفهما سوّار، فشهدا له بالدار، وجعلت المرأة تنكر إنكاراً يعضده التصديق، ثم قالت: سل عن الشهود، فإن الناس يتغيرون، فردّ المسألة، فحمد الشاهدان. فلم يزل يريّث أمولاهم، ويسأل الجيران، فكلّ يصدّق المرأة، والشاهدان قد ثبتا، فشكا ذلك إلى عبيد الله. فقال له عبيد الله: أنا أحضر مجلس الحكم معك فآتيك بالجليّة إن شاء الله تعالى، فقال للشاهدين: ليس للقاضي أن يسألكما كيف شهدتما، ولكن أنا أسألكما. قال: فقالا: أراد هذا أن يحجّ فأدارنا على حدود الدار من خارج، وقال: هذه داري، فإن حدث بي حادث فلتبع ولتقسم على سبيل كذا، قال: أفعندكما غير هذه الشهادة? قالا: لا، فقال: الله أكبر!وكذا ولو أدرتكما دارعلى سوّار، وقلت لكما مثل هذه المقالة، أكنتما تشهدان بها لي? ففهما أنهما قد اغترّا، فكان سوّار إذا سأل عن عدالة الشاهد يتبع المسألة أن يقول: أفجائز العدالة هو؟ فظننت أن عبيد الله رأى في الشاهد غفلة فاختبره بهذا وما أشبهه.
وحدثني أحد أصحابنا أن رجلاً من الأعراب تقدم إلى سوّار في أمر فلم يصادف عنده ما يحبّ، فاجتهد فلم يظفر بحاجته، قال: فقال الأعرابي، وكانت في يده عصاً:
رأيت رؤيا ثمّ عبّرتها ... وكنت للأحلام عبّارا
بأنّني أخيط في ليلتي ... كلباً فكان الكلب سوّار
ثم انحنى على سوّار بالعصا فضربه حتى منع منه، قال: فما عاقبه سوّار بشيء.
قال: وحدّثت أن أعرابياً من بني العنبر سار إلى سوّار فقال: عن أبي مات وتركني وأخاً لي- خطين في الأرض- ثم قال: وهجينا- وخط خطّا ناحية- فكيف نقسم المال? فقال: أههنا وراثٌ غيركم? قال: لا، قال: المال بينكم أثلاثاً، فقال: لا أحسبك فهمت عني! إنه تركني وأخي وهجيناً لنا، فقال سوّار: المال بينكم اثلاثاً، قال: فقال الأعرابي: أيأخذ الهجين كما آخذ، وكما يأخذ أخي! قال: أجل! فغضب الأعرابي، قال: صم أقبل على سوّار فقال: تعلم والله إنك قليل الخالات بالدّهناء، فقال سوّار: إذا لا يضيرني ذلك عند الله شيئاً1.
ـــــــ
1 زيادات ر: "قيل إنه ليس بالدهناء أمة، وإنما كان فيها الحرائر".
أنفة عقيل بن علفةوكان عقيل بن علّفة من المغيرة والأنفة على ما ليس عليه أحدٌ علمناه، فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته على أحد بنيه، وكانت لعقيل إليه حاجات فقال: أما إذ كنت فاعلاً فجنّبني هجاءك. وخطب إليه ابنته إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة-وهو خال هشام بن عبد الملك ووالي المدينة، وكان أبيض شديد البياض- فردّه عقيلّ وقال:
رددت صحيفة القرشيّ لما ... أبت أعراقه إلاّ احمرارا
وكانت حفصة بنت عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله قد ميت عنها، فخطبها جماعة من قريش، أحدهم عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وأحدهم إبراهيم بن هشام، فكان أخوها محمد بن عمران، إذا دخل إلى إبراهيم بن هشام أوسع له وأنشده:
وقالوا يا جميل أتى أخوها ... فقلت أتى الحبيب أخو الحبيب
أحبك أن نزلت جبال حسمى ... وأن ناسبت بثينة من قريب
وهذا الشعر لجميل بن عبد الله بن معمر الذري، فأما جميل بن معمرٍ الجمحيّ فلا نسب بينه وبين معمر، أي ليس بينه وبين أبٌ آخر، وكانت له صحبةٌ، وكان خالصاٌ بعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطابويروى عن عبد الرحمن عوف أنه قال: أتيت باب عمر بن الخطاب رحمه الله، فسمعه ينشد بالرّكبانيّة1:
وكيف ثواني بالمدينة بعدما ... قضى وطرأ منها جميل بن معمر
فلما استأذنت عليه قال لي: أسمعت ماقلت? فقلت: نعم! فقال: إنا إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم.
قال ش: وهم أبو العباس رحمه الله في هذا، وإنما القصة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي سمععبد الرحمن بن عوف ينشد.
ـــــــ
1 الركبانية: غناء للعرب فيه مد وتمطيط. "رغبة الآمل".
لأبي خراش وكان قد قتل أخاه جميل بن معمروكان جميل بن معمر الجمحيّ قتل أخا لبي خراش الهذلي يوم فتح مكة وأتاه من ورائه وهو موثق، فضربه، ففي ذلك يقول أبو خراش:
فأقسم لو لاقيته غير موثقٍ ... لآ بك بالعرج الضّباع النّواهل
لكان جميل أسوأ النّاس صرعةً ... ولكنّ أقران الظهور مقاتل
فليس كعهد الدّار يا أم مالكٍ ... ولكن أحاطت بالزقاق السّلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى الحق شيئاً فاستراح العواذل
قوله: "أسوء الناس صرعة"، أي الهيئة التي يصرع عليها كما تقول: جلست جلسة وركبت ركبة، وهو حسن الجلسة والرّكبة، أي الهيئة التي يجلس عليها ويركب عليها، وكذلك القعدة والنّيمة. وقوله لآبك، أي لعادك، وأصل هذا من الإياب والرّجوع، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} 1،وقال عبيد بن الأبرص2:
وكلّ ذي غيبةٍ يؤوب
وقوله: بالعرج، فهو ناحية من مكة، به ولد عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفّان، فسمّي العرجيّ، ويقال: بل كان له مال بذلك الموضع، فكان يقيم فيه.
وقال ش: هذا وهم من أبي العباس رحمه الله، وأما صوابه فعبد الله بن عمر بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
والنّواهل فيه قولان: أحدهما العطاش وليس بشيء والآخر الذي قد شرب شربةً فلم يرو، فاحتاج إلى ان يعلّ، كما قال امرؤ القيس:
إذا هنّ أقساطٌ كرجل الدّبى ... أو كقطا كاظمة النّاهل3
وقوله: "احاطت بالرقاب السلاسل"، يقول: جاء الإسلام فمنع من الطلب بالأوتار إلا على وجهها. وكان يقال: إن اول من أظهر الجور من القضاة في الحكم بلال بن أبي بردة وكان أمير البصرة وقاضيها، وفي ذلك يقول رؤبه4:
وأنت يا ابن القاضيين قاض
وكان بلال يقول: عن الرجلين ليقدّمان إليّ فأجد أحدهما على قلبي أخفّ فاقضي له.
ـــــــ
1 سورة الغاشية 25.
2 بقيته كما في زيادات ر:
وغائب الموت لا يئوب
3 أقساط: قطع. الدبى: جماعة الجراد.
4 بعده كما في زيادات ر:
معتزم على الطريق ماض
بلال بن أبي بردة وعمر بن عبد العزيزويروى أن بلالاً وفد على عمر بن عبد العزيز بخناصرة، فسدك" ش: معناه لصق" بساريةٍ من المسجد، فجعل يصلّي إليها ويديم الصلاة، فقال عمر بن عبد العزيز للعلاء بن المغيرة بن البندار: ان يكن سرّ هذا كعلانيته فهو رجل أهل العراق غير مدافع، فقال العلاء: أنا آتيك بخبره، فاتاه وهو يصلي بين المغرب والعشاء، فقال: اشفع صلاتك فإن لي إليك حاجةً، ففعل، فقال العلاء: قد عرفت حالي من أمير المؤمنين، فإن أنا أشرت بك على ولاية العراق فما تجعل لي? قال: لك عمالتي1 سنة، وكان مبلغها عشرين ألف ألف درهم، قال: فاكتب لي بذلك، قال: فارقدّ2 بلال إلى منزله، فأتى بداوة وصحيفة فكتب له بذلك.
فأتى العلاء عمر بالكتاب، فلما رآه، كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وكان والي الكوفة أما بعد: فإن بلالاً غرّنا بالله، فكدنا نغترّ، فكسبناه فوجدناه خبثاً كلّه، والسلام.
ويروى أنه كتب إلي عبد الحميد: إذا ورد عليك كتابي هذا فلا تستعن على عملك بأحد من آل أبي موسى.
شعر ذي الرمة في بلالقال أبو العباس: وكان بلال داهيةً لقناً أدبياً، ويقال: إن ذا الرّمة لمّا أنشده:
سمعت، النّاس ينتجعون غيثاً ... فقلت لصيدح انتجعي بلالاً
تناخي عند خير فتى يمانٍ ... إذا النّكباء ناوحت الشّمالاً
فلما سمع قوله:
فقلت لصيدح انتجعي بلالا
قال: يا غلام، مر لها بقتّ ونوىّ، أراد أن ذا الرّمّة لايحسن المدح.
ـــــــ
1 زيادات ر: "العمالة؛ بضم العين: أجره العامل".
2 زيادات ر: "معناه: أسرع".
قوله: "سمعت الناس ينتجعون" حكاية، والمعنى إذا حقّق إنما هو سمعت هذه اللفظة، أي قائلاً يقول: "الناس ينتجعون غيثاً"، ومثل هذا قوله:
وجدنا في كتاب بني تميمٍ ... أحقّ الخيل بالرّكض المعار
فمعناه: وجدناه هذه اللفظة مكتوبة، فقوله: "أحق الخيل" ابتداء، "والمعار" خبره، وكذلك "الناس" ابتداء، و"ينتجعون" خبره. ومثل هذا في الكلام: قرأت "الحمد لله رب العالمين"، إنما حكيت ما قرأت، وكذلك قرأت على خاتمه "الله أكبر" يا فتى، فهذا لا يجوز سواه.
وقوله: "إذا النكباء ناحت الشّمالا" فإن الرياح أربع، ونكباواتها أربع، وهي الريح التي تأتي من بين ريحين فتكون بين الّمال والصّبا، أو الشّمال والدّبور، أو الجنوب والدّبور،أو الجنوب والصّبا، فإذا كانت النّكباء تناوح الشمال فهي آية الشتاء. ومعنى "تناوح" تقابل، يقال: تناوح الشّجر إذا قابل بعضه بعضاً، وزعم الأصمعي أن النائحة بهذا سمّيت، لأنها تقابل صاحبتها.
وقال يحيى بن نوفل الحميري - ويقال إنه لم يمدح أحدا قط:
فلو كنت ممتدحاً للنّوال ... فتى لامتدحت عليه بلالاً
ولكنّني لست ممّن يريد ... بمدح الرّجال الكرام السّؤالا
سيكفي الكريم إخاء الكريم ... ويقنع بالود منه نوالا
ومن احسن ما امتدح به ذو الرّمة بلالا، قوله:
تقول عجوزٌ مدرجي متروّحاً ... على بيتها من عند أهلي وغاديا
أذو زوجةٍ بالمصر أم ذو خصومةٍ ... أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فقلت لها: لا عن أهلي لجيرةٌ ... لأكثبة الدّهنا جميعاً وماليا1
وما كنت مذ أبصرتني في خصومة ... أرجع فيها يا ابنة الخير قاضي
ولكنّني أقبلت من جانبي قساٌ ... أزور فتى نجداً كريماً يمانيا
من آل أبي موسى عليه مهابةٌ ... تفادي أسود الغاب منه تفاديا
مرمّين من ليثٍ عليه مهابة ... تفادى أسود الغاب منه تفاديا
ـــــــ
1 زيادات ر: قوله "لا" لحن، وهذا اللحن راجع على المرأة؛ لأن "لا" لا تقع إلا في جواب "أو" وإنما سألته بأم، وهي لم يستقر عندها علم.
وما الخرق منه يرهبون ولا الخنى ... عليهم ولكن هيبةٌ هي ماهيا
وقوله: "مدرجي" يقول: مروري، فأما قولهم في المثل: خير من دبّ ومن درج، فمعناه: منحيي ومن مات، يريدون: من دب على وجه الأرض ومن درج منها فذهب.
وقوله:
أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فإنه في هذا المعنى: ثوى الرجل فهو ثاوٍ،يا فتى، إذا أقام، وهي أكثر، ويقال: أثوى فهو فهو مثوٍ يا فتى، وهي أقل من تلك، قال الأعشى:
أثوى وقصر ليلةً ليزوّدا ... فمضى وأخلف من قتيله موعداً
وقوله: "قسا" فهو موضع من بلاد بني تميم. وقوله: "لأكثبة الدهنا"، فأكثبةٌ جمع كثب، وهو أقل العدد، والكثير كثبانٌ والدّهنا من بلادي بني تميم، ولم أسمع إلا القصر من أهل ا لعلم والعرب، وسمعت بعد من يروي مدّها ولا أعلافه, قال ذو الرمة:
حنّت إلى نعم الدّهنا فقلت لها ... أمي هلالاً على التوفيق والرّشد
يعني هلال بن أحوز المازني، وقال جرير:
بازٍ يصعصع بالدّهنا قطاً جونا
وقوله:
كأنهم الكروان أبصرن بازيا.
فالكروان جماعة كروانٍ، وهو طائر معروف، وليس هذا الجمع لهذا الاسم بكماله، ولكنه على حذف الزيادة، فالتقدير: كراً وكروانٌ، كما تقول: أخٌ وإخوانٌ وورلٌ وورلانٌ، وبرق وبرقانٌ، والبرق أعجمي ولكنه قد أعرب وجمع كما تجمع العربية، واستعمل الكروان جمعاً على حذف الزيادة، واستعمل في الواحد كذلك، تقول العرب في مثلٍ من أمثالها:
أطرق كرا أطرق كرا ... إنّ النّعام في القرى
يريدون الكروان.
وقوله:
من آل أبي موسى ترى القوم حوله
فقال: ترى، ولم يقل ترين، وكانت المخاطبة أولاً لامرأة، ألا تراه يقول:
ومما كنت مذ أبصرتني في خصومةٍ ... أراجع فيهالا يا ابنة الخير قاضياً
ثم حوّل المخاطبة إلى رجل، والعرب تفعل ذلك، قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} 1، فكأن التقدير والله اعلم كان للناس، ثم حولت المخاطبة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال عنترة بن شدّاد:
شطّت مزار العاشقين فأصبحت ... عسراً عليّ طلابك ابنة مخرم
وقال جرير:
ما للمنازل لا تجيب حزننا ... أصممن قدم المدى قبلينا
وترى العواذل يبتدرن ملامتي ... وإذا اردن هواك عصينا
قال أولاً لرجل، ثم قال: سوى هوالك. وقال آخر:
فدىً لك والدي وسراة قومي ... ومالي إنه منه أتاني
على تحويل المخاطبة.
وقوله: "مرمّين"، يريد سكوتاً مطرقين، بقال: أرم إذا أطرق ساكتاً.
وقوله: "تفادى أسود الغاب" معناه تفتدي منه بعضها ببعض. الخبر أن سليمان بن عبد الملك أمر بدفع عيال الحجاج ولحمته إلى يزيد بن المهلب فتفادى منهم، تأويله: فدى نفسه من ذلك المقام بغيره. وقوله:
وما الخرق منه يرهبون ولا الخنى ... عليهم ولكن هيبة هي ماهيا
إذا رفعت "هيبة" فالمعنى: ولكن أمره هيبةٌ، كما قال الله عز وجل: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} 2 ، أي ذلك بلاغ، ومثله قوله عزّ وجل:
ـــــــ
1 سورة يونس 22.
2 سورة الأحقاف 35.
{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} 1، يكون رفعة على ضربين، أحدهما أمرنا طاعة وقول معروف، والوجه الآخر طاعةٌ وقولٌ معروف أمثل. ومن نصب هيبة أراد المصدر،أي ولكن يهاب هيبةً.
وأحسن ما قيل في هذا المعنى:
يغضي حياءً ويغضي من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم
وقال الفرزدق، يعني يزيد بن المهلب:
وإذا الرّجال رأوا بزيد رأيتهم ... خضع الرّقاب نواكس الأبصار
وفي هذا البيت شيء من يستطرفه النحويون، وهو أنهم لا يجمعون ما كان من فاعل نعتاً على فواعل،لئلا يلتبس بالمؤنث، لا يقولون: ضارب وضوارب، وقاتل وقواتل،لأنهم يقولون في جمع ضاربة: ضوارب،وقاتلة: قواتل، ولم يأت ذلك إلا في حرفين: إحداهما في جمع فارس: فوارس، لأن هذا مما لا يستعمل في النساء فأمنوا الالتباس، ويقولون في المثل: هو هالك في الهوالك، فاجروه على اصله فقال: "نواكس الأبصار"، ولا يكون مثل هذا أبداً إلا في ضرورة.
ـــــــ
1 سورة محمد 21.
باب
لجرير وقد نزل بقوم من بني العنبر فلم يقروهقال جرير ونزل بقوم من بني العنبر بن تميم فلم يقروه حتى اشترى منهم القرى فانصرف وهو يقول:
يا مالك بن طريفٍ إنّ بيعتكم ... رفد القرى مفسدّ للديّن والحسب
قالوا نبيعكه بيعاً فقلت لهم ... بيعوا الموالي واستحيوا من العرب
لولا كرام طريفٍ ما غفرت لكم ... بيعي قراي ولا أنسأتكم غضبي
هل أنتم غير أو شابٍ زعانفهٍ ... ريش الذّنابى وليس الرأس كالذّنب
وقوله: "يا مالك بن طريف" فمن نصب، فإنما هو على انه جعل "ابناً" تابعاً لما قبل، كالشيء الواحد، وهو اكثر في الكلام إذا كان اسماً علماً منسوباً إلى اسم علم،ابن مع ما قبله بمنزلة الشيء الواحد، ومثل ذلك:
يا حكم بن المنذر بن الجارود،1
ومن وقف على الاسم الأول، ثم جعل الثاني نعتاً لم يكن في الأول2 إلا الرفع، لنه مفرد نعت بمضاف، فصار كقولك: يا زيد ذا الجمة.
وقوله: "ولا أنساكم غضبي"، يقول: لم أؤخره عنكم، يقال: نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك، والنّسيء من هذا، ومعناه تأخير شهر عن شهر، وكانت النّسأة من بني مدلج بن كنانة، فأنزل الله عز وجلّ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 3 لأنهم كانوا يؤخرون الشهور، فيحرمون غير الحرام، ويحلّون غير الحلال، لما يقدّرونه من حروبهم وتصرّفهم، فاستوت الشهور لمّا جاء الإسلام، وأبان ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "إن الزّمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السّموات والأرض".
وقوله:
هل انتم غير أو شابٍ زعانفةٍ
ـــــــ
1 الرجز لأعشى بن الحرماز، وبعده:
سرادق المجد عليك ممدود
2 تكمله من س.
3 سورة التوبة 37.
فالأشابة جماعة تدخل في قوم وليست منهم، وإنما هو مأخوذ من المر الأشب، أي المختلط، ويزعم بعض الرواة ان اصله فارسي أعرب، يقال بالفارسية: وقع القوم في آشوب [أي]1 في اختلاط، ثم تصرّفت فقيل: تأشّب النبت، فصنع منه فعل2.
وأما الزّعانف فأصلها أجنحة السّمك، قال أوس بن حجر:
ومازال يفرى الشد حتى كأنما ... قوائمه في جانبيه زعانف3
وتزعم الرّواة أن ما أنفت منه جلّة الموالي هذا البيت، يعني قول جرير:
بيعوا الموالي واستحيوا من العرب
لأنه حطّهم ووضعهم، ورأى أن الإساءة إليهم غير محسوبة عيباً. ومثل ذلك قول المنتجع لرجل من الأشراف: ما علّمت والدك? قال: الفرائض، قال: ذلك قول المنتجع لرجل من الأشراف: ما علّمت والدك? قال: الفرائض، قال: ذلك علم الموالي لا أبالك! علمهم الرجز، فإنه يهرّث أشداقهم4. ومن ذلك قول الشّعبيّ ومر بقوم من الموالي يتذكرون النحو فقال، لئن أصلحتموه إنكم لأوّل أفسده! ومن ذلك قول عنترة:
فما وجدنا بالفروق أشابةً ... ولا كشفا ولا دعينا مواليا5
ومن ذلك قول الآخر:
يسمّوننا الأعراب العرب اسمنا ... وأسماؤهم فينا رقاب المزاود
يريد أسماؤهم عندنا الحمراء، وقول العرب: ما يخفى ذلك على الأسود والحمر. يريد العربيّ والعجميّ. وقال المختار لإبراهيم بن الأشتر يوم خازر6 وهو اليوم الذي قتل فيه عبيد الله بن زياد: إن عامّة جندك هؤلاء الحمراء، وإن الحرب إن ضرّستهم هربوا، فاحمل العرب على متون الخيل، وأرجل الحمراء أمامهم.
ـــــــ
1 من ر.
2 زيادات ر: "هذا وهم من أبى العباس، ليس الأشابة ولا الأشب من الأوشاب؛ لأن فاء الفعل من الأشابه همزة، ومن أوشاب واو ، ولكنه مثله في المعنى يحتمل أن يكون أصله وشابة، وأبدلت الواو المضمومة همزة".
3 يفرى الشد: يأتى بالعجب في عدوه.
4 يهرث أشداقهم: يوسعها.
5 الفروق: اسم موضع. والكشف: الذين لا يصدقون في القتال.
6 زيادات ر: "وقعت الرواية كما في الأصل، ووجد بخط يد أبى على البغدادي رحمه الله: "جازر، بالجيم".
ومن ذلك قول الأشعث بن قيس لعلي بن أبي طالب رحمه الله، وأتاه يتخطى رقاب الناس، وعليّ على المنبر فقال: يا أمير المؤمنين، غلبتنا هذه الحمراء على قربك، قال: فركض عليّ المنبرٌ برجله، فقال صعصعة بن صوجان العبديّ: مالنا ولهذا? يعني الشعث، ليقولنّ أمير المؤمنين اليوم في العرب قولاً لا يزال يذكر، فقال عليٌّ من يعذرني من هذه الضّياطرة، يتمرّغ أحدهم على فراشه تمرغ الحمار، ويهجّر قومٌ للذّكر، فيأمرني إن أطردهم، ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين، والذي فلق الحبة، وبرأ النّسمة، ليضربنّكم على الدّين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً.
قوله: "الضياطرة" واحدهم ضيطرٌ وضيطارٌ، وهو الأحمر العضل الفاحش، قال خداش بن زهير:
وتركب خيلٌ لا هوادة بينها ... وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر
وإنما قال جريرٌ لبني العنبر:
هل أنتم غير أو شابٍ زعانفةٍ
لأن النّسّابين يزعمون ان العنبر بن عمرو بن تميم، إنما هو ابن عمرو بن بهراء، وأمّهم أم خارجية البجليّة التي يقال لها في المثل: "أسرع من نكاح أمّ خارجة"، فكانت قد ولدت في العرب في نيّفٍ وعشرين حياً من آباءٍ متفرقين، وكان يقول لها الرجل: خطبٌ? فتقول: نكحٌ! كذلك قال يونس بن حبيب، فنظر بنوها إلى عمرو بن تميم قد ورد بلادهم، فأحسّوا بأنه أراد أمتهم، فبادروا إليه ليمنعوه تزوّجها، وسبقهم لأنه كان راكباً، فقال لها: إنّ فيك لبقيّة? فقالت: إن شئت. . . ، فجاؤوا وقد بنى عليها، ثم نقلها بعد إلى بلده، فتزعم الرواة أنها جاءت بالعنبر معها صغيراً، وأولدها عمرو بن تميم أسيّداً والجهيم والقليب، فخرجوا ذات يوم يستقون فقلّ عليهم الماء، فأنزلوا مائحاً من تميم، فجعل المائح يملأ الدلو إذا كانت للهجيم وأسيّد والقليب، فإذا وردت دلو العنبر تركها تضطرب، فقال العنبر:
قد رابني من دلوي اضطرابها ... والنّأي عن بهراء واغترابها
إلا تجيء ملأى يجيء قرابها1
فهذا قول النّسّابين.
ـــــــ
1 أى ما يقارب ملأها.
وبروى أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال يوماً لعائشة رحمها الله، وقد كانت نذرت أن تعيق قوماً من ولد إسماعيل، فسبي قوم من بني العنبر، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن سرّك أن تعتقي الصميم من ولد إسماعيل فأعتقي من هؤلاء". فقال النّسّابون: فبهراء من قضاعة، وقد قيل قضاعة من بني معدّ، فقد رجعوا إلى إسماعيل.
ومن زعم أن قضاعة من بني مالك بن حمير وهو الحق قال: فالنسب الصحيح في قحطان الرّجوع إلى إسماعيل وهو الحق وقول المبّرزين من العلماء: غنما العرب المتقدمة من أولاد عابر، ورهطه عاد وطسم وجديس وجرهموالعماليق، فاما قحطان عند أهل العلم، فهو ابن الهميسع بن تيمن بن نبت بن قيذار بن إسماعيل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد رجعوا إلى إسماعيل، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوم من خزاعة وقيل من الأنصار: "ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً".
ليحيى بن نوفل يهجو العريان بن الهيثمقال يحيى بن نوفل: "يهجو العريان بن الهيثم بن الأسود النّخعيّ، وكان العريان تزوج زباد" من ولد هانئ بن فبيصة الشيباني، وكانت عند الوليد بن عبد الملك فطلقها، فتزوجها العريان، وكان ابن نوفل له هجّاءً، فقال:
أعريان ما يدري امرؤ سيل عنكم ... أمن مذحجٍ تدعون أم من إياد!
فإن قلتم من مذحج إنّ مذحجاً ... لبيض الوجوه غير جدّ جعاد
وأنتم صغار الهام حدلٌ كأنما ... وجوهكم مطليّةٌ بمداد
فإن قلتم الحيّ اليمانون أصلنا ... وناصرنا في كل يوم جلاد
فأطول بأيرٍ من معدّ ونزوةٍ ... نزت بإيادٍ خلف دار مراد
لعمر بني شيبان إذ ينكحونه ... زباد لقد ما قصّروا بزياد
أبعد الوليد أنكحوا عبد مذحجٍ ... كمنزيةٍ عيراً خلاف جواد
وأنكحها لا في كفاء ولا غنى ... زياد أضلّ الله سعي زياد
قوله:
أمن مذحج تدعون أم من إياد
فبنو مذحج بنو مالك بن زيد بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ ين يشجب بن يعرب بن قحطان. وإياد بن نزار بن معد بن عدنان، ويقال: إن النّخع وثقيفاً أخوان من إياد. فأما ثقيف فهو قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوا زان بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن النصر، فهذا قول قوم. فأما آخرون فيزعمون ان ثقيفاً من بقايا ثمود، ونسبهم غامض على شرفهم في أخلاقهم، وكثرة مناكحهم قريشاٌ. وقد قال الحجاج على ا لمنبر: تزعمون أنّا من بقايا ثمود، والله عزّ وجل يقول: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} 1. وقال الحجاج يوماً لبي العسوس الطائي: أيّ أقدم? أنزول ثقيف الطائف أم نزول طيّىء الجبلين? فقال أبو العسوس: إن كانت ثقيف من بكر بن هوزان فنزول طيّىء الجبلين قبلها، وغن كانت ثقيف من ثمود فهي اقدم، فقال الحجاج: يا أبا العسوس، اتّقني فإني سريع الخطفة للأحمق المهتوّك2! فقال أبو العسوس3:
يؤدّبني الحجاج تأديب أهله ... فلو كنت من أولاد يوسف ما عدا
وإني لأخشى ضربةً ثقفيّة ... يقدّ بها ممّن عصاه المقلّدا
على أنني ممّا أحاذر آمنٌ ... إذا قيل يوماً قد عتا المرء واعتدى
ـــــــ
1 سورة النجم 43.
2 المتهوك: المتهور
3 زيادات ر: "رواية عاصم رحمه الله العسوس [بالواو المشددة] والعسوس [بسكون السين وفتح الواو]، وفي رواية ش كما في داخل الكتاب".
المغيرة بن شعبة وهند بنت النعمان بن المنذروقد كان المغيرة بن شعبة، وهو والي الكوفة، سار إلى دير هند بنت النعمان بن المنذر، وهي فيه عمياء مترهّبةٌ، فاستأذن عليها، فقيل لها: أمير هذه المدرة بالباب، فقالت: قولوا له: أمن ولد جبلة بن الأيهم أنت? قال: لا،قالت: أمن ولد المنذر بن ماء السماء?قال: لا، قالت فمن أنت? قال: المغيرة بن شعبة الثقفي، قالت: فما حاجتك? قال: جئتك خاطباً، قالت: لو كنت جئتني لجمال أو مال لأطلبتك، ولكنك أردت أتتشرّف بي في محافل العرب، فتقول: نكحت ابنة النعمان بن المنذر، وإلاّ فأيّ خير في اجتماع أعور وعمياء! فبعثت إليها: كيف
كان أمركم? فقالت: سأختصر لك الجواب. . . أمسينا مساءً، وليس في الأرض عربيّ إلا هو يرغب إلينا ويرهبنا، ثم أصبحنا وليس في الأرض عربيّ إلا ونحن نرغب إليه ونرهبه، قال: فما كان أبوك يقول في ثقيف? قالت: اختصم إليه رجلان منهم،أحدهما ينميها إلى إياد، والآخر إلى بكر بن هوزان فقضى بها للإياديّ، وقال:
إنّ ثقيفاً لم تكن هوازناً ... ولتناسب عامراً ومازنا
يريد عامر بن صعصعة ومازن بن منصور، فقال المغيرة: أما نحن فمن بكر بن هوزان، فليقل أبوك ما شاء!
في رثاء الأشتروقالت أخت الأشتر، وهو مالك بن الحارث النّخعيّ تبكّيه، وهذا الشعر رواه أبو اليقضان، وكان متعصباً:
أبعد الأشتر النخعي نرجو ... مكاثرة ونقطع بطن واد!
ونصب مذحجا بإخاء صدق ... وإن ننسب فنحن ذرا إياد
ثقيف عمنا وأبو أبينا ... وإخوتنا نزار أولوا السداد
قوله: "وانتم صغار الهام حدلٌ"، فلأحدل المائل العنق، يقال: قوس حدلاء إذا اعوجّت سيتها، قال الراجز:
لها1 متاعٌ ولهاةٌ فارض ... حدلاء كالزق نحاه الماخض
وأما قوله: "زباد" يا فتى، فله باب نذكره على وجهه باستقصاء بعد فراغنا من تفسير هذا الشعر.
وقوله: "لقد ما قصّروا". فما زائدة، مثل قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} 2، ولو قال: لقدماً قصّروا لم يكن جيداً، ودخل الوليد في الذم.
ـــــــ
1 زيادات ر: "كذا وقعت الرواية "لها" والصواب "له" لأنه يعني الفحل من الإبل؛ لأن الشقشقة لا تكون للأنثى، قاله ش".
2 سورة نوح 25.
وقوله: "كمنزيةٍ عيراً خلاف جواد" يقول: بعد جواد، قال الله عزّ وجل: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} 1.
وقوله: "لافي كفاء" يقال: هو كفؤك وكفؤك وكفيئك وكفاؤك، وإذا كان عديلك في شرف أو ما أشبه، كما قال الفرزدق:
وتنكح في أكفانها الحبطات
أول هذا البيت:
بنو دارم اكفاؤهم آل مسمع
وآل مسمع: بيت بكر بن وائل، والحبطات هم بنو الحارث بن عمرو بن تميم، وإنما قال هذا الفرزدق حين بلغة ان رجلاً من الحبطات خطب امرأة من بني دارم بن مالك، فأجابه رجل من الحبطات:
أما كان عبّادٌ كفيئاً لدارم ... بلى ولأبياتٍ بها الحجرات
عبّاد، يعني بني هاشم، وقد تقدم هذا البيت للفرزدق في مواضع، وقال الله عزّ وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 2، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لأمنعنّ النساء إلا من الأكفاء، وتحدّث أصحابنا عن الأصمعي عن إسحاق بن عيسى. قال: قلت لأمير المؤمنين الرّشيد أو المهديّ: يا أمير المؤمنين، من أكفاؤنا? قال: أعداؤنا، يعني بنى أميّة، وزيادٌ الذي ذكركان أخاها".
هذا التفسير ما كان من المؤنث على "فعال" مكسور الآخر.
وهو على أربعة أضرب، والأصل واحد.
قال أبو العباس: اعلم أنه لا يبنى شيء من هذا الباب على الكسر إلا وهو مؤنث معرفة معدولٌ عن جهته، وهو في المؤنث بمنزلة فعل، نحو عمر وقثم في المذكر، وفعل معدول في حال المعرفة عن فاعلٍ وكان فاعلٌ ينصرف، فلما عدل عنه فعل لم ينصرف، وفعال معدول عن فاعلة لا ينصرف في المعرفة فعدل إلى البناء،لأنه ليس بعد ما لا ينصرف إلا المبنيّ، وبني وبني على الكسر لأن في فاعلة
ـــــــ
1 سورة التوبة 81.
2 سورة الإخلاص 4.
علامة التأنيث، وكان أصل هذا أن يكون إذا أردت به الأمر ساكناً كالمجزوم من الفعل الذي هو في معناه، فكسرته لالتقاء الساكنين، مع ما ذكرنا من علامة التأنيث والكسر مما يؤنث به فلم يخل من العلامة، تقول للمرأة: أنت فعلت، فالكسر علامة التأنيث، وكذلك إنك ذاهبة، ضربتك يا امرأة، فمما لا يكون إلا معرفة مكسوراً ما كان اسماً للفعل نحو نزال يا فتى، ومعناه انزل وكذلك تراك زيداً أي اتركه، فهما معدو لان عن المتاركة والمنازلة، وهما مؤنثان معرفتان، يدلك على التأنيث القياس الذي ذكرنا، قال الشاعر تصديقاً لذلك:
ولنعم حشو الدّرع أنت إذا ... دعيت نزال ولجّ في الذّعر
فقال: دعيت لما ذكرته لك من التأنيث، وقال الآخر،وهو زيد الخيل:
وقد علمت سلامة انّ سيفي ... كريهٌ كلّما دعيت نزال
وقال الشاعر:
تراكها من إبل تراكها ... أما ترى الموت لدى أوراكها
أي اتركها. وقال آخر1:
حذار من أرحامنا حذار
وقال آخر2:
نظار كي أركبه نظار
فهذا باب من الأربعة.
ومنها إن يكون صفة غالبة تحلّ محل الاسم، نحو قولهم للضّبع: جعار يا فتى، وللمنية حلاق يا فتى، لأنها حالقة، والدليل على التأنيث بعد ما ذكرنا قوله:
لحقت حلاق بهم على أكسائهم ... ضرب الرقاب ولا يهم المغنم3
وتقول في النداء يا فساق ويا خباث ويا لكاع، تريد يا فاسقة ويا خبيثة ويا لكعاء، لأنه في النداء في موضع معرفةٍ كما تقول للرجل: يا فسق ويا خبث ويا لكع4، فهذا بابٌ ثانٍ.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو رؤبة".
2 زيادات ر: "هو أبو النجم".
3 الأكساء: المتأخرون.
4 زيادات ر: "حكى ابن السراج عن ابي عبيدة: فرس لكع للمذكر، ولكعة للمؤنث".
ومن ذلك ما عدل عن المصدر نحو قوله1 يذمّ الخمر:
جماد لها جماد ولا تقولي ... طوال الدهر ماذكرت حماد
وقال النابغة الذبيانيّ:
إنّا اقتسمنا خطّتيننا بيننا ... فحملت برّدة واحتملت فجار2
يريد: قولي لها جموداً، ولا تقولي لها حمداً، هذا المعنى، ولكنه عدل مؤنثاً. وهذا باب ثالث.
والباب الرابع ان تسمى امرأةً، أو شيئاً مؤنثاً باسم تصوغه على هذا المثال، نحو رقاش وحذام وقطام وما أشبه ذلك، فهذا مؤنث معدول عن راقشة وحاذمة وفاطمة، إذا سمّيت به، وأهل الحجاز يجرونه على قياس ماذكرت، لأنه معدول في الأصل وسمّيي به، فنقل إلى مؤنث كالباب الذي كان قبله، فلم يغيروه، فعلى ذلك قالوا:
اسق رقاش إنها سقّايه
وقال آخر:
إذا قالت حذام فصدّقوها ... فإنّ القول ما قالت حذام
وينشدون:
وأقفر من سلمى شراء فيذبل
كذا وقع، والصحيح "فقد أقفرت سلمى شراء"، لأن قبله:
تأبّد من أطلال جمرة مأسل
والشعر للنّمر بن تولبٍ.
وأما بنو تميم فإذا أزالوه عن النعت فسمّوا به صرفوه في النكرة، ولم يصرفوه في المعرفة، وسيبويه يختار هذا القول، ولا يرادّ القول الاخر، فيقول: هذه رقاش قد جاءت، وهذه غلاب قد جاءت، وهذه غلاب أخرى، ولا اختلاف ببين العرب في صرفه إذا كان نكرة، وفي إعرابه في المعرفة، وصرفه في النكرة إذا كان اسماً لمذكر، نحو رجل تسميه نزال أو رقاش أو حلاق، فهو في النكرة إذا كان اسماً لمذكر، نحو رجل تسميه نزال أو رقاش أو حلاق، فهو بمنزلة رجل سميته بعناق أو أتانٍ، لن التأنيث قد ذهب عنه، فاحتج سيبويه في تصحيح هذا القول بأنك لو سمّيت شيئاً بالفعل الذي هو مأخوذ منه لعربنه، نحو أنزل وأضرب، لو سميت بهما رجلاً لجرى مجرى إصبع وأحمد إثمدٍ، ونحو ذلك فهذا يحيط بجميع هذا الباب.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو المتلمس بذم الخمر".
2 زيادات ر: "برة: اسم علم لجميع البر، وفجار لجميع الفجور، لابن جنى، تخصيصة برة بفعلت، وفجار بافتعلت، مثل قوله تعالى: { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فكسب للخير واكتسب للشر.
لامرأة من بني عامر بن صعصعة زوجت في طيّىء
قال أبو العباس، وقالت امرأة أحسبها من بني عامر بن صعصعة زوجت في طيىء.
لا تحمدنّ الدّهر أخت أخالها لها ... ولا ترثينّ الدّهر بنتٌ لوالد
هم جعلوها حيث ليست بحرّةٍ ... وهم طرحوها في الأقاصي الأباعد
ويروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنما النكاح رقٌّ لينظر امرؤٌ من يرقٌّ كريمته. وعلى هذا جاءت اللغة، فقالوا كنا في إملاك1 فلانٍ، وفي ملك فلان، وفي ملك فلان، وفي ملكة فلان. وفي ملكان فلان، ويقول الرجل: ملكت المرأة وأملكنيها وليّها، ومن ذلك أنّ يمين الطلاق إذا وقع فيها حنثٌ غنما يكون محلّها محلّ الإقرار بترك ما كان يملكه كالعتاق.
وقال رسول الله: "أوصيكم بالنساء فإنهنّ عندكم عوانٍ" أي أسيراتٌ، ويقال، عني فلانٌ في بني فلان إذا أقام فيهم اسيراً،ويقال: فلان يفكّ العناة، وأصل التغنية التذ ليل،وأصل الإسار الوثاق، ويقال للقتب مأسور إذا شدّ بالقدّ، هذا أصل هذا، فأما المثل في قولهم: إنما فلان غلٌّ قملٌ، فإنهم كانوا يتخذون الغلال من القدّ، فكانت تقمل.
ـــــــ
1 الإملاك: مصدر أملك، وهو النرويج.
لرجل يذكر امرأة زوجت من غير كفءوقال رجل يذكر امرأةً زوّجت من غير كفء:
لقد فرح الواشون أن نال ثعلبٌ ... شبيهة ظبيٍ مقلتاها وجيدها
أضرّ بها فقد الوليّ فأصبحت ... بكف لئيم الوالدين يقودها
الرجل يعير إبراهيم بن النعمان بن بشير ورد إبراهيم عليهولما زوّج إبراهيم بن النعمان بن بشيرٍ الأنصاريّ يحيى بن أبي حفصة مولى عثمان بن عفّان ابنته على عشرين ألف درهم قال قائل يعيّره:
لعمري لقد جلّلت نفسك خزيةً ... وخالفت فعل الأكثر ين الأكارم
ولو كان جدّاك الّلذان تتابعا ... ببدرٍ لما راما ضيع الألائم
فقال إبراهيم بن النعمان يردّ عليه:
ما تركت عشرون ألفاً لقائل ... مقالاً فلا تحفل ملامة لائم
وإن أك قد زوّجت مولى فقد مضت ... به سنّةٌ قبلي وحبّ الدّراهم
للقلاخ بن حزن يخاطب يحيى بن أبي حفصة ورد يحيي عليهوتزوّج يحيى بن أبي حفصة وهو مروان الشاعر، ويزعم النسّابون أن أباه كان يهودياً أسلم على يدي عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان يحيى من أجود الناس، وكان ذا يسار، فتزوج خولة بنت مقاتل بن طلبة1 بن قيس بن عاصم سيد الوبر بن سنان بن خالد بن منقر، ومهرها خرقاً، ففي ذلك يقول القلاخ بن حزنٍ:
لم أر أثواباً أجرّ لخزيةٍ ... وألأم مكسواً وألأم كاسيا
من الخرق الّلاتي صببن عليكم ... بحجرٍ فكنّ المبقيات البواليا
فقال يحيى بن أبي حفصة يجيبه:
تجاوزت حزناً رغبةً عن بناته ... وأدركت قيساً ثانياً من عنانيا
يقال ذلك للسّابق إذا تقدّم تقدّماً بيّناً فبلغ الغاية، فمن شأنه أن يثني عنانه فينظر إلى الخيل، وقال الشاعر:
فمن يفخر بمثل أبي وجدّي ... يجيء قبل السّوابق وهو ثاني
يريد ثاني عنانه، وقال القلاح في هذه القصة:
نبّئت خولة قالت حين أنكحها ... لطالما كنت منك العار أنتظر
أنكحت عبدين ترجو فضل مالهما ... في فيك ممّا رجوت الترب والحجر
ـــــــ
1 زيادات ر: "الرواية المشهورة بإسكان اللام، وتسامح ابن سراج في فتح اللام".
للّه درّ جيادٍ أنت سائسها ... برذنتها وبها التحجيل والغرر1
وقال جرير يعيّرهم:
رأيت مقاتل الطلبات حلّى ... فروج بناته كمر الموالي
لقد أنكحتم عبداً لعبدٍ2 ... من الصّهب المشوّهة السبال
فلا تفخر بقيسٍ إنّ قيساً ... خرئتم فوق أعظميه البوالي
وقال آخر في مثل هذه القصة:
ألا يا عباد الله قلبي متيّمٌ ... بأحسن من صلّى وأقبحهم بعلا
يدبّ على أحشائها كلّ ليلةٍ ... دبيب القرنبى بات يقرو3 نقاً سهلا
القرنبى: دويبةٌ على هيئة الخنفس متقّطعة الظّهر، وربما كان في ظهر نقطة حمراء، وفي قوائمها طول الخنفس، وهي ضعيفة المشي.
ـــــــ
1 برذنتها: جملتها من البراذين.
2 يريد أنه عريق في العبودية.
3 يقرو: يتبع.
للفرزدق في عطية أبي جريرقال الفرزدق يعني عطيّة أبا جرير:
قرنبى يحكّ قفا مقرفٍ ... لئيمٍ مآثره فعدد1
وفي هذا الشعر يقول:
ألم تر أنّا بني دارم ... زرارة منّا أبو معبد
ومنّا الّذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم توأد
ألسنا بأصحاب يوم النّسار2 ... وأصحاب ألوية المربد
ـــــــ
1 زيادات ر: "ألف قرنبى ألف إلحاق وليست للتأنيث. والقعدد: اللئيم، وجمعه قعادد".
2 زيادات ر: "النسار: جعل تألفة النسور كثيرا فلذلك سمى بهذا الاسم".
السنا الّذين تميمٌ بهم ... تسامي وتفخر في المشهد1
وناجية الخير والأقرعان ... وقبرٌ بكاظمة المورد2
إذا ما أتى قبره عائدٌ ... أناخ على القبر بالأسعد3
أيطلب مجد بني دارم ... عطيّة كالجعل الأسود4
ومجد بني دارمٍ دونه ... مكان السّماكين والفرقد5
قوله:
ألم تر أنّا بني دارم
منصوب على الاختصاص، وقد مضى تفسيره.
وزرارة الذي ذكر،هو زرارة بن عدس بن زيد بت عبد الله بن دارم، وكان زرارة يكنى أبا معبدٍ، وكان له بنون: معبدٌ، ولقيطٌ، وحاجبٌ وعلقمة، والمأموم.
ويزعم قوم أن المأمون هو علقمة، ومنهم شيبان بن زرارة وابنه يزيد بن شيبان النسّابة، وكان حاجبٌ أذكر القوم6.
ورووا أن عبد الملك ذكر يوماً يني دارم فقال أحد جلسائه: يا أمير المؤمنين! هؤلاء قوم محظوظون! فقال عبد الملك: أتقولون ذلك وقد مضى منهم لقيط بن زرارة ولم يخلّف عقباً، ومضى القعقاع بن معبد بن زرارة ولم يخلّف عقباً، ومضى محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة ولم يخلّف عقباً! والله لا تنسى العرب هؤلاء الثلاثة أبداً.
ـــــــ
1 رغبة الآمل: بعده
وقد مد حولى من المالكين ... أواذى ذو حدب مزبد
إلى هادرات صعاب الرءوس ... قساور للقسور الأصيد
2 كاظمة: موضع على سيف البحرين.
3 الأسعد: جمع سعد، وبعده:
فذاك أبى وأبواه الذي ... لمقعده حرم المسجد
4 الجعل: دويبة سوداء تكون على المواضع الندية.
5 زيادات ر: "الرفع في مكان أقوى، وهو الوجه الجيد في العربية".
6 أذكر القوم: أشهرهم.
وكان لقيط بن زرارة قتل يوم جبلة، وأسر حاجب فنودي، فزعم أبو عبيدة أنه لم يكن عكاظيٌّ أغلى فداء من حاجب، وكان أسره زهدمٌ1 العبسيّ، فلحقه ذو الرقيبة القشريّ، وبنو عبس يومئذ نازلةٌ في بني عامر بن صعصعة، فأخذه ذو الرقيبة بعزّة، وأنه في محل قومه فقال حاجب: لمّا تنازعني الرجلان خفت أن أقتل بينهما، فقلت: حكماني في نفسي، ففعلا فحكمت بسلاحي وركابي لزهدم، وبنفسي لذي الرقيبة، وكان حاجب يكنى أبا عكرشة، وكان أحلم قومه، وفي ذي الرقيبة يقول الشاعر2:
ولقد رأيت القائلين وفعلهم ... فلدي الرقيبة مالكٍ فضل
كفّاه متلفةٌ ومخلفةٌ ... وعطاؤه متدفّقٌ جزل
ففدي حاجبٌ، وقتل في ذلك اليوم لقيطٌ، واسر عمرو بن عمرو بن عدس فلذلك يقول جرير يعيّر الفرزدق، لن الفرزدق من بني مجاشع بن دارم، وقد مضى ذكر هذا في الكتاب، ولجرير في قيسٍ خؤولة.
ـــــــ
1 زيادات ر: "أخو كردم".
2 زيادات ر: "هو المسيب بن علس"، واسمه "زهير، ويكنى أبا الفضة".
للفرزدق يهجو جريراً وجواب جرير عليه
فلما هجا الفرزدق قيساً في أمر قتيبة بن مسلم الباهليّ، قال:
أتاني وأهلي بالمدينة وقعةٌ ... لآل تميم أقعدت كلّ قائم
كأن رؤوس النّاس إذا سمعوا بها ... مشدّخةٌ هاماتها بالأمائم1
وما بين من لم يعط سمعاً وطاعةً ... وبين تميم غير حرّ الحلاقم
أتغضب عن أذنا قتيبة حزّنا ... جهاراً ولم تغضب لقتل ابن خازم
وما منهما غلا نقلنا دماغه ... إلى الشّام فوق الشّاحجات الرّواسم
تذبذب في المخلاة تحت بطونها ... محذّفة الأذناب جلح المقادم2
وما أنت من قيس فتنبح دونها ... ولا من تميم في الرؤوس الأعاظم
تخوّفنا أيام قيسٍ ولم تدع ... لعيلان أنفا مستقيم الخياشم
لقد شهدت قيسٌ فما كان نصرها ... قتيبة إلاّ عضّها بالأباهم3
ـــــــ
1 الأمائم كما في زيادات ر: "حجارة تشدخ بها الرءوس، الواحدة أميمة".
2 المخلاة في الأصل: ما يوضع فيها الخلى، وهو الحشيش الرطب، أراد بهن الخرج.
3 الأباهم: جمع الإبهام.
وقال جرير يجيبه:
أباهل ما أحببت قتل ابن مسلم ... ولا أن تروعوا قومكم بالمظالم
ثم قال يخوّف الفرزدق:
تحضّض يا أبن القين قيساً ليجعلوا ... لقومك يوماُ مثل يوم الأراقم1
كأنك لم تشهد لقيطاً وحاجباً ... وعمرو بن عمروٍ إذ دعوا يا ل دارم
ولم تشهد الجونين والشّعث ذا الصّفا ... وشدّات قيس يوم دير الجماجم
فيوم الصّفا كنتم عبيداً لعامر ... وبالحنو أصبحتم عبيد اللّهازم
إذا عدّت الأيام أخزين دراماً ... وتخزيك يا أبن القين أيام دارم
أما قول الفرزدق:
كأن رءوس الناس إذ سمعوا بها ... مشدخة هاماتها بالأمائم
فإن الشّجاع مختلفة الحكام، فإذا كانت الشّجّة شقيقا يدمى فهي الدامية، وإذا أخذت من اللحم شيئاً فهي الباضعة، وإذا أمضت في اللحم فهي المتلاحمة، فإذا هشمت العظم فهي الهاشمة، وإذا كان بينها وبين العظم جليدةٌ رقيقة فهي السمحاق، من أجل تلك الجليدة يقال ما على ترب الشاة من الشّحم إلا سماحيق، أي طرائق، فإذا خرجت منها عظام صغار فهي المنقّلة وإنذما أخذ ذلك من النّقل وهي الحجارة الصغار فإذا أوضحت عن العظم فهي الموضحة، فإذا خرقت العظم وبلغت أمّ الدّماغ وهي جليدةٌ قد ألبست الدماغ فهي الآمّة، وبعض العرب يسميها أمّ المأمومة، واشتقاق ذلك إفضاؤها إلى أم الدماغ ولا غاية بعدها، قال الشاعر:
يحج مأمومةً في قعرها لجفٌ ... فاست الطبيب قذاها كالمغاريد2
وقال ابن غلفاء الهجيميّ يردّ بن عمرو بن الصّعق في هجائه بني تميم:
فإنك من هجاء بني تميم ... كمزداد الغرام إلى الغرام
ـــــــ
1 الأراقم: يريد يوماً كان لقيس على تغلب ابنة وائل، والأراقم هم بطون تغلب.
2 مأمومة: مشجوجة.
هم تركوك أسلح من حبارى1 ... رأت صقراً وأشرد من نعام
وهم ضربوك امّ الرّأس حتى ... بدت أمّ الشّئون من العظام2
إذا يأسونها جشأت إليهم3 ... شرنبثة القوائم أم هام4
وابن خازم هو عبد الله بن خازم السّلميّ، وهو أحد غربان العرب في الإسلام، وكان من أشجع الناس، وقلته بنو تميم بخرسان، وكان الذي ولي قتله منهم وكيع بن الدّورقيّة القريعيّ. وقوله: فوق الشاحجات، يعني البغال. والرّسيم: ضرب من السير، وإنما عنى ههنا بغال البريد، لقوله:
محذّفة الأذناب جلح المقادم
كما قال امرؤ القيس:
على كل مقصوص الذنابى معاود ... بريد السرى بالليل من خيل بربرا5
وكانت برد ملوك العرب في الجاهلية الخيل.
أما قول جرير: "الجونين" ، فقد مضى ذكرهما، ويوم "دير الجماجم"، يريد الحجّاج في وقعته بدير الجماجم بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكنديّ، وقوله:
وبالحنو أصبحتم عبيد اللّهازم
فاللّهازم بنو قيس بن ثغلبة، وبنو ذهل بن ثعلبة، وبنو تيم اللآت بن ثعلبة، وبنو عجل بن لجيم بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل، وبنو مازن بن صعب بن عليّ، ثم تلهزمت حنيفة لجيم فصارت معهم، وأما علقمة بن زرارة فإنه قتله بنو ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فقتل به حاجب أخوه أشيم بن شراحيل القيسيّ، فقال ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فقتل به حاجبٌ أخوه أشيم بن شراحيل القيسيّ، فقال حاجبٌ في ذلك:
فإن تقتلوا منّا كريماً فإنّنا ... أبأنا به مأوى الصعاليك أشيما
قتلنا به خير الضبيعات كلها ... ضبيعة قيس لا ضبيعة أضجما
ـــــــ
1 الحبارى: اسم طائر.
2 أم الشئون: يريد بها الرأس.
3 جشأت: نهضت.
4 زيادات ر: "يريد غليظ القوائم".
5 الذنابى: الذنب، :وبربر: قبيلة وكان من علامة خيلها حذف أذنابها.
وكان يقال لأشيم: مأوى الصعاليك، وضبيعة أضجم الذي ذكر هو ضبيعة ابن ربيعة بن نزار رهط المتلمس. هذا لقبهم.
وأما معبد بن زرارة فإن قيساً أسرته يوم رحرحان، فساروا به إلى الحجاز فأتى لقيطٌ في بعض الأشهر الحرم ليفديه، فطلبوا منه ألف بعير فقال لقيط: إنّ أبانا أمرنا ألا نزيد على المائتين، فتطمع فينا ذؤبان العرب، فقال معبد: يا أخي، افدني بمالي فإني ميتٌ. فأبى لقيطٌ، وأبى معبد أن يأكل أو يشرب، فكانوا يشحون فاه، ويصبّون فيه الطعام والشراب لئلا يهلك فيذهب فداؤه، فلم يزل كذلك حتى مات، فقال جرير يعيّر الفرزدق وقومه بذلك:
تركتم بوادي رحرحان نساءكم ... ويم الصّفا لاقيتم الشعب أوعرا
سمعتم بني مجدٍ دعوا يا ل عامر ... فكنتم نعاماً عند ذاك منقّرا
وأسلمت القلحاء في الغل معبداً ... ولاقى لقيط حتفه فتقطّرا
قوله:
سمعتم بني مجدٍ دعوا يا ل عامرٍ
يعني مجد بنت النضر بن كنانة ولدت ربيعة بن عامر بن صعصعة، وولده بنو كلاب وبنو كعب بن عامر بن ربيعة. والقلحاء لقب، والقلح ان تركب الأسنان صفرةٌ تضرب إلى السواد، ويقال لها الحبرة لشدة تأثيرها، أنشدني المازني:
لست بسعدى على فيه حبرة ... ولست بعبدى حقيبته التمر
وزعم أبو الحسن الأخفش1، أن العرب تقول في هذا المعنى: "في أسنانه حبرة"، وليس ذلك بمعروف، ولم يأت اسم على "فعل" إلا إبل وإطل.2
ـــــــ
1 زيادات ر: "سعيد بن مسعدة".
2 زيادات ر: "وامرأة بلز، أى ضخمة، قاله ابن قتيبة، أما إبل فكما ذكر، وأما "إطل" فليس كما ذكر، وإطل[بالكسر] أصله إطل[بالسكون]، ثم حركت الطاء اتباعاً لحركة لهمزة، كما قالوا في الجلد [بالسكون]: الجلد[بالكسر]، قال سيبويه: ليس في الأسماء والصفات فعل [بالكسر] إلا إبل".
وقوله:
ولاقى لقيط حتفه فتقطّرا
يقال: قطّره لجنبيه وقتّره، لغتان، لأن التاء من مخرج الطاء، فإن رمى به على قفاه قيل: سلقه وسلقاه وبطحه لوجهه. فإن رمى به على رأسه قيل نكته.
رجع التفسير إلى شعر الفرزدق الأول:
أما قوله:
ومنّا الذي منع الوائدات
فإنه يعني جدّه صعصعة بن ناجية بن عقالٍ، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات، ولم يكن هذا في جميعها إنما كان في تميم بن مرّة ثم استفاض في جيرانهم، فهذا قول واحد. وقال قوم آخرون: بل كان في تيم وقيس وأسدٍ وهذيل وبكر بن وائل، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللّهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف". وقال بعض الرواة: "اشدد وطدتك"، والمعنى قريب يرجع إلى الثّقل، فأجدبوا سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم، فكانوا يسمونه العلهز، ولهذا أبان الله عز وجل تحريم الدم، ودلّ على ما من أجله قتلوا البنات فقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} 1، وقال: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} 2 ، فهذا خبيرٌ بيّن ان ذلك للحاجة، وقد روى بعضهم أنهم غنما فعلوا ذلك أنفةً.
ـــــــ
1 سورة الإسراء 31.
2 سورة الممتحنة12.
إغارة النعمان بن المنذر على تميموذكر أبو عبيده بن المثنّى إن تميماً منعت النعمان الإتاوة، وهي الديان، فوجه إليهم أخاه الريّان بن المنذر، وكانت للنعمان خمس كتائب، إحداها الوضائع وهم قوم من الفرس كان كسرى يضعهم عنده عدّة ومدداً، فيقيمون سنة عند الملك من ملوك لخم، فإذا كان في رأس الحول ردّهم إلى أهليهم وبعث بمثلهم، وكتيبة يقال لها الشّبهاء وهي بيت الملك، وكانوا بيض الوجوه، يسمّون الأشاهب. وكتيبة ثالثة يقال لها الصنائع وهم صنائع الملك أكثرهم من بكر بن
وائل. وكتيبة رابعةٌ يقال لها الرهائن وهم قوم كان يأخذهم من كل قبيلة فيكونون رهناً عنده ثم يوضع مكانهم مثلهم. والخامسة دوسر وهي كتيبة ثقيلة تجمع فرساناً وشجعاناً من كل قبيلة، فأعزاهم أخاه1، وجلّ من معه بكربن وائل، فاستاق النّعم وسبى الذّراريّ، وفي ذلك يقول أبو المشمرج اليشكريّ:
لمّا رأوا راية النعمان مقبلةً ... قالوا ألا ليت أدنى دارنا عدن
يا ليت أمّ تميم لم تكن عرفت ... مرّا وكانت كمن أودى به الزمن
إن تقتلونا فأعيارٌ مجدّعةٌ ... أو تنعموا فقديماً منكم المنن2
منهم زهير وعتّابٌ ومحتضرٌ ... ابنا لقيط وأودى في الوغى قطن
يقول النعمان في جواب هذا:
لله بكر غداة الروع لو بهم ... أرمى ذرا حضن زالت بهم حضن3
إذ لا أرى أحداً في الناس أشبههم ... إلا فوارس خامت عنهم اليمن4
وهذا خبر طويل، فوفدت إليه بنو تميم فلما رآها أحب البقيا، فقال:
ما كان ضرّ تميماً لو تغمّدها ... من فضلنا ما عليه قيس عيلان
فأناب القوم وسألوه النساء، فقال النعمان: كل امرأة اختارت أباها ردّت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه. فكلّهن اختارت أباها، إلا ابنة لقيس بن عاصم فإنها اختارت صاحبها عمرو بن المشمرج، فنذر قيس ألاّ تولد له ابنةٌ إلا قتلها. فهذا شيء يعتلّ به من وأد، ويقول: فعلناه أنفةً، وقد أكذب ذلك بما أنزل الله تعالى في القرآن. وقال ابن عباس رحمة الله في تأويل هذه الآية: وكانوا لا يورثون، ولا يتخذون إلا من طاعن بالرّمح ومنع الحريم يريد الذّكران.
ـــــــ
1 أى أعطاهم إياه يغزو بهم.
2 أعيار: جمع عير، وهو الحمار. ومجدعة: مقطعة الأذان.
3 حضن: جبل في أعالى نجد.
4 خامت: جبنت.
وفود صعصعة بن ناجية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وروت الرواة: إن صعصة بن ناجية لما أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال:
يا رسول الله، إني كنت أعمل عملاً في الجاهلية أفينفعني ذلك اليوم? قال: "وما عملك?" قال: أضللت ناقتين عشرا وين، فركبت جملاً، ومضيت في بغائهما1. فرفع لي بيتٌ حريدٌ، فإذا شيخ جالس بفناء الدار، فسألته عن الناقتين، فقال: ما نارهما? قلت: ميسم بني دارم، فقال: هما عندي وقد أحيا الله بهما قوماً من أهلك، من مضر. فجلست معه ليخرجا إليّ، فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت، فقال لها: ما وضعت? فإن كان سقباً2 شاركنا في أموالنا وإن كانت حائلاً وأدناها. فقالت العجوز: وضعت أنثى! فقلت أتبيعها? قال: وهل تبيع العرب أولادها?، قلت، إنما اشتري منك حياتها، ولا أشتري رقّها، قال: فبكم? قلت: احتكم، قال: بالناقتين والحمل، قال: قلت: ذاك لك، على أن يبلّغني الجمل وإيّاها. قال: ففعل، فآمنت بك يا رسول الله، وقد صارت لي سنّةٌ في العرب، على أن أشتري كل موءودة فقد أنقذها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا ينفعك ذلك، لأنك لم تبتغ به وجه الله وإن تعمل في إسلامك عملاً صالحاً ثبت عليه".
وكان ابن عباس يقرا: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 3. وقال أهل المعرفة في قول الله عزّ وجل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} إنما تسأل تبكيتاً لمن فعل ذلك بها، كما قال الله تعالى: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 4.
وقوله: "وئدت"، إنما هو أثقلت بالتراب، يقال للرجل: اتّئد أي تثبّت. وتثقّل، كما يقال: توفّر، قال قصيرٌ صاحب جذيمة5:
ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلاً يحملن أم حديدا
أم صرفاناً بارداً شديداَ6
ـــــــ
1 البغاء: الطلب.
2 السقب: الذكر من ولد الناقة.
3 سورة التكوير8،9.
4 سورة المائدة 116.
5 زيادات ر: "هذا وهم من أبي العباس، وإنما هو للزباء".
6 الصرفان: ضرب من التمر.
وقوله: "أضللت ناقتين عشرا وين"، أضللت، ضلّتا مني، وتحقيقه: صادفتهما ضالتين، كما قال1:
أو وجد شيخ أضلّ ناقته ... حين تولى الحجيج فاندفعوا
والعشراء: الناقة التي قد ا أتى عليها منذ حملت عشرة أشهر، وإنما حمل الناقة سنةٌ.
وقوله: "ما نارهما"? يريد ما وسمهما? كما قال:
قد سقيت آبالهم بالنّار ... والنّار قد تشفي من الأوار
أي عرف وسمهم فلم يمنعوا الماء.
وقوله: "فإذا بيت حريد" يقول: متنحّ عن الناس، وهذا من قولهم: انحرد الجمل، إذا تنحى من الإناث فلم يبرك معها، ويقال في غير هذا الموضع: حرد حردة، أي قصده، قال الراجز:
قد جاء سيلٌ جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلّة
وقالوا في قوله عزّ وجل: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} 2، أي: على قصدٍ كما ذكرنا.
وقالوا: هو أيضاً "على منع"، من قولهم: حاردت الناقة إذا منعت لبنها، وحاردت السّنة إذا منعت مطرها، والبعير الحرد: هو الذي يضرب بيده، وأصله الامتناع من المشي. وأما قوله:
.............................. ... وقبرٌ بكاظمة المورد
إذا ما أتى قبره خائفٌ ... أناخ على القبر بالأسعد
فإنه يعني قبر أبيه غالب بن صعصعة بن ناجية، وكان الفرزدق يجير من استجار بقبر أبيه، وكان أبوه جواداً شريفاً. ودخل الفرزدق البصرة في إمرة زياد، فباع إبلاً كثيرة وجعل يصرّ أثمانها، فقال له رجل: إنك لتصرّ أثمانها، ولو كان
ـــــــ
1 زيادات ر: "لرجل من قضاعة، يقال له مالك بن عمرو، وقبله:
لا وجد ثكلى كما وجدت ولا ... وجد عجول أضلها ربع
2 سورة القلم 25.
غالب بن صعصعة ما صرّها. ففتح الفرزدق تلك الصّرر ونثر المال. وبلغ الخبر زياداً فطلبه، فهرب الفرزدق، وله في هربه حديث طويل، واستجارته بسعيد بن العاس بالمدينة، نذكره بعد هذا إن شاء الله.
جماعة استجاروا بقبر غالبفممّن استجار بقبر غالب فأجاره الفرزدق امرأة من بني جعفر بن كلاب، خافت لما هجا الفرزدق بني جعفر بن كلاب أن يسمّيها ويسبّها، فعاذت بقبر أبيه، فلم يذكر لها اسماً ولا نسباً، ولكن قال في كلمته التي يهجو فيها بني جعفر بن كلاب:
عجوزٌ تصلي الخمس عاذت بغالب ... فلا والّدي عاذت به لا أضيرها
ومن ذلك أن الحجاج لما ولّى تميم بن زيد القينيّ السّند، دخل البصرة فجعل يخرج من أهلها من شاء، فجاءت عجوز إلى الفرزدق فقالت: إني استجرت بقبر أبيك، واتت منه بحصياتٍ، فقال لها: وما شأنك! فقالت: إن تميم ابن زيد خرج بابن لي معه ولا قرّة لعيني ولا كاسب لي غيره، فقال لها: وما أسم ابنك? فقالت: خنيسٌ، فكتب إلى تميم بن زيد مع بعض من شخص:
تميم بن زيد لا تكوننّ حاجتي ... بظهر فلا يعيا عليّ جوابها
وهب لي خنيساًواحتسب فيه منّه ... لعترة أم ما يسوغ شرابها
أتتني فعاذت يا تميم بغالب ... وبالحفرة السّافي عليها ترابها
وقد علم الأقوام انّك ماجدٌ ... وليثٌ إذا ما الحرب شبّ شهابها
فلما ورد الكتاب على تميم، تشكّك في الاسم فقال: أحبيش? أم خنيسٌ? ثم قال: انظروا من له مثل هذا الاسم في عسكرنا? فأصيب ستة ما بين حبيش وخنيس فوجّه بهم إليه.
ونهم مكاتب لبنى منقر، ظلع بمكاتبته1، فأتى قبر غالب فاستجار به، وأخذ منه حصيات فشدّهنّ في عمامته، ثم أتى الفرزدق فاخبره، وقال: إني قد قلت شعراً، فقال: هاته، فقال:
ـــــــ
1 أى ضعف عن حمل ما كوتب به.
بقبر ابن ليلى غالب عذت بعدما ... خشيت الرّدى أو ان اردّ على قسر
بقبر امرئ تقري المئين عظامه ... ولم يك غلاّ غالباً ميّتٌ يقري
فقال لي استقدم أمامك إنّما ... فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر
فقال له الفرزدق: ما اسمك؟ قال: لهذم، قال: يالهذم، حكمك مسمّطاً، قال: ناقة كوماء سوداء الحدقة، قال: يا جارية، اطرحي إلينا حبلاً، ثم قال: يا لهذام اخرج بنا إلى المريد، فألقه في عنق ما شئت. فتخير العبد على عينه، ثم رمى الحبل في عنق ناقةٍ وجاء صاحبها، فقال له الفرزدق: اغد عليّ في ثمنها، فجعل لهذا يقودها والفرزدق يسوقها حتى إذا نفذ بها من بيوت إلى الصحراء، صاح به الفرزدق: يا لهذام، قبح الله أخسرنا؟؟؟! قوله: تقري المئين عظامه، يريد أنهم كانوا ينحرون الإبل عند قبور عظامهم، فيطعمون الناس في الحياة وبعد الممات، وهذا معروف في أشعارهم.وقوله:ولم يك إلا غالباً ميتٌ يقري، فإنه نصب غالباً لأنه استثناء مقدم، وإنما انتصب الاستثناء المقدم لما أذكره لك، إن حق الاستثناء إذا كان الفعل مشغولاً به أن يكون جارياً عليه، لا يكون فيه إلا هذا، تقول : ما جاءني إلا عبد الله، وما مررت إلا بعبد الله. فإن كان الفعل مشغولاً بغيره فكان موجباُ، لم يكن في المستثنى إلا النصب، نحو جاءني إخوتك غلا زيداً، كما قال تعالى: " فشربوا منه إلا قليلاً منهم " البقرة: 249، ونصب هذا على معنى الفعل، وإلا دليلٌ على ذلك. فإذا قلت: جاءني القوم، لم يؤمن أن يقع عند السامع أن زيداً أحدهم، فإذا قال:إلا زيداً، فالمعنى لا أعني فيهم زيداً، وأو أستثني ممن ذكرت زيداً.
ولسيبويه فيه تمثيل ، والذي ذكرت أبين منه، وهو مترجم عما قال، غير مناقض له . وإن كان الأول منفياً جاز البدل والنصب، والبدل أحسن، لأن الفعل الظاهر أولى بأن يعمل من المختزل الموجود بدليل، وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ إلا زيدٌ، وما مررت بأحدٍ إلا زيدٍ، والفصل بين المنفي والموجب، أن المبدل من الشيء يفرّغ له الفعل، فأنت في المنفي إذا قلت: ما جاءني إلا زيدٌ، لأنه بدل من أحد، والموجب لا يكون فيه البدل، لأنك إذا قلت : جاءني إخوتك إلا زيداً، لم يجز حذف الأول، لا نقول: جاءني إلا زيد، وإن شئت إن تقول في النفي: ما جاءني أحد إلا زيد جاز، ونصبه بالاستثناء الذي شرحت لك في الواجب. والقراءة الجيدة " ما فعلوه إلا قليلٌ منهم " النساء:66، وقد قرئ " إلا قليلاً منهم " البقرة:429، على ما شرحت لك في الواجب، والقراءة الأولى.فإذا قدّمت المستثنى بطل البدل، لأنه ليس قبله شيء يبدل منه، فلم يكن فيه إلا وجه الاستثناء، فتقول: ما جاءني إلا أباك أحدٌ، وما مررت إلا أباك بأحدٍ. وكذلك تنشد هذه الأشعار، قال كعب بن مالك الأنصاري لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الناس ألبٌ علينا فيك ليس لنا ... إلا السّيوف وأطراف القنا وزر
وقال الكميت بن زيد:
فمالي إلا آل أحمد شيعةٌ ... ومالي إلا مشعب الحق مشعب
لا يكون إلا هذا، وليونس قول مرغوب عنه، فلذلك لم نذكره.
وقوله: فقال لي استقدم أمامك، مخبرٌ عن الميّت بالقول، فإن العرب وأهل الحكمة من العجم تجعل كلّ دليل قولاً، فمن ذلك قول زهير:أمن أم أوفى دمنةٌ لم تكلّم، وإنما كلامها عنده ان تبين بما يرى من الآثار فيها، من قدم أهلها وحدثان عهدهم. ويروى عن بعض الحكماء أنه قال: هلاّ وقفت على المعاهد والجنان، فقلت: أيها الجنان، من شقّ أنهارك، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك؟ فإنها إن لم تجبك حوراً أجابتك اعتباراً! وأهل النظر يقولون في قول الله عزّ وجل: " قالتا أتينا طائعين " فصلت:11، لم يكن كلامٌ، غنما فعل عزّ وجل ما أراد فوجد، قال الراجز:
قد خنق الحوض وقال قطني ... سلا رويداً قد ملأت بطني
ولم يكن كلامٌ، إنما وجد ذلك فيه. وكذلك قوله:
فقال لي استقدم أمامك إنما ... فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر
أي: قد جرّب مثل هذا منك في المستجير بقبره.
لهو النعمان بن المنذروحدثني العباس بن الفرج الرّياشيّ في إسنادٍ قد ذهب عني أكثره، قال: نزل النعمان بن المنذر ومعه عدّي بن زيد في ظلّ شجرةٍ مونقةٍ، ليلهو النّعمان هناك، فقال له عدّي بن زيد: أيها الملك، أبيت اللّعن! أتدري ما تقول هذه الشجرة? قال: وما الذي تقول? قال: تقول2:
[من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موف على قرن زوال
وصرف الدهر لا يبقى لها ... ولما تأتي به صم الجبال]
رب ركب قد أناخوا حولنا ... يمزجون الخمر بالماء الزلال
[والأباريق عليها فدم3 ... وجياد الخيل تردى في الجلال
عمروا الدهر بعيش حسن ... قطعوا دهرهم غير عجال]
ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالا بعد حال
قال: فتنغّص النعمان.
وهذا في الأمثال كثيرٌ، وفي الأشعار السائرة.
وأما قوله "حكمك مسمّطاً" فإعرابه أنه أراد: لك حكمك مسمّطاً، واستعمل هذا فكثر، حتى حذف استخفافاً، لعلم السامع بما يريد القاتل، كقولك: "الهلال والله"، أي: هذا الهلال، وأغنى عن قوله: "هذا"، القصد والإشارة.
وكان يقال لرؤبة: كيف أصبحت؟ فيقول: خير عافاك الله. فلم يضمر حرف الحفض، ولكنه حذف لكثرة الاستعمال. والمسمّط: المرسل غير المردود4. والكوماء: العظيمة السّنام.
ـــــــ
1 سورة فصلت 11.
2 كل ما كان بين المربعين من زيادات ر.
3 الفدم: جمع فدام، وهو ما يوضع على فم الإبريق لتصفيته عند الشرب.
4 المردود: النافذ حكمه.
باب
أبو رافع مولى الرسول عليه السلامقال أبو العباس: قال الليثيّ1: اعتق سعيد بن العاصي أبا رافع إلا سهماً واحداً فيه، من أسهم لم يسمّ عددها لنا، فاشترى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك السهم فاعتقه. وكان لأبي رافع بنون أشراف، منهم عبيد الله بن رافع، وحديثه أثبت الحديث عليّ بن أبي طالب، وكان كالكاتب له، وكان عبيد الله بن أبي رافع شريفاً، وكان عبيد الله ينسب إلى ولاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما ولي عمرو بن سعيد الأشدق المدينة لم يعمل شيئاً قبل إرساله إلى عبيد الله بن أبي رافع، فقال له: مولى من أنت? فقال: مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأبرزه فضربه مائة سوطٍ، ثم قال له: مولى من أنت? فقال: مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضربه مائة أخرى. فلما رأى عبد الله غير راجع، وأن عمراً قد ألحّ عليه في ضربه، قام إلى عمروٍ فقال له: اذكر الملح، فأمسك عنه. والملح ههنا اللّبن، يريد الرّضاع، كما قال أبو الطّمحان القينيّ:
وإنّي لأرجو ملحها في بطونكم ... وما بسطت من جلد أشعث أغبرا 2
[كذا وقعت الرواية، والصواب "أغبر" لأن قبله:
ولو علمت صرف البيوع لسرّها ... بمكّة أن تبتاع حمضاً بإذخر3
قاله ش].
وكما قال الآخر4:
لا يبعد الله ربّ العباد ... والملح ما ولدت خالده
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو الجاحظ".
2 الخبر في الإصابة 64:7 "كان أبو رافع عبدا لسعيد بن العاصي، فأعتق كل من بنيه نصيبه منه إلا خالد ابن سعيد، فإنه وهب نصيبه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعتقه، فكان يقول: أنا مولى رسول الله".
3 الإذخر: حشيش طيب الريح، واحدته إذخرة.
4 نقل المرصفى عن ابن الأعرابي أنه الحارث بن عمرو الفزارى، وعن المفضل، هو شتيم بن خويلد الفزارى.
ويروى أن عبيد الله بن أبي رافع أتى الحسن بن عليّ بن أبي طالب فقال: أنا مولاك، فقال في ذلك مولى لتمّام بن عبد المطّلب، يعذله ويعيّره:
جحدت بني العباس حقّ أبيهم ... فما كنت في الدّعوى كريم العواقب
متى كان أولاد البنات كوارث ... يحوز ويدعى والداً في المناسب!
يريد انّ العباس أولى بولاء مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن العمّ مدعوٌّ والداّ في كتاب الله تعالى، وهو يحوز الميراث.
وقال رجلٌ من الثّقفيّين: أنشدت مروان بن أبي حفصة هذين البيتيتن، فوقع عندي أنه من هذا أخذ قوله:
أنّى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
ألغى سهامهم الكتاب فما لهم ... أن يشرعوا فيه بغير سهام
وقال طاهر بن عليّ بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العباس للطالبيين:
لو كان جدّكم هناك وجدّنا ... فتنازعا فيها لوقت خصام
كان التّراث لجدّنا من دونه ... فحواه بالقربى وبالإسلام
حقّ البنات فريضةٌ معروفةٌ ... والعمّ أولى من بني الأعمام
وذكر الزّبيريون عن ابن الماجشون قال: جاءني رجل من ولد أبي رافع، فقال: إنّي قد قاولت رجلاً من موالي بعض العرب، فقلت: أنا خيرٌ منك، فقال: بل أنا خير منك، فما الذي يجب لي عليه? فقلت: ليس في هذا شيء، فقال: أنا مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويزعم أنه خير مني! قال: قلت: قد يتصرّف هذا على غير الحسب، قال: فلما رآني لا أٌقضي له بشيء قال لي: أنت دافع مغرماً1 لأن ولائي ولاء عنده ليس في موضعٍ مرضيّ? قال وصدق: في بني تيمٍ لتيمٍ من هو أشرف ولاء منّي.
ـــــــ
1 مغرما: حقا تتقاضاه.
أسامة بن زيد يقاول عمرو بن عثمانوحدثت أن أسامة بن زيد قاول عمرو بن الخطاب في أمر ضيعة يدّعيها كلّ واحدٍ منهما، فلجّت يهما الخصومة، فقال عمرو: يا أسامة، أتأنف أن تكون
مولاي! فقال أسامة: والله ما يسرّني بولائي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسبك! ثم ارتفعا إلى معاوية، فلجّا بين يديه في الخصومة، فتقدم سعيد بن العاصي إلى جانب عمرو، فجعل يلقّنه الحجة، فتقدم الحسن إلى جانب أسامة يلقّنه، فوثب عتبة بن أبي سفيان، فصار مع عمرو، ووثب الحسين فصار مع أسامة، فقام عبد الرحمن ابن أم الحكم، فجلس مع عمرو، فقام عبد الله بن العباس فجلس مع أسامة، فقام الوليد بن عقبة فجلس مع عمرو، فقام عبد الله بن جعفر فجلس مع أسامة، فقال معاوية: الجليّة عندي حضرت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أقطع هذه الضّيعة أسامة. فانصرف الهاشميون، وقد قضي لهم، فقال الأمويون لمعاوية: هلاّ إذ كانت هذه القضية عندك بدأت بها قبل التحزّب، أو أخّرتها عن هذا المجلس! فتكلم بكلام يدفعه بعض الناس.
الحجاج بن يوسف وسعيد بن جبيروكان الذي اعتدّ بعه ا لحجاج بن يوسف على سعيد بن جبير لمّا أتي به إليه بعد انقضاء أمر ابن الأشعث، وكان سعيدٌ عبداً لرجل من بني أسد بن خزيمة، فاشتراه سعيد بن العاصي في مائة عبدٍ فاعتقهم جميعاً، فقال له الحجّاج: يا شقي بن كسيرٍ، أما قدمت الكوفة، وليس يؤم بها إلا عربيّ فجعلتك إماماً! قال: بلى، قال: أفما ولّيتك القضاء فضجّ أهل الكوفة وقالوا: لا يصلح القضاء إلا لعربي، فاستقضيت أبا بردة بن أبي موسى الشعري وأمرته ألا يقطع أمراً دونك! قال: بلى، قال: أو ما جعلتك في سمّارى وكلهم من رؤوس العرب! قال: بلى، قال: أو ما أعطيتك مائة ألف درهم لتفرّقها في أهل الحاجة، ثم لم أسألك عن شيء منها! قال: بلى، قال: فما أخرجك عليّ ? قال: بيعةٌ كانت لابن الأشعث في عنقي، فغضب الحجّاج، ثم قال: أفما كانت بيعة أمير المؤمنين بعد الملك في عنقك قبل? والله لأقتلنّك، يا حرسيّ، اضرب عنقه. ونظر الحجّاج فإذا جلّ من خرج مع عبد الرحمن، من الفقهاء وغيرهم، من الموالي، فأحبّ ان يزيلهم عن موضع الفصاحة والآداب، ويخلطهم بأهل القرى والأنباط. فقال: إنما الموالي علوج، وإنما أتي بهم من القرى، فقراهم أولى بم، فأمر بتسييرهم من الأمصار وإقرار العرب بها، وأمر ان ينقش على يد كل إنسان منهم اسم قريته. وطالت ولايته. فتوالد القوم هناك، فخبثت لغات أولادهم، وفسدت طبائعهم. فلمّا قام
سليمان بن عبد الملك اخرج من كان في سجن الحجّاج من المظلومين، فيقال إنه أخرج في يوم واحدٍ ثمانين ألفاً، وردّ المنقوشين، فرجعوا في صورة الأنباط، ففي ذلك يقول الراجز:
جاريةٌ لم تدر ما سوق الإبل ... أخرجها الحجّاج من كنّ وظل
لو كان بدرٌ حاضراً وابن حمل ... ما نقشت كفّاك في جلد جلل
وقال شاعرٌ لأهل الكوفة لمّا استقضي عليها نوح بن درّاج1:
يا أيّها الناس قد قامت قيامتكم ... إذ صار قاضيكم نوح بن درّاج
لو كان حيّا له الحجّاج ما سلمت ... كفّاه ناجيةً من نقش حجّاج
ويروى عن حسّان، المعروف بالنبطيّ صاحب منارة حسّان في البطيحة2 قال: أريت الحجّاج فيما يرى النائم، فقلت: أصلح الله الأمير! ما صنع الله بك? فقال: يا نبطيّ، أهذا عليك! قال: فرأيتنا لانفلت من نقشه في الحياة، ومن شتمه بعد الوفاة! ويروى عن حسان أنه قصّ هذه الرؤيا على محمد ين سيرين، فقال له ابن سيرين: لقد رأيت الحجّاج بالصّحة.
ـــــــ
1 زيادات ر: "ينسب للفرزدق"، وقال المرصفى: هذا خطأ فإن الفرزدق مات سنة عشرة ومائة، ومات نوح ابن دراج وهو قاض بالجانب الشرقي ببغداد سنة اثنتين وثمانين ومائة".
2 البطيحة: أرض واسعة بين واسط والبصرة.
حديث الجحاف والأخطلقال أبو العباس: وحدّثت من ناحية الزّبيريين أن الجحّاف بن حكيم دخل على عبد الملك، والأخطل عنده، فلما بصر به الأخطل قال:
ألا أبلغ الجحّاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليم وعامر!
فقال الجحّاف:
بلى سوف نبكيهم بكل مهنّد ... ونبكي عميراً بالرماح الخواطر
ثم قال: يا ابن النّصرانيّة، ما ظننتك تجترىء عليّ بمثل هذا ولو كنت مأسوراً لك! فحمّ الأخطل خوفاً، فقال له عبد الملك: أنا جارك منه، فقال: يا أمير المؤمنين، هبك أجرتني منه في اليقظة، فمن يجبرني منه في النّوم!
ومن هذا أو نحوه أخذ السّلميّ قوله:
[قال أبو الحسن: هو أشجع السّلميّ يقوله للرشيد]:
وعلى عدوّك يا ابن عمّ محمدٍ ... رصدان ضوء الصّبح والإٌظلام
فإذا تنبّه رعته وإذا هدا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام
هرب العديل من الحجاجوكان العديل بن الفرخ العجليّ هارباً من الحجاج، فجعل لا يحلّ ببلدة إلاّ ريع لأثر يراه من آثار الحجّاج فيهرب، حتى أبعد، ففي ذلك يقول العديل:
يخشوننى الحجاج حتى كأنما ... يحرك عظم في الفؤاد مهيض1
ودون يد الحجاج من أن تنالنى ... بساط لأيدى اليعملات عريض2
فلم ينشب أن أتى به الحجاج، ففى ذلك يقول العديل:
فلو كنت في سلمى أجا وشعابها ... لكان لحجّاجٍ عليّ دليل
بنى قبّة الإسلام حتّى كأنّما ... أتى الناس من بعد الضّلال رسول
أجأ وسلمى: جبلاً طيّىء، و"أجأ" مهموز، وغنما هو "أجا" مقصورٌ، فاعلم، قال زيد الخيل:
جلبنا الخيل من أجإ وسلمى ... تخبّ نزائعاً خبب الذّئاب3
والشاعر إذا احتاج إلى قلب الهمزة قلبها، إن كانت الهمزة مكسورة جعلها ياء، او ساكنةً جعلها على حركة ما قبلها، وإن كانت مفتوحة وقبلها فتحةٌ جعلها ألفاً، وإن كان مفتوحة وقبلها كسرةُ جعلها ياء، وإن كانت مفتوحة وقبلها ضمةُ جعلها واواً، قال الفرزدق:
راحت بمسلمة البغال عشيّةً ... فارعي فزارة لا هناك المرتع
وقال حسّان بن ثابت:
سالت هذيلٌ رسول الله فاحشةً ... ضلّت هذيلٌ بما سالت ولم تصب!
وقال عبد الرحمن بن حسّان:
وكنت أذلّ من وتدٍ بقاعٍ ... يشجّج رأسه بالفهر واجي
ـــــــ
1 يخشونني: يخوفونني.
2 البساط: الأرض العريضة.
3 نزائع: واحدتها نزيعة، وهي التي تشتاق إلى أوطانها.
قول الفرزدق في عزل مسلمة بن عبد الملك هم العراقوأما الفرز دق، فإنه يقول لمّا عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق بعد قتله يزيد بن المهلّب لحاجة الخليفة إلى قربه وولي عمر بن هبيرة.
راحت بمسلمة البغال عشيةً ... فارعي فزارة لا هناك المرتع
ولقد علمت إذا فزارة أمّرت ... أن سوف تطمع في الإمارة أشجع
فأرى الأمور تنكرت أعلامها ... حتى أمية عن فزارة تنزع1
عزل ابن عمروٍ وابن بشرٍ قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقّع
ففي جواب هذا يقول الأسدي2 لمّا ولي خالد بن عبد الله القسريّ:
بكت المنابر من فزارة شجوها ... فالآن من قسرٍ تضح وتخشع
وملوك خندف أسلمونا للعدا ... لله درّ ملكونا ما تصنع!
[كانوا كتاركةٍ بينها جانباً ... سفهاً وغيرهم تصون وترضع]3
وأما حسان:
سالت هذيل رسول الله فاحشة
فليس من لغتة "سلت أسال"، مثل: "خفت أخاف"، و"هما يتساولان"، هذا من لغة غيره، وكانت هذيل سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ان يحلّ لها الزّنا.
ـــــــ
1 زيادات ر: "تنزع، رواية عاصم، فمن روى "تنزع" بضم التاء يعنى "تعزل"، ومن روى بفتح التاء وكسر الزاى فهو من النزع في القوس، وهو الرمى، يشير إلى أنها محتاجة إلى رأيها، وأنها ترمى عن قوسها".
2 نسبة المرصفى إلى إسماعيل بن عمار.
3 مابين العلامتين من زيادات ر.
مفاخرة بين أسدي وهذليويروى أن أسديّاً وهذليّاً تفاخرا، فرضيا برجل، فقال: إني ما أقضي بينكما إلا أن تجعلا لي عقداً وثيقاً ألا تضربا ولا تشتما، فإنّي لست في بلاد قومي،
ففعلا. فقال: يأخا بني أسدٍ، كيف تفاخر العرب وأنت تعلم انه ليس حيّ أحبّ إلى الجيش ولا أبغض إلى الضيف، ولا أقل تحت الرايات منكم! وأما أنت يا أخا هذيل، فكيف تكلم الناس وفيكم خلال ثلاثٌ: كان منكم دليل الحبشة على الكعبة، ومنكم خولة ذات النّحيين، وسألتم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحلّ لكم الزّنا! ولكن إذا أردتما بيتي مضر، فعليكما بهذين الحيّين من تميم وقيس، قوماً في غير حفظ الله!
وأما بيت عبد الرحمن بن حسّان فإنه يقوله لعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي وكان يهاجيه، فقال له في كلمته:
وأما قولك الخلفاء منّا ... فهم منعوا رويدك من وداج1
ولولاهم لكنت كحوت بحر ... هوى في مظلم الغمرات داجي
وكنت أذل من وتدٍ بقاع ... يشجّج رأسه بالفهر واجي2
وكان أحد من هرب من الحجاج سوّار بن المضرّب3 ففي ذلك يقول:
أقاتلي الحجاج إن لم أزر له ... دراب وأترك عند هند فؤاديا4
فإن كان لا يرضيك5حتى تردني ... إلى قطرى ما إخالك راضيا
إذا جاوزت درب المجيزين ناقتى ... فباست أبى الحجاج لما ثنانيا6
أيرجو بنو مروان سمعى وطاعتى ... وقومى تميم والفلاة ورائيا
وورائي هنا بمعنى: أمامي، قال الله عز وجل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} 7. وقال جل ثناؤه: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} 8.
ـــــــ
1 وداج: مصدر ودجه، أى قطع ودجه، والودج: أحد الودجين، وهما عرقان غليظان عن يمين ثغرة النحر ويسارها.
2 الفهر: الحجر ملء الكف، واجى: أصله واجىء، من الوجء، وهو الضرب والدق.
3 زيادات ر: "بفتح الراء".
4 دراب، قال المرصفى: "يريد دارا بجرد، فاقتصر على أحد الجزأين، وهي كورة بفارس".
5 زيادات ر: فاعل "يرضيك" مضمر أو منوى، تقديره: فإن كان لا يرضيك الإرضاء، ولا يجوز أن يكون مابعد "يرضيك" الفاعل؛ لأن سيبوية رحمه الله قال: الفاعل لا يكون جملة، "وحتى تردنى" جملة قاله ابن الأبرش".
6 درب المجيزين هو باب السكة، والمجيزون: هم المقيمون بأبواب الثغور يمنعون الخارج إلا من كان بيده جواز.
7 سورة مريم 5.
8 سورة الكهف 79.
محمد بن عبد الله النميري والحجاجوممن هرب من الحجاج محمد بن عبد الله بن نميرٍ الثّقفيّ، وكان يشبّب بزينب بنت يوسف، أخت الحجاج، وهو القائل فيها:
تضوّع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوةٍ عطرات
يخبّئن أطراف البنان من التّقى ... ويخرجن شطرا الليل معتجرات
في كلمة له، فلما أتي به الحجاج قال:
هاك يدي ضاقت بي الأرض رحبها ... وإن كنت قد طوفت كلّ مكان
فلو كنت بالعنقاء أو بأسومها1 ... لخلتك إلا ان تصد تراني
[من رفع "رحبها" فعلى البدل، ومن نصب فعلى الظرف، قاله ش. و"أسومها" بفتح الهمزة وبالضم، والفتح أحسن،ش].
ثم قال: والله أيها الأمير،إن قلت إلا خيراً، وإنما قلت:
يخبّئن أطراف البنان من التّقى ... ويخرجن شطر الليل معتجرات
فعفا عنه، ثم قال له: أخبرني عن قولك:
ولمّا رأت ركب النّمريّ أعرضت ... وكنّ من أن يلقينه حذرات
ما كنتم? قال: كنت على حمار هزيل، ومعي صاحبّ لي على أتانٍ مثله.
ـــــــ
1 أسوم: اسم جبل.
مالك بن الريب والحجاجوممّن هرب منه مالك بن الرّيب المازنيّ، أحد بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، وفي ذلك يقول:
إن تنصفونا يال مروان نقترب ... إليكم وإلاّ فأذنوا ببعاد
فإنّ لنا عنكم مزاحاً ومزحلا ... بعيسٍ إلى ريح الفلاة صواد1
ففي الأرض عن دار المذلّة مذهب ... وكلّ بلادٍ أوطنت كبلادي
ـــــــ
1 مزاحا، مصدر ميمى من زاح إذا بعد. ومزحلا، مصدر ميمى من زاحل، إذا تنحى وتباعد. العيس: الإبل البيض، والصوادى: العطاش.
كذا وقعت الرواية بضم الهمزة وكسر الطاء، والأصحّ "أوطنت" بفتح الهمزة وفتح الطاء، قاله ش.
فماذا ترى الحجّاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير زياد1
فلولا بنو مروان كان ابن يوسفٍ ... كما كان عبداً من عبيد إياد
زمان هو العبد المقرّ بذلّةٍ ... يراوح صبيان القرى ويغادي
قال ذلك لأن الحجاج كان هو وأخوه معلّمين بالطائف، وكان لقبه "كليباً"، وفي ذلك يقول القائل:
أينسى كليبٌ زمان الهزال ... وتعليمه سورة الكوثر
رغيفٌ له فلكه ما ترى ... وآخر كالقمر الأزهر2
يقول: خبز المعلّمين يأتي مختلفاُ، لأنه من بيوت صبيان مختلفي الأحوال.
وأنشد أبو عثمان عمرو بنى بحر الجاحظ:
أما رأيت بني بحر وقد حفلوا ... كأنّهم خبز بقّال وكتّاب
هذا طويلٌ وهذا حنبلٌ جحدٌ ... يمشون خلف عمير صاحب الباب3
وفي لقبه يقول آخر من أهل الطائف:
كليبٌ تمكّن في أرضكم ... وقد كان فينا صغير الخطر
ولما دخل الحجاج مكة اعتذر إلى أهلها لقلة ما وصلهم به، فقال قائل منهم: إذن والله لا نعذرك وأنت أمير العراقيين وابن عظيم القريتين!وذلك أنّ عروة بن مسعود ولده من قبل امّه. وتأويل قول الله عز وجلّ: { َقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 4. مجازه في العربية: على رجل من رجلين من القريتين عظيم. القريتان: مكة والطائف، والرجلان: عروة بن مسعود، والآخر الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن ع مر بن مخزوم.
ويروى إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه مرّ بقبره ومعه خالد، فقال: أصبح جمرة في النار، فأجابه خالد في ذلك بجواب غير مرضيّ.
ـــــــ
1 حفير زياد: نهر احتفره زياد على خمس ليال من البصرة.
2 الفلكة: مستدار كل شىء.
3 الحنبل: القصير الضخم. والجحد: ضائق العيش.
4 سورة الزخرف 31.
مقتل عروة بن مسعودوأما عروة بن مسعود فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام، فرقي سطحه، فرماه رجلٌ بسهم فقتله، فلما وجّه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العباس ابن عبد المطلب رضي الله عنه إلى أهل مكة أبطأ عليه، فقال: "ردوا عليّ أبي، أما لئن فعلت به قريشٌ ما فعلت ثقيفٌ بعروة بن مسعود لأضرمنّها عليهم ناراً".
يقال: رقيت السطح وما كان مثله أرقاه، مثل خشيته أخشاه، كما قال الله تبارك وتعالى: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} 1، ويقال: رقيت اللّديغ أرقيه، مثل رميته أميه. ويقال: ما رقأت عينه من الدمع، مهموزٌ ترقأ يا فتى، مثل قرأت تقرأ يا فتى.
ـــــــ
1 سورة الإسراء 93.
في موت ابن الحجاج وأخيهوكان الحجاج رأى في منامه ان عينيه قلعتا، فطلّق الهندين: هنداً بنت المهلّب، وهنداً بنت أسماء بن خارجة، فلم يلبث ان جاءه نعيّ أخيه من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمدٌ، فقال: هذا والله تأويل رؤياي، ثم قال: إنّا لله وإن إليه راجعون! محمّدٌ ومحمّدٌ في يوم واحدٍ!
حسبي بقاء الله من كلّ ميّت ... وحسبي رجاء الله من كلّ هالك
إذا كان ربّ العرش عنّي راضياً ... فإن شفاء النفس فيما هنالك1
وقال: من يقول شعراً يسليني به? فقال الفرزدق:
إنّ الرّزيّة لا رزيّة مثلهما ... فقدان مثل محمدٍ ومحمد
ملكان قد خلت المنابر منهما ... أخذ الحمام عليهما بالمرصد
ـــــــ
1 زيادات ر: "ويروى: فإن سرور النفس".
فقال: لو زدتني! فقال الفرزدق:
إنّي لباكٍ على ابني يوسف جزعاً ... ومثل فقدهما للدّين يبكيني
ما سدّ حيٌّ ولا ميتٌ مسدّهما ... إلا الخلائف من بعد النّبيّين
فقال له: ما صنعت شيئاً، إنما زدت في حزني، فقال الفرزدق:
لئن جزع الحجّاج ما من مصيبةٍ ... تكون لمحزونٍ أجلّ وأوجعا
من المصطفى والمصطفى من خيارهم ... جناحيه لمّا فارقاه فودّعا
أخ كان أغنى أيمن الأرض كلّه ... وأغنى ابنه أهل العراقين أجمعا
جناحا عقاب فارقاه كلاهما ... ولو نزعا من غيره لتضعضعا
فقال: الآن.
أما قوله: "إلا الخلائف من بعد النّبيين"، فخفض هذه النون، وهي نون الجمع، وإنما فعل ذلك لنه جعل الإعراب فيها لا فيما قبلها، وجعل هذا الجمع كسائر الجمع، نحو أفلس، ومساجد. وكلاب، فإن إعراب هذا كإعراب الواحد، وإنما جاز ذلك لأن الجمع يكون على أبنية شتّى، وإنما يلحق منه بمنهاج التثنية ما لاختلاف معانيه، ما كان على حد التثنية لا يكسّر الواحد عن بنائه، وإلاّ فلا، فإنّ الجمع كالواحد،لاختلاف معانيه،كما تختلف معاني الواحد، والتثنية ليست كذلك، لأنه ضربٌ واحدٌ،ولا يكون اثنان اكثر مت اثنين عدداً، كما يكون الجمع أكثر من الجمع، فمما جاء على هذا المذهب قولهم: هذه سنينٌ، فاعلم، وهذه عشرينٌ فاعلم، قال العدوانيّ:
إنّي أبيٌّ ذو محافظةٍ ... وابن أبي من أبيّين
وأنتم معشرٌ زيدٌ على مائةٍ ... فأجمعوا كيدهم طرّاً فكيدوني
وقال سحيم بن وثيل:
وماذا يدّري الشعراء منّي ... أخو خمسين مجتمعٌ أشدّي
وقد جاوزت حدّ الأربعين ... ونجّذني مداورة الشّؤون
وفي كتاب الله عز وجل: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} 1.
ـــــــ
1 سورة الحاقة 39.
فإن قال قائل: فإن "غسلينا" واحدٌ،فإنه كلّ ما كان على بناء الجمع من الواحد فإعرابه كإعراب الجمع، ألا ترى انّ "عشرين" ليس لها واحد من لفظها، وإعرابها كإعراب "مسلمين" واحدهم "مسلمٌ"! وكذلك جميع الإعراب. وتقول: "هذه فلسطون" يافتى، و"رأيت فلسطين" يافتى، هذا القول الأجود وكذلك "يبرين" وفي الرفع "يبرون" يافتى، وكلّ ما أشبه هذا فهو بمنزلته، تقول: "قنّسرون"، و"رأيت قنسرين"، والأجود في هذا البيت1:
وشاهدنا الجلّ والياسمو ... ن والمسمعات بقضّابها2
وفي القرآن ما يصدق ذلك قول الله عزّ وجل: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} 3، فمن قال: "هذه قنّسرون ويبرون". فنسب إلى واحد منهما رجلاً أو شيئاً قال: "هذا رجل قنّسريّ ويبريّ"، بحذف النون والواو، لمجيء حرفي النّسب، ولو أثبتهما لكان في الاسم رفعان ونصبان وجرّان، لأن الياء مرفوعةٌ،والواو علامة الرفع. ومن قال: "قنّسرين" كما ترى قال في النّسب: "قنّسرينّي" لأن الإعراب في حرف النّسب، وانكسرت النون كما ينكسر كلّ ما لحقه النّسب.
وأما قوله: "ونجّذني مداورة الشّؤون"، فمعناه: فهّمني وعرّفني، كما يقال: حنّكته التّجارب، والناجذ: آخر الأضراس، ذلك قولهم: ضحك حتى بدت نواجذه. والشؤون: جمع "شأن" مهموز، وهو الأمر.
وقال المفسرون من أهل الفقه وأهل اللغة في قول الله تبارك وتعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} هو غسالة أهل النار. وقال النحويّون: هو "فعلينٌ" من الغسالة.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو الأعشى".
2 زيادات ر: "الجل: الورد". "والقصاب: الأوتار، وقيل الزمار"، والمسمعات: الجوارى المغنيات.
3 سورة المطففين 19،18.
كلمة عمر بن عبد العزيز في الولاة الظالمينويروى أنّ عمر بن عبد العزيز خرج يوماً فقال: الوليد بالشّام، والحجّاج بالعراق، وقرّة بن شريك بمصر، وعثمان بن حيّان بالحجاز، ومحمد بن يوسف باليمن! امتلأت الأرض والله جوراً! .
كتاب الحجاج إلى الوليد بن عبد الملككتب الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك بعد وفاة محمد بن يوسف: "أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله انه أصيب لمحمد بم يوسف خمسون ومائة ألف دينار، فإن لكن أصابها من حلّها فرحمه الله، زإن تكن من خيانة فلا رحمة الله"! فكتب إليه الوليد: "أما بعد، فقد قرأ أمير المؤمنين كتابك فيما خلّف محمد بن يوسف، وإنما أصاب ذلك المال من تجارة له أحللناها، فترحّم عليه، رحمه الله"!
من كلام معاوية لابنه يزيدويروى أن يزيد بن معاوية قال لمعاوية في يوم بويع له على عهده، فجعل الناس يمدحونه ويقرظونه: "يا أمير المؤمنين، والله ما ندري، أنخدع الناس أم يخدعوننا"! فقال له معاوية: "كل من أردت خديعته فتخادع لك حتّى تبلغ منه حاجتك فقد خدعته"!.
كتاب الحجاج إلى عبد الملكويروى أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان: "وبلغني أن أمير المؤمنين عطس عطسة فشمّته قومٌ، فقال: يغفر الله لنا ولكم، فيا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيماً"!
تفجع الوليد لموت الحجاجوزعم الأصمعيّ قال: خرج الوليد يوماً على الناس وهو مشعانّ الرّأس، فقال: مات الحجاج بن يوسف، وقرّة بن شريك. وجعل يتفجّع عليهما.
قوله: "مشعانّ الرأس" يعني منتفخ الشّعر1 متفرّقه.
ومثل هذا يكون في شعر، لأن في هذا التقاء ساكنين، ولا يقع مثل هذا في وزن الشعر، إلا فيما تقدم ذكره في المتقارب، وليس ذا على ذلك الوزن.
ـــــــ
1 زيادات ر: "والرواية منتفخ" والصحيح "منتفش" قاله ابن سراج.
رسول عمر بن عبد العزيز إلى إليون ملك الروموحدثت أنّ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وجّه عبد الله بن عبد الأعلى ومعه رجلٌ من عنس إلى إليون، فقال العنسيّ: فخلا بي عمر دونه، وقال لي:
احفظ كلّ ما يكون منه، فلما صرنا إليه صرنا إلى رجل عربيّ اللسان، وغنما نشأ بمرعش1، فذهب عبد الله ليتكلّم، فقلت: على رسلك، فحمدت الله وصليت على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قلت: إنّي وجّهت بالذي وجّه بع هذا،إنّ أمير المؤمنين يدعوك إلى الإسلام، فإن تقبله تصب رشدك، وإني لأحسب أنّ الكتاب قد سبق عليك بالشّقاء، إلاّ أن يشاء الله غير ذلك، فإن قبلت وإلاّ فاكتب جواب كتابنا. قال: ثم تكلّم عبد الله، فحمد الله وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذهب في القول وكان مفوّهاً فقال له إليون: يا عبد الله! ما تقول في المسيح? فقال: روح الله وكلمته، فقال: أيكون ولدٌ من غير فحلٍ! فقال عبد الله: في هذا نظرٌ! فقال: أي نظرٍ في هذا?إما نعم وإما لا! فقال عبد الله: آدم خلقه الله من تراب، إنّ هذا اخرج من رحم، قال: في هذا نظر! قال إليون بالروميّة: إنّي أعلم انك لست على ديني ولا على دين الذي أرسلك قال: وأنا أفهم بالرّومية ثم قال: أتعطون يوماً غير يوم الجمعة? فقال: نعم، فقال: وما ذلك اليوم، أمن أعيادكم هو? فقال: لا،قال: فلم تعظمونه? قال: عيدٌ لقوم كانوا صالحين قبل أن يصير إليكم، قال: فقال له إليون بالرومية: قد علمت أنّك لست على ديني ولا على دين الذي أرسلك، فقال له عبد الله: أتدري ما يقول أهل السّفه? قال: وما يقولون? قال: إبليس: أمرت ألا أسجد إلا لله، ثم قيل لي: اسجد لآدم،قال: فقال له بالرومية: الأمر فيك أبين من ذلك، قال: ثن كتب جواب كتبنا، قال: فرجعنا إلى عمر بها، قال: فخبّرناه بما أردنا ثم نهضنا، فردّني إليه من باب الدار فخلا بي، فأخبرته، فقال: لعنه الله! لقد كانت نفسي تأباه،ولم أحسبه يجترئ على مثل هذا، قال: فلما خرجت قال لي عبد الله: ما الذي قال لك? قال: قلت، قال لي: أتطمع فيه? قلت: لا.
ـــــــ
1 مرعش: مدينة بين الشام وبلاد الروم.
الشعبي عند صاحب الرومولما وجّه عبد الملك الشّعبيّ إلى صاحب الروم فكلّمه، قال له صاحب الروم بعد انقضاء ما بينهما: أمن أهل بيت المملكة أنت?قال: قلت لا، ولكني رجلٌ
من العرب، قال: فكتب معي رقعةً، وقال لي: إذا أديت جواب ما جئت له فأدّ هذه الرقعة إلى صاحبك، قال: فلمّا رجعت إلى عبد الملك فأعطيته جواب كتابه وخبّرته بما دار بيننا نهضت، ثم ذكرت الرقعة، فرجعت فدفعتها إليه، فلمّا ولّيت دعاني، فقال لي: أتدري ما في هذه الرقعة? فلت: لا، قال: فيها: "العجب لقوم فيهم مثل هذا كيف ولّوا أمورهم غيره". قال: فلمّا ولّيت دعاني، فقال لي: أفتدري ما أراد بهذا، قلت: لا، قال: حسدني عليك، فأراد أن أقتلك، قال: فقلت: إنما كثرت عنده يا أمير المؤمنين لأنه لم يترك، قال: فرجع عن كلام إلى ملك الروم، فقال: لله أبوه! ما عدا ما في نفسي!
معاوية وأحد بطارقة الروموحثت أن معاوية، كان إذا أتاه عن بطريق من بطارقة الروم كيدٌ للإسلام احتال له، فأهدى إليه وكاتبه، حتى يعزي به ملك الروم، فكانت رسله تأتيه فتخيره بأن هناك بطريقاً يؤذي الرّسل، ويطعن عليهم، ويسيء عشرتهم، فقال معاوية: أيّ ما في عمل الإسلام أحب إليه? فقيل له: الخفاف الحمر، ودهن البان. فألطفه بهما، حتى عرفت رسله باعتياده، ثم كتب كتاباً إليه، كأنه جواب كتابه منه، يعلمه فيه أنه وثق بما وعده به من نصره وخذلان ملك الروم. وأمر الرّسول بأن يتعرّض لأن يظهر على الكتاب، فمّا ذهبت رسله في أوقاتها ثم رجعت إليه، قال: ما حدث هناك? قالوا: فلانٌ البطريق رأيناه مقتولاً مصلوباً، فقال: وأنا أبو عبد الرحمن1!
ـــــــ
1 قال المرصفى: "يريد أغريت بما صنعت له ملك الروم حتى قتله وصلبه وأنا المعروف بالكيد والدهاء، وعبد الرحمن ولده من فاختة بنت قرظة".
رسول ملك الروم عند معاويةوحدّثت أن ملك الرّوم في ذلك الأوان وجّه إلى معاوية: "إن الملوك قبلك كانت ترسل الملوك منّا، ويجتهد بعضهم في أن يغرب على بعض، أفتأذن في ذلك"? فأذن له، فوجّه إليه برجلين: أحدهما طويلٌ جسيمٌ، والآخر أيدٌ، فقال معاوية لعمرو1: أما الطويل فقد أصبنا كفأه وهو قيس بن سعد بن عبادة وأما
ـــــــ
1 يريد عمرو بن العاص.
الآخر الأبد فقد احتجنا إلى فيه، فقال: هاهنا رجلان، كلاهما إليك بغيضٌ: محمد بن الحنفيّة، عبد الله بن الزّبير، فقال معاوية: من هو أقرب إلينا على حالٍ. فما دخل الرجلان وجّه إلى قيس بن سعد بن عبادة يعلمه، فدخل قيسٌ، فلما مثل بين يدي معاوية نزع سراويله فرمى بها إلى العلج، فلبسها فنالت ثندوته، فأطرق مغلوباً، فحدثت أن قيساً ليم في ذلك، فقيل له: لم تبذّلت هذا التّبذّل بحضرة معاوية، هلاّ وجّهت إلى غيرها! فقال:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
وألا يقولوا: غاب قيسٌ وهذه ... سراويل عاديّ نمته ثمود
بذّ جميع الخلق أصلي ومنصبي ... وحسمٌ به أعلو الرّجال مديد
وكان قيسٌ سناظاً، فكانت الأنصار تقول لوددنا أنا اشترينا لحيةً بأنصاف أموالنا وسنذكر خبرة بعد القضاء إن شاء الله. ثم وجّه إلى محمد بن الحنفيّة، فدخل، فخبّر بما دعي له، فقال فقولوا له إن شاء فليجلس وليعطني يده حتى أقيمه أو يقعدني، وإن شاء فليكن القائم وأنات القاعد. فاختار الروميّ الجلوس، فأقامه محمدٌ، وعجز الروميّ عن إقامته، فانصرفا مغلوبين.
معاوية يهدي ملك الروم قارورة مملوءةً ماء
وحدثني أحد الهاشميّين: أن ملك الرّوم وجّه إلى معاوية بقارورة، فقال: ابعث إليّ فيها من كل شيء، فبعث إلى أبن عباس،قال: لتملأ له ماءً، فما ورد بها على ملك الروم قال: لله أبوه ما أدهاه! فقيل لابن عباس: كيف اخترت ذلك? فقال: لقول الله عزّ وجل: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 1
ـــــــ
1 سورة الأنبياء 30.
طعم الماءوقيل لرجل من بني هاشم وهو جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين، وكان يقدّم في معرفته: ما طعم الماء? فقال: طعم الحياة.
عبد الله بن الزبير وعلاج لحيتهوأما عبد الله بن الزبير فيذكر أهله أنه قال: عالجت لحيتي لتتّصل لي إلى أن بلغت ستّين سنةً، فلما أكملتها يئست منها.
من أخبار قيس بن سعدوكان قيس بن سعدٍ شجاعاً جواداً سيّداً، وجاءته عجوز قد كانت تألفه، فقال لها. كيف حالك? فقالت: ما في بيتي جرذٌ، فقال: ما أحسن ما سألت! أما والله لأكثرنّ جرذان بيتك.
وكان سعد بن عبادة حيث توجّه إلى حوران قسم ماله بين ولده، وكان له حملٌ لم يشعر به، فما ولد له، قال له عمر بن الخطّاب يعني قيساً لأنقضنّ ما فعل سعدٌ، فجاءه قيسٌ، فقال: يا أمير المؤمنين، نصيبي لهذا المولود، ولا تنقض ما فعل سعدٌ.
قال أبو العباس: حدّثت بهذا الحديث من حيث أثق به: أنّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما مشيا إلى قيس بن سعد يسألانه في أمر هذا المولود، فقال: نصيبي له، لا أغيّر ما فعل سعد.
وكان معاوية كتب إلى قيس بن سعد وهو والي مصر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه "أما بعد، فإنّك يهوديّ ابن يهوديّ، إن غلب أحبّ الفريقين إليك عزلك واستبدل بك، وإن غلب أبغضهما إليك قتلك، ومثّل بك، وقد كان أبوك فوق سهمه، ورمى غرضه، فأكثر الحزّ، واخطأ المفصل، حتى خذله قومه، وأدركه يومه، فمات غريباً بحوران، والسلام".
فكتب إليه قيسٌ: "أما بعد، فإنك وثن ابن وثنٍ، لم يقدم إيمانك، ولم يحدث نفاقك، دخلت في الدين كرهاً، وخرجت منه طوعاً، وقد كان أبي فوّق
سهمه، ورمى غرضه، فسعيت عليه أنت وأبوك ونظراؤك، فلم تشقّوا غباره، ولم تدركوا شأوه، ونحن أنصار الدّين الذي خرجت منه، وأعداء الدين الذي خرجت إليه، والسلام " . وكان قيسٌ موصوفاُ مع جماعةٍ قد بذّوا الناس طولاً وجمالاً، منهم: العباس ابن عبد المطلب رضي الله عنه، وولده، وجرير بن عبد الله البجليّ، والأشعث بن قيس الكنديّ، وعديّ بن حاتم الطائيّ، وابن جذل الطعّان الكنانّي، وأبو زبيدٍ الطائيّ، وزيد الخيل بن مهلهل الطائيّ، وكان أحد هؤلاء يقبّل المرأة على الهودج، وكان يقال للرجل منهم مقبّل الظعن، وكان طلحة بن عبيد الله موصوفاً بالتمام.
باب
لسليك بن السّلكة
قال أبو العباس: قال السليك ابن السّكة وهي أمه، وكانت سوداء حبشيّةً وكان من غربان العرب، وهو السّليك بن عميرٍ السّعديّ:
ألا عتبت عليّ فصار متني ... وأعجبها ذوو اللّمم الطّوال
فإنّي يا ابنة القوام أربي ... على فعل الوضيّ من الرّجال
فلا تصلي بصعلوك نؤوم ... إذا أمسى يعدّ من العيال
ولكن كلّ صعلوكٍ ضروب ... بنصل السّيف هامات الرّجال1
أشاب الرأس أنّي كلّ يوم ... أرى لي خالةً وسط الرّحال
يشقّ عليّ أن يلقين ضيماً ... ويعجز عن تخلّصهن مالي
قوله:
وأعجبها ذوو اللّمم الطّوال
يعني: الجمم، وإن شئت قلت: الجمام، يقال "جمّةٌ وجممٌ"، كقولك "ظلمةٌ وظلمٌ"، ويقال "جمامٌ" كقولك: "جفرةٌ وجفارٌ"2 و"برمةٌ وبرامٌ".
قال الشاعر:
إما تري لمّتي أودي الزمان بها ... وشيّب الدهر أصداغي وأفوادي
وقوله:
على فعل الوضيّ من الرجال
يريد: الجميل، وهو "فعيلٌ" من "وضؤ يوضؤ" يافتى، تقديره "كرم يكرم، وهو كريم"، ومصدره "الوضاءة" وكذلك "قبح يقبح قباحةً"، و"سمج يسمج سماجةً"، ويقال: "ما كنت وضيئا"، و"لقد وضؤت بعدنا".
وقوله: "فلا تصلي بصعلوكٍ"، يقول: لاتتّصلي به، كما قال ابن أحمر:
ولا تصلي بمطروقٍ إذا ما ... سرى في القوم أصبح مستكيناً
ـــــــ
1 زيادات ر: "كل خبر ابتداء والتقدير: همك".
2 زيادات ر: "الجفرة: هي الحفرة العظيمة".
وإذا شرب المرضّة قال أوكي ... على ما في سقائك قد روينا1
فالصعلوك: الذي لا مال له، قال الشاعر2:
كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكاً إذا ما تموّلا
وقوله: "نئوم" يصفه بالبلادة والكسل، وكانت العرب تمدح بخفّة الرؤوس عن النوم، وتذمّ النّومة، كما قال عبد الملك لمؤدب ولده: علّمهم العوم، وخذهم بقلّة النوم. وإنما توجّع لخالاته لأنهن كنّ إماء.
ـــــــ
1 زيادات ر: "إذا صب لبن حليب على حامض، فهى المرضة" وأوكى: شد به بالوكاء، وهو كل شيء يسد به فم السقاء.
2 زيادات ر: "جابر بن ثعلبة الطائي".
النجباء من أولاد السراريويروى عن رجل من قريش -لم يسمّ لنا- قال: كنت أجالس سعيد بن المسيّب، فقال لي يوماً: من أخوالك? فقلت: أمي فتاةٌ، فكأنّي نقصت في عينه، فأمهلت حتى دخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر الخطّاب رضي الله عنه، فلما خرج من عنده قلت: ياعمّ! من هذا? فقال: يا سبحان الله!أتجهل مثل هذا من قومك! هذا سالم بن عبد الله بن عمر، قلت: فمن أمّه? قال: فتاةٌ، قال: ثم أتاه لقاسم بن محمد بن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنده، فجلس عنده ثم نهض، فقلت: ياعمّ من هذا? فقال: أتجهل من أهلك مثله! ما أعجب هذا! هذا القاسم بن محمد بن أبي بكر الصّديق، قلت: فمن أمه? قال: فتاةٌ، فأمهلت شيئاً حتى جاءه عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فسلّم عليه ثم نهض، فقلت: ياعمّ، من هذا? قال: هذا الذي لا يسع مسلماً أن يجهله! هذا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، قلت: فمن أمه? قال: فتاةٌ، قال، قلت يا عم! رأيتني نقصت في عينك لمّا علمت أني لأم ولد، أفما لي في هؤلاء إسوةٌ! قال: فجللت في عينه جداً.
وكانت أمّ عليّ بن الحسين "سلافة" من ولد يزدجرد، معروفة النّسب، وكانت من خيرات النّساء.
ويروى أنه قيل لعليّ بن الحسين رحمه الله: إنّك من أبرّ الناس، ولست تأكل مع أمك في صفحة? فقال: أكره أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها فأكون قد عققتها.
وكان يقال له: ابن الخيرتين1 لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لله من عباده خيرتان، فخيرته من العرب قريشٌ، ومن العجم فارس".
وكانت سلافة عمّة أمّ يزيد النّاقص أو أختها.
وقال رجلٌ من ولد الحكم بن أبي العاصي، يقال له عبيد الله بن الحر وكان شاعرا متقدّماً، وكان لأمّ ولدٍ، وهو من ولد مروان بن الحكم:
فإن تك أمّي من نساءٍ أفاءها ... جياد القنا والمرهفات الصّفائح
فتباً لفضل الحرً إن لم أنل به ... كرائم أولاد النّساء الصّرائح
وإنما أخذ هذا من قول عنترة:
وأنا امرؤ منم خير منصباُ ... شطري2 وأحمي سائري بالمنصل
وأنشد لبلال بن جرير وبلغه ان موسى بن جرير كان إذا ذكره نسبة إلى أمه، لأنه ابن أمّولد، فيقول: ابن أمّ حكيمٍ فقال بلال:
يا ربّ خالٍ لي أغرّ أبلجا ... من آل كسرى يغتدي متوّجاً
ليس خالٍ لك يدعى عشنجاً
والعشنج: المتقبّض الوجه السيئ المنظر.
وكان سبب أم بلال عند جرير أن جريراً في أول دخوله العراق دخل على الحكم بن أيوب بن أبي عقيل الثقفي، وهو عمّ الحجاج، وعامله على البصرة، وفي ذلك يقول جرير:
أقبلن من ثهلان أو وادي خيم ... على قلاصٍ مثل خيطان السّلم3
إذا قطعن علماً بدا علم ... حتّى أنخناها إلى باب الحكم
خليفة الحجّاج غير المتّهم ... في ضئضىء المجد وبحبوح الكرم
فكتب الحكم بعد أن فاطنه4 إلى الحجاج، وذلك في أول سببه: إنه قدم
ـــــــ
1 زيادات ر: "بتحريك الياء أفصح".
2 زيادات ر: "شطرى ، مبتدأ، والخبر في المجرور قبله".
3 القلاص: جمع قلوص، وهي الناقة الفتية، وخيطان: جمع خوط وهي الغضة الناعم، والسلم: ضرب من الشجر.
4 قاطنة: راجعة في الكلام.
عليّ أعرابيٌّ ياقعةٌ1 لم أر مثله. فكتب إليه الحجاج أن يحمله معه، فما دخل عليه قال له: بلغني انك ذو بديهة، فقل في هذه الجارية -لجارية قائمةٍ على رأسه- فقال جريرٌ: مالي أن أقول فيها حتّى أتأملها، ومالي أن أتامل جارية الأمير! فقال: بلى، فتأمّلها واسألها. فقال لها: ما اسمك يا جارية? فأمسكت، فقال لها الحجاج: خبّرية يا لخناء، فقالت: أمامة، فقال جريرٌ:
ودّع أمامة حان منك رحيل ... إنّ الوداع لمن تحبّ قليل
مثل الكثيب تمايلت أعطافه ... فالرّيح تجبر متنه وتهيل
هذي القلوب صوادياً تيّمتها ... وأرى الشّفاء وما إليه سبيل
فقال له الحجاج: قد جعل الله لك السبيل إليها، خذها هي لك. فضرب بيده إلى يدها، فتمّنعت عليه، فقال:
إن كان طلبّكم الدّلال فإنه ... حسنٌ دلالك يا أمام جميل
[ش: ينصب "الطّبّ" ورفع "الدّلال"، وبالعكس، برفع "الطب" ونصب الدلال. والطّبّ هنا: المذهب، والّدلال: الدّالّة].
فاستضحك الحجاج، وأمر بتجهيزها معه إلى اليمامة.
وخبرت أنها كانت من أهل الرّيّ، وكان إخوتها أحراراً، فاتّبعوه، فأعطوه بها حتى بلغوا عشرين ألفاً، فلم يفعل، ففي ذلك يقول:
إذا عرضوا عشرين ألفاً تعرضت ... لامً حكيم حاجةٌ هي ماهيا
ردت أهل الرّي عندي مودّة ... وحبّبت أضعافاً إليّ المواليا
فأولدها حكيماً وبلالاً وحزرة، بني جرير، هؤلاء من أذكر من ولدها.
ويقال: إنّ الحمّانيّ2 قاول بلالاُ ذات يوم فيما كان بينهما من الشرّ، فقال: يا ابن أمّ حكيم، فقال له بلالٌ: ما تذكر من ابنة دهقان، وأخيذة رماح، وعطيّة ملكٍ? ليست كأمّك التي بالمرّوت3، تغدو على أثر ضأنها، كأنما عقباها حافرا
ـــــــ
1 زيادات ر: "يريد داهية، والباقعة: طائر حدر".
2 قال المرصفى: "الحمانى اسمه أبو نخيلة، نسب إلى جده حمان".
3 المروت: اسم واد بعينه.
حمار، فقال له الحمّانيّ: أنا أعلم بأمّك، إنما عتب عليها الحجّاج في أمر، الله أعلم به، فحلف أن يدفعها إلى ألأم العرب، فلما رأى أباك لم يشكك فيه.
وقال: أنشدت لرجل من رجّاز بني سعدٍ:
أنا ابن سعدٍ وتوسّطت العجم ... فأنا فيما شئت من خالٍ وعم
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس قومٌ أكيس من أولاد السّراريّ، لأنهم يجمعون عزّ العرب ودهاء العجم.
كتاب محمد بن عبد الله بن حسن إلى المنصور وردّه عليه
وكتب أمير المؤمنين المنصور إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم لمّا كتب إليه محمدٌ:
"وعلم أني لست من أولاد الطّلقاء،ولا أولاد اللّعناء، ولا أعرقت فيّ الإماء، ولا حضنتني أمّهات الأولاد. ولقد علمت أن هاشماً ولد عليّا مرّتين، وان عبد المطّلب ولد الحسن مرّتين،وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولدني مرّتين، من قبل جدّي الحسن والحسين". يعني أن أمّ عليّ فاطمة بنت أسد بن هاشم، وأمّ الحسن فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم، وأن أمّه فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم.
فكتب إليه المنصور:
"أما ما ذكرت من ولادة هاشم عليّاً مرتين، وولادة عبد المطّلب الحسن مرتين، فخير الأوّلين والآخرين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يلده هاشم إلاّ مرة واحدةً، ولا عبد المطلب إلاّ مرةً واحدةً، وله السبق إلى كلّ خير. ولقد علمت أنه بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمومته أربعةٌ، فآمن به اثنان، أحدهما أبي، وكفر به اثنان أحدهما أبوك، وأمّا ما ذكرت أنه لم تعرق فيك الإماء، فقد فخرت على بني هاشم طرّاً، أولهم إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم عليّ بن الحسين، الذي لم يولد فيكم بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مولودٌ مثله".
وهذه رسالة للمنصور طريفةٌ مستحسنةٌ جداً، سنمليها في موضها من هذا الكتاب، إن شاء الله.
وأنشدني الرّياشيّ:
إنّ أولاد السّراري ... كثروا يا ربّ فينا
ربّ أدخلني بلاداً ... لا أرى فيها هجينا
والهجين عند العرب: الذي أبوه شريفٌ وأمّه وضيعة?، والأصل في ذلك أن تكون أمّةً، وإنما قيل: "هجين" من أجل البياض، وكأنهم قصدوا قصد الرّوم والصّقالبة ومن أشبههم، والدليل على أن الهجين الأبيض أن العرب تقول: ما يخفى ذلك على الأسود والحمر، أي العربي والعجميّ، ويسمّون الموالي وسائر العجم الحمراء، وقد ذكرنا ذلك، ولذلك قال زيد الخيل:
أيقن أننا صهب السّبال1
أي كهؤلاء من العجم. وقال أبن الرّقيات:
إن تريني تغيّر اللّون منّي ... وعلا الشّيب مفرقي وقذالي
فظلال السيّوف شيّبن رأسي ... وطعاني في الحرب صهب السّبال
فقيل: هجين من هاهنا.
وإذا كانت الأمّ كريمةً والأب خسيساً قيل له: المذرّع، قال الفرزدق:
إذا باهليٌّ تحته حنظليّةٌ ... له ولدٌ منها فذاك المذرّع
وقال الآخر:
إنّ المذّرع لا تغني خئولته ... كالغل عن شوط المحاضير2
وإنما سمّي مذرّعا، للرّقمتين3 في ذراع البغل، وإنما صارتا فيه من ناحية الحمار، قال هدبة:
ورثت رقاش اللّؤم عن آبائها ... كتوارث الحميرات رقم الأذرع
وقال عبد الله بن العباس في كلام يجيب به ابن الزبير: والله إنه لمصلوب قريش، ومتى كان عوّام بن عوامٍ يطمع في صفيّة بنت عبد المطلبّ! من أبوك يا بغل? فقال: خالي الفرس!
ـــــــ
1 صدره كما في حواشي ر:
وأسلم عرسه لما رأنا
2 زيادات ر: "جمع محضير، وهو الفرس السريع".
3 الرقمتان: أثر بباطن الذراعين لا ينبتان الشعر.
باب
لأعرابي فيمن أطال لحيتهقال أبو العباس: قال أعرابيّ:
كلّ امرئ ذي لجيةٍ عثوليّةٍ ... يقوم عليها ظنّ أن له فضلا
وما الفضل في طول السّبال وعرضها ... إذا الله لم يجعل لصاحبها عقلا
ويروى: "لحاملها".
عثوليّة، يقول: كثيرةٌ، والمستعمل رجلٌ "عثوالٌّ" إذا كان كثير الشّعر، وأصل ذلك في الرأس واللّحية، وبناه الأعرابيّ بناء "جدول" كأنه "عثول" ثم نسب إليه.
والسّبلة: مقدّم اللّحية، يقال لما أسيل من الشاربين: سبلتان، وتقول العرب: اخذ فلانٌ شفرة فلتم بها سبلة بعيره، أي نحره، واللّتم: الشّقّ، فهذا ما أسبل من جرانه.
لبعض المحدثين في ذم ذوي العيوقال بعض المحدثين:
وما حسن الرّجال لهم بحسنٍ ... إذا ما أخطأ الحسن البيان
كفى بالمرء عيباً أن تراه ... له وجهٌ وليس له لسان
وقال آخر:
إنّي على ما تزدري من دمامتي ... إذا قيس ذراعي بالرجال طويل
لرجل يصف لحيتهونظر يزيد بن مزيد الشّيباني إلى رجل ذي لحيةٍعظيمة، وقد تلفّفت على صدره، فإذا هو خاضبٌ، فقال: إنك مكن لحيتك في مئونة! فقال: أجل، ولذلك أقول:
لها درهمٌ للدّهن في كلّ جمعةٍ ... وآخر للحنّاء يبتدران
ولولا نوالٌ من يزيد بن مزيد ... لصوّت في حافاتها الجلمان1
ـــــــ
1 الجلمان: مثنى جلم، وهو المقراض، ويطلق المثنى على الواحد.
لإسحاق بن خلفٍ يصف رجلاً بالقصر وطول اللحية
وقال إسحاق بن خلف يصف رجلاً بالقصر وطول اللّحية:
ماسرّني أنّني في طول داود ... وأنّني علمٌ في البأس والجود
ماشيت داود فاستضحكت من عجب ... كأنني والدٌ يمشي بمولود
ما طول داود إلاّ طول لحيته ... يظل داود فيها غير موجود
تكنّة خصلةٌ منها إذا نفخت ... ريح الشّتاء وجفّ الماء في العود
كالأنبجاني مصقولاً عوارضها1 ... سوداء في لين الغادة الرّود2
أجرى وأغنى من الخزّ الصّفيق ومن ... بيض القطائف3 يوم القرّ والسّود4
إن هبّت الرّيح أدّته إلى عدنٍ ... إن كان مالفّ منها غير معقود
وفي الحديث: "من سعادة المرء خفّة عارضيه" وليس هذا بناقض لما جاء في إعفاء اللّحي وإحفاء الشّوارب، فقد روى أنهم قالوا: لا بأس بأخذ العارضين والتّبطين5، وأما الإعفاء فهو التّكثير، وهو من الأضداد، قال الله عز وجل: {حَتَّى عَفَوْا} 6، أي حتى كثروا، ويقال: عفا وبر الناقة إذا كثر، قال الشاعر:
ولكنّا نعضّ السّيف منها ... بأسؤق عافيات اللّحم كوم
والكوم: العظام الأسنمة، واحتها كوماء، ويقال: عفا الرّيع، إذا درس، ومن ذلك:
على آثار من ذهب العفاء
أي الدّروس.
وقال مسلمة بن عبد الملك: إني لأعجب من ثلاثة: من رجل قصّر شعره ثم عاد فأطاله، أو شمّر ثوبه ثم عاد فأسبله، أو تمنع بالسّراريّ ثم عاد إلى المهيرات.
ـــــــ
1 الأنبجانى: كساء من الصوف، منسوب إلى منبج على غير قياس.
2 الرود: الحسنة الشابة.
3 القطائف: حمع قطيفة، وهي كساء مربع غليظ له خمل ووبر.
4 زيادات ر: "القر" بالقاف، يريد البرد، ويروى بالغين، يريد السحائب البيض.
5 التبطين: أخذ الشعر من تحت الذقن والحنك.
6 سورة الأعراف 95.
واحدة المهيرات مهيرة، وهي الحرّة الممهورة، و"مفعول" يخرج إلى "فعيل" كمقتولٍ وقتيل، ومجروح وجريح، قال الأعشى:
ومنكوحةٍ غير ممهورةٍ ... وأخرى يقال لها فادها1
فهذا المعروف في كلام العرب، مهرت المرأة فهي ممهورةٌ، ويقال وليس بالكثيرأمهرتها فهي ممهرةٌ، أنشدني المازنيّ:
أخذن اغتصاباً خطبةً عجرفيّة ... وأمهرن أرماحاً من الخط ذبّلا2
ـــــــ
1 زيادات ر: "فادها، من فديت الأسير، وهو يصف سبيا أخذ فيه إماء وحرائر".
2 زيادات ر: "عجرفية: جافية، خطبة، مصدر مضى".
من ألفاظ الكناياتوأهل الحجاز يرزن النكاح العقد دون الفعل، ولا ينكرونه في الفعل ويحتجّون بقول الله عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} 1، فهذا الأشيع في كلام العرب، قال الأعشى:
وأمتنعت نفسي من الغانيا ... ت إمّا نكاحاً وإما أزن2
ومن كل بيضاء رعبوبةٍ ... لها بشرٌ ناصعٌ كاللّبن3
ويكون النّكاح الجماع، وهو في الأصل كناية، قال الراجز:
إذا زنيت فأجد نكاحاً ... وأعمل الغدوّ والرّواحا
والكناية تقع عن هذا الباب كثيراً، والأصل ما ذكرنا لك، وفال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنا من نكاح لا من سفاح". ومن خطب المسلمين: "إن الله عز وجل أحلّ النّكاح وحرم السّفاح".
والكناية تقع على جماع، قال الله عزّ وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 4، فهذه كناية عن الجماع، قال أكثر الفقهاء في قوله تبارك
ـــــــ
1 سورة الأحزاب 49.
2 زيادات ر: "قوله "أزن" أراد أزنى ثم حذف الياء وخفف النون فقال: أزن".
3 الرعبوبة: الحسنة الخلق.
4 سورة البقرة 187.
وتعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} 1، قالوا: كناية عن الجماع، وليس الأمر عندنا كذلك، وما أصف مذهب اهل المدينة، قد فرغ من النكاح تصريحاً، وإنما الملامسة أن يلمسها الرجل بيد أو بإدناء جسدٍ من جسد، فذلك ينقض الوضوء في قول أهل المدينة، لأنه قال تبارك وتعالى بعد ذكر الجنب: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}.
وقوله عزّ وجل: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 2، كنايةٌ بإجماع عن قضاء الحاجة، لأن كلّ من يأكل الطعام في الدنيا أنجى، يقال: نجا وأنجى، إذا قام لحاجة الإنسان. وكذلك: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} 3. كناية عن الفروج، ومثله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} 4، فإنما الغائط كالوادي، وقال عمرو بن معدي كرب:
وكم من غائط من دون سلمى ... قليل الإنس ليس به كتيع5
ويقال: وهم الرجل يوهم، إذا شكّ، وهو الجود، ويجوز: ييهم، وييهم، وياهم، لعلل، وكذلك ما كان مثله، نحو: وجل يوجل ووحل يوحل،ووجع يوجع، ويجوز في وهم أن تقول: "يهم" فإن المعتلّ من هذا يجيء على مثال حسب يحسب، مثل: ولي الأمير يلي، وورم الجرح يرم، فهذا جميع ما في هذا الباب.
ـــــــ
1 سورة النساء 43.
2 سورة المائدة 75.
3 سورة فصلت 21.
4 سورة النساء 42.
5 يقال: ما بالدار كتيع، أى ما بها أحد.
لرجل من تميموقال رجلٌ احسبه من بني تميم:
لاتسألنّ الخيل ي اسعد مالها ... وكن أخريات الخيل علّك تجرح
لعلّك تحمي عن صحاب بطعنةٍ ... لها عائد ينفي الحصا حين ينفخ
وأكرم كريماً إن أتاك لحاجةٍ ... لعاقبةٍ إنّ العضاه تروّح1
بذا فامدحيني واندبيني فإنّني ... فتى تعتريه هزّةٌ حين يمدح2
ـــــــ
1 زيادات ر: "إذا أدبر القيظ وبرد الليل تحرك للشجر ورق رطب، فيقال: أخلف الشجر وتروح".
2 هذا البيت من زيادات ر.
قوله:
لاتسألنّ الخيل يا سعد مالها
يقول: لاتتخلّف عن القتال وتسأل عن أخبار القوم، ولكن كن فيهم. كما قال مهلهل:
ليس مثلي يخبّر القوم عن آ ... بائهم قتّلوا وينسى القتالا
لم أرم حومة الكتيبة حتّى ... حذي الورد من دماء نعالا
يقول: كنت في حومة القتال، صليت الحرب أكثر ممّا صليها غيري.
طلاق ابنة عبد الله بن السائب ثم زواجها من المصعبويروى عن رجل من بني أسد بن عبد العزّى، يقال له: فلان، [ش: هو عبد الله] بن السّائب أنه زوّج ابنته عمرو بن عثمان بن عفّان، فلمّا نصّت عليه طلّقها على المنصّة، فجاء أبوها إلى عبد الله بن الزّبير، فقال: إنّ عمرو ابن عثمان طلق ابنتي على المنصّة، وقد ظنّ النّاس أنّ ذلك لعاهةٍ، وأنت عمّها، فقم فأدخل إليها، فقال عبد الله: أو خيراً من ذلك! جيئوني بالصعب، فخطب عبد الله فزوّجها من المصعب، وأقسم عليه ليدخلنّ بها في ليلته، فلا تعرف امرأة نصّت على رجلين في ليلتين ولاء غيرها فأولدها المصعب عيسى وعكّاشة، فلما كان اليوم مسكن1، وهرب أكثر الناس عن المصعب، دخل إلى سكينة ابنة الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وكانت له شديدة المحبّة، وكانت تخفي ذلك، فلبس غلالةً وتوشّح عليها، وانتضى السّيف، فلمّا رأت ذلك علمت أنه عزم ألا يرجع، فصاحت من ورائه: واحرباه! فالتقت إليها، فقال: أو هذا لي في قلبك! فقالت: إي والله وأكثر من هذا! فقال: أما لو علمت لكان لي ولك وشأن. ثم خرج، فقال لابنه عيسى: يا بنيّ، انج إلى نجاتك، فإنّ القوم لا حاجة بهم إلى غيري، وستفلت بحيلةٍ أو بقيا، فقال: يا أبتاه! لا أحدّث والله عنك أبداً، فقال: أما والله لئن قلت ذلك لما زلت أتعرّف الكرم في أسرارك، وأنت تقلب في مهدك.
ـــــــ
1 مسكن: موضع على نهر دجيل، به كانت الواقعة بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير، وقتل به مصعب، وقبره هناك. "مراصد الاطلاع 1271".
[ش: الأسرار: جمع سرّ وهي الطّرائق في الجبهة].
فقتل بين يدي أبيه، ففي ذلك يقول شاعر أهل الشّأم من اليمانية:
نحن قتلنا مصعباً وعيسى ... وابن الزّبير البطل الرّئيسا
عمداً أذقنا مضر التّبئيسا
وقال رجل يعاتب رجلاً:
فلو كان شهم النّفس أو ذا حفيظةٍ ... رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب
لبلال بن جرير يمدح عبد الله بن الزبيروقال بلال بن جرير يمدح عبد الله بن الزبير1:
مدّ الزّبير عليك إذ يبني العلا ... كنفيه حتّى نالتا العيّوقا2
ولو أنّ عبد الله فاخر من ترى ... فات البريّة عزّةً وسموقا
قرمٌ إذا ما كان يوم نفورةٍ ... جمع الزّبير عليك والصّدّيقا
لو شئت ما فاتوك إذ جاريتهم ... ولكنت بالسّبق المبرّ حقيقا
لكن أتيت مصلياً براً بهم ... ولقد ترى ونرى لديك طريقاً
عاد الحديث إلى تفسير الأبيات المتقدمة3:
قوله:
لعلك تحمي عن صحابِ بطعنةٍ
يقال: حميت الناحية أحميها حمياً وحمايةً، كما قال الفرزدق:
إذا النّفوس جشأن طأمن جأشها ... ثقةً لها بحماية الأدبار4
ومعنى ذلك: منعت ودفعت، ويقال: أحميت الأرض أي جعلتها حمى
ـــــــ
1 زيادات ر: "يقال إن بلالا لم يلحق ابن الزبير، إلا أن يكون مدحه ميتا".
2 العيوق: نجم أحمر مضىء في السماء في طرف المجرة الأيمن، وفي زيادات ر: ويروى: "كفيه"، وهو أظهر لقوله: "حتى نالتا".
3 ص132.
4 جشأن: تظلمن وجزعن فزعا، وطأمن: سكن.
لا تقرب،وأحميت الحديد أحميه إحماءً، وحميت أنفي محميةً يا فتى،إذا أنت أبيت الضّيم. وصحابٌ: جمع صاحب، وقد يقال: هو جمع صحب، كما تقول: تاجرٌ وتجرٌ، وراكبٌ وركبٌ، ونحو ذلك، ثم تجمع صحباً على أصحاب، كقولك: كلبٌ وفرخٌ وفراخٌ، فهذا مذهب حسنٌ، ومن قال: هو جمع صاحب، فنظيره قائم وقيامٌ، وتاجرٌ وتجارٌ.
وقوله: "لها عاندٌ ينفي الحصا"، يعني الدّم، يقال: عند العرق، إذا خرج الدّم منه بحدّة. ينفي الحصا، يعني الدّم بشدة جريه، كما قال:
مسحسحةٍ تنفي الحصا عن طريقها ... [يقطع أحشاء الرّعيب انتثارها]1
يعني: طعنة.
وقال آخر في صفة طعنة:
ومستنّةٍ كاستنان الخرو ... ف قد قطع الحبل بالمرود
والخروف هاهنا إنما هو الفلوّ الصّغير.
وقوله:
وأكرم كريماً إن أتاك لحاجة ... لعاقبةٍ إنّ العضاه تروّح
يقول: الشجر يصيبه النّدى في آخر الصّيف فينشأ له ورق، فيقول: لعلّك تحتاج إلى هذا الكريم وقد قدر.
ومثله:
ولاتهين الكريم علّك أن ... تركع يوماً والدّهر قد رفعه
أراد "ولا تهينن" بالنون الخفيفة، فحذفها لالتقاء الساكنين، وهذا الحكم فيها.
ومثله في المعنى قول عبّاد بن عبّاد بن حبيب بن المهلب:
إذا خلةٌ نابت صديقك فاغتنم ... مرمّتها فالدهر بالناس قلّب
وبادر بمعروفٍ إذا كنت قادراً ... زوال اقتدار أو غنى عنك يعقب
[زوال، مفعولٌ ل "بادر". قاله ش] ومثل هذا كثير.
ـــــــ
1 مابين العلامتين س، زيادات ر.
وقال جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين رضي الله عنهم إنّي لأسارع إلى حاجة عدّوي خوفاً من أن أردّه فيستغني عنّي.
وقال رجلٌ من العرب: ما رددت رجلاً عن حاجة فولّى عنّي إلا رأيت الغنى في قفاه. وقال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب: ما رأيت أحداً أسعفته في حاجة إلا أضاء ما بينى وبينه، ولا رأيت رجلا رددته عن حاجة إلاّ أظلم ما بيني وبينه.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " من يئس من شيْ استغنى عنه. وقال عبد الله بن همّام السّلوليّ:
فأحلف وأتلف إنما المال عارةٌ ... فكله مع الدّهر الذي هو آكله
فأهون مفقود وأيسر هالك ... على الحيّ من لا يبلغ الحيّ نائله
عارةٌ، أي معارٌ، ووزنه "فعلةٌ".
وقال أحد المحدثين1، وليس من هذا الباب ولكنّا ذكرناه في الإعارة:
أعارك ماله لتقوم فيه ... بطاعته وتعرف فضل حقّه
فلم تشكره نعمته ولكن ... قريت على معاصيه برزقه
تجاهره بها عوداٌ وبدءاٌ ... وتستخفي بها من شرّ خلقه
وقال جريرٌ:
وإنّي لأستحيي أخي أن أرى له ... عليّ من الحقّ الذي لا يرى ليا
هذا بيتٌ يحمله قومٌ على خلاف معناه، وإنما تأويله: إني لأستحيي أخي ان يكون له عليّ فضل ولا يكون لي عليه فضل زمني إليه مكافأةٌ، فأستحيي أن أرى له عليّ حقاً لما فعل إليّ، ولا أفعل إليه ما يكون لي به عليه حقٌّ. وهذا من مذاهب الكرام، وممّا تأخذ له أنفسها.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو محمود الوراق".
أبيات عائد الكلب الزبيري لعبد الله بن حسنٍ
فأمّا قول عائد الكلب الزّبيريّ لعبد الله بن حسن بن حسنٍ1:
له حقٌ وليس عليه حقٌ ... ومهما قال فالحسن الجميل
وقد كان الرسول يرى حقوقاً ... عليه لغيره وهو الرّسول
فإنه ذكره بقلّة الإنصاف، فقال: يرى له حقاً على النّاس، ولا يرى لهم عليه حقاً من أجل نسبة الإنصاف، فقال: يرى له حقاً على النّاس، ولا يرى لهم عليه حقاً من أجل نسبة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبيّن ذلك يقوله:
وقد كان رسول يرى حقوقاً ... عليه لغيره وهو الرسول
فالذي يفتخر به عبد الله يرى للناس عليه حقاً، فالمفتخر به أجدر.
وقد قيل لعليّ بن الحسين وكان بين الفضل رضي الله عنه: ما بالك إذا سافرت كتمت نسبك أهل الرفقة? فقال: أكره أن آخذ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما لا أعطي مثله.
وإنما يعتري هذا الباب من الظلم وقلّة الإنصاف والبعد من الرّقّة عليهم الجهلة من أهل هذا النسب، والله جلّ ذكره يقول لنبيّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2، وقال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 3، فإذا كان هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخاف من المعصية فكيف يأمنها غيره به!
ـــــــ
1 زيادات ر: اسمه عبد الله بن مصعب الزبيرى، وسمى عائد الكلب بقوله:
مالى مرضت فلم يعدنى عائد ... منكم ويمرض كلبكم فأعود
وأشد من مرضى على صدودكم ... وصدود كلبكم على شديد
2 سورة التوبة 128.
3 سورة الأنعام 15.
لجرير يمدح هشام بن عبد الملكوأما قول جريرٍ لهشام بن عبد الملك فهو المدح الصحيح على خلاف هذا المعنى، قال:
وأنت إذا نظرت إلى هشام ... عرفت نجار منتخب كريم
وليّ الحقّ حين يؤم حجّا ... صفوفاً بين زمزم والحطيم
يرى للمسلمين عليه حقاً ... كفعل الوالد الرّؤف الرّحيم
إذا بعض السّنين تعرّقتنا1 ... كفى الأيتام فقد أبي اليتيم
وفي هذا الشعر:
أمير المؤمنين على صراطٍ ... إذا أعوجّ الموارد مستقيم
أمير المؤمنين جمعت ديناً ... وحلماً فاضلا لذوي الحلوم
لك المتخيّران أبا وخالاً ... فأكرم بالخؤولة والعموم
فيا ابن المطعمين إذا شتونا ... ويا ابن الذّائدين عن الحريم
سما بك خالدٌ وبنو هشامٍ ... إلى العلياء في الحسب الجسيم2
وتنزل من أميّة حيث تلقى ... شؤون الرأس مجتمع الصّميم
تواصلت من تكرّمها قريشٌ ... بردّ الخيل دامية الكلوم
فما الأمّ التي ولدت قريشاً ... بمقرفة النّجار ولا عقيم
وما فحلٌ بأنجب من أبيكم ... ولا خالٌ بأكرم من تميم
سما أولاد برّة بنت مرّ ... إلى العلياء في الحسب العظيم
لك الغرّ السّوابق من قريش ... فقد عرف الأغرّ من البهيم
قوله: "حين يؤم حجّاً" فيكون الحجّ جمع حاجّ، كما يقال: تاجرٌ وتجرٌ، وراكبٌ وركبٌ، قال العجّاج:
بواسطٍ أكرم دارٍ دارا ... والله سمّى نصرك الأنصارا
فأخرجه على "ناصر ونصر"، قال: ويجوز أن يكون حجّ أصحاب حجّ، كما قال الله عزّ وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 3، يريد أهلها.
وقوله:
كفعل الوالد الرّوف الرّحيم
يقال: "رؤف" على "فعلٍ" مثل يقظ وحذر، رؤوف على وزن "ضروب". وقال الأنصاري4:
ـــــــ
1 تعرقتنا: أهزلتنا، وأصله أخذ ما على العظم من اللحم.
2 زيادات ر: "وهم أبو العباس في قوله: وبنو هشام، وإنما وقع في شعره: وأبو هشام، وهو الصحيح، يريد إسماعيل بن هشام وهو جده من قبل أمه".
3 سورة يوسف 82.
4 زيادات ر: "هو كعب بن مالك".
نطيع نبيّنا ونطيع رباً ... هو الرّحمن كان بنا رؤوفا
وقد قرىء: {واللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 1، و{رَؤُوفٌ} أكثر، وإنما هو من الرّأفة، وهي أشدّ الرّحمة، ويقال: "رآفةٌ" وقرىء: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} 2، على وزن الصّرامة والسّفاهة.
وقوله:
إذا بعض السّنين تعرّ قتنا
يفسر على وجهين: أحداهما: ان يكون ذهب إلى بعض السنين سنون، كما قال الأعشى:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدّم
لأن صدر القناة قناةٌ، ومن كلام العرب: ذهبت بعض أصابعه، لأن بعض الأصابع إصبع، فهذا قول.
والأجود أن يكون الخبر في المعنى عن المضاف إليه، فأقتحم المضاف إليه توكيداً، لأنه غير خارج من المعنى، وفي كتاب الله عزّ وجل: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 3 إنما المعنى: فظلّوا لها خاضعين، والخضوع بيّن في الأعناق، فأخبر عنهم، فأقحم العناق توكيداٌ. وكان أبو زيد الأنصاريّ يقول: أعناقهم جماعاتهم، تقول: أتاني عنقٌ من النّاس، والأول قول عامّة النحويين. وقال جرير:
لما أتَى خبرُ الزبيرِ تواضعتْ ... سورُ المدينةِ والجبالُ الخشعُ
وقال أيضاَ:
رأت مرَّ السنينَ أخذن مِنِّي ... كما أخذ السرارُ من الهلالِ
وقال ذو الرمة:
مشينَ كما اهتزت رِماح تسفهت ... أعاليها مرُّ الرياح النواسم4
ـــــــ
1 سورة البقرة 207.
2 سورة النور 2.
3 سورة الشعراء 4.
4 زيادات ر: "زعم بعضهم أن البيت مصنوع، والصحيح فيه: مرضى الرياح النواهم، المرضى: التي تهب بلين".
ومثل هذا كثير، وعلى مثل هذا القول الثاني تقول: "يا تيم تيم عدي" لأنك أردت: "يا تيم عدي"، وأقحمت الأول توكيدً1، وكذلك: لا أبا لك، لأن الألف لا تثبت في الأب في النصب إلا في الإضافة، أولا بدلاً من التنوين، فإنما أراد لا أباك ثم اقحم اللام توكيداً للإضافة، وأنشد المازني:
وقد مات شماخ ومات مزرد ... وأي كريم لا أباك يخلدُ!
وقال آخر:
أبا لموت الذي لا بد أني ... ملاقٍ لا أباك تخوفيني!
وقوله: "على صراط" فالصراط: المنهاج الواضح، وكذلك قالت العلماء في قول الله عزّ وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.
وقوله: "سما بكَ خالدٌ" يريد خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مُرة بن كعب، لأن أم هشام بنتُ هشام بن إسماعيل ابن هشام بن المغيرة، بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وكان هشام بن المغيرة أجل قرشي حالماً وجوداً، وكانت قريش تؤرخ بموته، كما كانت تؤرخ بعام الفيل، وبملكِ فلانٍ، قال الشاعر:
زمان تناعى الناس موت هشام
ومن أجل يقول القائل:
فأصبح بطن مكة مقشعراً ... كأنَّ الأرض ليس بها هشامُ
يقول: هو وإن كان مات فهو مدفون في الأرض، فقد كان يحب من أجله ألا ينالها جدب، وقال الآخر:
ذريني أصطبح يا سلم إني ... رأيت الموت نقب عن هشام
وقوله: "نقب" أي طوف حتى أصاب هشاماً، قال الله عزّ وجل: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} أي طوفوا، ومثله قول امرئ القيس"
وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
ـــــــ
1 زيادات ر: كذا وقع "وأقحمت الأول توكيدا"، وإنما الصحيح: "وأقحمت الثاني توكيدا".
2 سورة ق 36.
عمر أول من أرخ في الإسلامفأما التاريخ الذي يؤرخ به اليوم فأول من فعله في الإسلام عمر بن الخطاب رحمه الله. حيث دون الدواوين، فقيل له: لو أرخت يا أمير المؤمنين لكنت تعرف الأمور في أوقاتها? فقال: وما التأريخ? فأعلم ما كانت العجم تفعله، فقال: أرخوا؛ فقالوا: مذ أي سنة? فاجتمعوا على سنة الهجرة، لأنه الوقت الذي حكم فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غير تقيةٍ ثم قالوا: في أي شهرٍ? فقالوا: نستقبل بالناس أمورهم في شهر المحرم إذا انقضى حجهم، وكانت هجرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهر بيع الآخر1 فقدم التأريخ على الهجرة هذه الأشهر.
وجاء في تصحيح هذا الوقت - أعني المحرم - ما روي لنا عن ابن عباسٍ رحمه الله، فنه قال في قول الله عزّ وجل: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} 2 فأقسم بفجر السنة، وهو المحرم.
وقوله:
فما الأم التي ولدت قريشاً
يعني برة بنت مرٍّ، كانت أمَّ النضر بن كنانة، وهو أبو قريش، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي، وتميم بن مرٍّ خاله.
وكان يقال: من عرف حق أخيه دام له إخاؤه، ومن تكبر على الناس ورجا أن يكون له صديق فقد غر نفسه.
وقيل: ليس للجوج تدبير، ولا لسييء الخلق عيش، ولا لمتكبر صديق.
وقيل: من بسط بالخير لسانه انبسطت في القلوب محبته، والمنة تفسدُ الصنيعة.
ـــــــ
1 زيادات ر: "الذي اتفق عليه أن هجرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت في ربيع الأول، وفيه مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
2 سورة الفجر2,1.
في مدح أبي البختريويروى أن شاعراً أتى أبا البختري1 وهب بن وهبٍ،وكان من أجود الناس، وكان إذا سمع مدح المادح ضحك وسرى السرور في جوانحه، وأعطى
ـــــــ
1 زيادات ر: "البخترى، بفتح الباء وبالخاء المعجمة".
وزاد، فأتاه هذا الشاعر فأنشده:
لكل أخي فضل نصيب من العلا ... ورأس العلا طرا عقيد الندى وهبُ
وما ضر وهباً قول من غمط العلا ... كما لا يضر البدر ينبحه الكلب1
فثنى له الوسادة، وهش إليه ورفده، وحمله وأضافه، فلما أن أراد الرجل الرحلة لم يخدمه أحد من غلمان أبي البختري، ولا عقد له ولا حل معه. فأنكر ذلك من جميل ما فعل به، وأنه قد تجاوز به أمله، فعاتب بعضهم، فقال له الغلام: إنا إنما نعين النازل على الإقامة، ولا نعين الراحل على الفراق. فبلغ هذا الكلام جليلاً من القرشيين، فقال: والله لفعل هؤلاء العبيد على هذا القصد أحسن من رفد سيدهم.
ـــــــ
1 زيادات ر: "غمط "بالكسر": كفر النعمة، وغمط "بالفتح"، ويقال أيضاً: تنقص".
باب
سؤال عبد الملك لحسان: أي المناديل أفضل?قال عبد الملك بن مروان لجلسائه - وكان يجتنب غير الأدباء -: أي المناديل أفضل? فقال قائل منهم: مناديل مصر كأنها غرقىء البيض1. وقال آخر: مناديل اليمن كأنها أنوار الربيع. فقال عبد الملك: ما صنعتما شيئاً، أفضل المناديل ما قال أخو تميم - يعني عبدة بن الطبيب2.
لما نزلنا نصبنا ظل أخبية ... وفار للقوم باللحم المراجيل
ورد وأشقر ما يؤنيه طابخه ... ما غير الغلي منه فهو مأكول
ثمت قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل
قوله: "غرقىء البيض" يعني القشرة الرقيقة التي تركب البيضة دون قشرها الأعلى، وقشرها الأعلى يقال له: القيض.
وقوله: "المراجيل" إنما حده "المراجل"؛ ولكن لما كانت الكسرة لازمة أشبعها للضرورة؛ كما قال:
نفي الدرام تنقاد الصياريف3
وقد مر تفسير هذا.
وقوله:
ورد وأشقر ما يؤنيه طباخه
يقول: ما تغير من اللحم قبل نضجه.
وقوله: "ما يؤنيه طباخه" يقول: ما يؤخره، لأنه لو آناه لأنضجه، لأن معنى "آناه" بلغ به إناه، أي إدراكه، قال الله عز وجل: {إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} 4، وتقول: أنى يأني إنيّ، إذا أدرك، وآن يئين مثله. وقوله عز وجل: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} 5 أي قد بلغ إناه.
ـــــــ
1 زيادات ر: "الغرقىء يهمز، ولا يهمز، وكذلك فعله".
2 زيادات ر: "عبدة، بإسكان الباء".
3 زيادات ر: "الحجة في الصياريف".
4 سورة الأحزاب 53.
5 سورة الرحمن 44.
وقوله:
ما غير الغلي منه فهو مأكول
يقول: نحن أصحاب صيد، وهذا من فعلهم1.
وقوله: "مسومة" تكون على ضربين: أحدهما أن تكون معلمة، والثني أن تكون قد أسميت في المرعى، وهي ههنا معلمة، وقد مضى هذا التفسير.
وإنما أخذ ما في هذه الأبيات من بيت أمرىء القيس، فإنه جمع ما في هذه الأبيات في بيت واحدٍ، مع فضل التقدم.
نمش بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب
وهو الذي لم يدرك، ونمش: نمسح، ويقال للمنديل المشوش.
وكانت العرب تألف الطيب، وتطرح ذلك في حالتين: في الحرب والصيد.
قال النابغة:
سهكين من صدإ الحديد كأنهم ... تحت السنور جنة البقار
وقال آخر:
وأسيافكم مسك محل أكفكم ... على أنها ريح الدماء تضوع2
معنى "تضوع" تفوح.
ـــــــ
1 زيادات ر: "العرب لا تنضج اللحم، إما لا ستعجالها للضيف، وإما لأن ذلك مستحب عندها، ولذلك قال: لا يؤنيه. وقيل لتعجيل القرى".
2 زيادات ر: "تضوع روايته".
وفاء ابنة هانيء بن قبيصةوروي عن ابنة هانيء بن قبيصة [ذكر يعقوب أنها ابنة قيس بن خالد الشيباني. ش]. أنه لما قتل عنها لقيط بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك حنظلة، فتزوجها رجل من أهلها، فكان لا يزال يراها تذكر لقيطاً، فقال لها ذات مرة: ما استحسنت من لقيط? فقالت: كل أموره كانت حسنة، ولكني أحدثك أنه خرج مرة إلى الصيد وقد انتشىء، فرجع وبقميصه نضح ضمه، وشمني شم، فليتني كنت مت ثمه، قال: ففعل زوجها مثل ذلك، ثم
ضمها إليه، وقال: أين أنا من لقيط? فقالت: ماء ولا كصدآء - مثل حمراء، ووزنها "فعلاء"، وموضع اللام همزة، وهي بئر مقدمة، واسمها ما ذكرنا عن الأصمعي وأبي عبيدة، وكذلك سمعنا العرب تقوله، ومن ثقل فقد أخطأ ومثل ذلك: رجل ولا كمالكٍ1 - يعنون مالك بن نويرة، ومرعى ولا كالسعدان.
ـــــــ
1 زيادات ر: "فما يقال: فتى ولا مالك، وقد تقدم لأبي العباس: "فتى"، وهو الصواب".
حديث بنات ذي الإصبع العدوانيوحدثني علي بن عبد الله عن ابن عائشة قال: كان ذو الإصبع العدواني رجلاً غيوراً، وكانت له بنات أربع، وكان لا يزوجهن غيرة، فاستمع عليهن يوماً،وقد خلون يتحدثن، فقالت قائلة منهن: لتقل كل واحدةٍ منكن ما في نفسها، ولنصدق جميعاً. قال: فقالت كبراهن:
ألا ليت زوجي من أناسٍ ذوي غنىً ... حديث الشباب طيب النشر والذكر
لصوق بأكباد النساء كأنه ... خليفة جان لا يقيم على هجر
قال: وقالت الثانية:
ألا ليته يغطي الجمال بديئة ... له جفنة يشقى بها النيب والجزر
له حكمات الدهر من غير كبرةٍ ... تشين فلا فانٍ ولا ضرع غمرُ
"أخذ التجارب، وهو مأخوذ من حكمة اللجام ش" فقلن لها: أنتِ تريدين سيداً. فقالت: الثالثة:
ألا هل تراها مرة وحليلها ... اشم كنصل السيف عين1 المهند
عليماً بأدواء النساءِ ورهطهُ ... إذا ما انتمى من أهل بيتي ومحتدي
فقلن لها: أنت تريدين ابن عم لك، فقد عرفته. وقلن للصغرى: ما تقولين? فقالت: لا أقول شيئاً، فقلن: لا ندعك وذاك؛ إنك اطلعت على أسرارنا وتكتمين سرك، فقالت: زوج من عود، خيرً من قعود.
قال: فخطبن، فزوجهن جمع، ثم أمهلهن حولاً، ثم زار الكبرى، فقال لها: كيف رأيت زوجك? قالت: خير زوج، يكرم أهله، وينسى فضل، قال لها:
ـــــــ
1 زيادات ر: "حليلها، بفتح اللام وبالضم، وأشم مثله".
فما مالكم? قالت: الإبل، قال: وما هي? قالت: نأكل لحمانها مزعاً1، ونشرب ألبانها جرعاً، وتحملنا وضعفتنا معاً. فقال لها: زوج كريم، ومال عميم.
ثم زار الثانية فقال لها: كيف رأيت زوجك? قالت: يكرم الحليلة، ويقرب الوسيلة. قال: فما مالكم? قالت: البقر، قال: وما هي? قالت: تألف الفناء، وتملأ الإناء، وتودك السقاء، ونساءُ مع نساءٍ. قال لها: رضيت وحظيت.
ثم زار الثالثة، فقال لها: كيف رأيت زوجك? فقالت: لا سمح بذر، ولا بخيل حكرٌ2، قال: مالكم? قالت: المعزى، قال: وما هي? قالت: لو كنا نولدها فطماً، ونسلخا أدماً، لم نبغ بها نعماً، فقال لها: جذو مغنية.
ثم زار الرابعة، فقال لها: كي رأيت زوجك? فقالت: شر زوج، يكرمُ نفسه، ويهين عرسه، قال لها: فما مالكم? قالت: شر مال؛ الضأن، قال لها: وما هن? قالت: جوف لا يشبعن، وهيم لا ينقعن، وصم لا يسمعن، وأمر مغويتهن يتبعن، فقال: "أشبه امرؤ بعض بزه"3 فأرسلها مثلاً.
قال علي بن عبد الله: قلت لابن عائشة: ما قولها: "وأمر مغويتهن يتبعن"? فقال: أما تراهن يمررن فتسقط الواحدة منهن في ماء أو وحل وما أشبه ذلك فيتبعنها إليه.
قول الثانية:
له جفنة تشقى بها النيب والجزر
فالنيب: جمع ناب، وهي المسنة، وإنما قيل لها: ناب، لطول نابها؛
قال أوس بن حجر:
تشبه نابا وهي في السن بكرةٌ
وتقدير "نيب" من الفعل "فعلٌ"،ولكن ما كان من ذوات الياء كسر له موضع الفاء من الفعل لتصح الياء، لأن الياء إذا سكنت وانضم ما قبلها كانت
ـــــــ
1 مزعا: قطعا.
2 الحكر هنا: المقتر.
3 زيادات ر: "أشبه امرأ بعض بزه، رواية"، يضرب للمتشابهين أخلاقا.
واواً، نحو: موقن وموسر، وإن فارقتها الضمة عادت إلى أصلها، نحو قولك: مياسير، ومثل ذلك أبيض وبيض، وإنما "بيض" "فعل" كـ"أحمر وحمر" و"أصفر وصفر"، ولكن كسرت النون لتصح الياء، ولو كانت واواً في الأصل لم تغير. نحو: "أسود وسودٍ".
وقوله: "ناب"، تقديرها فَعَلٌ متحركة العين، ولا تنقلب الياء ولا الواو ألفاً إلا وهماً في موضع حركة وما قبلهما مفتوح، نحو: باع وقال ورمى وغزا؛ لأن التقدير فعلَ، ولو كان على فَعْلٍ لصحت الياء والواو، كما تقول: بيع وقول، وفَعَلٌ قد يجمعونه على فُعْلٍ كقولهم: أسدٌ وأسدٌ، ووثنٌ ووثنٌ.
وقولها: "تشقى بها النيب والجزر" فإنما عطفت أحدهما على الآخر لأن من الإبل ما يكون جزوراً للنحر لا غير.
وأما قولها: "ولا ضرعٌ غمرُ" فالضرع: الضعيف، والغمر: الذي لم يجرب الأمور.
الحجاج والمهلب بن أبي صفرةويروى أن الحجاج لما ورد عليه ظفر المهلب بن أبي صفرة وقتله عبد ربه الصغير، وهرب قطري عنه تمثل فقال: لله در المهلب! والله لكأنه ماوصف لقيط الإيادي حيث يقول:
وقلدوا أمركم لله دركم ... رجب الذراع بأمر الحرب مضطلعاً
لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعاً
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعاً طوراً ومتبعاً
حتى استمرت على شزر مريرته ... مر العزيمة لا رثاً ولا ضرعاً
فقام إليه رجل فقال: أيها الأمير، والله لكأني أسمع هذه التمثيل من قطري في المهلب. فسر الحجاج بذلك سروراً تبين في وجهه:
وقولها:
كنصل السيف عين المهند
فالمهند، المنسوب إلى الهند.
وقولها: "من أهل بيتي ومحتدي" فالمحتد: الأصل، قال الشاعر:
وفي السر من قحطان أولاد حرةٍ ... عظامُ اللها بيض كرام المحاتد
وقوله: "مال عميم" يقول: جامع، أخذه من عمَّ يعمُّ.
وقوله: "جذو مغنية" فالجذو: جمع جذوه، وهي القطعة، وأصل ذلك في الخشب ما كان منه فيه نارٌ، وقال الله عز وجل: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} 1 وتجمع أيضاً جذاً، قال ابن مقبل:
باتت حواطب سلمى يلتمسن لها ... جزل الجذا غير خوارٍ ولا دعر
الحوار: الضعيف، والدعر: الكثير الثقب، يقال: عود دعر.
وقولها: "جوف لا يشبعن" تقول: عزاك الأجواف. و"هيم لا ينقعن"، الهيم: العطاش، يكون الواحد من هيم أهيم، ويقال في هذا المعنى: هيمان. وقال بعض المفسرين في قول الله عز وجل: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} 2 قال: هي الإبل العطاش، وقال ذو الرمة3:
فراحت الحقب لم تقصع صرائها ... وقد نشحن فلا ري ولا هيم4
ويقال: "قصع صارته" إذا روي، والصارة: شدة العطش، والنشوح: أن تشرب دون الري، يقال: نشح ينشح، ومثله: تغمر، إذا لم يرو. ويقال للقدح الصغير الغمر من هذا. وقال بعض المفسرين: الهيمُ: رمال بعينها، واحدتها هيماء، يا فتى.
وقولها: "لا ينقعن" أي لا يروين، يقال: ما نقعت ماشية بني فلان بري، إذا لم تبلغ من الماء حقها، ويقال للماء: النقع، ويقال: النقع، في غير هذا الموضع، للغبار، ويقال: أثاروا النقع بينهم. والنقع أيضاً: اسم موضع بعينه. قال الشاعر:
لقد حببت نعم إلينا بوجهها ... ماسكن ما بين الوتائر والنقع5
ـــــــ
1 سورة القصص 29.
2 سورة الواقعة 55.
3 زيادات ر: "يصف حميرا".
4 زيادات ر: "الحقب البيض الأعجاز من الحمير".
5 زيادات ر: "الوتائر، بالتاء منقوطة باثنتين من فوق"، الوتائر والنقع: موضعان.
والنقع: الصراخ، قال لبيد:
فمتى ينقع صراخ صادق ... يخلبوه1 ذات جرسٍ وزجلٍ
وقولها: "وصم لا يسمعن"، طريف من كلام العرب، وذلك أنه يقال لكل صحيح البصر ولا يعمل بصره: أعمى، وإنما يراد به أنه قد حل محل من لا يبصر البتة، إذا لم يعمل بصره، وكذلك يقال للسميع الذي لا يقبل: أصم، قال الله جلَّ ذكرهِ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} 2 كما قال جل ثناؤه: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 3 وكذلك: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} 4 وقوله عز وجل: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاء} 5
ًوتقول العرب: "أبلدُ ما يُرعى الضأن"، ويقال: أحمق من راعي ضأن ثمانين6.
وتحدث عمرو بن بحر، قال: كان يقال: لا ينبغي لعاقل أن يشاور واحداً من خمسة: القطان، والغزال، والمعلم، ورعي ضأن، ولا الرجل الكثير المحادثة للنساء.
وقيل في مثل هذا: لا تدع أم صبيك تضربه فإنه أعقل منها وإن كان طفلاً.
وقال الأحنف بن قيس: إني لأجالس الأحمق الساعة فأتبين ذلك في عقلي.
وقال جل ثناؤه في صفة النساء: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 7.
ـــــــ
1 كذا في الأصل، وفي ر: "يجلبوه".
2 سورة البقرة 18.
3 سورة محمد 24.
4 سورة النمل 80.
5 سورة البقرة 171.
6 زيادات ر: "قوله: أحمق من راعي ضأن ثمانين، المثل لكسرى في أعرابي خيره فاختار ذلك، ذكره أبو عبيد، وهذا غير ما أشار إليه أبو العباس".
7 سورة الزخرف 18.
نقد كثير للشعراءوحدثت أنعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة أتى المدينة فأقام بها، ففي ذلك يقول:
يا خليلي قد مللت ثوائي ... بالمصلى وقد شنئت البقيعا
فلما أراد الشخوص شخص معه الأحوص بن محمدٍ؛ فلما نزلا ودان صار إليهما نصيب، فمضى الأحوص لبعض حاجته، فرجع إلى صاحبيه، فقال: إني رأيت كثيراً بموضع كذا، فقال عمر: فابعثوا إليه ليصير إلينا، فقال الأحوص: أهو يصير إليكم? هو والله أعظم كبراً من ذلك؛ قال: فذا نصير إليه، فصاروا إليه، وهو جالس على جلد كبش، فوالله ما رفع منهم أحداً ولا القرشي. ثم أقبل على القرشي، فقال: يا أخا قريش، والله لقد قلت فأحسنت في كثيرٍ من شعرك، ولكن خبرني عن قولك:
قالت لها أختها تعاتبها ... لا تفسدن الطواف في عمر1
قومي تصدي له ليبصرنا ... ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها: قد غمزته فأبى ... ثم اسبطرت تشتد في أثري
والله لو قد قلت هذا في هرة أهلك ما عدا، أردت أن تنسب بها فنسبت بنفسك، أهكذا يقال للمرأة! إنما توصف بالخفر، وأنها مطلوبة ممتنعة، هلا قلت كما قال هذا? وضرب بيده على كتف الأحوص:
أدور ولولا أن رى أم جعفرٍ ... بابياتكم ما درت حيث أدور
وما كنت زواراً ولكن ذا الهوى ... إذا لم يزر لا بعد أن سيزور
لقد منعت معروفها أم جعفر ... وإني إلى معروفها لفقير
قال: فامتلأ الأحوص سروراً، ثم أقبل عليه فقال: يا أحوص، خبرني عن قولك:
فأن تصلي أصلك وإن تعودي ... لهر بعد وصلك لا أبالي
ـــــــ
1 زيادات ر: "كذا وقعت الرواية" "لاتفسدن" على النهى، والصحيح: "لتفسدن" على القسم، كأنها قالت: "والله لتفسدن".
أما والله لو كنت من فحول الشعراء لباليت؛ هلا قلت مثل ما قال هذا? وضرب بيده على جنب نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يظعن الركبُ ... وقل إن تملينا فما ملك القلبُ
قال: فانتفخ نصيب، ثم أقبل عليه فقال له: ولكن أخبرني عن قولك يا أسود:
أهيمُ بدعدٍ ما حييتُ وإن أمتْ ... فواحزاني من ذا يهيم بها بعدي
كأنك اغتممت ألا يفعل بها بعدك؛ ولا يكني، فقال بعضهم لبض: قوموا فقد استوت القرفة. وهي لعبة على خطوطٍ، فاستواؤها انقضاؤها.
قال أبو الحسن: الطبن هي السدر، فإذا زيد في خطوطه سمته العرب: القرفة، وتسميه العامة السدر.
كثير والأخطل عند عبد الملك بن مروانقال: وحدثت أن كثيراً دخل على عبد الملك بن مروان وعنده الأخطل، فأنشده التفت عبد الملك إلى الأخطل، فقال: كيف ترى? فقال: حجازي مجوع مقرور1، دعني أضغمه يا أمير المؤمنين، فقال كثير: من هذا يا أمير المؤمنين? فقال له: هذا الأخطل، فقال له كثير: مهلاً، فهلا ضغمت الذي يقول2:
لا تطلبن خؤولة في تغلب ... فالزنج أكرمُ منهم أخوالاً3
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك استه وتمثل الأمثالا
فسكت الأخطل فما أجابه بحرفٍ.
قال أبو العباس: سمعتُ من ينشدُ هذ الشعر:
والتغلبي إذا تنبح للقرى
وهو أبلغُ.
ـــــــ
1 مقرور: أصابه القر، وهو البرد.
2 حاشية الأصل: "هو جرير"، والبيتان في ديوانه 453،45.
3 زيادات ر: "أخوالا، منصوب على الحال، ومن زعم أنه تمييز فقد أخطأ".
أبيات نصيب في امرأة نزل عندها فأكرمتهقال: وخُبرت أن نصيباً نزل بامرأة تكنى أم حبيب، من أهل مللٍ، وكانت تضيف بذلك الموضع وتقري، ولا يزال الشريف قد نزل بها فأفضل عليها الفضل الكثير، ولا يزال الشريف ممن لم يحلل بها يتناولها بالبر، ليعينها على مروءتها، فنزل بها نصيب ومعه رجلان من قريش، فلما أرادوا الحرلة عنها وصلها القرشيان، وكان نصيب لا مال معه في ذلك الوقت، فقال لها: إن شئت فلك أن أوجه إليك بمثل ما أعطاك أحدهما، وإن شئت قلت فيك شعراً، فغزلت أم حبيبٍ1 فقالت: بل الشعر، فقال:
ألا حي قبل البين أم حبيب ... وإن لم تكن مِنا غداً بقريب
وإن لم يكن أني أحبك صادقاً ... فما أحدٌ عندي إذاً بحبيب
تهام أصابت قلبه مللية ... غريب الهوى، واهاً لكل غريب!
ـــــــ
1 زيادات ر: "أى مالت إلى أن يتغزل بها".
نصيب عند عبد الملك بن مروانوحدثت أن نصيباً أتى عبد الملك فأنشده، فاستحسن عبد الملك شعره وسر به، فوصله، ثم دعا بالغداء فطعم معه، فقال له بعد الملك: يا نصيب، هل لك فيما يتنادم عليه? فقال: يا مير المؤمنين، تأملني، قال: قد أراك، فقال: يا أمير المؤمنين، جلدي أسود، وخلقي مشوه، ووجهي قبيح، ولست في منصب، وإنما بلغ بي مجالستك ومؤاكلتك عقلي وأنا أكره يا أمير المؤمنين أن أدخل عليه ما ينقص. فأعجبه كلامه فأعفاه.
الوليد بن عبد الملك والحجاجوقال الوليد بن عبد الملك للحجاج في وفدةٍ وفدها عليه - وقد أكلا -: هل لك في الشراب? فقال: يا أمير المؤمنين، ليس بحرام ما أحللته، ولكني أمنع أهل عملي منه، وأكر أن أخالف قول العبد الصالح: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} 1، فأعفاه.
ـــــــ
1 سورة هود 88.
مسلمة بن عبد الملك ونصيبوقال مسلمة بن عبد الملك يوماً لنصيب: أمتدحت فلاناً! لرجل من أهله، فقال: قد فعلت، قال: أو حرمك? قال: قد فعل، قال: فهلا هجوته? قال: لم أفعل، قال: ولم? قال: لأني كنت أحق بالهجاء منه! إذ رأيته موضعاً لمدحي! فأعجب به مسلمة، فقال: اسألني، فقال: لا افعل، قال: ولِمَ? فقال: لأن كفك بالعطية أجود من لساني بالمسألة، فوهب له ألف دينارٍ.
في نقد الشعروحدثت أن الكميت بن زيدٍ أنشد نصيباً فاستمع له، فكان فيما أنشده:
وقد رأينا بها حوراً منعمة ... بيضاً تكامل فيها الدلُّ والشنبُ1
فثنى نصيب خنصره، فقال له الكميت: ما تصنع? فقال: أحصي خطأك، تباعدت في قولك: "تكمل فيها الدل والشنب".
هلا قلت كما قال ذو الرمة:
لمياء في شفتيها حوة لعسٌ ... وفي اللثاث وفي أنيابها شنبُ
ثم أنشده في أخرى:
كأن الغطامط من جريها ... أراجيز أسلم تهجو غفارا 2
فقال له: نصيب: ما هجت أسلم غفاراً قط، فاستحيا الكميت فسكت.
قال أبو العباس: والذي عابه نصيب من قوله: "تكامل فيها الدل والشنب".
قبيح جداً، وذلك أن الكلام لم يجر على نظم، ولا وقع إلى جانب الكلمة ما يشاكلها، وأول ما يحتاج إليه القول أن ينظم على نسق، وأن يوضع على رسم المشكلة.
وخبرت أن عمر بن لجإٍ قال لابن عم له: أنا أشعر منك، قال له، وكيف? قال: لأني أقول البيت وأخاه، وانت تقول البيت وابن عمه.
ـــــــ
1 الشنب: عذوبة الأسنان ورقتها.
2 الغطامط: اضطراب موج البحر، وفي زيادات ر: "وقعت الرواية" "من جريها"، وصوابه: "من غلبها"؛ لأنه يصف قدراً فيه لحم، فشبه غليان القدر وارتفاع اللحم فيه بالموج الذي يرتفع".
وأنشد عمرو بن بحر:
وشعر كبعر الكبش فرق بينه ... لسانُ دعيِّ في القريض دخيل
وبعر الكبش يقع متفرقاً، فمن ذلك قول ابنة الحطيئة له، لما نزل في بني كليب بن يربوع: تركت الثروة والدد، ونزلت في بني كليب - بعر الكبش.
يقال: بعرٌ وبعرٌ، وشعرٌ وشعرٌ، وشمعٌ وشمعٌ، ويقال للصدر: قص وقصص، وكذلك نهرٌ ونهرٌ.
وزعم الأصمعي أنه سأل أعرابياً، وهو بالموضع الذي ذكره زهيرٌ:
ثم استمروا وقالوا إن مشربكم ... ماء بشرقي سلمى فيدُ أو رككُ
قال الأصمعي: فقلت لأعرابي: أتعرف رككاً? فقال: لا، ولكن قد كان ههنا ماء يسمى ركاً.
فهذا ليست فيه لغتان، ولكن الشاعر إذا احتاج إلى الحركة اتبع الحرف المتحرك الذي يليه الساكنُ ما يشاكله، فحرك الساكن بتلك الحركة. فالعبد مناف بن ربع الهذلي:
إذا تجاوب نوح قامتا معه ... ضرباً أليماً بسبتٍ يلعج الجلدا1
يريد الجلد، فهذا مطردٌ.
ومن مذابهم المطرة في الشعر أن يلقوا على الساكن الذي يسكن ما بعده للتقييد حركةَ الإعراب، كما قال الراجز2:
أنا ابن ماوية إذ جد النقرْ
يريد النقر يا فتى، وهو: النقرُ بالخيل، فلما أسكن الراء ألقى حركتها على الساكن الذي قبلها3.
ـــــــ
1 زيادات ر: قال ابن القوطية: لعج الحب قلبه، والصرد جسده: أحرقه". والصرد شدة البرد.
2 زيادات ر: "قال ابن السيد: أحسبه لعبيد بن ماوية".
3 زيادات ر: "النقير": صويت باللسان، يسكن به الفرس إذا اضطرب بفارسه، قال امرؤ القيس:
أخفضه بالنقر لما علوته ... ويرفع طرفأ غير جاف غضيض
وشبيه بهذا قوله:
عجبت والدهر كثيرٌ عجبه ... من عنزي سبني لم أضربه
أراد: "لم أضربه"، يا فتى، فلما أسكن الهاء ألقى حركتها على الباء، وكان ذلك في الباء أحسن، لخفاء الهاء.
وقال أبو النجم:
أقولُ قرب ذا وهذا أزحلهُ
يريد أزحلهُ يا فتى.
وقال طرفة:
حابسي ربعٌ وقفتُ به ... لو أطيعُ النفسَ لم أرمهُ
ولم يلزمه رد الياء لما تحركت الميم، لأن تحركها ليس لها على الحقيقة، وإنما هي حركة الهاء.
وأما قول الشاعر:
حديث بني بدر إذا ما لقيتهم ... كنزو الدبى في العرفج المتقاربِ
فليس كقوله: "وشعر كبعرِ الكبش" ولكنه وصفهم بضؤولة الأصوات وسرعةِ الكلام وإدخال بعضه في بعض.
والذي يحمد الجهارة والفخامة.
لرجل يمدح الرشيدوأنشدت لرجل قال يمدح الرشيد:
جهير الكلام جهير العطاسِ ... جهير الرواء جهيرُ النغمْ
ويخطو على الأين خطو الظليمِ ... ويعلو الرجالَ بخلقٍ عممْ1
ويروى أن الرشيد كان يأتزر في الطواف فيذنب إزاره ويباعد بين خطاه، فإذا رجع بيده كاد يفتن من يراهُ، فعند ذلك مدح بهذا الشعر.
ـــــــ
1 زيادات ر: "الرجل هو العمانى الشاعر، وقوله: "عمم" أي جسيم؛ والأين: الإعياء، ويكون الأين الحية، وهي الأيم".
لعائشة وقد نظرت إلى رجل متماوتويروى أن أم الؤمنين عائشة رضي الله عنهانظرت إلى رجل متماوتٍ، فقالت: ما هذا? فقالوا: أد القراء، فقالت: قد كان عمر بن الخطاب قارئاً، فكان إذا قال أسمعَ، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع.
لعمر وقد نظر إلى رجل يظهر النسكويروى أن عمر بن الخطاب رحمه الله نظر إلى رجل مظهر للنسك متماوت، فخفقه بالدرة، وقال: لا تمتُ علينا ديننا، أماتك الله.
وفود الروم عند عبد الملك بن صالح العباسيويروى أن عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس أتته وفود من الروم، وقام السماطان، فأتي برج منهم، وعطس أحد من في السماطين فأخفى عطسته، فقال له عبد الملك لما انقضى أمر الوفد: هلا إذا كنت لئيم العطاس أتبعت عطستك صيحة حتى تخلع بها قلبَ العلج.
جهارة صوت العباسوكان العباس بن عبد المطلب رحمه الله، أجهر الناس صوتاً، ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما انهزم الناس يوم حنين: "يا عباس، اصرخ بالناس".
ويروى أن غارة أتتهم يوماً، فصاح العباس: يا صباحاه! فاستسقطت الحوامل لشدة صوته.
وقد طعن في قول النابغة الجعدي:
وأزجر الكاشح العدو إذا اغـ ... ـتابك عندي زجراً على أضم1
زجر أبي عروة السباع إذا ... أسفق أن يختلطن بالغنم2
وذلك أن الرواة احتملت هذا البيت على أنه كان يزجر الذئاب ونحوها مما يغير على الغنم، فيفتق مرارة السبع في جوفه.
فقال من يطعن في هذا: السبع أشد أيداً من الغنم، فإذا فعل ذلك بالسبع هلكت الغنم قبله. فقال من يحتج له: إن الغنم كانت قد أنست بهذا منه، والصوت الرائع أنسٌ لمن أنس به، كالرعد القاصف الذي لولا خشية صاعقته لم يفزع كبير فزع، ولو جاء أقل منه من جوف الأرض لذعر، ولم يبعد أن يقتل إذا أتى من حيث لم يعتد.
وجملة هذا البيت أنه وصف شدة صوت المذكور. وتأويله أنه من تكاذيب الأعراب.
ـــــــ
1 هذا البيت من زيادات ر.
2 زيادات ر: "يروى "زجر أبى عروة السباع"، بخفض السباع، كما قيل قيس الرقيات"، فصار على هذا الوجه يعرف بأبي عروة السباع، مثل ذلك".
للحسن وقد رأى رجلاً يجود بنفسه
وحدثت أن الحسن نظر إلى رجل يجود بنفسه فقال: إن أمراً هذا آخر لجدير بأن يزهد في أوله، وإن أمراً هذا أوله لجدير أن يخاف آخره.
وقيل لرجل من اشراف العجم في علته التي مات فيها: ما بك? قال: فكر عجبت، وحسرة طويلة، فقيل: مِمَّ ذاك? فقال: ما ظنكم بمن يقطع سفراً قفراً بلا زادٍ، ويسكن قبراً موحشاً بلا مؤنس، ويقدم على حكمٍ عادلٍ بلا حجةٍ!
وقال بعض المحدثين، وهو محمود الوراق:
بأي اعتذار أم بأية حجةٍ ... يقول الذي يدري من الأمر: لا أدري!
إذا كان وجه العذر ليس ببين ... فإن اطراح العذر خير من العذرِ
واعتذر رجل إلى سلم بن قتيبة من أمرٍ بلغه عنه، فعذره، ثم قال له: يا هذا، لايحملنك الخروج من أمرٍ تخلصت منه على الدخول في أمرٍ لعلك لا تخلص منه.
وقيل لخالد بن صفوان: أي إخوانك أحب إليك? فقال: الذي يسد خللي، ويغفر زللي، ويقبل عللي.
من أخبار عبد الله بن جعفروافتقد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب صديقاً له من مجلسه، ثم جاءه، فقال: أين كانت غيبتك? فقال: خرجت إلى عرض من أعراض المدينة مع صديق لي، فقال له: إن لم تجد من صحبة الرجال بُداً فعليك بصحبة من إن صحبته زانك، ون خففت له صانك، وإن احتجت إليه مانك1، وإن رأى منك خلة سدها، أو حسنة عدها، وإن وعدك لم يجرضك2، وإن كثرت عليه لم يرفضك، وإن سألته أعطاكَ، وإن أمسكت عنه ابتداكَ.
وامتدح3 نصيب عبد الله بن جعفر، فأمر له بخيل وإبل وأثاثٍ ودننير ودراهم، فقال له رجل: أمثل هذا الأسود يعطى مثل هذا المال? فقال له عبد الله [بن جعفر4]: ن كان أسود فإن شعره لأبيض، ون ثناءه لعربيٌّ، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلا ثياباً تبلى، ومالا يفنى، ومطايا تنضى، وأعطانا مدحاً يروى، وثناءً يبقى!.
وقيل لعبد الله بن جعفر إنك لتبذل الكثير إذا سُئلت، وتضيق في القليل إذا توجرت؟ فقال: إني أبذل مالي، وأضنُّ بعقلي.
ـــــــ
1 مانك: قام بما عليك من مئونة.
2 يريد لم يخلف وعدك.
3 س: "قال أبو العباس".
4 تكمله من س.
نبذ من أقوال الحكماءوقيل ليزيد بن معاوية: ما الجود? فقال: إعطاء المال من لا تعرف، فإنه لا يصير إليه حتى يتخطى من تعرف.
وخبرت عن رجل من الأنصار قال لابن عبد الرحمن بن عوف: ما ترك لك أبوك? قال: ترك لي مالاً كثيراً، فقال: ألا أعلمك شيئاً هو خير لك مما ترك لك1 أبوك?: نه لا مال لعاجز، ولا ضياع على جازم، والرقيقُ جمال وليس بمالٍ، فعليك من المال بما يعولك ولا تعوله.
ـــــــ
1 كلمة: "لك" ساقطة من ر، وهي في الأصل.
وقال معاوية: الخفض والدعة سعةُ المنزلِ وكثرةُ الخدمِ.
وقيل لخريم المري - وهو المنبز1 بخريم الناعم: ما النعمة? فقال: الأمن، فإنه ليس لخائف عيشٌ؛ والغنى، فإنه ليس لفقير عيشٌ؛ والصحة، فإنه ليس لسقيم عيشٌ. قيل: ثم ماذا? قال: لا مزيد بعد هذا.
وقال سلم بن قتيبة: الشباب الصحة، والسلطان الغنى، والمروءة الصبرُ على الرجال.
وقال المهلب بن أبي صفرة: العجب لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه. وكان يقول لبنيه: إذا غدا عليكم الرجلُ وراح مسلماً، فكفى بذلك تقاضياً.
وقال خالدُ بن عبد الله القسري: محض الجودِ ما لم تسبقه مسألة، وما لم تبعه من، ولم يزر به قصرٌ، ووافق موضع الحاجة.
وقال بعض المحدثين - وهو حبيب الطائي:
أسائل نصر لا تسله فإنه ... أحنُّ إلى الإرفاد منك إلى الرفد
وقال آخر - وهو أبو العتاهية:
لا تسألن المرء ذات يديه ... فليحفرنك من رغبت إليه
المرء ما لم ترزه لك مكرم ... فإذ رزأت المرء هُنت عليهِ
وكما يكون لديك من عاشرته ... فكذاك فارض بِأَن تكون لديه
ـــــــ
1المنبز: الملقب بلقب مكروه.
النخار العذري ومعاويةودخل النخارُ العذري على معاوية في عباءةٍ؛ فاحتقره معاويةُ، فرأى ذلك النخار في وجهه، فقال له: يا أمير المؤمنين، ليست العباءة تكلمك، إنما يكلمك من فيها. ثم تكلم فملأ سمعه، ثم نهض ولم يسأله، فقال معاوية: ما رأيت رجلاً أحقرَ أولاً ولا أجل آخراً منه1.
ـــــــ
1 كلمة "معاوية" ساقطة من ر.
محمد بن كعف القرظي وسليمان بن عبد الملكودخل محمد بن كعب القرظي على سليمان بن عبد الملك في ثياب رثةٍ، فقال له سليمان: ما يحملك على لبس مثل هذه الثياب? فقال: أكره أن أقول: الزهدُ، فأطري نفسي، أو أقول: الفقر، فأشكو ربي.
سالم بن عبد الله بن عمر وهشام بن عبد الملكوحدثني التوزي قال: دخل سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب على هشام بن عبد الملك في ثياب وعليه عمامة تخالفها، فقال له هشام: كأن العمامة ليست من الثياب! قال: إنها مستعارة، فقال له: كم سنك? قال: ستون سنة، قال: ما رأيت ابن ستين أبقى كدنة منك1، ما طعامك? قال الخبز والزيت، قال: أما تأجمهما2? قال: إذا أجمتهما تركتهما حتى أشتهيهما، ثم خرج من عنده وقد صدع، فقال: أترون الأحول لقعني بعينه، فمات من تلك العلة3.
ونظر أعرابي إلى رجل جيد الكدنة فقال: يا هذا، إني لأرى عليك قطيفة محكمة من نسج أضراسك.
ـــــــ
1 زيادات ر: "كدنة: قوم الجسم، قال ابن القوطية في الأفعال: كدنت الشفة كدونا اسودت: كدن البعير: كثر شحمه".
2 أجم الطعام: عافه وكرهه.
3 زيادات ر: "قال ابن الأعرابي ثم لقع فلان فلانا بعينه، وزلقه، وزلقه "بتشديد اللام" وأزلقة، وشقذه، وشوهه، ويقول الرجل إذا أجاد في عمله: لا تشوه عنى، أى لا تقل لي: أجدت فتصيبنى بالعين، ورجل معين، إذا أصيب بالعين، وشاه وشائه وشقذ وشقذان".
من أخبار أبي الأسود الدؤليودخل أبو الأسود الدؤلي1 علي عبيد الله بن زياد في ثياب رثةِ، فكساه ثياباً حساناً، فخرج وهو يقول:
كساك وما استكسيته فشكرته ... أخٌ لك يعطيك الجزيل وناصرُ
وإن أحق الناس إن كنت مادحاً ... بمدحك من أعطاك والعرض وافرُ
ـــــــ
1 زيادات ر: "اسم أبى الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو بن سفيان، وقيل عمرو بن جندل بن سفيان، وأمه من بنى عبد الدار، بصرى تابعى ثقة، من أصحاب على من كتابة".
وحدثني الرياشي قال: دخل أبو الأسود الدؤلي على عبيد الله بن زياد وقد أسن، فقال له عبيد الله يهزأ به: يا أبا الأسودِ؛ إنك لجميل، فلو تعلقت تميمة ترد عنك العيون، فقال أبو الأسود:
أفنى الشباب الذي أفنيت جدتهُ ... كر الجديدين من آتٍ ومنطلقِ
لم يتركا لي في طول اختلافهما ... شيئاً أخافُ عليه لذعة الحدقِ
قوله: " فلو تعلقت تميمةً " هي: المعاذة يعلقها الرجلُ.
قال ابن قيس الرقيات:
صدروا ليلة انقضى الحج فيهم ... طفلة زانها أغر وسيم
يتقي أهلها العيون عليها ... فعلى جيدها الرقى والتميمُ
وقال أبو ذؤيب:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمةٍ لا تنفعُ
وقوله: " لذعة الحدق " فهو من قولك: لذعته النار، إذا لفحته، ويقال: لذع فلانُ فلاناً بأدبٍ، إذا أدبه أدباً يسيراً، كأنه كالمقدار الذي وصفناه من النار.
وقول ابن قيس الرقيات: " زانها أغر وسيم " ، فالأغر: الأبيض - يعني الوجه، والوسيم: الجميل، والمصدر الوسامةُ والوسامُ.
لبعض المحدثين في الخضابوقال بعض المحدثين: ذكرناه بقول أبي الأسود:
قد كنت أرتاع للبيضاء في حلكٍ ... فصرت أرتاعُ للسوداء في يققٍ1
من لم يشب ليس مملاقاً حليلتهُ ... وصاحب الشيب للنسوان ذو ملقِ
قد كن يفرقن منه في شبيبته ... فصار يفرق ممن كان ذا فرقِ
إن الخضاب لتدليس يغش به ... كالثوب في السوق مطوياً على حرقِ
ويروى: "يطوى لتدليس على حرقِ".
وشبيهُ بهذا المعنى قول أبي تمام:
طال إنكاري البياض وإن عمر ... تُ شيئاً انكرتُ لونَ السوادِ
وحدثني الزيادي قال: قيل لأعرابي: ألا تخضب بالوسمة، فقال: لِمَ ذاك? فقال: لتصبو ليك النساء، فقال: أما نساؤنا فما يردن بنا بديلاً، وأما غيرهن فما نلتمس صبوتهن.
ـــــــ
1 اليقق: البياض.
للعتبيوقال العتبي:
وقائلة تبيض والغواني ... نوافرُ عن معالجة القتيرِ1
عليك الخطر علك أن تدنى ... إلى بيض ترائبهن حور2
فقلتُ لها المشيب نذير عمري ... ولست مسوداً وجه النذير
ـــــــ
1 زيادات ر: "ويروي "معالجة"، بكسر اللام، فمن فتح اللام جعله مصدراً، ومن كسر اللام فهي الجماعة التي تعالج ذلك الشيء".
2 الخطر: نبات يخضب به.
ليزيد بن المهلبيوقال آخر - وهو أبو خالد يزيد بن محمدٍ المهلبي:
صبغت الرأس ختلاً للغواني ... كما غطى على الريب المريبُ
أعلل مرةً وأساءُ أخرى ... ولا تحصى من الكبر العيوبُ
أسوف توبتي خمسين عاماً ... وظني أن مثلي لا يتوبُ
يقولم بالثقاف العودُ لدناً ... ولا يتقوم العودُ الصليبُ1
وقال مالك بن دينار: جاهدوا أهواءكم، كما تجاهدون أعداءكم. وكان يقول: ما أشد فطام الكبير.
وقال آخر:
دعي لومي ومعتبتي أماما ... فني لم أعود أن ألاما
وكيف ملامتي إذ شاب رأسي ... على خلقٍ نشأتُ به غلاما
وقيل لأعرابي: ألا تغير شيبك بالخضاب? فقال: بلى، ففعل ذاك مرة، ثم لم يعاود، فقيل له: لِمَ لا تعاود الخضاب? فقال: يا هناه، لقد شد لحيايَ فجلت أخالني ميتاً.
ـــــــ
1 الثقاف: آلة لتقويم الرماح.
لمحمود الوراق في الشيبوقال بعض المحدثين، وهو محمودٌ الوراق:
يا خاضب الشيب الذي ... في كل ثالثةٍ يعودُ
إن النصول إذا بدا ... فكأنه شيبُ جديدُ
وله بداهة لوعةٍ ... مكروهها أبداً عتيدُ1
فدع المشيب لما أرا ... د فلن يعود كما تريدُ
وقال محمودٌ أيضاً:
أليس عجيباً بأن الفتى ... يصاب ببعض الذي في يديه
فمن بين باكٍ له موجعٍ ... وبين معز مغذ إليه2
ويسلبه الشيب شرخ الشبابِ ... فليست يعزيه خلق عليه
وقال أيضاً:
يا خاضب الشيبة نح فقدها ... فإنما ندرجها في كفن
أما تراها منذ عاينتها ... تزيد في الرأس بنقص البدن
وقال أيضاً:
اغتنم غفلة المنية واعلم ... أنما الشيب للمنية جسرُ
كم كبير يوم القيامة يقصى ... وصغيرٍ له هنالك قدرُ
قال أبو الحسن: يقال "جسرُ وجَسرُ"، وهو مأخوذ من الناقة الكبيرة، يقال لها: "الجَسْرُ".
ـــــــ
1 يقال: عند الشىء إذا حضر، فهو عنيد.
2 مغذ: مسرع.
لأبي النجم العجليوقال أعرابي1:
قالت سليمى أنت شيخٌ أنزع2 ... فقلت ما ذاك وإني أصلعُ
ثم حسرتُ عن صفاةٍ تلمعُ ... فاقبلت قائلةً تسترجعُ
ما رأس ذا إلا جبين أجمعُ
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو أبو النجم".
2 أنزع، من النزع وهو انحسار مقدم شعر الرأس من جانبي الجبهة.
لرؤبةوقال آخر، وهو رؤبة:
قد ترك الدهر صفاتي صفصفا ... فصار رأسي جبهة إلى القفا
كأنه قد كان ربعاً فعفا ... يمسي ويضحي للمنايا هدفا
لنصر بن حجاج وقد حلق عمر رأسه
وكان نصر بن حجاج بن علاطٍ السلمي ثم البهزي جميلاً، فعثر عليه عمر بن الخطاب رحمه الله في أمر - الله أعلم به - فحلق رأسه، وكان أصلع، ولميبق من شعره إلا حفافُ1، كذلك قال الأصمعي فقال نصر بن حجاج:
لضن ابن خطاب علي بجمةٍ ... إذا رجلت تهتز مر السلاسلٍ
فضلع رأساً لم يصلعه ربهُ ... يرف رفيفاً بعد أسود جاثلٍ2
لقد حسد الفرعان أصلعُ لم يكن ... إذا ما مشى بالفرع بالمتخايلِ3
قوله: "بالفرع بالمتخايل" ليس أنه جعل بالفرع. من صلة المتخايل فيكون ذلك معناه: بالذي يختال بالفرع، فيكون قد قدم الصلة على الموصول، ولكنه
ـــــــ
1 حفاف: شعر حول الصلعة.
2 الجائل: الشعر الكثير الملتف.
3 الفرعان: جمع أفرع، وهو الوافى الشعر.
جعل قوله: بالفرع تبييناً، فصار بمنزلة "بِك" التي تقع بعد مرحباً للتبيين، وقد مر تفسير هذا مستقصى في الكتاب المقتضب.
وقال آخر:
تغطى نمير بالعمائم لؤمها ... وكيف يغطي اللؤم طي العمائم
فإن تضربونا بالسياط فإننا ... ضربناكم بالمرهفات الصوارمِ
وإن تحلقوا منا الرؤوس فإننا ... حلقنا رؤوساً باللها والغلاصمِ1
وإن تمنعوا منا السلاح فعندنا ... سلاحٌ لنا لا يشترى بالدراهمِ
جلاميد أملاء الأكف كأنها ... رؤوس رجالٍ حلقت بالمواسم
ـــــــ
1 اللها: جمع لهاة، وهي لحمة في أقصى الفم، والغلاصم: جمع غلصمة، وهي لحمة مابين الرأس والعنق.
من شعر يزيد بن الطثرية وأخبارهوكان يزيد بن الطثرية غزلا، وكان أخوه ثورٌ ذا مالٍ، فكان يزيد يأتي العطار فيقول: ادهني دهنة بناقةٍ من إبل ثورٍ، فيفعل ذلك. وكان ذا جمةٍ حسنةٍ، فإذا كثر عليه الدين هرب فتبدى1، فإذا ذكر حوشيتة - وهي امرأة كان يشبب بها2 - قدم فاقتطع من إبل أخيه ما يقضي به دينه، وفي ذلك يقول:
قضى غرمائي حب أسماء بعدما ... تخوفني ظلمُ لهم وفجورُ
فذلك دابي ما حييت وما مشى ... لثورٍ على ظهر الفلاة بعيرُ
فاستعدى عليه ثورٌ السلطان، فأمر بحلق رأسه، فقال:
أقول لثورٍ وهو يحلق لمتي ... بعقفاءَ مردودٍ عليها نصابها
ترفق بها يا ثور ليس ثوابها ... بهذا ولكن عند ربي ثوابها
ألا ربما يا ثور فرق بينها ... أنامل رخصات حديث خضابها
ـــــــ
1 تبدى: أقام بالبادية.
2 زيادات ر: "حوشية بنت أبى فديك بن قرة، ولها مع يزيد حديث طريف".
فتهلك مدرى العاج في مدلهمةٍ ... إذا لم تفرج مات غما صؤابها1
فجاء بها ثورٌ ترف كأنها ... سلاسلُ برقٍ لينها وانسكابها
ورحت برأسٍ كالصخيرةِ أشرفت ... عليها عقاب ثم طارت عقابها
خدارية كالشرية الفرد جادها ... من الصيف أنواء مطير سحابها2
ـــــــ
1 فتهلك، قال المرصفى. "يريد تضل" والصواب: بيض القملة، والجمع صئبان.
2 خدارية. وصف للمة، وهي شدة السواد، والشرية: النخلة تنبت من النواة، والفردة: المنفردة "المرصفى".
باب
لقيس بن عاصم المنقريقال رجل من المتقدمين، وهو قيس بن عاصم المنقري:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالكٍ ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد1
إذا ما أصبتِ الزاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني غير آكله وحدي
قصيا كريماً أو قريباً فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ... وما من خلالي غيرها شيمة العبدِ
غيرها استثناءٌ مقدم. وقد مضى تفسيره.
وقوله: "قصيا كريماً" من طريف المعاني، وذلك أنه لم يحتج إلى أن يشترط في نسبته الكرم، لأنه قد ضمن ذلك، واشترط في القصي أن يكون كريماً، لأنه كره أن يكون مواكله غير كريمٍ.
ـــــــ
1 البردان: ثوبان لبسهما عامر بن أحيمر في مجلس النعمان بن المنذر. والورد، لون بين الحمرة والصفرة
لجرير يهجو بني هزانوهذا ليس من الباب الذي ذكره جريرٌ، حيث يقول في هجائه بني هزان:
ضيفكم جائعٌ إذ لم يبت غزلا ... وجاركم يا بني هزان مسروقُ
رأيت هزانَ في أحراجِ نسوتها ... رحبُ وهزانُ في أخلاقها ضيقُ
يحيى بن نوفل يهجووقال آخر من المحدثين، وهو يحيى بن نوفل، أنشده دعبل:
كنت ضيفاً ببرمنايا لعبـ ... ـد الله، والضيف حقهُ معلومُ
فانبرى يمدح الصيام إلى أن ... صمت يوماً ما كنت فيه أصومُ
ثم أنشا يستام برذوني الور ... د ملحاً كما يلحُ الغريمُ
[قال الأخفش: يروي برذوني الزرد وهو الأصفر].
ولعمري إن ابن قيلة إذ يستام برذون ضيفه للئيمُ
لأبي دلامة بن الجونوقال رجل1، أنشدنيه السجستاني، يقول لان دعلج، وكان ابن دعلج يتولى بني تميم:
إذا جئت الأمير فقل سلامُ ... عليك ورحمة الله الرحيم
وأما بعد ذاك فلي غريم ... من الأعراب قبح من غريم!
لزوم ما علمتُ بباب داري ... لزوم الكهف أصحابُ الرقيم
لهمائة علي ونصف أخرى ... ونصف النصف في صك قديم
دراهم ما انفعت بها ولكن ... حبوت بها شيوخ بني تميم
روى2 أبو الحسن:
أتوني في العشيرة يسألوني ... ولم أكُ في العشيرةِ بالمليمِ
قال أبو الحسن: لم يعرف أبو العباس هذا البيت الأخير، وهو صحيح.
وجاور قيس بن عاصم بن سنان بن خالدٍ بن منقر بن عبيد تاجراً خماراً، فشرب شرابهُ، وأخذ متاعه، ثم أوثقه، فقال: افدِ نفسكَ.
وقال في ذلك:
وتاجرٍ فاجرٍ جاء الإله به ... كأن عثنونه أذناب أجمالي
قال ذلك؛ لأن ذنب البعير يضرب إلى الصهبةِ، وفيه استواء، وهو يشبه اللحية.
ـــــــ
1 قال المرصفى: "هو أبو دلامة بن الجون".
2 ر: "زاد".
للنمر بن تولبوقال النمرُ بن تولبٍ:
إذا كنت في سعدٍ وأمكَ منهم ... غريباً فلا يغررك خالك من سعدِ
فإن ابن أخت القوم مصفى إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله بابٍ جلدِ
قيس بن عاصم وبنو منقرواستعمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيس بن عاصم على صدقات بني سعدٍ، فتوفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقسمها قيس بعد في بني منقرٍ، وقال:
من مبلغٌ عني قريشاً رسالةً ... إذا ما أتتها محكماتُ الودائعِ
حبوت بما صدقت في العام منقراً ... وأيأست منها كل أطلس طامعِ
من أخبار أبي خراش الهذلي وشعرهوجاور عروة بن مرة أخو أبي خراشٍ الهذلي ثمالة من الأزد، فجلس يوماً بفناء بيته آمناً يخاف شيئاً، فاستدبره رجلٌ منهم من بني بلالٍ بسهم، فقصم صلبه، ففي ذلك يقول أبو خراشٍ:
لعن الإله وجوه قومٍ رضعٍ ... غدروا بعروة من بني بلالٍ
وأسر خراش بن أبي خراشٍ؛ أسرته ثمالة، فكان فيهم مقيماً، فدعا آسره يوماً رجلاً منهم للمنادمة، فرى ابن أبي خراشٍ موثقاً في القد، فأمهل حتى قام الآسر لحاجة، فقال المدعو لابن أبي خراشٍ: من أنت? قال: أنا أبن أبي خراشٍ، فقال: كيف دليلاكَ? قال: قطاةٌ، قال: فقم فاجلس ورائي، وألقى عليه رداءه، ورجع صاحبهُ، فلما رأى ذلك أصلت بالسيف، وقال أسيري. فنثل1 المجير كنانته، وقال: والله لأرمينك إن رمته، فني قد أجرته. فخلى عنه، فجاء إلى أبيه، فقال له: من أجارك? فقال: والله ما أعرفه، فقال أبو خراشٍ، وقال الرواة: لا نعرفُ أحداً مدح من لا يعرف غير أبي خراش:
حمدتُ إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراشٌ وبعض الشر أهون من بعضِ
فوالله لا نسى قتيلاً رزيته ... بجانب قوسي ما مشيت على الأرضِ
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... يوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنه قد سل عن ماجد محضِ
ولم يك مثلوج الفؤاد مهيجاً ... أضاع الشباب في الربيلة والخفض2
ـــــــ
1 نثل كنانته: استخرج ما فيها من النبل.
2 البيتان بين علامتي الزيادات لم يردا في نسخة الأصل، وهما في ر،س . والربيلة: السمن. والخفض: الدعة ولين العيش.
ولكنه قد لوحته مخامص ... على أنه ذو مرةٍ صادق النهضِ
كأنهم يسعون في إثر طائر ... خفيف المشاش عظم غير ذي نحضِ1
يبادر جنح الليل فهو مهابذ ... يحث الجناح بالتبسط والقبض
قوله:
قبح الإله وجوه قوم رضع
فهو جماعة راضع. وقوم يقولون: هو توكيد للئيم، كما يقولون: جائع نائع، وحسن بسن، وعطشان نطشان، وأجمع أكنع. وقوم يقولون الراضع هو الذي يرتضع من الضرع لئلا يسمع الضيف أو الجار صوت الحلب فيطلب منه.
وتديق ذلك ما أنشدناه أبو عثمان عمرو بن بحرٍ لرجلٍ من الأعراب ينسب ابن عم له إلى اللؤم والتوحش:
أحب شيءٍ إليه أن يكون له ... حلقوم وادٍ له في جوفهِ غارُ
لا تعرف الريح ممساه ومصحبه ... ولا يشب إذا أمسى له نارُ
لا يحلب الضرع لؤماً في الإناء ولا ... يرى له في نواحي الصحن آثار
وقوله: كيف "دليلاك" فهي كثرة الدلالة، و"الفعيلي" إنما تستعمل في الكثرة، ويقال: القتيتي لكثرة النميمة، ويقال: الهجيري لكثرة الكلمة المترددة على لسان الرجل، يقال: ذكرك هجيراي، أي هو الذي يجري على لساني، وفي الحديث: "كان هجيري أبي بكر الصديق رحمه الله بلا إله إلا الله" ويقال: كان بينهم رميا، لكثرة الرمي، وكذلك كل ما أشبه هذا.
وقوله: "بجانب قوسي" فهو بلد تحله ثمالة بالسراة.
وقوله: "بلى إنها تعفو الكلوم" فهي الجراح والآثار التي تشبهها، قال جرير:
تلقى السليطي والأبطال قد كلموا ... وسط الرجال سليماً غير مكلومِ2
ـــــــ
1 المشاش: رءوس العظام.
2 السليطى: نسبة إلى سليط، وهو كعب بن الحارث بن يربوع.
وينشد: "وسط الرجال". وتعفو تدرسُ.
وقوله: "عظمه غير ذي نحض"، النحض: اللحم، يقال: يأكل ويروي الرجال محضاً.
وقوله: "فهو مهابذ" يقول: مجتهد. وهذيل فيها سعي شدي، وفي جماعة من القبائل التي تحل بأكناف الحجاز.
من أخبار الحطيئة وذكر المختار من شعرهولقي الزبرقان بن بدر - وهو قاصد بصدقات قومه إلى أبي بكر الصديق رحمه الله - الحطيئة في طريقه، فقال له الزبرقان: من أنت? فقال: أنا أبو مليكة، أنا حسب موضوع، فقال له الزبرقان: إني أريد هذا الوجه، ومالك منزلٌ، فامض إلى منزلي بهذا السهم، فسل عن القمر بن القمر، وكن هناك حتى أود إليك، ففعل فأنزلوه وأكرموه، فأقام فيهم فحسدهم1 عليه بنو عمهم من بني قريع، وذلك أن الزبرقان من بني بهدلة بن عوف بن كعب بن سعدٍ بن زيد مناة بن تميم، وحاسدوه بنو قريع بن عوف بن كعب بن سعدِ، ولم يكن لعوف إلا قريقع وعطارد وبهدلة. وكان الذين حسدوه منهم بنو لأي بن شماس بن أنف الناقة بن قريع فدسوا إلى الحطيئة: أن تحول إلينا نعطط مائة ناقةٍ، ونشد كل طنب2 من أطناب بيتك بجلة3 بحونةٍ، قال: فأنى لي بذلك! قالوا: إنهم يريدون النجعة فإذا احتملوا فتخلف عنهم، ثم دسوا إلى امرأة الزبرقان من خبر بأن4 الزبرقان إنما قدم هذا الشيخ ليتزوج ابنته، فقدح ذلك في قلبها، فلما تحمل القوم5 تخلف الحطيئة، فاحتمله القريعيون، فبنوا له ووقوا له، فلما جاء الزبرقان صار إليهم، فقال: ردوا علي جاري، فقالوا: ليس لك بجارٍ وقد طرحته؛ فذلك حيث يقول6 الحطيئة:
ـــــــ
1 س: "فحسده".
2 الطنب: حبل تشد به الخيمة.
3 الجلة: وعاء من خوص يوضع فيه التمر.
4 س: "أن الزبرقان".
5 س: "احتمل القوم".
6 س: "قول الحطيئة".
وإن التي نكبتها1 عن معاشرٍ ... علي غضاب أن صددت كما صدوا2
أتت آل شماسٍ بن لأيٍ وإنما ... أتاهم بها الأحلام والحسبُ العد
فإن الشقي من تعادي صدروهم ... وذا الجد من لانوا إليه من ودوا3
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكمُ ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
ون كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وإن قال مولاهم على جل حادثٍ ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم، ردوا
وتعذلني أفناء سعدٍ عليهم ... وما قلت إلا بالذي4 علمتُ سعدُ
قوله: "جلة بحونة": أي خمة، يقال ذلك للناقة والنخلة إذا استفحلت وطالت.
وقوله: نكبتها يقول: عدلت بها.
وقوله: "والحسب العدُّ" معناه: الجليل الكثير، وأصل ذلك في الماء: يقال بئر عد، إذا كانت ذات مادة من العيون لا تنقطع وكل ماء ثابت فهو عد.
وقوله:
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها
يقول: ثقال لا يبلغ آخرها، وأصل الأناة من التأني والانتظار، يقول: لا يبلغ آخرها فتسفه.
وقوله:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
وإن شئت قلت "البنا" فهما مقصوران، يقال: بنى بنية وبُنية فجمع بنيةٍ بنى
ـــــــ
1 س: "الذى" تحريف.
2 نكبتها: عدلت بها.
3 س: الحظ والبخت.
4 س: "بالتى".
وجمع بنيةٍ بنى فبنيةٌ وبنى ككسرةٍ وكسرٍ، وبنيةٌ وبنى كظلمة وظلم، فأما المصدر من بنيت فممدود، يقال بنيته بناء حسناً،وما أحسن بناءك.
وقوله: "وإن عاهدوا أوفوا" أوفى، أحسن اللغتين، يقال وفى وأوفى. قال الشاعر – فجمع [بين1] اللغتين:
أماابن بيض فقد أوفى بذمته ... كماوفى بقلاص النجم حاديها2
وفي القرآن: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} 3، وقال الله تبارك وتعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 4 وقال عز وجل: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} 5.
فهذا كله على أوفى. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما روي من أنه قتل مسلماً بمعاهد، وقال: "أنا أولى من أوفى بذمته".
وقال السموأل في اللغة الأخرى:
وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا عاهدت أقواماً وفيت6
وقال المكعبر الضبي:
[قال أبو الحسن: حفظي "المكعبر"]:
وفيت وفاء لهم ير الناس مثله ... بتعشار إذ تحبو إلي الأكابر7
وقوله:
وإن كانت النغماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
يقول ما قال جرير مثله:
وإني لأستحيي أخي أن أرى له ... علي من الحق الذي لا يرى ليا
يقول: أستحيي أن أرى نعمته علي ولا يرى على نفسه لي مثلها.
ـــــــ
1 تكمله من س.
2 ابن بيض، بفتح الباء وكسرها: رجل تاجر مكثر، كان لقمان بن عاد يجيزه على خراج يؤدية إليه كل عام، فلما حضرته الوفاة قال لولده: لا تجاورن لقمان، وسر بمالك وأهلك، فإذا صرت إلى عقبة كذا فضع حقه عليها، فجاء لقمان فأجده وانصرف. حكاه المرصفى عن أبي زيد.
3 سورة آل عمران 76.
4 سورة النحل 91.
5 سورة البقرة 177.
6 س: "إذا ماخان أقوات وقيت".
7 تعشار: موضع بالدهناء.
وقوله: "على جل حادث" فهو الجليل من الأمر، ويقال: فلان يدعى للجلى، قال طرفة:
وإن أدع للجلى أكن من حماتها1
وفيهم يقول الحطيئة2:
لقد مريتكم لو أن درتكم ... يوما يجيء بها مسحي وإبساسي
لما بدا لي منكم غيب أنفسكم ... ولم يكن لجراحي فيكم آسي
أزمعت يأساً مبيناً من نوالكم ... ولا ترى طارداً للحر كالياس
ما كان ذنب بغيض لا أبالكم ... في بائس جاء يحدوا آخر الناسِ
جارٍ لقوم أطالوا هون منزلهِ ... وغادروه مقيماً بين أرماسِ
ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنيابٍ وأضراسِ
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناسِ
قوله: "لقد مريتكم" أصل، المري المسح، يقال مريت الناقة، إذا مسحت ضرعها لتدر، ويقال: مرى الفرس والناقة إذا قام أحدهما على ثلاثٍ ومسح الأرض بيده الأخرى، قال الشاعر:
إذا حط عنها الرحل ألقت برأسها ... إلى شذب العيدان أو صنفت تمري3
وهذا من أحسن أوصافها.
وقال بعض المحدثين يصف برذوناً بحسن الأدب4.
وإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك اللجام إلى انصراف الزائر5
ـــــــ
1 تمامة:
وإن تأتك الأعداء بالجهد فاجهد
2 كلمة "الحطيئة" ساقطة من س.
3 شذب العيدان: ما تفرق منها، الواحد شذبة.
4 زيادات ر: "الشعر لمحمد بن يزيد" من ولد مسلمة بن عبد الملك، يصف فرسه، وقبله:
عودته فيما أزور حبابي ... إهماله وكذاك كل مخاطر
5 القربوس: حنو السرج، العنان: سير اللجام الذي تمسك به.
ويقال: مراه مائة سوطٍ ومائة درهم؛ إذا أوصل ذلك إليه، ولمراهُ موضع آخر، ومعناه مراه حقه؛ إذا دفعه عنه ومنعه منه، وقد قرىء {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} 1 ، أي تدفعونه، وعلى في موضع عن قال العامري2:
إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
وبنو كعب بن ربيعة بن عامر يقولون: رضي الله عليك.
وأما الإبساس فأن تدعو الناقة باسمها، أوتلين لها الطريق إلى الحلب، بقول أو مسح أو ما أشبه ذلك، فذا كانت الناقة تدر على الدعاء والملق قيل: ناقة بسوسُ، وذلك من صفاتها في حسن الخلق.
وقوله:
ولم يكن لجراحي فيكم آسي
يقول: مداوٍ، الآسي: الطبيب، قال الفرزدق يصف شجة:
إذا نظر الآسون فيها تقلبت ... حماليقهم من هول أنيابها العصل3
والإساء الدواء، ممدودٌ، وقال الحطيئة:
هم الآسون أم الرأس لما ... تواكلها الأطبة والإساءُ
فأما الأسي فمقصور، وهو: الحزن، ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 4 وقال العجاج:
يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا ... قال نعم أعرفهُ، وأبلسا5
وأنحلبت عيناه من فرط الأسى
فإذا قلت: "الأسى" قصرت أيضاً، وهو جمع أسوة، يقال فلان أسوتي وقدوتي. قال الله جل وعزَّ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 6.
ـــــــ
1 سورة النجم 12.
2 زيادات ر: "هو القحيف العقيلى".
3 العصل: جمع أعصل، وهو المعوج من كل شيء فيه صلابة.
4 سورة المائدة 68.
5 أبلسا، من الإبلاس وهو الهم والحزن.
6 سورة الأحزاب 21.
والرَّمس: التراب، يقال: رمسَ فلانٌ في قبره.
وأشعار الحطيئة في هذا الكتاب كثيرة، ولولا أنها معروفة مشهورة لأتينا على آخرها، ولكنا نذكر منها شيئاً مختاراً.
فمن ذلك قوله:
جزى الله خيراً والجزاء بكفه ... على خير ما يجزي الرجال بغيضا
فلو شاء إذا جئناه فلم يلم ... وصادف منا في البلاد عريضا
يقول: كثرت محاسنه حتى كذب ذامه، فاستغنى عن أن يكثر مادحه، ثقة بأن هاجيه غير مصدقٍ، فاعتبر هذا الكلام، فإنك تجده رأساً في بابه.
ومن ذلك قوله:
وإني قد علقتُ بحبل قوم ... أعانهم على الحسب الثراء
إذا نزل الشتاء بجار قوم ... تجنب جار بيتهم الشتاءُ
همُ الآسون أم الرأس لما ... تواكلها الأطبة والإساءُ
ثم قال يخاطب الزبرقان ورهطه:
ألم أك نائياً فدعوتموني ... فجاء بي المواعد والدعاءُ
فلما كنت جاركم أبيتم ... وشر مواطن الحسب الإباءُ
ولما كنت جارهم حبوني ... وفيكم كان لو شئتم حباءُ
فلما أن مدحت القوم قلتم ... هجوت، وهل يحل لي الهجاءُ!
ولم أشتم لكم حسباً ولكن ... حدوت بحيث يستمع الحداءُ
ويروى أن الحطيئة - واسمه جرول بن أوس ويكنى: أبا مليكة - مر بحسان بن ثابتٍ وهو ينشدُ:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
[ش: أدخله سيبويه رحمه الله على أن "الجفنات" من الجمع الكثير].
فالتفت إليه، فقال: كيف ترى? فقال: ما أرى بأساً، قال حسان: انظروا إلى [هذا1] الأعرابي يقول: ما أرى بأساً، أبو من? قال: أبو مليكة، قال حسان: ما كنت علي أهون منك حيث اكتنيت بامرأة! ما أسمك? قال: الحطيئة، قال: امضِ بسلامٍ.
وكان الحطيئة في حبس عمر بن الخطاب رحمه الله، باستدعاء الزبرقان عليه في هذه القصة، ولعمر يقول:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرح ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر2
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النُّهى البشر
ما آثروك بها إذ قدّموك لها ... لكن بك استأثروا إذ كانت الأثر
ويرى عن أبي زيد الأنصاريّ أنه قال: ويرى الأثر والواحدة أثرة وإثرة؛ ومعناه الاستئثار.
فرقّ له عمر فأخرجه،فيروى أنّ عمر رحمه الله دعا بكرسيّ فجلس عليه، ودعا بالحطيئة فأجلسه بين يديه، ودعا بإشفى وشفرة3، يوهمه أنه على قطع لسانه، حتى ضجّ من ذاك، فكان فيما قال له الحطيئة: يا أمير المؤمنين؛ إني والله قد هجوت أبي وأمي، وهجوت امرأتي، وهجوت نفسي. فتبسم عمر رحمه الله، ثم قال: فما الذي قلت? قال: قلت لأبي وأمي - والمخاطبة للأمّ:
ولقد رأيتك في النساء فسؤتني ... وأبا بنيك فساءني في المجلس
ـــــــ
1 تكملة من س.
2 ذو مرخ: واد بالحجاز.
3 الإشفى: مثقب للأساكفة يثقبون به الجلد، والشفرة: السكين العريضة.
وقلت لها:
تنحّي فاجلسي منّي بعيداً ... أراح الله منك العالمينا
أغربالاً إذا استودعت سرّاً ... وكانوناً على المتحدّثينا1
وقلت لامرأتي:
أطوّف ما أطوّف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع
فقال له عمر رحمه الله: فكيف هجوت نفسك? فقال: اطّلعت في بئر فرأيت وجهي فاستقبحته، فقلت:
أبت شفتاي اليوم ألاّ تكلّما ... بسوء فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهاً قبّح الله خلقه ... فقبّح من وجه وقبّح حامله
ـــــــ
1 زيادات ر: "قوله: كانونا، قيل: الكانون: التنمام، وقيل: الثقيل، وقيل: الذي إذا دخل على قوم كنوا حديثهم منه، وقيل: هو المصطلى، وقيل: هو كانون النار؛ لأنه...ويحرقهن".
المثنى بن معروف مع أبي جبر الفزاريونزل أعرابي من طيىء، يقال له المثنّى بن معروف بأبي جبر الفزاري، فسمعه يوماً يقول: والله لوددت أني أبيت الليلة خالياً بابنة عبد الملك بن مروان، فقال له المثنّى: أحلالاً أم حراماً? فقال: ما أبالي، فوثب عليه فضرب رأسه برحالة1، ثم انتقل وهو يقول:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... على النأي أنّي قد وترت أبا جبر
كسرت على اليافوخ منه رحالة ... لنصر أمير المؤمنين وما يدري
على غير شيء غير أنّي سمعته ... بنى بنساء المسلمين بلا مهر
ـــــــ
1 الرحالة: ثوب يغشى بالجلد.
من أخبار الحجاجويروى: أنّ الحجاج [بن يوسف1] جلس لقتل أصحاب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقالم رجل منهم فقال: أصلح الله الأمير! إنّ لي عليك حقّا، قال: وما حقّك? قال: سبّك عبد الرحمن يوماً فرددت عليه، قال: من يعلم ذاك?
ـــــــ
1 تكمله من س.
قال: أنشد الله رجلاً سمع ذاك إلاّ شهد به، فقام رجل من الأسراء فقال: قد كان ذاك أيها الأمير، قال: خلّوا عنه، ثم قال للشاهد: فما منعك أن تنكر كما أنكر؟ قال: لقديم بغضي إيّاك؛ قال: ويخلّى عنه لصدقه.
وقال عمر بن الخطاب لرجل - وهو أبو مريم السّلوليّ - : والله لا أحبّك حتى تحبّ الأرض الدّم،. قال: أفتمنعني حقّا؟ قال: لا، قال: فلا بأس، إنّما يأسف على الحبّ النساء.
وقال الحجاج لرجل من الخوارج، فجعلت لا تنظر إليه؛ وكان يزيد بن أبيمسلم يرى رأي الخوارج ويكتم ذاك، فأقبل على المرأة فقال: انظري إلى الأمير، فقالت: لا أنظر إلى من لا ينظر الله إليه. فكلّمها الحجاج وهي كالسّاهية، فقال لها يزيد: اسمهي ويلك من الأمير! فقالت: الويل لك أيها الكافر الرّدّيّ!.
قال أبو العباس: والرّدّيّ عند الخوارج الذي له عقدهم ويظهر خلافه رغبة في الدنيا.
وكان صالح بن عبد الرحمن كاتب الحجاج وصاحب دواوين العراق والذي قلب الدواوين إلى العربية، ثم كان على خراج العراق أيام ولي يزيد بن المهلّب العراق فأشجى يزيد، وقد كان يرى رأي الخوارج فكايده يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج، فأشار على الحجاج أن يأمره بقتل جوّاب الضّبّيّ، وهو رأس من رؤوس الخوارج، وقال يزيد: إن فعل برئت منه الخوارج وقتلته، وإن أمسك قتله الحجاج، فقتله.
وخبّرت أنه قال: والله ما قتلته رغبة في الحياة، ولكنّي خفت يسبي الحجاج بناتي، وكان يقول بعد: إنّي حين أقتل جوّاباً لحريص على الدنيا، فلما عذّبه عمر بن هبيرة في خلافة يزيد بن عاتكة رمي به على قمامة، وهو لمآبه. فسمع يحكّم عليها، وحكّم مالك بن المنذر بن الجارود، وهو بآخر رمق في سجن هشام بن عبد الملك.
ودخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك، وكان دميماً، فلما رآه سليمان قال: قبح الله رجلاً أجرّك رسنه، وأشركك في أمانته! فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين، رأيتني والأمر لك وهو عنّي مدبر، ولو رأيتني والأمر عليّ مقبل لاستكبرت منّي ما استصغرت، واستعظمت منّي ما استحقرت، فقال: أترى الحجاج استقرّ في قعر الجحيم بعد! فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل ذلك في الحجاج، فإنّ الحجاج وطّأ لكم المنابر، وأذل لكمالجبابر، وهو يجيء يوم القيامة عن يمين أبيك، وعن يسار أخيك فحيث كانا كان.
باب
من تكاذيب الأعرابقال أبو العباس: وهذا باب من تكاذيب الأعراب.
حدّثني أبو عمر الجرميّ قال: سألت أبا عبيدة عن قول الرّاجز:
أهدّموا بيتك لا أبا لكا ... وأنا أمشي الدّألى حوالكا!
فقلت: لمن هذا الشعر? فقال [تقول العرب1]: هذا يقوله الضب للحسل، أيام كانت الأشياء تتكلم.
الدألي: مشي كمشي الذئب، يقال: هو يدأل في مشيته، إذا مشى كمشية الذئب، من قول امرىء القيس:
أقب حثث الركض والدالان2
ومن قال في بيت ابن عتمة الضبي:
[حقيبة رحلها بدن وسرج]3 ... تعارضه مرببة دؤول
فنما أراد هذا، ومن قال "ذؤول" فإنماأراد السرعة، يقال: مر يذأل، إذا مر يسرع.
وقوله "حوالكا" يقال: هو يطوف واله وحوله وحواليه. ومن قال: حواليه بالكسر: فقد أخطأ، وفي القرآن {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} 4 وحواليه: تثنية حوال، كما تقول: حنانية، الواحد حنان، قال الشاعر:
فقالت حنان ما تيى بك ههنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف?
والحنان: الرحمة، قال الله عز وجل: {وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا} 5. وقال الشاعر: [وهو الحطيئة6] لعمر بن الخطاب رحمه الله:
ـــــــ
1 تكمله من س.
2 صدره:
على ربز يزداد عفوا إذا جرى
3 مابين العلامتين تكمله من ر.
4 سورة النمل 8.
5 سورة مريم 13.
6 تكمله من س.
تحنن علي هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا
وقال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
قال أبو العباس: وحدثني غير واحدٍ من أصحابنا، قال: قيل لرؤية: ما قولك:
لو أنني عمرت سن الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل
والصخر مبتل كمثل الوحل
ما زمن الفطحلي? قال: أيام كانت السلام رطاباً1.
قوله: "سن الحسل" مثل؛ تضربه العرب في طول العمرِ2.
وأنشدني رجل من بني العنبر، أعرابي فصيح، لعبيد بن أيوب العنبري:
كأني وليلى لم يكن حل أهلنا ... بواد خصيب والسلام رطابُ
وحدثني سليمان بن عبد الله عن أبي العميثل مولى العباس بن محمد: تكاذب أعرابيان فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس لي، فإذا [أنا3] بظلمة شديدة، فيممتها حتى وصلت إليها، فإذا قطعة من الليل لم تنتبه، فما زلت أحمل بفرسي عليها حتى أنبهتها، فانجابت؛ فقال الآخر: لقد رميت ظبياً مرة بسهم فعدل الظبي يمنة، فعدل السهم خلفه، فتياسر الظبي، فتياسر السهم خلفه، ثم علا الظبي فعلا السهم خلفه، فانحدر فانحدر عليه حتى أخذه.
وتزعم الرواة أن عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب قال لبني الجون الكنديين يوم جبلة: إن لي عليكما حقا لرحلتي ووفادتي، فدعوني أنذر قومي من
ـــــــ
1 السلام: جمع سلمة، وهي الحجارة الصلبة.
2 زيادات ر: "ذكر ابن جنى أن الحسل يعيش ثلاثمائة سنة"، والحسل: ولد الضب.
3 تكملة من س.
موضعي هذا، فقالوا: شأنك، فصرخ بقومه بعد أن قالا له: شأنك، فأسمعهم على مسيرة ليلةٍ.
ويروى عن حماد الرواية قال: قالت ليلى بنت عروة بن زيد الخيل لأبيها: أرأيت قول أبيك:
بني عامر هل تعرفون إذا غدا ... أبو مكنف قد شد عقد الدوابرِ
بجيش تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم منه سجداً للحوافرِ
وجمع كمثل الليل مرتجس الوغى ... كثير تواليه سريع البوادر
أبت عادة للورد أن يكره الوغى ... وحاجة رمحي في نمير بن عامرِ
فقلت لأبي: أحضرت هذه الوقعة? فقال: نعم. فقلت: فكم كانت خيلكم? قال: ثلاث افراس، أحدها فرسه، قال: فذكرت هذا لابن أبي بكر الهذلي، فحدثني عن أبيه قال: حضرت يوم جبلة، قال: وكان قدبلغ مائة سنة؛ وكان قد أدرك أيام الحجاج، قال: فكانت الخيل في الفريقين، مع ما كان مع ابني الجوني-، ثلاثين فرساً، قال: فحدثتُ بهذا الحديث الخثعمي - وكان رواية أهل الكوفة - فحدثني: أن حثعم قتلت رجلاً من بني سليم بن منصور، فقالت أخته ترثيه:
لعمري وما عمري علي بهين ... لنعم الفتى غادرتم آل حثعما
وكان إذا ما أورد الخيل بيشةً ... إلى جنب أشراج أناخ فألجما
فأرسلها رواً رعالاً كأنها ... جراد زهته ريح نجد فأتهما
فقيل لها: كم كانت خيل أخيك? فقالت: اللهم إني لا اعرف غلا فرسه.
قوله: "قد شد عقد الدواير" يريد عقد دوابر الدرع، فإن الفارس إذا حمى فعل ذلك.
وقوله: "تضل البلق في حجراته" يقول: لكثرته لا يرى فيه الأبلق، والأبلغ مشهرو المنظر؛ لاختلاف لونيه، من ذلك قوله:
فلئن وقفت لتخطفنك رماحنا ... ولئن هربت ليعرفن الأبلق
وحجراته: نواحيه.
وقوله:
ترى الأكم منه سجداً للحوافر
يقول: لكثرة الجيش تطحن الأكم حتى تلصقها بالأرض.
وقوله: "كمثل الليل" يقول: كثرة، فيكاد يسد سواده الأفق، ولذلك يقال: كتيبة خضراءُ، أي سوداء، وكانت كتيبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي هو فيها والمهاجرون والأنصار يقال لها: الخضراء.
والمرتجس: الذي يسمع صوته ولا يبين كلامه، يقال: ارتجس الرعد، من هذا. والوغى: الأصوات.
والتوالي: اللواحق، يقال: تلا يتلوه، إذا اتبعهُ، وتلوتُ القرآن أي أتبعت بعضه بعضاً، والمتلية: التي معها أولادها.
وقوله: فارسلها رهواً، يقول: ساكنت، قال الله جل وعزَّ: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} 1؛ ويقال: عيش راهٍ يا فتى، أي ساكن.
ورعال: جمع رعيل، وهو ما تقدم من الخيل، يقال: جاء في الرعيل الأول قال عنترةُ:
إذ لا أبادر في المضيق فوارسي ... ولا أوكل بالرعيل الأولِ
قوله: "زهته ريح نجد فاتهما" يقول: رفعته واستخفته، قال ابن أبي ربيعة:
فلما تواقفنا وسلمت أشرقت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
ومعنى أتهم أتى تهامة.
وزعم أبو عبيدة [معمر بن المثنى]2 عمن حدثه أن بكر بن وائل أرادت الغارة على قبائل بني تميم، فقالوا: إن علم بنا السليك أنذرهم، فبعثوا فارسين
ـــــــ
1 سورة الدخان 24.
2 تكمله من س.
على جوادين يريغان1 السليك، فبصرا به فقصداه، وخرج يمحص2 كأنه ظبي، فطارداه سحابة يومهما، فقالا: هذا النهار، ولو جن عليه الليل لقد فتر، فجدا في طلبه، فذا بأثره قد بال فرغا في الأرض وخدها، فقالا: قاتله الله! ما أشد متنيه! ولعل هذا كان من أول الليل فلما امتد به الليل فتر، فاتبعاه، فإذا به قد عثر باصل شجرةٍ فندر3 منها كمكان تلك، وانكسرت قوسه؛ فارتزت قصدة منها في الأرض فنشبت، فقالا: قاتله الله! واللهِ لا نتبعه بعد هذا، فرجعا عنه، وأتم إلى قومه.
ش: يروى أتم بألفٍ، وتم بغير الألف ونم بالنون، ومعنى تم إلى قومه أي نفذ.
فأنذرهم، فلم يصدقوه لبعد الغاية، ففي ذلك يقول:
يكذبني العمران عمرو بن جندب ... وعمرو بن كعب والمكذب أكذب
ثكلتكما إن لم أكن قدر أيتها ... كراديس يهديها إلى الحي موكبُ4
كراديس فيها الحوفزان وحوله ... فوارس همام متى يدع يركبوا
فصدقه قوم فنجوا، وكذبه قوم فورد عليهم الجيش فاكتسحهم.
وحدثني التوزي قال: سألت أبا عبيدة عن مثل هذه الأخبار من أخبار العرب? فقال لي: إن العجم تكذب فتقول: كان رجلٌ ثلثه من نحاسٍ، وثلثه من رصاصٍ، وثلثه من ثلج، فتعارضها العرب بهذا وما أشبه.
من ذلك قول مهلهل بن ربيعة:
فلو نشر المقابر عن كليبٍ ... فتخبر بالذنائب أي زيرِ!
بيوم الشعثمين لقر عينا ... وكيف لقاء من تحت القبورِ
ـــــــ
1 يريغان: يطليان.
2 يمحص: يعدو عدوا شديدا.
3 ندر: سقط.
4 الكراديس: جمع كردوس، وهو القطعة العظيمة من الخيل.
كأنا غدوة وبني أبينا ... بجنب عنيزة رحيا مديرِ
كأن رماحهم أشطان بئرٍ ... بعيدٍ بين جاليها جرورِ1
فلولا الريح أسمع من بحجرٍ ... صليل البيض تقرع بالذكورِ
[قال أبو الحسن: يقال فلان: زير نساءٍ، وطلب نساء، وتبع نساءٍ، وخلوا نساءٍ؛ إذا كان صاحب نساء، وذلك أن مهلهلاً كان صاحب نساء، فكان كليب يقول: إن مهلهلاً زير نساءٍ ولا يدرك بثأر، فلما أدرك مهلهلٌ بثأر كليبٍ، قال أي زير! فرفع أياً بالابتداء، والخبر محذوف، فكأنه قال: أي زير أنا في هذا اليوم!].
قال أبو العباس: وحدّثني عمرو بن بحر قال: أتيت أبا الربيع الغبوي وكان من أفصح الناس وأبلغهم، ومعي رجل من بني هاشم، فقلت: أبو الرّبيع ههنا? فخرج إليّ وهو يقول: خرج إليك رجل كريم. فلمّا رأى الهاشميّ استحيا من فخره بحضرته، فقال: أكرم الناس رديفاً وأشرفهم حليفاً. فتحدثنا ملياً، فنهض الهاشمي، فقلت لأبي الربيع: يا أبا الربيع من خير الخلق? فقال: الناس والله، فقلت: من خير الناس? قال: العرب والله، فقلت: فمن خير العرب? قال: مضر والله، قلت: فمن خير مضر? قال: قيس والله، قلت: فمن خير قيس? قال: يعصر والله، قلت: فمن خير يعصر? قال: غنيّ والله، قلت: فمن خير غنيّ? قال: المخاطب لك والله، قلت: أفأنت خير الناس? قال: نعم إي والله، قلت: أيسرّك أن تحتك بنت يزيد بن المهلب? قال: لا والله، قلت: ولك ألف دينار? قال: لا والله? قلت: فألفا دينار? قال: لا والله، قلت: ولك الجنّة! فأطرق [مليّاً2] ثم قال: على ألاّ تلد منّي، وأنشد:
تأبى لأعصر أعراق مهذبة ... من أن تناسب قوماً غير أكفاء
فإن يكن ذاك حتماً لا مردّ له ... فاذكر حذيف فإني غير أبّاء
وقوله: "أكرم الناس رديفاً" فإن أبا مرثد الغنوي كان رديف رسو الله صلى الله عيه وسلم.
ـــــــ
1 أشطان البئر: حبالها.
2 تكمله من س.
====================
======================
مجلد 4. من كتاب : الكامل في اللغة والأدب محمد بن يزيد المبرد
وقوله: "وأشرفهم حليفاً"، كان أبو مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب.
وقوله: "فاذكر حذيف"، أراد حذيفة بن بدر الفزاري، وإنما ذكره من بين الأشراف لأنه أقربهم إليه نسباً، وذاك أن يعصر ابن سعد بن قيس، وهؤلاء بنو ريث بن غطفان بن سعد بن قيس. وقد قال عيينة بن حصن يهجو ولد يعصر، وهم غنيّ وباهلة والطّفاوة:
أباهل ما أدري أمن لؤم منصبي ... أحبّكم أم بي جنون وأولق1
أسيّد أخوالي ويعصر إخوتي ... فمن ذا الذي منّي مع اللؤم أحمق!
فقال الباهلي يجيبه:
وكيف تحبّ الدهر قوماً هم الأولى ... نواصيكم في سالف الدهر حلّقوا
ألست فزاريّا عليك غضاضة ... وإن كنت كنديا فإنك ملصق
وتحدّث الرواة بأن الحجاج رأى محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي، وكان ينسب بزينب بنت يوسف، فارتاع من نظر الحجاج [إليه2] فدعا به، فلما عرفه قال مبتدئاً:
هاك يدي ضاقت بي الأرض رحبها ... وإن كنت قد طوّفت كلّ مكان
ولو كنت بالعنقاء أو بيسومها ... لخلتك إلا أن تصد تراني3
ثم قال: والله إن قلت إلاّ خيراً، إنما قلت:
ولمّا رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من ان يلقينه حذرات
في كم كنت? قال: والله إن كنت إلاّ على حمار هزيل، ومعي رفيقي على أتان مثله.
ـــــــ
1 الأولق: الجنون.
2 تكملة من س.
3 يوم: جبل بعيد.
ومن ذلك ما يحكون في خبر لقمان بن عاد، فإنهم يصفون أن جارية له سئلت عما بقي من بصره، لدخوله في السّنّ? فقالت: والله لقد ضعف بصره، ولقد بقيت منه بقيّة؛ إنه ليفصل بين أثر الأنثى والذكر من الذرّ إذا دبّ على الصّفا؛ في أشياء تشاكل هذا من الكذب.
وحدّثت أنّ امرأة عمران بن حطّان السّدوسي قالت له: أما حلفت أنّك لا تكذب في شعر? فقال لها: أو كان ذاك? قالت: نعم، قلت:
فكذاك مجزأة بن ثو ... رٍ كان أشجع من أسامة
أيكون رجل أشجع من أسد! فقال لها: ما رأيت أسداً فتح مدينة قط، ومجزأة بن ثور قد فتح مدينة1.
ومرّ عمران بن حطّان بالفرزدق وهو ينشد، فوقف عليه فقال:
أيها المادح العباد ليعطى ... أن لله ما بأيدي العباد
فاسأل الله ما طلبت إليهم ... وارج فضل المقسّم العواد
لا تقل للجواد ما ليس فيه ... وتسمّ البخيل باسم الجواد
وأنشدني الحسن بن رجاء لرجل من المحدثين لم يسمّه2:
أبا دلف يا أكذب الناس كلهم ... سواي فإني في مديحك أكذب
وأنشدني آخر لرجل من المحدثين:
إنّي امتدحتك كاذباً فأثبتني ... لمّا امتدحتك ما يثاب الكاذب
قال الأصمعي: قلت لأعرابي كنت أعرفه بالكذب: أصدقت قط? قال: لو لا أنّي أخاف أن أصدق في هذا لقلت لك: لا.
ـــــــ
1 زيادات ر: "مجزأة بن ثور، جعل له عمر رحمه الله رياسة بكر، فلما أسن مجزأة فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه ذاك مع ابنه شقيق بن مجزأة، وقتل رحمه الله على شتر، هو والبراء بن مالك، وكانا من أبطال المسلمين".
2 زيادات ر: "وهو بكر بن النطاح في أبى دلف".
وتحدثوا من غير وجه أن عمرو بن معدي كرب كان معروفا بالكذب. وقيل لخلف الأحمر - وكان شديد التعصب لليمن -: أكان عمرو بن معد كرب يكذب? فقال: كان يكذب في المقال، ويصدق في الفعال.
وذكروا من غير وجه أن أهل الكوفة من الأشراف يظهرون بالكناسة فيتحدثون على دوابهم، إلى أن يطردهم حر الشمس، فوقف عمرو بنمعدي كرب وخالد بن الصقعب النهدي، فأقبل عمرو يحدثه، فقال: أغرنا مرة على بني نهدٍ، فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب، فحملت عليه فطعنته فأذريته1، ثم ملت عليه بالصمصامة، فأخذت رأسه، فقال له خالد: حلا أبا ثورٍ، إن قتيلك هو المحدث. فقال: يا هذا، إذا حدثت فاستمع، فإنما نتحدث بمثل ما تسمع لترهب به هذه المعدية2.
قوله: "مسترعفين" يقو: مقدمين له، يقال: جاء فلان يرعف الجيش ويؤمن الجيش، إذا جاء متقدماً لهم، ويقال في الرعاف: رعف يرعف، لا يقال غير رعب، ويجوز يرعف من أجل العين، ليس من الوجه. وسنذكر هذا الباب بعد انقضاء هذه الأخبار؛ إن شاء الله.
وقوله: حلا أبا ثور يقول: استثن، يقال: حلف ولم يتحلل، أي لم يستثن.
وخبرت أن قاصا كان يكثر الحديث عن هرم بن حيان3، فاتفق هرم [مرة]4 معه في مسجد وهو يقول: حدثنا هرم بن حيان، مرة بعد مرة، بأشياء لا يعرفها هرم، فقال له: يا هذا، أترعفني? أنا هرم بن حيان، والله ما حدثتك من هذا بشيء قط، فقال له القاص: وهذا أيضاً من عجائبك، إنه ليصلي معنا في مسجدنا خمسة عشر رجلاً، اسم كل رجل منهم هرم بن حيان، كيف توهمت أنه ليس في الدنيا هرم بن حيان غيرك!
ـــــــ
1 أذريته: رميته.
2 المعدية: المنسوبون إلى معد.
3 زيادات ر: "الهرم: الضب، يقال إنه في الشتاء يأكل حسوله ولا يخرج، قال الشاعر:
كما أكب على ذي بطنه الهرم
قيل إن هرم بن حيان حملته أمه أربع سنين: ولذلك سمى هرما".
4 من س.
وكان بالرقة قاص يكنى أبا عقيل، يكثر التحدث عن بني إسرائيل فيظن به الكذب، فقال له يوماً الحجاج بن حنتمة: ما كان اسم بقرة بني إسرائيل? قال: حنتمة، فقال له رجل من ولد أبي موسى الأشعري: في أي الكتب وجدت هذا? قال: في كتاب عمرو بن العاص.
وقال القيني: أنا أصدق في صغير ما يضرني، ليجوز كذبي في كبير ما ينفعني.
وأنشد المازني للأعشى - وليس مما روت الرواة متصلاً بقصيدة:
فصدقتهم وكذبتهم ... والمرء ينفعه كذابه
ويورى أن رجلاً وفد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله [عن بعض شيء]1، فكذبه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أأسألك فتكذبني? لولا سخاء فيك ومقك الله عليه لشردت بك من وافدِ قومٍ".
معنى ومقك أحبك، يقال ومقته أمقه، وهو على فعلت أفعلُ ونظيره من هذا المعتل ورم يرم، وولي يلي. وكذلك وسع يسع، كانت السين مكسورةً، وإنما فتحت للعين، ولو كان أصلها الفتح لظهرت الواو، نحو وجل يوجل، ووحل يوحلُ. والمصدر مقةٌ كقولك: وعد يعد عدةً، ووجد يجد جدةً.
ويروى: أن رجلاً أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمِ، ثم قال: يا رسول الله، إني إنما أوخذ من الذنوب بما ظهر، وأنا أستسر بخلالٍ أربع: الزنا والسرق2 وشرب الخمر والكذب، فأيهن أحببت تركت لك سرا، فقال رسول الله: "دع الكذب". فلما تولى من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم بالزنا، فقال: يسألني رسول الله، فإن جحدت نقضت ما جعلت له، وإن أقررت حددت. فلم يزن، ثم هم بالسرق2، ثم هم بشرب الخمر، ففكر في مثل ذلك، فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، قد تركتهن جمع.
ـــــــ
1 تكمله من س.
2 السرق: السرقة.
وشهد أعرابي عند معاية بشهادة، فقال له معاوية: كذبت، فقال له الأعرابي: الكاذب متزمل في ثيابك، فقال معاوية: هذا جزاء من عجل.
وقال معاوية يوماً للأحنف - وحدثه حديثاً: أتكذبُ? فقال: والله ما كذبتُ مذ علمت أن الكذب يشين أهلهُ.
ودخل عبد الله بن الزبير يوما على معاوية، فقال: اسمع أبياتاً قلتهن - وكان واجداً عليه - فقال معاوية: هات، فأنشده:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران ن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن من شفرة السيف مزحلُ
فقال له معاوية: لقد شعرت بعدنا يا أبا بكر، ثم لم ينشب معاوية أن دخل عليه معن بن أوس المزني، فقال له: أقلت بعدنا شيئاً? قال: نعم، فأنشده:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنيةُ أولُ
حتى صار إلى الأبيات التي أنشدها ابن الزبير، فقال له معاوية: يا أبا بكر، أما ذكرت آنفاً أن هذا الشعر لك? قال: أنا أصلحت معانيه، وهو ألف الشعر، وهو بعد ظئري، فما قال من شيء فهو لي.
وكان عبد الله بن الزبير مسترضعاً في مزينة.
وحدثت أن عمرَ بن عبد العزيز [بن مروان1] كتب في إشخاص إياس بن معاوية المزني وعدي بن أرطاة الفزاري أمير البصرة وقاضيها يومئذ، فصار إليه عدي، فقرب أن يمزنه عند الخليفة، فقال: يا أبا وائلة، إن لنا حقاً ورحماً، فقال إياسُ: أعلى الكذب تريدني? والله ما يسرني أني كذبت كذبة يغفرها الله ولا يطلع عليها إلا هذا - وأومأ إلى أبيه - ولي ما طلعت عليه الشمس.
قال أبو الحسن1: التمزين المدح؛ ولم أسمع هذه اللفظة إلا من
ـــــــ
1 تكملة من س.
أبي العباس، وهي عندي مشتقة من المازن وهو بيض1 النمل، وبهذا سميت مازن كأنه أراد منه أن يكبره.
ويروى: يكثره. قال القتبي: المازن: بيض النمل.
قال الشيخ: قوله: أن يمزنه عند الخليفة أي كأنه يجعله سيد مزينة، لأنه كان مزنياً، والصواب: يمزره قال الموصلي.
وإني مع ذا الشيب حلو مزيرُ
ولم يكن في القضاة؛ وإنما كان أميراً على البصرة. . إن مات عمر.
وكتب عمر إلى عدي: اجمع ناساً ممن قبلك وشاورهم في إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة، واستقضِ أحدهما؛ فولى عدي إياساً2.
ويروى أن أخا إياس صار إلى ابن هبيرة فقال: طرقني اللصوص فحاربتهم فهزمتهم، وظفرت منهم بهذا المغول3؛ فجعله ابن هبيرة تحت مصلاهُ، ثم بعث إلى الصياقلة فأحضرهم، فقال: أيعرف منكم الرجل عمله? قالوا: نعم، فأخرج المغول فقال: من عملِ أيكم هذا4? فقال قائل منهم: أنا عملت هذا، واشتراه مني هذا أمس.
ـــــــ
1 كلمة "بيض" ساقطة من ر، س، وهي في الأصل.
2 مابين العلامتين زيادة في نسخة ر، وذكر المصحح أنها من إحدى النسخ التي رجع إليها، وموضع النقط مقطوع من الأصل المنقول عنه، وهذه الزيادة ليست في الأصل، وليست في س أيضا.
3 زيادات ر: "المغول سيف صغير".
4 س: "أيكم عمل هذه".
باب ما يجوزُ فيه "يَفْعَلُ" فيما ماضيهِ "فَعَلَ" مفتوح العين
أعلم أن كان فعل على فعلَ فهو عير متعد إلى مفعولٍ، لأنه فعلُ الفاعل في نفسه، وتأويل الانتقال، وذلك قولك: كرمَ عبد الله، وظرف عبد الله.
وتأويل قولي: الانتقالُ، إنماهو انتقال من حالٍ إلى حال، تقولُ: ما كان كريماً ولقد كرم، وما كان شريفاً ولقد شرف، فهذا تأويله، فأما قولهم: كدت أكاد، فإنما كدت معترضة على أكادُ.
وما كان من "فعل" [من]1 الصحيح فإنه يفعل نحو: شرب يشرب، وعلم؛ وفرق، ويكون متعدياً وغير متعد، تقول: حذرت زيداً، وعلمت عبد الله، ويكون فيه مثل سمنتُ، وبخلتُ، غير متعد، وكله على يفعلُ نحو يسمن، ويبخلُ، ويعلمُ، ويطربُ.
فأما قولهم في الأربعة من الأفعال؛ يحسب وييئس، وينعمُ، وييبسُ؛ فهي معترضة على يفعلُ تقولُ في جميعها: يحسبُ. وينعمُ، وييئسُ، وييبسُ.
وما كان على فعل فباب يفعل ويفعِل نحو قتل يقتل. وضرب يضربُ، وقعد يقعد، وجلس يجلس، فقد أنبأتك أنه يكون متعدياً وغير متعد. فأما يأبى، ويقلى؛ فلهما علةٌ تبين عندما أذكره لك ن شاء اللهُ.
ولا يكون فعل يفعلُ إلا أن يكون يعرضُ له حرفٌ من حروف الحلقِ الستة في موضع العين أو موضع اللام، فإن كان ذلك الحرفُ عيناً فتح نفسه، وإن كان لاماً فتح العين.
وحروف الحلق: الهمزة، والهاءُ، والعينُ، والجاءُ، والغين؛ والخاءُ.
وذلك قولهم: قرأ يقرأُ قرأً، يا فتى، قراءةً، وسأل يسألُ، وجبه يجبهُ، وذهبَ يذهبُ، وتقول: صنعَ يصنعُ، وظعنَ يظعنُ، وضبحَ يضبحُ، وكذلك فرغ يفرغُ، وسلخً يسلخُ.
ـــــــ
1 من س.
وقد يجوزُ أن يجيء الحرف على أصله وفيه أحدُ الستةِ، ويجوز: زأر يزئرُ، وفرغ يفرغُ، وصبغَ يصبغُ، إلا أن الفتح لا يكون فيما ماضيه فعل إلا واحدُ هذه الحروف فيه.
وأما يأبى فله علةٌ، وأما يقلى فليس يثبتُ. وسيبويه يذهبُ في يأبى إلى أنه إنما انفتح من أجل أن الهمزة في موضع فائه، والقول عندي على ما شرحت لك، من أنه إذا فتح حدث فيه حرفٌ من حروف الحلق، فإنما انفتح لأنه يصير إلى الألف، وهي من حروف الحلق، ولكن لم نذكرها لأنها لا تكون اصلاً، إنما تكون زائدةً أو بدلاً، ولا تكون مترحكةً، فإنما هي حرفٌ ساكنُ، ولا يعتمد اللسان بهِ على موضع، فهذا الذي ذكرت لك من أن يسع، ويطأ، حدهما فعلَ يفعِل في المعتل، كحسب يحسبُ، من الصحيح، ولكن فتحتهما العين والهمزة، كما تقول: ولغَ الكلب، يلغَ، والأصل يلغُ فحرف الحلق فتحه.
باب
أخبار عبد الله بن العباس وابنهيروة عن علي بن أبي طالب رحمةُ الله عليه أنه افتقد عبد الله بن العباس رحمه الله [في وقت صلاة الظهر1] فقال [لأصحابه1]: ما بال أبي العباس لم يحضر? فقالوا: ولدَ له مولود، فلما صلى علي رحمه الله قال: امضوا بنا إليه، فأتاه فهنأه، فقال: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، ما سميته? قال: أو يجوز لي أن أسميه حتى تسميه! فأمر به فأخرج إليه، فأخذه وحنكه ودعا له، ثم رده إليه، وقال: خذه إليك أبا الأملاك، قد سميته علياً، وكنيته أبا الحسن، فلما قام معاوية قال لابن عباسٍ: ليس لكم اسمه وكنيته، قد كنيته أبا محمدٍ، فجرت عليه.
وكان علي سيداً شريفاً بليغاً، وكان له خمسمائة أصل زيتون، يصلي في كل يوم إلى كل أصلٍ ركعتين فكان يدعى ذا الثفنات2.
وضرب بالسوط مرتين كلتاهما ضربه الوليد، إحداهما: في تزوجهِ لبابة بنت عبد الله بن جعفر، وكانت عند عبد الملك، فعض تفاحة ثم رمى بها إليها - وكان أبخر - فدعت بسكين، فقال: ما تصنعين به?3 قالت: أميطُ عنها الأذى، فطلقها، فتزوجها علي بن عبد الله، فضربه الوليد، وقال: إنما تتزوج بأمهات الخلفاء لتضع منها، لن مروان بن الحكم تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية ليضع منها، فقال علي بن عبد الله: إنما أرادت الخروج من هذه البلدة، وأنا ابن عمها فتزوجتها لأكون لها مخرجاً.
وأما ضربه إياه في المرة الثانية فإنا الثانية فإنا نرويه من غير وجهٍ، ومن أتم ذلك ما حدثني أبو عبد الله محمدُ بن شجاعٍ البلخي4 في إسناد له متصلٍ، لست
ـــــــ
1 من س.
2 الثفنات: جمع ثفنة، وهي من كل ذي أربع ما يصيب الأرض منه.
3 أى بالسكين، والسكين تذكر وتؤنث.
4 زيادات ر، "هو محمد بن شجاع الثلجى، كذا صوابه".
أحفظه، يقولُ في آخر ذلك الإسناد: رايت علياً مضروباً بالسوط يدار ب على بعير ووجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح عليه: هذا علي بن عبد الله الكذاب! قال: فأتيته فقلت: ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكذب? قال: بلغهم قولي: إن هذا الأمر سيكون في ولدي. والله ليكونن فيهم حتى يملكهم عبيدهم الصغارُ العيونِ، العراضُ الوجوه، الذين كأن وجوههم المجان المطرقة.
ومع هذا الحديث آخر شبيه بإسناده، أن علي بن عبد الله دخل على سليما بن عبد الملك، ومعه ابنا ابنه، الخليفتان: أبو العباس، وأبو جعفر - قال أبو العباس: وهذا غلط، لما أذكره لك، إنما ينبغي أن يكون دخل على هشام - فأوسع له على سريره، وسأله عن حاجته، فقال: ثلاثن ألف درهم علي دينً، فأمر بقضائها، قال له: وتستوصي بابني هذين خيراً، ففعل فشكره، وقال وصلتك رحمُ، فلما ولى علي قال الخليفة لأصحابه: إن هذا الشيخ قد اختل وأسن وخلط فصار يقول: إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده، فسمع ذلك علي فالتفت إليه فقال: والله ليكونن ذاك؛ وليملكن هذان.
قال ابو العباس: أما قولي: "إن الخليفة في ذلك الوقت لم يكن سليمان"، فلأن محمد بن علي بن عبد الله كان يمنع من تزوج الحارثية، للحديث المروي، فلما قام عمر بن عبد العزيز جاءه محمدٌ، فقال له: إن أردت أن أتزوج بنت خالي من بني الحارث بن كعبٍ، أفتأذن لي [يا أمير المؤمنين1].
فقال عمر: تزوج - رحمك الله - من أحببت، فتزوجها، فأولدها أبا العباس أمير المؤمنين، وعمر بعد سليمان، فلا ينبغي أن يكون تهيأ له أن يدخل على خليفة حتى يترعرع.
ش: كذا وقع في الأم والرواية، والصحيح لهما أن يدخلا على خليفة حتى يترعرعا.
فلا يتم مثل هذا إلا في أيام هشام.
ـــــــ
1 تكملة من س.
وكان عبد الملك يكرم علياً ويقدمهُ، فحدثني التوزي؛ قال: قال علي بن عبد الله: سايرت يوماً عبد الملك، فما جاوزنا إلا يسيراً حتى لقيه الحجاج قادماً عليه، فلما رآه ترجل ومشى بين يديه، فخب عبد الملك، فأسرع الحجاج، فزاد عبد الملك، فهرول الحجاج، فقلت لعبد الملك، أبك موجدة على هذا? فقال: لا، ولكنه رفع من نفسه، فأحببت أن أغض منه.
وحدثني جعفر بن عيسى بن جعفر الهاشمي، قال: حضر علي عبد الملك وقد أهدي له من خراسان جارية وفص وسيف، فقال: يا أبا محمدٍ، إن حاضر الهدية شريك فيها، فاختر من الثلاثة واحداً، فاختار الجارية، وكانت تسمى سعدى، وهي من سبي الصغدِ1 من رهط عجيف بن عنبسة، فأولدها سليمان وصالحاً ابني عليٍ.
وذكر جعفر بن عيسى أنه لما أولدها سليمان اجتنبت فراشه، فمرض سليمان من جدري خرج عليه، فانصرف علي من مصلاهُ، فإذا بها على فراشه؛ فقال: مرحباً بك يا أم سليمان، فوقع بها، فأولدها صالحاً، فاجتنبت بعدُ، فسألها عن ذلك? فقالت: خفت أن يموت سليمان فينقطع النسب بيني وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالآن إذا ولدتُ صالحاً فبالحري إن ذهب أحدهما أن يبقى الآخر، وليس مثلي اليوم من وطئه الرجالُ.
وزعم جعفر أنه كانت فيها رتةُ.
فالرتةُ: تعذرُ الكلام إذا أراده الرجل، فهي الآن معروفةٌ في ولد سليمان وولد صالحٍ.
وكان علي يقول: أكره أو أوصي إلى محمد -وكان سيد ولده - خوفا من أن أشينه بالوصية، فأوصى إلى سليمان، فلما دفن علي جاء محمد إلى سعدى
ـــــــ
1 الصغد: كورة قصبتها سمرقند.
[ليلا1ً] فقال [لها]1: أخرجي إلي وصية أبي، فقالت: إن أباك أجل من أن تخرج وصيته ليلاً، ولكنها تأتيك غداً، فلما أصبح غدا بها عليه سليمان، فقال: يا أبي ويا أخي، هذه وصية أبيك، فقال محمدٌ: جزاك الله من ابن وأخٍ خيراً، ما كنتُ لأثرب على أبي بعد موته، كما لم أثرب عليه في حياته.
قال أبو العباس: التمتمة: التردد في التاء. والفأفأة: التردد في الفاء. والعقلة: التواء اللسان عند إرادة الكلام. والحبسة: تعذر الكلام عند إرادته. واللفف: إدخال حرف في حرفٍ. . والرتةُ: كالرتج تمنع أول الكلام، فإذا جاء منه شيء اتصل. والغمغمة: أن تسمع الصوت ولا يتبين لك تقطيع الحروف. والطمطمة: أن يكون الكلام مشبهاً لكلامِ العجم. واللكنة: أن تعترض على الكلام اللغة الأعجمية. وسنفسر هذا بحججه حرفاً حرفاً، وما قيل فيه، إن شاء الله. واللثغة: أن يعدل بحرفٍ إلى حرف. والغنة: أن يشرب الحرف2 صوت الخيشوم. والخنة: أشد منها. والترخيم: حذف الكلام، يقال: رجل فافاء يا فتى! تقديره فاعالٌ ونظيره من الكلام: ساباطٌ وخاتام.
قال الراجز:
يا مي ذات الجورب المنشق ... أخذت خاتامي بغير حق
ـــــــ
1 تكملة من س.
2 زيادات ر: كذا ذكره أبو العباس بغير همز الألف الأولى، والصحيح أنه بالهمز على "فعلال" مثل "خضخاض"، و"قمقام"، فالذي حكى أبو العباس غلط؛ لأن سيبوية رحمه الله قال أبو الحسن. يقال: "خاتم" على وزن "دانق" و"خاتم" على وزن ضارب، وخيتام على وزن ديان وخاتام على وزن "ساباط".
لربيعة الرقي يمدح يزيد بن حاتموقال ربيعة الرقي في مدحه يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب - وربيعة احتج به الأصمعي - وذمه يزيد بن اسيدٍ السلمي:
لشتان ما بين الزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أني هجوته ...
ولكنني فضلت أهل المكارم
وقال آخر أيضاً:
ليس بفأفاءٍ ولا تمتامِ ... ولا محت سقطِ الكلامِ
وقال الشاعر:
وقد تعتريه عقلة في لسانه ... إذا هز نصل السيف غير قريب
وزعم عمرو بن بحر الجاحظ عن محمد بن الجهم قال: أقبلت على الفكر في أيام محاربة الزّطّ، فاعترتني حبسة في لساني. وهذا يكون لأن اللسان يحاتج إلى التمرين على القول، حتى يخفّ له، كما تحتاج اليد إلى التمرين على العمل، والرّجل إلى التمرين على المشي، وكما يعانيه موتر القوس ورافع الحجر ليصلب ويشتدّ، قال الراجز:
كأن فيه لففاً إذا نطق ... من طول تحبيس وهمّ وأرق
وقال ابن المقفع: إذا كثر تقليب اللسان رقّت جوانبه ولانت عذبته.
وقال العتّابي: إذا حبس اللسان عن الاستعمال اشتدت عليه مخارج الحروف.
وأما الرّتة فإنها تكون غريزة، قال الراجز:
يا أيها المخلّط الأرت
ويقال: إنها تكثر في الأشراف، ولم توجد تختص واحداً دون واحد.
وأما الغمغمة فقد تكون من الكلام وغيره، لأنه صوت لا يفهم تقطيع حروفه.
أفصح الناسوحدّثني من لا أحصي من أصحابنا عن الأصمعي عن شعبة عن قتادة، قال: قال معاوية يوماً: من أفصح الناس? فقام رجل من السماط فقال: قوم تباعدوا عن فراتية العراق، وتيامنوا عن كشكشة تميم، وتياسروا عن كسكسة بكر، ليس فيهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. فقال له معاوية: من أولئك? فقال: قومي يا أمير المؤمنين، فقال له معاوية: من أنت? قال: أنا رجل من جرم. قال الأصمعي: وجرم من فصحاء الناس.
قوله: "تيامنوا عن كشكشة تميم"، فإن بني عمرو بن تميم إذا ذكرت كاف المؤنث فوقفت عليها أبدلت منها شيئاً، لقرب الشين من الكاف في المخرج، وأنها مهموسة مثلها، فأرادوا البيان في الموقف، لأن في الشين تفشياً، فيقولون للمرأة: جعل الله لك البركة في دارش، ويحك مالش، والتي يدرجونها يدعونها كافاً، والتي يقفون عليها يبدلونها شيناً.
وأما بكر فتخلف في الكسكسة، فقوم منهم يبدلون حركة كاف المؤنث في الوقف بالسين، فيزيدونها بعدها، فيقولون: أعطيتكس.
أما الغمغمة فما ذكرت لك.
وقال الهارب1 لامرأته يوم الخندقة، وذاك أنها نظرت إليه يحد حربة في يوم فتح مكة، فقالت: ما تصنع بهذه? قال: أعددتها لمحمد وأصحابه؛ فقالت: والله إن أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء، فقال لها: إني لأرجو أن أخدمك بعضهم؛ وأنشأ يقول:
إن تقبلوا فما بي علة ... هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السلة
الألة: الحربة، والغرار ههنا: الحد، يعني "بذي غرارين" السيف.
فلما لقيهم خالد يوم الخندقة انهزم الرجل، فلامته امرأته، فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندقة ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
ولحقتنا بالسيوف المسلمه ... يفلقن كل ساعد وجمجمه
ضرباً ولا تسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت2 حولنا وجمجمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
ـــــــ
1 زيادات ر: "الهارب هو أبو عثمان الهذلي"، ويقال له الرعاش، ويقال إن الرجز المذكور بعد هذا لحماس ابن قيس أخي بنى بكر بن عبد مناة، أنشدة له أبو إسحاق، والخندمة: جبل دخل منه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة يوم الفتح، وقيل: الخندمة مشى فيه إسراع، فأضيف إلى اليوم لما كثر فيه.
2 النهيت: صوت الأسد دون زئيره.
وأما الطمطمانية، ففيها يقول عنترة:
تبري له حول النعام كأنها ... حزق يمانية لأعجم طمطم
وكان صهيب أبو يحيى صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرتضخ لكنة رومية، ويذكرون أن نسبه في النمر بن قاسط صحيح.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صهيب سابق الروم، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة".
وقال عمر لصهيب في قوله: إنه من النمر بن قاسط: قد سمعت ما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن انتمى إلى غير نسبه، فقال صهيب: أنا من القوم، ولكن وقع علي سباء.
وكان عبد بني الحسحاس يرتضخ لكنة حبشية، فلما أنشد عمر بن الخطاب:
عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال عمر: لو كنت قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك، فقال: ما سعرت، يريد: ما شعرت.
وكان عبيد الله بن زياد يرتضخ لكنة فارسية، وإنما أتته من قبل زوج أمه شيرويه الإسواري.
ويقال: إن علياً عليه السلام عاد زياداً في منزل شيرويه، فقال عبيد الله يوماً لرجل كلمه فظن به رأي الخوارج1: أهروري منذ اليومِ? يريد: أحروري، وهذه الهاء تشترك في قلبها من الحاء أصنافٌ من العجم.
وكان زيادٌ الأعجم - وهو رجلٌ من عبد القيس - يرتضخ لكنةً أعجمية، يذهب فيها إلى مذهب قوم بأعيانهم من العجم.
وأنشد المهلب بن أبي صفرة في مدحه إياه:
فتى زاده السلتان في المدح رغبةً ... إذا غير السلتان كل خليلِ
ـــــــ
1 زيادات ر، "الرجل الذي كلمه عبيد الله بن زياد وظن أنه من الخوراج هانىء بن قبيصة".
يريد السلطان، وذلك أن بين التاء والطاء نسباً، فلذلك قلبها تاءً، لأن التاء من مخرج الطاء فقال: السلتان.
أما الغنة، فتستحسن من الجارية الحديثة السن، لأنها ما لم تفرط تميل إلى ضربٍ من النغمة، قال ابن الرقاع العاملي يصف الظبية وولدها:
تزجي أغن كأن إبرةَ روقهِ ... قلمٌ أصاب من الدواةِ مدادها
باب
لمحمد بن عبد الله الثقفيقال محمد بن عبد الله بن نميرٍ الثقفي:
لم تر عيني مثل سربٍ رأيته ... خرجن من التنعيم معتجرات
مررن بفخ ثم رحن عشيةً ... يلبين للرحمن مؤتجراتِ
تضوع مسكاً بطن نعمانَ أن مشتْ ... به زينب في نسوةٍ عطراتِ
وقامت تراءى يوم جمعٍ فأفتنت ... برؤيتها من راح من عرفاتِ
ولما رأت ركبَ النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذراتِ
دعت نسوةً شمَّ العرانين بدناً ... نواعمَ لاشعثاً ولا غبراتِ1
فأدنين لما قمنَ يحجبن دونها ... حجاباً من القسي والحبراتِ
أحل الذي فوق السمواتِ عرشهُ ... أوانس بالبطحاء معتمراتِ
يخبئن أطراف البنانِ من التقى ... ويخرجن جنح الليل مختمراتِ
قوله: "مثل سربٍ رأيتهُ"، هو القطعة من النساء، أو من الظباءِ، أو من البقرِ، أو من الطير، كما قال:
لم تر عيني مثل سربٍ رأيته ... خرجن علينا من زقاق ابن واقف
فهذا يعني نساءً2. ويقالُ: مرت بنا سربةٌ من الطير، في هذا المعنى، قال ذو الرمةِ:
سوى ما أصاب الذئب منه وسربةٌ ... أطافت به من أمهاتِ الجوازلِ
ويقال: فلانٌ واسعٌ السربِ، يعني بذلك الصدرَ، ويقال: خل لفلانٍ سربهُ، أي طريقه الذي يسربُ فيه، ويقال للإبل كذلك بالفتح: لأذعرن سربكَ.
ويقال: حذراتُ، حذراتُ، ويقظٌ، ويقُظٌ؛ قال ابن أحمر:
هل ينسئن يومي إلى غيره ... أني حوالي وأني حذرُ
ـــــــ
1 زيادات ر: "ولا غفرات"، بالفاء أخت القاف، من الغفر وهو الشعر الذي ينبت في اللحيين؛ يقال: غفرت المرأة إذا نبت لها ذاك الشعر".
2 زيادات ر: "القطيع من السباع يقال له سرب، قاله ابن جنى، وكذا من الماشية كلها".
وقوله:
وكنّ من أن يلقينه حذراتِ
الأصل "من أن يلقينه" ولكن الهمزة إذا خففت وقبلها ساكنٌ ليس من حروف اللين الزوائد، فتخفيفها - متصلة كانت أو منفصلة - أن تلقي حركتها على ما قبلها وتحذفها، تقول: من أبوك?، فتفتح النون وتحذف الهمزة، ومن أخوانك?، ومن أم زيدٍ?؛ فتضم النون وتكسرها وتفتحها، على ما ذكرت لك، وتقول: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ} 1 وفلانٌ له هيةٌ، وهذه مرةٌ، إذا خففت الهمزة في الخبء والهيئة والمرأةِ، وعلى هذا قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ} 2 لأنها كانت اسأل فلما حركت السين بحركةِ الهمزة سقطت ألف الوصلِ، لتحرك ما بعدها، وإنما كان التخفيف في هذا الموضع بحذف الهمزةِ، لأن الهمزةَ إذا خففت قربت من الساكن، والدليل على ذلك أنها لا تبتدً إلا محققة، كما لا يبتدأ إلا بمتحركٍ، فلما التقى الساكن وحروف تجري مجرى الساكن حذفت المعتل منها، كما تحذف لالتقاء الساكنين.
وقوله: "دعت نسوةٌ شم العرانين"، الشماء السابقة الأنف، والمصدر الشمم.
وقال أحد الشعراء يمدح قثم بن العباس:
نجوت من حلٍّ ومن رحلةٍ ... يا ناق إن قربتني من قثمْ
إنكِ إن قربتنيه غداً ... عاش لنا اليسر وماتَ العدمْ
في باعهِ طولٌ وفي وجههِ ... نورٌ وفي العرنين منه شممْ
لم يدرِ ما لا وبلى قد درى ... فعافها واعتاض منها نعمْ
قال أبو الحسن: أنشدنيه أبي لسليمان بن قتة، وزادني:
أصم عن ذكر الخنا سمعهُ ... وما عن الخير به من صممْ
والعرنين والمرسن والأنف واحدٌ، لما يحيط بالجميع.
والبدن: واحدها بادنٌ كقولك: شاهدٌ وشهدٌ، وضامرٌ وضمرٌ،ن وهو العظيم
ـــــــ
1 سورة النمل 25.
2سورة البقرة 211.
البدنِ، يقالُ: بدن فلانٌ، إذا كثر لحمه، وبدنَ، إذا أسنَّ. وفي الحديثِ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني قد بدنت، فلا تسبقوني بالركوع والسجود1" .
والأشعث والشعثاء: الخاليان من الدهن، وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل:
من كان حين تمس الشمس جبهته ... أو الغبارُ يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا
قال أبو الحسن، وزادني أبي:
في بطنِ مظلمةٍ غبراءَ مقفرةٍ ... كيما يطيل بها في بطنها اللبثا
تجهزي بجهازٍ تبلغين به ... يا نفس واقتصدي لم تخلقي عبثا
ـــــــ
1 زيادات ر: "من رواه: "بدنت"، بضم الدال فقد أخطأ؛ لآن "بدن" بمعنى ضخم، ولم يكن من صفته عليه السلام أنه ضخم الجسم، ولكنه الرجل بين الرجلين، ومعنى "بدن" بالتشديد، أسن.
لعمر بن أبي ربيعة في أم عمر بنت مروانوقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة1: ونظر إلى أم عمر بنت مروان بن الحكم، وكانت صارت إليه متنكرة، فرته وقضت من محادثته وطراً، ثم انصرفت، فلما رجعت من منى عرفها، فعلمت ذلك، فبعثت إليه: لا ترفع بي صوتاً، وأهدت له ألف دينار، فاشترى بها عطراً وبزاً وأهداه لها، فأبتْ أن تقبله، فقال: إذاً والله أنهبه فيكون أذيعَ له فقبلته، وفي ذلك يقول:
وكم من قتيلٍ لايباءُ به دمٌ ... ومن غلقٍ رهناً إذا ضمه منى
وكم مالىءٍ عينيه من شيء غيرهِ ... إذا راح نحو الجمرة البيضُ كالدمى
يجررن أذيال المروط بأسؤقٍ ... خدالٍ إذا ولين أعجازها روى
أوانس يسلبن الحليم فؤاده ... فيا طولَ ما حزنٍ ويا حسنَ مجتلى!
فلم أر كالتجمير منظرَ ناطرٍ ... ولا كليالي الحج أفتن ذا هوى
وفيها أيضاً يقول:
أيها الرائج المجد ابتكار ... قد قضى من تهمة الأوطارا
ليت ذا الحج كان حتماً علينا ... كل شهرين حجةً واعتمارا
ـــــــ
1 ر: "عمر بن أبي ربيعة" وما أثبته عن الأصل، س.
قوله:
وكم من قتيل لا يباء به دمٌ
يقول: لا يقاد به قاتله، وأصل هذا أنه يقال: أبأت فلاناً بفلانٍ، فباء به، إذا قتلته به، ولا يكاد يتسعمل هذا إلا والثاني كفءٌ للأول، فمن ذلك قولُ مهلهلِ بن ربيعة، حيث قتل بجير بن الحارث بن عبادٍ، فقيل للحارث - ولم يكن دخل في حربم: إن ابنك قتلَ، فقال: إن ابني لأعظم قتيلٍ بركةً، إذ أصلح الله به بين ابني وائلٍ، فقيل له: إنه لما قتلَ قال مهلهلٌ: بؤ بشسعِ نعلِ كليبٍ1؛ فعند ذلك أدخل الحارث يه في الحرب، وقال:
قربا مربط النعامةِ مني ... لقحت حرب وائل عن حيال2
لا بجير أغنى قتيلاً ولا رهـ ... ـط كليب تزاجروا عن ضلالِ
لم أكن من جناتها علمَ اللهُ ... وإني بحرها اليوم صالي
وقالت ليلى الأخيليةُ:
فإن تكنِ القتلى بواءً فإنكم ... فتى ما قتلتم آل عوف بن عامرِ
وقال التغلبي3:
ألا تنتهي عنا ملوكٌ وتتقي ... محارمنا لا يبوء الدم بالدمِ
ويقال: باء فلانٌ بذنبهِ، أي. بخع به وأقر، قال الفرزدق لمعاوية:
فلو كان هذا الحكُ في غير ملككم ... لبؤت به أو غص بالماء شاربهْ
ويقال: باء فلانٌ بالشيء، من قولٍ أو فعلٍ، أي احتمله فصارَ عليه.
وقال المفسرون في قول الله جل وعزَّ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} 4، أي يجتمعا5 عليك فتحملهما.
ـــــــ
1 الشسع: الزمام الذي يكون بين الإصبع الوسطى والتي تليها.
2 مربط: اسم مكان الربط، والنعامة: اسم فرسه.
3 هو جابر بن حنى؛ وفي ر: "عمر بن حبى"، وهو خطأ صوابه من الأصل، س.
4 سورة المائدة 29.
5 كذا في الأصل، ر وفي س: "يجتمعان".
وأما قوله: "ومن غلقٍ رهنٍ1" فمن جر فهو من قولهم: رهن غلقٌ، فلما قدم النعت اضراراً أبدل منه المنعوتَ، ولو قال: "ومن غلقٍ رهناٌ" فنصب على الحال من المعرفة بقي الاسم المضمر فيغلق.
وقوله: إذا ضمهُ منى فإنما سميت منى لما يمنى فيها من الدم، يقالُ في المني - وهي النطفة - منى الرجلُ وأنى، والقراءةُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} 2 ويقال: مذى الرجلُ وأمذى، وودى وأودى، فقولهم: وذى، يعني البلةَ3 التي تكونُ في عقبِ البولِ كالمذي، وأما المذي فيعتري من الشهوةِ والحركةِ.
وقال علي بن أبي طالب رحمه الله: كل فحلٍ مذاءٌ.
ومن كلام العرب: كل فحلٍ يمذي وكل أنثى تقذي؛ وهو أن يكون منها مثل المذي ولمَنَى موضعٌ آخر، يقال: منى الله لك خيراً، أي قدر لك خيراً، ويقال: منى اللهُ أن ألقى فلاناً، أي قدرَ، والمنيةٌ من ذا، يقال: لقيض فلانٌ منيته، أي ما قدرَ له من الموت، فأما المنيئة بالهمزة فهي المدبغةُ، وهي المكان الذي يدبغ فيه.
وقوله:
إذا راح نحو الجمرة البيضُ كالدمى
الجمرة إنما سميت لاجتماع الحصى فيها، ومن ثم قيل: لا تجمروا المسلمين فتفتنوهم وتفتنوا نساءهم، أي لا تجمعوهم في المغازي، والتجمير التجميع. وكذلك قيل في جمراتِ العرب، وهم: بنو نمير بن عامرِ بن صعصعةَ، وبنو الحارث بن كعب بن علةَ بن جلدٍ، وبنو ضبةَ بن أدِّ بن طابخةَ، وبنو عبس بن بغيض بن ريثٍ. لأنهم تجمعوا في أنفسهم ولم يدخلوا معهم غيرهم. وأبو عبيدةَ لميعدد فيهم عبساً في كتاب الديباج ولكنهقال: فطفئت جمرتانِ، وهما بنو ضبةَ - لأنها صارت إلى الرباِ فحالفت - وبنو الحارثِ، لأنها صارت إلىمذحجٍ؛ وبقيت بنو نميرٍ إلى الساعة، لأنهالم تحالف، وقال النميري يجيب جريراً:
نميرٌ جمرةُ العربِ التي لم ... تزل في الحرب تلتهب التهابا
وإني إذا أسبُ بها كليباً ... فتحت عليهم للخسف بابا
ـــــــ
1 رسمت في ر، وتحتها كسرتان وفوقها فتحتان.
2 سورة الواقعة 58.
3 زيادات ر: "بكسر الباء رواية عاصم، وبفتحها رواية ابن سراج".
وقال في هذا الشعرِ:
ولولا أن يقال هجا نميرا ... ولم تسمع لشاعرها جوابا
رغبنا عن هجاء بني كليبٍ ... وكيف يشتام الناس الكلابا!
لعمر بن أبي ربيعة في الثريا بنت عليوقال عمرُ بن عبد الله بن أبي ربيعة:
ليت شعري هل أقولن لركبٍ ... بفلاة هم لديها هجوع
طالما عرستم فاستقلوا ... حان من نجم الثريا طلوعُ
إن همي قد نفى النوم عني ... وحديث النفس شيءٌ ولوعُ
قال لي فيها عتيق مقالاً ... فجرت مما يقولُ الدموعُ
قال لي: ودع سليمى، ودعها ... فأجاب القلبُ: لا أستطيعُ
لا تلمني في أشتياقي إليها ... وأبكِ لي مما تجنُّ الضلوعُ
قوله:
حان من نجم الثريا طلوعُ
كنايةٌ، وإنما يريدٌ الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أميةَ الأصغر، وهم العبلات. وكانت الثريا وأختها عائشة أعتقتا الغريض المغني، واسمه عبدُ الملك، ويكنى أبا يزيد، ويقول إسحاق بن إبراهيم الموصلي: إنما سمي الغريض بالطلع، لأن الطلع يقالُ له الإغريض، وليس هو عندي ما قال، وإنما سمي الغريض لطرائته، يقال: لحمُ غريضٌ. وكانت الثريا موصوفة بالجمال، وتزوجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوفٍ الزهري، فنقلها إلىمصر، فقال عمرُ، يضربُ لهما المثل بالكوكبين:
أيها المنكحُ الثريا سهيلاً ... عمركَ الله، كيف يلتقيانِ!
هي شاميةٌ إذا ما استقلت ... وسهيلٌ إذا استقل يماني
وقوله:
قال لي فيها عتيق مقالاً
يزعمُ الرواة أن كل شيء ذكر فيه عتيقاً أو بكراً فإنما يعني ابن أبي عتيقٍ.
طرف من أخبار ابن عتيقوكان ابن أبي عتيق من نساكِ قريشٍ وظرفائهم، بل كان قد بذهم ظرفاً، وله أخبارٌ كثيرةٌ، سمير بعضها في الكتابِ، إن شاء الله.
فمن طريف أخباره أنه سمعَ وهو بالمدينة قول ابن أبي ربيعة:
فما نلت منها محرماً غير أننا ... كلانا من الثوب المطرفِ لابسُ
فقال: أبنا يعلبُ ابن أبي ربيعة! فأي محرم بقي! فركب بغلته متوجهاً إلى مكة، فلما دخل أنصاب الحرم، قيل له: أحرم، قال: إن ذا الحاجةِ لا يحرم، فلقي ابن أبي ربيعة فقال: أما زعمت أنك لم تركب حراماً قط! بلى، قال: فما قولك:
كلانا من الثوب المطرفِ لابسُ
فقال له: إذاً أخبركَ! خرجت بعلةِ المسجد، فصرنا إلى بعض الشعابِ، فأخذتنا السماءُ، فأمرتُ بمطرفي فسترنا الغلمانُ به، لئلا يروا بها بلةً فيقولوا: هلا استترت بسقائف المسجد! فقال لهابن أبي عتيقٍ: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنةٍ.
وهو الذي سمع قول عمر بن أبي ربيعة:
من رسولي إلى الثريا بأني ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتابِ!
فلبس ثيابه وركب بغلته وأتى باب الثريا، فاستأذن عليها، فقالت: والله ما كنت لنا زواراً، فقال: أجل، ولكني جئت برسالةٍ، يقول لك ابن عمك عمرُ بن أبي ربيعةَ:
ضقت ذرعاً بهجرك والكتابِ
فلامه عمرُ، فقال له ابن أبي عتيق: إنما رأيتك متلدداً تلتمس رسولاَ، فخففت في حاجتك، فإنما كان ثوابي أن أشكرَ.
ومن طريف أخباره أن عائشة بنت طلحة عتبت على مصعب بن الزبير فهجرته، فقال مصعبُ: هذه عشرة آلاف درهم لمن احتال لي أن تكلمني، فقال له ابن أبي عتيق: عدلِ المال، ثم صار إلى عائشة، فجعل يستعتبها لمصعب، فقالت والله ما عزمي أن أكلمه أبداً. فلما رأى جدها قال لها. يا بنتَ عم، إنه قد ضمن لي إن كلمته عشرةَ آلاف درهمٍ، فكلميه حتى آخذها، ثم عودي إلى ما عودكِ اللهُ.
ومن أخباره أن مرون بن الحكم قال يوماً: إني لمشغوف ببغلة الحسن بن علي رحمهما الله، فقال له ابن أبي عتيق: إن دفعتها إليك، أتقضي لي ثلاثين حاجةً? قال: نعم، قال: إذا اجتمع الناس عندك العشية فإني آخذ في مآثر قريش، ثم أمسك عن الحسن، فلمني على ذلك، فلما أخذالناس مجالسهم أخذ في مآثر قريشن فقال له مروان: ألا تذكر أوليةَ أبي محمد، وله في هذه ما ليس لأحدٍ? فقال: إنما كنا في ذكر الأشراف، ولو كنا في ذكر الأنبياء لقدمنا ما لأبي محمد! فلما خرج الحسن ليركب تبعه ابن أبي عتيق، فقال له الحسن - وتبسمَ -: ألك حاجةٌ? فقال: ذكرتُ البغلة، فنزل الحسنُ ودفعها إليه.
ومن طريف أخباره أن عثمان بن حيان المري لما دخل المدينة والياً عليها اجتمع الأشراف عليه من قريش والأنصار، فقالوا له: إنك لا تعمل عملاً أجدى ولا أولى من تحريم الغناء والرثاءِ، ففعل، وأجلهم ثلاثاً، فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة، فحط رحله بباب سلامة الزرقاء، وقال لها: بدأت بكِ قبل أن أصير إلى منزلي، فقالت: أو ما تدري ما حدث? وأخبرته الخبر، فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه، فقالت: إنا نخاف ألا تغني شيئاً وننكظ1، فقال: إنه لا بأس عليك، ثم مضى إلى عثمان فاستأذن عليه، فأخبره أن أحب ما أقدمه عليه حب التسليم عليه، وقال له: إن من أفضل ما عملت به تحريم الغناء والرثاء. قال: إن أهلك أشاروا علي بذلك. قال: فإنك قد وفقت، ولكني رسول امرأةٍ إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها، وأنا أسألك أيها الأمير ألا تحول بينها
ـــــــ
1 زيادة ر: "تعني تنالنا شدة".
وبين مجاورة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عثمان: إذن أدعها لك، قال: إذن لا يدعها الناس، ولكن تدعو بها فتنظرُ إليها، فإن كانت ممن يترك تركتها، قال: فادعُ بها، قال: فأمرها ابن أبي عتيق فتقشفت، وأخذت سبحةً في يدها، وصارت إليه، وحدثته عن مآثر آبائه، ففكهَ لها? فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير، ففعلت، فأعجب بذاك. فقال لها: فاحدي للأمير، فحركه حداؤها، ثم قال لها: غيري للأمير، فجعل يعجب بذلك عثمانُ، فقال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها! فقال: قل لها فلتقل، فأمرها فتغنت:
سددن خصاص الخيم لما دخلنه ... بكل لبانٍ واضحٍ وجبين
فنزل عثمان بن حيان عن سريره حتى جلس بين يديها، ثم قال: لا والله، ما مثلك يخرجُ عن المدينة! فقال له ابن ابي عتيق: إذن يقول الناس أذنَ لسلامةَ في المقام ومنع غيرها! فقال له عثمان: قد أذنتُ لهم جيمعاً.
لابن نمير الثقفيوقال ابن نمير الثقفي:
أشاقتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الزي الجميل من الأثاثِ
ظعائن أسلكت نقب المنقى ... تحث إذا ونت أي احتثاثِ
كأن على الظعائن يوم بانوا ... نعاجاً ترتعي بقل البراثِ
يهيجني الحمامُ إذا تغنى ... كما سجع النوائح بالمراثي
قوله: الظعائن واحداتها ظعينةٌ، وإنما قيل لها: ظعينةٌ، وهم يريدوه مظعوناً بها، كقولك: قتيلٌ، في معنى مقتول، ثم استعمل هذا وكثر حتى قيل للمرأة المقيمة: ظعينةٌ.
وقوله:
بذي الزي الجيمل من الأثايِ
هي الرواية الصحيحة، وقد قيل بذي الري الجميل واستهواهم إليه قول الله جل ثناؤه: {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} 1 فالأثاث متاع البيت، ولاري ما ظهر من
ـــــــ
1 سورة مريم 74.
الزينة، وإنما أخذ من قولك: رأيتُ، فالري غير الأثاث والزي من الأثاثِ، فمن ههنا غلطوا.
وقوله: "أسلكت نقب المنقى"، فالمنقى موضع بعينه، والنقب: الطريق في الجبل، والخل: الطريق في الرمل، فإن اتسع الطريق في الجبل وعلا فهو ثنيةٌ، قال ابن الأيهم التغلبي:
وتراهن شزباً كالسعالي ... يتطلعن من ثنايا النقابِ 1
وقوله:
نعاجاً ترتعي بقل البراثِ
فالنعجة عند العرب البقرة الوحشية، وحكم البقرة عندهم حكم الضائنة، وحكم الطبية عندهم حكمُ الماعزة، والعرب تكني بالنعجة عن المرأة وبالشاةِ، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} 2 وقال الأعشى:
فرميت غفلة عينه عن شاتِه ... فأصبت حبة قلبها وطحالها
يريد المرأة. وأما البراث، فهي الأماكن السهلة من الرمل، واحدها برثٌ، مفتوح موضع الفاء من الفعل، وتقديرها: كلب وكلابٌ، والسجع من الكلام: أن تأتلف أواخره على نسقٍ، كما تأتلف القوافي، وهو في البهائم: موالاة الصوتِ، قال ابن الدمينة:
أأن سجعتْ ورقاءُ في رونقِ الضحى ... على فننٍ غض النباتِ من الرند3
ـــــــ
1 الشذب: الضوامر.
2 سورة ص 23.
3 زيادات ر: "الرند": صغار الأس.
لعمر بن أبي ربيعةوقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي ... أتحب القتول أختَ الربابِ?
قلت: وجدي بها كوجدك بالما ... ء إذا ما منعت برد الشرابِ
من رسولي إلى الثريا بأني ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتابِ
سلبتني مجاجة المسك عقلي ... فسلوها بما تحل اغتصابي1?
أزهتقت أم نوفلٍ إذ دعتها ... مهجتي، ما لقاتلي من متابِ
حين قالت لها أجيبي فقالت ... من دعاني? قالت أبو الخطابِ
فاستجابت عند الدعاء كما لبى ... رجالٌ يرجون حسن الثوابِ
أبرزوها مثل المهاةِ تهادى ... بين خمس كواعبٍ أترابِ
وهي مكنونةٌ تحير منها ... في أديم الخدين ماءُ الشبابِ
ثم قالوا: تحبها? قلت: بهراً ... عدد النجم والحصى والترابِ
دميةٌ عند راهبٍ ذي اجتهادٍ ... صوروها في جانب المحرابِ
قوله:
قلت وجدي بها كوجدكَ بالماء
معنى صحيح، وقد اعتوره الشعراءُ، وكلهم أجادَ فيه.
وقوله:
إذا ما منعت برد الشرابِ
يريد: عند الحاجة، وبذلك صح المعنى. ويورى عن علي بن أبي طالب رحمه الله أن سائلاً سأله، فقال: كيف كان حبكم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? فقال: كان واللهِ أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ. وقال آخر - وأحسبه قيس بن ذريحٍ:
حلفت لها بالمعشرين وزمزمِ ... وذو العرش فوق المقسمين رقيبُ2
[قال أبو الحسن: ويروى: والله فوق المقسمين، وهو أحب إليَّ].
لئن كان بردُ الماء حرانَ صادياً ... إلي حبيباً إنها لحبيبُ
وقال القطامي:
يقتلنا بحديث ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكنونه بادي
فن ينبذن من قولٍ يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلةِ الصادي
والقول فيه كثير.
ـــــــ
1 قال المرصفى: مجاجة المسك: ومجتها التي تنفح رائحة المسك.
2 أراد بالمشعرين، المشعر الحرام فثناه، وهو موضع بالمزدلفة، قاله المرصفى.
وقوله:
ضقت ذرعاً بهجرها والكتابِ1
قوله: "والكتابِ" قسمٌ.
وقوله:
أزهقت أم نوفلٍ إذ دعتها مهجتي
وقوله: تأويله: أبطلت وأذهبت، قال الله جل وعزَّ: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} 2 الأنبياء؛ 18؛ وللزاهق موضع آخرُ، وهو السمين المفرطُ، قال زهيرٌ:
القائدُ الخيل منكوباً دوابرها ... منها الشنونُ ومنها الزاهقُ الزهِمُ3
وقوله: "ما لقاتلي من متاب" يقول: من توبةٍ، والمصدر إذا كان بزيادة الميم من فعلَ يفعلُ فهو على مفعلٍ قال الله جل وعزّ: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} 4 وأما قوله جل ذكره: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} 5 فيكون على ضربين، يكون مصدراً، ويكون جماعاً. فالمصدر قولك: تاب يتوب توباً، كقولك: قال يقولو قولاً، والجمع توبةٌ وتوبٌ، مثل تمرةٍ وتمر، وجمرةٍ وجمرْ.
وقوله:
أبرزوها مثلَ المهاةِ تهادى
المهاةُ، البقرةُ في هذا الموضعِ، وتشبه المرأة بالبقرة من الوحش لحسن عينيها ولمشيتها، والبقرةُ يقال لها: العيناءُ، والجماعُ العينُ، وكذلك يقالُ للمرأةِ. وتكون المهاةُ البلورة في غير هذا الموضعِ.
وقوله: "تهادى" يريدُ: يهدي بعضها بعضاً في مشيتها، ومشية البقرةِ تستحسنُ، قال ابن أبي ربيعةَ:
ـــــــ
1 الذرع: الطاقة.
2 سورة الأنبياء 18.
3 قال المرصفى: منكوبا، من نكبت الحجارة الحافر تنكب أصابته فأمسته.
4 سورة الفرقان 71.
5 سورة غافر 3.
أبصرتها ليلة ونسوتها ... يمشين بين المقامِ والحجرِ
يمشين في الريط والمروط كما ... تمشي الهويني سواكنُ البقرِ
وقوله: "كواعب" الواحدةُ كاعبٌ، وهي التي قد كعب ثدياها للنهود. أترابٌ: أقرانٌ، ويقال: تربُ فلانٍ.
والممكورة: المكتنزة.
وقوله:
ثم قالوا تحبها قلتُ بهراً
قال قوم: أراد بقوله: تحبها الستفهام، كما قال امرؤ القيس:
أحارِترى برقاً أريكَ وميضهُ
فحذف ألف الاستفهام، وهو يريد أترى، وقولوا: أراد أتحبها، وهذا خطأ فاحشٌ، إنما يجوز حذف الألفِ إذا كان في الكلامِ دليلٌ عليها، وسنفسرُ هذا ونذكرُ الصوابَ منه، إن شاء الله.
قوله: تحبها إيجاب عليه، غير استفهامٍ؛ إنما قالوا: أنت تحبها، أي قد علمنا ذاك، فهذا معنى صحيحٌ لا ضرورة فيهِ.
وأما قولُ امرىء القيس فإنما جاز لأنه جعل الألف التي تكونُ للاستفهام تنبيهاً للنداءِ، واستغنى بها، ودلت على أن بعدها ألفاً منويةً، فحذفت ضرورةً، لدلالة هذه العليها. ونظير قول امرىء القي: "أحار ترى برقاً" فاكتفى بالألفِ عنِ أن يعيدها في ترى قول ابن هرمة:
ولا أراها تزالُ ظالمةً ... تظهر لي قرحة وتنكؤها
استغنى بلا الأولى عن إعادتها؛ كما قال التميمي. وهو اللعين المنقري:
لعمرك ما أدري وإن كنتُ دارياً ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقرِ
يريد "أشعيث" فدلت "أم" على ألف الاستفهام، وقال ابن أبي ربيعة:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
مثل ذلك: وبيت الأخطل فيه قولان، وهو:
كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ... غلس الظلامَ من الربابِ خيالاَ
قال: أراد: "أكذبتك عينكَ" كما قلنا فيما قبله، وليس هذا بالأجود، ولكنه ابتدأ متيقنا ثم شك، فأدخل "أم" كقولك: "إنها لإبل" ثم تشك فتقول: "أم شاء" يا قوم.
وقوله: "قلت بهراً" يكون على وجهين؛ أحدهما: حباً يبهرني بهراً.
أي يملأني، ويقال للقمر ليلة البدرِ: باهرٌ، أييبره النجوم، يملأها، كما قال ذو الرمة:
كما يبهر البدرُ النجومَ السواريا
وقال الأعشى:
حكمتموه فقضى بينكمُ ... أبلج مثل القمرِ الباهرِ
والوجهُ الآخر: أن يكون أراد "بهراً لكم" أي: تباً لكم حيث تلومونني على هذا، كما قال ابن ميادة1:
تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي ... بجاريةٍ بهراً لهم بعدها بهرا
وقوله:
عدد النجم والحصى والترابِ
فيه قولان: أحدهما أنه أراد بالنجم النجوم، ووضع الواحد في موضع الجمع، لأنه للجنس؛ كما تقول: أهلك الناس الدرهم والدينارُ، وقد كثرتِ الشاةَ والبعيرُ، وكما قال الله جل وعزَّ: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2 .
وقال الشاعر:
فبات يعدُّ النجمَ في مستجيرةٍ ... سريعٍ بأيدي الآكلين جمودها
يريد النجمَ، ويعني بالمستحيرة إهالة3. والوجهُ الآخرُ أن يكون النجمُ ما نجمَ من النبتِ، وهو ما لم يقم على ساقٍ، والشجرُ ما يقوم على ساقٍ.
ـــــــ
1 في ر، س: "ابن مفرع" وصوابه من الأصل.
2 سورة العصر 3،2.
3 الإهالة: ما أذيب من الشحم.
واليقطين: ما انتشر على وجه الأرض. قال الله عز وجل: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} 1، وقال الحارث بن ظالمٍ، للأسودِ بن المنذر بنماء السماء:
أخصيي حمارٍ بات يكدم نجمةً ... أيؤكل جيراني وجارُكَ سالمُ!
ومن طريف شعره قوله:
فلما فقدتُ الصوتَ منهم وأطفئت ... مصابيحُ شبت بالعشاءِ وأنؤرُ
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه ... وروح رعيانٌ ونومَ سمرُ
ونفضت عني العين أقبلت مشية الـ ... ـحباب وركبي خيفة القوم أزورُ
فحييتُ إذ فاجأتها فتولهت ... وكادت بمكنون التحيةِ تجهرُ
وقالت وعضت بالبنانِ: فضحتني ... وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسرُ
أريتك إذ هنا عليك ألم تخف ... رقيباً وحولي من عدوكَ حضرُ
واللهِ ما أدري أتعجيلُ حاجةٍ ... سرت بك أم قد نامَ من كنت تحذرُ
فقلت لها: بل قادني الشوق والهوى ... إليك وما عينٌ من الناس تنظرُ
فيا لك من ليلٍ تقاصرَ طولهُ ... وما كان ليلي قبلَ ذلك يقصرُ
ويا لك من ملهى هناك ومجلسٍ ... لنا لم يكدره علينا مكدرُ
يمج ذكيَّ المسكِ منها مفلجٌ ... رقيقُ الحواشي ذو غروبٍ مؤشرُ
يرفُّ إذا يفترُّ عنه كأنهُ ... حسى بردٍ أو أقحوانٌ مغورُ
وترنو بعينيها إلي كما رنا ... إلى ربابٍ وسط الخميلةِ جؤذرُ
فلما تقضي الليلُ إلا أقلهُ ... وكادت توالي نجمه تتغورُ
أشارت بأن الحيَّ قد حان منهمُ ... هبوبٌ ولكن موعدٌ لك عزورُ
فما راعني إلا منادٍ برحلةٍ ... وقد لاح مفتوقٌ من الصبح أشقرُ
فلما رأت من قدر تثورَ منهمُ ... وأيقاظهم قالت أشرْ كيف تأمرُ
فقلت: أباديهم فإما أفوتهم ... وإما ينالُ السيفُ ثأراً فيثأرُ
فقالت: أتحقيقاً لِما قال كاشحٌ ... علينا، وتصديقاً لما كان يؤثر!
فإن كان ما لا بد منه فغيره ... من الأمر أدنى للخفاءِ وأسترُ
أقص على أختي بدء حديثنا ... ومالى من أن تعلما متأخر
ـــــــ
1 سورة الرحمن 6.
لعلهما أن تبغيا لك مخرجاً ... وأن ترحبا سرباً بما كنتُ أحصرُ
فقامت كئيباً ليس في وجهها دمٌ ... من الحزنِ تذري عبرةٌ تتحدرُ
فقالت لأختيها: أعينا على فتى ... أتى زائراً والأمر للأمر يقدرُ
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا: ... أقلي عليكِ الهمَّ فالخطبُ أيسرُ
يقوم فيمشي بيننا متنكراً ... فلا سرنا يفشو ولا هو يظهرُ
فكان مجني دون من كنتُ أتقي ... ثلاثُ شخوصٍ كاعبانٍ ومعصرُ
فلما أجزنا ساحةَ الحي قلن لي: ... ألم تتقِ الأعداءَ والليلُ مقمرُ!
وقلن: أهذا دأبك الدهرَ سادراً ... أما تستحي أو ترعوي أو تفكرُ!
قوله: "شبت" يقول: أوقدت، يقالُ: شببتُ النارَ والحربَ، أي أوقدتهما.
وقوله: "وأنؤر" إن شئت همزتَ، وإن شئت لم تهمز، وإنما الهمز لانضمام الواو، وقد مضى تفسير هذا.
وقوله: "قميرٌ"، إنما صغره لأنه ناقصٌ عن التمام، وهذا في أول الشهر، وكذلك يصغرُ في آخر الشهر، لأن النقصان فيهما واحدٌ، قال عمرُ:
وقميرُ بدا ابن خمسٍ وعشريـ ... ـن له قالتِ الفتاتان قوما
وقوله: رعيانٌ يريد جمع الراعي، ومثله: راكبٌ وركبانٌ، وفارسٌ وفرسانٌ.
والسمرُ: جمع السامرِ، وهم الجماعة يتحدثون ليلاً.
والحباب: حيةٌ بعينها.
وقوله: ونفضت عني العين يقول: احترستُ منها وأمنتها، والنفضة: أمامَ العسكر: القوم يتقدمون فينفضون الطريق.
وقوله: أزورُ، يعني متجافياً، يقال: تزاور فلانٌ؛ إذا ذهب في شقٍّ.
وقوله: ذو غروبٍ؛ غربُ كل شيءٍ: حده، وإنما يعني الأسنانَ.
وقوله: "مؤشرُ" يعني له أشرٌ، وهو تشريرُ الأسنان في قول الناس جميعاً، يقال: لأسنانه أشرٌ، فهذا الشائعُ الذائع، وأما الشنبُ، فهو عندهم جيمعاً بردٌ في الأسنان.
وحدثني الرياشي عن ابن عائشة قال: أخذ أبي حبةَ رمانٍ بين إصبعيه فإذا هي ترفُ، فقال: هذا الشنبُ.
وقوله:
وكادت توالي نجمه تتغورُ
التوالي: التوابعُ، وتتغورُ: تغورُ فتذهب، وهو مأخوذ من الغور.
وقوله: "أشارت بأن الحي قد حان منهم هبوبٌ" يقول: انبتاهٌ، يقال: هبَّ من نومه يهبُّ، قال عمرو بن كلثومٍ:
ألا هبي بصحنكِ فاصبحينا ... ولا تبقي خمورَ الأندرينا
وقال الاخر:
هبت تلومُ وليست ساعةَ اللاحي ... هلا انتظرت بهذا اللومِ إصباحي
وعزور: موضع بعينه.
وقوله: ويقاظهم جمع يقظ.
وقوله: فقالت أتحقيقاً أي أتفعل هذا تحقيقاً، ومن كلام العرب: أكلُّ هذا بخلاً? وذاك أنه رآه يفعل شيئاً أنكره فقال: أتفعل كل هذا بخلاً! وقوله: أباديهم أظهر لهم، غير مهموزٍ يقال. بدا يبدو، غير مهموزٍ، إذا ظهر، وبدأت بهذا، مهموزٌ، إذا أردت به معنى الأول.
وقوله: بدء حديثنا يريد أول حديثنا.
وقوله: أن ترحبا يريد: أن تتسع، أي تتسع صدروهما، من قولهم: فلانُ رحيب الصدرِ.
وقوله: "أحصرُ" أضيق به ذرعاً، قد مضى تفسيره.
وقوله: "مجني" يريد تُرسي.
وقوله: "ثلاث شخوص" والوجهُ ثلاثةً أشخُصٍ ولكنها لما قصد إلى النساء أنثَ على المعنى، وأبان لما أرادَ بقوله: "كاعبانِ ومعصرُ".
ومثله قولُ الشاعر:
فإن كلابا هذا عشرُ أبطنٍ ... وأنت بريء من قبائلها العشرِ
فقال: "عشرُ أبطنٍ"، لن البطنَ قبليةٌ، وأبانَ ذلك في قوله: من قبائلها العشرِ، وقال الله جل وعز: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 1 لأن المعنى حسناتٌ.
ويروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبةَ المري إلى المدينة اعترض الناس، فمر به رجل من أهل الشام معه ترسٌ قبيح، فقال له: يا أخا أهل الشأم، مجن ابن أبي ربيعة أحسن من مجنك! يريد قول ابن أبي ربيعة:
فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاثَ شخوصٍ كاعبان ومعصرِ
وقوله: أما تستحي، يريد: تستحيي وله تفسير يبعد في العربية قليلاً، وسنذكره بعد هذا، إن شاء الله.
ـــــــ
1 سورة الأنعام 160.
باب
عمر الوادي والعبد الأسودقال أبو العباس: وحدثتُ أن عمر الوادي قال: أقبلتُ من مكة أريدُ المدينةَ، فجلعتُ أسيرُ في صمدٍ1 من الأرض، فسمعت غناءً من القرار2 لم أسمع مثله، فقلت: والله لأتوصلن إليه ولو بذهاب نفسي، فانحدرتُ إليه، فإذا عبدٌ أسود، فقلت له: أعد علي ما سمعت، فقال لي: والله لو كان عندي قرى أقريك ما فعلتُ، ولكني أجعله قراكَ، فإني [والله3] ربما غنيت هذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، وربما غنيته وأنا عطشان فأروى، ثم انبرى يغنيني4:
وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضها ... رى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفراتِ البيضِ ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها5
وبعده:
وتحلل أحقادي إذا ما لقيتها ... وتبقى بلا ذنبٍ علي حقودها
وكيف يحب القلب من لايحبه ... بلى قد تريد النفس من لا يريدها6
قال عمر: فحفظته عنه، ثم تغنيت به على الحالات التي وصف، فإذا هو كما ذكر.
ـــــــ
1 الصمد: المكان المرتفع من الجبال، وفي ر: "صرد".
2 القرار: المطمئن من الأرض.
3 تكمله من س.
4 س: "يغنى".
5 ر: "إذا ما قضت أحدوثة".
6 مابين العلامتين من زيادات ر.
خالد صامة والوليد بن يزيدوتحدث الزبيريون عن خالد صامة أنه كان من أحسن الناس ضرباً بعودٍ1، قال: فقدمت على الوليد بن يزيد، وهو في مجلس ناهيك به مجلساً! فألفيته على سريره، وبين يديه معبدٌ، ومالكُ بن أبي السمح، وابن عائشة، وأبو كمال غزيل الدمشقي، فجعلوا يغنون، حتى بلغت النوبة لي فغنيته:
ـــــــ
1 كذا في الأصل، ر، وفي س: "بالعود".
سرى همي وهم المرء يسري ... وغار النجم إلا قيد فترِ
أراقب في المجرةِ كل نجمِ ... تعرض أو على المجراة يجري
لهم ما أزال له قريناً ... كأن القلب أبطن حر جمرِ
على بكرٍ أخي فارقت بكراً ... وأي العيش يصلح بعد بكرِ!
فقال لي: أعد يا صام1؛ ففعلت، فقال لي: من يقول هذا الشعر? فقلت: هذا يقوله عروة بن أذينة يرثي أخاه بكراً، فقال لي الوليد:
وأي العيس يصلح بعد بكرِ
هذا العيش الذي نحن فيه، والله قد تحجر واسعاً على رغم أنفهِ.
وحدثت أن سكينة بن الحسين أنشدت هذا الشعر، فقالت: ومن بكرٌ? فوصف لها، فقالت: أذاك الأسيد الذي يمر بنا? والله لقد طاب كل شيءٍ بعد ذاك، حتى الخبز والزيتُ.
ـــــــ
1 صام، بالترخيم.
من أخبار يزيد بن عبد الملكوروى أصحابنا أن يزيد بن عبد الملك -وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية وإليها كان ينسب - قال يوماً: يقال: إن الدنيا لم تصف لأحد قط يوماً، فذا خلوت يومي هذا فاطووا عني الأخبار، ودعوني ولذتي وما خلوتُ له، ثم دعا بحبابة، فقال: اسقيني وغنيني، فخلوا في أطيب عيش، فتناولت حبابةُ حبة رمان، فوضعتها في فيها، فغصت بها فماتت، فجزع يزيد جزعاً أذهله ومنه من دفنها، حتى قال له مشايخ بني أمية؛ إن هذا عيب لا يستقال، وإنما هذه جيفة، فأذنَ في دفنها، وتبع جنازتها، فلما واراها قال: أمسيت والله فيك كما قال كثيرٌ:
فإن تسلُ عنك النفس أو تدعِ الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلدِ
وكل خليلٍ راءني فهو قائلٌ ... من اجلك: هذا هامة اليوم أو غدِ
فعد بينهما خمسة عشر يوماً.
وقوله: "راءَني" يريد "رآني"، ولكنه قلب؛ فأخر الهمزة. ونظير هذا من الكلام قسيٌّ وإنما الأصل قؤوسٌ ولما أخرَ الواوين أبدل منهما، ياءين، كما يجب في الجمع، وتقول: دلو ودلويٌّ، وعاتٍ وعتيٌّ، وإن شئت قلت: عتي ودليُّ، من أجدل الياء، فإن كان فعولٌ لواحدٍ قلت: عتو. ويجوز القلبُ، والوجه في الواحد إثبات الواوِ، كما تقولُ: مغزوٌّ ومدعوٌّ ويجوز مغزيٌّ وفي القرآن {وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} 1 وقال: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} 2 وقال: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} 3 والأصل مرضوةٌ لأنه من الواو، من الرضوان. ومن القلب قولهم طأمن ثم قالوا: اطمأن، فأخروا الهمزة وقدموا الميم، ومثل هذا كثيرٌ جداً.
وقوله: "هذا هامةُ اليوم أو غدِ"، يقول: ميت في يومه أو في غدِهِ، يقال: إنما فلانٌ هامةٌ أي يصير في قبره، وأصل ذلك شيءٌ كانت العربُ تقوله، قد مضى تفسيره.
ـــــــ
1 سورة الفرقان 21.
2 سورة مريم 69.
3 سورة الفجر 28.
إسحاق الموصلي والرشيدوحدثني عبد الصمد بن المعذل قال: سمعتُ إسحاق بن إبراهيم الموصلي يتحدث قال: حججت من أمير المؤمنين الرشيد، فلما قفلنا فنزلنا المدينة آخيت بها رجلاً كان له سنٌّ ومعرفةٌ وأدبٌ، فكان يمتعني، فني ذات ليلةٍ في منزلي إذا أنا بصوته يستأذن عليَّ، فظننت أمراً قد فدحه ففزع فيه إلي، فأسرعت نحو الباب، فقلتُ: ما جاء بك? فقال: إذن أخبركَ: دعاني صديقٌ لي إلى طعام عتيدٍ1، وشرابٍ قد التقى طرفاهُ، وشواءٍ رشراشٍ، وحديثٍ ممتعٍ، وغناءٍ مطربٍ؛ فأجبته، وأقمتُ معه إلى هذا الوقت، فأخذت مني حمياً الكأسِ مأخذها، ثم غنيتُ بقول نصيبٍ:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... وقل إن تملينا فما ملكِ القلبُ
فكدت أطير طرباً، ثم وجدتُ في الطرب نقصاً إذ لم يكن معي من يفهم ذا كما فهمته، ففزعت إليك لأصف لك هذه الحال، ثم أرجع إلى صاحبي، وضرب نعليه مولياً عني! فقلت: قف أكلمك، فقال: ما بي إلى الوقوف إليك من حاجةٍ.
ـــــــ
1 عتيد: معتد.
من أخبار حسان بن ثابتوحدثن غير واحدٍ من أصحابنا عن أبي زيدٍ سعيد بن أوسٍ الأنصاري، يسندهُ، قال: كانت وليمةٌ في أخوالنا، وهم حي يقال لهم بنو نبيطٍ، من الأنصار، قال: فحضر الناس وجاء حسانُ بن ثابتٍ وقد ذهب بصرهُ، ومعه ابنه عبد الرحمن يقودهُ، فلما وضع الطعام وجيء بالثريدِ قال حسان لابنه: يا بني، أطعامُ يدٍ أم طعامُ يدين? فقال: با طعامُ يدٍ، فأكل ثم جيْ بالشواءِ، فقال: أطعام يدٍ أم طعامُ يدين? فقال: طعام يديد، فأمسك، وفي المجلس فينتان تغنيان بشعر حسان:
انظر خليلي ببابِ جلقَ هل ... تؤنس دون البلقاءِ من أحد؟1
قال: وحسان يبكي، يذكر ما كان فيه من صحة البصر والشباب، وعبد الرحمن يومىء إليهما: أن زيدا. قال أبو زيد: فلأعجبني ما أعجبه من أن تبكيا أباهُ.
يقول: عجبت ما الذي اشتهى من أن تبكيا أباهُ. فقوله: أعجبني أي تركني أعجبُ. ومثله قول ابن قيس الرقياتِ:
ألا هزئت بنا قرشيـ ... ـةٌ يهتز موكبها
رأت بي شيبةً في الرأ ... سِ عني ما أغيبها
فقالت: أبن قيسٍ ذا؟ ... وبعض الشيبِ يعجبها
أي تعجب منه.
ـــــــ
1 جلق: إحدى قرى دمشق.
خليلانُ الأموي يغني لأمير البصرة
وحدثني عبد الصمد بن المعذل، قال: كان خليلان1 الأموي يتغنى، ويرى ذاك زائداً في الفتوة. وكان خليلانُ شريفاً وذا نعمةٍ واسعةٍ، فحضر يوماً منزل عقبة بن سلم الهنائي وهو أمر البصرة، وكان عاتياً جباراً، فلما طعما وخلوا نظر خليلانُ إلى عودٍ موضوعس في جانب البيت، فعلم أنه عرض له به، فأخذه فتغنى:
ـــــــ
1 خليلان، كان يعرف به خليل بن عمرو، مولى بنى عامر بن لؤى، كان يؤدب الصبيان ويعلم الجوارى الغناء في موضع واحد. "رغبة الآمل".
بابنة الأزدي قلبي كئيب ... مستهامٌ عندها ما يؤوب
ولقد لاموا فقلت: دعوني ... إن من تلحون فيه حبيبُ
فجعل وجه عقبة يتغير، وخليلانُ في سهو عما فيه عقبةُ، يرى أنه محسن، ثم فطن لتغير وجه عقبة، فعلم أنه كارهٌ1 لما تغنى به، فقطع الصوت، وجعل مكانه:
ألا هزئت بنا قرشيةيهتزُّ موكبها
فسري عن عقبة، فلما انقضى الصوت وضع خليلانُ العودَ، ووكد على نفسه الحلف ألا يني عند من يجوز أمره عليه أبداً.
ـــــــ
1 كلمة "كاره" ساقطة من ر، وهي في الأصل، س.
غضب الرشيد لشعر مدح به أخوهوحدثت أن رجلاً تغنى بحضرة الرشيد بشعر مدح به علي بن ريطة، وهو علي ابن أمير المؤمنين المهدي، وتغناه على جهل، وهو:
قل لعلي: أيا فتى العربِ ... وخير نام وخير منتسبِ
أعلاك جداك يا علي إذا ... قصر جدٌّ في ذروة الحسبِ
ففتش عن المغني فوجده لم يدر فيمن الشعرُ. فبحث عن أول من تغنى فيه، فذا هو عبدُ الرحيم الرقاص، فأمر فضرب أربعمائة سوط.
معاوية وابنه يزيدوحدثت أن معاوية استمع على يزيد ذات ليلةٍ، فسمع من عنده غناءً أعجبه، فلما أصبح قال ليزيد: من كان ملهيك البارحة? فقال له يزيد: ذاك سائب خاثرٍ، قال: إذاً فأخثر له من العطاء.
معاوية عند عبد الله بن جعفروحدثت أن معاوية قال لعمرو: امضِ بنا إلى هذا الذي قد تشاغل باللهو وسعى في هدم مروءته، حتى ننعى عليه، أي نعيب عليه فعله - يريد عبد الله بن جعفر بن أبي طالبٍ - فدخلا إليه، وعنده سائبُ خاثر، وهو يلقي على جوارٍ لعبدِ الله، فأمر عبد الله بتنحية الجواري لدخول معاوية، وثبت سائبُ مكانه، وتنحىعبد الله عن سريره لمعاوية، فرفع معاويةُ عمراً فأجلسه إلى جانبه، ثم قال لعبد الله: أعد ما كنت فيه، فأمر بالكراسي فالقيت، وأخرج الجواري، فتغنى سائبٌ بقول قيس بن الخطيم:
ديارُ التي كادت ونحن على منى ... تحل بنا لولا نجاء الركائبِ
ومثلك قد اصبتُ ليست بكنةٍ ... ولا جارةٍ ولا حليلة صائب1
وردده الجواري عليه، فحرك معاويةُ يديه وتحرك في مجلسه، ثم مد رجليه، فجعل يضرب بهما وجه السرير. فقال له عمروٌ: اتئد يا أمير المؤمنين، فإن الذي جئت لتلحاه أحسن منك حالاً وأقل حركة. فقال معاوية: اسكت لا أبا لك! فإن كل كريمٍ طروبٌ.
ـــــــ
1 الكنة: امرأة الابن أو الأخ.
سفيان بن عيينة وجاره السهميوحدثت من غير وجه أن سفيان بن عيينة قال لجلسائه يوماً: إني أرى جارنا هذا السهمي قد أثرى وانفسحت له نعمةٌ، وصار ذا جاهٍ عند الأمراء، ووافداً إلى الخلفاء، فمم ذاك? يعني يحيى بن جامعٍ، فقال له جلساؤه: إنه يصير إلى الخليفة فيتغنى له، فقال سفيانُ: فيقول ماذا? فقال أحدُ جلسائه: يقول:
أطوف نهاري مع الطائفني ... وأرفع من مئزري المسبلِ
فقال سفيان: ما أحسن ما قال! فقال الرجلُ:
واسهر ليلي مع العاكفين ... وأتلوا من المحكم المنزلِ
قال: حسن والله جميل، قال: إن بعد هذا شيئاً، قال سفيان: وما هو? قال:
عسى فارج الكرب عن يوسفٍ ... يسخرُ لي ربةَ المحملِ
فزوى سفيانُ وجههُ، وأومأ بيده أن كفَّ، وقال: حلالاً حلالاً!
ابن أبجر يغني لعطاء بن رباحولقي ابن أبجر عطاء بن أبي رباح وهو يطوف، فقال: اسمع صوتاً للغريض، فقال له عطاءُ: يا خبيث، أفي هذا الموضع! فقال ابن أبجر: ورب هذه البنية لتسمعنه خفيةً، أو لأشيدنَّ به، فوقف له، فتغنَّى:
عوجي علينا ربةَ الهودج ... إنكِ إلا تفعلي تحرجي
أنى أُتيحت لي يمانةٌ ... إحدى بني الحارثِ من مذحجِ
تلبث حولاً كاملاً كلهُ ... لا نلتقي إلا على منهجِ
في الحج إن حجت، وماذا منًى ... وأهله إن حي لم تحججِ!
فقال له عطاء: الكثير الطيب يا خبيث!
سليمان بن عبد الملك في عسكرهوسمع سليمان بن عبد الملك متغنياً في عسكره، فقال: اطلبوه، فجاؤوا به، فقال: أعد ما تغنيت، فتغنى واحتفل، وكان سليمانُ مفرطَ الغيرةَِ، فقال لأصحابه: والله لكأنها جرجرةُ الفحلِ في الشولِ1، وما أحسب أنثى تسمعُ هذا إلا صبت. ثم أمر به فخصي.
ـــــــ
1 الجرجرة: هدير الفحل، والشول: جمع شائلة، وهي من الإبل التي أنى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فجف لبنها به.
الفرزدق يسمع الأحوص يغني بشعر جريروحدثت أن الفرزدق قدم المدينة فنزل على الأحوص بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فقال له الأحوص: ألا أسمعك غناءً من غناءِ القرى? فأتاه بمغنٍّ فجعل يغنيه، فكان ما غناه:
أتنسى إذ تودعنا سليمى ... بفرغ بشامةٍ، سقي البشامُ! 1
ولو وجد الحمامُ كما وجدنا ... بسلمانين لاكتأب الحمامُ2
فقال الفرزدق: لمن هذا الشعر? فقالوا: لجريرٍ، ثم غناه:
اسرى لخالدةَ الخيالُ ولا أرى ... شيئاً ألذ من الخيالِ الطارقِ
إن البليةَ من تملُّ حديثَه ... فانقع فؤادكَ من حديثِ الوامِقِ3
ـــــــ
1 سلمانين: واديا في جبل لغنى.
2 تكملة من س.
3 الوامق: المحب.
فقال: لمن هذا؟ فقيل: لجرير، ثم غناه:
إن الذين غدوا بلبكَ غادروا ... وشلا بعينك ما يزالُ معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟
فقال: لمن هذا؟ فقالوا: لجريرٍ، فقال الرزدق: ما أحوجه مع عفافه إلى خشونة شعري، وأحوجني مع فسوقي إلى رقةِ شعره!
الأحوص ومعبد عند عقيلة المغنيةوقال الأحوص يوماً لمعبدٍ: امض بنا إلى عقيلةَ حتى نتحدثَ إليها، ونسمع من غنائها وغناء جواريها. فمضيا، فألفيا على بابها معاذاً الأنصاري، ثم الرزرقي، وابن صائدٍ النجاري، فاستأذنوا عليها جميعاً؛ فأذنت لهم إلا الأحوص، فإنها قالت: نحن غضابٌ على الأحوص، فانصرف الأحوص وهو يلومُ أصحابه على استبدادهم، فقال:
ضنت عقيلةُ لما جئتُ بالزادِ ... وآثرت حاجةَ الثاوي على الغادي
فقلت: والله لولا أن تقول له ... قد باح بالسرِّ أعدائي وحسادي
قلنا لمنزلها: حييتَ من طللٍ ... وللعقيق: ألا حييت َمن وادي!
إني جعلتُ نصيبي من مودتها ... لمعبدٍ ومعاذٍ وابن صيادِ
لابن اللعين الذي يخبا الدخانُ له ... وللمغني رسولِ الزور قوادي
أما معاذٌ فإني لست ذاكرهُ ... كذا أجدادهُ كانوا الأجدادي
قال الزبيري: وكان معاذٌ جلداً، فخاف الأحوص أن يضربه، فحلف معبدٌ ألا يكلم الأحوص ولا يتغنى في شعره، فشق ذلك على الأحوص، فلما طالت هجرته إياه رحل نجيباً له وجعل طلاء1 في مذرعٍ2 في حقيبة رحلهِ، وأعد دنانير، ومضى نحو معبد فاناخ ببابه - ومعبد جالسٌ بفنائه - فنزل إليه الأحوص فكلمه، فلم يكلمه معبدٌ، فقال: يا أبا عبادٍ، أتهجرني! فخرجت إليه امرأته أم كردم، فقالت: أتهجر أبا محمدٍ! واللهِ لتكلمنه، قال: فاحتمله الأحوص فأخله البيت، وقال: والله لا رمت هذا البيت حتى آكل الشواء وأشربَ الطلاءَ وأسمعوا
ـــــــ
1 الطلاء: اسم لما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه.
2 حاشية ر: "والمذرع: فزق سلخ حين سلخ مما يلي الذراع".
الغناء، فقال له معبدٌ: قد أخزى الله الأبعد، هذا الشواءَ أكلتهُ، والغناءَ سمعته، فأنى لك بالطلاء! قال: قم إلى ذلك المذرع ففيه طلاءٌ ومعه دنانيرُ، فأصلح بها ما نريدُ من أمرنا، ففعل كل ما قال: فقالت أم كردم لمعبدٍ: أتهجرُ من ن زرنا أغدرَ1 فينا فضلاً ونيلاً، وإن فارقنا خلف فينا عقلاً ونبلاً! فانصرف الأحوص مع العصر، فمر بين الدارين وهو يميل بين شعبتي رحلهِ.
ـــــــ
1 أغدر: ترك.
هجاء الأحوص لسعد بن مصعبوحدثت أن سعد بن مصعب بن الزبير تهم بامرأة في ليلة مناحةٍ أو عرسٍ، وكانت تحته ابنةُ حمزة بن عبد الله بن الزبير، فقال الأحوص - وكان بالمدينة رجلٌ يقال له: سعد النار -:
ليس بسعد النار من تذكرونه ... ولكن سعد النار سعد بن مصعبِ
ألم تر أن القوم ليلةَ جمعهم ... بغوهُ فألفوه لدى شرِّ مركبِ
فما يبتغي بالشرِّ لادرَّ درهُ ... وفي بيتهِ مثل الغزال المرببِ!
فأمر سعدُ بن مصعب بطعام فصنعَ، ثم حملَ إلى قبابِ العربِ، وقال للأحوص - وكان له صديقاً -: تعال نمضي فنصيب منه، فلما خلا به أمر به فأوثق، وأراد ضربه، فقال له الأحوصُ: دعني، فلا والله لا أهجو زبيريا أبداً، فحله، ثم قال: إني والله ما لمتك على مزحك، ولكني أنكرتُ قولكَ:
وفي بيته مثل الغزال المرببِ
وحدثت أن ابن عتيق ذكرَ له أن المخنثين بالمدينةِ خصوا، وأنه خُصِيَ الدلال فيهم، فقال: إنا لله! أما والله لئن فعلَ ذلك به لقد كان يحسنُ:
لمن ربعٌ بذات الجيش أمسى دارساً خلقا
ثم أستقبل ابن أبي عتيق القبلة يصلي، فلما كبر سلمَ، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: اللهم إنه كان يحسنُ خفيفه، فأما ثقيله فلا - الله أكبر!
شفاعةوحدثت أن مدنياً كان يصلي منذ طلعتِ الشمسُ إلى أن قارب النهار أن ينتصف، ومن ورائه رجلٌ يتغنى، وهما في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا رجلٌ من الشرط قد قبض على المغني، فقال: أترفعُ عقيرتك بالغناء في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? فأخذه، فانفتل المدني من صلاتهِ، فلم يزل يطلبُ إليه فيه حتى استنقذه، ثم أقبل عليه فقال: أتدري لم شفعت فيك? فقال: لا والله، ولكن إخالك رحمتني؛ قال: إذاً فلا رحمني الله! قال: فأحسبك عرفتَ قرابةٌ بيننا? قال: إذاً فقطعها الله! قال: فليدٍ تقدمت مني إليك? قال: لا والله، ولا عرفتك قبلها، قال: فخبرني، قال: لأني سمعتك غنيت آنفاً، فأقمت واوات معبدٍ، أما والله لو أسأت التأدية لكنتُ أحدَ الأعوان عليك! والصوت الذي ينسب إلى واوات معبدٍ شعرُ الأعشى الذي يعاتب فيه يزيد بن مسهرٍ الشيباني، وهو قوله:
هريرةَ ودعها وإن لام لائمُ ... غداة غدٍ أم أنت للبينِ واجمُ
لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثويتهُ ... تقضى لباناتٌ ويسأم سائمُ
قوله: "هريرةَ ودعها وإن لامَ لائمُ" منصوب بفعل مضمر، تفسيره ودعها كانه قال: ودع هريرة، فلما اختزل الفعل أظهر ما يدل عليه، وكان ذلك أجود من ألا يضمرَ، لأن الأمر لا يكون إلا بفعل، فأضمر الفعل إذ كان الأمر أحق به،وكذلك زيداً اضربه وزيداً فأكرمه وإن لمتضمر ورفعت جاز، وليس في حسن الأولِ، ترفعه على الابتداءِ وتصيرُ الأمر في موضع خبره. فأما قول الله جل وعزَّ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 وكذلك: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2 فليس على هذا، والرفعُ الوجه، لأنمعناهُ الجزاءُ، كقوله: الزانيةُ أي التي تزني، فإما وجب القطع للسرق والجلد للزنا، فهذا مجازاة، ومن ثم جاز: الذي يأتيني فله درهمٌ، فدخلت الفاءُ لأنه استحق الدرهم بالإتيان، فإن لم ترد هذا المعنى قلت الذي يأتيني له درهمٌ، ولا يجوزُ:
ـــــــ
1 سورة المائدة 38.
2 سورة النور 2.
زيدٌ فله درهمٌ، أو هذا زيدٌ، فحسن جميلٌ، جازَ، على أن زيداً خبرٌ. وليس بابتداءٍ، للإشارة دخلت الفاءُ، وفي القرآن: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 1، ودخلتِ الفاءُ لأن الثواب دخل للإنفاق. وقد قرأت القراءُ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} بالنصبِ، على وجه الأمر، والوجه الرفعُ، والنصبُ حسنٌ في هاتين الآيتين، وما لم يكن فيه معنى جزاءِ فالنصبُ الوجهُ.
ـــــــ
1 سورة البقرة 274.
فخر معبد بخمسة أصوات من غنائهويروى أن معبداً بلغه أن قتيبة بن مسلم فتح خمس مدائن، فقال: لقد غنيت خمسةَ أصواتٍ، هن أشد من فتح المدائن التي فتحها قتيبة. والأصواتُ:
ودع هريرةَ إن الركبَ مرتحِلُ ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجلُ
وقوله:
هريرةَ ودعها وإن لام لائمُ ... غداة غدٍ أم أنت للبين واجمُ
وقوله:
رأيتُ عرابةً الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرينِ
وقوله:
ودع لبابةَ قبل أن تترحلا ... واسأل فإن قليله أن تسألا
وقوله:
لعمري لئن شطت بعثمة دارها ... لقد كنت من خوف الفراق أليحُ
أما قوله:
ودع هريرة إن الركب مرتحلُ
وقوله:
هريرةَ ودعها وإن لام لائمُ
فللأعشى، يعاتب فيهما يزيد بن مسهر الشيباني، يقول:
أبلغ يزيد بني مألكةً ... أنا ثبيب أما ينفك تأتكلُ1
ألست منتهياً عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها من أطت الإبلُ2
كناطح صخرةً يوماً ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعلُ
ويقولُ في الأخرى يعاتبه أيضاً:
يزيد يغض الطرف دوني كأنما ... زوى بين عينيهِ علي المحاجمُ
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلا وأنفكَ راغمُ
فأقسم إن جد التقاطع بيننا ... لتصطفقن يوماً عليكَ المآتم3
وتلقى حصانٌ تنصف ابنة عمها ... كما كان يلقى الناصعاتُ الخوادمُ4
إذا اتصلت قالت: أبكرَ بن وائلٍ? ... وبكرٌ سبتها والأنوف رواغمُ
فأما الشعر الثالث فللشماخ بن ضرار بن مرة بن عطفان، يقوله لعرابة بن أوس بن قيظي الأنصاري:
رأيت عرابةَ الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطعَ القرينِ
إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تلقها عرابةُ باليمين
إذا بلغتني وحملتِ رحلي ... عرابةَ فاشرقي بدمِ الوتينِ
والرابع لعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، يقوله في بعض الروايات:
ودع لبابة قبل أن تترحلا ... واسأل فإن قليله أن تسألا
أمكث لعمرك ساعةً فتأنها ... فعسى الذي بخلت به أن يبذلا
لسنا نبالي حين ندرك حاجةً ... إن بات وظل المطي معقلا
والشعر الخامس لا أعرفه.
ـــــــ
1 المالكة: الرسالة، وتأتلل: تغضب.
2 أثلتنا: أصلنا، واطيط الإبل: أنينها.
3 الاصطفان: الاضطراب.
4 الحصان: العفيفة. وتنصف: تخدم.
ولم يتغن معبد في مدح قط إلا في ثلاثة أشعارٍ، منها ما ذكرنا في عرابةَ، ومنها قول عبد الله بن قيس الرقياتِ في عبد الل بن جعفر بن أبي طالب:
تقدت بي الشهباءُ نحو ابن جعفرٍ ... سواءٌ عليها ليلها ونهارها
والثالث قول موسى شهواتٍ في حمزةَ بن عبد الله بن الزبيرِ:
حمزة المبتاع بالمال الثنا ... ويرى في بيعه أن قد غبن
وهو إن أعطى عطاءً كاملاً ... ذا إخاء لم يكدره بمن
ونحن ذاكرو قصص هذه الأشعار التي جرت فيها عتب ما وصفنا إن شاء الله.
قال أبو العباس: كان عبد الله بن قيس الرقياتِ منقطعاً إلى مصعب بن الزبير، وكان كثير المدح له، وكان يقاتلُ معه، وفيه يقول:
إنما مصعبٌ شهابٌ من الله ... تجلت عن وجهه الطلماءُ
ملكهُ ملكُ قوةٍ ليس فيهِ ... جبروتٌ منه ولا كبرياءُ
يتقي الله في الأمور وقد أفلحَ ... منكان همهُ الإتقاءُ
قال أبو العباس1: وله فيه أشعار كثيرةٌ، فلما قتل مصعب بن الزبير1 كان عبد الملك على قتل عبد الله بن قيس، فهرب فلحق بعبد الله بن جعفر، فشفع فيه إلى عبد الملك، فشفعه في أن ترك دمه، فقال: ويدخل إليك يا أمير المؤمنين فنسمع منه? فأبى، فلم يزل به حتى أجابه، ففي ذلك يقول لعبد الله بن جعفرٍ:
أتيناك نثني بالذي أنت أهلهُ ... عليك كما أثنى على الأرض جارها
تقدت بين الشهباءُ نحو ابن جعفرٍ ... سواءٌ عليها ليلها ونهارها
تزور فتى قد يعلم الناسُ أنه ... تجود له كفٌّ قليلٌ غرارها
فوالله لولا أن تزور ابن جعفرٍ ... لكان قليلا في دمشق قرارها
ـــــــ
1 من س.
والشعر الذي مدح به عبد الملك:
عاد له من كثيرةَ الطربُ ... فعينه بالدموع تنسكبُ
وفيها يقول:
ما نقموا من بني أمية إلا ... أنم يحلمون إن غضبوا
وأنهم سادةُ الملوك فلا ... تصلح إلا عليهم العربُ
إن الفنيق الذي أبوه أبو العا ... صي عليه الوقارُ والحجبُ
خليفة الله في رعيتهِ ... جفت بذاك الأقلامُ والكتبُ
يعتدلُ التاجُ فوق مفرقهِ ... على جبين كأنه الذهبُ
فقال له عبد الملك: أتقول لمصعبٍ:
إنما مصعبٌ شهابٌ من الله ... تجلتْ عن وجههِ الظلماءُ
وتقول لي:
يعتدل التاجُ فوق مفرقهِ ... على جبين كأنه الذهبُ!
وأما شعر الشماخ في عرابةَ فقد ذكر في موضعه بحديثهِ.
وأما الشعر في حمزة بن عبد الله بن الزبير فإنه لموسى شهواتٍ، وكان موسى قال لمعبدٍ: أقول شعراً في حمزةَ وتتغنى أنتَ به، فما أعطاك من شيء فهو بيننا! فقال هذا الشعرَ:
حمزةُ المبتاعُ بالمال الثنا ... ويرى في بيعه أن قد غبنْ
وو إن أعطى عطاءً كاملاً ... ذا إخاءٍ لم يكدره بمنْ
وإذ ما سنةٌ مجحفةٌ ... برت المالَ كبري بالسفنْ
حسرت عنه نقيا لونهُ ... طاهرَ الأخلاق ما فيه درنْ
فأعطاه مالاً، فقاسمه موسى.
باب
لعتبة بن شماس في عمر بن عبد العزيزقال أبو العباسِ: قال عتبة بن شماسِ:
إن أولى بالحق في كل حق ... ثم أخرى بأن يكونَ حقيقا
من أبوه عبد العزيز بن مروا ... ن ومن كان جده الفاروقا
رد أموالنا علينا وكانت ... في ذرا شاهقٍ يفوتُ الأنوقا
يقولُ هذا الشعر في عمر بن عبد العزيز: وأم عمرَ أم عاصمٍ بنتُ عاصمِ بن عمر بن الخطاب، رحمه الله.
والأنوق: الرخمةُ، ولا يقالُ: الأنوقُ للرخمةِ الأنثى. ومن أمثال العرب: "هو أعزُّ من بيضِ الأنوقِ"، وتقول العرب لمن يطلب الأمر العسير: "سألتني بيض الأنوقِ" وذاك أنها تبيضُ في رؤوس الجبالِ، فلا يكادُ يوجدُ بيضها، لبعدِ مطلبه وعسرِه. فإن سأله محالاً قال: "سألتني الأبلق العقوقَ"، وإنما هو الذكرُ من الخيل، ويقال: فرسٌ عقوقٌ، إذا حملت فامتلأ بطنها، فالأبلقُ العقوق محال.
ويروى أن رجلاً سأل معاويةَ أمراً لا يوجد، فأعلمه ذلك، فسأل أمراً عسراً بعده، فقال معاويةُ:
طلب الأبلقَ العقوقَ فلما ... لم ينلهُ أرادَ بيضَ الأنوقِ
وإنما الأبلقُ الذكر من الخيل، يقال: فرس عقوقٌ إذا حملت فامتلأ بطنها، فالأبلق العقوقُ محالٌ.
لجرير في عمر بن عبد العزيزوقال جرير يمدحُ عمرَ بن عبد العزيز:
ما عدَّ قومٌ كأجدادٍ تعدهمُ ... مروان ذو النور والفاروق، والحكمُ
أشبهت من عمرَ الفاروقِ سيرتهُ ... قاد البريةَ وائتمت به الأممُ
تدعو قريشٌ وأنصارُ النبي له ... أن يمتعوا بأبي حفصٍ وما ظلموا
وفيه يقول جريرٌ أيضاً:
يعودُ الحلمُ منك على قريشٍ ... وتفرج الكربَ الشدادا
وقد آمنت وحشهم برفقٍ ... ويعيي الناسَ وحشكَ أن يصادا
وتبني المجدَ يا عمرَ ابن ليلى ... وتكفي الممحلَ السنةَ الجمادا
وتدعو الله مجتهداً ليرضى ... وتذكر في رعيتكَ المعادا
فما كعبُ بن مامةَ وابنُ سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا1
وقال أيضا - وكان ابن سعد الأزدي قد تولى صدقات الأعرابِ وأعطياتم، فقال جريرٌ يشكوه إلى عمرَ -:
إن عيالي لا فواكهِ عندهم ... وعند ابن سعدٍ سكر وزبيبُ
وقد كان ظني بابنِ سعدٍ سعادة ... وما الظن إلا مخطىءُ ومصيبُ
فإن ترجعوا رزقي إلي فإنه ... متاعُ ليالٍ والأداءُ قريبُ
تحنى العظامُ الزاحفاتُ من البلى ... وليس لداءِ الركبتين طبيبُ
وقال يرثيه أيضاً:
نعى النعاةُ أميرَ المؤمنين لنا ... يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمراً جسيماً فاصطبرت له ... وقمت فيه بحق اللهِ يا عمرا
فالشمسُ طالعةٌ ليست بكاسفةٍ ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
قوله: يا عمرا ندبةٌ، أراد: يا عمراه! وإنما الألف للندبة وحدها، والهاء تزاد في الوقف لخفاء الأف، فإذا وصلت لم تزدها، تقول: يا عمرا ذا الفضلِ، فإن وقفت قلت: يا عمراه: فحذف الهاء في القافية لاستغنائه عنها.
فأما قوله: "نجوم الليل والقمرا"، ففيه أقاويل كلها جيدٌ، فمنها أن تنصب "نجوم، والقمرَ" بقوله: بكاسفةٍ، يقول: الشمسُ طالعةٌ ليست بكاسفةٍ نجومً
ـــــــ
1 مابين العلامتين من زيادة ر.
الليل والقمرَ، يقول: إنما تكسفُ النجومَ والقمرَ بإفراطِ ضيائها، فإذ كانت من الحزن عليه قد ذب ضياؤها ظهرت الكواكبُ. ويقال: إن الغبار يوم حليمة سد عين الشمس فظهرت الكواكب المتباعدةُ عن مطلع الشمسِ. ويوم حليمة هو اليوم الذي سافر فيه المنذرُ بن المنذرِ بعربِ العراق إلى الحارث الأعرج الغساني، وهو الأكبر، والحارث في عربَ الشأم وهو أشهر أيام العرب؛ ومن أمثالهم في الأمر الفاشي: "ما يوم حليمة بسرٍّ"، وفيه يقولُ النابغة:
تخيرن من أزمان يومِ حليمةٍ ... إلى اليوم قد حرثن كل التجاربِ
وأظن قول القائل من العرب: "لأرينك الكواكبَ ظهراً"؛ إنما أخذ من يوم حليمةَ، قال طرفةُ:
إن تنولهُ فقد تنمعه ... وتريه النجمَ يجري بالظهرْ
وقال الفرزدق لخالدِ بن عبد الله القسري:
لعمري لقد سار ابن شبية سيرةٌ ... أرتكَ نجومَ الليل مُظهرةً تجري
ويجوز أن يكون: "نجوم الليل والقمرا" أراد بهما الظرف، يقول: تبكي الشمسُ عليك مدة نجوم الليل والقمرِ، كقولك: تبكي عليك الدهرَ والشهرَ، وتبكي عليك الليل والنهارَ،يا فتى، ويكونُ: تُبكي عليك الشمس النجومَ، كقولك: أبكيت زيداً على فلانٍ لما رأيتُ به.
وقد قال في هذا المعنى أحدُ المحدثين شيئاً مليحاً، وهو أحمد أخو أشجع السلمي، بقوله لنصر بن شبث العقيلي، وكان أوقع بقومٍ من بني تغلبَ بموضعٍ يعرفُ بالسواجيرِ، وهو أشبه بالشعرِ، قال:
للهِ سيفٌ في يدي نصرِ ... في حده ماءُ الردى يجري
أوقعنصر بالسواجير ما ... لم يوقع الجحاف بالبشرِ
أبكي بني بكرٍ على تغلبٍ ... وتغلباً أبكي على بكرِ
ويكون: "تبكي عليك نجوم الليل والقمر"، على أن تكون الواو في معنى مع، وإذا كانت كذلك فكان قبل الاسم الذي يليه أو بعده فعلٌ انتصب لأنه في المعنى مفعول وصل الفعل إليه فنصبه. ونظيرُ ذلك: استوى الماء والخشبة لأنك
لم ترد استوى الماء واستوت الخشبة؛ ولو أردت ذلك يم يكن إلا الرفع، ولكن التقدير: ساوى الماءُ الخشبة، وكذلك "ما زلت أسير والنيلَ" يا فتى؛ لأنك لست تخبر عن النيل بسير، وإنما تريدُ أن سيرك بحذائه ومعه، فوصل الفعلُ. وهذا بابٌ يطولُ شرحه. فإن قلتَ: "عبد الله وزيدٌ أخواك" وأنت تريد بالواو معنى مع، لم يكن إلا الرفعُ، لن قبلها اسماً مبتدأ، فهي على موضعِهِ.
وأجود التفسير عندنا في قوله الله جلَّ وعزَّ: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} 1 أن تكون الواو في معنى مع، لأنك تقولُ: أجمعت رأيي وأمري، وجمعتُ القومَ، فهذا هو الوجهُ. وقومٌ ينصبونه على دخوله بالشركة مع اللام في معنى الأول، والمعنى الاستعدادُ بهما، فيجعلونه كقولِ القائلِ:
يا ليت زوجكِ قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحا
والرمح لا يتقلد، ولكن أدخل مع ما يتقلد، فتقديره: "متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً"، ويكون تقدير الآية: فأجمعوا أمركم وأعدوا شركاءكم. والمعنى يؤول إلى أمر واحدٍ. ومن ذلك قوله:
شراب ألباٍ وتمرٍ وأقطْ
فأما ما جاء من القرآن على هذا خاصة؛ فقوله جل وعز { َوَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 2 فأدخل من ههنا، لأن الناس مع هذه الأشياء، فجرت على لفظٍ واحدٍ، ولا تكون من إلا لمن يعقل إذا أفردتها.
ـــــــ
1 سورة يونس 71.
2 سورة النور 45.
لرجل يشكو إلى عمر بن عبد العزيزوقال رجلٌ لعمر بن عبد العزيز يشكو إليه عمالهُ:
إن الذين أمرتهم أن يعدلوا ... نبذوا كتابكَ واستحل المحرمُ
واردت أن يلي الأمانة منهمُ ... بر وهيهات الأبرُّ المسلمُ
طلسُ الثياب على منابرِ أرضنا ... كل بنقصِ نصيبنا يتكلمُ
أنشدنيه الرياشي على الأصمعي.
ونظير هذا قول ابن همام السلولي:
إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا ... ولكن حسن القول خالفه الفعلُ
ودموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما يدر لها ثعلُ
وقد مر تفسير هذا الشعر. والأطلسُ: الأغبرُ، وربما اشتدت غبرته حتى يخفى في الغبار، وإنما أراد بقوله: طلسُ الثياب أنهم يظهرون تقشفا، ويكون أن يكون جعلهم بمنزلة الذئاب، وهو أحسن.
عمر بن الخطاب مع أحد ولاتهويروى أن عمر بن الخطاب رحمه الله ولى رجلاً بلداً، فوفد عليه، فجاءه مدهناً حسن الحالِ في جسمه، عليه بردانِ، فقال له عمرُ: أهكذا وليناك! ثم عزلهُ، ودفع إليه غنيمات يرعاها، ثم دعا به بعد مدةٍ، فرآه بالياً أشعث في ثوبين أطلسين، وذكر عند عمر بخير، فرده إلى عمله، وقال: كلوا واشربوا وادهنوا، فإنكم تعلمون الذي تنهون عنه.
ويروى عن الحسن أنه قال: اقربوا من هذه الأعوادِ1، فإنهم إذا رقوها لقنوا الحكمةَ، لتكون عليهم حجةً يوم القيامةِ.
ـــــــ
1 الأعواد هنا: المنابر.
لرجل يرثي عمر بن عبد العزيزوقال رجل لعمر بن عبد العزيز يرثيه، أنشدنيه الرياشي:
قد غيب الدافنون اللحد إذ دفنوا ... بدير سمعان قسطاس الموازينِ1
من لم يكن همه عيناً يفجرها ... ولا النخيل ولا ركض البراذينِ
أقولُ لما أتاني ثم مهلكه: ... لا يبعدن قوامُ الملكِ والدينِ
يقال: هذا قوام الأمر وملاكه لا غيرُ، وتقول: فلانٌن حسنُ القوامِ؛ مفتوحٌ، تريد بذلك الشطاط2، لا يكون إلا ذاك، وقوام إذا كان اسماً لم تنقلب واوه ياءً
ـــــــ
1 دير سمعان: بلد بنواحي دمشق.
2 الشطاط: حسن القوام.
من أجل الكسرة، لأنها متحركة، إلا أن يكون جمعاً قد كانت الواو في واحده ساكنةً، فتنقلب في الجمع، لأن حركتها لعلةٍ، تقول: سوطٌ وسياطٌ وثوبُ وثيابٌ وحوضٌ وحياضٌ؛ فإن كانت الواو في الواحد متحركةً ثبتت في الجمع، نحو طويل وطوال، وكذلك فعالٌ إذا كان مصدراً صح إذا صح فعله، واعتل إذا اعتل فعله، فما كان مصدراً لفاعلتَ فهو فعالٌ صحيحٌ، تقول: قاولتهُ قوالاً، ولاوذته لواذاً، كقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} 1، أي ملاوذة، وإذا كان مصدر فَعَلْتُ اعتل لاعتلال الفعل فقلت: قمت قياماً، ونمتُ نياماً، ولذتُ لياذاً، وعذتُ عياذاً.
ـــــــ
1 سورة النور 63.
لعويف القوافي يرثي سليمان بن عبد الملكوقال عويف القوافي شعراً، يرثي سليمان بن عبد الملك، ويذكر عمرَ بن عبد العزيز، هذا ما اخترنا منه:
لاح سحابٌ فرأينا برقهُ ... ثم تدانى فسمعنا صعقهُ
وراحت الريحتزجي بلقهُ ... ودهمه ثم تزجي ورقهُ
ذاك سقى ودقاً فروى ودقهُ ... قبرَ امرىءٍ أعظم ربي حقهُ
قبر سليمان الذي من عقهُ ... وجحد الخير الذي قد بقهُ
في العالمين جلهُ ودقهُ ... لما ابتلى اللهُ بخيرٍ خلقهُ
وكادتِ النفسُ تساوي خلقهُ ... ألقى إلى خير قريشٍ وسقهُ
يا مرَ الخير الملقى وفقهُ ... سميت بالفاروقِ فافرقْ فرقهُ
وأرزق عيال المسلمين رزقهُ ... واقصد إلى الخير ولا توقهُ
بحرك عذابُ الماء من أعقهُ ... ربكَ، والمحرومُ من لم يسقهُ
يقال: لاح البرق، إذا بدا، وألاح إذا تلألأ، وهذا البيت ينشدُ:
من هاجه الليلة برقٌ ألاحْ
ويقال: شرقتِ الشمسُ، إذا بدتْ، وأشرقت إذا أضاءت وصفت.
ويقال: ساعقةٌ وصاقعةٌ؛ وبنو تميم تقول: صاقعةٌ؛ والصعقُ شدةُ الرعد، ويعنى في أكثر ذلك ما يعتري من يسمعُ صوت الصاعقةِ.
وقوله: تزجي يقول: تسوقه وتستحثهُ.
والأبلق من الساحب: ما فيه سوادُ وبياضٌ، وفي الخيل: كل لونٍ يخالطهُ بياضٌ فهو بلقٌ.
والأورقُ: الذي بين الخضرةِ والسوادِ، وهو ألأم ألوان الإبل، ويقال: إن لحم البعير الأورق أطيبُ لحمانِ الإبلِ.
والودقُ: المطرُ، يقال: ودقتِ السماءُ يا فتى، تدقُ ودقاً، قال الله جل وعزّ: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} 1، وقال عامرُ بن جوين الطائي:
فلا مزنةٌ ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
وأصل العق القطعُ في هذا الموضع، وللعق مواضعُ كثيرة، يقال: عقَّ والديه يعقهما إذا قطعهما، وعققت عن الصبي2 من هذا، وقالوا: بل هو من العقيقة وهي الشعر الذي يولد الصبي به، يقال: فلان بعقيقته إذا كان بشعر الصبا لم يحلقهُ، ويقال: سيف كأنه عقيقة؛ أي كأنه لمعةُ برقٍ، يقال: رأيتُ عقيقة البرق يا فتى، أي اللمعة منه في السحاب، ويقال: فلانٌ عقتْ تميمته ببلد كذا، أي قطعت عنه في ذلك الموضع، قال الشاعر:
ألم تعلمي يا دار بلجاء أنني ... إذا أخصبت أو كان جدباً جنابها
أحب بلاد الله ما بين مشرفٍ ... إلي وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها عق الشبابُ تميمتي ... وأول أرضٍ مس جلدي ترابها
وقوله:
وجحد الخير الذي قد بقهُ
يقال: بق فلانٌ في الناس خيراً كثيراً، وبق ولداً كثيراً، وابقَّ كلاماً كثيراً.
وقوله:
ألقى إلى خيرقريشٍ وسقهُ
فهذا مثل، يريد: قلدهُ أمره، والوسق الحمل.
ـــــــ
1 سورة النور43.
2 أى ذبحت عنه عقيقة.
وقوله: الملقى وفقه، يقال: لقي فلانٌ خيراً، أي جعل يلقاهُ، والوسق من الكيل: مقدارُ خمسة أقفزة بقفيز، وهو قفيزان ونصفٌ بقفيز مدينة السلامِ.
وقوله: "ليس في أقل من خمسة أوسقٍ صدقةٍ" إنما مبلغ ذلك خمسة وعشرون قفيزاً بالبصري. والوفقُ: التوفيقُ.
وقوله: "سميت بالفاروقِ" فتأويل الفاروق هو الذي يفرق بين الحقِّ والباطلِ، وكذلك قال المفسرون في الفرقان، وقد أبان ذلك بقوله: فافرق فرقهُ.
وقوله:
وارزق عيالَ المسلمين رزقهُ
يقال: رزقه يرزقه رزقاً، والاسم الرزقُ.
وقوله:
بحرك عذبُ الماءِ ما أعقهُ
مقلوبٌ، إنما هو ما أقعه ربك. يقال: ماء قعاعُ، وماءُ حراقٌ. فالقعاع: الشديد الملوحة، يقول: ما أملحه ربك، والحراقُ: الذي يحرقُ كل شيءٍ بملوحته، والماء العذب يقال له: النفاخُ، وما دون ذلك شيئاً يقال له: المسوسُ. أنشد أبو عبيدة:
لو كنت ماءً كنتَ لا ... عذبَ المذاقِ ولا مسوسا
يقال: ماء عذبٌ،وماءُ فراتٌ، وهو أعذب العذبِ، ويقال: ماءُ ملح، ولا يقال: مالحٌ، وسمكٌ مملوحُ ومليحٌ، ولا يقالُ: مالحٌ، وأشدُ الماء ملوحةً الأجاج، قال الفرزدق:
ولو اسقيتهم عسلاً مصفى ... بماء النيل أو ماء الفراتِ
لقالوا إنه ملحٌ أجاجٌ ... أراد به لنا إحدى الهناتِ
وقوله:
ذاك سقى ودقاً فروى ودقهُ
يقال فيه قولان: أحدهما: فروى الغيم ودقه هذا القبرَ، يريدُ: من ودقه، فلما حذف حرف الجر عملَ الفعل والآخر كقولك: "رويت زيداً ماءً"، وروى أكثرُ من أروى، لأن روى لا يكون إلا مرةً بعد مرةٍ، يقول: فروى الله ودقه أي جعله رواءٌ، فأضمر لعلم المخاطبِ، لأن قوله: لاح سحابٌ، إنما معناه: ألاحه الله، فالفاعل كالمذكور، لأن المعنى عليه، ونظيره قوله جل وعزَّ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} 1 وكذلك {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} 2ولم يذكر الأرض. وقال قومٌ: ودقه، يريد ودقةً واحدةً، وهذا رديء في المعنى، ليس بمبالغٍ.
ـــــــ
1 سورة ص32.
2 سورة فاطر 45.
لإسحاق بن إبراهيم الموصليقال ابن الموصلي:
لعمري لئن حلئت عن منهلِ الصبا ... لقد كنتُ وراداً لمنهله العذبِ
ليالي أمشي بين برديَّ لاهيا ... أميس كغصنِ البانةِ الناعمِ الرطبِ
سلامٌ على سير القلاص مع الركب ... ووصل الغواني والمدامةِ والشربِ
سلام امرىءٍ لم تبق منه بقيةٌ ... سوى نظرِ العينين أو شهوة القلبِ
قوله: والشرب؛ يريد جمع شاربٍ، يقال: شاربُ وشربٌ، وراكبٌ وركبٌ، وتاجرٌ وتجرٌ، وزائرٌ وزورٌ، قال الطرماحُ:
حب بالزور الذي لا يرى ... منه إلا صفحةٌ عن لِمامِ
وهذا بابٌ متصل كثيرٌ، قال العجاجُ:
بواسطٍ أكرمُ دارٍ دارا ... واللهُ سمى نصرك الأنصارا
يريد أنصارك، فأخرجه على ناصرٍ ونصرٍ.
وقوله: "سلام امرىء" على البدلِ من قوله: "سلامٌ على سيرِ القلاص" وإن شئت نصبت بفعلٍ مضمرٍ، كأنك قلت: اسلمُ سلامَ امرىءٍ، لأنك ذكرت سلاماً
أولاً، ومثل ذلك: له صوتٌ صوت حمارٍ، لأنك لما قلتَ: له صوتٌ دللت على أنه يصوتُ، كأنك قلت: يصوتُ صوتَ حمارٍ،وكذلك: "له حنينٌ حنينَ ثكلى" و:
له صريفٌ صريفَ القعوِ بالمسدِ
أي: يصرف صريفاً، فما كان من هذا نكرةً فنصبه على وجهين: على المصدر،وتقديره: يصرف صريفاً مثل صريف جملٍ، وإن شئتَ جعلتهُ حالاً، وتقديره؛ يخرجه في هذه الحال. وما كان معرفةً لم يكن حالاً ولكن على المصدر، فإن كان الأول في غير معنى الفعلِ لم يكن النصبُ البتة ولم يصلح إلا الرفع على البدل، تقول: له رأسٌ رأسُ ثورٍ، وله كفُّ كفُّ أسدٍ، فالمرتفعُ الثاني إذا كان نكرةً كان بدلاً أو نعتاً، وإذا كان معرفةً كان بدلاً ولم يكن نعتاً، لأن النكرة لا تنعت بالمعرفة، وكذلك إذا كان الأول ابتداء لم يجز إلا الرفعُ، لأن الكلام غير مستغن؛ وإنما يجوز الإضمار بعد الاستغناء، تقول: صوته صوتُ الحمار، وغناؤه غناء المجيدي، وكذلك إن خبرت بأمرٍ مستقر فيه اختيرَ الرفع، تقول: له علمٌ علمُ الفقهاء، وله رأيٌ رأيُ القضاة؛ لأنك إنما تمدحه بأن هذا قد استقر له، وليس الأبلغ في مدحه أن تخبر بأنك رأيته في حال تعلم. ويجوز النصب على أنك رأيته في حال تعلم فاستدللت بذلك على علمه، فهذا يصلحُ. والأجود الرفع. فإذا قتل: "له صوتٌ صوتَ حمارٍ"؛ فإنما خبرت أنه يصوتٌ، فهذا سوى ذلك المعنى.
ومما يختار فيه الرفعُ قولك: عليه نوحٌ نوحُ الحمامِ، وإنما أختير الرفع لأن الهاء في عليه اسم المفعولِ له، والهاءَ في له اسمُ الفاعلِ. ويجوز النصبُ على أنك إذا قلتَ: عليه نوحٌ دل النوحُ على أن معه نائحاً، فكأنك قلت: ينوحون نوح الحمامِ؛ فهذا تفسيرُ جميع هذه الأبواب.
لابن الخياط المدينيوقال ان الخياط المديني، يعني مالكَ بنَ أنسٍ:
يأبى الجواب فما يراجعُ هيبةً ... والسائلون نواكسُ الأذقانِ
هدي التقي وعز سلطانِ النهى ... فهو العزيزُ وليس ذا سلطانِ
أراد: له هديُ التقيِّ، أو معه هيُ التقيِّ.
باب
نبذ من أقوال الحكمية...
باب
قال أبو العباس: نذكر في هذا الباب من كل شيءٍ، ليكون فيه استراحةٌ للقارىء، وانتقالٌ ينفي الملل، لحسن1 موقع الاستطراف، ونخلط ما فيه من الجدّ بشيء يسيرٍ من الهزل، ليستريح إليه القلب، وتسكن إليه النفس.
نبذ من الأقوال الحكيمة
قال أبو الدّرداء رحمه الله: إني لأستجمُّ نفسي2 بشيء3 من الباطل ليكون أقوى لها على الحقِّ.
وقال عليُّ بن أبي طالب رحمه الله: القلب إذا أكره عمي.
وقال ابن مسعود4 رحمه الله: القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان فابتغوا لها ططرائف الحكمة.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: العلم أكثر من أن يؤتى على آخره، فخذوا5 من كل شيءٍ أحسنه.
وليس هذا الحديث من الباب الذي ذكرنا، ولكن نذكر الشيء بالشيء، إمَّا لاجتماعهما في لفظٍ، وإمَّ لاشتراكهما في معنى.
وقال الحسن -وليس من هذا الباب-: حادثوا هذه القلوب، فإنها سريعة الدُّثور، واقدعوا هذه الأنفس، فإنها طلعةٌ، وإنكم إلاّ تنزعوها تنزع بكم إلى شرّ غاية. وقد مضى تفسير هذا الكلام.
وقال أردشير بن بابك: إن للآذان مجَّةً، وللقلوب مللاً، ففرّقوا بين الحكمتين يسكن ذلك استجماماً.
وكان أنوشروان يقول: القلوب تحتاج إلى أقواتها من الحكمة كاحتياج الأبدان إلى أقواتها من الغذاء.
ـــــــ
1 س: "بحسن".
2 أستجم نفسى يريد أريحها وأصله في البئر؛ تترك بعد الاستقاء ليتراجع ماؤها.
3 كذا في الأصل، س، وفي ر: "لشيء".
4 س: "عبد الله بن مسعود".
5 كذا في الأصل، س، وفي ر: "فخذ".
ويروى أنه أصيب في حكمة آل داود1: لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من واحدة من أربع: من عدّةٍ2 لمعادٍ، أو إصلاح3 لمعاش، أو فكرٍ يقف به على ما يصلحه مما يفسده، أو لذّةٍ في غير محرّمٍ يستعين بها على الحالات الثلاث.
وقال عبد الله بن عمر بن عبد العزيز لأبيه يوماً: يا أبة، إنك تنام نوم القائلة، وذو الحاجة على بابك غير نائمٍ? فقال له: يا بنيَّ، إنّ نفسي مطيّتي، فإن حملت عليها في التعب حسرتها.
تأويل قوله: "حسرتها": بلغت بها أقصى غاية الإعياء، قال الله جلَّ وعزَّ: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} 4. وأنشد أبو عبيدة:
أنّ العسير بها داءٌ مخامرها ... فشطرها نظر العينين محسور
قوله: "فشطرها" يريد قصدها ونحوها، قال الله جلَّ وعزَّ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 5 [و]6 قال الشاعر7:
لهنَّ الوجالم كنَّ عوناً على النَّوى ... ولا زال منها ظالعٌ وحسير
يعني الإبل، يقول: هي المفرِّقة، كما قال الآخر:
ما فرَّق الألاّف بعـ ... ـد الله إلاّ الإبل
ولا صاح غرا ... بٌ في الديار احتملوا
وما غراب البين ... إلاّ ناقة أو جمل
قال أبو الحسن: وزادني فيه غير أبي العباس:
ـــــــ
1 كذا في الأصل، س، وفي ر:"داءد" بالهمزة والأوجه ما أثبتناه.
2 ر: "غدو"، وما أثبته عن ر والأصل.
3 س: "صلاح".
4 سورة الملك 4.
5 سورة البقرة: 144.
6 من س.
7 هو جميل بن معمر العذرى، قاله المرصفى.
والناس يلحون غرا ... ب البين لمَّا جهلوا
والبائس المسكين ما ... يطوى عليه الرِّحل
ويقال: إنه لأبي الشّيص.
فمن قال: "آلفٌ" للواحد قال للجميع1 "ألاّفٌ" كعمل وعمّالٍ، وشاربٍ وشرَّابٍ، وجاهلٍ وجهَّالٍ. ومن قال للواحد: إلفٌ، قال للجميع: آلافٌ، وتقديره: عدلٌ وأعدالٌ، وحملٌ وأحمالٌ. وثقلٌ وأثقالٌ.
ـــــــ
1 كذا في س، وفي الأصل، س: "قال آلاف".
في وصف الإبلوقد أنصف الإبل الذي يقول:
ألا فرعى الله الرَّواحل إنما ... مطايا قلوب العاشقين الرَّواحل
على أنهنَّ الواصلات عرى النَّوى ... إذا ما نأى بالآبقين التَّواصل
وقال الآخر:
أقول والهوجاء تمشي والفضل ... قطعت الأحداج أعناق الإبل
الهوجاء: التي تجدُّ في السَّير وتركب رأسها، كأنَّ بها هوجاً، كما قال:
لله درّ اليعملات الهوج
وكما قال الأعشى:
وفيها إذا ما هجَّرت عجرفيَّةٌ ... إذا خلت حرباء الوديقة أصيدا
والفضل: مشية فيها اختيالٌ، كأنّ مشيتها تخرج عن خطامها فتفضل عليه، والأصل في ذلك أن يمشي الرجل وقد أفضل من إزاره، وتمشي المرأة وقد أفضلت من ذيلها، وإنما يفعل ذلك من الخيلاء، ولذلك جاء في الحديث: "فضل الإزار في النار"، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي تميمة الهجيميِّ: "وإيَّاك والمخيلة" 1، فقال: يا رسول الله، نحن قومٌ عرب، فما الخيلة? فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سبل الإزار".
ـــــــ
1 المخيلة: الكبر والعجب والخيلاء.
وقال الشاعر1:
ولا ينسيني الحدثان عرضي ... ولا أرخي من المرح الإزارا
وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاريُّ:
تمشي الهوينى إذا مشت قطفاً2 ... كأنَّها عود بانةٍ قصف
[قال أبو الحسن: هذا وهم من أبي العباس، وما تروى إلاّلقيس بن الخطيم الأنصاري].
وقال الوليد بن يزيد:
أنا الوليد الإمام مفتخراً ... أنعم بالي وأتبع الغزلا3
أنقل رجلي إلى مجالسها ... ولا أبالي مقال من عذلا
غرَّاء فرعاء يستضاء بها ... تمشي الهوينى إذا مشت فضلا
ثم نعود إلى الباب، قال الراجز يصف إبلاً أو نوقاً4:
إنَّ لها لسائقاً خدلَّجا ... لم يدلج الليلة فيمن أدلجا
الخدلَّج: المدمج السَّاقين، وإنما عنى المرأة التي ساقه حبُّه إليها.
ـــــــ
1 زيادات ر: "ويقال إنه لقيس بن الخطيم".
2 كذا في الأصل، س، وفي ر: "فضلا".
3 كذا في الأصل، وفي ر،س: قال علي بن سليمان: مانعرف هذا البيت إلا لقيس بن الخطيم الأنصاري يعني: "تمشى الهويني".
4 كذا في الأصل: س، وفي ر: "يعني إبله أو ناقته".
ضروب الكلاموالكلام يجري على ضروب؛ فمنه ما يكون في الأصل لنفسه، ومنه ما يكنى عنه بغيره، ومنه ما يقع مثلاً، فيكون أبلغ في الوصف.
والكناية تقع على ثلاثة أضربٍ:
أحدها: التَّعمية والتَّغطية، كقول النابغة الجعديّ:
أكنِّي بغير اسمها وقد علم الله ... خفيات كلِّ مكتتم1
وقال ذو الرُّمَّة، استراحةً إلى التصريح من الكناية:
أحبُّ المكان من أجل أنَّني ... به أتغنّى باسمها غير معجم
وقال أحد القرشيين2:
وقد أرسلت في السرِّ أن قد فضحتني ... وقد بحت باسمي في النَّسيب وما تكني
ويروى أن عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة قال شعراً، وكتب به إلى امرأةٍ محرمةٍ3 بحضرة ابن أبي عتيق، وهو:
ألما بذاتِ الخالِ فاستطلعا لنا ... على العهد باقٍ ودها أم تصرما
وقولاَ لها إن النوى أجنبيةٌ ... بنا وبكر قد خفت أن تتيمما
قال: فقال له ابن أبي عتيقٍ: ماذا تريد إلى امرأةٍ مسلمةٍ4 محرمة تكتبُ إليها بمثل هذا الشعر! قال: فلما كان بعد مديدةٍ قال له ابن أبي ربيعة.
أعلمتَ5 أن الجوابَ جاء6 من عندِ ذاك الإنسان? فقال له: ما هو? فقال: كتبت:
أضحى قريضكَ بالهوى نماما ... فاقصد هديتَ وكن له كتاما
واعلم بأن الخال حين ذكرته ... قعد العدو به عليك وقاما
ويكن من الكناية - وذاك أحسنها- الرغبةُ عن اللفظ الخسيس المفحش إلىما يدل على معناه من غيره، قال الله - وله المثل الأعلى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
ـــــــ
1 ر "مكتتم" بفتح التاءين.
2 زيادات ر "هو محمد بن نمير الثقفى".
3 ر: "وكتب به محضرة ابن أبي عتيق إلى امرأة محرمة".
4 كلمة "مسلمة" ساقطة من س.
5 كذا في الأصل، ص، وفي س: "أما علمت".
6 كذا في الأصل، وفي س: "قد جاء"، وفي ر: "جاءنا".
الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 1 وقال: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} 2 والملامسة في قول أهل المدينة - مالكٍ وأصحابه - غير كنايةٍ، إنما هو اللمسُ بعينه، يقولون في الرجلِ تقع يده على امرأته أو على جاريتهِ بشهوةٍ3: إن وضوءه قد انتقض.
وكذلك قولهم في قضاء الحاجةِ: جاء فلان من الغائطِ، وإنما الغائط الوادي، وكذلك المرأةُ، قال عمروُ بن معدي كرِب الزبيديُّ:
فكم من غائطٍ من دون سلمى ... قليل الأنس ليس به كتيعُ
وقال الله جل وعزَّ في المسيح ابن مريمَ وأمهِ صلى الله عليهما: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 4 ، وإنما هو كنايةٌ عن قضاء الحاجة. وقال: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} 5؛ وإنما هي كنايةق عن الفروج. ومثل هذا كثيرٌ.
والضرب الثالث من الكناية: التفخيم والتعظيمُ، ومنه اشتقت الكنيةُ وهو أن يعظمض الرجل أن يدعى باسمه، ووقعت في الكلام على ضربين: وقعت في الصبيِّ على جهة التفاؤل؛ بأن يكون له ولدٌ ويدعى ولده كنايةً عن أسمه، وفي الكبير أن ينادى باسم ولده صيانةً لاسمهِ؛ وإنما يقال: كنيَ عن كذا بكذا، أي تركَ كذا إىل كذا، لبعض ما ذكرنا.
وكان خالدُ بن عبد الله القسري لعنه الله يلعن عليا رضي الله عنه على المنبر فيقول: فعل الله على علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد منافٍ ابن عمّش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزوج ابنته فاطمة وأبي الحسن والحسين. ثم يُقبلُ على الناسِ ويقول: أكنيتُ! فهذا تأويل هذا.
ـــــــ
1 سورة البقرة: 187.
2 سورة النساء 43.
3 ر: "بشهوة".
4 سورة المائدة 7.
5 سورة فصلت: 31.
لأعرابيونرجع إلى الباب الذي قصدنا له:
وقال أعرابي:
وحقهِ مسكٍ من نساءٍ لبستها ... شبابي وكأسٍ باكرتني شمولها1
ـــــــ
1 حقة مسك هنا، كناية عن المرأة.
جيدةِ سربال الشباب كأنها ... أباءةُ برديٍّ سقتها غيولها
محملةٍ باللحم من جون خصرها ... تطولو القصارَ والطوال تطولها
قوله؛ "باكرتني شمولها"، زعم الأصمعي أن الخمر إنما سميت شمولاً لأن لها عصفة كعصفة الريح الشمال.
وقوله: "أباءةُ بردي" الأباءة: القصبةُ، وجمعها الأباءُ، يا فتى1.
قال كعبُ بن مالكٍ الأنصاريُّ:
من سرهُ ضربٌ يرعبلُ بعضهُ ... بعضاً كمعمعة الأباءِ المحرقِ2
المعمعة: صوت إحراقه، يقال: سمعتُ معمعة القصب والقوصرة في النار، أي صوت احتراقها.
وإنما شبهَ المرأة بالبردية والقصبة لبقاء اللون المستتر منها وما والاهُ ورقته.
قال حميدُ بن ثور الهلاليُّ:
لم ألق عمرة بعد إذ هي ناشىء ... خرجت معطفة عليها مئزرُ
برزت عقيلة أربع هادينها ... بيض الوجوه كأنهن العنقرُ
العطاف: الوشاح للناس، والعنقرُ: أصولُ القصبِ، يقال: عنقرٌ وعنقرٌ، وفي هذا الشعر:
ذهبت بعقلك ريطةٌ مطويةٌ ... وهي التي تهدى بها لو تنشرُ3
[قال أبو الحسنِ: أنشدنيه ثعلبٌ في قوله: لو تنشرُ: تشعر].
فهممت أن أغشى إليها محجراً ... ولمثلها يغشى إليه المحجرُ4
وقوله: "سقتها غيولها" الغيل: ههنا: الأجمة، ومن هذا قوله: أسدُ غيل، قال طرفةُ:
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 يرعبل: يمزق.
3 الريطة: الملاءة البيضاء.
4 المحجر: المحرم.
أسدُ غيلٍ فإذا ما شربوا ... وهبوا كل أمونٍ وطمرْ 1
وقد أملينا جميع ما في الغيل والغيلِ.
وقوله:
تطول القصارَ والطوال تطولها
طال: يكون على ضربين: أحدهما تقديره: فعل، وهو ما يقع في نفسه انتقالاً لا يتعدى إلى مفعول، نحو ما كان كريماً فكرمَ، وما كان وضيعاً ولقد وضع، وما كان شريفاً ولقد شرفَ، وكان الشيءُ صغيراً فكبرَ، وكذلك قصيراً فطال، وأصله طولَ.
وقد أخبرنا بقصةِ الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وهما متحركتان، وعلى ذلك يقال في الفاعل: فعيلٌ نحو شريفٍ، وكريم، وطويل. فإذا قلتَ: طاولني فطلتهُ، أي فعلوته طولاً، فتقديره فعل نحو خاصمني فخصمتهُ، وضاربني فضربتهُ، وفاعلُهُ طائلٌ، كقولك ضاربٌ، وخاصمٌ. وفي الحديث: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوقَ الربعةِ، وإذا مشى مع الطوالِ طالهمُ".
ـــــــ
1 الأمون: الناقة الوثيقة الخلق.
بين رياح بن سنيح وجريروقال رياحُ بن سنيحٍ الزنجي مولى بن تاجية - وكان فصيحاً - يجيب جريراً، لما قال جرير:
لا تطلبن خؤولة في تغلبٍ ... فالزنجُ أكرمث منهمُ أخوالاَ
فتحرك رياحُ فذكر أكثر من ولدته الزندُ من أشراف العربِ في قصدةٍ مشهورةٍ معروفةٍ، يقول فيها:
والزنجُ لو لاقيتهم في صفهم ... لاقيت ثم جحاجحاً أبطالاَ
ما بالُ كلبِ بني كليبٍ سبهم ... إن لم يوازن حاجباً وعقالاَ
إن الفرزدق صخرةٌ عاديةٌ ... طالت فليس تنالها الأجبالاَ
يريد: طالتِ الأجبال وعلت1 فليس تنالها.
ـــــــ
1 ساقطة من ر، وهي في الأصل.
لمروان بن أبي حفصةثم نعود إلى ذكر الباب.
وقال مروان بن أبي حفصة، وهو مروان بن سليمان بن يحيى بن يحيى بن أبي حفصة، واسم أبي حفصة يزيدُ:
إن الغواني طالما قتلننا ... بعيونهن ولا يدين قتيلا
من كل آنسةٍ كأن حجالها ... ضمن أحور في الكناسِ كحيلاَ
أردين عروة والمرقش قبله ... كل أصيب وما أطاق ذهولا
ولقد تركن أبا ذؤيبٍ هائماً ... ولقد تبلنَ كثيراً وجميلا
وتركن لابن أبي ربيعة منطقاً ... فيهن أصبح سائراً محمولا
إلا أكن ممن قتلن فإنني ... ممن تركن فؤاده مخبولا
قوله: "ولا يدين قتيلا" يقال: ودي يدي، وكل ما كان من فَعَلَ مما فاؤه واوٌ ومضارعُه يَفْعِل فالواوُ ساقطةٌ منه1، لوقوعها بني ياءٍ وكسرةٍ، وكذلك ما كان منه على فَعِلَن يَفْعِلُ، لأن العلةَ في سقو الواو كسرةٌ العين بعدَها. وقد مضى تفسيرُ هذا.
ولكن في يدينَ علة أخرى، وهي أن الياء التي هي لام الفعلِ بعد كسرةٍ، فهي تعتلُّ اعتلال آخر يرمي، وأوله يعتل اعتلال واو يعد، واحتمل علتين لأن بينهما حاجزاً، ومثل ذلك وعى يعي، ووقى يقي، ووفى يفي، ووشى يشي، وونى في أمر1 يني، وما أشبه ذلك. ويقعُ في فَعِلَ، نحو وَلَى الأميرُ الآن يلي.
فإذا أمرتَ كان الفعل على حرفٍ واحدٍ في الوصلِ، لاتصاله بما بعده، تقول: يا زيد ع كلاماً، وشِ ثوباً، وتقولُ: لِ عمراً يا زيدُ، من وليتُ، فإذا وقفت قلت: لهْ، وشِهْ، وقِهْ، لايكون إلا ذلك، لأن الواوَ تسقطُ فتبتدىء بمتحركٍ، فلا تحتاجُ2 إلى ألفِ وصل3، فإذا وقفت احتجت إلى ساكنٍ تقفُ عليه
ـــــــ
1 س: "في أمره".
2 س: "يحتاج".
3 س: "الوصل".
فأدخلت الهاء لبيان الحركةِ1 في الأول، ولم يجز إلا ذلك. ومن قال لك: الفظ لي بحرفٍ واحدٍ غير موصولٍ فقد سألك2 محالا، لأنك لاتبتدىء إلا بمحركٍ. ولا تقفُ إلى على ساكنٍ، فقد قال لك الفظ لي بساكنٍ متحرك في حالٍ.
وقوله؛ ضمن يقالُ: ضمن القبرُ زيداً، وضمنَ القبرَ زيدٌ؛ كلٌّ صحيحٌ. فمن قال: ضمن القبرُ زيداً، فإنما أراد جعل القبر ضمين زيدٍ، ومنقال: ضمنَ زيدٌ القبرَ، فإنما أراد: جعلَ زيدٌ في ضمنِ القبر، وينشد هذا البيت على وجهين:
وما غائبٌ من غابَ يُرجى إيابهُ ... ولكنهُ من ضمنَ اللحدَ غائبُ3
ومن روى "من ضمن اللحدُ غائبُ" يريدُ من ضمنه اللحدُ، وحذفَ الهاءَ من صلةِ من،وهذا من الواضح الذي لا يحتج إلى تفسير.
وقوله: أحور يعني ظبياً، وأهل الغريب يذهبون إلى أن الحوار في العين شدةً سوادِ سوادها وشدةُ بياض بياضها، والذي عليه العرب إنما هو نقاءٌ البياضِ، فعند ذلك يتضح السوادُّ. وقد فسرنا الحورَ والحواري.
والكناسُ: حيث تكنسُ البقرة والظبيةُ، وهو أن تتخذ في الشجرةِ العادية كالبيت تأوي إليه وتبعر فيه، فيقال إن رائحته أطيبُ رائحة، لطيب ما ترتعي، قال ذو الرمةِ:
إذا استهلت عليه غيبةٌ أرجت ... مرابضُ العين حتى يأرجَ الخشبُ
كأنه بيتُ عطارٍ يضمنهُ ... لطائم المسكِ يحويها وتنتهب4
قوله: "غيبة" هي الدفعة من المطرِ، وعند ذلك تتحرك الرائحةُ.
والأرجُ: توهجُ الريحِ، وإنما يستعمل ذلك في الريح الطيبةِ.
والعين: جمعُ عيناءَ، يعني البقرةَ الوحشيةَ، وبها شبهت المرأة، فقيل: حورٌ عينٌ.
واللطيمة: الإبلُ التي تحملُ العطرَ والبزَّ، لا تكون لغير ذلك.
ـــــــ
1 س: "حركة الأول".
2 س: "سأل".
3 زيادات ر: "لأبى حبة النميري".
4 من س.
فيقولُ: ضمنَّ ظبياً أحور العين أحكلَ، وجعلَ الحجالَ كالكناسِ. وقال ابن عباس في قول الله جلَّ وعزَّ: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} 1 قال: أقسم2 ببقر الوحش لأنها خنسُ الأنوف: والكنسُ: التي تلزمُ الكناسَ. وقال غيره: أقسم بالنجوم التي تجري بالليل وتخنس بالنهار، وهو الأكثر.
وقوله: أردين، يقول3: أهلكنَ، والردى: الهلاكُ والموت من ذا.
والذهولُ الانصراف، يقال: ذهلَ4 عن كذا وكذا: إذا انصرف عنه إلى غيره. قال الله عز وجل: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي تسلى وتنسى عنه إلى غيره.
قال كثير:
صحا قلبهُ يا عزّ أو كاد يذهلُ ... وأضحى يريدُ الصرمَ أو يتدللُ
وقوله:
ولقد تبلن كثيراً وجميلاً
أصل التبل الترةُ، يقال: تبلي عند فلانٍ؛ قال حسانُ بن ثابتٍ:
تبلت فؤادك في المنامِ خريدةٌ ... تشفي الضجيع بباردٍ بسامِ
والخريدةٌ: الحييةٌ.
وقوله:
ممن تركن فؤاده مخبولا
يريد: الخبل، وهو الجنون، ولو قال: محبولا لكان حسناً يريدُ مصيداً واقعاً في الحبالةِ، كما قال الأعشى:
فلكنا هائم في إثر صاحبهِ ... دانٍ وناءٍ ومحبولٌ ومحتبلُ
ـــــــ
1 سورة التكوير 16،15.
2 كذا في الأصل، وفي ر: "أقسم" على المضارع.
3 كذا س، والأصل: أردين: أهلكن.
4 كذا الأصل، وفي ر. "ذهل"، بكسر الهاء.
من طرائف العشاقوخبرت أن رجلاً جافياً عشق قينة حضرية، فلكما يوماً على ظهر الطريق فلم تكلمه، فظن أن ذاك حياءٌ منه، فقال: يا خريدة! قد كنتُ أحسبك عروباً، فما بالنا نمقك وتشنئينا! فقالت: يا ابن الخبيثةِ! أتجمشني بالهمزِ!
الخريدةٌ: الحيية. والعروبُ: الحسنةُ التبعل، وفسرَ في القرآن على ذلك في قوله: {عُرُباً أَتْرَاباً} 1. فقيل: هن المحباتُ لأزواجهن.
وقال أوسُ بن حجر2:
تصبي الحليم عروبٍ غير مكلاحِ3
وذكر الليثي أن رجلاً كان يحب4 جاريةً لوم يكن يحسن مما يتوصل به إلى النساء شيئاً، إلا أنه كان يحفظ القرآن، فكان يتوصل إليها بالآية بعد الآية، فكان إن وعدته فأخلفته تحين وقت مرورها، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} 5 وإن خرجت خرجةً ولم يعلم بها فينتظر تحينها في أخرى، فتلا: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} 6. وإن وشى به إليها واشٍ كتبَ إليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} 7.
وذكروا أن أبا القمقام8 بن بحر السقاء عشق جارية مدينية، فبعث إليها: إن أخواناً لي زاروني، فابعثي إلي برؤوسٍ حتى نتغدى9 ونصطبح [اليوم]10 على ذكرك، ففعلت، فلما كان في11 اليوم الثاني بعثَ إليها: إن القوم مقيمون لم
ـــــــ
1 سورة الواقعة 37.
2 زيادات ر: "ويقال عبيد بن الأبرص" وصدره كما في الزيادات.
وقد لهوت بمثل الرئم آنسة
3 أى غير عبوس.
4 ر: "أحب جارية".
5 سورة الصف 2.
6 سورة الأعراف 188.
7 سورة الحجرات 6.
8 كذا في الأصل، س، وفي ر: "القماقم".
9 كذا في الأصل، س، وفي ر: "تأكلها".
10 تكمله من س.
11 ساقطة من ر.
نفترق، فابعثي إلي بقليةٍ جزوريةٍ وبقريةٍ قديةٍ1 حتى نتغداها ونصطبح على ذكركِ، فلما كان في اليوم الثالث بعثَ إليها: إنا لم نفترق، فابعثي إلي بسنبوسكٍ2 حتى نصطبح اليوم على ذكرك، فقالت لرسوله: إني رأيت الحب يحل في القلبِ، ويفيض إلى الكبدِ والأحشاء، وإن حب صاحبنا هذا ليس يجاوزُ المعدة.
وخبرت أن أبا العتاهية كان قد استأذن في أن يطلق له أن يهدي إلى أمير المؤمنين المهدي في النيروز والمهرجان، فأهدى في أحدهما برنيةً ضخمةً، فيها ثوب ناعمُ مطيب، قد كتب في حواشيه:
نفسي بشيءٍ من الدنيا معلقةٌ ... الله والقائمُ المهدي يكفيها
إني لأيأس منهاثم يطمعني ... فيها احتقارك للدنيا بما فيها3
فهم بدفع عتبة إليه، فجزعت، وقالت: يا أمير المؤمنين، أبعد حرمتي وخدمتي تدفعني4 إلى رجلٍ قبيح المنظر بائع جرار ومكتسبٍ بالعشق! فأعفاها، وقال: املئوا له5 هذه البرنية مالاً، فقال للكاتب: أمر لي بدنانير فقالوا: ما ندفع ذلك، ولكن إن6 شئت أعطيناك دراهم إلى أن يفصح بما أراد، فاختلف في ذلك حولاً، فقالت عتبةُ: لو كان عاشقاً كما يزعم لم يكن يختلف منذ حولٍ في التمييز بين الدراهم والدنانير، وقد أعرض عن ذكري صفحاً.
ودعت أبا الحارث جمين7، واحدةٌ كان يحبها، فجعلت تحادثه ولا تذكر
ـــــــ
1 القلية الجزوردية: مرقة تتخذ من لحوم الجزور وأكبادها: وبقرية: قطيعة من لحم البقر، وقدية: طيبة الطعم، طيبة الريح.
2 سنبوسك، فارسي مغرب وهو من ضروب الأطعمة.
3 ر، س: "ومافيها" وما أثبته من الأصل.
4 ر: "حرمتى وخدمتي أتدفعني"، وما أثبته عن الأصل.
5 ساقطة من ر.
6 كذا في الأصل، س، وفي ر: "إذا".
7 ر، س: "جميز"، وصوابه مافي الأصل، وهو جمين المدنى صاحب النوادر والمزح" وانظر المشتبه 175.
الطعام، فلما طال ذلك به قال: جعلني الله فداكِ! لا أسمع للغداء1، ذكراً. قالت: أما تستحيي! أم في وجهي ما يشغلك عن ذا? فقال لها: جعلني الله فداكِ! لو أن جميلاً وبثينة قعدا ساعةً لا يأكلان شيئاً لبزقَ كل واحدٍ منهما في وجهِ صاحبهِ وافترقا.
وأنشدت لأعرابيٍّ:
وقد رابني من زهدمٍ أن زهدماً ... يشد على خبزي ويبكي على جملِ
فلو كنت عذري العلاقةِ لم تكن ... سميناً وأنساك الهوى كثرةَ الأكلِ
وقال أعرابي:
ذكرتك ذكرةً فاصطدت ضبا ... وكنت إذا ذكرتكِ لا أخيبُ
ـــــــ
1 كذا في الأصل، س، وفي ر: "للغداء".
لذي الرمة في ميّ
وقال ذو الرمة:
ألم تعلمي يا ميَّ أنَّا وبيننا ... مهاوًً لطرف العين فيهنَّ مطرح
ذكرتك إن مرّت بنا أمُّ شادنٍ ... أمام المطايا تشرئبُّ وتسنح
من المؤلفات الرمل أدماء حرَّةٌ ... شعاع الضُّحى في لونها يتوضَّح
هي الشِّبه أعطافاً وجيداً ومقلةً ... وميَّة أبهى بعد منها وأملح
كأنَّ البرى والعاج عيجت متونه ... على عشرٍ نهيٍ به السَّيل أبطح
بئن كانت الدُّنيا عليَّ كما أرى ... تباريح من ذكراك للموت أروح
قوله: "مهاوٍ"، واحدتها مهواةٌ، وهو الهواء بين الشيئين.
ويقال: لفلان في داره مطرحٌ إذا وصفها بالسَّعة، يقال: فلان يطرح بصره كذا مرَّرةً وكذا مرةً، وأنشد سيبويه:
نظّارة حين تعلو الشمس راكبها ... طرحاً بعيني لياحٍ فيه تحديد
اللياح من البياض، واللَّوح: العطش، واللُّوح: الهواء.
والشَّادن: الذي قد شدن، أي تحرَّك.
وقوله: "تشرئب"، يقال: إذا وقف ينظر كالمتحيَّر: قد اشرأبَّ نحوي، ويقال: هو يسرح في المرعى.
وقوله: "من المؤلفات"، يقال: "آلفت المكان أولفه إيلافاً"، ويقال: ألفته إلفاً، وفي القآن الكريم: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلاَفِهِمْ} 1 وقرأوا: "إلافهم" على القصر.
وقوله: "الرمل" النصب فيه أجود بالفعل، ويجوز الخفض على شيءٍ نذكره بعد الفراغ من هذا الباب، إن شاء الله.
وأصل الهجان الأبيض.
والعطف: ما انثنى من العنق، قال: تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} 2. ويقال للأردية: العطف؛ لأنها تقع على ذلك الموضع.
وفي الحديث: أنَّ قوما ًيزعمون أنهم من قريشٍ أتوا عمر بن الخطاب رحمه الله، وكان قائفاً3، ليثبِّتهم في قريشٍ، فقال: اخرجوا بنا إلى البقيع. فنظر إلى أكفِّهم، ثم قال: اطرحوا العطف-واحدها عطاف- ثم أمرهم فأقبلوا وأدبروا، ثم أقبل عليهم فقال: ليست بأكفِّ قريشٍ ولا شمائلها، فأعطاهم فيمن هم منه.
والجيد: العنق.
والبرى: الخلاخيل، واحدتها برة، وهي من الناقة التي تقع في مارن الأنف، والذي يقع في العظم يقال له الخشخاش.
والعاج كان يتَّخذ مكان الأسورة، قال جرير:
ترى العبس الحوليَّ جوناً بكوعها ... لها مسكاً من غير عاجولا ذبل
العبس: ما تعلّق4 من الأبعار والبول بأذناب الإبل، والوذح: الذي تعلَّق بأطراف إلاء الشَّء، ويكون العبس في أذناب الإبل من البول إذا خثر.
ـــــــ
1 سورة قريش: 1.
2 سورة الحج: 9.
3 القيافة: تتبع الآثار ومعرفتها.
4 كذا في الأصل، س، وفي ر: "مايتعلق".
والجون ههنا: الأسود وهو الأغلب فيه، والكوع: رأس الزَّند الذي يلي الإبهام، والكرسوع: رأسه الذي يلي الخنصر. والمسكة: السِّوار، والذَّبل: شيئٌ يتَّخذ من القرون كالأسورة، ويقال: سوارٌ وسوارٌ، وإسوارٌ: قالت الخنساء:
كأن تحت طيِّ البرد إسوار
والعشر: شجرٌ بعينه.
والأبطح: ما انبطح من الوادي، يقال: أبطح، وبطحاء يا فتى، وأبرق وبرقاء، وأمعز ومعزاء، وهذا كثيرٌ.
والتَّباريح: الشدائد، يقال: برَّح به، وفي الحديث: "فأين أصحاب النَّهر" ? قال: لقوا برحاً، والعرب لا تعرفه إلاَّ ساكن الراء، قال جرير:
ما كنت أوَّل مشغوفٍ أضرَّ به
برح الهوى وعذابٌ غير تفتير
قال أبو الحسن: وقد سمعنا من غير أبي العباس، يقال: لقيت منك برحاً، بالفتح. ويقال: لقي منه البرحين، أي الدَّواهي الشِّداد التي تبرّح.
ما قيل في السر وكتمانهقال أبو العباس في المثل السائر: قيل لرجل: ما خفي? قال: ما لم يكن.
وفي تفسير هذه الآية: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} 1. قال: ما حدَّثت به نفسك. كما قال: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 2، تقديره في العربية: وأخفى منه.
والعرب تحذف مثل هذا، فيقول القائل: مررت بالفيل أو أعظم، وإنه كالبقَّة3 أو أصغر، ولو قال: رأيت زيداً أو شبيهاً لجاز، لأنّ في الكلام دليلاً، ولو قال: رأيت الجمل، أو راكباً، وهو يريد: "عليه": لم يجز لأنه لا دليل فيه، والأول إنما قرّب شيئاً من شيءٍ، وههنا إنما ذكر شيئاً ليس من شكل ما قبله.فأما قوله جل ثناؤه: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} 4 وفيه قولان: أحدهما - وهو
ـــــــ
1 سورة طه 7.
2 سورة البقرة 235.
3 ر: "لكالبقة"، وما أثبته عن الأصل، س.
4 سورة الروم 27.
المرضي عندنا -: إنما هو: وهو عليه هينٌ، لأن الله جلَّ وعزَّ لا يكون عليه شيء أهون من شيءٍ آخرَ. وقد قال معن بن أوسٍ:
لعمركَ من أدري وإني لأؤجل ... على أينا تغدو المنيةُ أولُ
أرد: وني لوجلٌ، وكذلك يتأول من في الأذن? "الله أكبر الله أكبر"، أي الله كبيرٌ، لأنه إنما يفاضل بين الشيئين إذا كانا من جنس واحد1، يقال: هذا أكبرُ من هذا، إذا شاكله في باب.
فأما "الله أجود من فلان" و"الله أعلم بذلك منك"، فوجه2 بين، لأنه من طريقِ العلم والمعرفةِ والبذلِ والإعطاءِ.
وقوم يقولون: "الله أكبر من كل شيءٍ"، وليس يقع هذا على محض الروية3، لأنه تبارك وتعالى ليس كمثلهِ شيءٌ4، وكذلك قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائمه اعز وأطولٌ
جائزٌ أن يكون قال للذي يخاطبه: من بيتكَ،فاستغنى عن ذكر ذلك بما جرى من المخاطبة والمفاخرة، وجائز أن تكون دعائمه عزيزةٌ طويلةٌ، كما قال الآخر5:
فبحتم يا آل زيدٍ نفرا ... ألأم أصغراً وأكبرا
يريد: صغاراً وكباراً.
فأما قول مالك بن نويرة في ذؤاب بن ربيعة حيث قتل عتيبة بن الحارث بن شهابٍ، وفخر6 بن أسدٍ بذلك، مع كثرة من قتلت بنو يربوع منهم:
فخرت بنو أسدٍ بمقتل واحدٍ ... صدقت بنو أسدٍ عتيبةُ أفضلُ
فإنما معناه أفضل ممن قتلوا، على ذلك يدل الكلامُ. وقد أبان ما قلنا في بيته الثاني بقوله:
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ر: "توجهه"
3 ر: "الرؤية"، وما أتبته عن الأصل، س.
4 ساقطة من ر.
5 ر: "قال الرجز"، وما أثبته عن الأصل، س.
6 ر: "وفخر" بالرفع، وما أثبته عن الأصل.
فخروا بمقتلهِ ولا يوفي به ... مثنى سراتهم الذين نقتل
والقول الثاني في الآية: وهو أهون عليه عندكم، لأن إعادة الشيء عند الناس أهون من ابتدائه حتى يجعل شيئاً من لا شيء.
ثم نعود إلى الباب.
قال زهيرٌ:
ومهما تكن عند امرىءٍ من خليقةٍ ... ولو خالها تخفى على الناس تعلمِ
فهذا مثل المثل الذي ذكرناه.
وقال عمرو بن العاص: إذا أنا افشيت سري إلى صديقي فأذاعه فهو في حل: فقيل له: وكيف ذاك? قال: أنا كنت أحق بصيانته.
وقال امرؤ القيس:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانهُ ... فليس علي شيءٍ سواه بخزانِ
وأحسن ما سمع في هذا ما يعزى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقائل يقول: هو له، ويقول آخرون: قاله متمثلا، ولم يختلف في أنه كان يكثرُ إنشاده:
فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا
وإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحا
وذكر العتبي أن معاوية بن أبي سفيان أسر إلى عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان حديثاً، قال عثمانُ: فجئت إلى أبي، فقلت: إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً، أفأحدثك به? قال: لا، إنه من كتم حديثه كان الخيارُ إليه، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تجعل نفسك مملوكاً بعد أن كنت مالكاً، فقلت له: أو يدخل هذا بين الرجل وابيه? فقال: لا، ولكني أكره أن تذلل لسانك بإفشاء السر، قال: فرجعت إلى معاوية، فذكرتُ ذلك له، فقال معاوية: أعتقك أخي من رقِّ الخطإ.
وقال معاوية: أعنت على علي رحمه الله بأربع: كنت رجلاً أكتمُ سري،
وكان رجلاً ظهره1، وكنت في أطوع جند وأصلحه، وكان في أخبث جندٍ وأعصاه، وتركته واصحاب الجمل وقلتُ: إن ظفروا به كانوا أهون علي منه، وإن ظفر بهم اعتددت بها عليه في دينه. ن وكنتُ أحب إلى قريشٍ منه، فيا لك من جامعٍ إلي ومفرق عليه! وعونٍ لي وعونٍ عليه!
وقال أردشير: الداء في كل مكتومٍ.
وقال الأخطل:
إن العداوة تلقاها وإن قدمت ... كالعر يكمن حيناً ثم ينتشرُ
وقال جميلٌ:
ولا يسمعن سري وسرك ثالثٌ ... ألا كل سرٍّ جاوز اثنين شائعُ
وقال آخر، وهو مسكينُ الدرامي:
وفتيان صدقٍ لستُ أطلعُ بعضهم2 ... على سر بعض غير أني جماعها
يظلون في الأرض الفضاء وسرهم ... إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها
لكل امرىء شعبٌ من القلب فارغٌ ... وموضوعُ نجوى لا يرام اضطلاعها
وقال آخر:
سأكتمه سري وأحفظ سره ... ولا غرني أني عليه كريمُ
حليم فينسى أو جهول يضيعه ... وما الناس إلا جاهل وحليمٌ
وكان يقال: أصبر الناس من صبر على كتمان سره ولم يبدهِ لصديقه فيوشك أني صير عدواً فيذيعهُ.
وقال العتبي:
ولي صاحبٌ سري المكتومُ عنده ... مخاريق نيرانٍ بليلٍ تحرقُ3
ـــــــ
1 أى يظهر أمره للناس.
2 ر: "لست مطلع بعضهم"، وما أثبته عن الأصل، س.
3 مخاريق: جمع مخراق، وهو ماتلعب به الصبيان من الخرق المفتولة، يضرب بعضهم بعضا، وكنى بتحريقها عن إذاعة سره. قاله المرصفى.
عطفت على أسراره فكسوتها ... ثياباً من الكتمانٍ لا تتخرق
فمن تكنِ الأسرار تطفو بصدره ... فأسرارُ صدري بالأحاديث تغرقُ
فلا تودعن الدهر سرك أحمقاً ... فإنك إن أودعته منه أحمقُ
وحسبكَ في سترِ الأحاديث واعظاً ... من القول ما قال الأريبُ الموفقُ:
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدرُ الذي يستودعُ السر أضيقُ
وقال كعب بن سعدٍ الغنوي:
ولست بمبدٍ للرجال سريرتي ... ولا أنا1 عن أسرارهم بسئولِ
ولا أنا يوماً للحديث سمعتهُ ... إلى هاهنا من هاهنا بنقولِ2
وقد ذكرنا قول العباس بن عبد المطلب رحمه الله لابنه عبد الله: ن ذا الرجل قد اختصك دون أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاحفظ عني ثلاثاً: لا يجربن الرجل عليك كذباً، ولا تفشين له سراً، ولا تغتب عنده أحداً. فقيل لابن عباس: كل واحدةٍ منهن خيرٌ من ألفِ دينارٍ، فقال: كل واحدةٍ منهن خيرٌ من عشرةِ آلافٍ.
وقال بعض المحدثين:
لي حيلةٌ فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيلهْ
من كان يكذبُ ما يري ... د فحيلتي فيه قليلهْ3
وقال آخر [قال أبو الحسن: هو أبو العباس المبرد]:
إن النموم أغطي دونه خبري ... وليس لي حيلةٌ في مفتري الكذبِ
وقال بعض المحدثين:
كتمت الهوى حتى إذا نطقت به ... بوادر من دمعِ يسيل على خدي4
وشاع الذي أضمرت من غير منطقٍ ... كأن ضمير القلب يرشح من جلدي
ـــــــ
1 ر: "وما أنا".
2 حاشية الأصل: "البيت الثاني سقط من الأصل، وثبت عند ش".
3 كذا في الأصل، س، وفي ر: "من كان يخلق ما يقول".
4 ر: "تسيل على الخد".
وقال جميل بن عبد الله بن معمرِ العذري1:
إذا جاوز الإثنين سرٌ فإنه ... بنث وإفشاءِ الحديث قمينُ
وتأويل قمين، وحقيقٍ، وجدير، وخليق، واحدٌ، أي قريب من ذاك، هذا حقيقتُه، يقال: قمينٌ،وقمنٌ، في معنى. قال الحادرث بن خالدٍ المخزومي:
من كان يسال عنا أين منزلنا ... فالأقحوانة منا منزلٌ قمنُ
وفي الحديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من باع داراً أو عقاراً فلم يردد ثمنه في مثله فذلك مالٌ قمنٌ ألا يبارك فيه".
وقال الرقاشي:
إذا نحن خفنا الكاشحين فلم نطق ... كلاماً تكلمنا بأعيننا سرا
فنقضي ولم يعلم بنا كل حاجةٍ ... ولم نكشف النجوى ولم نهتك السترا
وقال معاوية لعباس2 بن صحار العبدي: ما أقرب الاختصار? فقال لمحة دالةٌ.
وقيل: خيرُ الكلام ما أغنى اختصاره عن إكثاره.
وقيل: النمام سهم قاتلُ وقال أحد المحدثين:
لا أكتم الأسرار لكن أذيعها ... ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي
وإن قليل العقلِ من باتَ ليلةً ... تقلبه الأسرارُ جنباً على جنبِ
وقال آخر:
ومنع جارتي من كل خيرٍ ... وأمشي بالنميمةِ بين صحبي
ويقال للنمام: القتات.
وفي حديثٍ: "لا يراح القتاتُ رائحةَ الجنةِ".
وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. "لعن الله المثلث" فقيل: يا رسول الله، ومن
ـــــــ
1 المرصفى: هذا غلط، وصوابه: وقال قيس بن الخطيم.
2 ر: "عباس"، وما أثبته عن الأصل، س، وهو الصواب.
المثلث? فقال: "الذي يسعى بصاحبه إلى سلطانه، فيهلك نفسه وصاحبه وسلطانه".
وقال معاوية للأحنف في شيءٍ بلغه عنه، فأنكر ذلك الأحنف، فقال له معاوية: بلغني عنك الثقة، فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، إن الثقة لا يبلغُ.
وقال أحد الماضين1:
إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شرا أُذيعَ، وإن لم يسمعوا كذبوا
وقال المهلب بن أبي صفرة: أدنى أخلاق الشريف كتمانُ السرِّ وأعلى أخلاق نسينث ما أسر إليه.
ويقال للنكاح: السرُّ؛ على غير وجه وهذا ليس من الباب الذي كنا فيه، ولكني ذكر الشيء بالشيء، وهذا حرف يغلط فيه، لأن قوماً يجعلون السرَّ الزنا، وقومٌ يجعلونه الغشيانَ، وكلا القولين خطأَ، إنما هو الغشيانُ من غير وجهه. قال الله جلَّ وعزّ: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} 2، فليس هذا موضع الزنا.
وقال الحطيئة:
ويحرم سرُّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاعِ
وقال الأعشى لسلامة ذي فائشٍ الحميري:
وقومك إن يضمنوا جارةً ... وكانوا بموضِعِ أنضادها 3
فلن يطلبوا سرها للغنى ... ولن يسلموها لإزهادها4
في هذا قولان:
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو طريح بن اسماعيل الثقلى".
2 سورة البقرة 235.
3 الأنضاد: الأعمار والأخوال المتقدمون إلى الشرف. قاله المرصفى.
4 يقول: لا يتركونها لفلة مالها، وهو الإزهاد، قاله صاحب اللسان-زهد.
أحدهما أنهم لا يطلبون اجترارها إليهم على رغم أوليائها منأجل ماله، غضباً1 للجوار، ولا يسلمونها إذا انقطع رجاؤهم من الثواب والمكافأة.
والآخر أنهم لا يرغبون في ذوات الأموال؛ إنما2 يرغبون في ذواتِ الأحساب؛ اختيارً للأولاد، وصيانةً للأصهار، أن يطمع فيهم من لا حسب له.
وقوله الحطيئة:
ويأكل جارهم أنفَ القصاعِ
إنما يريد المستأنف الذي لم يؤكل قبل منه شيء؛ يقال: روضةٌ أنف؛ إذا لم ترعَ، وكأسٌ أنف، إذا لم يشرب منها شيء قبل، قال لقيط بن زرارة:
إن الشواءَ والنشيلَ والرغفْ3 ... والقينة الحسناءَ والكاس الأنفْ
للطاعنين الخيل والخيل خنفْ4
ـــــــ
1 كذا في الأصل، س،وفي ر: "غصبا".
2 ر: "وإنما".
3 النشيل: لحم يطبخ بلا توابل.
4 الخنف: جمع خنوف، من خنف الفرس إذا لوى حافره.
المجلد الثالث
تابع
لبكر بن النطاح يمدح مالك بن علي الخزاعي...
بسم الله الرحمن الرحيم
باب 1
قال أبو العباس: وهذا باب اشترطنا أن نخرج فيه من حزن إلى سهل ومن جد إلى هزل، ليستريح القارئ، ويدفع عن مستمعه الملال. ونحن ذاكرون ذلك إن شاء الله.
بكر بن النظاح يمدح مالك بن علي الخزاعي
قال بكر بن النطاح في كلمة يمدح فيها2 مالك بن علي الخزاعي:
عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى، فقالت قم فجئنا بكوكب
فقلت لها هذا التعنت كله ... كمن يتشهى لحم عنقاء مغرب3
فلو أنني أصبحت في جود مالك ... وعزته ما نال ذلك مطلبي4
فتى شقيت أمواله بسماحه ... كما شقيت قيس بأسياف تغلب
ـــــــ
1 هذا العنوان ثابت في الاصل. س, وهو ساقط من ر.
2 ر: "مدح". وما أثبته عن الأصل. س.
3 قال في اللسان: "العنقاء: طائر ضخم ليس بالعقاب. وقيل العنقاء المغرب. كلمة لا اصل لها, يقال إنها طائر عظيم لا ترى إلا في الدهور. ثم كثر ذلك حتى سموا الداهية عنقاء مغربا ومغربة". مادة-عنق.
4 في س. هذا البيت قبل سابقه.
للخليع يمدح عاصماً الغساني
وقال الخليع1 في كلمة له2 يمدح بها عاصماً الغساني:
أقول ونفسي بين شوقي وحسرة ... وقد شخصت عيني ودمعي على خدي3
اريحي بقتل من تركت فؤاده ... بلحظته بين التأسف والجهد
فقالت: عذاب الهوى4 قبل ميتة ... وموت إذا أقرحت قلبك من بعدي5
لقد فطنت للجور فطنة عاصم ... لصنع الأيادي الغر في طلب الحمد
سأشكوك في الأشعار غير مقصر ... إلى عاصم ذي المكرمات وذي المجد
لعل فتى غسان يجمع بيننا ... فتأمن نفسي منكم لوعة الصد
ـــــــ
1 الخليع لقب الحسين بن الضحاك. أحد شعراء الدولة العباسية.
2 كلمة "له" ساقطة من ر.
3 شخصت عيني: ارتفع جفنها من كثرة السهاد
4 ر: "في الهوى". وما أثبته عن الأصل. س.
5 يقال: قرح قلب الرجل من الحزن وأقرحة غيرة
لأبي العتاهية في العتابوقال إسماعيل بن القاسم:1
إن السلام وإن البشر من رجل ... في مثل ما أنت فيه ليس يكفيني
هذا زمان ألح الناس فيه على ... زهو الملوك وأخلاق المساكين
أما علمت جزاك الله صالحة ... عني وزادك خيراً يا ابن يقطين
أني أريدك للدنيا وعاجلها ... ولا أريدك يوم الدين للدين
ـــــــ
1 هو المكنى أبا العتاهية.
ليزيد بن محمد يمدح إسحاق بن إبراهيموقال يزيد بن محمد بن المهلب1 المهلبي في كلمة يمدح بها إسحاق بن إبراهيم:
إن أكن مهدياً لك الشعر2 إني ... لابن بيت تهدى له الأشعار
غير أني أراك من أهل بيت ... ما على الحر أن يسودوه عار
وقال في كلمة أخرى له :3
وإذا جددت فكل شيء نافع ... وإذا حددت فكل شيء ضائر4
وإذا أتاك مهلبي في الوغى ... والسيف في يده فنعم الناصر
ـــــــ
1 من س.
2 كذا في الاصل.س. وفي ر :"المدح".
3 كلمة له ساقطة من ر. س.
4 حددت: منعت, يقال: حده حدا. منعه عنه خيرا كان أم شرا. وجددت. أي رزقت الجد. وهو الحظ.
في مقتل مصعب بن الزبيروقال عبد الله بن الزبير لما أتاه قتل مصعب بن الزبير: اشهده المهلب بن أبي صفرة? قالوا: لا. كان المهلب في وجوه الخوارج. قال: أفشهده عباد بن الحصين الحبطي? قالوا: لا. قال: أفشهده عبد الله بن خازم السلمي? قالوا: لا. فمثل عبد الله بن الزبير.
فقلت لها عيثي جعار وجرري ... بلخم امرئ لم يشهد اليوم ناصره1
جعار: اسم من أسماء الضبع. وهي صفة غالبة، لأنه يقال لها: جاعرة، فهذا في بابه كفساق، ولكاع، وحلاق، للمنية. وقد فسرنا هذا الباب مستقصى على وجوهه الأربعة.
ـــــــ
1 من أبيات الكتاب 38: 2وينسب إلى النابغة الجعدي.
ابنة جارية همام بن مرةويروى أن ابنة جارية لهمام بن مرة بن ذهب بن شيبان قالت له يوماً:
أهمام بن مرة حن قلبي ... إلى اللائي يكن مع الرجال
فقال: يا فساق! أردت صفيحة1 ماضية. فقالت:
أهمام بن مرة حن قلبي ... إلى صلعاء مشرقة القذال2
فقال: يا فجار! أردت بيضة حصينة3، فقالت:
أهمام بن مرة حن قلبي ... إلى أير أسد به مبالي
قال: فقتلها.
ـــــــ
1 الصفيحة: واحدة الصفائح, وهي السيوف العريضة.
2 القذال في الاصل: جماع مؤخر الرأس من الإنسان والفرس.
3 البيضة من الحديد. تلبس على الرأس تقيه السلاح.
من أخبار سعيد بن سلم الباهلي وما قيل فيه من الشعر
قال أبو العباس: قال أبو الشمقمق - وهو مروان بن محمد، وزعم التوزي عن أبي عبيدة قال: أبو الشمقمق ومنصور بن زياد ويحيى بن سليم الكاتب. من
أهل خراسان، من بخارية عبيد الله بن زياد، وكان أبو الشمقمق ربما لحن، ويهزل كثيراً ويجد، فيكثر صوابه - قال يمدح مالك بن علي الخزاعي ويذم سعيد بن سلم الباهلي:
قد مررنا بمالك فوجدنا ... ه جواداً إلى المكارم ينمي
ما يبالي أتاه ضيف مخف ... أم أتاه يأجوج من خلف دذم
فارتحلنا إلى سعيد بن سلم ... فإذا ضيفه من الجوع يرمي
وإذا خبزه عليه سيكفي ... كهم الله ما بدا ضوء نجم
وإذا خاتم النبي سليما ... ن داود قد علاه بختم
فارتحلنا من عند هذا بحمد ... وارتحلنا من عند هذا بذم
وقال عبد الصمد بن المعذل يرثي سعيد بن سلم:
كم يتيم جبرته بعد يتم ... وفقير بعثته بعد عدم
كلما عضت الحوادث نادى ... رضي الله عن سعيد بن سلم
وقال سعيد بن سلم: عرض لي أعرابي فمدحني فبلغ . فقال:
ألا قل لساري الليل لا تخش ضلة ... سعيد بن سلم ضوء كل بلاد
لنا سيد أرثى على كل سيد ... جواد حثا في وجه كل جواد
قال: فتأخرت عن بره قليلاً. فهجاني فبلغ . فقال:
لكل أخي مدح ثواب يعده ... وليس لمدح الباهلي ثواب
مدحت ابن سلم والمديح مهزة ... فكان كصفوان عليه تراب
وقال أبو الشمقمق:
قال لي الناس زر سعيد بن سلم ... قلت للناس لا أزور سعيدا
وأميري فتى خزاعة بالبص ... رة قد عمها سماحاً وجودا
ولنعم الفتى سعيد ولكن ... مالك أكرم البرية عودا
فقال سعيد: لوددت أنه لم يكن ذكرني مع مالك، وأنه أخذ مني أمنيته.
وقال أبو الشمقمق أيضاً:
هيهات تضرب في حديد بارد ... إن كنت تطمع في نوال سعيد
والله لو ملك البحار بأسرها ... وأتاه سلم في زمان مدود
يبغيه منها شربة لطهور ... لأبى وقال: تيممن بصعيد
ومثله قول لآخر:
لو أن قصرك يا ابن يوسف كله ... إبر يضيف بها فضاء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ... ليخيط قد قميصه لم تفعل
وقال مسلم بن الوليد:
ديونك لا يقضى الزمان خريمها ... وبخلك بخل الباهلي سعيد
سعيد بن سلم ألأم الناس كلهم ... وما قومه من لؤمه ببعيد
يزيد له فضل ولكن مزيداً ... تدارك منا مجده بيزيد
خزيمة لا بأس به غير أنه ... لمطبخه قفل وباب حديد
وقال عبد الصمد بن المعذل، يرثي عمرو بن سعيد، وكان عمرو هلك بعيد سعيد بيسير:
رزينا أبا عمرو فقلنا: لنا عمرو ... سيكفيك ضوء البدر غيبوبة البدر
وكان أبو عمرو معاراً حياته ... بعمرو فلما مات أبو عمرو
وقال أمير المؤمنين الرشيد يوماً لسعيد بن سلم: يا سعيد، من بيت قيس في الجاهلية؟ قال: يا أمير المؤمنين، بنو فزارة، قال: فمن بيتهم في الإسلام؟ قال: يا أمير المؤمنين، الشريف من شرفتموه، قال: صدقت أنت وقومك.
وحدثني علي بن القاسم بن علي بن سليمان الهاشمي، قال: حدثني رجل من أهل مكة، قال: رأيت في منامي سعيد بن سلم في ، حياته وفي نعمته، وكثرة عدد ولده، وحسن مذهبه، وكمال مروءته، فقلت في نفسي: ما أجل ما أعطيه سعيد بن سلم! فقال لي قائل: وما ذخره الله له في الآخر أكثر.
وكان سعيد إذا استقبل إذا استقبل السنة التي يستقبل فيها عدد سنيه أعتق نسمة وتصدق بعشرة آلاف درهم، فقيل لمديني: إن سعيد بن سلم اشترى نفسه من ربه بعشرة آلاف درهم. فقال: إذاً لا يبيعه.
مما قالته العرب في ذم باهلةوقال أحمد بن يوسف الكاتب لولد سعيد:
أبني سعيد إنكم من معشر ... لا يعرفون كرامة الأضياف
قوم لباهلة بن يعصر إن هم ... نسبوا حسبتهم لعبد مناف
قرنوا الغداء إلى العشاء وقربوا ... زاداً لعمر أبيك ليس بكاف
وكأنني لما حططت إليهم ... رحلي نزلت بأبرق العزاف1
ينا كذاك أتاهم كبراؤهم ... يلحون في التبذير والإسراف
وأنشدني المازني:
سل الله ذا المن من فضله ... ولا تسألن أبا وائله
فما سأل الله عبد له ... فخاب ولو كان من باهله
[قال أبو الحسن: وزادني بعض أصحابنا:
ترى الباهلي على خبزه ... إذا رامه آكل آكله]
وأنشدني رجل2 من عبد القيس:
أباهلي ينبحني كلبكم ... وأسدكم ككلاب العرب
ولو قيل للكلب يا باهلي ... عوى الكلب من لؤم هذا النسب
وحدثني علي بن القاسم قال: حدثني أبو قلابة الجزمي قال: حججنا مرة مع أبي جزء بن عمرو بن سعيد، قال: وكنا في ذراه3، وهو إذ ذاك بهي وضي، فجلسنا في المسجد الحرام إلى أقوام4 من بني الحارث بن كعب، لم نر أفصح منهم، فرأوا هيئة أبي جزء وإعظامنا إياه مع جماله، فقال قائل منهم له: أمن أهل بيت الخليفة أنت? قال: لا، ولكن رجل من العرب، قال: ممن الرجل? قال. رجل5 من مضر، قال: أعرض ثوب الملبس! من أيها عافاك الله? قال: رجل
ـــــــ
1 العزاف. بتشديد الزاي: جبل من جبال الدهناء.
2 ر: "وأنشد أبو العباس لرجل". وما أثبته عن الاصل, س.
3 ذراه: كنفه.
4 ر: "قوم".
5 ساقطة من ر.
من قيس، قال أين يراد بك، صر إلى فصيلتك التي تؤويك! قال: رجل م بني سعد بن قيس، قال. اللهم غفراً! من أيها عافاك الله? قال: رجل من بني يعصر، قال: من أيها? قال: رجل من باهلة، قال: قم عنا! قال أبو قلابة: فأقبلت على الحارثي فقلت: أتعرف هذا? قال: هذا، ذكر أنه باهلي، قال1: فقلت: هذا أمير ابن أمير ابن أمير... قال: حتى عددت خمسة.
هذا أبو جزء أمير، بن عمرو - وكان أميراً - بن سعيد - وكان أميراً - بن سليم - وكان أميراً - بن قتيبة - وكان أميراً.
فقال الحارثي: الأمير أعظم أم الخليفة? فقلت: بل2 الخليفة. قال: أفالخليفة أعظم أم النبي? قلت: بل النبي. قال: والله لو عددت له في النبوة أضعاف ما عددت في الإمرة3 ثم كان باهلياً ما عبأ الله به شيئاً. قال: فكادت نفس أبي جزء تفيض4، فقلت له5: انهض بنا، فإن هؤلاء أسوأ الناس أدباً6.
[قال أبو الحسن: يقال للرجل إذا سئل عن شيء فأجاب عن غيره أعرض ثوب الملبس أي أبدي غير ما يراد منه].
وحدثت أن أعرابياً لقي رجلاً من الحجاج. فقال له: ممن الرجل? قال: باهلي. قال: أعيذك بالله من ذلك. قال: أي والله، وأنا مع ذلك مولى لهم.
فأقبل الأعرابي يقبل يديه ويتمسح به، قال له الرجل: ولم تفعل ذاك? قال: لأني أثق بأن الله عز وجل لم يبتلك بهذا في الدنيا إلا وأنت من أهل الجنة.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ساقطة من ر.
3 ر: "الإمارة".
4 ر: "تخرج".
5 ساقطة من ر.
6 ر: "آدابا"
في مجلس قتيبة بن مسلم الباهليويزعم الرواة1: أن قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند أفضى2 إلى أثاث لم
ـــــــ
1 ر: "الرقاشي".
2 يريد اتسع وسار عريضا.
ير مله، وإلى آلات لم ير مثلها1، فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليه، ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم، فأمر بدار ففرشت، وفي صحنها قدور ترتقي بالسلالم، فإذا بالحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل. والناس جلوس على مراتبهم، والحضين شيخ كبير. فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لقتيبة: ائذن لي في معاتبته. قال: لا ترده فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلا أن يأذن له - وكان عبد الله يضعف، وكان قد تسور حائطاً إلى امرأة قبل ذاك - فأقبل على الحضين بن المنذر2 فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان? قال: أجل، أسن عمك عن تسور الحيطان، قال: أرأيت هذه القدور? قال: هي أعظم من ألا ترى. قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها! قال: أجل، ولا عيلان، لو كان رآها سمي شعبان، ولم يسم عيلان، قال له عبد الله: يا أبا ساسان، أتعرف الذي يقول:
عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف
قال:أعرفه, وأعرف الذي يقول:
خيبة من يخيب على غني ... وباهلة بن يعصر والركاب
يريد يا خيبة من يخيب. قال. أفتعرف الذي يقول:
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع ... إذا عرقت أفواه بكر بن وائل3
قال: نعم4. وأعرف الذي يقول:
قوم قتيبة أمهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل
قال: أما الشعر فأراك ترويه. فهل5 تقرأ من القرآن شيئاً? قال أقرأ منه الكثر الأطيب: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} 6 [الانسان:1] قال7: فأغضبه. فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى
ـــــــ
1 ر: "لم يسمع بمثلها".
2 من س.
3 ر: "وقد عرقت".
4 كذا في الأصل. س. وفي ر: "أعرف هذا".
5 ر: "ولكن هل تقرأ من القرآن شيئا".
6 سورة الإنسان آية: 1.
7 كلمة "قال" ساقطة من الأصل.
من غيره. قال: فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى. ثم قال على رسله: وما يكون! تلد غلاماً على فراشي فيقال: فلان بن الحضين، كما يقال: عبد الله بن مسلم. فأقبل قتيبة على عبد الله فقال: لا يبعد الله غيرك.
[قال أبو العباس]1: الحضين2 بن المنذر بن الحارث بن وعلة. وكان الحضين بيده لواء علي بن أبي طالب رحمه الله على ربيعة، وله يقول القائل:
لمن راية سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمها حضين تقدما
ـــــــ
1 من س.
2 ر: "هذا الحضين".
للأعشى يمدح هودة بن عليوللحارث بن وعلة يقول الأعشى - وكان قصده فلم يحمده، فعرج1 عنه إلى هوذة بن علي ذي التاج. وهوذة من بني حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، والحارث بن وعلة من بني رقاش، وهي امرأة، وأبوهم مالك بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، فقال الأعشى يذكر الحارث بن وعلة وهوذة بن علي:
أتيت حريثاً زائراً عن جنابة ... فكان حريث عن عطائي جامدا
إذا ما رأى ذا حاجة فكأنما ... يرى أسداً في بيته وأساودا
لعمرك ما أشبهت وعلة في الندى ... شمائله ولا أباه مجالدا
وإن امرأ قد زرته قبل هذه ... بجو لخير منك نفساً ووالدا
تضيفته يوماً فقرب مجلسي ... وأصفدني على الزمانة قائدا
وأمتعني على العشا بوليدة ... فأبت بخير منك يا هوذ حامدا
يرى جمع ما دون الثلاثين قصرة ... ويعدو على جمع الثلاثين واحدا
وهي كلمة.
ـــــــ
1 ر: "وعرج".
قوله: "أتيت حريثاً" يريد الحارث، تصغيره على لفظه1: حويرث.
وهذا التصغير الآخر يقال له تصغير الترخيم، وهو أن تحذف الزوائد من الاسم ثم تصغر حروفه الأصلية، فتقول في تصغير أحمد: حميد لأنه من الحمد، وفي الحارث: حريث، لأنه من الحرث، وفي غضبان: غضيب، لأنه من الغضب، لأن الألف والنون زائدتان. وكذلك ذوات الأربعة، تقول في تصغير قنديل على لفظه قنيديل، فإن صغرته مرخماً حذفت الياء فقلت: قنيدل، فعلى هذا مجرى الباب.
وقوله: عن جنابة، يقول: عن غربة وبعد. يقال: هم نغم الحي لجارهم جار الجنابة، أي الغربة. يقال: رجل جنب، ورجل جانب، أي غريب، قال الله جل وعز: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} 2. وقال الحطيئة:
والله ما مغشر لاموا امرأ جنباً ... في آل لأي بن شماس بأكياس
وقال علقمة بن عبدة:
فلا تحرمني نائلاً عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
فمن قال للواحد: جنب قال للجميع: أجناب، كقولك: عنق وأعناق، وطنب وأطناب، ومن قال للواحد: جانب، قال للجميع: جناب، كقوله: راكب وركاب، وضارب وضراب. قالت الخنساء:
إبكي أخالك لأيتام وأرملة ... وابكي أخاك إذا جاورت أجنابا
وإن كان من الجنابة التي تصيب الرجل قلت: رجل جنب، ورجلان جنب وكذلك المرأة والجميع، وقد يجوز، وليس بالوجه، رجلان جنبان، وامرأة جنبة، وقوم أجناب.
وقوله:
يرى أسداً في بيته وأساودا
ـــــــ
1 س: "على اللفظ".
2 سورة النساء: آية 36.
يريد جمع أسود سالخ، وأسود ههنا نعت، ولكنه غالب، فلذلك جرى ههنا مجرى الأسماء، لأنه يدل على الحية، وأفعل، إذا كان نعتاً بنفسه فجمعه: فغل، نحو: أحمر وحمر، وأسود وسود، وإذا كان نعتاً فأجري مجرى الأسماء فجمعه: أفاعل نحو أساود، وأجادل، وأداهم، إذا أردت القيد، لأنه نعت غالب يجري مجرى الأسماء، وإن أردت أدهم - الذي هو نعت محض - قلت: دهم، قال الأشهب بن رميلة:
أسود شرى لاقت أسود خفية ... تساقوا على حرد دماء الأساود
فأجراه مجرى الأسماء، نحو: الأصاغر، والأكابر، والأحامد.
وقوله:
لعمرك ما أشبتهت وعلة في الندى ... شمائله.....................
فإنه جعل: شمائله، بدلاً من وعلة، والتقدير: ما أشبهت شمائل وعلة.
والبدل على أربعة أضرب: فواحد منها أن يبدل أحد الاسمين من الآخر إذا رجعا إلى واحد، ولا تبالي أمعرفتين كانا أم معرفة ونكرة، وتقول: مررت بأخيك زيد، لأن زيداً رأسه. لما قلت: ضربت زيداً، أردت أن تبين موضع الضرب منه.
فمثل الأول قول الله تبارك وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 1. وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} 2. و{لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} 3.
ومثل البدل الثاني قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 4
ـــــــ
1 سورة الفاتحة: 6 – 7.
2 سورة الشورى 52 ,53.
3 سورة العلق 15, 16.
4 سورة آل عمران 97.
من، في موضع خفض، لأنها بدل من الناس، ومثله، إلا أنه أعيد حرف الخفض: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} 1.
والبدل الثالث مثل ما ذكرنا في البيت، أبدل: "شمائله" منه، وهي غيره، لاشتمال المعنى عليها، ونظير ذلك: أسألك عن زيد أمره. لأن السؤال عن الأمر وتقول على هذا: سلب زيد ثوبه، فالثوب غيره، ولكن به وقع السلب، كما وقعت المسألة عن خبر زيد، ونظير ذلك من القرآن: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 2. لأن المسألة إنما كانت عن القتال: هل يكون في الشهر الحرام? وقال الشاعر وهو الأخطل3:
إن السيوف غدوها ورواحها ... تركت هوازن مثل قرن الأعضب4
وبدل رابع، لا يكون مثله في القرآن ولا في الشعر، وهو أن يغلط المتكلم فيستدرك5 غلطه، أو ينسى فيذكر فيرجع إلى حقيقة ما يقصد له، وذلك قوله: مررت بالمسجد دار زيد، أراد أن يقول: مررت بدار زيد، فإما نسي، وإم غلط، فاستدرك فوضع الذي قصد له في موضع الذي غلط فيه.
وقوله: بجو فهي قصبة اليمامة.
وقوله: تضيفته يوماً: إنما هو تفعلته، من الضيافة، يقال: ضفت الرجل، أي نزلت به، وأضافي، أي أنزلني.
وقوله: وأصفدني: يقول: أعطاني، وهو الإصفاد، والصفد الاسم، والإصفاد المصدر، قال النابغة:
فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد
ويقال: صفدت الرجل فو مصفود، من القيد، ولا يقال في القيد: أصفدت، ولكن صفدته صفداً، واسم القيد الصفد، قال الله جل وعز: {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} 6. كقولك: جمل وأجمال، وصنم وأصنام.
ـــــــ
1 سورة الأعراف 75.
2 سورة البقرة 217.
3 من س.
4 الأغضب: الكبش المكسور القرن.
5 ر: "فيدرك".
6 سورة ص 38.
وقوله: فتى لو يباري الشمس، يقول: يعارض، يقال: انبرى لي فلان، أي اعترض [لي1] في المعنى، وفلان يباري الريح، من هذا أي يعارض الريح بجوده، فهذا غير مهموز. فأما: بارأت الكري فهو مهموز، لأنه من أبرأني وأبرأته. ويقال: برأ فلان من مرضه، برئ يا فتى؛ والمصدر منهما البرء فاعلم، وبريت القلم غير مهموز، الله البارئ المصور. ويقال: ما برأ الله مثل فلان، مهموز، وقولك: البرية، أصله من الهمز، ويختار فيه تخفيف الهمز، ولفظ التخفيف والبدل واحد، وكذلك يختار في النبي التخفيف، ومن جعل التخفيف لازماً قال في جمعه: أنبياء، كما يفعل بذوات الياء والواو، وتقول: وصي وأوصياء، وتقي وأتقياء، وشقي وأشقياء، ومن همز الواحد قال في الجميع: نباء، لأنه غير معتل، كما تقول: حكيم وحكماء، وعليم وعلماء وأنبياء لغة القرآن والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال العباس بن مرداس السلمي:
يا خاتم النباء إنك مرسل ... بالحق كل هدى السبيل هداكاً 2
وقوله:
أو القمر الساري لألقى المقالدا
إنما سكن3 الياء ضرورة، وإنما جاز ذلك لأن هذه الياء تسكن في الرفع والخفض، فإذا احتاج الشاعر إلى إسكانها في النصب قاس هذه الحركة على الحركتين: الضمة والكسرة الساقطتين، فشبهها بهما، فجعلها كالألف التي في: مثنى التي هي على هيئة واحدة في جميع الإعراب، قال النابغة:
ردت عله أقاصيه ولبده ... ضرب الوليدة يا مسحاة في الثأد4
فأسكن الياء في: أقاصيه. وقال رؤبة:
كأن أيديهن بالقاع القرق5 ... أيدي جوار يتعاطين الورق 6
ـــــــ
1 تكملة من س.
2 س: "كل هدى السماء".
3 ر: "فأسكن".
4 الثأد: الثرى.
5 القاع والقاعة ما انبسط من الأرض. والقرق: القاع لا حجارة فيه.
6 من زيادات ر: "والورق هو ورق الشجر, يضرب بالعصا فيتناثر فتلتقطه الجواري بسرعة لعطف الإبل وغيرها".
وقال:
سوى مساحيهن تقطيط الحقق1
[ويروى: تقطيط، بالنصب، وهو أجود، لأن بعده:
تفليل ما قارعن من سمر الطرق
والطرق: جمع طرقة2].
وقال آخر:
كفى بالنأي من أسماء كاف ... وليس لحبها ما عشت شاف
وأما قوله:
وأمتعني على العشا بوليدة ... فأبت بخير منك يا هوذ حامدا
فإنه كان يتحدث عنه، ثم أقبل عليه يخاطبه، وترك تلك المخاطبة.
والعرب تترك مخاطبة الغائب إلى مخاطبة الشاهد، ومخاطبة الشاهد إلى مخاطبة الغائب. قال الله جل وعز: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} 3. كانت المخاطبة للأمة، ثم صرفت4 إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخباراً عنهم. وقال عنترة:
شطت مزار العاشقين فأصبحت ... عسراً علي طلابك ابنة محرم
فكان يحدث5 عنها ثم خاطبها. ومثل ذلك قول جرير:
وترى العواذل يبتدرن ملامتي ... فإذا أردن سوى هواك عصينا
وقال الآخر:
فدى لك والدي وسراة قومي ... ومالي إنه منه أتاني
وهذا كثير جداً.
وقوله:
يرى جمع ما دون الثلاثين قصرة
أي قليلاً، من الاقتصار. ويروى: ويغدو، ويعدو جميعاً.
ـــــــ
1 المساحي هنا: الحوافر, على التشبيه.
2 ما بين العلامتين من زيادات ر. وتفليل: تكسير. ما قارعن. ما ضربن بها. والطرق: حجارة طارقة بعضها فوق بعض.
3 سورة يونس22.
4 كذا في الأصل. س. وفي ر: "انصرفت"
5 ر: "يتحدث".
من أخبار هوذة بن عليوكان هوذة بن علي ذا قدر علي، وكان1 له خرزات فتجعل على رأسه، تشبهاً بالملوك.
وحدثني التوزي عن أبي عبيدة، قال: ما تتوج معدي قط، إنما كانت التيجان لليمن، قال: فسألته عن قول الأعشى لهوذة2:
من ير هوذة يسجد غير متب ... إذا تعمم فوق التاج أو وضعا
قال: إنما كانت خرزات تنظم له3.
وكتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إلى هوذة، كما كتب إلى الملوك.
وكانت بنو حنيفة بن لجيم أصحاب اليمامة، ويقول بعض النسابين:
إن عبيد بن حنيفة كان أتى اليمامة وهي صحراء، فاختطها، فجعل يركض حواليها برمحه في الأرض على ما أصاب من النخل، وأنهم أكلوا ما أصابوا تحته من التمر، فلما طلع لهم التمر لم يهتدوا لصعود النخل، فأقبلوا يجدونه، حتى فكروا فأعدوا له السلالم، فلما عمرت اليمامة جعلت العرب تنجعهم لموضع التمر فيجاورون العزيز منهم، وكان يقال لمن دخلها من هؤلاء: السواقط؛ ممن كانوا.
ويقال إن اليمامة والبحرين والقريتين ومواضع هناك كانت لطسم وجديس، والخبر في ذلك مشهور بزرقاء اليمامة، وقد ذكر ذلك الأعشى في قوله:
ـــــــ
1 ر: "وكانت".
2 ساقطة من ر.
3 ذكر ابن الأثير أن كسرى أنو شروان لما دخل علية هوذة بن على أعجب به. فدعا بعقد من در فعقد على رأسه, ومن ثم سمى هوذة ذا التاج. نقله الموصفى.
[ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ... حقاً كما نطق الذئبي إذ سجعا]1
قالت أرى رجلاً في كفه كتف ... أو يخصف النعل لهفي أية صنعا
وكذبوها بما قالت فصبحهم ... ذو آل غسان يزجي الموت والشرعا2
وحدثني التوزي عن أبي عبيدة والأصمعي عن أبي عمرو قال: قال لي رجل من أهل القريتين: أصبت ههنا دراهم، وزن الدرهم ستة دراهم وأربعة دوانيق، من بقايا طسم وجديس، فخفت السلطان فأخفيتها.
وقد ذكر ذلك زهير في قوله:
عهدي بهم يوم باب القريتين وقد ... زال الهماليج بالفرسان واللجم3
فاستبدلت بعدنا داراً يمانية ... ترعى الخريف فأدنى دارها ظلم4
ـــــــ
1 ما بين العلامتين من زيادات ر. والذئبي هو سطيح الكاهن, وهو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن عدي, وكان ضعيفا منبسطا لا يقدر أن يقعد "من شرح ديوان الأعشى 74".
2 الشرع: الأوتار. واحده شرعة.
3 ر: "عهد بها", وما أثبته رواية الديوان 150, والأصل, س. وباب القريتين, التي في طريق مكة, وهي قرية كانت لطسم وجديس, والهماليج: جمع الهملاج, وهي الدالة في سيرها سرعة ويخترة, يريد بها هنا الأبل.
4 يمانية: ناحية اليمن, وظلم: اسم جبل.
لجرير يهجو بني حنيفةوقال جرير يهجو بن حنيفة:
هجاني الناس م الأحياء كلهم ... حتى حنيفة تفسو في مناحيها1
أصحاب بخل وحيطان ومزرعة ... سيوفهم خشب فيها مساحيها
دلت وأعطت يداً للسلم صاغرة ... من بعد ما كاد سيف الله يفنيها
صارت حنيفة أثلاثاً فثلثهم ... أضحوا عبيداً وثلث من مواليها
قوله: مناحيها، المنحاة: مقام السانية على الحوض، والحائط: البستان.
وقوله:
ـــــــ
1 زيادات ر: "تعبر بنو حنيفة بالفسو, لأن بلادهم بلاد نخل, فيأكلون ويحدث في أجوافهم الرياح والقراقير".
من بعدما كاد سيف الله يفنيها
يعني خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم في وقعته بسلمة الكذاب. وللنسابين بعد هذا قول منكر.
وقال جرير:
ابني حنيفة نهنهوا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا 1
أبني حنيفة إنني إن أهجكم ... أدع اليمامة لا تواري أرنبا
ـــــــ
1 نهنهوا سفهاءكم: كفوهم وازجروهم.
لعمارة بن عقيل يهجو بني حنيفةوقال عمارة بن عقيل:
بل أيها الراكب الماضي لطيته ... بلغ حنيفة وانشر فيهم الخبرا
أكان مسلمة الكذاب قال لكم ... لن تدركوا المجد حتى تغضبوا مضرا
مهلاً حنيفة إن الحرب إن طرحت ... عليكم بركها أسرعتم الضجرا
البرك: الصدر، إذا فتحت الباء ذكرت، وإن أردت التأنيث كسرت الباء، قلت: بركة، قال الجعدي:
ولوحا ذراعين في بركة ... إلى جؤجؤ رهل المنكب1
وزعم الأصمعي أن زياداً كان يقال له: أشعر بركا لأنه كان أشعر الصدر.
وغير الأصمعي زعم2 أن هذا كان يقال للوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية.
ـــــــ
1 الجؤجؤ: الصدر. أو مجتمع رءوس عظام الصدر, والمنكب: مجتمع العضد والكتف. ورهله: استرخاؤه من السمن.
2 كذا في الأصل. س. وفي ر: "يزعم".
من أخبار الوليد بن عقبة وشعرهوذكروا أن عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي قال يوماً: ألا تعجبون لهذا، أشعر بركاً! يولي مثل هذا المصر! والله ما يحسن أن يقضي في تمرتين. فبلغ ذلك الوليد فقال على المنبر: أنشد الله رجلاً سماني أشعر بركاً إلا قام! فقام عدي بن حاتم فقال: أيها الأمير، إن لذي يقوم فيقول: أنا سميتك أشعر بركاً لجريء، فقال: إجلس يا أبا طريف? فقد برأك الله منها. فجلس وهو يقول: والله ما برأني الله منها.
وكانت أم الوليد بن عقبة أم عثمان بن عفان رحمهما الله، وهي أروى بنت كريز بن حبيب بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. وأمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم، ومن ثم قال الوليد لعلي بن أبي طالب رحمه الله: أنا ألقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمي من حيث تلقاه بأبيك.
وكان يقال للبيضاء بنت عبد المطلب: قبة الديباج. واسمها أم حكيم وذلك قيل لعثمان وللوليد1: يا ابن أروى، ويا ابن أم حكيم.
وقال الوليد لبني هاشم لهذا النسب2 حين قتل عثمان رحمه الله:
بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم ... ولا تنهبوه لا تحل مناهبه
بني هاشم كيف الهوادة بيننا ... وعند علي درعه ونجائبه
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه
وهذا القول باطل. وكان عروة بن الزبير إذا ذكر مقتل عثمان يقول: كان علي أتقى لله من أن يقتل عثمان3 وكان عثمان أتقى لله من أن يقتله علي4.
ـــــــ
1 كذا في الأصل: س. وفي ر: "أو للوليد".
2 كذا في الأصل س. وفي ر: "السبب".
3 ر: "من أن يعين في قتل عثمان".
4 ر: "من أن يعين في قتل".
وقال الوليد بن عقبة:
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر1
ومالي لا أبكي وتبكي أقاربي ... وقد حجبت عنا فصول أبي عمرو!
ـــــــ
1 ر: "التجوني" صوابه في الأصل. س. منسوب إلي تجيب. قبيلة.
لليلى الأخيلية ترثي عثمان بن عفانوقال ليلى الأخيلية، أنشدنيه الرياشي عن الأصمعي:
أبعد عثمان ترجو الخير أمته ... وكان آمن من يمشي على ساق
خليفة الله أعطاهم وخولهم ... ما كان من ذهب جم وأوراق
فلا تكذب بوعد الله وارض به ... ولا توكل على شيء بإشفاق
ولا تقولن لشيء: سوف أفعله ... قد قدر الله ما كل امرئ لاق
لآخر يرثيه أيضاً
وقال آخر:
ألا قل لقوم شاربي كأس علقم ... بقتل إمام بالمدينة محرم
قتلتم أمين الله في غير ردة ... ولا حد إحصان ولا قتل مسلم
تعالوا ففاتونا فإن كن قتله ... لواحدة منها يحل لكم دمي2
وإلا فأعظم الشامتين قد أتيتم ... ومن يأت ما لم يرضه الله بظلم
فلا يهنين الشامتين مصابه ... فحظهم من قتله حرب جرهم3
وأنشدني الرياشي عن الأصمعي:
[قال أبو الحسن: هذا الشعر لابن الغريرة الضبي:]
لعمر أبيك فلا تذهلن ... لقد ذهب الخير إلا قليلا
وقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان سرا طويلا
ـــــــ
1 ر: "التجوني" صوابه في الأصل. س. منسوب إلي تجيب. قبيلة.
2 ففاتونا, فحاكمونا, وفي ر: "فحل", على الفعل الماضي, وما أثبته عن الأصل.
3 نقل المرصفى عن الطبري أن الشعر لحنات بن يزيد المجاشعى عم الفرزدق.
ومثله قول الراعي:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ... ودعا فلم أر مثله مخذولا
فتفرقت من بعد ذاك عصاهم ... شققاً وأصبح سيفهم مسلولا1
قوله: محرماً يريد في الشهر الحرام، وكان قتل في أيام التشريق. رحمه الله.
ـــــــ
1 شققا: جمع شقة: بالكسر, وهي الشطبة.
لأيمن بن خريم يرثيه أيضاً
وقال أيمن بن خريم بن فاتك الأسدي. وكانت له صحبة:
تفاقد الذابحو عثمان ضاحية1 ... أي قتيل حرام ذبحوا ذبحوا
ضحوا بعثمان في الشهر الحرام ولم ... يخشوا على مطمح الكف الذي طمحوا
فأي سنة جور سن أولهم ... وباب جور على سلطانهم فتحوا
ماذا أرادوا أضل الله سعيهم ... من سفح ذاك الدم الزاكي الذي سفحوا
فاستوردتهم سيوف المسلمين على ... تمام ظمء كما يستورد النضح2
إن الذين تولوا قتله سفهاً ... لقوا3 أثاماً وخسراناً فما ربحوا
الظمء: ما بين الشربتين وقوله: ضحوا بعثمان: إنما أصله فعل في الضحى، قال زهير:
ضحوا قليلاً على كثبان أسنمة ... ومنهم بالقسوميات معترك4
أي نزلوه ضحى. ويقال: بيتوا ذاك. أي فعلوه ليلاً. قال الله جل وعز: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} 5. وأنشد أبو عبيدة:
ـــــــ
1 ضاحية: علانية.
2 استوردتم: من استورد الماء, أى ورده, يريد درات سيوفهم دم عثمان على عطشها.
3 رواية الديوان 165:
وعرسوا ساعة في كثب أسمنة.
4 وما أورده المبرد, هي رواية الاصمعي أسمنة: موضع بعينه.. كذلك القسوميات, مواضع, والمعترك المزدحم.
5 النساء: 108.
أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر
لأنكح أيمهم منذراً ... وهل ينكح العبد حر لحر!
وقوله:
من سفح ذاك الدم الزاكي الذي سفحوا
أي من صب ذاك الدم، يقال: سفحت دمه وسفكت دمه. قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 1.
وقوله: على تمام ظمء فهذا مثل، وأصل الظمء: أن تشرب الإبل يوماً ثم تغب يوماً لا ترد الماء، فما بين الشربتين ظمء، فيكون الظمء يومين، فيقال له: الربع، كما يقال في الحمى، لأنهم يعتدون بيومي شربها. والخمس: أن تظمأ ثلاثة أيام، والنضح: الحوض.
والأثام: الهلاك، قال الله عز ذكره: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}، ثم فسر فقال: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} 2. فجزم "يضاعف" لأنه بدل من قوله: "يلق أثاما" إذا كان إياه في المعنى، وأنشدني أبو عبيدة:
جزى الله آبن عروة إذ لحقنا ... عقوقاً والعقوق من الأثام
وقوله: على مَطْمَح الكف يقول: على رفعها وإبعادها، يقال: طمح بصره، إذا ارتفع فأبعد النظر، قال امروء القيس:
لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا
ـــــــ
1 سورة الأنعام: 145.
2 سورة الفرقان 68, 69.
باب في التشبيه
مدخل...
قال أبو العباس: وهذا باب طريف نصل به هذا الباب الجامع الذي ذكرناه وهو بعض ما مر للعرب من التشبه المصيب, وللمحدثين1 بعدهم.
فأحسن ما جاء بإجماع الرواة-: ما مر لامرئ القيس في كلام مختصر, أي بيت واحد، من تشبيه شيء في حالتين مختلفتين2 بشيئين مختلفين، وهو قوله:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي3
فهذا مفهوم المعنى، فإن اعترض معترض فقال: فهلا فصل فقال: كأنه رطباً العناب وكأنه يابساً الحشف! قيل له: العربي الفصيح الفطن اللقن يرمي بالقول مفهوماً، ويرى ما بعد ذلك من التكرير عيا، قال الله جل وعز، وله المثل الأعلى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} 4، علماً بأن المخاطبين يعلمون5 وقت السكون ووقت الاكتساب.
ومن تمثيل امرئ القيس العجيب قوله:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب6
ومن ذلك قوله:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل7
ـــــــ
1 ر: "والمحدثين": وما أثبته في الأصل, س.
2 ساقطة من ر.
3 الحشف البالي: ردئ النمر, قال شارح الديوان 38: "وإنما خص قلوب الطير جاءت بقلوبها إلى أفراخها".
4 سورة القصص.
5 ر: "يعرفون".
6 الجزع: خرز فيه بياض وسواد. شبه عيون الوحش لما فيهن من السواد والبياض بالخرز. وجعله غير مثقب, لأن ذلك أصفى له وأتم لحسنه.
7 تعرضت: أي أرتك عرضها. أي ناحيتها, والوشاح المفصل: الذي جعل بين كل خرزتين فيه لؤلؤة. والأثناء: جمع ثنى.
وقد أكثروا في الثريا1 فلم يأتوا بمن يقارب هذا المعنى. ولا بما يقارب سهولة هذه الألفاظ.
ومن أعجب التشبيه قول النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقوله:
خطاطيف جحن في حبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع2
وقوله:
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
ومن عجيب التشبيه قول ذي الرمة:
وردت اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق 3
وقوله:
فجاءت بنسج العنكبوت كأنه ... على عصويها سابري مشبرق4
وتأويله5 أنه يصف ماء قديماً لا عهد له بالوراد6، فقد اصفر واسود فقال:
وماء قديم العهد بالناس7 آجن ... كأن الدبا ماء الغضا فيه تبصق 8
ـــــــ
1 ر: "وقد أكثر الناس في الثريا".
2 الخطاطيف: جمع خطاف, وهو حديدة معقوفة الراس. ونوازع: جواذب, يقول: ولك خطاطيف أجر بها إليك. فليس عنك مهرب.
3 الاعتساف: السير على غير هدى, وابن الماء: طير من الطيور محلق على مرتفع "من شرح ديوانه 401"
4 العصوان: عرقوبا الدلو, والعرقويان: خشبتان.
5 ر: "وتأويل هذا".
6 ر: "بالواردة".
7 ر: قديم العهد بالإنس", وما أثبته هو رواية الديوان والأصل: س.
8 آجن, متغير الطعم واللون. والدبا. الجراد. والغضا: شجر له هدب إذا أكلته الإبل اشتكت بطونها.
وقد أجاد علقمة بن عبدة الفحل في وصف الماء الآجن. حيث يقول:
إذا وردت ماء كأن جمامه ... من الأجن حناء معاً وصبيب
فقال ذو الرمة في وصف هذا الماء، فقرن بتغيره بعد مطلبه، فقال:
فأدلى غلامي دلوه يبتغي بها ... شفاء الصدى والليل أدهم أبلق
يريد أن الفجر قد نجم فيه. فجاءت - يعني الدلو - بنسج العنكبوت، كأنه على عصويها سابري مشبرق. والسابري: الرقيق من الثياب والدروع1 والمشبرق: الممزق. وأنشد أبو زيد:
لهونا بسربال الشباب ملاوة2 ... فأصبح سربال الشباب شبارقا
ومن التشبيه العجيب قول ذي الرمة في صفة الظليم:
شخت الجزارة مثل البيت سائره ... من المسوح خدب شوقب خشب
الشخت: الضئيل اليابس الضعيف. والجزارة القوام. وقوله: مثل البيت سائره من المسح: يعني إذا مد جناحيه. وإنما أخذه من قول علقمة بن عبدة:
صعل كأن جناحيه وجؤجؤه ... بيت أطافت به خرقاء مهجوم
الصعل: الصغير الرأس. الخرقاء: التي لا تحسن شيئاً، فهي تفسد ما عرضت له. قال الحطيئة:
هم صنعوا لجارهم وليست ... يد الخرقاء مثل يد الصناع
والمهجوم: المهدوم. وفي الخبر أنه لما قتل بسطام بن قيس لم يبق بيت في بكر بن وائل إلا هجم، أي هدم. والخدب: الضخم. والشوقب الطويل. والخشب: الذي ليس بلين على من نزل به.
ومن التشبيه المصيب قوله في صفة روضة:
ـــــــ
1 قال صاحب اللسان: "الدروع السابرية منسوبة إلى سابور". واستشهد ببيت ذي الرمة.
2 الملاوة: الحين من الدهر.
قرحاء حواء أشراطية وكفت ... فيها الذهاب وحفتها البراعيم
قرحاء. يريد الأنوار. وقوله: حواء يقول: تضرب إلى السواد لشدة ريها وخضرتها، وكذلك قال المفسرون1 في قوله الله جل وعز: {مُدْهَامَّتَانِ} 2. تضربان إلى الدهمة، لشدة خضرتهما وريهما.
وقوله: أشراطية ليس مما قصدنا له. ولكنه مما يجري فنفسره، ومعناه أنها مطرت بنوء الشرطين3.
وحدثني الزيادي: قال: سمعت الأصمعي - وسئل بحضرتي، أو سألته عن قوله: أشراطية - فقال: باستة واست عرسه! وذاك أن الأصمعي كان لا ينشد ولا يفسر ما كان فيه ذكر الأنواء، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا ذكرت النجوم فأمسكوا". لأن الخبر في هذا بعينه. "مطرنا بنوء كذا وكذا"، وكان لا يفسر ولا ينشد شعراً فيه هجاء، وكان لا يفسر شعراً يوافق تفسيره شيئاً من القرآن، هكذا يقول أصحابه، وسئل عن قول الشماخ:
طوى ظمأها في بيضة القيظ4 بعدما ... جرى في عنان الشعر بين الأماعز5
فأبى أن يفسر في عنان الشعربين.
وقوله6: الذهاب7 فهي الأمطار اللينة الدائمة، ويقال: إنها أنجع المطر في النبت، وكذلك العهاد، وأنشد الأصمعي:
أمير عم بالنعماء حتى ... كأن الأرض جللها العهاد8
والبراعين، واحدها9 برعومة، وهي أكمة الروض قبل أن تتفتق، يقال
ـــــــ
1 ر: "وكذا المفسرون يقولون".
2 سورة الرحمن 64.
3 الشرطان: مثنى شرط بالتحريك وهي من الحمل قرناه.
4 ر: "بيضة الصيف".
5 طوى ظمأها: فقطع بها مقدار ظمأها في السير. والظمء: ما بين الشربتين, يريد أنه سار بها فلم يوردها الماء, وبيضة اليقظ: شدته. وقوله: "جرى فى عنلن الشعريين الاماعز" جعل للشعريين الصور والغميصاء- وهما كوكبان يطلعان في القيظ- عناناه طرفاه محيطان براس الأماعز, وهى الأمكنة الغليظة "من رغبة الآمل".
6 ر: "وأما قوله".
7 الذهاب: جمع ذهبة.
8 جمع عهدة.
9 ر: "واحدتها".
لواحدها: كم1، وكمام، فمن قال: كمام، فمن قال: كمام، فجمعه أكمة، مثل صمام وأصمة، وزمام وأزمة، ومن قال: كم، فالجماع أكمام، قال الله عز وجل {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} 2.
ومن ذلك قول الآخر، أحسبه توبة بن الحمير.
[قال أبو الحسن: يقال إنه لمجنون بني عامر، وهو الصواب]:
كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح3
قطاة غرها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
[لها فرخان قد غلقا بكر ... فعشهما تصفقه الرياح]4
فلا بالليل نالت ما ترجي ... ولا بالصبح كان لها براح5
وقد قال الشعراء قبله فلم يبلغوا هذا المقدار.
وقال الشيباني6 للحجاج:
هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر
فهذا يجوز أن يكون في الخفقان وفي الذهاب البتة.
ومن التشبيه المحمود قول الشاعر:
طليق الله لم يمنن عليه ... أبو داود وابن أبي كثير
ولا الحجاج عيني بنت ماء7 ... تقلب طرفها حذر الصقور
وهذا غاية في صفة الجبان.
ـــــــ
1 الكم: وعاء الطلع وغطاء النور.
2 سورة الرحمن 11.
3 ر: "تعالحه", وفى نهاية الأبيات. و"يروى: "تجاذبه", فهذا غاية الاضطراب".
4 غلقا: من الغلق. وهو الحبس.
5 البيتان الواقعان بين العلامتين من زيادات ر.
6 هو عمران بن حطان
7 بنت الماء: ما يصاد من طير الماء إذا نظرت إلى صقر قلبت عينها حذرا منه.
ونصب عيني بنت ماء على الذم، وتأويله: إنه إذا قال: جاءني عبد الله الفاسق الخبيث فليس يقوله1 إلا وقد عرفه بالفسق والخبث2 فنصبه أعني وما أشبهه من الأفعال، نحو أذكر، وهذا أبلغ في الذم، أن يقيم الصفة مقام الإسم، وكذلك المدح. وقول الله تبارك وتعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} بعد قوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} 3. إنما هو على هذا. ومن زعم أنه أراد: "ومن المقيمين الصلاة" فمخطئ في قول البصريين، لأنهم لا يعطفون الظاهر على المضمر المخفوض، ومن أجازه من غيرهم فعلى قبح، كالضرورة. والقرآن إنما يحمل على أشرف المذاهب. وقرأ حمزة: {الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 4، وهذا مما لا يجوز عندنا إلا أن يضطر إليه شاعر، كما قال:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب
وقرأ عيسى بن عمر: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} 5. أراد: وامرأته في جيدها حبل من مسد، فنصب حمالة على الذم. ومن قال إن امرأته مرتفعة بقوله: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ}: فهو يجوز. وليس بالوجه أن يعطف المظهر المرفوع على المضمر حتى يؤكد، نحو: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} 6 [المائدة: 24] و: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} 7، فأما قوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} 8.فإنه لما طال الكلام وزيدت9 فيه لا احتمل الحذف وهذا على قبحه جائز في الكلام10، أعني: ذهبت وزيد، وأذهب وعمرو، قال جرير:
ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه ... ما لم يكن وأب له لينالا
وقال ابن أبي ربيعة:
قلت إذ أقبلت وزهر تهادى ... كنعاج الملا تعسفن رملا11
ـــــــ
1 ر: "يقول".
2 ر: "بالخبث والفسق".
3 سورة النساء 162.
4 سورة النساء 1
5 سورة المسد 4.
6 سورة المائدة 21.
7 سورة البقرة 35.
8 سورة الأنعام 148.
9 ر: "وزادت", وما أثبته عن الأصل, س.
10 لفظ "في الكلام" ساقط من ر.
11 الملا: الفلاة.
ومما ينصب على الذم قول النابغة الذبياني1:
لعمري وما عمري علي بهين ... لقد نطقت بطلا علي الأقارع2
أقارع عوف لا أحاول غيرها ... وجوه قرود تبتغي من تجادع3
وقال عروة بن الورد العبسي:
سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذب وزور
والعرب تنشد قول حاتم الطائي رفعاً ونصباً:
إن كنت كارهة معيشتنا ... هاتا فحلي في بني بدر
الضربين، لدى أعنتهم ... والطاعنين وخيلهم تجري
وإنما خفضوهما على النعت، وربما رفعوهما على القطع والابتداء.
وكذلك قول الخرنق بنت هفان القيسي، من بني قيس بن ثعلب:
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزر
وكل ما كان من هذا فعلى هذا الوجه4.
وإن لم يرد مدحاً ولا ذماً قد استقر له فوجهه النعت. وقرأ بعض القراء: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 5.
وأكثر ما تنشد العرب بيت ذي الرمة نصباً، لأنه لما ذكر ما يحن إليه ويصبو إلى قربه أشاد بذكر ما قد كان يبغي، فقال:
ديار مية إذ مي تساعفنا ... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب
وفي هذه القصيدة من التشبيه المصيب قوله:
ـــــــ
1 ساقط من ر.
2 البطل: ضد الحق. والأقارع: هم بنو قريع بن عوف بن كعب.
3 تجادع: تشاتم, وفى ر: "تخادع".
4 كذا فى الأصل. س, وفى ر: "فعلى هذا أكثر إنشاده".
5 سورة المؤمنون 14.
بيضاء في دعج، صفراء في نعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب1
وفيها من التشبيه المصيب قوله2:
تشكو الخشاش ومجرى النسعتين كما ... أن المريض إلى عاده الوصب3
والخشاش4: ما كان في عظم الأنف، وما كان في المارن فهو برة، يقال: أبريت الناقة، فهي مبراة، قال الشماخ - وهذا من التشبيه العجيب:
فقربت مبراة تخال ضلوعها ... من الماسخيات القسي المؤطرا 5
وماسخة، من نصر6 بن الأزد، وإليهم تنسب7 القسي الماسخية. وأحسن ما قيل في صفة الضلوع واشتباكها قول الراعي:
وكأنما انتطحت على أثباجها ... فدر بشابة قد يممن وعولا8
الفادر: المسن من الوعل.
وذو الرمة أخذ ذلك من المثقب العبدي، قال المثقب9:
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين
ومن التشبيه المستحسن قول علقمة بن عبدة:
كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدم بسبا الكتان ملثوم10
فهذا حسن جداً.
وقال أبو الهندي، وهو عبد المؤمن بن عبد القدوس بن شبث بن ربعي الرياحي، من بني رياح بن يربوع. وكان شبث سيد بني يربوع بالكوفة:
مفدمة قزا كأن رقابها ... رقاب بنات الماء أفزعها الرعد
ـــــــ
1 الدعج: سواد العين. والنعج: البياض الخالص. ورواية الديوان 5: "كحلاء فى برج", والبرج: سعة فى بياض العين.
2 ساقطة من ر.
3 النسعة والنسع: سير مضفور يجعل زماما للبعير وغيره, وأن من الأنين.
4 ر: "الخشاش" بحذف الواو.
5 أصل الإطر: عطف الشئ تقبض على أحد طرفيه فتعوجه. وفى ر: "الموترا", والموتر: المشدود.
6 ر: "نصر من الأزد".
7 ر: "نسبت".
8 الأثباج: جمع ثبج, وهو معظم الظهلر. وفيه محانى الضلوع. وشابة: جبل بعينه. يممن: قصدن, وخفف في البيت للشعر.
9 ر: "أخذ ذلك المعنى من قول المثقب العبدي".
10 الشرف: ما ارتفع من الأرض وأشرف على ما حوله. مفدم: مغطى بالفدام, وهو من وصف الإبريق.وسب الكتان, يريدسبائب الكتان, والسبائب: جمع سبيبة, وهي شقة بيضاء. ملثوم, من اللثام, وهو ما يوضع على الفم, واستعاره للإبريق.
من أخبار أبي الهنديوكان أبو الهندي قد غلب عليه الشراب، على كرم منصبه، وشرف أسرته حتى كاد يبطله.
وكان عجيب الجواب، فجلس إليه رجل مرة يعرف ببرزين المناقير، وكان أبوه صلب في خرابة، والخرابة عندهم: سوق الإبل خاصة. فأقبل يعرض لأبي الهندي بالشراب، فلما أكثر عليه قال أبو الهندي: أحدهم يرى الذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في أست أبيه.
وفي الخرابة يقول الراجز:
والخارب اللص يحب الخاربا ... وتلك قربى مثل أن تناسبا
أن تشبه الضارئب الضرائبا1
وقال الآخر:
إيت الطريق واجتنب أرماما ... إن بها أكتل أو رزاما2
خويربين ينقفان الهاما3
[زاد أبو الحسن: * لم يتركا لمسلم طعاما ]
نصب "خُوَيْرِبَيْن" على أعني لا يكون غير ذلك، لأنه إنما أثبت أحدهما بقوله: أو.
ـــــــ
1 الضرائب: جمع ضريبة, وهى السجية والطبيعة.
2 أرمام جبل بعينه, وأكتل ورزام: لصان من لصوص البادية.
3 نقف الهامة: شجها حتى يخرج الدماغ.
ومر نصر بن سيار الليثي بأبي الهندي وهو يميل سكراً، فقال له: أفسدت شرفك! فقال أبو الهندي: لو لم أفسد شرفي لم تكن أنت والي خراسان.
وحج به نصر بن سيار مرة، فلما ورد الحرم قال له نصر: إنك بفناء بيت الله ومحل حرمه1، فدع لي الشراب حتى ينفر الناس، واحتكم علي، ففعل. فلما كان يوم النفر أخذ الشراب فوضعه بين يديه، وأقبل يشرب ويبكي، ويقول:
رضيع مدام فارق الراح روحه ... فظل عليها مستهل المدامع
أديرا علي الكأس إني فقدتها ... كما فقد المفطوم در المراضع
وكان يشرب مع قيس بن أبي الوليد الكناني، وكان أبو الوليد ناسكاً فاستعدى عليه وعلى ابنه، فهربا منه، فهربا منه، وقال أبو الهندي:
قل للسري أبي قيس: أتوعدنا ... ودارنا أصبحت من داركم صددا2
أبا الوليد أما والله لو عملت ... فيك الشمول لما حرمتها أبدا
ولا نسيت حمياها ولذتها ... ولا عدلت بها مالاً ولا ولدا
ثم نرجع إلى التشبيه، وربما عرض الشيء المقصود غيره، فيذكر للفائدة تقع فيه، ثم يعاد إلى أصل الباب.
قال أبو العباس: وقال عروة بن حزام العذري:
كأن قطاة علقت بجناحها ... على كبدي من شدة الخفقان
ويقال: إن المرأة إذا كانت مبغضة لزوجها، فآية ذلك أن تكون عند قربه منها مرتدة النظر عنه كأنما تنظر إلى إنسان وراء3، وإذا كانت محبة له لا تقلع عن النظر إليه، وإذا نهض نظرت من ورائه إلى شخصه حتى يزول عنها، فقال رجل: أردت أن أعلم كيف حالي عند امرأتي، فالتفت وقد نهضت من بين يديها فإذا هي تكلح4 في قفاي.
ـــــــ
1 ر: "ومحمل "وفوده"".
2 داركم صددا, منصوب على الظرفية, أي القريبة.
3 ر: "من ورائه", وما أثبته عن الأصل.
4 التكليح: التكشير في عبوس.
وقال الفرزدق في هذا المعنى، والنوار تخاصمه عند عبد الله بن الزبير بن العوام:
فدونكها يا ابن الزبير فإنها ... مولعة يوهي الحجارة قيلها
إذا جلست عند الإمام كأنما1 ... ترى رفقة من خلفها تستحيلها
قوله: مولعة. يقول: كأنها2 مولعة بالنظر مرة ههنا ومرة ههنا. وقوله: ترى رفقة يقال: رفقة ورفقة. ومعنى تستحيلها: تتبين حالاتها.
قال حميد بن ثور:
إذا خرجت تستحيل الشخوص3 ... من الخوف تسمع ما لا ترى4
ومن عجيب التشبيه قول جرير فيما يكنى ذكره:
ترى الصبيان عاكفة عليها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا5
ويقال: إن الفرزدق حين أنشد النصف الأول ضرب بيده إلى عنفقته توقعا لعجز البيت.
ومن التشبيه الحسن قول جرير في صفة6 الخيل:
يشتفن للنظر البعيد كأنما ... إرنانها ببوائن الأشطان
قوله: يشتفن ويتشوفن في معنى واحد. وقوله: كأنما إرنانها ببوائن الأشطان، أراد شدة صهيلها. يقول: كأنما يصهلن في آبار واسعة تبين أشطانها عن نواحيها.
ونظر ذلك قول النابغة الجعدي:
ويصهل في مثل جوف الطوي ... صهيلاً يبين للمعرب
ـــــــ
1 ر: "كأنها", وما أثبته عن الأصل: س.
2 ساقطة من ر.
3 كذ1ا في الأصل س, وفى ر: "مروعة تستحيل الشخوص" وهي رواية الديوان 47.
4 وفى زبادات طبعة المرصفى: قوله: مروعة" يقول: كل شئ يدنينى من الظفر بها يروعها وبنفها.
5 العنفقة: ما بين الذقن وطرف الشفة السفلى من الشعر.
6 قال المرصفى: "هذا خطأ, صوابه قول الفرزدق يهجو جريرا ويمدح بنى تغلب, وهو فى ديوانه 882.
المعرب: العالم بالخيل العراب.
ومن حشن التشبيه قول عنترة:
غادرن نضلة في معرك ... يجر الأسنة كالمحتطب1
يقول: طعن وغودرت الرماح فيه، فظل يجرها، كأنه حامل حطب.
ومن التشبيه المتجاوز المفرط، قول الخنساء:
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
فجعلت المهتدي يأتم به، وجعلته كنار في رأس علم، والعلم: الجبل، قال جرير:
إذا قطعن علماً بدا علم
وقال الله جل ثناؤه: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} 2.
ومن هذا الضرب من التشبيه قول العجاج:
تقضي البازي إذا البازي كسر
والتقضي: الإنقاض، وإنما أراد سرعتها، والعرب تبدل كثيراً الياء من أحد التضعيفين، فيقولون: تظنيت والأصل: تظننت، لأنه تفعلت من الظن، وكذلك: تقضيت؛ من الإنقضاض، أي تقضضت، وكذلك تسريت، ومثل هذا كثير.
ـــــــ
1 الضمير فى "غادرن" يعود إلى الخيل ولم يجر لها ذكر. ونضلة بن الأشتر قتله ورد بن حابس العبسي, قال المرصفى.
2 سورة الرحمن 24.
ومن تشبيه المحدثين
ومن تشبيه المحدثين المستطرف قول بشار:
كأن فؤاده كرة تنزى ... حذار البين إن نفع الحذار
[يروعه السرار بكل أمر ... مخافة أن يكون به السرار]1
وفي هذه القصيدة:
جفت عيني عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار
أقول وليلتي تزداد طولاً! ... أما لليل بعدهم نهار
وقال الحسن بن هانئ في صفة الخمر:
فإذا ما لمستها فهباء ... تمنع اللمس ما يبيح العيونا
درس الدهر ما تحسم منها ... وتبقى لبابها المكنونا
فهي بكر كأنها كل شيء ... يتمنى مخير أن يكونا
في كؤوس كأنهن نجوم ... جاريات، بروجها أيدينا
طالعات مع السقاة علينا ... فإذا ما غربن يغربن فينا
فهذه قطعة من التشبيه غاية، على سخف كلام المحدثين.
وقال الحنفي: وهو إسحاق بن خلف في صفة السيف:
ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح2
وكأنما در الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح
وقال مسلم بن الوليد الأنصاري في مدحه يزيد بن مزيد:
يمضى المنايا كما تمضي أسنته ... كأن في سرجه بدرا وضرغاما3
ـــــــ
1 مابين العلامتين من زيادات ر: والسرار: آخر ليلة من الشهر. وهى التى يستتر فيها القمر ويختفي.
2 ر: "فكأنما" وما أثبته عن الأصل.
3 ر: "تمضى", وما أثبته عن الأصل.
وقال دعبل بن علي في صفة المصلوب1:
لم أر صفاً مثل صف الزط ... تسعين منهم صلبوا في خط2
من كل عال جذعه بالشط ... كأن في جذعه المشتط3
أخو نعاس جد في التمطي ... قد خامر النوم ولم يغط4
وقال يزيد المهلبي في مثله5:
قام ولما يستعن بساقه ... آلف مثواه على فراقه
كأنما يضحك في أشداقه
أراد بياض الشريط في فيه.
وقال أعرابي في صفة مصلوب، وهو الأخطل:
[قال أبو الحسن: الأخطل الذي يعني رجل محدث من أهل البصرة، ويعرف بالأخيطل، ويلقب ببرقوقا، وذكر أبو الحسن أن أبا العباس كان يدلس به].
كأنه عاشق قد مد سفحته ... يوم الفراق إلى توديعه مرتحل
أو قائم من نعاس فيه لوثته ... مواصل لتميه من الكسل6
[وقال مسلم بن الوليد:
وضعت حيث ترتاب الرياح به ... وتحسد الطير فيه أضبع البلد]7
وقال حبيب بن أوس [قال أبو الحسن: يعني به إسحاق بن إبراهيم الطاهري]:
ـــــــ
1 ر: "مصلوب".
2 الزط: جيل أسود من السند أو الهند.
3 كذا في الأصل, ويريد بالمشتط الطويل, وفي ر: "المشتط".
4 الغطيط: صوت نفس النائم.
5 في زيادات ر: "وقال آخر في صفة مصلوب, وهو يزيد المهلبي", وما أثبته من الأصل.
6 اللوثة: الاسترخاء والبطء.
7 ما بين العلامتين من زيادات.
قد قلصت شفتاه من حفيظته ... فخيل من شدة التقليص مبتسما1
وقال أيضاً في رجل ينسبه إلى الدعوة2:
وتنقل من معشر في معشر ... فكأن أمك أو أباك الزئبق
يقال: زئبق، وزئبر، مهموزان، ودرهم مزأبق، وثوب مزأبر3.
ومن إفراط التشبيه قول أبي خراش الهذالي يصف سرعة أبيه في العدو:
كأنهم يسعون في إثر طائر ... خفيف المشاش عظمه غير ذي نحض
يبادر جنح الليل فهو مهابد ... يحث الجناح بالتبسط والقبض
وقال أوس بن حجر [قال أبو الحسن: أهل الكوفة يرونها لعبيد بن الأبرص]:
كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت ... من ماء أدكن في الحانوت نضاح
أو من معتقة ورهاء نشوتها ... أو من أنابيب رمان وتفاح4
وقال ابن عبدل يهجو رجلاً بالبخر:
نكهت علي نكهة أخدري ... شتيم شابك الأنياب ورد5
وفي هذا الشعر:
فما يدنو إلى فيه ذباب ... ولو طليت مشافره بقند6
يرين حلاوة ويخفن موتاً ... وشيكاً إن هممن له بورد
ـــــــ
1 التقليص: التقبض. وفي ر: "من شدة التعبس".
2 في زيادات ر: "وهو إسحاق بن إبراهيم الطاهري" ودفعها المرصفي, وقال: هو عتبة بن أبي عاصم, وكان قد ضمها مجلس لم يتكلم فيه حتى انصرف أبو تمتم, فأخذ يتشدق بهجائه, فبلغ أبا تمام, فقال كلمة منها هذا البيت.
3 الزئير: ما يعلو الثوب الجديد مثل ما يعلو الخز.
4 الاغتباق: شرب العشى. والأدكن: ما تعلوه الدكنة, وهي لون بين الحمرة والسواد أراد به الزق. والورهاء: الريح التي في هبوبها خرق وعجرفة. والنشوة: الرائحة الطيبة.
5 النكهة: ريح الفم. والأخدري من وصف الحمار الوحشى.
6 القند: عسل قصب السكر.
الذباب: الواحد من الذبان، وأدنى العدد فيه أذبة، والكثير الذبان؛ ولكنه ذكر واحداً ثم خبر عن سائر الجنس، والأسد أنتن السباع فماً، كما أن الصقر أنتن الطير فماً.
قال بعض المحدثين في رجل يهجوه، والمهجو داود بن بكر، وكان ولي الأهواز وفارس، والشعر لأبي الشمقمق:
وله لحية تيس ... وله منقار نسر
وله نكهة ليث ... خالطت نحهة صقر
وقال عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن بن عائشة:
من يكن إبطه كآباط ... ذا الخلق فإبطاي في عداد الفقاح1
لي إبطان يرميان جليسي ... بشبيه السلاح2 أو بالسلاح
فكأني من نتن هذا وهذا ... جالس بين مصعب وصباح
يعني مصعب بن عبد الله الزبيري، وصباح بن خاقان المنقري - وكانا جليسين - لا يكادان يفترقان، وصديقين متواصلين، لا يكادان يتصارمان.
فحدثت أن أحمد بن هشام لقيهما يوماً، فقال: أما سمعتما ما قال فيكما هذا? يعني إسحاق بن الموصلي، فقالا: ما قال فينا إلا خيراً، قال: قال:
لام فيها مصعب وصباح ... فعصينا مصعباً وصباحا
وأبينا غير سعي إليها ... فاسترحنا منهما واستراحا
قال: ما قال إلا خيراً، ولكن3 المكروة ما قال فيك، إذ يقول:
وصافية تعشي العيون رقيقة ... رهينة عام في الدنان وعام
أدرنا بها الكأس الروية موهناً ... من الليل حتى انجاب كل ظلام4
فما ذر قرن الشمس حتى كأننا ... من العي نحكي أحمد بن هشام
ـــــــ
1 الفقاح: جمع فقحة. وهي حلقة الدبر.
2 السلاح: العذرة.
3 ساقطة من ر.
4 الموهن نحو نصف الليل.
واعمل أن للتشبيه حداً؛ لأن الأشياء1 تشابه من وجوه، وتباين من وجوه؛ فإنما ينظر إلى التشبيه من أين وقع2، فإذا شبه الوجه بالشمس والقمر فإنما يراد به الضياء والرونق، ولا يراد به3 العظم والإحراق. قال الله جل وعز: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} 4، والعرب تشبه النساء ببيض النعام، تريد نقاءه ورقة لونه5، قال الراعي:
كأن بيض نعام في ملاحفها ... إذا اجتلاهن قيظ ليله ومد6
وقيل للأوسية - وهي امرأة حكيمة في7 العرب - بحضرة عمر بن الخطاب رحمه الله: أي منظر أحسن? فقالت: قصور بيض، في حدائق خضر، فأنشد عمر بن الخطاب لعدي بن زيد:
كدمى العاج في المحاريب ... أو كالبيض في الروض زهره مستنير
وقال آخر:
كالبيض في الأدحي يلمع بالضحى8 ... فالحسن حسن والنعيم نعيم
وقال جرير:
ما استوصف الناس من شيء يروقهم9 ... إلا رأوا أم نوح فوق ما وصفوا
كأنها مزنة غراء رائحة ... أو درة ما يواري ضوءها الصدف10
المزنة: السحابة البيضاء خاصة، وجمعها مزن، قال الله جل وعز: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} 11, فالمرأة تشبه بالسحابة لتهاديها وسهولة مرها، قال الأعشى:
ـــــــ
1 ر: "فالأشياء", وما أثبته عن الأصل.
2 ر: "من حيث وقع".
3 ساقطه من ر.
4 سورة الصافات 49.
5 ر: "ونعمة لونه".
6 الملاحف: الأغطية, والومد: ندى يجئ في صميم الحر, من قبل البحر مع سكون الريح.
7 كذا في الأصل, وفي ر, س: "من العرب".
8 الأدحى: مبيض النعام تدحوه برجلها, ثم تبيض فيه.
9 ر: "عن شئ بروقهم", وما أثبته عن الاصل, س.
10 ر: "لا يوارى لونها".
11 سورة الواقعة 69.
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل
الريث: الإبطاء، فهذا ما تلحقه العين منها، فأما الخفة فهي كأسرع مار، وإن خفي ذلك على البصر، قال الله جل وعز: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} 1.
والعرب تشبه المرأة بالشمس، والقمر، والغصن، والكثيب2، والغزال، والبقرة الوحشية، والسحابة البيضاء، والدرة، والبيضة؛ وإنما تقصد من كل شيء إلى شيء.
قال ذو الرمة:
ومية أحسن الثقلين جيداً3 ... وسالفة وأحسنهم قذالا4
فلم أر مثلها نظراً وعيناً ... ولا أم الغزال ولا الغزالا
تريك بياض غرتها ووجهاً ... كقرن الشمس أفتق ثم زالا5
أصاب خصاصة فبدا كليلاً ... كلا وانغل سائره انغلالا6
الجيد: العنق، والسالفة: ناحية العنق، والقذالان: ناحيتا القفا من الرأس.
وقوله: أفتق ثم زالا، يقال: أفتق السحاب، إذا انكشف انكشافة فكانت منه7 فرجة يسيرة بين السحابتين. تقول العرب: دام علينا الغيم ثم أفتقنا، وإذا نظر إلى الشمس والقمر من فتق السحاب فهو أحسن ما يكون وأشده استنارة.
وقوله: كلا يريد في سرعة ما بدا ثم غاب.
ـــــــ
1 سورة النمل 88.
2 كلمة "الكثيب", ساقطة من ر, وهي في الأصل, س.
3 الديوان: "خدا".
4 الديوان: "أحسنه".
5 الديوان: "تريك بياض لبتها".
6 أصاب قرن الشمس خصاصة, أي تقف السحاب فبدا منها كليلا, أي ضعيفا, ليس مبين الضوء, وانغل: دخل, والانغلال: الدخول, يقول: دخل في الحساب. "من شرح الديوان".
7 ر. "صفه" وما أثبته عن الأصل, س.
وقال الله عز وجل: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} 1، وقال تبارك وتعالى: {كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} 2.
والمكنون: المصون، يقال: كننت الشي، إذا صنته. وأكننته، إذا أخفيته، فهذا المعروف، قال الله تبارك وتعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 3 [البقرة: 235] وقد يقال: كننته، أخفيته.
وقد قال جرير في يزيد بن عبد الملك، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن سفيان:
الحزم والجود والإيمان قد نزلوا ... على يزيد أمين الله فاحتلفوا4
ضخم الدسيعة والإيمان، غرته ... كالبدر ليلة كاد الشهر ينتصف5
وقال ذو الرمة:
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أم سالم6
وقال ابن أبي ربيعة:
أبصرتها ليلة ونسوتها ... يمشين بين المقام والحجر
يرفلن في الريط والمروط كما ... تمشي الهوينى سواكن البقر7
فهذه تشبيهات غريبات مفهومة.
وقال أبو عبد الرحمن العطوي8:
قد رأينا الغزال والغصن النجمين ... شمس الضحى وبدر الظلام
فوحق البيان يعضده البر ... هان ماقط ألد الخصام
ـــــــ
1 سورة الرحمن 58.
2 سورة الواقعة 23.
3 سورة البقرة 235.
4 احتلفوا, بالحاء المهملة, من الحلف, أي تحالفوا, وفي س: "اختلفوا" تصحيف.
5 الدسعبة: العطية. سميت دسيعة لدفع المعطى إياها مرة واحدة كما يدفع البعير جربه دفعة واحدة.
6 الوعساء: الأرض اللينة, وجلاجل: جبل بعينه.
7 الريط: جمع ريطة, وهي الملاءة غير ذات لعفين كلها نسيج واحد. والمروط: جمع مرط, وهو كساء من صوف أو كتان.
8 س: وقال أحد الشعراء المكلمين المحدثين.
ما رأينا سوى الحبيبة شيئاً1 ... جمع الحسن كله في نظام
فهي تجري مجرى الأصالة في الرأ ... ي ومجرى الأرواح في الأجسام
البرهان: الحجة، قال الله عز وجل: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 أي حججكم. والماقط: موضع الحرب، فضربه مثلاً لموضع المناظرة والمحاجة. والألد: الشديد الخصومة، قال الله تبارك وتعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} 3، وقال: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} 4.
وقالت ليلى الأخيلية5:
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... بنجد ولم يطلع مع المتغور
ولم يقدع الخصم الألد ويملأ ال ... جفان سديفاً يوم نكباء صرصر6
السديف: شقق السنام.
ـــــــ
1 ر: "سوى المليحة".
2 سورة البقرة 111.
3 سورة مريم 97.
4 سورة البقرة 204.
5 من كلمة ترثى بها توبة بن الحمير.
6 لم يقدع: لم يكف.
الرياح ومواقعهاوالنكباء: الريح بين الريحين، لأن الرياح أربع، وما بين كل ريحين نكباء، فهي ثمان في المعنى.
فما بين مطلع سهيل إلى مطلع الفجر جنوب، وإنما تأتي الجنوب من قبل اليمن، قال جرير:
وحبذا نفحات من يمانية ... تأتيك من جبل الريان أحيانا1
وإذا هبت من تلقاء الفجر فهي الصبا تقابل القبلة، فالعرب تسميها القبول، قال الشاعر2:
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني ... نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر
ـــــــ
1 الريان: جبل من بلاد طيئ, وفى ر: "من قبل الريان".
2 هو أبو صخر الهذلي.
وإذا أتت من قبل الشأم فهي شمال، قال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشأم تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
وهي تقابل الجنوب، وكذلك قال امرؤ القيس:
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل
وإذا جاءت من دبر البيت الحرام فهي الدبور، وهي تهب بشدة، والعرب تسميها محوة، عن أبي زيد، لأنها تمحو السحاب. ومحوة معرفة لا تنصرف، فأما الأصمعي فزعم أن محوة من أسماء الشمال. وأنشدا جميعاً:
قد بكرت محوة بالعجاج ... فدمرت بقية الرجاج
الرجاج: حاشية الإبل وضعافها. وقال الأعشى:
لها زجل كحفيف الحصا ... د صادف بالليل ريحاً دبورا
ولهذه الرياح أسماء كثيرة، وأحكام في العربية، لأن بعضهم يجعلها نعوتاً، وبعضهم يجعلها أسماء، وكذلك مصادرها تحتاج إلى الشرح والتفسير، ونحن ذاكرون ذلك في عقب هذا الباب، إن شاء الله.
يقال: جنبت الريح جنوباً، وشملت شمولاً، ودبرت دبوراً، وصبت صبواً، وسمت سموماً، وحرت حروراً، مضمومات الأوائل.
فإذا أردت الأسماء فتحت أوائلها، فقلت: جنوب، وشمول، وسموم، ودبور، وحرور.
ولم يأت من المصادر شيء مفتوح الأول، إلا أشياء يسيرة، قالوا: توضأت وضوءاً حسناً، وتطهرت طهوراً، وأولعت بالشيء ولوعاً، وإن عليه لقبولا، ووقدت النار وقوداً، وأكثرهم يجعل الوقود الحطب، والوقود المصدر.
ويقال: الشمال، على لغات ست، يقال: شمال، وشمأل، وشمال، وشمل وشمل، وشامل، غير مهموز.
ويقال للشمال: الجربياء، قال ابن أحمر:
بجو من قساً ذفر الخزامى ... تداعى الجربياء به بالحنينا1
ويقال للجنوب: الأزيب.
ويقال للصبا: القبول، وبعضهم يجعله للجنوب، وهو في الصبا أشهر، بل هو القول الصحيح. والإير، والهير، والأير، والهير، قال الشاعر:
مطاعيم أيسار إلى الهير هبت
فهذا يدل على أنه الصبا، وذاك أنهم إنما يتمدحون بالإطعام في المشتاة2. وشدة الزمان، كما قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتفر
الجفلى: العامة، والنقرى: الخاصة، والآدب: صاحبة المأدبة. يقال: مأدبة ومأدبة للدعوة. وفي الحديث: "إن القرآن مأدبة الله".
قال أهل العلم: معناه مدعاة الله، وليس من الأدب. وأكثر المفسرين قالوا القول الأول، وكلاهما في العربية جائز ويدل على القول الأول قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنا الجفنة الغراء"، أي التي يجتمع الناس عليها ويدعون إليه، ويقال في الدعوة: أدبه يأدبه أدباً، إذا دعاه، قال الشاعر:
وما أصبح الضحاك إلا كخالع ... عصانا فأرسلنا المنية تأدبه
وقولنا في الرياح: إنها تكو أسماء ونعوتاً نفسره إن شاء الله.
يقول أكثر العرب: هذه ريح جنوب، وريح شمال، وريح دبور، فتجعل جنوباً، وشمالاً، ودبوراً، وسائر الرياح نعوتاً. قال الأعشى:
لها زجل كحفيف الحصا ... د صادف بالليل ريحاً دبورا
ـــــــ
1 قسا: موضع بالعالية, وذفر, من ذفر الطيب, وهو اشتداد رائحته, والخزامي: نوع من العشب, طويل العيدان, صغير الورق.
2 ر: "المشتى".
وقال زهير:
مكلل بأصول النبت تنسجه ... ريح شمال لضاحي مائه حبك1
وقال جرير:
ريح خريق شمال أو يمانية
فهذا يكون على النعت أجود، لأنه أوضحه بيمانية، ولا تكون اليمانية إلا نعتاً، لأنها منسوبة؛ فأما الخريق فهي الشديدة من كل ريح، قال حميد بن ثور:
بمثوى حرام والمطي كأنه ... قناً مسند هبت لهن خريق
والبليل: الباردة من كل ريح2. وأصل ذلك الشمال.
ـــــــ
1 مكلل: محاط, وضاحى مائه: ظاهره, وحبك: جمع حبيكة, وهي الطريقة, يصف ما أحاط به النبت, وقد ضربته الريح فأظهرت فيه تكسرا.
2 ر: "الرياح".
لجرير في بني مجاشعقل جرير يعير بني مجاشع لخذلانهم الزبير بن العوام، في كلمة يقول فيها:
إني تذكرني الزبير حمامة ... تدعو بأعلى الأيكتين هديلا
يا لهف نفسي إذ يغرك حبلهم ... هلا اتخذت على القيون كفيلا
قالت قريش ما أذل مجاشعاً ... جاراً وأكرم ذا القتيل قتيلا!
أفبعد مترككم خليل محمد ... ترجو القيون مع الرسول سبيلا!
أفتى الندى وفتى الطعان غررتم ... وأخا الشمال إذا تهت بليلا
ويرى أن أحيحة بن الجلاح الأنصاري - وكان يبخل - كان3 إذا هبت الصبا طلع من أطمه4 فنظر إلى احية هبوبها. ثم يقول لها هبي هبوبك. فقد أعددت لك ثلثمائة وستين صاعاً من عجوة. أدفع إلى الوليد منها خمس تمرات، فيرد علي منها ثلاثاً، أي لصلابتها، بعد جهد ما يلوك منها اثنتين.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 الأطم: الحصن ببنى الحجارة.
من أخبار لبيد بن ربيعةوكان لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب شريفاً في الجاهلية والإسلام. قد نذر ألا تهب الصبا إلا نحر وأطعم حتى تنقضي. فهبت في الإسلام1، وهو بالكوفة مقتر مملق، فعلم بذلك الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف - وكان واليها لعثمان بن عفان، وكان أخاه لأمه. وأمهما أروى بنت2 كريز بن حبيب بن ربيعة بن شمس3. وأم أروى البيضاء بنت عبد المطلب - فخطب الناس وقال: إنكم قد عرفتم نذر أبي عقيل، وما وكد على نفسه. فأعينوا أخاكم. ثم نزل فبعث إليه بمائة ناقة4 وبعث الناس، فقضى نذره. ففي ذلك تقول ابنة لبيد:
إذا هبت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبتها الوليدا5
ـــــــ
1 ر: "بالإسلام".
2 ر: "ابنة".
3 حاشية الأصل: "غلط أبو العباس بتقديم حبيب وتأخير ربيعة".
4 زيادات ر: "وأبيات يقول فيها:
أرى الجزار تشحذ مديتاه ... إذا هبت رياح أبي عقيل
طويل الباع ابيض جعفري ... كريم المجد كالسيف الصقيل
وفي أبن الجعفري بما لديه ... على العلآت والمال القليل
فلما أتته قال: جزى الله الأمير خيرا. قد عرف الأمير أني لا أقول شعرا, ولكن اخرجي يابنية. فخرجت خمايبة, فقال لها: أجيبي الأمير, فأقبلت وأدبرت.
5 بعده في زيادات ر:
طويل الباع أبيض عبشميا ... اعان على مووءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركبا ... عليها من بني حام قعودا
أبا وهب جزاك الله خيرا ... نحرناها وأطعمنا الثريدا
فعد إن الكريم له معاد ... وظني بابن أروى أن يعودا
فقال لها لبيد: أحسنت يابنية. لولا أنك سألت. فقالت: إن الملوك لا يستحى من منسألتهم. فقال لها: يابنية, وأنت في هذا أشعر"
ومن جعل الشمال، والجنوب أسماء لم يصرفها إذا سمي بشيء منها رجل، لأنك إذا سميت رجلاً مذكراً باسم مؤنث على أربعة أحرف فصاعداً لا علامة للتأنيث فيه لم تصرفه في المعرفة، وصرفته في النكرة، نحو عناق، وأتان، وعقرب، وإن كان نعتاً انصرف. لأنك إذا سميت رجلاً مذكراً بنعت مؤنث لا علامة فيه صرفته. لأنه مذكر نعت به المؤنث. نحو حائض، وطالق، ومتئم، ومرضع.
وإذا ذكرنا من الباب شيئاً فما لم نذكره منه فعلى مجراه ومنهاجه. قال الشاعر. فجعل ما وصفنا أسماء:
حالت وحيل بها وغير آيها ... طول البلى تجري به الريحان 1
ريح الشمال مع الجنوب وتارة ... رهم الربيع وصائب التهتان2
وقد أنشدوا بيت زهير:
ريح الجنوب لضاحي مائه حبك
وقولنا: لا علامة فيه للتأنيث، لتعرف كيف حكم علامات التأنيث، لأن ذلك إنما يكون على ضربين: فما كانت فيه ألف التأنيث مقصورة أو ممدودة فغير منصرف في معرفة ولا نكرة لمذكر كان أو مؤنث. فالمقصور نحو حبلى، وسكرى، وما أشبه ذلك. والممدود نحو حمراء، وصفراء، وصحراء، وما أشبه ذلك.
فإن كانت مدودة لغير التأنيث انصرف إذا كان لمذكر في المعرفة والنكرة، زائداً كان أو أصلياً. فالأصلي نحو سقاء، وغذاء، وحذاء، ورداء - والزائدة، نحو علباء، وحرباء، وقوباء يا فتى. ومن قال: قوباء يا فتى - أنث ولم يصرف، لأن الأولى ملحقة، وهذه للتأنيث، فأما الألف المقصورة التي لغير التأنيث، فإن كانت أصلية انصرفت في المذكر. نحو ملهى، ومغزى، ومشترى.
وإن كانت زائدة لغير التأنيث انصرفت في النكرة، ولم تنصرف في المعرفة، نحو أرطى، وعلقى، فيمن جعل الواحدة علقاة.
ـــــــ
1 حالت: أتى عليها حول. حيل بها: أي أحيلت عما كانت عليه. والآى: جمع أية.
2 الرهم: جمع رهمة. وهو المطر الضعيف.
وأما ما كانت فيه هاء التأنيث فهو منصرف في النكرة، وغير منصرف في المعرفة، لمذكر كان أو مؤنث، عربياً كان أو أعجمياً.
فهذه جملة هذا الباب، فأما قياسه وشرحه فقد أتينا عليه في الكتاب المقتضب.
ويقال1 في أكثر الكلام: هبت جنوباً، وهبت شمالاً، فيستغنى2 عن ذكر الريح، وهذا مما يؤكد أنها نعوت، لأن الحال إنما بابها أن تقع فيما يكون وصفاً3 قال جرير:
هبت شمالاً فذكر ما ذكرتكم ... عند الصفاة إلى شرقي حورانا
وقال الآخر:
فأي حي إذا هبت شآمية ... واستدفأ الكلب بالمأسور ذي الذئب
المأسور، يعني قتباً4. وإنما الأسر الشد بالقد5 حتى يحكم، وإنما قيل الأسير من ذا، لأنه كان يشد بالقد، ثم قالت العرب لكل محكم شديد أسير6 قال الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} 7.
وقوله: ذي الذئب. يعني الفضول التي وسعته وأسبغته. يقال: غبيط مذأب أي ذو ذئب، أي موسع، والغبيط: مركب من مراكب النساء.
ـــــــ
1 ر: "تقول".
2 ر: "فتستغنى".
3 ر: "تعتا".
4 القتب: رحل على قدر السنام.
5 القد: سير يقد من جلد غير مدبوغ.
6 ر: "شديد الأسر".
7 سورة الإنسان 28.
لأوس بن حجرقال أوس بن حجر: في شدة البرد وغلبة الشمال، يرثي فضالة بن كلدة الأسدي:
والحافظ الناس في قحوط إذا ... لم يرسلوا تحت عائذ ربعا
وعزت الشمأل الرياح وقد ... أمسى كميع الفتاة ملتفعا1
ـــــــ
1 الكميع: الضجيج.
وكانت الكاعب الممنعة ... الحسناء في زاد أهلها سبعا
تحوط، وقحوط، وكحل، وحجرة، أسماء للسنة المجدبة. والعائذ: الحديثة النتاج، فتنحر أولادها في السنة المجدبة إبقاء على ألبانها وشحومها. والربع الذي ينتج في الربيع، والهبع: الذي ينتج في الصيف. يقال: ما له هبع ولا ربع. وإنما سمي: هبعاً، لأن الربع أسن منه فيمشي مع أمهاته1، ولا يلحقهن الهبع إلا باجتهاد فيستعين بعنقه في المشي، يقال إذا فعل ذلك: هبع يهبع.
ويقال للريح الشمال: نسع، ومسع، قال الهذلي:
قد حال دون دريسيه مؤوبة ... نسع لها بعضاه الأرض تهزير2
الدريسان: ثوبان خلقان. ومؤوبة، مفعلة، من التأويب، وهو سير النهار لا تعريج فيه. قال أبو عبيدة: هو سير النهار، والإسناد: سير الليل لا تغريس فيه، وأنشد لسلامة بن جندل:
يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب
وإنما يعني ريحاً. وقوله: نسع: أي شمال. والعضاه: شجر ضخام3 فبعض العرب يقول للواحدة: عضاهة، وللجميع: عضاة. على وزن دجاجة ودجاج، وبعضهم يقول للواحدة: عضة، فيقول في الجمع عضوات. وعضهات. فتكون من الواو ومن الهاء قال الشاعر:
هذا طريق يأزم المآزما ... وعضوات تقطع اللهازما4
ونظير عضة، سنة؛ على أن الساقط الهاء في قول بعض العرب، والواو في قول بعضهم، تقول في جمعها سنوات. وسانيت الرجل. وبعضهم يقول: سهات. وأكريته مسانهة.
ـــــــ
1 كذا في الأصل. س.وفي ر: "أمهاتها".
2 للمنتخل. دبوان الهذليين: 16.
3 ر: "شجرة ضخمة".
4 المآزم: جمع مأزم, وهو الطريق بين جبلين, واللهازم: جمع لهزمة وهي ماتحت الأذن من أعلى اللحيين.
وهذا الحرف في القرآن يقرأ على ضروب. فمن قرأ: {لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ} 1 فوصل بالهاء - هو مأخوذ من: سانهت، التي هي سنيهة. ومن جعله من الواو قال في الوصل: لم يتسن وانظر2. فإذا وقف قال: {لَمْ يَتَسَنَّه} فكانت الهاء زائدة لبيان الحركة. بمنزلة الهاء في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 3. و{كِتَابِيَهْ} 4. و{حِسَابِيَهْ} 5. والمعنى واحد. وتأويله: لم تغيره السنون. ومن لم يقصد إلى السنة، قال: لم يتأسن. والآسن: المتغير، قال الله جل وعز: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} 6، ويقال: أسن في هذا المعنى، كما يقال: رجل حاذر وحذر.
ويقال للريح الجنوب: النعامى. قال أبو ذؤيب:
مرته النعامى فلم يعترف ... خلاف النعامى من الشأم ريحا
ومعنى مرته استرته. وفي الحديث: "ما هبت الريح الجنوب إلا أسال الله بها وادياً".
وقال رجل يمدح رجلاً:
فتى خلقت أخلاقه مطمئنة ... له نفحات ريحهن جنوب
يريد أن الجنوب تأتي بالمطر والندى.
والعرب تكره الدبور، وفي الحديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور".
وقلما يكون بالدبور المطر، لأنها تجفل السحاب، ويكون فيها الرهج والغبرة.
ولا تهب إلا أقل ذاك بشدة، فتكاد تقلع البيوت وتأتي على الزروع.
ـــــــ
1 ر: "في قول بعضهم".
2 سورة البقرة 259.
3 سورة الأنعام 90.
4 سورة الحاقة 19.
5 سورة الحاقة 20.
6 سورة محمد 15.
لرجل في الهداءوقال رجل يهجو رجلاً:
لو كنت ريحاً كانت الدبورا ... أو كنت غيماً لم تكن مطيرا
أو كنت ماء لم تكن طهوراً ... أو كنت مخاً كنت ريرا
أو كنت برداً كنت زمهريرا
الرير: المخ الرقيق، يقال: مخ رير ورار، في معنى واحد، وقال السليك:
يصيدك قافلاً والمخ رار
وقال آخر:
لو كنت ماء لم تكن بعذب ... أو كنت سيفاً كنت غير عضب
أو كنت لحماً كنت لحم كلب ... أو كنت عيراً كنت غير ندب1
ـــــــ
1 الندب: الخفيف السريع.
للسليك يرثي فرسهفأما قول السليك فإنه يرثي فرسه، وكان يقال له النحام، فقال:
كأن قوائم النحام لما ... تحمل صحبتي أصلاً محار
على قرماء عالية شواه ... كأن بياض غرته خمار
وما يدريك ما فقري إليه ... إذا ما القوم ولوا أو أغاروا
ويحضر فوق جهد الحضر نصاً ... يصيدك قافلاً والمخ رار
قوله:
كأن قوائم النحام محار
المحارة: الصدفة، يريد الملاسة، وأنه قد ارتفعت قوائمه للموت. والأصل: جمع أصيل، والأصيل، والأصيل العشي، يقال: أصيل وأصل، مثل قضيب وقضب، وجمع أصل آصال، وهو جمع الجمع، وتقديره: عنق وأعناق، وطنب وأطناب. ويقال في جمع أصيلة أصائل، مثل خليفة وخلائف، قال الأعشى:
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل1
ـــــــ
1 وصدره.
يوما بأطيب منها نشر رائحتة
وقال أبو ذؤيب:
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل
وقرماء، ممدودة: اسم موضع. وشواه: قوائمه. وقد فسرناه قبل هذا. وقوله: ولوا أو أغاروا إذا طلبوا أو هربوا. وقوله: يصيدك أي يصيد لك، يقال: صدتك ظبياً، قال الله عز وجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 1. أي كالوا لهم، أو وزنوا لهم، يقال: كلتك ووزنتك، لأنه قد قال تعالى أولاً: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} 2.
فأما ما جاء في الحديث من قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الهبوب: "اللهم اجعلها رياحاً ولاتجعلها ريحاً"، فإن العرب تقول: لا تلقح السحاب إلا من رياح. وتصديق ذلك قول الله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} 3. وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا هبت بحرية ثم تذاءبت" قال الشاعر:
تسح إذا تذاءبت الرياح
يقول: إذا تقابلت، يقال: تذاءبت الرياح، وتناوحت، أي تقابلت، وتناوح الشجر، إذا قابل بعضه بعضاً، وإنما سميت النائحة نائحة، لأنها تقابل صاحبتها.
فإذا خلصت الريح عندهم دبوراً فهي من جنس البوار، وإذا خلصت شمالاً شتوية فهي من آيات الجدب، ومن ثم تقول العرب: فلا يطعم في الشمال، كما تقول: يطعم في المحل. قال أوس بن حجر: وعزت الشمأل الرياح أي غلبتها، فكانت أقوى منها، فلم تدع لها موضعاً وقوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} 4 أي غلبني في المخاطبة والخصومة، ومن أمثال العرب: من عز بر وتأويله: من غلب استلب5، قالت الخنساء:
كأن لم يكونوا حمى يتقى ... إذا الناس إذ ذاك م عز بز
ـــــــ
1 سورة المطففين 3.
2 سورة المطففين 2
3 سورة الروم 48.
4 سورة ص 23.
5 ر: "سلب".
بين غنوي وفزاريقال أبو العباس: وحدثني عمرو بن بحر الجاحظ قال: رأيت رجلاً من غنى يفاخر رجلاً نم بني فزارة، ثم أحد بني بدر بن عمرو، وكان الغنوي متمكناً
من لسانه؛ وكان الفزاري بكيئاً1 فقال2 الغنوي: ماؤنا من بين الرقم إلى كذا، وهم جيراننا فيه، فنحن أقصر منهم رشاء، وأعذب منهم ماء، لنا ريف السهور ومعاقل الجبال. وأرضهم سبخة، ومياههم أملاح، وأرشيتهم طوال، والعرب3 من عز بز، فبعزنا ما تخيرنا عليهم، وبذلهم ما رضوا منا4 بالضيم.
وقوله: كان الفزاري بكيئاً يقول: غير قادر على الكلام، وأصل ذلك في الحلب، يقال ناقة غزيرة وناقة بكيء، وهي ضد الغزيرة، أي قليلة اللبن، ودهين وصمرد، في معنى، يقال: بكأت الشاة والناقة، وبكؤت، قال الشاعر:
فإذا ما حاردت أو بكؤت ... فض عن خاتم أخرى طينها5
وقال سلامة بن جندل:
يقول محبسها أدنى لمرتعها ... ولو تداعى ببكء كل محلوب6
يقول: إن نحبس الإبل على ضر ونقاتل عنها فهو أدنى بأن تعز فترتع فيما تستقبل، وإن ذهبت ألبانها، لأنا إن أطردناها7 وهربنا طمع فينا واستذللنا، ويقال في الكلام: رجل عيي بكي.
قال أبو العباس: وهذا لغنوي: إذا قابل8 بقبيلته آل بدر فقد أعظم الفرية، وبلغ في البهت، وأشمت العدو بجمهور قيس، وصار بهم إلى قول9 الأخطل:
وقد سرني من قيس عيلان أنني ... رأيت بني العجلان سادوا بني بدر
ـــــــ
1 ر: "بكيا". وما أثبته عن الأصل.
2 ر: "قال" وما أثبته عن الأصل.
3 ر: "والعرب عن عز بز", س: "والعرب إذا ذاك من عز بز", وما أثبته عن الأصل.
4 كذا في الأصل. س. وفي ر: "عنا".
5 هو عدى بن زيد, وقيله:
ولنا باطية مملوءة ... جونة يتبعها برزينها
البرزين: إناء يتخذ من قشر الطلع, والحد داء في القوائم, إذا مشى البعير نفض قوائمه, فضرب بهن الأرض كثيرا, وانظر اللسان 4: 123. 18:196.
6 ر: "وإن تداعى".
7 أطردناها: أمرنا بطردها. وفي ر: "طردناها".
8 ر: "حاول".
9 ر: "إلى ما قال".
وكان زياد يقول - وهو الغاية في السياسة - أوصيكم بثلاثة: العالم1 والشريف، والشيخ، فوالله لا أوتى بوضيع سب شريفاً، أو شاب وثب بشيخ، أو جاهل امتهن2 عالماً إلا عاقبت وبالغت.
ـــــــ
1 ر: "بالعالم".
2 ر: "امتحن".
لعمارة بن عقيل يهجو بني أسدوقال عمارة لبني أسد بن خزيمة:
يا أيها السائلي عمداً لأخبره ... بذات نفسي وأيدي الله فوق يدي
إن تستقم أسد ترشد وإن شغبت ... فلا يلم لائم إلا بني أسد
إني رأيتكم يعصى كبيركم ... وتكنعون إلى ذي الفجرة النكد1
فباعد الله كل البعد داركم ... ولا شفاكم من الأضغان والحسد
فرأى عصيانهم الكبير من إقبح العيب، وأدله على ضغن بعضهم لبعض، وحسد2 بعضهم بعضاً، والوضيع ينقلب إلى الشريف، لأنه يرى مقاولته فخراً، والاجتراء عليه ربحاً، كما أن مقاولة الشريف للئيم ذل وضعة. قال الشاعر:
إذا أنت قاولت اللئيم فإنما ... يكون عليك الفضل حين تقاوله3
ولست كمي يرضى بما غيره الرضا ... ويمسح رأس الذئب والذئب آكله
وسنشبع هذا المعنى إن شاء الله.
وفي هذا الشعر بيت يقدم في باب الفتك، وهو:
فلا تقربن أمر الصريمة بامرئ ... إذا رام أمراً عوقته عواذله
[وقل للفؤاد إن ترى بك نزوة ... من الروع أفرخ أكثر الروع باطله]4
الصريمة: العزيمة.
ـــــــ
1 تكنعون: تخضعون, والفجرة: الفجور, والنكد: اللثيم.
2 ر: "وحسد" بسكون السين, والصحح ما أثبته عن الأصل.
4 ر: "يكون عليك العتب".
4 ما بين العلامتين من زيادات ر. وأفرخ: أي أخرج روعك وفزعك.
وقد امتنع قوم من الجواب تنبلاً، ومواضعهم تنبئ عن ذلك، وامتنع قوم عياً بلا اعتلال، وامتنع قوم عجزاً1، واعتلوا بكرهة السفه، وبعضهم معتل برفعة نفسه2 عن خصمه، وبعضهم كان يسبه الرجل الركيك من العشيرة فيعرض عنه3 ويسب سيد قومه، وكانت الجاهلية ربما فعلته بقى الذحول4، قال الراجز:
إن بجيلاً كلما هجاني ... ملت على الأغطش أو أبان
أو طلحة الخير فتى الفتيان ... أولاك قوم شأنهم كشاني
ما بلت من أعراضهم كفاني ... وإن سكت عرفوا إحساني
وقال أحد المحدثين:
إني إذا هو كلب الحي قلت له ... إسلم، وربك مخنوق على الجرر
قوله: إسلم فاستأنف بألف الوصل، لأن النصف الأول موقوف عليه.
قال الشاعر:
ولا يبادر في الشتاء وليدنا5 ... القدر ينزلها بغير جعال
الجعال: الذي تنزل6 به البرمة، وربما توقيت به حرارتها.
قال الراجز:
لا نسب اليوم ولا خلة ... إتسع الخرق على الراقع
وهذا كثير غير معيب.
وفي مثل اختيار النبيل لتكافؤ الأغراض7 قول الأخطل:
ـــــــ
1 ر: "عجزوا". وما أثبته عن الأصل. س.
2 ر. س: "برفعة نفسه",وهذه رواية الأصل.
3 كلمة "عنه" ساقطة من ر.
4 الذحول: "جمع ذحل" وهو الثأر.
5 ر: "وليدها".
6 ر: "الذى بوضع فيه البرمة". وما أثبته عن الأصل. س.
7 ر: "لتتكافأ". وما أثبته عن الأصل. س.
شفى النفس قتلى من سليم وعامر ... ولم يشفها قتلى غني ولا جسر
ولا جشم شر القبائل إنها ... كبيض القطا ليسوا بسود ولا حمر
ولو ببني ذبيان بلت رماحنا ... لقرت بهم عيني وباء بهم وتري
وقال رجل من المحدثين، وهو حمدان بن بان اللاحقي:
أليس من الكبائر أن وغداً ... لآل معذل يهجو سدوسا
هجا عرضاً لهم غضاً جديداً ... وأهدف عرض والده اللبيسا
وقال آخر:
اللؤم أكرم من وبر ووالده ... واللؤم أكرم من وبر وما ولدا
قوم إذا جر جاني قومهم أمنوا ... من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا
اللؤم داء لوبر يقتلون به ... لا يقتلون بداء غيره أبدا1
وقال رجل من المحدثين2:
أما الهجاء فدق عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق3 عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل
وقال آخر:
نبئت كلباً هاب رميي له ... ينبحني من موضع نائي
لو كنت من شيء هجوناك أو ... لو بنت للسامع والرائي
فعد عن شتمي فإني امرؤ ... حلمني قلة أكفائي
ـــــــ
1 ر: "اللؤم".
2 ر: "وقال أحد المحدثين", وفي الزيادات: "هو دعبل".
3 ز: "عقيق عرضك".
وقال آخر1:
فلو أني بليت بهاشمي ... خؤولته بنو عبد المدان
صبرت على عداوته ولكن ... تعالي فانظري بمن ابتلاني
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو دعيل".
من أخبار ذوي الحلمووقف رجل عليه مقطعات على الأحنف بن قيس يسبه - وكان عمرو بن الأهتم جعل له ألف درهم على أن يسفه الأحنف - فجعل لا يألوا أن يسبه سباً يغضب، والأحنف مطرق لا يكلمه1، فلما رآه لا يكلمه أقبل الرجل يعض إبهامه2، ويقول: يا سوأتاه! والله ما يمنعه من جوابي إلا هواني عليه!.
وفعل ذلك آخر، فأمسك عنه الأحنف، فأكثر الرجل، إلى أن أراد الأحنف القيام للغداء؛ فأقبل على الرجل، فقال له: يا هذا! إن غداءنا قد حضر، فانهض بنا إليه إن شئت، فإنك مذ اليوم تحدر بجمل ثفال.
والثفال من الإبل: البطيء الثقي الذي لا يكاد ينبعث.
وعدت على الأحنف سقطة في هذا الباب، وهو أن عمرو بن الأهم دس عليه رجلاً ليسفهه. فقال له: يا أبا بحر3، ما كان أبوك في قومه? قال: كان من أوسطهم، لم يسدهم، ولم يتخلف عنهم، فرجع إليه ثانية، ففطن الأحنف أنه من قبل عمرو، فقال: ما كان مال أبيك? فقال: كانت له صرمة4 يمنح منها ويقري، ولم يك أهتم سلاحاً5.
ـــــــ
1 لفظ "لا يكلمه" ساقط من ر.
2 ر: "إيهامه".
3 ر: "أبا بحر".
4 الصرمه: القطعة من الإبل لم تبلغ السنين.
5 السلاح: كثير السلح. يعرض بأبي عمرو.
وجعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص عن أمه - ولم تكن في موضع مرضي إنما كانت من عنزة، ثم من بني جلان1 - فأتاه الرجل، وهو بمصر أميراً عليهم، فقال: أردت أن أعرف أم الأمير. فقال: نعم، كان امرأة2، من عنزة، ثم من بني جلان، تسمى ليلى، وتلقت النابغة، إذهب فخذ ما جعل لك.
وقال له مرة المنذر بن الجارود: أي رجل أنت لولا أمك! قال: فإني أحمد الله إليك، إني فكرت فيها3 البارحة، فأقبلت أنقلها في قبائل العرب، فما خطرت لي عبد القيس ببال4.
ودخل عمرو مكة فرأى قوماً من قريش قد جلسوا حلقة، فلما رأوه رموه بأبصارهم، فعدل إليهم فقال: أحسبكم كنتم في شيء من ذكري! قالوا: أجل، كنا نمثل5 بينك وبين أخيك هشام أيكما أفضل? فقال عمرو: إن لهشام علي أربعة: أمه ابنة هشام بن الغميرة، وأمي من قد عرفتم، وكان أحب إلى أبيه مني، وقد عرفتم معرفة الوالد بالولد، وأسلم قبلي واستشهد وبقيت.
قال أبو العباس: وقد أكثر الناس في الباب الذي ذكرناه، وإنما نذكر من الشيء وجوهه ونوادره.
قال رجل لرجل من آل الزبير كلاماً أقذع له فيه، فأعرض الزبيري عنه، ثم دار كلام فسب الزبيري علي بن الحسين، فأعرض عنه، فقال له الرجل الزبيري: ما يمنعك من جوابي? فقال علي: ما منعك من جواب الرجل!.
ـــــــ
1 تكملة من الأصل. س.
2 ر: "وخذ".
3 ر: "في هذا".
4 ر: "على بال".
5 ر: "نميل".
وقد روي قول القائل: لو قلت واحدة لسمعت عشراً، فقال له: ولكنك لو عقلت عشراً ما سمعت واحدة.
وقال الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فأجوز ثم أقول لا يعنيني
وقال رجل لرجل - وسبه فلم يلتفت إليه: إياك أعني، فقال له الرجل: وعنك أعرض.
فأما قول الشعبي للرجل ما قال فمن غير هذا الباب، وإنما مخرجه الديانة، وذاك أن رجلاً سب الشعبي بأمور قبيحة نسبه إليها، فقال له1 الشعبي: إن كنت كاذباً فغفر الله لك، وإن كنت صادقاً فغفر الله لي.
وقال أبو العباس: قال رجل لأبي بكر الصديق رحمه الله: لأسبنك سباً يدخل معك قبرك، فقال: معك والله يدخل لا معي.
[ويحدث ابن عائشة عن أبيه: أن رجلاً من أهل الشأم دخل المدينة، فقال: رأيت رجلاً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا أحسن لباساً ولا أفره مركباً منه، فسألت عنه، فقيل لي: الحسن بن علي بن أبي طالب، فقال: أنا ابن ابنه، فقلت له: فيك وبك وبأبيك، أسبهما. فقال: أحسبك غريباً! قلت: أجل. فقال: إن لنا منزلاً واسعاً ومعونة على الحاجة ومالا نواسي منه. فانطلقت وما أجد على وجه الأرض أحب إلي منه]2.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 ما بين العلامتين من زيادات ر.
قال أبو العباس: ويتصل بهذا الباب ذكر من رغب برجل عن إرث رجل لا يشاكله، وولاية رجل لا يشابهه. قال الشاعر1:
بكت دار بشر شجوها أن تبدلت ... هلال بن قعقاع ببشر بن غالب
وما هي إلا كالعروس تنقلت ... على رغمها من هاشم في محارب2
ـــــــ
1 هو إسماعيل بن عمار بن عيينة الأسدى, نسبه أبو تمام إليه في الحماسة ص 1513- بشرح المرزوقي.
2 قال المرزوقي: شجوها. انتصب على أنه مفعول به. والشاعر يفضل بشرا على هلال, يقول: إن الدار التي كان يستوطنها بشر لما رحل عنها وصار فيها بدلا منه هلال – بكت وتحسر. وحق لها ذلك, فما هي فى استبدالها إلا كعروس زوجت من بنى هاشم ثم انتقلت إلى محارب. ومحارب: قبيلة فيها ضعة وخمول.
للفرزدق حين ولي ابن هبيرة العراقوقال الفرزدق حين ولي العراق عمر بن هبيرة الغزاري بعقب مسلمة بن عبد الملك1:
راحت بمسلمة البغال عشية2 ... فارعي فزارة لا هناك المرتع!
ولقد علمت إذا فزارة أمرت3 ... أن سوف يطمع في الإمارة أشجع4
فأرى الأمور تنكرت أعلامها5 ... حتى أمية عن عزارة تنزع
عزل ابن بشر وابن عمرو قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقع
فلما ولي خالد بن عبد الله القسري على عمر بن هبيرة. قال رجل6 من بني أسد يجيب الفرزدق:
عجب الفرزدق من فزارة أن رأى ... عنها أمية بالمشارق تنزع
ـــــــ
1 ديوانه 508: "حين عزل عبد الملك بن بشر بن مروان عن البصرة وسعيد بن عمرو بن الحارث بن الحكم ابن ابي العاص عن الكوفة. وسار مسلمة من العراق إلى الشام, وولى العراق عمر بن هبيرة الفزاري". مع اختلاف في ترتيب الأبيات.
2 الديوان:
ومضت لمسلمة الركاب مودعا
3 الديوان: "لئن فزارة أمرت".
4 ر: "يطمع".
5 الديوان:
إن القيامة قد دنت أشراطها
6 نسبها الموفى إلى إسماعيل بن عمار الأسدى.
فلقد رأى عجباً وأحدث بعده ... أمر تضج له القلوب وتفرع
بكت المنابر من فزارة شجوها ... فاليوم من قسر تذوب وتجزع
وملوك خندف أسلمونا للعدى1 ... لله در ملوكنا ما تصنع!
كانوا كتاركة بنيها جانباً ... سفها وغيرهم تصون وترضع
ـــــــ
1 ر: "ذللتنا للعدى".
للفرزدق أيضاً في هجاء عمرو بن هبيرة
قال أبو العباس: وكان الفرزدق هجاء لعمر بن هبيرة عند ولايته العراق. وفي ذلك يقول ليزيد بن عبد الملك:
أمير المؤمنين وأنت بر ... أمين لست بالطبع الحريص
أأطعمت العرقا ورافديه ... فزارياً أحذ يد القميص1
تفهق بالعراق أبو المثنى ... وعلم قومه أكل الخبيص
ولم يكن قبلها راعي مخاض ... ليأمنه على وركي قلوص
قوله: لست بالطبع الحريص. فالطبع: الشديد الطمع الذي لا يفهم لشدة طمعه. وإنما أخذ هذا من طبع السيف، يقال: طبع السيف. يا فتى! وهو سيف طبع، إذا ركبه الصدأ حتى يغطي عليه. والمثل من هذا في الذي طبع على قلبه وإنما هو تغطية وحجاب. يقال: طبع الله على قلب فلان. كما قال جل وعز: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}. هذا الوقف. ثم قال: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} 2 وكذلك: رين على قلبه. وغين على قلبه؛ فالرين يكون من أشياء تألف عليه فتغطيه. قال الله جل وعز: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3. وأما غين على قلبه. فهي غشاوة تعتريه، والغينة: القطعة من الشجر الملتف تغطي ما تحتها، قال الشاعر:
كأني بين خافيتي عقاب ... أصاب حمامة في يوم غين4
ـــــــ
1 ر: "أأطعمت". وما أثبته عن الأصل. س.
2 سورة البقرة 7. وفي ر: "طبع الله على قلوبهم". وهو مخالف للتلاوة.
3 سورة المطففين 14.
4 نسبه المرصفى إلى رجل من تغلب يصف فرسا. وذكر قبله:
فداء خالتي وفدا صديقي ... وأهلي كلهم لبني قعين
فأنت حبوتني بعنان طرف ... شديد الشد ذي بذل وصون
وقال بعضهم: أراد في التفاف من الظلمة. وقال آخرون: أراد في يوم غيم، فأبدل من الميم نوناً، لاجتماع الميم والنون في الغنة. كما يقال للحية: أيم، وأين، واستجازت الشعراء أن تجمع الميم والنون في القوافي، لما ذكرت لك من اجتماعهما في الغنة. قال الراجز:
بني إن البر شيء هين ... ألمنطق اللين والطعيم
وقال آخر1:
ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سني2
لمثل هذا ولدتني أمي
والعراقان: البصرة والكوفة. والرافدان: دجلة والفرات.
وقوله: أحذ يد القميص، الأحد: الخفيف. قال طرقة:
وأتلع نهاض أحد ململم3
وإنما نسبه بالخفة في يده إلى السرقة4.
وقوله: تفهق أي امتلأ مالاً5. يقال: بئر تفهق وغدير يفهق إذا امتلأ ماء. قال الراجز:
لا ذنب لي قد قلت للقوم استقوا ... والقوم في عرض غدير يفهق
وقال الأعشى فيمدحه المحلق بن حنتم. أحد بني أبي بكر بن كلاب:
نفى الذم عن رهط المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
ـــــــ
1 نقل المرصفى عن ابن سيده. أنه أبو جهل بن هشام.
2 البازل من لاأبل: ما استكمل السنه الثامنة. وطعن في التاسعة. فإذا جاوز البزول قيل بازل عام أو عامين, وكذلك ما زاد, فإذا قيل ذلك للرجل فإنه يراد استكمال شبابه, قالة المرصفي.
3 رواية البيت بتمامه. كما في ديوانه 56 – مجموعة العقد الثمين.
وأروع نباض أحد ململم ... كمرداة صخر من صفيح مصمد
4 ر: "السرق".
5 ر: "ماء".
هكذا في رواية أبي عبيدة.
وقوله:
ولم يك قبلها راعي مخاض ... ليأمنه على وركي قلوص
كانت بنو فزارة ترمى بغشيان الإبل. ولذلك قال ابن دارة:
لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
للفرزدق أيضاً في حبس عمر بن هبيرة
فلما عزل ابن هبيرة وحبسه خالد بن عبد الله القسري. قال الفرزدق:
لعمري لئن نابت فزارة نوبة ... لمن حدث الأيام تحسبها قسر
لقد حبس القسري في سجن واسط ... فتى شيظميا ما ينهنهه الزجر
فتى لم ترببه النصارى لم يكن ... غذاء له لحم الخنازير والخمر
قوله: فتى 1شيظيما"1، الشيظمي: الطويل. قال ذو الرمة:
إذا ما رمينا رمية في مفازة ... عراقيبها بالشيظمي المواشك2
يريد حادياً يسوقها وقوله: ما ينهنهه الزجر. يقول: ما يحركه.
وقوله: فتى لم ترببه النصارى ينبه به على أم خالد، وكانت نصرانية رومية، وكان أبوه استلبها في يوم عيد للروم، فأولادها خالداً وأسداً. ولذلك يقول الفرزدق:
ألا قطع الرحمن ظهر مطية ... أتتنا تهادى من دمشق بخالد
وكيف يؤم الناس من كانت أمه ... تدين بأن الله ليس بواحد!
بنى بيعة فيها النصارى لأمه ... ويهدم من كفر منار المساجد
وقال:
عليك أمير المؤمنين بخالد ... وأصحابه لا طهر الله خالدا
بنى بيعة فيها الصليب لأمه ... ويهدم من بغض الصلاة المساجدا
ـــــــ
1 ساقط من ر.
2 ديوانه 426. والمواشك: السريع.
وكان سبب هدم خالد منار المساجد حتى حطها عن دور الناس أنه بلغه شعر لرجل من الموالي، موالي الأنصار، وهو:
ليتني في المؤذنين حياتي ... إنهم يبصرون من في السطوح
فيشيرون أو تشير إليهم ... بالهوى كل ذات دل مليح
فحطها عن دور الناس. ويروى عنه فيما روي من عتوه أنه استعفي من بيعة بناها لأمه. فقال لملأ من المسلمين: قبح الله دينهم، إن كان شراً من دينكم!.
للفرزدق عند هروبه من سجن ابن هبيرةوقال الفرزدق لابن هبيرة حين1 نقب له السجن وهرب، فسار2 تحت الأرض هو وابنه حتى نفذا3:
لما رأيت الأرض قد سد ظهرها ... ولم يبق إلا بطنها لك مخرجا
دعوت الذي ناداه يونس بعد ما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرجا
فأصبحت تحت الأرض قد سرت سيرة ... وما سار سار مثلها حين أدلجا4
خرجت ولم يمنن عليك طلاقة ... سوى ربد التقريب من نسل أعوجا5
فقال ابن هبيرة: ما رأيت أشرف من الفرزدق! هجاني أميراً، ومدحني أسيراً.
قوله: حيث أدلجا. تقول: أدلجت، إذا سرت6 في أول الليل. وادلجت، إذا سرت من آخره في السحر. قال زهير:
ـــــــ
1 ر: "حيث".
2 ر: "وسار".
3 وانظر أيضا خبر هذه الأبيات بتفصيل أوسع في الديوان 141.
4 ر: "حيث أدلجا". وهذه رواية الاصل والديوان.
5 ر: الديوان: "من آل أعوجا".
6 ر: "من".
بكرن بكوراً وادلجن بسحرة ... فهن لوادي الرس كاليد للفم
وأعوج: فرس كان لغني، وقالوا، كان لبني كلاب. ولا ينكر هذا، لأن خبيبة1 بنت رياح الغنوية، ولدت بني جعفر بن كلاب. فلعله أن يكون صار إلى بني جعفر بن كلاب من غني.
والعرب تنسب الخيل الجياد إلى أعوج، وإلى الوجيه، ولاحق، والغراب، واليحموم، وما أشبه هذه الخيل من المتقدمات. قال زيد الخيل:
جلبنا الخيل من أجإ وسلمى ... تخب نزائعاً خبب الذئاب2
جلبنا كل طف أعوجي ... وسلهبة كخافية العقاب3
ثم نرجع إلى التشبيه المصيب؛ قال امرؤ القيس في طول الليل:
كأن الثرا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل
فهذا في ثبات الليل وإقامته. والمصام: المقام. وقيل للممسك عن الطعام: صائم، لثباته على ذلك، ويقال: صام النهار: إذا قامت الشمس. قال امرؤ القيس:
فدعها وسل الهم عنك بجسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا
وقال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
والأمراس: جمع مرس، وهو الحبل. قال أبو زبيد يرثي غلامه ويذكر تعرضه للحرب4:
إما تقارن بك الرماح فلا ... أبكيك إلا للدلو والمرس5
ـــــــ
1 ر: "حبيبة". وما أثبته عن الاصل.
2 النزائع: جمع نزيعة, وهي التي تنزع إلى وطنها وتحن إليه.
3 السلهية, والسهلب ايضا الفرس الطويل.
4 ر: "وتعرض للحرب فقتل".
5 ر: "إما تعلق". وما أثبته رواية الأصل. س.
وقال في ثبات الليل:
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
المغار: الشديد الفتل. يقال: أغرت الحبل: إذا شددت فتله. ويذبل: جبل بعينه.
وقال أيضاً:
كأن أباناً في أفانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل
أبان جبل. وهما أبانان: أبان الأسود، وأبان الأبيض. قال المهلهل1 - وكان نزل في آخر حربهم، حرب البسوس، في جنب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك، وهو مذحج. وجنب حي من أحيائهم وضيع - فخطبت ابنته ومهرت أدما. فلم يقدر على الامتناع، فزوجها، وقال:
أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم2
لو بأبانين جاء يخطبها ... ضرج من أنف خاطب بدم
وقوله: في أفانين ودقه يريد ضروباً من ودقه. والودق: المطر. قال الله تبارك وتعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} 3.
وقال عامر بن جوين الطائي:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
وقوله:
كبير أناس في بجاز مزمل
يريد مزملاً بثيابه. قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ, قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} 4. وهو المتزمل بثيابه5. والتاء مدغمة في الزاي. وإنما وصف
ـــــــ
1 ر: "مهلهل".
2 الأراقم: قبائل من تغلب: ويريد بالحباء هنا المهر. والادم: الجلد.
3 سورة النور 43.
4 سورة المزمل 1/2
5 ساقطة من ر.
امرؤ القيس الغيث. فقال قوم: أراد أن المطر قد خنق الجبل فصار له كاللباس على الشيخ المتزمل. وقال آخرون: إنما أراد ما كساه المطر من خضرة النبت. وكلاهما حسن. وذكر الودق لأن تلك الخضرة من عمله.
وقال الراجز يصف غيماً:
أقبل في المستن من ربابه ... أسنمة الآمال في سحابه
أراد أن ذلك السحاب، ينبت ما تأكله الإبل، فتصير شحومها في أسنمتها.
والرباب سحاب دوين المعظم من السحاب، قال المازني1:
كأن الرباب دوين السحاب ... نعام يعلق بالأرجل
وقوله جل وعز: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} 2. أي أعصر عنباً فيصير إلى هذه الحال.
وقال زهير:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
الفنا: شجر بعينه، يثمر ثمراً أحمر ثم يتفرق في هيئة النبق الصغار، فهذا من أحسن التشبيه. وإنما وصف ما يسقط من أنماطهن إذا نزلن.
والعهن: الصوف الملون في قول أكثر أهل اللغة. وأما الأصمعي فقال: كل صوف عهن. وكذلك قال أهل اللغة: الحنتم الخزف الأخضر. وقال الأصمعي: كل خزف حنتم. قال القرشي3:
من مبلغ الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم
ـــــــ
1 نقل المرصفي من الأغاني أنه زهير بن عروة بن جلهمة.
2 سورة يوسف 36.
3 نسبة المرصفي إلى النعمان بن عدي بن نضلة.
وقال جرير:
ما في مقام ديار تغلب مسجد ... وبها كنائس حنتم ودنان
والتشبيه جار كثيراً في كلام العرب، حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم، لم يبعد.
قال الله عز وجل وله المثل الأعلى: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} 1. وقال: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} 2. وقد اعترض معترض من الجهالة الملحدين، في هذه الآية. فقال: إنما يمثل الغائب بالحاضر، ورؤوس الشياطين لم نرها، فكيف يقع التمثيل بها! وهؤلاء في هذا القول كما قال الله جل وعز: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} 3. وهذه الآية قد جاء تفسيرها على ضربين4: أحدهما، أن شجراً يقال له الأستن5، منكر الصورة يقال لثمره: رؤوس الشياطين، وهو الذي ذكره النابغة في قوله:
تحيد عن أستن سود أسافله6
وزعم الأصمعي أن هذا الشجر يسمى الصوم.
والقولم الآخر - وهو الذي يسبق إلى القلب - أن الله جل ذكره شنع صورة الشياطين في قلوب العباد. فكان7 ذلك أبلغ من المعاينة، ثم مثل هذه الشجرة مما تنفر منه كل نفس.
ـــــــ
1 سورة النور 35.
2 سورة الصافات 65.
3 سورة يونس 39.
4 ر: "في ضربين". وما أثبته عن الأصل. س.
5 نقل المرصفي عن أبي حنيفة الدينوري أنالأستن شجر يفشو في منابته ويكثر, إذا نظر إليه الناظر من بعيد شبهه بشخوص الناس.
6 بقيته:
مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما
7 ر: "وكان".
حديث أبي النجم العجلي مع هشام بن عبد الملكقال أبو العباس: وحدثت في إسناد متصل أن أبا النجم العجلي أنشد هشاماً1:
والشمس قد صارت كعين الأحول
لما ذهب به الروي عن الفكر في عين هشام، فأغضبه، فأمر بطرده، فطرد2. فأمل أبو النجم رجعته. فكان3 يأوي المسجد4، فأرق هشام5 ذات ليلة، فقال لحاجبه: ابغني رجلاً عربياً فصيحاً يحادثني وينشدني. فطلب له ما طلب، فوقف على أبي النجم، فأتى. فلما دخل به إليه قال: أين تكون منذ أقصيناك? قال: بحيث ألفتني رسلك. قال: فمن كان أبا مثواك? قال: رجلين. كلبياً وتغلبياً. أتغدى عند أحدهما، وأتعشى عند الآخر، فقال له: مالك من الولد? قال: ابنتان. قال: أزوجتهما? قال: زوجت إحداهما. قال: فيم أوصيتها? قال قلت لها ليلة أهديتها:
سبي الحماة وابهتي عليها ... وإن أبت فازدلفي إليها
ثم اقترعي بالود مرفقيها6 ... وجددي الحلف به عليها
لا تخبري الدهر بذاك ابنيها
قال: أفأوصيتها بغير هذا? قال: نعم، قالت:
أوصيت من برة قلباً حمرا ... بالكلب خيراً والحماة شرا
لا تسأمي نهكاً لها وضرا ... والحي عميهم بشر طرا
وإن كسوك ذهباً ودرا ... حتى يروا حلو الحياة مرا
ـــــــ
1 ر: "هشام بن عبد الملك". من أرجوزيته التي مطلعها.
الحمد لله العلى الأجلل
2 ساقطة من ر.
3 ر: "وكان".
4 ر: "المساجد".
5 ر: "أرق هشام ليلة".
6 الد: الوتد.
قال هشام: ما هكذا أوصى يعقوب ولده. قال أبو النجم: ولا أنا كيعقوب، ولا بنتي كولده، قال: فما حال الأخرى? قال: قد درجت بين بيوت الحي، وتنفعنا1 في الرسالة والحاجة، قال: فما قلت فيها? قال: قلت:
كأن ظلامة أخت شيبان ... يتيمة ووالداها حيان
الرأس قمل كله وصئبان ... وليس في الرجلين إلا خيطان
فهي التي يذعر منها الشيطان
قال: فقال هشام: يا غلام2، ما فعلت بالدنانير المختومة التي أمرتك بقبضها? قال: ها هي عندي، ووزنها خمسمائة، قال: فادفعها إلى أبي النجم ليجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين، أفلا تراه قال:
فهث التي يذعر منها الشيطان
وإن لم يره، لما قرر فيالقلوب من نكارته وشناعته! وقال آخر:
وفي البقل إن لم يدفع الله شره ... شياطين يعدو بعضهن على بعض
وزعم أهل اللغة أن كل متمرد من جن أو إنس أو سبع3 أو حية4 يقال له شيطان، وأن قولهم: تشيطن إنما معناه تخبث وتنكر، وقد قال الله جل وعز: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} 5 قال الراجز:
أبصرتها تلتهم الثعبانا ... شيطانة تزوجت شيطانا
وقال امرؤ القيس:
أتوعدني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال!
والغول: لم يخبر صادق قط أنه رآها.
ثم نرجع إلى تفسير شعر أبي النجم6:
ـــــــ
1 ر: "ونعتنا".
2 ر: "لحالجيه".
3 ر: "رجل".
4 ساقطة من ر.
5 سورة الأنعام
6 ر: "وأول أبي النجم".
قوله:
سبي الحماة وابهتي عليها
إنما يريد: ابهتيها، فوضع ابهتي في موضع اكذبي فمن ثم وصلها بعلى.
والذي يستعمل في صلة الفعل اللام، لأنها لام الإضافة، تقول: لزيد ضربت ولعمرو أكرمت والمعنى: عمراً أكرمت، وإنما1 تقديره: إكرامي لعمرو، وضربي لزيد، فأجرى الفعل مجرى المصدر، وأحسن ما يكون ذلك إذا تقدم المفعول، لأن الفعل إنما يجيء وقد عملت اللام. كما قال الله جل وعز: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} 2. وإن أخر المفعول فهو عربي3 حسن، والقرآن محيط بجميع4 اللغات الفصيحة، قال الله جل وعز: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} 5 والنحويون يقولون في قوله جل ثناؤه: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} 6: إنما هو: ردفكم. وقال كثير:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
وحروف الخفض يبدل بعضها من بعض، إذا وقع الحرفان في معنى في بعض المواضع، قال الله جل ذكره: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 7، أي على ولكن الجذوع إذا أحاطت دخلت في، لأنها للوعاء، يقال: فلان في النخل. أي قد أحاط به. قال الشاعر8:
هم صلبوا العبدي في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
وقال الله جل وعز: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} 9 أي عليه. وقال تبارك وتعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} 10 أي: بأمر الله. وقال ابن الطثرية:
ـــــــ
1 ر: "فإنما".
2 سورة يوسف 43.
3 ر: "فعربي".
4 ر: "بكل".
5 سورة الزمر 12.
6 سورة النحل 72.
7 [طه: 71]
8 هو سويد بن أبي كاهل. اللسان:4:267. وبأجدع. أي بأنف أجدع.
9 سورة الطور 38.
10 سورة الرعد 11.
غدت من عليه تنفض الطل بعدما ... رأت حاجب الشمس استوى فترفعا
وقال الآخر:
غدت من عليه بعدما تم خمسها ... تصل وعن قيض بزيزاء مجهل1
أي من عنده.
وقال العامري2:
إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
وهذا كثير جداً.
وقوله:
وإن أبت فازدلفي إليها
يقول: تقربي، ومن ذا سميت المزدلفة، قال العجاج:
ناج طواه الأين مما وجفا ... طي الليالي زلفاً فزلفا
سماوة الهلال حتى احقوقفا
يقال3: زلفة وزلف، كقولك: غرفة وغرف.
وقوله:
بالكلب خيراً والحماة شرا
كلام معيب عند النحويين، وبعضهم لا يجيزه، وذلك لأنه4 عطف على عاملين: على الباء5 وعلى الفعل. ومن قال هذا قال: ضربت زيداً في الدار، والحجرة عمراً.
قال أبو العباس: وكان أبو الحسن الأخفش يراه ويقرأ: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ
ـــــــ
1 لمزاحم العقيلي في وصف القطا, اللسلن 13:406. وقال في شرحة: "قال ابن السكيت في قولة: "من عليه": من فوقه. يعني من فوق الفرخ. ومعنى: "تصل" ,أي هي يابسة من العطش".
2 حاشية الأصل: "هو القحيف العقيلي".
3 ر: "تقول".
4 ر: "وذاك أنه".
5 ر: "بالباء".
الرِّيَاحِ آيَاتٌ} 1. فعطف على إن وعلى في. وقال عدي بن زيد:
أكل امرئ تحسبين أمرأ ... ونار توقد بالليل نارا
فعطف على كل وعلى الفعل.
وأما قوله:
غدت من عليه بعد ما تم خمسها
فالخمس: ظمء من أظمائها، وهو أن ترد ثم تغب ثلاثاً، ثم ترد، فيبتدأ بيومي وردها مع ظمئها، فيقال: خمس، والربع كحمى الربع.
وقوله: تصل أي تسمع لأجوافها صليلاً من يبس العطش، يقال: المسمار يصل في الباب، إذا أكره فيه، قال جرير يخاطب الزبير بمرثيته في هجائه الفرزدق:
لو كنت حين غررت بين بيوتنا ... لسمعت من وقع الحديد صليلا
ويقال للحمار: المصلصل، إذا أخرج صوته من جوفه حاداً خفياً.
قال الأعشى:
عنتريس تعدو إذا حرك السو ... ط كعدو المصلصل الجوال2
وقال المفسرون في قوله عز وجل: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} 3 [الحجر: 26]، قالوا4: هو الطين الذي قد جف، فإذا قرعه شيء كان له صليل. وتفسير ذلك عند العرب التقن5 الذي يذهب عنه الماء في الغدران فيتشقق ثم ييبس.
والقيض: قشر البيضة6 الأعلى؛ والذي يلبس البيضة فيكون ما بينها وبين قشرها الأعلى، يقال له: الغرقئ، يقال: ثوب كأنه غرقئ البيض7.
والزيزاء: ما ارتفع من الأرض، وهو ممدود منصرف في المعرفة والنكرة، إذا كان لمذكر، كالعلباء والحرباء، وسنذكر هذا في غير هذا الموضع مفسراً، على أنا قد استقصيناه في الكتاب المقتضب.
ـــــــ
1 سورة الجاثية 5. بنصب "آيات". وهي قراءة حمزة والكسائي والباقون بالرفع وانظر الكشاف 4: 225.
2 ديوانه 8 قال في شرحه: "عنتريس: صلبة قوية, أخذه بالعرندسة. إذا أخذه بالجفاء والغلط, والمصلصل: الصافي الصوت: قال: وليس هذا بالوصف الجيد".
3 سورة الحجر 26.
4 ر: "قال".
5 التقن: اسم للطين الذي يذهب عنه الماء.
6 ر: "البيض".
7 ر: "بيض".
والمجهل: الصحراء التي يجهل فيها، فلا يهتدى لسبيلها.
ويقال للشيء إذا غب وتغيرت رائحته، صل واصل، فهو صال ومصل، ويقال: نتن وأنتن. ويقال: خم وأخم، وذاك إذا كان مستوراً حتى يفسد. ويقال إذا عتق اللحم فتغير: خنز وخزن، وبيت طرفة أحسن ما ينشد:
ثم لا يخنز فينا لحمها ... إنما يخنز لحم المدخر
ويقال لرب البيت وربة البيت اللذين ينزل بهما الضيف: هي أم مثواه، وهو أبو مثواه، وأنشد أبو عبيدة:
من أم مثوى كريم قد نزلت بها ... إن الكريم على علاته يسع
وفي كتاب الله جل وعز: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}، معناه عند العرب إضافته.
ومن التشبيه المطرد على ألسنة العرب ما ذكروا في سير الناقة وحركة قوائمها، قال الراجز:
كأنها ليلة غب الأزرق ... وقد مددنا باعها للسوق
خرقاء بين السلمين ترتقي
قوله: ليلة غب الأزرق، إنما يعني موضعاً، وأحسبه ماء، لأنهم يقولون: نطفة زرقاء، وهي الصافية، قال زهير:
فلما وردنا الماء زرقاً جمامه ... وضعن عصي الحاضر المتخيم1
وقال آخر:
فألقت عصا التسيار عنها وخيمت ... بأرجاء عذب الماء زرق محافر
وقوله:
وقد مددنا باعها للسوق
ـــــــ
1 ديوانه 13: الجمام: ما أجتمع من الماء الواحدة جم وجمة, وضعن. أي أقمن, والحاضر. الذين حضروا الماء. والمتخيم. المقيم من شرح الديوان.
يقول: استفرغنا ما عندها في1 السير، يقال: تبوعت وانباعت، إذا مدت باعها.
وقوله:
خرقاء بين السلمين ترتقي
يقول: لكثرة حركة الخرقاء وقلة حذقها بالصعود.
وقال الآخر:
كأنها نائحة تفجع ... تبكي بشجو وسواها الموجع2
وقال الشماخ:
كأن ذراعيها ذراعا مدلة ... بعيد السباب حاولت أن تعذرا3
من البيض أعطافاً إذا اتصلت دعت ... فراس بن غنم أو لقيط بن يعمرا4
بها شرق من زعفران وعنبر ... أطارت من الحسن الرداء المحبرا5
تقول وقد بل الدموع خمارها ... أبى عفتي ومنصبي أن أعيرا
كأن بذفراها مناديل قارفت ... أكف رجال يعصرون الصنوبرا
كأن ابن آوى موثق تحت غرضها ... إذا هو لم يكلم بنابيه ظفرا
شبه يديها بيدي مدلة بجمال ومنصب قد سابت وأقبلت تعتذر وتشير بيديها، فوصف جمالها الذي به تدل؛ ومنصبها المتصل بمن ذكرته.
وقوله:
أطارت من الحسن الرداء المحبرا
ـــــــ
1 ر: "من السير".
2 ر: "لشجو".
3 ديوانه 29. قال في شرح الديوان: شبه ذراعيها وهيي تتذرع في سيرها بذراعي امرأة مدلة أهلها ببراءة ساحتها وقوله: "بعيد السباب". أي في عقب المسابة قامت تعتذر إلى الناس".
4 قال في شرح الديوان: "البيض: جمع بيضاء. وهي نقية العرض من الدنس. والأعطاف: الجوانب واتصلت: انتسبت, وفراس: رجل عزيز. بالفتح. وهو ابن تغلب. ولقيط بن يعمر رجل أيضا عزيز. و:أو" بمعنى الواو. أي أنها شريفة النسب. فهي لا تقصر عن نفي ما رميت به".
5 الديوان: "لها شرق". والشرق: الضمح. وأطارت: رميت. والمحبر: المزين. أي أنها مدلة بجمالها فلا تختمر فتستر شيئا عن الناظر, لأنها تبتهج بكل ما في وجهها ورأسها. "من شرح الديوان".
=
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق