اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 مايو 2022

مجلد 1 ومجلد 2. من كتاب : الكامل في اللغة والأدب محمد بن يزيد المبرد


مجلد 1 من كتاب : الكامل في اللغة والأدب محمد بن يزيد المبرد  
 
المجلد الأول 
 باب وصف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصار
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصار1 في كلام جرى: "إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع".
الفزع في كلام العرب على وجهين: أحدهما ما تستعمله العامة تريد به الذعر، والآخر الاستنجاد والاستصراخ، من ذلك قول سلامة بن جندل:
كنا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
يقول: إذا أتانا مستغيثٌ كانت إغاثته الجد في نصرته،يقال: قرع لذلك الأمر ظنبوبه إذا جد فيه ولم يفتر، ويشتق من هذا المعنى أن يقع" فزع" في معنى" أغاث" كما قال الكلحبة اليربوعي:
2"قال أبو الحسن: الكلحبة لقبه، واسمه هبيرة، وهو من بني عرين بن يربوع، والنسب إليه عريني، وكثير من الناس يقول: عرني ولا يدري، وعرينة من اليمن: قال جرير يهجو عرين بن يربوع:
عرين من عرينة ليس منا ... برئت إلى عرينة من عرين2
فقلت لكأسٍ ألجميها فإنما ... حللت الكثيب من زرود لأفزعا3
يقول: لأغيث. وكأس: اسم جارية، وإنما أمرها بإلجام فرسه ليغيث. والظنبوب: مقدم الساق.
ـــــــ
1 جماعة منهم ، وهم بنو عبد الأشهل، من ولد عمرو بن مالك بن أوس "وانظر الفائق للزمخشري 274: 2"
2 مابين الرقمين لم يرد في الأصل، وأثبتناه عن ر.
3 زرود: موضع في طريق الحاج من الكوفة. والكثيب: القطعة من الرمل، مستطيلة محدودة.
حديث: "ألا أخبركم بأحبكم إلي..."
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطأون أكنافاً،الذين يألفون ويؤلفون،ألا أخبركم بأبغضكم إلي وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة؟ الثرثارون المتفيهقون".
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الموطأون أكنافاً" مثل، وحقيقته أن التوطئة هي التذليل والتمهيد، يقال: دابة وطيء، يا فتى، وهو الذي لا يحرك راكبه في مسيره، وفراش وطيء إذا كان وثيراً لا يؤذي جنب النائم عليه، فأراد القائل بقوله: " موطأ" الأكناف" أن ناحيته يتمكن فيها صاحبها غير مؤذى، ولا ناب به موضعه.
قال أبو العباس: حدثني العباس بن الفرج الرياشي قال: حدثني الأصمعي قال: قيل لأعرابي وهو المنتجع بن نبهان1 ما السميدع؟ فقال: السيد الموطأ الأكناف.
وتأويل الأكناف الجوانب، يقال: في المثل: فلان في كنف فلان، كما فلان في ظل فلان، وفي ذرى فلان، وفي ناحية فلان2، وفي حيز فلان.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الثرثارون" يعني الذين يكثرون الكلام تكلفاً وتجاوزاً، وخروجاً عن الحق. وأصل هذه اللفظة من العين الواسعة من عيون الماء، يقال: عينٌ ثرثارةٌ. وكان يقال لنهرٍ بعينه: الثرثار3، وإنما سمي به لكثرة مائه، قال الأخطل: 4
لعمري لقد لاقت سليمٌ وعامرٌ ... على جانب الثرثار راغية البكر
قوله: " راغية البكر" أراد أن بكر ثمود رغا فيهم فأهلكوا،فضربته العرب مثلاً، وأكثرت فيه،قال علقمة بن عبدة الفحل:
رغا فوقهم سقب السماء فداحضٌ ... بشكته لم يستلب وسليب5
ـــــــ
1 من طيىء؛ ذكره الزبيدي في الطبقة الأولى من اللغويين البصريين ص 175.
2 تكملة من ر.
3 الثرثار: موضع عند تكريت.
4 زيادات ر: "واسمه غياث بن غوث، يكنى أبا مالك، ويلقب بدوبل، والدوبل: الخنزير"، وكذلك في س.
5 زيادات ر: "السقب: ولد الناقة، والشكة: مايلبس من السلاح، والسليب: من سلب سلاحه".
[قال أبو الحسن: الداحض: الساقط والداحض أيضاٌ: الزا لق].
وكذلك إذا لم تضعف الثاء فقلت: عينٌ ثرةٌ، فإنما معناها غزيرة واسعة، قال عنترة:
جادت عليها كل عين ثرةٍ ... فتركن كل حديقةٍ كالدرهم1
قال أبو العباس: وليست الثرة عند النحويين البصريين من لفظة الثرثارة، ولكنها في معناها2.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المتفيهقون" إنما هو بمنزلة قوله: "الثرثارون" توكيد له، ومُتَفَيْهِق متفيعل، من قولهم: فهق الغدير يفهق إذا امتلأ ماءٌ فلم يكن فيه موضع مزيد، كما قال الأعشى:
نفى الذم عن رهط المحلق جفنةٌ ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
كذا ينشده أهل البصرة، وتأويله عندهم أن العراقي إذا تمكن من الماء ملأ جابيته لأنه حضري فلا يعرف مواقع الماء ولا محاله.
قال أبو العباس: وسمعت أعرابية تنشد قال أبو الحسن: هي أم الهيثم الكلابية من ولد المحلق، وهي راوية أهل الكوفة: "كجابية السيح" تريد النهر الذي يجري على جانبية، فماؤها لا ينقطع، لأن النهر يمده.ومثل قول البصريين فيما ذكروا به" العراقي الشيخ "قول الشاعر قال أبو الحسن: " هو ذو الرمة":
لها ذنب ضاف وذفرى أسيلة ... وخد كمرآة الغريبة أسجح3
يقول: إن الغريبة لا ناصح لها في وجهها، لبعدها عن أهلها، فمرآتها أبداً مجلوة، لفرط حاجتها إليها.
ـــــــ
1 قال في اللسان: "الحديقة من الرياض: كل أرض استدارات وأحدق بها حاجز، او أرض مرتفعة". وفي رواية التبريزى "شرح المعلقات 108": "كل قرارة كالدرهم".
2 س، وحواشى ر: "ويجب أن يكون من الثرة ثرارة".
3 ديوانه 88. والذفرى: الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن. وفي الديوان: "لها أذن حشر". والأذن الحشر: المحددة.
وتصديق ما فسرناه من قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يريد الصدق في المنطق والقصد،وترك ما لا يحتاج إليه، قوله لجرير بن عبد الله البجلي: "يا جرير، إذا قلت فأوجز،وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف".
كلمة أبو بكر في مرضه لعبد الرحمن بن عوفقال أبو العباس: ومما يؤثر من حكيم الأخبار، وبارع الآداب، ما حدثنا به عن عبد الرحمن بن عوف وهو أنه قال: دخلت يوماً على أبي بكر الصديق رحمة الله عليه في علته التي مات فيها، فقلت له: أراك بارئاً يا خليفة رسول الله، فقال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي. إني وليت أموركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتخذن نضائد الديباج، وستور الحرير، ولتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان، والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا.يا هادي الطريق جرت، إنما هو والله الفجر، أو البحر. فقلت: خفض عليك يا خليفة رسول الله، فإن هذا يهيضك إلى ما بك، فوالله ما زلت صالحاً مصلحاً، لا تأس على شيء فاتك من أمر الدنيا، ولقد تخليت بالأمر وحدك فما رأيت إلاخيراً.
قوله: "نضائد الديباج" واحدتها نضيدة، وهي الوسادة وما ينضد من المتاع، قال الراجز:
وقربت خدامها الوسائدا ... حتى إذا ما علوا النضائدا
سبحت ربي قائما ًو قاعداً
وقد تسمي العرب جماعة ذلك النضد، والمعنى واحد، إنما هو ما نضد في البيت من متاع، قال النابغة:
ورفعته إلى السجفين فالنضد1
ـــــــ
1 ديوانه 24، وصدره:
خلت سبيل أتى كان يحبسه
ويقال: نضدت المتاع إذا ضممت بعضه إلى بعض،فهذا أصله، قال الله تبارك وتعالى: {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} 1 ، وقال: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} 2 ويقال: نضدت اللبن على الميت.
وقوله:" على الصوف الأذربي" فهذا منسوب إلى اذربيجان، وكذلك تقول العرب، قال الشماخ:
تذكرتها وهناً وقد حال دونها ... قرى أذربيجان المسالح والجال3
وقوله: "على حسك السعدان" ، فالسعدان نبت كثير الحسك تأكله الإبل فتسمن عليه، ويغذوها غذاءً لايوجد في غيره، فمن أمثال العرب: "مرعى ولا كالسعدان "تفضيلاً له، قال النابغة:
الواهب المائة الأبكار زينها ... سعدان توضح في أو بارها اللبد4
ويروى في بعض الحديث "أنه يؤمر بالكافر يوم القيامة فيسحب على حسك السعدان"، والله أعلم بذلك.
قال أبو الحسن: السعدان: نبت كثير الشوك- كما ذكر أبو العباس- ولا ساق له، إنما هو منفرش على وجه الأرض، حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني عن ابن الأعرابي، قال: قيل لرجل من أهل البادية- وخرج عنها: أترجع إلى البادية ? فقال: أما ما دام السعدان مستلقياً فلا. يريد أنه لا يرجع إلى البادية أبداً، كما أن السعدان لا يزول عن الاستلقاء أبداً.
ـــــــ
1 سورة ق 10.
2 سورة الواقعة 29، 30.
3 المسالح: مواضع المخافة، والجال، ضبطت في الأصل بالفتحة والكسرة، وكذلك في إحدى النسخ التي قابل بها "ريط" نسخته. وقال المرصفى: "الجال: اسم لجماعة الخيل والإبل، أضاف أذربيجان إليهما إشعارا بأنها مملوءة بهما". وانظر ديوان الشماخ 117، ومعجم البلدان 159: 1، واللسان "سلح"، وتاج العروس"ذرب"، والمعرب للجواليقى36.
4 توضح: من قرى اليمامة.
وقال أبو علي البصير واسمه الفضل بن جعفر، وإن لم يكن بحجة، ولكنه أجاد فذكرنا شعره هذا لجودته لا للاحتجاج به يمدح عبيد الله بن يحيى بن خاقان وآله فقال:
يا وزراء السلطان ... أنتم وآل خاقان
كبعض ما روينا ... في سالفات الأزمان
ماء ولا كصدى ... مرعى ولا كالسعدان
وهذه الأمثال ثلاثة، منها قولهم: "مرعى ولا كالسعدان"،و" فتى ولا كمالك"،و"ماء ولا كصدى"، تضرب هذه الأمثال للشيء الذي فيه فضل وغيره أفضل منه، كقولهم: "ما من طامة إلا فوقها طامة"، أي ما من داهية إلا وفوقها داهية، ويقال: طما الماء وطم إذا إرتفع وزاد.
ومالك الذي ذكروا هو مالك بن نويرة، أخو متمم بن نويرة.
" وصداء يمد، وبعضهم يقول: صدى، فيضم أوله ويقصر، فأما أبو العباس محمد بن يزيد، فإنه قال: لم أسمع من أصحابنا إلا صدءاء يا فتى، وهو اسم لماء، معرفة، وهما همزتان بينهما ألف، والألف لا تكون إلا ساكنة، كأنك قلت: صدعاع يا هذا1.
وقوله: "إنما هو والله الفجر أو البجر" يقول: إن انتظرت حتى يضيء لك الفجر الطريق أبصرت قصدك. وإن خبطت الظلماء، وركبت العشواء هجما بك على المكروه، وضرب ذلك مثلاً لغمرات الدنيا، وتحييرها أهلها.
وقوله: "يهيضك" مأخوذ من قولهم: هيض العظم إذا جبر ثم أصابه شيء يعنته فآذاه فكسره ثانية، أو لم يكسره، وأكثر ما يستعمل في كسره ثانية، ويقال: عظم مهيض، وجناح مهيض في هذا المعنى: ثم يشتق لغير ذلك، وأصله ما ذكرت لك، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما كسر يزيد بن المهلب
ـــــــ
1 مابين العلامتين لم يرد في الأصل، وأثبتناه عن ر، س.
سجنه وهرب، فكتب إليه: لو علمت أنك تبقى ما فعلت، ولكنك مسموم، ولم أكن لأضع يدي في يد إبن عاتكه1. فقال عمر: اللهم إنه قد هاضني فهضه. فهذا معناه.
وقوله: "فكلكم ورم أنفه"، يقول: امتلأ من ذلك غضباً، وذكر أنفه دون السائر كما بقال: فلان شامخ بأنفه، يريد رافع، وهذا يكون من الغضب كما قال الشاعر:
ولا يهاج إذا ما أنفه ورما
أي لايكلم عند الغضب، ويقال للمائل برأسه كبرا: متشاوس، وثاني عطفه، وثاني جيده، إنما هذا كله من الكبرياء. قال الله عز وجل: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 2: وقال الشامخ3:
نبئت أن ربيعاً أن رعى إبلاً ... يهدي إلي خناه ثاني الجيد
وقوله: "أراك بارئاً يا خليفة رسول الله"4 يكون من برئت من المرض وبرأت، كلاهما يقال: فمن قال برئت يقول: أبرأ5 يافتى لا غير، ومن قال: برأت قال في المضارع: أبرأ وأبرؤ، يا فتى، مثل فرغ ويفرغ. والآية تقرأ على وجهين: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} 6، الرحمن: 31، و{سَنَفْرُغُ} : والمصدر فيهما" البرء" يا فتى.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو يزيد بن عبد الملك بن مروان، وأمه عاتكه بنت يزيد بن معاوية، ولى الملك بعد عمر بن عبد العزيز، ولا يعلم أحد أعرق في الخلافة منه".
2 سورة الحج9.
3 زيادات ر: "يهجو الربيع بن علياء السلمى".
4 ر، س: "يا خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
5 ر، س: "قال".
6 الرحمن 31.
عهد أبي بكر بالخلافة إلى عمرومما روي لنا عنه رضي الله عنه حيث عهد عند موته وهو: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عند آخر عهده بالدنيا، وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر، ويتقي فيها الفاجر. إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل
فذلك علمي به، ورأيي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرىء ما اكتسب، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: من الآية227] .
نصب" أي" بقوله: " ينقلبون"، ولا يكون نصبها ب" سيعلم" لأن حروف الاستفهام إذا كانت أسماء امتنعت مما قبلها كما يمتنع ما بعد الألف من أن يعمل فيه ما قبله،وذلك1 قولك: "علمت زيداً منطلقاً" فإن أدخلت الألف قلت: "علمت أزيد منطلق أم لا" فأي بمنزلة زيد الواقع بعد الألف، ألا ترى أن معناها: أذا أم ذا. وقال الله عز وجل: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} 2 لأن معناها: أهذا أم هذا? وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً} 3 على ما فسرت لك، وتقول: أعلم أيهم ضرب زيداً، وأعلم أيهم ضرب زيد، تنصب أيا ب" ضرب" لأن" زيداٌ" فاعل،فإنما هذا لما بعده، وكذلك ما أضيف إلى اسم من هذه الأسماء المستفهم بها، نحو: قد علمت غلام أيهم في الدار، وقد عرفت غلام من في الدار، وقد علمت غلام من ضربت، فتنصبه بـ"ضربت" فعلى هذا مجرى الباب.
ـــــــ
1 ر، س: "وذلك نحو قولك".
2 الكهف 12.
3 الكهف: 19.
أول خطبة خطبها عمر بن الخطابومما يؤثر من هذه الآداب ويقدم قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في أول خطبة خطبها حدثنا العتبي قال: لم أر أقل منها في اللفظ، ولا أكثر في المعنى حمد الله وأثنى عليه وأهله، وصلى على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال:
أيها الناس، إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له،ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه.
ثم نزل. وإنما حسن هذا القول مع ما يستحقه من قبل الاختيار، بما عضده به من الفعل المشاكل له:
1"قال أبو الحسن: قد روينا هذه الخطبة التي عزاها إلى عمر بن الخطاب عن أبي بكر رضي الله عنهما، وهو الصحيح"1.
ـــــــ
"1-1" لم يرد في الأصل، وأثبتناه عن ر، س.
رسالة عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعريقال أبو العباس: ومن ذلك رسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري وهي التي جمع فيها جمل الأحكام، واختصرها بأجود الكلام،و جعل الناس بعده يتخذونها إماماً،ولا يجد محق عنها معدلاٌ، ولا ظالم عن حدودها محيصاٌ، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس بوجهك1، وعدلك، ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاٌ أحل حراماٌ، أو حرم حلالاٌ. لا يمنعنك قضاءٌ قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديمٌ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنةٍ،ثم اعرف الأشباه والأمثال،فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمدا ينتهي إليها فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك، وأجلى للعمى، المسلمون عدولٌ بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد، ومجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ بالبينات والإيمان. وإياك والغلق والضجر، والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق ليعظم2 الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته، وأقبل على نفسه كفاه الله بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام.
ـــــــ
1 ر، س: "في وجهك".
2 ر س: "يعظم".
قال أبو العباس: قوله: "آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك"، يقول: سو بينهم، وتقديره: اجعل بعضهم أسوة بعضٍ، والتأسي من ذا أن يرى ذو البلاء من به مثل بلائه فيكون قد ساواه فيه، فيسكن ذلك من وجده، قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس
تقول: أذكره في أول النهار للغارة، وفي آخره للضيفان. وتمثل مصعب بن الزبير يوم قتل بهذا البيت:
وإن الألى بالطف من آل هاشم ... تآسوا فسنوا للكرام التآسيا1
وقوله"حتى لا يطمع شريف في حيفك" يقول: في ميلك معه لشرفه. وقوله: "فيما تلجلج في صدرك" يقول: تردد،وأصل ذلك المضغة والأكلة يرددها الرجل في فيه فلا تزال تتردد إلى أن يسيغها أو يقذفها، والكلمة يرددها الرجل إلى أن يصلها بأخرى، يقال للعيي: لجلاج، وقد يكون من الآفة تعتري اللسان، قال زهير:
تلجلج مضغة فيها أنيضٌ ... أصلت، فهي تحت الكشح داء
وقوله: "أنيضٌ" أي لم تنضج2. ومن أمثال العرب: الحق أبلج والباطل لجلج،أي يتردد فيه صاحبه فلا يصيب مخرجا.
وقوله: "أو ظنيناٌ في ولاءٍ أو نسب، "فهو المتهم، وأصله" مظنون" وهي ظننت التي تتعدى إلى مفعول واحد، تقول: ظننت بزيد، وظننت زيداًٌ، أي اتهمت، ومن ذلك قول الشاعر، أحسبه عبد الرحمن بن حسان:
فلا ويمين الله ما عن جناية ... هجرت، ولكن الظنين ظنين 3
ـــــــ
1 البيت في الأغاني"17-165" ونسبه إلى سليمان بن قتة، وهو أيضا في اللسان"أسا" من غير نسبة. قال ابن برى: "وتآسوا، من المؤاساة، كما ذكر الجوهرى، لامن التأسي كما ذكر المبرد".
2 كذا ذكره المبرد، وهو يوافق ما في شرح الديوان، وفي اللسان "أنض": "فيها أنيض اى تغير" واستشهد بالبيت، وهو الأوفق.
3 البيت في اللسان "ظن"، ونسبه أيضا إلى عبد الرحمن بن حسان، ثم ذكر أن ابن برى نسبه إلى نهار بن توسعة.
وفي بعض المصاحف: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} 1 وإنما قال عمر رضي الله عنه ذلك لما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ملعون ملعون من انتمى إلى غير أبيه، أو ادعى إلى غير مواليه" ، فلما كانت معه الإقامة على هذا لم يرى للشهادة موضعاً.
وقوله: " ودرأ بالبينات والأيمان" إنما هو دفع، من ذلك قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إدرأوا الحدود بالشبهات" ، وقال الله عز وجل: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 وقال: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} 3 أي تدافعتم.
وأما قوله: "وإياك والغلق والضجر" فإنه ضيق الصدر، وقلة الصبر، يقال في سوء الخلق: رجل غلق، وأصل ذلك من قولهم4: غلق الرهن أي لم يوجد به تخلص وأغلقت الباب من هذا، قال زهير:
وفارقتك برهنٍ لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
وقوله: "ومن تخلق للناس"، يقول: أظهر للناس في خلقه خلاف نيته.
وقوله: "تخلق" يريد أظهر5 مثل تجمل يريد أظهر جمالاً وتصنع، وكذلك تجبر، إنما تأويله الإظهار، أي أظهر جبرية، وإن شئت جبروتاً، وإن شئت جبروتي "وإن شئت جبروة" 6 . ومن كلام العرب على هذا الوزن: رهبوتى خير لك من رحموتى، أي" 7ترهب خير لك من أن ترحم7". قال أبو العباس وأنشدونا عن أبي زيد8:
ـــــــ
1 التكوير: 24، وهو مصحف عبد الله بن مسعود، "وانظر الكشاف".
2 سورة آل عمران: 168.
3 سورة البقرة: 72.
4 ر: "واصل ذلك من قولهم: أغلق عليه أمره إذا لم يتضح ولم ينفتح، من ذلك قولهم: غلق الرهن...".
5 ر، س: "أظهر خلقا".
6 تكملة من ر.
7 ر، س "لأن ترهب خير لك من أن ترحم".
8 زيادات س: "الشعتر لسالم بن وابصة الأسدى".
يا أيها المتحلي غير شيمته ... إن التخلق يأتي دونه الخلق1
ولا يؤاتيك في ما ناب من حدث ... إلا أخو ثقة فأنظر بمن تثق
قال: وأنشدتني أم الهيثم الكلابية:
ومن يتخذ خيماُ سوى خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها2
وقال ذو الإصبع العدواني3:
كل إمرىء راجع يوماً لشيمته ... وإن تمتع أخلاقاًإلى حين
وأما قوله: "ثواب"، فاشتاقه من ثاب يثوب إذا رجع، وتأويله ما يثوب إليك من مكافأة الله وفضله.
ـــــــ
1 الشعر في ر هكذا:
يأيها المتحلى غير شميته ... ومن سجيته الإدغال والملق
دع التخلق يبعد عنك أوله ... إن التخلق يأتي دونه الخلق
ولا يؤاتيك فيما ناب من حدث ... إلا خو ثقة، فانظر بمن تثق
وانظر رواية الأبيات في ديوان الحماسة 236: 2-بشرح التبريزى.
2 البيت في اللسان "خيم" من غير نسبة.
3 زيادات ر: "ذو الإصبع اسمه حرثان بن الحارث بن محرث، وقيل له ذو الإصبع؛ لأن أفعى نهشت إصبعة".
كتاب عثمان إلى عليبن أبي طالب حين أحيط بهوكتب عثمان بن عفان إلى علي رحمه الله1 حين أحيط به:
أما بعد،فإنه قد جاوز الماء الزبى وبلغ الحزام الطبيين، وتجاوز الأمر بي قدره، وطمع في من لا يد فع عن نفسه:
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق2
قوله: "قد جاوز الماء الزبى" فالزبية مصيدة الأسد، ولا تتخذ إلا في قلة أو رابية أو هضبة، قال الراجز3:
كاللذ تزبى زبية فاصطيدا
ـــــــ
1 ر: "على بن ابي طالب رحمهما الله"، س: "على بن ابي طالب رضي الله عنهما".
2 البيت للممزق العبدى، واسمه شأس بن نهار، "وانظر المؤتلف والمختلف للآمدى 185".
3 قبله في زيادات ر:
فأنت والأمر الذي قد كيدا
وقال الطرماح:
ياطييىء السهل والأجبال1، موعدكم ... كمبتغى الصيد أعلى زبية الأسد
وتقول العرب: "قد علا الماء الزبى"، و"قد بلغ السكين العظم" و"بلغ الحزام الطبيين" و"قد انقطع السلى في ا لبطن".
فالسلى من المرأة والشاة ما يلتف فيه الولد في البطن، قال العجاج:
فقد علا الماء الزبى فلا غير
أي: قد جل الأمر عن أن يغير ويصلح.
وقوله" وبلغ الحزام الطبيين، فإن السباع والخيل يقال لموضع الأخلاف منها: أطباء يا فتى، وأحدها طبي كما يقال في الظلف والخف: خلفٌ، هذا مكان هذا فإذا بلغ الحزام الطبيين فقد انتهى في المكروه، ومثل هذا من أمثالهم: "التقت حلقتا البطان"2: ويقولون: "التقت حلقتا البطان والحقب"3 ويقال: حقب البعير إذا صار الحزام في الحقب4، قال الشاعر5:
إذا ما حقب جال ... شددناه بتصدير
وقال أوس بن حجر:
وازدحمت حلقتا البطان بأق ... وام وطارت نفوسهم جزعا
وتمثله بالبيت يشاكل قول القائل:
فإن أك مقتولاً فكن أنت قاتلي ... فبعض منايا القوم أكرم من بعض
ـــــــ
1 أجبال طيىْ: أجا وسلمى والعوجاء.
2 البطان: حزام الرحل.
3 من ر، س.
4 الحقب: حزام يشد به رجل البعير.
5 ر: " قال أبو بكر: هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وأوله:
سليمى تلك في العير ... قفى إن شئت أو سيرى
فلما أن بدا الصبح ... بأصوات العصافير
خرجنا نبتغي الصيد ... بأمثال اليعافير
إذا ما حقب جال ... شددناه بتصدير
زجرنا العيس فارمدت ... بإهذاب وتشمير
عتاب عثمان علي بن أبي طالبويروى عن قنبر مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: دخلت مع علي بن أبي طالب على عثمان بن عفان رضي الله عنهما، فأحبا الخلوة، فأومأ إلي علي بالتنحي، فتنحيت غير بعيدٍ فجعل عثمان يعاتب عليا وعلي مطرق، فأقبل عليه عثمان فقال: ما بالك لا تقول: فقال: إن قلت لم أقل إلا ما تكره، وليس لك عندي إلاما تحب.
تأويل ذلك: إن قلت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به علي فلذعك عتابي، وعقدي ألا أفعل" وإن كنت عاتباً إلا ما تحب.
خطبة علي بن أبي طالب حينبلغه قتل عامله حسان بن حسانوتحدث ابن عائشة في إسناد ذكره أن علياً رحمه الله انتهى إليه أن خيلاً لمعاوية وردت الأنبار، فقتلوا عاملاً له يقال له: حسان بن حسان، فخرج مغضباً يجر ثوبة حتى انتهى1 إلى النخيلة، واتبعه الناس، فرقي رباوة من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال:
أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل، وسيما الخسف، وديث بالصغار. وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم: اغزوهم من قبل أن يغزوكم، فو الذي نفسي بيده ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا. فتخاذلتم وتواكلتم، وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهرياً، حتى شنت عليكم الغارات. هذا أخوغامد، قد وردت خيله الأنبار، وقتلوا حسان بن حسان، ورجالاً منهمكثيراً ونساءً والذي نفسي بيده لقد بلغني أنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة، فتنتزع أحجالهما ورعثهما ثم إنصرفوا موفورين لم يكلم منهم أحد كلما. فلو أن امرأ مسلماً مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي فيه ملوماً، بل كان عندي به جديراً. ياعجباً كل العجب [عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الأحزان]2 من تضافر
ـــــــ
1 ر: "حتى أتي النخيلة"، والنخيلة: موضع قرب الكوفة.
2 من ر.
هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقكم، حتى أصبحتم غرضاً ترمون ولا ترمون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله عز وجل فيكم وترضون. إذا قلت لكم: اغزوهم في الشتاء قلتم: هذا أوان قر وصر، ةإن قلت لكم: إزوهم في الصيف قلتم: هذه حمارة القيظ، إنظرنا ينصرم الحر عنا. فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون، فإنتم من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال ولا طغام الأحلام، ويا عقول ربات الحجال، والله لقد أفسدتم علي رأيي بالعصيان، ولقد ملأتم جوفي غيظا، حتى قالت قريش: ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لارأي له في الحرب. لله درهم ومن ذا يكون أعلم بها مني، أو أشد لها مراساً فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ولقد نيفت اليوم على الستين. ولكن لا رأي لمن لا يطاع يقولها ثلاثاً فقام إليه رجل ومعه أخوه1، فقال: ياأمير المؤمنين، أنا وأخي هذا كما قال الله عز وجل: {رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} 2 فمرنا بأمرك، فوالله لننتهين إليه، ولو حال بيننا وبينه جمر الغضا، وشوك القتاد. فدعا لهما بخير، ثم قال: وأين تقعان مما أريد ثم نزل.
قال أبو العباس: قوله: "سيما الخسف"، قال: هكذا حدثوناه، وأظنه"سيم الخسف" يا هذا، من قول الله عز وجل: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} 3 ومعنى قوله: سيما الخسف تأويله علامة، هذا أصل ذا، قال الله عز وجل: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} 4 ، وقال عز وجل: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} 5
ـــــــ
1 زيادات ر: "الرجل وأخوه يعرفان بابني عفيف من الأنصار" وفي حاشية الأصل: "هو جندب بن عفيف، وأخوه من الأزد".
2 سورة المائدة 25.
3 سورة البقرة 49.
4 سورة الفتح 29.
5 سورة الرحمن 41.
وقال أبو عبيدة في قوله عز وجل: {مُسَوِّمِينَ} 1" قال: معلمين2 واشتقاقه من السيما التي ذكرنا. ومن قال: {مُسَوِّمِينَ} ، فإنما أراد مرسلين: من الإبل السائمة: أي المرسلة في مراعيها، وإنما أخذ هذا من التفسير. قال المفسرون في قوله تعالى: " {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} 3، القولين جميعاً، مع العلامة والإرسال، وأما في قوله عز وجل: {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} 4 فلم يقولوا فيه إلا قولاً واحداً، قالوا: "معلمة"، وكان عليها أمثال الخواتيم، ومن قال: "سيما" قصر. ويقال في هذا المعنى: سيمياء، ممدود،قال الشاعر5:
غلام رماه الله بالحسن يافعاً ... له سيمياء لا تشق على البصر6
وقوله رحمه الله: "وقتلو حسان بن حسان"، من أخذ حساناً من الحسن صرفه لأن وزنه فعال فالنون منه في موضع الدال من حماد، ومن أخذه من الحس لم يصرفه لأنه حينئذ فعلان فلا ينصرف في المعرفة، وينصرف في النكرة، لأنه ليست له" فعلى "فهو بمنزلة سعدان وسرحان.
وقوله: "ديث بالصغار"، تأويله: ذلل، يقال للبعير إذا ذللته الرياضة: بعير مديث، أي مذلل.
وقوله: "في عقر دارهم"، أي في أصل دارهم، والعقر: الأصل، ومن ثم قيل: لفلان عقار، أي أصل مال، ويروى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من باع داراً أو عقاراً فلم يردد ثمنه في مثله فذلك مال قمن ألا يبارك [له] 7 فيه". وقوله: قمن يريد: خليق، ويقال أيضاً: قمين وقمن.
ـــــــ
1 سورة آل عمران 125.
2 المعلم، بكسر اللام: الفارس الذي أعلم مكانه في الحرب بعلامة أعلم بها نفسه.
3 سورة آل عمران 14.
4 سورة هود 82، 83.
5 زيادات ر: "وهو ابن عنقاء الفزارى في عملية الفزارى".
6 بعده في زيادات ر:
كأن الثريا علقت في جبينه ... وفي أنفه الشعرى وفي جيده القمر
7 من س.
[قال أبو الحسن: من قال: قمن لم يثن ولم يجمع، ومن قال: قمن وقمين ثنى وجمع]1.
ويقال للرجل إذا إتخذ ضيعة، أو داراً: تأثل فلان، أي إتخذ أصل مال.
وقوله: "وتواكلتم": إنما هو مشتق من وكلت الأمر إليك ووكلته إلي أنت2 أي: لم يتوله واحد منا دون صاحبه، ولكن أحال به كل واحد منا على الأخر، ومن ذالك قول الحطيئة:
فلأيا قصرت الطرف عنهم بجسرةٍ ... أمون إذا واكلتها لا تواكل3
وقوله: "واتخذتموه ورائكم ظهرياً"، أي رميتم به وراء ظهوركم، أي لم تلتفتوا إليه، يقال4 في المثل: "لا تجعل حاجتي منك بظهرٍ"، أي لا تطرحها غير ناظر إليها.
وقوله: "حتى شنت عليكم الغارات"، يقول: صبت، يقال: شننت الماء على رأسه، أي صببته، وشننت الشراب في الإناء أي صببته، ومن كلام العرب: فلما لقي فلان فلانا شنه السيف، أي صبه عليه صبا.
وقوله: "هذا أخو غامد، فهو رجل مشهور من أصحاب معاوية، من بني غامد بن نصر بن الأزد بن الغوث، وفي هذه القبيلة يقول القائل5:
ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد
تمنيتم مائتي فارس ... فردكم فارس واحد
فليت لنا بارتباط الخيو ... ل ضأنا ًلها حالب قاعد
وقوله: "فتنتزع أحجالهما"، يعنى الخلاخيل، واحدها حجل، ومن هذا قيل للدابة: محجل، ويقال للقيد: حجل، لأنه يقع في ذلك الموضع، قال جرير،
ـــــــ
1 من ر.
2 من ر.
3 الجسرة: الناقة الماضية في سيرها، والأمون: الوثيقة الخلق. ورواية ديوانه 98: "ذلول".
4 ر: "ويقال".
5 زيادات ر: "هو ربيعة بن مكدم".
يعير الفرزدق حين قيد فرسه، وأقسم ألايحلها حتى يحفظ القرآن، فلما هاجى جرير البعيث هجا الفرزدق1 جريراً معونةً للبعيث، وذبا عن عشيرته، فقال جرير:
ولما اتقى القين العراقي باسته ... فرغت إلى العبد المقيد في الحجل2
معنى فرغت عمدت، قال الله عز وجل: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} 3 أي سنعمد4 . وقوله: "ورعثهما" الواحدة رعثة، وجمعها الجمع رعث وهي الشنوف.
وقوله: "ثم انصرفوا موفورين" من الوفر، أي لم ينل أحد منهم بأن يرزأ في بدن ولا مال، يقال موفور، وفلان ذو وفر: أي ذو مال، ويكون موفوراً في بدنه إذا ذكر ما أصيب به غيره في بدنه، قال حاتم الطائي:
وقد علم الأقوام لو أن حاتماً ... أراد المال أمسى له وفر
ويروى:" كان له وفر".
وقوله: "لم يكلم أحد منهم كلماً" . ويقول: لم يخدش أحد منهم خدشاً، وكل جرح صغر أو كبر فهو كلم، قال جرير:
تواصلت الأقوام من تكرمها قريش ... برد الخيل دامية الكلوم
وقوله: "مات من دون هذا أسفاً"، يقول: تحسراً، فهذا موضع ذا و"قد"5 يكون الأسف الغضب، قال الله عز وجل: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} 6 والأسيف يكون الأجير ويكون الأسير فقد قيل في بيت الأعشى:
أرى رجلا ًمنهم أسيفاً كأنما ... يضم إلى كشحيه كفاً مخضبا
ـــــــ
1 من ر.
2 زيادات ر: "يعني بقوله: "ولما اتقى القين العراقى باسته" البعيث، وسماه القين لأنه من رهط الفرزدق".
3 سورة الرحمن 24.
4 زيادات ر: "تميم تقول: فرغ يفرغ[ بفتح الراء فيهما] فراغا، وأهل العالية-وهم قريش ومن والاها- يقولون فرغ يفرغ [بالضم فيهما] فروغا".
5 من ر .
6 سورة الزخرف55.
المشهور أنه من التأسف لقطع يده، وقيل: بل هو أسير قد كبلت يده،ويقال: قد جرحها الغل، والقول الأول هو المجتمع عليه، ويقال في معنى أسيف عسيف أيضاً.
وقوله:" من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم"، يقول: من تعاونهم وتظاهرهم.
وقوله: "و فشلكم عن حقكم"، يقال: فشل فلان عن كذا و"كذا"1 إذا هابه فنكل عنه وامتنع من المضي فيه. وقوله:" قلتم هذا أوان فر وصر"،فالصر شدة البرد, قال الله عز وجل {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} 2.
وقوله: هذه حمارة القيظ"، فالقيظ الصيف، وحمارته: اشتداد حره واحتدامه، وحمارة مما لا يعوز أن يحتج عليه ببيت شعر، لأن"كل"3 ما كان فيه من الحروف التقاء ساكنين لا يقع في وزن إلا في ضرب" منه"4 يقال له المتقارب،"فإنه جوز فيه على بعد التقاء الساكنين"5وهو قوله:
فذاك القصاص وكان التقا ... ص فرضا وحتماً على المسلمينا
ولو قال: "وكان قصاص فرضاً وحتماً" كان أجود وأحسن، ولكن قد أجازوا هذا في هذه العروض، ولا نظير له في غيرها من الأعاريض.
وقوله: "ويا طغام الأحلام" فمجاز الطغام عند العرب من لا عقل له، ولا معرفة عنده،وكانوا يقولون: طغام أهل الشأم كما قال:
فما فضل اللبيب على الطغام6
ـــــــ
1 من ر، س.
2 سورة آل عمران 117.
3 من ر، س.
4 من ر.
5 من ر.
6 قبله، كما في زيادات ر:
إذا ما كان مثلهم رجاما.
وقوله: "ويا عقول ربات الحجال" ينسبهم إلى ضعف النساء وهو السائر في كلام العرب. وقال الله تعالى يذكر البنات {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 1.
ـــــــ
1 الزخرف 18.
باب
مدخل...
باب
وقال أبو العباس: من كلام العرب الاختصار المفهم، والإطناب المفخم وقد يقع الإيماء إلى الشيء فيغني عند ذوي الألباب عن كشفه، كما قيل: لمحة دالة. وقد يضطر الشاعر المفلق، والخطيب المصقع، والكاتب البليغ، فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق، واللفظ المستكره، فإن انعطفت عليه جنبتا الكلام غطتا على عواره، وسترتا من شينه. وإن شاء قائل أن يقول: بل الكلام القبيح في الكلام الحسن أظهر، ومجاورته له أشهر، كان ذلك له، ولكن يغتفر السيىء1 للحسن، والبعيد للقريب.
ـــــــ
1 س: "الشين".
من ألفاظ العرب البينة القريبة المفهمةفمن ألفاظ العرب البينة القربية المفهمة، الحسنة الوصف، الجميلة الرصف قول الحطيئة:
وذاك فتى إن تأته في صنيعةٍ ... إلى ماله لا تأته بشفيع
وكذلك قول عنترة:
يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وكما قال زهير:
على مكثريهم رزق1 من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
ـــــــ
1 ر: "حق".
مما وقع من الكلام كالإيماءومما وقع كالإيماء قول الفرزدق:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتاب المنزل
فتأويل هذا أن بيت جرير في العرب كالبيت الواهن1 الضعيف، فقال: وقضى عليك به الكتاب المنزل: يريد به قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} 2.
ـــــــ
1 ر: "الواهى".
2 سورة العنكبوت41.
ومن كلامه المستحسن قوله لجرير:
فهل ضربة الرومي جاعلة لكم ... أبا عن كليب أو أباً مثل دارم
ومن أقبح الضرورة، وأهجن الألفاظ، وأبعد المعاني قوله:
وما مثله في الناس إلا مملكاً ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
مدح بهذا الشعر إبراهيم بن هشام بن اسماعيل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله عمر بن عمر بن مخزوم،وهو خال هشام بن عبد الملك، فقال:
وما مثله في الناس إلا مملكاً
يعني بالمملك هشاماً، أبو أم ذلك المملك أبو هذا الممدوح، ولو كان هذا الكلام على وجهه لكان قبيحاً، وكان يكون إذا وضع الكلام في موضعه أن يقول: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أم هذا المملك أبو هذا الممدوح، فدل على أنه خاله بهذا اللفظ البعيد، وهجنه بما أوقع فيه من التقديم والتأخير: حتى كأن هذا الشعر لم يجتمع في صدر رجل واحد مع قوله حيث يقول:
تصرم مني ود بكر بن وائلٍ ... وما كاد مني ودهم يتصرم
قوارص تأتيني ويحتقرونها ... وقد يملأ القطر ألإناء فيفعم
وكأنه لم يقع ذلك الكلام لمن يقول:
والشيب ينهض في السواد كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار
فهذا أوضح معنى، وأعرب لفظٍ، وأقرب مأخذٍ.
وليس لقدم العهد يفضل القائل، ولا لحدثان عهد يهتضم المصيب، ولكن يعطى كل ما يستحق، ألا ترى كيف يفضل قول عمارة على قرب عهده:
تبحثتم سخطي فغير بحثكم ... نخيلة نفسٍ كان نصحاً ضميرها
ولن يلبث التخشين نفساً كريمة ... عريكتها أن يستمر مريرها
وما النفس إلا نطفة بقرارةٍ ... إذا لم تكدر كان صفواً غديرها
فهذا كلام واضح، وقول عذبٌ، وكذلك قوله إيضاً:
بني دارم إن يفن عمري فقد مضى ... حياتي لكم مني ثناءٌ مخلد
بدأتم فأحسنتم فأثنيت جاهداً ... وإن عدتم أثنيت، والعود أحمد
مما يفضل من أقوال الشعراء لتخلصه من التكلفومما يفضل لتخلصه من التكلف، وسلامته من التزيد، وبعده من الاستعانة قول أبي حية النميري:
رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشية آرام الكناس رميم1
ألا رب يوم لو رمتني رميتها ... ولكن عهدي بالنضال قديم2
يقول: رمتني بطرفها، وأصابتني بمحاسنها، ولو كنت شاباً لرميت كما رميت، وفتنت كما فتنت، ولكن قد تطاول عهدي بالشباب، فهذا كلام واضح.
قال أبو الحسن: أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب البيتين عن عبد الله بن شبيب وروى:
عشية أحجار الكناس رميم
وزاد فيه بيتا:
رميم التي قالت لجارات بيتها ... ضمنت لكم ألا يزال يهيم
الكناس والمكنس: الموضع الذي تأوي إليه الظباء، وجمع الكناس كنس وجمع المكنس مكانس. ورميم: اسم جارية، مأخوذ من العظام الرميم، وهي البالية، وكذلك الرمة، والرمة: القطعة البالية من الحبل، وكل ما اشتق من هذا فإليه يرجع" .
ـــــــ
1 زيادات ر: "قيل في ستر الله الإسلام، وقيل فيه أنه الشيب، وقيل ماحرم الله عليهما".
2 زيادات ر بعد هذا البيت:
يرى الناس أنى قد سلوت وإننى ... لمرمى أحناء الضلوع سقيم
الاستعانة في الكلامقال أبو العباس: وأما ما ذكرناه من الاستعانة، فهو أن يدخل في الكلام ما لا حاجة بالمستمع إليه ليصحح به نظماً "و وزناً"1 إن كان في شعر، او ليتذكر به ما بعده إن كان في كلام منثور، كنحو ما تسمعه في كثير من كلام العامة قولهم: ألست تسمع أفهمت أين أنت وأشبه هذا، وربما تشاغل العيي بفتل إصبعه ومس لحيته، وغير ذلك من بدنه، وربما تنحنح. وقد قال الشاعر يعيب بعض الخطباء في شعر:
مليءٌ ببهرٍ والتفاتٍ وسعلةٍ ... ومسحةٍ عثنونٍ وفتل أصابعٍ
وقال رجل2 من الخوارج يصف خطيباً منهم بالجبن، وأنه مجيدٌ لولا أن الرعب أذهله:
نحنح زيدٌ وسعل ... لما رأى وقع الأسل
ويلمه إذا ارتجل ... ثم أطال واحتفل3
ومما يشاكل هذا المعنى ويجانس هذا المذهب ما كان من خالد بن عبد الله القسري، فإنه كان متقدماً في الخطابة ومتناهياً في البلاغة، فخرج عليه المغيرة بن سعيد بالكوفة في عشرين رجلاً، فعطعطوا4 به، فقال خالد: "اطعموني ماءً "وهو على المنبر، فغير بذلك، فكتب به هشام إليه في رسالة يوبخه فيها، سنذكرها5 في موضعها إن شاء الله. وغيره يحيى بن نوفل فقال:
لأعلاجٍ ثمانيةٍ وعبدٍ ... لئيم الأصل في عددٍ يسير
هتفت بكل صوتك: أطعموني ... شراباً، ثم بلت على السرير
ـــــــ
1 من ر.
2 ذكر الجاحظ أنه الأشل الأزرقى من بعض أخوال عمران بن حطان يصف زيد بن جندب الإيادى خطيب الأزارقة، "البان والتبين 42،41: 1".
3 زيادات ر: "وقال رجل يصف رجلا من إياد بالعى، وكان أبوه خطيبا وخاله:
جمعت صنوف العي من كل وجهة ... وكنت مليئا بالبلاغة من كثب
أبوك معم في الكلام ومخول ... وخالك وثاب الجراثيم في الخطب
4 العطعطة: تتابع الأصوات واختلافها.
5 ر: "وسنذكرها".
فهذا عارض. وقال آخر1 يعيره:
بل المنابر من خوفٍ ومن وهلٍ ... واستطعم الماء لما جد في الهرب
وألحن الناس كل النس قاطبةٌ ... وكان يولع بالتشديق في الخطب
ـــــــ
1 هو أيضا يحي بن نوفل، "وانظر البيان والتبيين167: 2".
لأعرابي من بني كلابومما يستحسن لفظه1 ويستغرب معناه، ويحمد اختصاره قول أعرابي من بني كلاب:
فمن يك لم يغرض فإني ونلقتي ... بحجرٍ إلى أهل الحمى غرضان2
تحن فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني 3
يريد: لقضى علي، فأخرجه لفصاحة وعلمه بجوهر الكلام أحسن مخرج، قال الله عز وجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 4 والمعنى إذا كالوا لهم أو وزنوا لهم، ألا ترى" أن"5 أول الآية {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} فهؤلاء أخذوا منهم ثم أعطوهم، وقال الله عز وجل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} 6 أي من قومه، وقال الشاعر7:
أمرتك الخير فافعل ما امرت به ... فقد تركت ذا مال وذا نشب
ـــــــ
1 من ر، س.
2 حجر: هي مدينة اليمامة وأم قراها، ويريد بالحمى حمى ضرية، وكان حمى كليب"وانظر ياقوت". ومن زيادات ر بعد هذا البيت:
هوى ناقتي خلفى وقدامى الهوى ... وإني وإياها لمختلفان
3 ر: "أنشد صاعد بعدهما زياد" فيهما:
فياكبدينا أجملا قد وجدتما ... بأهل الحمى مالم يجد كبدان
إذا كبدانا خافتا وشك نية ... وعاجل بين ظلتا تجبان
4 سورة المطففين 2 .
5 من ر.
6 سورة الأعراف 155.
7 زيادات ر: "هو أعشى طرود، واسمه إياس بن عامر".
أي أمرتك بالخير، ومن ذلك1 قول الفرزدق:
ومنا الذي2 اختير الرجال سماحةً ... وجوداً إذا هب الرياح الزعازع
أي من الرجال. فهذا الكلام الفصيح.
وتقول العرب: أقمت ثلاثاً ما أذوقهن طعاماً ولا شراباً، أي ما أذوق فيهن، وقال الشاعر:
ويوماً شهدناه سليماً وعامراً ... قليلاً سوى الطعن النهال نوافله3
قال أبو الحسن: قوله: "لم يغرض"، أي لم يشتق، يقال: غرضت إلى لقائك، وحننت إلى لقائك، وعطشت إلى لقائك، وجعت إلى لقائك أي إشتقت، أخبرنا بذلك أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي، وأنشدنا عنه:
من ذا رسولٌ ناصحٌ فمبلغٌ ... عني علية غير قول الكاذب
أني غرضت إلى تناصف وجهها ... غرض المحب إلى الحبيب الغائب
التناصف: الحسن.
وأما قوله: "لقضاني" فإنما يريد: لقضى علي الموت، كما قال الله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} 4، فالموت في النية، وهو معلوم بمنزلة ما نطقت به، فلهذا ناسب قوله عز وجل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} ، وكذلك قوله: {كَالُوهُمْ} فالشىء المكيل معلوم، فهو بمنزلة ما ذكر في اللفظ، ولا يجوز: مررت زيداً وأنت تريد: مررت بزيد، لأنه لا يعتدى إلا بحرف جر، وذلك أن فعل الفاعل في نفسه، وليس فيه د ليل على المفعول نفسه، وليس هذا بمنزلة ما يتعدى إلى
ـــــــ
1 ر، س: "ومن ذا".
2 س: "ومنا"، وعلى رواية الأصل في البيت خرم.
3 البيت أورده سيبوية في الكتاب90: 1، قال الأعلم في شرحه: "النوافل هنا الغنائم، يقول: يوم لم نضم فيه إلا النفوس لما أوليناهم من كثرة الطعن، والنهال المرتوية بالدم، وأصل النهل أول الشرب، والطعن هنا: جمع طعنة"
4 سورة سبأ14.
مفعولين، فيتعدى إلى أحدهما بحرف جر، وإلى الآخر بنفسه، لأن قولك: اخترت الرجال زيداً، قد علم بذكرك" زيداً "أن حرف الجر محذوف من الأول. فأما قول الشاعر وهو جرير وإنشاد أهل الكوفة له، وهو قوله:
تمرون الديار ولم تعوجوا ... كلامكم علي إذاً حرام
ورواية بعضهم له: "أتمضون الديار" فليس بشىء لما ذكرت لك، والسماع الصحيح والقياس المطرد لا تعترض عليه الرواية الشاذة . أخبرنا أبو العباس محمد بن يزيد قال: قرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
مررتم بالديار ولم تعوجوا
فهذا يدلك على أن الرواية مغيرةٌ
فأما قولهم: أقمت ثلاثاً ما أذوقهن طعاماً ولا شراباً، وقول الراجز:
قد صبحت صبحها السلام1 ... بكبد خالطها سنام
في ساعة يحبها الطعام
يريد في ساعة يحب فيها الطعام، وكذلك الأول، معناه: ما أذوق فيهن، فليس هذا عندي من.باب قوله جل وعلا: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} إلا في الحذف فقط، وذلك أن ضمير الظرف تجعله العرب مفعولاً على السعه، كقولهم: يوم الجمعة سرته، ومكانكم قمته، وشهر رمضان صمته، فهذا يشبه في السعة في السعة بقوله: زيد ضربته وما أشبه، فهذا بينٌ.
ـــــــ
1 صبحت: أتت بالتصبيح، تريد به الغذاء.
لأعرابي من بني سعد وقد نزل به أضيافقال أبو العباس: ومما يستحسن ويستجاد قول أعرابي1 من بني سعد بن زيد مناة تميم، وكان مملكاً2، فنزل به أضياف، فقام إلى الرحى فطحن لهم،
ـــــــ
1 هو الهذلول بن كعب العنبرى، ذكره أبوتمام في الحماسة بشرح المرزوقى 695-701.
2 من الإملاك، وهو عقد النكاح.
فمرت به زوجته في نسوة، فقالت لهن: أهذا بعلي فأعلم بذلك فقال، قال أبو الحسن: أخبرنا به عن أبي محلم له يعني السعدي:
تقول وصكت صدرها بيمينها: ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس
فقلت لها لا تعجبي وتبيني ... بلائي إذا التفت علي الفوارس
ألست أرد القرن يركب ردعه ... وفيه سنان ذو غرارين يابس
إذا هاب أقوام تجشمت هول ما ... يهاب حماياه الألد المداعس
لعمر أبيك الخير إني لخادم ... لضيفي، وإني إن ركبت لفارس
قوله:" المتقاعس" إنما هو الذي يخرج صدره ويدخل ظهره، ويقال: عزة قعساء، وإنما هذا مثل، أي لا تضع ظهرها إلى الأرض. وقوله: "بالرحى" من صلة الذي، والصلة تمام الوصول، فلو قدمها قبله لكان لحناً خطاً فاحشاً، وكان كمن جعل آخر الاسم قبل أوله، ولكنه جعل "المتقاعس" اسماً على وجهه، وجعل قوله: "بالرحى" تبييناً بمنزلة"لك" التي تقع بعد "سقياً"، وبمنزلة" بك" التي تقع بعد قولك: "مرحباً" فإن قدمتها فذلك جيد بالغ، تقول: بك مرحباً وأهلاً، وتقول: لك حمداً، ولزيد سقياً، فأما قول الله عز وجل: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 1 وكذلك {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} 2 فيكون تفسيره على وجهين: أحدهما أن يكون: إنني ناصح لكما، وأنا شاهد على ذلكم، ثم جعل" من الشاهدين" و" لمن الناصحين" تفسيراً لشاهد وناصح، ويكون على ما فسرناه يراد به التبيين، فلا يدخل في الصلة، أو يكون على مذهب المازني.
قال أبو العباس: وهو الذي أختار، على أن الألف واللام للتعريف لا على معنى الذي، ألا ترى أنك تقول: نعم الفائم زيد، ولا يجوز: نعم الذي قام زيد، وإنما هو بمنزلة قولك: نعم الرجل زيد، وهذا الذي شرحناه متصل في هذا الباب كله مطرد على القياس.
ـــــــ
1 الأنبياء 56.
2 الأعراف 21.
وقوله:
"ألست أرد القرن يركب ردعه"
فإنما اشتقاقه من السهم يقال: ارتدع السهم إذا رجع متأخراً، ويقال: ركب البعير ردعه إذا سقط، فدخل عنقه1 في جوفه، والكلام مشتق بعضه من بعض، ومبين بعضه بعضاً، فيقال من هذا في المثل: ذهب فلان في حاجتي فارتدع عنها، أي رجع، وكذلك: فلان لا يرتدع عن قبيح، والأصل ما ذكرت أولاً.
ومثل هذا قولهم: فلان على الدابة، وعلى الجبل، أي فوق كل واحد منهما ثم تقول: عليه دين تمثيلاً، وكذلك ركبه دين، وإنما يريد أن الدين علاه وقهره، وكذلك فلان على الكوفة إذا كان والياً عليها، وكذلك: علا فلان القوم، إذا علاهم بأمره وقهرهم، أو جعل هذا الموضوع.
وقوله:
"وفيه سنان ذو غرارين يابس"
فالغرار هنا الحد، وللغرار مواضع.
قال أبو العباس: وحدثني الرياشي في إسناد له قال: قال جبر بن حبيب وذكر الراعي: أخطأ الأعور قال: ولم يعلم الحاكي عنه أن الراعي كان أعور إلامن هذا الخبر في قوله:
فصادف سهمه أحجار قف ... كسران العير منه والغرارا 2
وجبر بن حبيب هو المخطىء، لأن الغرار ههنا هو الحد، وذهب جبر إلى أنه المثال، وقد يكون المثال، وليس ذلك بمانعه من أن يحتمل معاني، يقال: بنوا بيوتهم على غرار واحد، أي على مثال واحد، كما قال عمرو بن أحمر" الباهلي"3:
وضعن4 وكلهن على غرار ... هجان اللون قد وسقت جنينا
ـــــــ
1 ر "فدخلت عنقه" ، والعتق تذكر وتؤنث.
2 القف: حجارة بعضها فوق بعض. وعير النصل: ما نتأ في وسطه.
3 من ر، س.
4 كذا ضبطت في الأصل بالبناء للمجهول. وفي زيادات ر: [الرواية عن ابي العباس: "وضعن" بفتح الضاد والواو، والصحيح: "وضعن" بضم الواو وكسر الضاد].
ويقال: لسوقنا درة وغرار، أي نفاق وكساد، فهذا معنى آخر، وإنما تأويل الغرار في هذا المعنى الأخير أنه شيء، ومن هذا: غار الطائر فرخه، لأنه إنما يعطيه شيئاً بعد شيء، وكذلك غارت الناقة في الحلب، ويقال من هذا: ما نمت إلا غرار، قال الشاعر:
ما أذوق النوم إلا غراراً ... مثل حسو الطير ماء الثماد
فكشف في هذا البيت معنى الغرار وأوضحه.
وقوله:
"يهاب حمياه الألد المداعس"
فأصل الحميا إنما هي صدمة الشيء، يقال: فلان حامي الحميا، ويقال صدمته حمياً الكأس، يراد بذلك سورتها.
وقوله: "الألد" فأصله الشديد الخصومة، يقال: خصم ألد، أي لا ينثني عن خصمه. قال الله عز وجل: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} 1 كما قال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} 2، وقال مهلهل:
إن تحت الأحجار حزماً وجوداً ... وخصيماً ألد ذا معلاق
ويروي: "مغلاق" فمن روى ذلك فتأويله أنه يغلق الحجة الخصم،ومن قال،" ذا معلاق"، فإنما يريد أنه إذا علق خصماً لم يتخلص منه، وجعل السعدي الألد الذي لا ينثني عن الحرب تشبيهاً بذلك، والمداعس: المطاعن، يقال: دعسه بالرمح إذا طعنه، قال عمير بن الحباب السلمي:
أنا عميرٌ وأبو المغلس ... وبالقناة مازني مدعس
قال أبو الحسن: تأويل قول السعدي:
"أبلعي هذا بالرحى المتقاعس"
ـــــــ
1 مريم 97.
2 الزخرف 58.
"بالرحى" تبيين ولم يوضحه، فإن تقدير ما كان من هذا الضرب أنه إذا قال: "أبعلي هذا بالرحى المتقاعس"، فإن المتقاعس يدل على أن تقاعساً وقع،فكأنه قال: وقع التقاعس بالرحى، ولم يرد أن يعمل "المتقاعس "في قوله: "بالرحى"، لأنه في صلة، والصلة من الموصول بمنزلة الدال من زيد أو الياء، فكما لا يجوز أن يتقدم حروف الاسم بعضها على بعض، لم يجز أن تتقدم الصلة على الموصول، فأما قول الله عز وجل: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}، وكذلك: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ، فإنه يكون على التبيين الذي قدمنا ذكره وهو قول البصريين أجمعين، إلا أن أبا عمر الجرمي أجاز أن يجعل"لكما"،و "على ذلكم" معلقين بشيئين محذوفين دل عليهما" من الناصحين"، و" من الشاهدين"، لأن" من" مبعضة، فكأنه قال والله أعلم: وقاسمهما إني ناصح لكما من الناصحين، وأنا شاهد على ذلكم من الشاهدين.
وأما اختياره وذكره أنه قول المازني، وجعله الألف واللام للعهد مثلهما في الرجل وما أشبهه، فإن هذا القول غير مرضي عندي، لأنك إذا قلت: نعم القائم زيدٌ فجعلت الألف واللام كالألف واللام الداخلتين على ما يؤخذ من الفعل كالإنسان والفرس وما أشبهه، فإنه إذا كان هكذا دخل في باب الأسماء الجامدة وهي التي لم تؤخذ من أمثلة الفعل، وامتنع من أن يعمل مؤخراً إلا على حيلة ووجهٍ بعيدٍ من التبيين الذي ذكرناه. وإذا كان التأخير لا يعمل بنفسه، فكيف يعمل إذا تقدم عليه الظرف وهذا مستحيل لا وجه له.
وأما إنشاده:
لا أذوق النوم إلا غراراً
فإن هذه أبيات أربعة أنشدناها عن الزيادي، وذكر أنه كان يستحسنها وهي لأعرابي قال:
ما لعيني كحلت بالسهاد ... ولجنبي نابياً عن وسادي
ما أذوق النوم إلا غراراً ... مثل حسو الطير ماء الثماد1
أبتغي إصلاح سعدى بجهدي ... وهي تسعى جهدها في فسادي
فتتاركنا على غير شيءٍ ... ربما أفسد طول التمادي
ـــــــ
1 ر، س: "لا أذوق".
وأما إنشاده:
وضعن وكلهن على غرارٍ
فإن البيت لعمرو بن أحمر بن العمرد الباهلي.
لطيخم بن أبي الطمخاء الأسدي يمدح قوماً من أهل الحيرة
قال أبو العباس: ومن سهل الشعر وحسنه قول طخيم بن أبي الطخماء الأسدي يمدح قوماً من أهل الحيرة من بني امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم، ثم من رهط عدي بن زيد العبادي، قال:
كأن لم يكن يومٌ بزورة صالحٌ ... وبالقصر ظل دائمٌ وصديق1
ولم أراد البطحاء يمزج ماءها ... شراب من البروقتين عتيق2
معي كل فضفاض القميص كأنه ... إذا ما سرت فيه المدام فنيق
بنو السمط والحداء، كل سميدع ... له في العروق الصالحات عروق
وإني وإن كانوا نصارى أحبهم ... ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق
قال أبو العباس: أنشدني هذا الشعر أبو محلم، ثم أنشدنيه رجل نصراني يكنى أبا يحيى، شاعر من هؤلاء القوم الذين مدحوا به، وذكر أنه يذكر طخيماً، وهو يتردد إليهم ويظل عندهم. فال هذا النصراني وهو رجل من بني الحداء قال: أذكره وأنا صغير جداً، والسلطان يطلبه لقوله:
له في العروق الصالحات عروق
يقول: أتقول هذا لقومٍ من النصارى وكان هذا النصراني قد قارب مائة سنة فيما ذكر.
ـــــــ
1 زورة: موضع قرب الكوفة، ضبطه ياقوت بفتح الزاى، وقال: "وقرأته بخط بعض أعيان أهل الأدب "زورة" بضم الزاى"، وأورد الأبيات.
2 البروقتان: موضع قرب الكوفة، وضبطه ياقوت بواوين، الأولى مضمومة، وأورد البيت.
وقوله: "معي كل فضفاض القميص" يريد أن قميصه ذو فضولٍ، وإنما يقصد إلى ما فيه من الخيلاء، كما قال زهير:
يجرون الذيول وقد تمشت ... حمياً الكأس فيهم والغناء
ويقال: إن تأويل قول رسول الله حلى الله عليه وسلم: "فضل الإزار في النار" إنما أراد معنى الخيلاء، وقال الشاعر:
ولا ينسيني الحدثان عرضي ... ولا أرخي من المرح الإزارا
وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال لأبي تميمة الهجيمي: "إياك والمخيلة" فقال: يا رسول الله، نحن قومً عربٌ، فما المخيلة, فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سبل الإزار" والحديث يعرض لما يجري في الحديث قبله، وإن لم يكن من بابه، ولكن يذكر به.
قال أبو العباس: روى لنا أن رجلاً من الصالحين كان عند إبراهيم1 بن هشام، فأنشد إبراهيم قول الشاعر:
إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية ... وإذا أجر إليكم سادراً رسني
فقام ذلك الرجل فرمى بشق ردائه، وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس، ثم رجع على تلك الحال فجلس، فقال له إبراهيم بن هشام: ما بك فقال: إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته، فآليت ألا أسمعه إلا جررت ردائي كما ترى، كما سحب هذا الرجل رسنه.
وأما الفنيق فإنه الفحل من الإبل2، وإنما أراد خطراته بذنبه من الخيلاء، فشبه الرجل من هؤلاء إذا انتشى بالفحل، وهو إذا خطر ضرب بذنبه يمنة وشأمة،قال ذو الرمة:
وقربن بالزرق الجمائل بعدما ... تقوب عن غربان أوراكها الخطر 3
ـــــــ
1 كان والى المدينة، والشاعر هو الأحوص، والخبر في الأغانى(216: 40) طبعة الدار.
2 سقطت كلمة "الأبل" من ر، س.
3 الزرق: أكثبة بموضع يقال له الدهناء. والجمائل: جمع جمل كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. والغربان هنا: رءوس الأوراك، وتقوب: تقطع، يريد أن خطر الجمال بأوراكها أحدث فيها قوبا فتقطعت. "وانظر ديوانه 209".
قول مخيس بن أرطاة الأعرجي لرجل من بني حنيفةومن حسن الشعر ومايقرب مأخذة قول مخيس بن أرطاة الأعرجى والأعرج الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، لرجل من بني حنيفة يقال له يحيى، وكان يصير إلى امرأة في قرية من قرى اليمامة يقال لها: بقعاء: قال أبو الحسن: أنشدته عن الرياشي: " نقعاء"1، وسألت رجلاً من أهل اليمامة فصيحاً من بني حنيفة عن هذا، فقال: مانعرفة2 إلا" نقعاء"3:
عرضت نصيحة مني ليحيى ... فقال: غششتني والنصح مر
وما بى أن أكون أعيب يحيى ... ويحيى طاهر الأثواب4 بر
ولكن قد أتاني أن يحيى ... يقال عليه فى بقعاء شر
فقلت له: تجنب كل شىءٍ ... يعاب عليك، أن الحرحر
فهذا كلام ليس فية فضل عن معناه.
وقوله: "إن الحرحر حر" إنما تأويلة أن الحر على الأخلاق التى عهدت فى الأحرار، ومثل ذلك:
أنا أبو النجم وشعري شعري5
أي شعري كما بلغك، وكما كنت تعهد، وكذلك قولهم: الناس الناس، أي الناس كما كنت تعهدهم.قال أبو الحسن: ومنه قول الله عز وجل: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} 6 وقوله:
فقلت له تجنب كل شىء ... يعاب عليك
ـــــــ
1 ر: "نقعاء، بالنون".
2 ر: "ما أعرفه".
3 س: "نقعاء، بالنون". ر: "بقعاء، بالباء".
4 ر: "الأخلاق".
5 بعده:
لله درى ما يجن صدرى
"وانظر معاهد التنصيص 19: 1"
6 سورة طه 78.
كقول عمرو بن العاص لمعاوية حين وصف عبد الملك [بن مران]1 فقال: آخذ بثلاث، تاركٌ لثلاث، آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، وبحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسرالأمرين عليه إذا خولف،تارك للمراء،تارك لمقاربة اللئيم،تارك لما يعتذر منه،كقوله:
... تجنب كل شىءٍ ... يعاب عليك أن الحر حر
ـــــــ
1 من ر، س.
قول ابن ميادة لرياح بن عثمان المريومما يستحسن إنشاده من الشعر لصحة معناه،وجزالة لفظه،وكثرة تردد ضربه من المعاني بين الناس،قول ابن ميادة لرياح بن عثمان بن حيان المري1، من مرة غطفان،يقوله في فتنة2 محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن،وكان أشار عليه بأن يعتزل القوم فلم يفعل فقتل،فقال ابن ميادة:
أمرتك يا رياح بأمر حزمٍ ... فقلت: هشيمةٌ من أهل نجد
نهيتك عن رجال من قريش ... على محبوكة الأصلاب جرد
ووجداً ما وجدت على رياحٍ ... وما أغنيت شيئا غير وجدي
وقوله3:
"فقلت هشيمة من أهل نجد4"
تأويله ضعفة،وأصل الهشيم النبت إذا ولى وجف وتكسر، فذرته الرياح يميناً وشمالاً قال الله عز وجل: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} 5 والنجد: أعالي الأرض.
وقوله:
"على محبوكة الأصلاب جرد"
ـــــــ
1 كان واليا على المدينة من قبل أبي جعفر المنصور سنة 144 "وانظر زامبور 36: 1".
2 ذكر ابن الأثير هذه الفتنة مفصلة في حوادث سنة 144. والخبر والأبيات في الأغانى 338،337: 2 "طبعة الدار"، واللسان "هشم" عن المبرد.
3 ر: "قوله" س: "قوله".
4 في اللسان: "ضعف".
5 الكهف 45.
فالمحبوك الذي فيه طرائق، واحدها حباكٌ، والجماعة حبك، وكذلك الطرائق التي عاى جناح الطائر ؛ من ذلك قول الله عز وجل1: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} 2.
قال أبو الحسن: ابن ميادة اسمه الرماح، وأمه ميادة، وأبوه أبرد، وكان عاقاً بأمه، ولها يقول:
اعرنزمي مياد للقوافي3
وأصل الاعرنزام التجمع والتقبض، يقول: استعدي لها وتهيئي.
وأنشدنا أبو العباس محمد بن يزيد له:
ونواعم قد قلنا يوم ترحلي ... قول المجد وهن كالمزاح
ياليتنا من غير أمر فادح ... طلعت علينا العيس بالرماح
في أبيات له، يعني نفسه.
قال أبو الحسن: وتمام الأبيات:
بينا كذاك رأيتني متعصباً ... بالخز فوق جلالة سرداح4
فيهن صفراء المعاصم طفلة ... بيضاء مثل غريضة التفاح5
ريشن حين أردن أن يرمينني ... نبلاً بلا ريشٍ ولا بقداح
ونظرن من خلل الستور بأعين ... مرضى مخالطها السقم صحاح
ـــــــ
1 ر: "تبارك وتعالى".
2 الذاريات7.
3 حاشية الأصل: بعده:
واستسمعيهن ولا تخافى
وفي ر:
واستسمعيهن ولا تخافى ... ستجدين ابنك ذا قذاف
4 الجلالة: الناقة الضخمة. والسرداح: الناقة الطويلة.
5 صفراء المعاصم: هي التي طليت بالزعفران: والطفلة: الناعمة. والغريض: الطرى.
نبذ من أقوال الحكماءقال أبو العباس: ثم نذكر من كلام الحكماء وأمثالهم وآدابهم صدراً، ونعود1 إلى المقطعات إن شاء الله.
[يروى عن ابن عمر أنه كان يقول: إنا معشر قريش، كنا نعد الجود والحلم السودد، ونعد العفاف وإصلاح المال المروءة]2.
قال الأحنف بن قيس: كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزح تذهب المروءة، ومن لزم شيئاً عرف به.
وقيل لعبد الملك بن مروان: ما المروءة? فقال: موالاة الأكفاء، ومداجاة الأعداء.
وتأويل المداجاة المداراة؛ أي لا تظهر لهم ما عندك من العداوة، وأصله من الدجى، وهو ما ألبسك الليل من ظلمته.
وقيل لمعاوية: ما المروءة? فقال: احتمال الجريرة، وإصلاح أمر العشيرة. فقيل له: وما النبل? فقال: الحلم عند الغضب، والعفو عند القدرة.
وكان أبو سفيان إذا نزل به جار قال له: يا هذا، إنك قد اخترتني جاراً، واخترت داري داراً، فجناية يدك علي دونك، وإن جنت عليك يدٌ فاحتكم علي حكم الصبي على أهله.
وذلك أن الصبي قد يطلب ما لا يوجد إلا بعيداً، ويطلب ما لا يكون البتة، قال الشاعر3:
ولا تحكما حكم الصبي فإنه ... كثيرٌ على ظهر الطريق مجاهله
وروي4 أن معاوية بن سفيان لما نصب يزيد لولاية العهد أقعده في قبةٍ حمراء، فجعل الناس يسلمون على معاوية، ثم يميلون إلى يزيد، حتى جاء رجلٌ
ـــــــ
1 ر: "ثم نعود".
2 مابين العلامتين تكمله من ر.
3 زيادات ر: "هو الأعرج المعنى".
4 ر: "ويروى".
فعل ذلك، ثم رجع إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم أنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها-والأحنف جالسٌ-فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر! فقال: أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت، فقال: جزاك الله عن الطاعة خيراً! وأمر له بألوفٍ، فلما خرج الأحنف لقيه الرجل بالباب، فقال: يا أبا بحر، إني لأعلم أن شر من خلق الله هذا وابنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فلسنا نطمع باستخراجها إلا بما سمعت، فقال الأحنف: يا هذا أمسك عليك1، فإن ذا الوجهين خليقٌ ألا يكون عند الله وجيهاً.
ـــــــ
1 كلمة "عليك" ساقطة من ر، س.
لرجلٍ يهجو بلال بن البعير المحاربي
وقال رجلٌ يهجو بلال بن البعير المحاربي1:
يقولون أبناء البعير وما له ... سنامٌ ولا في ذروة المجد غارب
أرادتوذاكم من سفاهة رأيها ... لأهجوهالما هجتني محارب
معاذ إلهي إنني بعشيرتي ... ونفسي عن هذا المقام لراغب
ـــــــ
1 زيادات ر: "الشاعر الرماح بن ميادة"، ورواية الأغانى "330: 2-طبعة الدار" للبيتين الأخيرين عن أبى حذافة السهمى:
أظنت سفاها من سفاهة رأيها ... أن اهجوها-لما هجتنى محارب
فلا وأبيها إننى بعشيرتى ... ونفسى عن ذاك المقام لراغب
لأبي الطمحان القيني يفخر بقومهوقال أبو الطمحان القيني1:
وإني من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم سيدٌ قام صاحبه
نجوم سماءٍ كلما غار كوكب ... بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وما زال منهم حيث كانوا مسودٌ ... تسير المنايا حيث سارت كتائب
ـــــــ
1 زيادات ر: "اسمه حنظلة بن الشرقى، والطمحان فعلان، من طمح بأنفه وبصره إذا تكبر، والقين: الحداد، وكل صانع قين، والقين أيضا: مواضع القيد من البعير".
لإياس بن الوليد يمدح قومهوقال إياس بن الوليد يمدح قومه:
إني وجدك من قومٍ إذا طلبوا ... بعد النسيئة ديناً أحسنوا الطلبا
لا تحسبوا هجم أبياتي علانيةً ... ولا استلاب سلاحي ذاهباً لعبا
تبقى المعاير بعد القوم باقيةً ... ويذهب المال فيما كان قد ذهبا
لرجلٍ يهجو
وقال آخر:
ليسوا لعمرو غير تأشيب نسبةٍ ... ولكن عمراً غيبته المقابر
إذا عيروا قالوا مقادير قدرت ... وما العار إلا ما تجر المقادر
لرجلٍ من بني نهشل بن دارم ينأى بنفسه
وقال رجلٌ من بني نهشل بن دارم:
إذا مولاك كان عليك عوناً ... أتاك القوم بالعجب العجيب
فلا تخنع إليه ولا ترده ... ورام برأسه عرض الجبوب
فما لشآفةٍ من غير ذنبٍ ... إلا ولى صديقك من طبيب
وقوله:
ورام برأسه عرض الجبوب
يريد الأرض-وهو اسم من أسمائها-أنشدني التوزي لرجلٍ من بني مرة يرثي ابنه:
بني على عيني وقلبي مكانه ... ثوى بين أحجارٍ ورهن جبوب
وقوله: فما لشآفةٍ يقول: لبغض، يقال: شئفت الرحل أشأفه شآفةً وشأفاً، وقد يقال في هذا المعنى شنفته، قال الراجز:
لما رأتني أم عمروٍ صدفت ... ومنعتني خيرها وشنفت1
وقال آخر: ولم تداو غلة القلب الشنف
ـــــــ
1 البيتان في اللسان "شنف".
لنبهان بن عكي في النسيبوقال نبهان بن عكي العبشمي:
يقر بعيني أن أرى من مكانه ... ذرا عقدات الأبرق المتقاود
وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمى، وقد مل السرى كل واجد
وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطاً بسم الأساود
قوله: "ذرا عقدات" فالذروة من كل شيء أعلاه، فذروه السنام أعلاه، وذروة المجد أرفعه وأسناه، ويقال: فلان في ذروة قومه إذا كان في الموضع الرفيع منهم، وأما قول لبيد:
مدمنٌ يجلو بأطراف الذرا ... دنس الأسؤق عن عضب أفل
فإنما يقول: هذا رجل يعرقب الإبل لينحرها ثم يمسح ذرا أسنمتها بسيفه، ليجلو ما عليه من دم الأسؤق.
وقوله: "عضب" أي قاطع، ومن ذلك رجل عضب اللسان، وجعله أفل لكثرة ما يقارع به الحروب، كما قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وقوله: "عقدات "فهو ما انعقد وصلب من الرمل، والواحدة عقدة، وأعقاد أيضاً وعقدات، قال ذو الرمة لهلال بن أحوز المازني يمدحه:
رفعت مجد تميم يا هلال لها ... رفع الطراف على العلياء بالعمد1
حتى نساء تميم وهي نازحة ... بقلة الحزن فالصمان فالعقد
لو يستطعن إذا ضافتك مجحفة ... وقينك الموت بالآباء والولد
ـــــــ
1 الطرف: بيت من جلد، والعلياء: المكان المرتفع.
وقوله: "الأبرق" فالأبرق حجارة يخلطها رمل وطين، يقال لتلك: برقة، وأبرق، وبرقاء، يا فتى كما يقال: الأمعز والمعزاء، وهي الأرض الكثيرة الحصباء، ومثل ذلك الأبطح والبطحاء، وهو ما انبطح من الأرض، فمن قال: أبرق فإنما أراد المكان، ومن قال: برقاء فإنما أراد البقعة.
وقوله: "المتقاود" يريد المنقاد المستقيم، ومن ذلك قولهم: قدته أي جررته على استقامة، وكذلك طريق منقاد، وفلان قائد الجيش، قال حاتم بن عبد الله الطائي يضرب هذا مثلاً:
إن الكريم من تلفت حوله ... وإن اللئيم دائم الطرف أقود1
وقوله:
ولو كان مخلوطاً بسم الأساود
يريد جمع أسود سالخ، وجمعه على أساود، لأنه يجري مجرى الأسماء، وما كان من باب "أفعل" اسما فجمعه على أفاعل، نحو أفكل وأفاكل2، والأكبر والأكابر، وكذلك كل ما سميت به رجلاً، تقول: أحمد وأحامد وأسلم وأسالم، فإن كان نعتاً فجمعه" فعل"3 نحو أحمر وحمر وأصفر وصفر، ولكن أسود إذا عنيت به الحية، وأدهم إذا عنيت به4 القيد، وأبطح إذا عنيت5 المكان المنبطح، والأبرق6 إذا عنيت المكان، مضارعة للأسماء، لأنها تدل على ذات الشيء، وإذا كانت في الأصل نعتاً محضاً7، تقول في جمعها: الأباطح والأبارق والأداهم والأساود، فإن أردت نعتاً محضاً يتبع المنعوت، قلت: مررت بثياب سود، وبخيل دهم، وكل ما أشبه هذا فهذا مجراه، قال جرير:
هو القين وابن القين لا قين مثله ... لفطح المساحي أو لجدل الأداهم8
ـــــــ
1 حاشية الأصل: "الأقود من الرجال: الذي لا يلتفت".
2 الأفكل: اسم لرعدة من برد أو خوف.
3 ر، س: "فجمعه على فعل".
4 ر، س: "إذا عنيت به القيد".
5 ر: "إذا عنيت المكان".
6 ر: "وأبرق إذا عنيت به المكان".
7 ساقطة من ر.
8 المساحى: "جمع مسحاة، وهي المجرفة من حديد يجرف بها الطين عن وجه الأرض".
وقال الأشهب بن رميلة: قال أبو الحسن: رميلة اسم أمة1:
أسود شرى لاقت أسود خفية ... تساقت2 على حرد دماء الأساود
قوله: "على حرد" يقول: على قصد، فأما الله عز وجل: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} 3 فإن فيه قولين: أحدهما ما ذكرنا من القصد، قال الشاعر4:
قد جاء سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلة5
وقالوا: "على حرد": أي على منع من حاردت السنة إذا منعت قطرها، وحاردت الناقة إذا منعت درها.
[قال أبو الحسن: رواية أبي العباس: "يقر بعيني "يريد يقر عيني، ثم أتى بالباء توكيداً، وقال لنا: هكذا سمعته، ويقال: أقر الله عينه يقرها، وقرت عينه تقر، وقررت بالمكان أقر وقال الأصمعي: قرت عينه من القر وهو البرد، أي جمدت فلم تدمع، وهو بحذاء سخنت عينه وأجود مما روى عندي: "يقر بعيني" ، وهو الأصل، والباء في موضعها غير مؤكدة.
وقال أبو العباس: الذي رويت: "وقد مل السرى كل واحد" ، وهو المنفرد في السير المتوحد به، وروىغيره: "كل واجد"، أي عاشق وروي أيضاً: "كل واخد" ، وهو من الوخد والوخدان، وهو السير الشديد والوخد المصدر، والوخدان الاسم].
ـــــــ
1 مابين العلامتين من ر، س.
2 ر، س: "تسافوا".
3 سورة القلم 25.
4 س: "قيل: هو قطرب".
5 زيادات ر: "قال أبو حاتم: هذه صنعة من لا أحسن الله ذكره_يعني قطربا"، وفيها "قطربأ" تصحيف.
للقتال الكلابي يفخر بنفسه وقومهوقال القتال الكلابي1، واسمه عبيد بن مضرحي:
أنا ابن أسماء أعمامي لها وأبي ... إذا ترامى بنو الإموان بالعار
لا أرضع الدهر إلا ثدي واضحةٍ ... لواضح الخد يحمي حوزة الجار
من آل سفيان أو ورقاء يمنعها ... تحت العجاجة ضرب غير عوار
يا ليتني والمنى ليست بنافعةٍ ... لمالك أو لحصن أو لسيار
طوال أنضية الأعناق لم يجدوا ... ريح الإماء إذا راحت بأزفار
قوله:
إذا ترامى بنو الإموان بالعار
فالإموان: جمع أمةٍ، وأصل أمةٍ"فعلة" متحركة العين، وليس شيء من الأسماء على حرفين إلا وقد سقط منه حرف يستدل عليه بجمعه، أو بتثنيته، او بفعل إن كان مشتقاً منه، لأن أقل الأصول ثلاثة أحرف، ولا يلحق التصغير ما كان أقل منها، فأمة قد علمنا أن الذاهب منها واو بقولهم: " إموان" ، كما علمنا أن الذاهب من أب وأخ الواو بقولهم أبوان وأخوان، وعلمنا أن أمة" فعلةٌ "متحركة بقولهم في الجميع: آم، فوزن هذا أفعل، كما قالوا أكمة وآكم، ولا تكون فعلةٌ على أفعل، ثم قالوا إموان، كما قالوا في المذكر الذي هو منقوص مثله: إخوان، واستوى المذكر والمؤنث، لأن الهاء زائدة كما استويا في" فعل" الساكن العين، تقول: كلب وكلاب، وكعب كعاب، كما تقول في المؤنث: طلحة وطلاح، وجفنةٌ وجفان، وصفحة وصحاف. ونظير ذلك من غير المعتل ورل2 وورلان، وبرق وبرقان وخرب وخربان، وهو ذكر الحبارى، والبرق الحمل، ومن أنشد:
ـــــــ
1 ر، س: "وقال أبو العباس،قال القتال...".
والأبيات في أمالى القالى "226،225: 2"، وذكر فيها: "نازع القتال الكلابى_ وهو عبيد بن المضرحى_ رجلا من قومه، فقال له الرجل: أنت كل على قومك، والله إنك لخامل الذكر والحسب، ذليل النفر، خفيف على كاهل خصمك، كل على ابن عمك"، فقال هذه الأبيات.
2 الورل: دابة على خلقة الضب، إلا أنه أعظم منه، يكون في الصحارى.
"أموان "فقد غلط، لأنه يحتج بقولهم، حمل حملان، وفلق وفلقان، وهذا إنما يحمل على ما كان معتلاً مثله، نحو أخٍ وإخوان، وقد روى أبو زيد: أخوان، فإلى هذا ذهبوا، والقياس المطرد لا تعترض عليه الرواية الضعيفة.
وقوله: "لا أرضع الدهر "فهذا على لغته، لأن قيساً تقول: رضع يرضع، وأهل الحجاز يقولون: رضع يرضع، وينشدون بيت عبد الله بن همام" السلولي"1 على وجهين، وهو:
إذا نصبوا للقول قالوا فإحسنوا ... ولكن حسن القول خالفه الفعل
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... إفاويق حتى ما يدر لها ثعل2
وبعضم يقول" يرضعونها".
وقوله:
لاأرضع الدهر إلا ثدي واضحة
يقول إنما ترضعني أمي، وليست غير كريمة، كما قال الأغشى:
يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأساً من بخلا
يقول: إنما تشرب بكفك، ولست ببخيل، ومثل هذا قول التميمي لنجدة ابن عامر الحنفي الخارجي3:
متى تلق الحريش حريش سعد ... وعبادا ًيقود الدارعينا
تبين أن أمك لم تورك ... ولم ترضع أمير المؤمنينا4
وقوله:" واضحة" أي خالصة في نسبها، وليست بأمة، وهذا توكيد لبيته الأول، وقد أنشد بعضهم: "لواضح الجد" والمعنى قريب .
ـــــــ
1 من و. وفى س. "بيتى ابن همام".
2 الثعل، مثلثة: خلف زائد صغير في أخلاف الناقة.
3 هو نجدة بن عامر الحنفى، من رءوس الخوارج، كان ممن لقبوه بأمير المؤمنين قتل سنة 72.
"وانظر تاريخ الطبرى 194: 7".
4 هو الحريش بن هلال القريعى الشاعر، وعباد بن علقمة المازنى، وسيأتى ذكرهما في أخبار الخوارج.
وقوله:" يحمي حوزة الجار" أي مايحوزه، يقال: فلان مانع لحوزته، أي لما صار في حيزه، ويروى عن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه1 أنه قال: للأزد أربع ليست لحي، بذل لما ملكت أيديهم، ومنع لحوزتهم، وحي عمارة2 لايحتاجون إلى،غيرهم، وشجعان لايجبنون.
وقوله:
لمالكٍ، أو لحصنٍ، أو لسيار
فهؤلاء بيت فزازة، وبيوتات العرب في الجاهلية ثلاثة، فبيت تميم بنو عبد الله بن دارم، ومركزه، بنو زرارة، وبيت قيس بنو فزارة ومركزه بنو بدرٍ، وبيت بكر بن وائل بنو شيبان ومركزه ذي الجدين .
وقوله: "طوال أنضية الأعناق" فالنضي مركب النصل في النسخ، وضربه مثلاً، وإنما أراد طوال الأعناق، كما قال الأعشى:
الواطئين على صدور نعالهم ... يمشون في الدفئي والأبراد3
يريد السودد والنعمة ولم يخصص الصدور، وإنما أراد النعال كلها، وقال الشاعر4:
يشبهون ملوكاً في تجلتهم ... وطول أنضية الأعناق واللمم
إذا بدا المسك يندى في مفارقهم ... راحوا كأنهم مرضى من الكرم
[قال أبو الحسن: وغيره يروي: يشبهون قريشاً في تجلتهم].
وقوله: "بأزفار" فالزفر الحمل، ويضرب مثلاً للرجل، فيقال، إنه لزفر. أي حمال للأثقال، ويقال: أتى حمله فأزدفره، قال أبو قحامة أعشى بأهلة:
أخو رغائب يعطيها ويسألها ... يأبى الظلامة منه النوافل الزفر
ـــــــ
1 ر: "رضى الله عنه".
2 العمارة هنا: الحى العظيم يمكنه الانفراد بنفسه، يفتح العين وكسرها. قال ابن الأثير: "فمن فتح فلالتفاف بعضهم على بعض كالعمارة والعمامة، ومن كسر فلأن بهم عمارة الأرض" "وانظر النهاية 128: 3".
3 الدفئى: ضرب من الثياب، قيل هي المخططة.
4 زيادات ر: "هو الشمردل بن شريك اليربوعى، عن ابن قتيبة".
وإنما يريده بعينه، كقولك: لئن لقيت فلاناً ليلقينك منه الأسد. وقوله "النوفل" من قولهم: إنه لذو فضل ونوافل.
لرجل من بني عبس وكان عروة بن الورد قد شتمهوقال رجل من بني عبسٍ يقوله لعروة بن الورد1:
لا تشتمني يا ابن وردٍ فإنني ... تعود على مالي الحقوق العوائد
ومن يؤثر الحق النؤوب تكن به ... خصاصة جسم، وهو طيان ماجد2
وإني امرؤٌ عافي إنائي شركةٌ ... وأنت امرؤ عافي إنائك واحد3
أقسم جسمي في جسوم كثيرةٍ ... وأحسو قراح الماء والماء بارد
قوله: "النؤوب "يريد الذي ينوبه، وكل واو قراح لغير علةٍ فأنت فيهمزها وتركها بالخيار، تقول في جمع دارٍ: أدؤر وإن شئت لم تهمز، وكذلك النؤوب، والقؤول لانضمام الواو، فأما الواو الثانية فإنها ساكنة قبلها ضمة، وهي مدة فلا يعتد بها، ولو التقت واوان في أول كلمةٍ وليست إحداهما مدة لم يكن بد من همز الأولى، تقول في تصغير واصل وواقدٍ: أويصل وأويقد، لا بد من ذلك، فأما وجوه فأما وجوهٌ فإن شئت همزت فقلت: أجوه وإن شئت لم تهمز، قال الله عز وجل: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} 4 المرسلات والأصل وقتت، ولو كان في غير القرآن لجاز إظهار الواو إن شئت. وقوله عز وجل5: {مَا وُورِيَ عَنْهُمَا} 6 الاعراف الواو الثانية مدة فلا يعتد بها، ولو كان في غير القرآن لجاز الهمز لانضمام الواو.
وقولي: "إذا انضممت لغير علة"، فالعلة أن تكون ضمتها إعرباٌ، نحو هذا غزوٌ يا فتى، وذلو كما ترى، مما لا يجوز همزه، لأن الضمة للإعراب فليست بلازمة، أو تنضم لالتقاء الساكنين، فذلك أيضاً غير لازم، فلا يجوز
ـــــــ
1 ر، س: "قال أبو الحسن: يقوله لعروة بن الورد".
2 الخصاصة: سوء الحال. والطيان: الجائع.
3 العافى: طالب المعروف.
4 سورة المرسلات 11.
5 ر، س: "وقوله تعالى".
6 سورة الأعراف، 20.
همزة: نحو اخشوا الرجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} 1 {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} 2 ومن همز من هذا شيئاً فقد أخطأ.
لرجل من بني تميم يهجو تعلة بن مسافروقال رجل من بني تميم:
ألبان إبل تعلة بن مسافرٍ ... ما دام يملكها علي حرام
وطعام عمران بن أوفى مثلها ... ما دام يسلك في البطون طعام
إن الذين يسوغ في إعناقهم ... زادٌ يمن عليهم للئام
لعن الإله تعلة بن مسافر ... لعناً يشن عليه من قدام
وهذا كلام فصيح جداً.
وقوله: "يسوغ في أعناقهم" يريد حلوقهم لأن العنق يحيط بالحلق، ويشبه هذا الاتساع في الفصاحة لا في المعنى قول القطامي:
لم تر قوماً هم شر لإخوتهم ... منا عشية يجري بالدم الوادي
نقريهم لهذميات نقد بها ... ما كان خاط عليهم كل زراد
لأن الخياطة تضم خرق القميص، والسرد يضم حلق الدرع، فضربه مثلاً فجعله خياطة، قال أبو الحسن: روى أبو العباس:
وطعام عمران بن أوفى مثلها
رد الهاء والألف على الألبان، وهذا لا نظر فيه، وروى أيضاً مثله لأن الألبان تجري مجرى اللبن، فحمله على المعنى. وقد يجوز أن تجعل الألبان جمعاً فتذكر لتذكير الجمع. وروي أيضاً
ما دام يسلك في الحلوق طعام
ـــــــ
1 سورة آل عمران 186.
2 سورة التكاثر 6.
وروى الفراء في هذا الشعر:
إن الذين يسوغ في أحلاقهم
وإنما كان ينبغي أن يكون: : " في أحلقهم "كقولك: فلس وأفلس، وما أشبهه ولكنه شبه باب" فعلٍ" بباب" فعل"، كما قالو: زند وأزناد، وفرخ وافراخ، قال الحطيئة لعمر بن الخطاب رضي1 الله عنه:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ففعلوا هذا تشبيها ًبباب" فعل" كما شبهوا فعلاً بفعلٍ في الجمع، فقالوا: جبلٌ وأجبلٌ، وزمن وأزمن، كما قال:
إني لأكني بأجبال عن أجبلها ... وباسم أودية حباً لواديها
فأتي به على الأصل، وتشبيهاً بغيره على ما أخبرتك، قال ذو الرمة:
أمنزلتي مي سلام عليكما ... هل الأزمن الائي مضين رواجع!
والباب" أزمان" كما قال رؤبة:
أزمان لا أدري وإن سألت ... ما فرق بين جمعةٍ وسبت
وروى أبو العباس البيت الأخير مقوى، وجعله نكرة، وهو قوله: "من قدام" كما تقول: جئتك من قبلٍ، ومن بعد، ومنعلٍ، وما أشبه، كما قرأ بعضهم: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} 2 كما تقول: أولاً وآخراً، ورواه الفراء: "من قدام" وجعله معرفة، وأجراه مجرىالغايات، نحو: "قبل وبعد" كما قال طرفة بن العبد3:
ثم تفري اللحم من تعدائها ... فهي من تحت مشيحات الحزم
وكما قيل عتي بن مالك العقيلي، أنشده الفراء أيضاً:
إذا أنا أومن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلا من وراء وراء
ـــــــ
1 ر،س: "العمر رحمه الله".
2 سورة الروم 4.
3 من ر، وعجز هذا البيت صدر لبيت آخر، ورواية الديوان 59.
وخل الصنعة في مشتاتها ... فهي من تحت مشيحات الحزم
وتفرى اللحم من تعدائها ... وتعالى فهى قب كالعجم
فهذا الضرب مما وقع على غير جهة التعريف، وجهة التعريف أن يكون معرفاً بنفسه، كزيد وعمرو، أو يكون معرفاً بالألف واللام أو بالإضافة، فهذه جهة التعريف، وهذا الضرب إنما هو معرف بالمعنى، فلذلك بني إذ خرج من الباب، ويروى: "لعناً يسن عليه" بالسين، ويسن ويشن واحد، أي يصب إلا أن بعضهم قال السن الصب على وجهه واحدة، وقالوا: يقال: شننت عليه الماء، وسننته، وسننت عليه الدرع لا غير، وقالوا: سننت عليه الغارة لا غير.
للقاطمي يفتخرقال أبو العباس: وقال القاطمي:
فمن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال باديةٍ ترانا!
ومن ربط الجحاش فإن فينا ... قناً سلبا وأفراساً حسانا1
وكن إذا أغرن على قبيل2 ... فأعوزهن كوز حيث كانا3
أغرن من الضباب على حلال ... وضبة إنه من حان حانا
وأحياناً على بكرٍ أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا
وقوله: " الحضارة" يريد الأمصار، وتقول العرب: فلان بادٍ، وفلان حاضرٌ، وفي الحديث: "ولا يبيعن حاضرٌ لبادٍ" وتأويل ذلك أن البادي يقدم وقد عرف أسعار ما معه وما مقدار ربحه، فإذا جاءه الحاضر عرفه سنة البلد فأغلى على الناس. ومثل ذلك النهي عن تلقي الجلب، ومثله: دعوا عباد الله يصب بعضهم من عضٍ. حي حلال، إذا كانوا متجاورين مقيمين، وأنشد الأصمعي:
أقوم يبغون العير تجراً ... أحب إليك أم حي حلال
ـــــــ
1 القنا: جمع قناة، وهي الرمح: السلب: الطوال، واحده سلب، بفتحتين.
2 القبيل: الجماعة من الناس.
3 كوز: رجل من أسد. وفي ر: "كون" تحريف وانظر الديوان 58.
باب
نبذ من أقوال الحكماءقيل لمعاوية رحمة الله عليه: ما النبل? فقال: الحلم عند الغضب،والعفو عند القدرة.ويروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أخبركم بشراركم?1 من أكل وحده، ومنع رفده، وضرب عبده، ألا أخبركم بشر بين ذلكم? من لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يغفر ذنباً ألا أخبركم بشر من ذلكم؟ من يبغض الناس ويبغضونه". ويروى عنه عليه السلام أنه قال: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدً على من سواهم، والمرء كثير بأخيه" قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تتكافأ دماؤهم"، من قولك: فلان كفء لفلان، أي عديله، وموضوع بحذائه، قال الله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ويقال: فلان كفاء فلان، وكفيء فلان، وكفء فلان.
ويروى أن الفرزق بلغه أن رجلاً من الحبطات بن عمرو بن تميم خطب امرأة من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، فقال الفرزدق:
بنو دارم أكفاؤهم آل مسمعٍ ... وتنكح في أكفائها الحبطات
فآل مسمع بيت بكر بن وائل في الإسلام، وهم ممن بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل،والحبطات هم بنو الحارث بن عمرو بن تميم فقوله: " أكفاؤهم" إنما هو جمع كفء يافتى، فقال رجل من الحبطات يجيبه:
أما كان عباد كفيئاً لدارم ... بلى ولأبيات بها الحجرات
يعني بني هاشم من قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} 2.
وقال علي بن أبي طالب رحمه الله: من لانت كلمته، وجبت محبته وقال: قيمة كل امرىء ما يحسن.
ـــــــ
1 ر: "ألا أخبركم بشراكم؟" قالوا: بلى، قال: "من أكل وحده...".
2 سورة الحجرات 4.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يثبتن لك الود في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه وقال: كفى بالمرء غياً أن تكون فيه خلة من ثلاث: أن يعيب شيئاٌ ثم يأتي مثله،أو يبدو له من أخيه ما يخفى عليه من نفسه،أو يؤدي جليسه فيما لا يعنيه.
وقال عبد الله بن العباس لبعض اليمانية: لكم من السماء نجمها، ومن الكعبة ركنها،ومن السيوف صميمها يعني سهيلا من النجوم، والركن اليماني، وصمصامة عمرو بن معدي كرب.
ويروى أن عمر بن الخطاب رحمه الله قال يوماٌ: من أجود العرب فقيل له: حاتم،قال: فمن شاعرها قيل: امرؤ القيس بن حجر، قال: فمن فارسها قيل: عمرو بن معديكرب، قال: فأي سيوفها أمضى، قيل: الصمصامة. وقال معاوية بن أبي سفيان رحمة الله للأحنف بن قيس وجارية بن قدامة ورجال من بني سعد معهما كلاماً أحفظهم، فردوا عليه جواباً مقذعاً، وبنت قرظة في بيتٍ يقرب منه، فسمعت ذلك، فلما خرجوا قالت: يا أمير المؤمنين، لقد سمعت من هؤلاء الأجلاف كلاماً تلقوك به فلم تنكر، فكدت أخرج إليهم فأسطو بهم. فقال لها معاوية: إن مضركاهل العرب، وتميماً كاهل مضر، وسعداً كاهل تميمٍ، وهؤلاء كاهل سعدٍ.
وكان معاوية يقول: إني لا أحمل السيف على من لا سيف معه، وإن لم تكن إلا كلمة يشتفي بها مشتفٍ جعلتها تحت قدمي، ودبر أذني
المقذع: الذي فيه إقذاع وهو السيء من القول.
باب
لرجل من بني سعد يرثي رجلاً
قال أبو العباس: قال رجل - أحسبه من بني سعد - يرثي رجلاً:
ومختضر المنافع أريحي ... نبيلٍ في معاوزةٍ طوال
عزيزٍعزةً في غير فحشٍ ... ذليلٍ للذ ليل من الموالي
جعلت وساده إحدى يديه ... وتحت جمائه خشبات ضال
ورثت سلاحه، وورثت ذوداً ... وحزناً دائماً أخرى الليالي
قوله:" أريحي" هو الذي يرتاح للمعروف،أي يخف له، ويقال: أخذت فلاناً أريحية،أي خفة وحركة لفعل المعروف.و المعاوز: الثياب التي يتبذل فيها الرجل،وهي دون الثياب التي يتجمل بها،واحدها معوز،قال الشماخ في نعت القوس:
إذا سقط الأنداء صينت وأشعرت ... حبيراً ولم تدرج عليها المغاوز1
وقوله:" في معاوزة" : فزاد الهاء .،فإنما يفعل ذلك لتحقيق التأنيث، لأن كل جمع مؤنث،كما تقول في جمع صيقلٍ صياقل،و صياقلة، وكذلك جوارب وجواربة،إلاأن أكثر الأعجمي يختص بالهاء، وهو في الغربي جيد، وفي العجمي أكثر استعمالاً نحو الموازجة2، فإن كان الباب فيه إثبات الهاء وتركها جائز.، نحو المهالبة والأحامرة، وقالوا: السبابحة3 لأنه قد اجتمع فيه النسب والعجمة.
ـــــــ
1 الأنداء: جمع الندى، وهو ما يسقط ليلا.وأشعرت: ألبست الشعار، وهو الثوب الذي يلى الجسد. الحبير: البرد الموشى.
2 الموازجة: جمع موزج، وهو الخف، وأصله: "موزة". "وانظر المعرب 311".
3 قال في اللسان: السبابجة: قوم ذوو جلد من السند والهند يكونون مع رئيس السفينة البحرية واحدهم سبيجى، ودخلت في جمعة الهاء للعجمة والنسب، كما قالوا: البرابرة".
وقوله: "تحت جمائه" يعني شخصه، والضال: السدر البري وما كان من السدر على الأنهار فليس بضال، ولكن يقال له: عبري. قال ذو الرمة: "عبرياً وضالاً"1.
ورثت سلاحه وورثت ذودا
يصف قرب نسبه منه، والذود: القطعة من الإبل، وأكثر ما يستعمل ذلك في الأناث، ويجوز في السائر، ومنه قولهم: الذود إلى إبل، ثم قال:
وحزناً دائماً أخرى الليالي
كما قال وغبط بميراثٍ ورثه من أحد أهله:
يقول جزءٌ ولم يقل جللاً- ... إني تزوجت ناعماً جذلاً
إن كنت أزنتني بها كذباً ... جزء فلاقت مثلها عجلا
أغبط أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذوداً شصائصاً نبلا
قوله: " ولم يقل جللا" أي صغيراً، والجلل يكون للصغير، ويكون للكبير، من ذلك قوله:
كل شيء ما خلا الله جلل
أي صغير، وقال لبيدٌ في الكبير:
وأرى أربد قد فارقني ... ومن الأرزاء رزءٌ ذو جلل
وقوله: "شصائصاً" ، يعني حقيرة دميمة. وزعم التوزي أن النبل من الأضداد، يكون للجليل والحقير، واححتج بهذا البيت الذي ذكرناه، قال: يريد ههنا الحقيرة.
وقوله: "أزنتني"، أي قرفتني ونسبتني إليه، فلان يزن بكذا وكذا، أي يسمى به، ةينسب إليه، قال امرؤ القيس بن حجر:
كذبت، لقد أصبي على المرء عرسه ... وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
ـــــــ
1 ر: "قال ذو الرمة":
قطعت إذا تجوفت العواطى ... ضروب السدر عبريا وضالا
والعواطي: الظباء تمد أعناقها إلى الشجر. "وانظر ديوانه 440".
وفي معنى قوله: " ورثت سلاحه" قول الشاعر:
يفرح الوارث بالمال إذا ... ورث المال ويبكي إن غضب
ومثله قول الفزاري:
ياحبذا التراث لولا الذلة
لجميل بن معمر في النسيبوقال جميل بن معمرٍ:
ما صاءب من نائلٍ قذفت به ... يدٌ، وممر العقدتين وثيق
له من خوافي النسر حم نظائرٌ ... ونصل كنصل الزاعبي فتيق
على نبعةٍ زوراء، أيما خطامها ... فمتنٌ، وأيما عدها فعتيق
بأوشك قتلاً منك يوم رميتني ... نوافذ لم تعلم لهن خروق
كأن لم نحارب يا بثين لو أنها ... تكشف غماها وأنت صديق
قوله: " ما صائب" يريد قاصداً، يقال: صاب يصوب إذا قصد، ومن ذلك قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} 1 وقد قالوا: النازل، والقصد أحكم كما قال بشر بن أبي خازم الأسدي:
تؤمل2 أن أؤوب لها بغنم ... ولم تعلم بأن السهم صابا
وقوله: "وممر العقدتين" يعني وتراً، والممر: الشديد الفتل.
وقوله: "من خوافي النسر حم نظائر" يريد ريش السهم، والحم: السود، وذلك أخلصه وأجوده، وجعلها في مقادير، لأنه أقصد للسهم، وإذا كانت الريشات بطن الواحدة منها إلى ظهر الأخرى فهو الذي يختار وهو الذي يقال له اللؤام، وإنما أخذ من قولهم: ملتئم. وإن كان ظهر الواحدة إلى ظهر الأخرى، وبطنها إلى بطن الأخرى فذلك مكروه، يقال له اللغاب.
ـــــــ
1 سورة البقرة 19.
2 ر: "صدر البيت عن ابي الحسن".
وقوله: " كنصل الزاعبي"، شبه نصل السهم بنصل الرمح الزاعبي، وهو منسوب إلى رجل من الخزرج، يقال له زاغبٌ، كان يعمل الأسنة، هذا قول قوم. وأما الأصمعي فكان يقول: الزاغبي: الذي إذا هز فكأن كعوبه يجري بعضها في بعضٍ للينه وتثنيه، يقال مر يزعب بحمله إذا مر مراًسهلاً.
وقوله: "فتيق" يعني حاداً رقيقاً، يقال: فتيق الشفرتين، وتأويله أنه يفتق ما عمد به له. و" فعيل" يقع اسماً للفاعل، ويقع للمفعول، فأما الفاعل فمثل رحيم وعليم وحكيم وشهيد، وأما ما كان للمفعول، فنحو جريح وقتيل وصريع.
وقوله:" زوراء" يريد معوجة، وكلما كانت القوس أشد انعطافاٌ كان سهمها أمضى.
وقوله: " على نبعة"، يعني قوساً وأكرم القسي ما كان من النبغ.
وقوله: "أيما" إنما يريد "أما"، واستثقل التضعيف، فأبدل الياء من إحدى الميمين،وينشد بيت ابن أبي ربيعة:
رأت رجلا، أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى، وأيما بالعشي فيخصر
وهذا يقع، وإنما بابه أن تكون قبل المضاعف كسرة فيما يكون على فعال، فيكرهون التضعيف والكسر، فيبدلون من المضعف الأول الياء للكسرة وذلك قولهم: دينار وقيراطٌ وديوان ما أشبه ذلك، فإن زالت الكسرة وانفصل أحد الحرفين من الآخر رجع التضعيف فقلت: دنانير وقراريط ودواوين، وكذلك إن صغرت قلت قريريط ودنينير.
وقوله:" وأيما عودها فعتيق" ، يصف كرم هذه القوس وعتقها، ويحمد منها أن تترك ولحاؤها عليها بعد القطع حتى تشرب ماءه، كما قال الشماخ:
فمظعها حولين ماء لحائها ... وينظر منها أيها هو غامر
مظعها: شربها1.
ـــــــ
1 زيادات ر: "قوله: "فمظعها حولين"، أى تركها في الظل حولين حتى تشرب ماء اللحاء، يقال: تمظع الرجل الظل إذا تحول من مكان إلى مكان".
وقوله: "بأوشك قتلا منك" ، يقول: بأسرع، يقال: أمر وشيك أي سريع، ويقال: يوشك فلان أن يفعل كذا، أي يقارب ذلك، ويوشك يفعل، كذا يطرح "أن "كل جيد قال1:
يوشك من فر من منيته ... في بعض غراته يوافقها
من لم يمت عبطة يمت هرماٌ ... للموت كأس فالمرء ذائقها
قال أبو الحسن: هذه أبيات أربعة وهي لرجل من الخوارج قتله الحجاج:
ما رغبة النفس في الحياة وإن ... عاشت قليلاٌ فالموت لاحقها
وأيقنت أنها تعود كما ... كان براها بالأمس خالقها
قوله: "عبطة"، أي شاباٌ، يقال: اعتبط الرجل، إذا مات شاباٌ من غير مرض، وأصل العبيط الطري من كل شيْ وقوله:
نوافذ لم تعلم لهن خروق
معنى طريف، وقد أخذه أبو حية منه فكشفه في أبيات مختارة، وهي2:
وإن دماٌ لو تعلمين جنيته ... على الحي جاني مثله غير سالم
أما إنه لو كان غيرك أرقلت ... إليه القنا بالراعفات اللهاذم3
ولكن لعمر الله ما طل مسلما ... كغر الثنايا واضحات الملاغم
إذا هن ساقطن الحد يث كأنه ... سقاط حصى المرجان من سلك ناظم
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو أمية بن أبي الصلت" ، وكذا في حاشية الأصل أيضا.
2 زيادات ر: "اسم أبي حية الهيثم بن الربيع" وفي س: وهو قول أبي حية النميرى".
3 اللهاذم: القواطع.
رمين فأقصدن القلوب فلم نجد ... دما مائراٌ إلا جوى في الحيازم1
قال أبو الحسن: وأول هذه الأبيات المختارة أنشدناه غيره:
وخبرك الواشون أن لن أحبكم ... بلى وستور الله ذات المحارم2
أصد وما الصد الذي تعلمينه ... شفاءٌ لنا إلا اجتراع العلاقم
قال أبو العباس: فهذا مأخوذ من ذلك.
وقوله:
ولكن لعمر الله ما طل مسلماً
يقول: ما طل دمه، يقال: دمٌ مطلول، إذا مضى هدراً، كما قال الراجز:
بغير عقلٍ ودمٍ مطلول
وحدثني التوزي قال: قال يحيى بن يعمر لرجل نازعته امرأته عنده: آن طالبتك بثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها!
قوله: "ثمن شكرها" فإنما يعني الرضاع، والشبر: النكاح، والشكر: الفرج.وقوله: "أنشأت تطلها" أي تسعى في بطلان حقها.
وقوله:" تضهلها" أي تعطيها الشيء بعد الشيء: يقال: بئر ضهول إذا كان ماؤها يخرج من جرابها شيئاً بعد شيء، وجرابها جوانبها، وإنما يغزر ماؤها إذا خرج من قرارتها فتعظم جمتها3.
ـــــــ
1 زيادات ر: "الكاف في قوله: "كغر" فاعلة بقوله: "طل"، ومنه قول الأعشى:
أتنتهون ولن ينهى ذوى شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وقول امرىء القيس:
وإنك لم يفخر عليك كفاخ ... ضعيف ولم يغلبك مث مغلب
2 ر: ذكر بعده عن أبى الحسن:
حياء وبقيا أن تشيع نميمة ... بناديكم، اف لأهل النمائم!
وأورد هذا البيت في حاشية الأصل عن أبى على.
3 الجمة: كثرة الماء.
وقوله: "واضحات الملاغم" يريد العوارض، قال الفرزدق:
سقتها خروق في المسامع لم تكن ... علاطاً ولا مخبوطة في الملاغم
يقول: علم أرباب الماء لمن هي فسقاها ما سمعوه من ذكر اصحابها لعزهم ومنعتهم، ولم تحتج أن تكون بها سمةٌ.
والعلاط: وسمٌ في العنق، والخباط في الوجه.
باب
نبذ من أقوال الحكماءقال أبو العباس1 قال بعض الحكماء: من أدب ولده صغيراً سر به كبيراً وكان يقال: من أدب ولده أرغم حاسده.
وقال رجل لعبد الملك بن مروان إني أريد آن أسر إليك شيئاً، فقال عبد الملك لأصحابه: إذا شئتم، فنهضوا، فأراد الرجل الكلام، فقال له غبد الملك قف، لا تمدحني، فآنا أعلم بنفسي منك، ولا تكذبني، فإنه لا رأي لمكذوبٍ ? ولا تغتب عندي احداً.فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في الانصراف? قال له: إذا شئت.
وقال بعض الحكماء: ثلاث لا غربة معهن: مجانبة الريب، وحسن الأدب، وكف الأذى.
وقال عمرو بن العاص لدهقان2 نهر تيرى3: بم ينبل الرجل عندكم ? فقال: بترك الكذب، فإنه لا يشرف إلا من يوثق بقوله، وبقيامه بأمر أهله، فإنه لا ينبل من يحتاج أهله إلى غيره، وبمجانبة الريب، فإنه لا يعز من لا يؤمن ألا يصادف على سوأة، وبالقيام بحاجات الناس، فإنه من رجي الفرج لديه كثت غاشيته.
وقال بزر جمهر: من كثر أدبه كثر شرفه، وإن كان قبل وضيعاً، وبعد صيته وإن كان حاملاً، وساداً وإن كلن غريباً، وكثرت الحاجة إليه وإن كان مقتراً.
وكان يقال: عليكم بالأدب، فإنه صاحبٌ في السفر، ومؤنس في الوحدة، وجمال في المحفل، وسبب إلى طلب الحاجة.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من أفضل ما أعطيته العرب الأبيات. يقدمها الرجل أمام حاجته، فيستعطف بها الكريم، ويستنزل لها اللئيم.
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 الدهقان: زعيم فلاحى العجم، ويطلق على رئيس الإقيلم.
3 نهر تيرى: موصع بناحية الأهواز.
وكان شعبة بن الحجاج، أو سماك بن حرب-[قال أبو الحسن: هو سماك بلا شك]-1إذا كانت له إلى أمير حاجة استنزله بأبيات يقولها فيه.
وقال بعض الملوك لبض وزرائه وأراد محنته: ما خير ما يرزقه العبد قال: عقل يعيش به .قال: فإن عدمه قال: فأدب يتحلى به قال: فإن عدمه قال: فمال يستره قال: فإن عدمه قال: فصاعقة تحرقه، فتريح منه العباد والبلاد.
وقيل لرجل من ملوك العجم: متى يكون العلم شراٌ من عدمه قال: إذا كثر الأدب، ونقصت القريحه وقال أزدشير: من لم يكن عقله أغلب خلال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خلال الخير عليه.
وقال محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وذكر رجلاٌ من أهله: إني لأكره أن يكون لعلمه فضل على عقله، كما أكره أن يكون للسانه على علمه .
وقال محمد بن علي بن الحسين: جميع التعايش والتناصف والتعاشر في ملء مكيال، ثلثاه فطنة، وثلث تغافل فلم يجعل لغير الفطنة نصيباٌ من الخير، ولا حظاٌ في الصلاح، لأن الإنسان لا يتغافل إلا عن شىء قد عرفه وفطن به .
ـــــــ
1 من ر: وحاشية الأصل.
باب
لرجل من بني عبد الله بن غطفان، وكان قد جاور في طيىءقال أبو العباس1: قال رجل2 من بني الله بن غطفان وجاور في طيىء وهو خائف:
جزى الله خيراٌ من عشيرة ... ومن صاحب تلقاهم كل مجمع
هم خلطوني بالنفوس ودافعوا ... ورائي بركن ذي مناكب مدفع3
وقالوا تعلم أن مالك إيصب ... نفدك، وإن تحبس نزرك ونشفع
ـــــــ
1 ساقطة من ر.
2 نسبه أبو تمام إلى ابن دارة، "وانظر الوحشيات 2.3".
3 قال المرصفى في شرح البيت: "بركن، يريد بجيش يعتصم به، تشبيها بركن الجبل، والمناكب في الأصل: جمع المنكب، وهو مارتفع من الأرض، شبهه بها مبالغة في الاعتصام، ومدفع، كمنبر: اسم آلة الدفع، يريد أنه قوى في الدفاع".
لرجل من بني سلامان يمدح طيئاٌ
وقال رجل من بني سلامان بن سعد هذيم1 من قضاعة،وجاور في طيىء:
كأن الجار في شمجى بن جرم2 ... له نعماء أو نسب قريب
يحاط ذماره ويذب عنه ... ويحمي سرحه أنف غضوب3
ألفت مساكن الجبلين إني ... رأيت الغوث يألفها الغريب4
ـــــــ
1 حاشية الأصل: "سعد هذيم أضيف إلى عبد كان لأبيه يحتضنه".
2 شمجى بن جرم: قبيلة من قضاعة.
3 الذمار: مايلزم الإنسان حمايته من عرض ومال. والسرح: مايسام في المرعى من الأنعام.
4 زيادات ر: "الجبلان: سلمى وأجا، وهما لطيئ، والغوث: قبيلة من طيئ".
لعبيد بن العرندس الكلابي يصف قوماقال أبو العباس1: وأنشدني عبد الوهاب بن جنبة الغنوي لعبيد بن العرندس الكلابي يصف قوماٌ نزل بهم:
ـــــــ
1 ساقط من ر، س.
هينون لينون أيسار ذوو يسرٍ ... سواس مكرمة أبناء أيسار
لاينطقون على العميان إن نطقوا ... ولايمارون إن ماروا بإكثار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
قال أبو الحسن : حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال : حدثت عن أبي الفضل العباس بن الفرج الرياشي قال : قصد رجل من الشعراء ثلاثة من غني، إخوة وكانوا مقلين، فامتدحهم،فجعلوا له عليهم في كل سنة ذوداٌ فكان يأتي فيأخذ الذود والشعر الذي امتدحهم به قوله:
يادار بين كليات وأظفار ... والحمتين، سقاك الله من دار
على تقادم ما قد مر من عصر ... مع الذي مر من ريح وأمطار
عنا غنيت بذات الرمث من أجلى ... والعهد منك قديم منذ أعصار
وقد نرى بك والأيام جامعة ... بيضاً عقائل من عينٍ وأبكار
فيهن عثمة لا يمللن عشرتها ... ولا علمن لها يوماً بأسرار
إذ يحسب الناس إن قد نلت نائلها ... قدماً وأنت عليها عاتب زار
بل أيها الراكب المفني شبيبته ... يبكي على ذات خلخالٍ وأساور
خبر ثناء بني عمرو فإنهم ... أولو فضولٍ وأنفالٍ وأخطار
هينون لينون أيسار ذوو كرم ... سواس مكرمةٍ أبناء أيسار
فيهم ومنهم يعد المجد متلداً ... ولا يعد نثا خزي ولا عار
لا يظعنون على العمياء إن طغنوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار
وإن تلينتم لانوا وإن شهموا ... كشفت أذمار حربٍ غير أغمار
إن يسألون العرف يعطوه وإن جهدوا ... فالجهد يكشف منهم طيب أخبار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
للمكعبر الضبي يمدح بني مازن ويذم بني العنبرقال أبو العباس: وكان قوم نزلوا ببني العنبر بن عمرو بن تميم، والقوم من بني ضبة، فأغير عليهم، فاستغاثوا جيرانهم فلم يغيثوهم، وجعلوا يدافعونهم حتى خافوا فوتها، فاستغاثوا بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، فركبوا فردوها عليهم، فقال المكعبر1 الضبي في ذلك:
أبلغ طريفاً حيث شطت بها النوى ... فليس لدهرالطالبين فناء
كسالى إذا لا قيتهم غير منطق ... يلهى به المحروب وهو عناء
وإني لأرجوكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء
أخبر من لاقيت أن قد وفيتم ... ولو شئت قال المخبرون أساؤوا
فهلا سعيتم سعي أسرة مالك ... وهل كفلائي في الوفاء سواء
كأن دنابيراً على قسماتهم ... وإن كان قد شف الوجوه لقاء
لهم أذرع بادٍ نواشر لحمها ... وبعض الرجال في الحروب غثاء
ـــــــ
1 ضبط في الأصل بفتح الباء وكسرها معا. وفي حاشية الأصل: "قال أبو الحسن: حفظى: المكبر[بكسر الباء]. وفي زيادات ر: "اسمه حريث بن عفوظ".
والأبيات في حماسه أبي تمام "30: 4"- بشرح التبريزي منسوبة إلى محرز بن المكعبر الضبي، وأولها بروايته:
أبلغ عديا حيث صارت بها النوى ... وليس لدهر الطالبين فناء
قال التبريزي: "كان محرز بن المكعبر جارا لبنى عدى بن جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، فأغار بنو عمرو بن كلاب على إبله فذهبوا بها، فطلب إلبهم أن يسعوا له، فوعدوه أن يفعلوا، فلما طال ذلك عليه ورآهم لا يصنعون شيئا أتى المخارق والساحق ابنى شهاب المزنيين-وهما من بنى خزاعة-فسعيا له بإبله فرداها عليه"، فأنشد الأبيات.
قوله: "حيث شطت بها النوى"، معنى شطت: تباعدت، ويقال: أشط فلان في الحكم إذا عدل عنه متباعداً، قال عز وجل: {وَلا تُشْطِطْ} 1.
وقال الأحوص:
ألا يا لقومي قد أشطت عواذلي ... ويزعمن أن أودى بحقي باطلي
ويلحينني في اللهو ألا أحبه ... وللهو داعٍ دائبٌ غير غافل
والنوى: البعد، ويقال: شطت بهم نيةٌ قذف، أي رحلة بعيدة، قال الشاعر2:
وصحصحان قذف كالترس
وليس بمأخوذ من "نأيت" في اللفظ، ولكنه مثله قي المعنى وقوله:
فليس لدهر الطالبين فناء
يقول: الطلب في إثر طلبته أبداً. ويروى أن رجلاً من قريش بعث إلى رجل منهم وكان أخذ له غلاماً: يل هذا، إن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب، فإما رددته، وإما عرضت اسمك على الله في كل يوم وليلة خمس مرات.
قال أبو الحسن: الرجل الذي أخذ منه الغلام هو جعفر بن محمد بن علي أبن الحسين، والآخذ سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس.
ومن أمثال العرب: "لا ينام إلا من اثَّأَرَ" . ويقال لمن أدرك ثأراً نبيلاً: أصاب ثأراً منيماً، وأنشد:
ـــــــ
1 سورة ص 22.
2 هو العجاج، والصحصحان: المكان المستوى الأملس، ولملامسته شبهه بالترس. "وانظر مشارف الأفاويز-1".
تقول لي ابنة البكري عمرو ... لعلك لست بالثأر المنيم
وقوله:
وإني لأرجوكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء
يقول: وهذا رجاءٌغير صادقٍ ولا موقوفٍ عليه، كما أن هذه الحوامل لا يعلم ما في بطونها وليس بميئوس منه، وإنما يتهكم بهم وهو يعلم أن سعيهم غير كائن، ألا تراه يقول:
أخبر من لاقيت أن قد وفيتم ... ولو شئت قال المخبرون أساؤوا
وقوله:
كأن دنانيراً على قسماتهم
زعم أبو عبيدة أن القسمات مجاري الدموع، واحدتهاقسمة، وقال الأصمعي: القسمات أعالي الوجه، ولم يبينه بأكثر من هذا. وقول أبي عبيدة مشروح، ويقال من هذا: رجل قسيمٌ، ورجل مقسمٌ، ووجهٌ قسيمٌ ومقسمٌ، قال الشاعر:
ويوماً توافينا بوجهٍ مقسم ... كأن ظبية تعطو إلى وراق السلم
قوله" تعطو"، أي تتناول، يقال: عطا يعطو إذا تناول، وأعطيته أنا، أي ناولته، قال امرؤ القيس:
وتعطو برخص غير شثنٍ كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل1
والسلم: شجر بعينه كثير الشوك، فإذا أرادوا أن يحتطبوه شدوه، ثم قطعوه، فمن ذلك قول الحجاج: والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل2.
ـــــــ
1 برخص، أي ببنان رخص، والرخص: الناعم. والشئن: الغليظ الخشن. ظبى: اسم رملة، والأساريع، دود مفصل الألوان بياضا وحمرة، تشبه به أصابع النساء. والإسحل: شجر يستاك بعيدانه.
2 غرائب الإبل: هب الإبل الغريبة التي تدخل بين الإبل حال ورودها الماء، فتضربها الرعاء ضربا شديدا.
قال: وحدثني التوزي عن أبي زيد قال: سمعت العرب تنشد هذا البيت فتنصب" الظبية" وترفعها وتخفضها.
قال أبو العباس: أما رفعها فعلى الضمير، وعلى هذا قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} 1 وهذا الباب قد شرحناه في الكتاب "المقتضب" في باب "إن وأن" بجميع علله، ومن نصب فعلى غير ضمير، وأعملها مخففة عملها مثقلة، لأنها تعمل لشبهها بالفعل، فإذا خففت عملت عمل الفعل المحذوف، كقولك: ام يك زيدٌ منطلقاً، فالفعل إذا حذف يعمل عمله تاماً، فيصير التقدير: كأن ظبية تعطو إلى وراق السلم هذه المرأة. وحذف الخبر لما تقدم من ذكره. ومن قال: "كأن ظبية "جعل" أن" زاءدة، وأعمل الكاف: أراد: كظبية، وزاد"أن" كما تزيدها في قولك: لما أن جاء زيدٌ كلمته، ووالله أن لو جئتني لأعطيك.
وقوله:
"لهم أذرع بادٍ نواشر لحمها"
فكل شيء كان على" فعال" من المؤنث فجمعه أفعل، وكذلك فعال، تقول: ذراع أذرع،كراع وأكرعٌ، لأنهما مؤنثتان، ومن أنث اللسان قال: ألسن، ومن ذكره قال ألسنة، وشمالٌ وأشملٌ، كما قال الشاعر2:
"يأتي لها من أيمن وأشمل"
فأما المذكر فعلى أفعلةٍ في أدنى العدد وفعل في الكثير، يقال: حمارٌ وأحمرةٌ وحمر، وفراشٌ وأفرشة وفرش.والنواشر ما يظهر من العروق في ظهر الذراع مما يداني المعصم، وذلك الموضع يقال له أسلة الذراع، قال زهير:
ودارٌ لها بالرقمتين كأنها ... مراجع وشمٍ في نواشر معصم3
ـــــــ
1 المزمل: 20.
2 زيادات ر: "هو أبو النجم العجلى"، وبعده:
وهي حيال الفرقدين تعتلى
وانظر الطرائف الأدبية 63.
3 الرقمتان: روضتان بناحية الضمان.
وقوله:
وبعض الرجال في الحروب غثاء
فالغثاء: ما يبس من البقل حتى يصير حطاماً، وينتهي في اليبس فيسود،فيقال له: غثاء وهشيم ودندن وثن، على قدر اختلاف أجناسه، ويقال له: الدرين، قال الله عز وجل: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} 1 وقال: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} 2 ، وقال الشاعر يصف سحاباً: 3
إذا ما هبطن الأرض قد مات عودها ... بكين بها حتى يعيش هشيم
وقال الراجز:
تكفي الفصيل أكلةٌ من ثن
وقد يقال للشيء الذي لا خير فيه: هذا غثاء، أي قد صار كذلك الذي وصفناه، ويضرب هذا مثلاً للكلام الذي لا وجه له.
ـــــــ
1 الأعلى: 5.
2 الكهف: 45.
3 زيادات ر: "هو ابن ميادة، وقبله:
سحائب لا من صيف ذى صواعق ... ولامحرقات ماؤهن حميم
لرجل تميمي في الرثاءوقال رجل أحسبه تميميا1ً:
لو لم يفارقني عطية لم أهن ... ولم أعط أعدائي الذي كنت أمنع
شجاعٌ إذا لاقى، ورامٍ إذا رمى ... وهادٍ إذا ما أظلم الليل مصدع
سأبكيك حتى تنفد العين ماءها ... ويشفى مني الدمع ما أتوجع
أحسن الإنشادين عندي: "لم أهن"، يأخذه من وهن يهن، لأنه إذا قال: " لم أهن" فهو من الهوان، ومن قال: "لم أهن" فإنما هو من الضعف، وهو أشبه
ـــــــ
1 نسب هذه الأبيات أبو على ألقالى إلى حكيم بن معية أحد بنى ربيعة الجوع يرثى أخاه عطية بن معية.
وانظر ذيل الأمالى 75: 1. وفي زيادات ر "هو الفرزدق"، قال المرصفى: "يرثى صديقة ونديمه عطية بن جعال، وكان من سادات تميم".
بقوله:
ولم أعط أعدائي الذي كنت أمنع
والآخرغير بعيد، يقول: لم أهن على أعدائي، وإذا قال "لم أهن" فالأصل: " لم أهن" ، ولكن الواو إذا كانت في موضع الفاء من الفعل، وكان ذلك الفعل على "يفعل"، قالوا محذوفة، وإنما تحذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، وتصير حروف المضارعة الباقية تابعة للياء، لئلا يختلف الباب، وهي التاء من قولك: "تفعل" إذا عنيت مخاطباً أو مؤنثاً غائباً، نحو: تعد، وهي تعد، والهمزة إذا عنيت نفسك، نحو: أنا أعد، والنون إذا أخبرت عن نفسك ومعك غيرك، نحو: نحن نعد.
فإن قال قائل: إنما هذا لن الفعل المتعدي تحذف منه الواو، فإن كان غير متعد ثبتت، فقد قال أقبح قول، لأن التعدي أو غير التعدي لا يحدث في أنفس الأفعال شيئاً، ولو كان كما يقول لأثبت الواو في "وهن يهن"، لأنك لا تقول: وهنت زيداً، وكذلك ورم يرم ووكف1 البيت يكف، وونم2 الذباب ينم، وهذا أكثر من أن يحصى. فإن لم تكن بعد الواو كسرة لم تحذف، نحو وحل يوحل، ووجل يوجل، ووجع الرجل يوجع وقد يجوز ييجع وياجع وييجع لما نذكره إذا جرى إذا جرى ذكر هذه المفتوحة إن شاء الله. فأما الحذف فلا يكون فيها.
فإن قال قائل: فما بال يطأ ويسع حذفت منهما الواو، ومثلهما ثبتت فيه الواو،فإنما ذلك لأنه كان فعل يفعل مثل ولي يلي، وورم يرم، ففتحته الهمزة والعين، والأصل الكسر، فإنما حذفت الواو مما يلزم في الأصل، ألاترى أنك تقول: ولغ السبع يلغ، فهذا فعل يفعل والأصل يفعل، ولكن فتحته العين، لأن حروف الحلق تفتح ماكان على يفعل ويفعل، ولولا ذلك لم تقع فعل يفعل وحروف الحلق ستة: الهمزة، والهاء والعين، والغين، والحاء، والخاء، وهن، يفتحن إذا كن في موضع العين واللام، فأماالعين فنحو سأل يسأل وذهب
ـــــــ
1 وكف البيت: قطر منه الماء.
2 ونم الذباب: سلح.
يذهب ، وأما اللام فمثل قرأ يقرأ، وصنع يصنع، وسائر هذا الباب على ماوصفت لك.
وقوله:
وهادٍ إذا ماأظلم الليل مصدع
فتأويل"مصدع" أي ماض في الأمر، قال الله عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} 1 ويقال: أحزم الناس من إذا وضح له الأمر صدع به.
وقال أعرابي2 يمدح سوار بن عبد الله القاضي، وسوارٌ أحد بني العنبر بن عمرو بن تميم:
وأوقف عند الأمر ما لم يضح له ... وأمضى إذا ما شك من كان ما ضيا
فاستجمع في هذا المدح ركانة الحزم، وإمضاء العزم،ومثله قول النابغة الجعدي:
أبى لي البلاء وإني امرؤٌ ... إذاما تبينت لم أرتب
ومن أمثال العرب السائرة الجيدة: "رو تحزم "فإذا استوضحت فاعزم"ومن أمثالهم: "قد أحزم لو أعزم"، وإنما يكون هذا بعد التوقف والتبين، فقد قال الشعبي: أصاب متأمل أو كاد، وأخطأ مستعجل أوكاد.
ومثل قوله:
"ويشفي مني الدمع ما أتوجع"
قول الفرزدق:
ألم تر أني يوم جو سويقة3 ... بكيت فنادتني هنيدة: ما ليا
فقلت لها: إن البكاء لراحةٌ ... به يشتفي من ظن ألا تلاقيا
ـــــــ
1 الحجر 94.
2 حاشية الأصل "هو سلمة بن عياش".
3 جو سويقة: موضع بالصمان.
قال أبو الحسن: ويتلو هذ ين البيتين مما يستحسن:
قعيدكما الله الٌذي أنتما له ... ألم تسمعا بالبيضتين المناديا1
حبيب دعا، والرمل بيني وبينه ... فأسمعني، سقياٌ لذلك،داعيا
يقال: قعيدك الله، وقعدك الله، ونشدك الله، أي سألتك بالله، كما قال متمم بن نويرة، وهو من بني يربوع:
قعيدك ألاٌتسمعني ملامة ... ولاتنكئي قرح الفؤاد فييجعا
ويرى:" فقعدك ألآتسمعني"، والبيضتان: موضع معروف.
قال أبو العباس: وقال أبو بكر بن عياش: نزلت بي مصيبة أوجعتني،فذكرت قول ذي الرمة:
لعل انحذار الدمع يعقب راحةً ... من الوجد،أويشفي نجي البلابل
فخلوت فبكيت فسلوت .
ـــــــ
1 قعيدك الله، قال الجوهري: "هي يمين العرب، وهي مصادر استعملت منصوبة بفعل مضمر، "وانظر اللسان قعد".
لنضلة السلمي في يوم غولوقال نضلة السلمي1 في يوم غولٍ وكان حقيراًدميماً،وكان ذا نجدةٍ وبأسٍ:
ألم تسل الفوارس يوم غولٍ2 ... بنضلة، وهو موتور مشيح
ـــــــ
1 الأبيات في مجالس ثعلب 7-8 روى أنه "مر قوم من بنى سليم برجل من مزينة يقال له نضلة في إبل له، فاستسقوه لبنا فسقاهم، فلما رأوا أنه ليس في الأبل غيره ازدروه، فأرادوا أن يستاقوها، فجالدهم حتى قتل منهم رجلا، وأجلى الباقين عن الإبل، فقال في ذلك رجل من بنى سليم..."، وأورد الأبيات. ونسبها الجاحظ في البيان "338: 3" إلى أبي محجن الثقفى، ولم ترد في ديوانه.
2 الغول: ماء للضباب فيه نخل وعيون.
ورواية ثعلب:
ألم تسأل فوارس من سليم
ورواية الجاحظ:
ألم تسل الفوارس من سليم
رأوه فازدروه وهو حر1 ... وينفع أهله الرجل القبيح
فشد عليهم بالسيف صلتاً ... كما عض الشبا الفرس الجموح
فأطلق غل صاحبه وأردى ... قتيلاً منهم ونجا جريح
ولم يخشوا مصالته عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الصريح
قوله: "وهو موتور مشيح" فالمشيح الحامل الجاد، يقال: أشاح يشيح إذا حمل، وأنشدني التوزي قال: أنشدني أبو زيد وهو لأبي العيال الهذلي:
مشيح فوق شيحان ... يشد كأنه كلب
قال: وشيحان اسم فرسه.
قال أبو الحسن ويروى: "شيحان" [بفتح الشين]2، وحقه3 على رواية أبي زيد ألا ينصرف لأنه فعلان، فالألف والنون زائدتان، وهو معرفة، فضارع عطشان وما جرى مجراه، وإنما اضطر فصرفه. وعن4 أبي زيد أيضاً يرويه:" شيحان"، وهو الجاد، وهو صفة شائعة، وليس كالأول فالأول معرفة مشتق عن النعت4.
وقال ابن الإطنابة، واسمه عمرو:
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
ويقال في هذا المعنى: رجل شيح، كما يقال: ناقة نقض، إذا كانت هزيلاً، قال أبو ذؤيب5:
وشايحت قبل اليوم إنك شيح
ـــــــ
1 ثعلب والجاحظ: "وهو خرق". والخرق: الفتى الكريم الخليقة.
2 من ر.
3 س: "وجب على رواية أبى زيد".
4 ساقط من ر.
5 صدره:
بدرت إلى أولاهم فسبقتهم
وانظر ديوان الهذليين 116: 1.
وقوله: "بالسيف صلتاً" يقول: منتضى، ورجل صلت الجبين إذا كان نقيه.
وقوله: "كما عض الشبا" يريد حد اللجام، وشبا كل شيء حده.
وقوله: "وأردى" أي أهلك، يقال: ردي يردى إذا هلك، والردى: الهلاك، قال الله عز وجل: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} 1 ، قيل فيه قولان: أحدهما إذا تردى في النار، والآخرإذا مات، وهو" تفعل" من الردى.
وقوله:
ولم يخشوا مصالته عليهم
فهي" مفعلة" من صال يصول، ويقال: صال البعير إذا عض.
وقيل للمغيرة بن شعبة: إن بوابك يإذن لأصحابه قبل أصحابك، فقال: إن المعرفة لتنفع عند الكلب العقور، والجمال الصؤول، فكيف بالرجل الكريم!
وقوله:
وتحت الرغوة اللبن الصريح
يقول: إذا رأيت الرغوة وهو ما يرغو كالجلد في أعلى اللبن لم تدر ما تحتها، فربما صادفت اللبن الصريح إذا كشفتها. أي أنهم رأوني فازدروني لدمامتي، فلما كشفوا عني وجدوا غير ما رأوا. والصريح: المحض الخالص، من ذلك قولهم: عربي صريح أي خالص، ومولى صريح.
ومن أمثال العرب: "إنه ليسر حسوا في ارتغاء" ومعنى ذلك أنه يوهمك أنه يأخذ بفيه تلك الجلدة عن اللبن ليصلحه لك، يحسو من تحتها، يضرب هذا المثل لمن يريك أنه يعينك، وإنما يجتر النفع إلى نفسه.
ـــــــ
1 سورة الليل: 11.
لأعرابي من بني سعد خلاف الدمامةوقال أعرابي خبرت أنه من بني سعد وقد تمثل بهذا الشعر الخنوت، وهو توبة بن مضرس، أحد بني مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم، في خلاف الدمامة:
ولما التقى الصفان واختلف القنا ... نهالاً وأسباب المنايا نهالها
تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أشداء الرجال طوالها
دعوا: يا لسعد وانتمينا اطيىء ... أسود الشرى إقدامها ونزالها1
قوله: "نهالاً" يريد أنها قد وردت الدم مرة ولم تثن، وذلك أن الناهل الذي يشرب أول شربة، فإذا شرب ثانية فهو عال، يقال: سقاه علاً بعد نهل، وعللاً بعد نهل وفي المثل: "سمته سوم عالة" إذا عرضت عليه عرضاً يستحيي من أن يقبل معه، والعالة لا حاجة بها إلى الشرب، وإنما يعرض عليها تعزيزاً. قال: "وأسباب المنايا نهالها"، أي أول ما يقع منها يكون سبباً لما بعده، وأنشدني غير واحد:
وأن أشداء الرجال طيالها
وليس هذا بالجيد، وإنما قلب الواو ياء لوقوعها بين كسرة وألف كقولهم: ثياب، وحياض، وسياط، والواحد ثوب، وحوض، وسوط: وهذا جيد، لكون الواو في الواحد، فأما في مثل طوال، فإنما يجوز على التشبيه بهذا، وليس بجيد لتحرك الواو في الواحد. وأنشدني مسعود بن بشرالمازني:
لهم أوجه بيض حسان وأذرع ... طيال ومن سيما الملوك نجار2
ومجاز هذا في النحو على ما وصفت لك.
ـــــــ
1 حاشية الأصل: "ذكر أبو رياش في شرح الحماسة أن هذا الشعتر لأنيف بن حكيم النبهاني" وانظر شرح التبريزي 189:1 .
2 النجار: الأصل.
العرب تمدح الطول
و
العرب تمدح بالطول، وتضع من القصر، فلا يذكره منهم إلامحتج عن نفسه،ولا يمدح به غيره، قال عنترة:
بطل كأنٌ ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم1
يقول: لم يشارك في الرحم، وقال جرير:
تعالوا ففاتونا ففي الحكم مقنع ... إلى الغر من أهل البطاح الأكارم2
فإني لأرضى عبد شمس وماقضت ... وأرضى الطوال البيض من آل هاشم
ـــــــ
1 السبت: الجلد المبوغ بالقرظ.
2 فاتونا: حاكمونا.
وقال حسان بن ثابت:
وقد كنا نقول إذا رأينا ... لذي جسم يعد وذي بيان
كأنك أيها المعطى بيانا ... وجسماً من بني عبد المدان
ويقال إن عليٌ بن عبد الله العباس بن عبد المطلب كان إلى منكب عبد الله، وكان عبد الله إلى منكب العباس، وكان العباس إلى منكب عبد المطلب.
وحدثني التوزيٌ قال: طاف عليٌ بن عبد الله بالبيت، وهناك عجوز قديمة،وعليٌ قد فرع الناس، كأنه راكب والناس مشاة، فقالت: من هذا الذي فرع الناس فقيل: عليٌ بن عبد الله بن العباس، فقالت: لا إله إلاالله، إن الناس ليرذلون عهدي بالعباس يطوف بهذا البيت كأنه فسطاط1 أبيض.
وحدثني عليٌ بن القاسم بن عليٌ بن سليمان بن عليٌ بن عبد الله بن العباس قال: كان يقال: صار شبه عليٌ بن عبد الله في عظم الأجسام في العليين يعني عليٌ ابن أمير المؤمنين المهدي المنسوب إلى أمه ريطة،علي بن سليمان بن عليٌ .
ويروى أن رسول الله صلى الله عليهم وسلم وهو الأسوة والقدوة كان فوق الربعة2 ولم يكن بالطويل المشذب3، وكان إذا مشى مع الطوال طالهم ولم يختلف أهل الحكمة والنظر من العرب والعجم أن الكمال في الاعتدال، ولا يقال غير هذا عن حكيم وأبين ما فيه ما اختاره الله تعالى لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد يقال: الكيس في القصر وقد قيل في خبر قصير4 وكيده ومكره ما سار به المثل، واستغنى عن الاعادة.
ـــــــ
1 الفسطاط: ضرب من الأبنية.
2 الربعة: الرجل بين الطول والقصر.
3 المشذب: المفرط في الطول.
4 هو قصير بنى سعد اللخمى، وانظر خبره مع جذيمة بن مالك والزباء في مجمع الأمثال: 85.
لأعرابي يرد على مغنية عابته بالقصروحدثني العباس بن الفرج الرياشي قال: حدثني أبو عثمان المازني قال: كان أعرابيٌ يختلف إلى مغنية لآل سليمان، فأشرفت إليه5 ذات مرة فأومأت إليه إيماء عائب له بالقصر، فأنشأ يقول:
ـــــــ
1 ر: "عليه".
ياجعفرٌ يا جعفرٌ يا جعفر ... إن أك ربعةً فأنت أقصر
أو أك ذا شيب فأنت أكبر ... غرك سربال عليك أحمر
ومقنع من الحرير أصفر1 ... وتحت ذاك سوأةٌ لو تذكر
قال أبو الحسن: أنشدني أبو العباس محمد بن الحسن الوراق الشعر الذي فيه قوله:
ولما التقى الصفان واختلف القنا
بتمامه، وهو شعر مختار لرجل من طيىء، ويدل على ذلك ماتسمعه في الشعر،وهو قوله:
جمعنا لهم من حيٌ غوثٍ ومالكٍ ... كتائب يردي المقرفين نكالها
لهم عجز بالحزن فالرمل فاللوى ... وقد جاوزت حيي جديس رعالها
وتحت نحور الخيل حرشف رجلة ... تتاح لحبات القلوب نبالها
أبى لهم أن يعرفوا الضيم أنهم ... بنو ناتق كانت كثيراً عيالها
فلما أتينا السفح من بطن حائل ... بحيث تناصى طلحها وسيالها
دعوا لنزاروانتمينا لطيىء ... كأسد الشرى إقدامها ونزالها
فلما التقينا بين السيف فيهم ... لسائلةٍ عنا حفيٌ سؤالها
ولما عصينا بالرماح تضلعت ... صدور القنا منهم وعلت نهالها
ولما تدانوا بالسيوف تقطعت ... وسائل كانت قبل سلماً حبالها
فولوا وأطراف الرماح عليهم ... قوادم مربوعاتها وطوالها
الكتائب: جمع كتيبة، سميت كتيبة لاجتماعها وانضمام بعضها إلى بعض، يقال: تكتب القوم إذا تضاموا،ومنه أخذ الكتاب لانضمام حروفه، ولذلك قالوا:
ـــــــ
1 المقنع: ما تغطى به المرأة رأسها وتستر محاسنها.
بعلة مكتوبة إذا شد حياؤها وضم. ويردي: يهلك، يقال: ردي الرجل إذا هلك، والردى: الهلاك، والإرداء: الإهلاك. والمقرفون: الذين دخلوا في الفساد والعيث، وهو في الأصل الهجنة يقال: فرس مقرفٌ إذا كان هجيناً، ثم يشيع في الفساد.
والعجز؛ مؤخر العسكر ههنا، وهو مستعار. والحزن: ما خشن من الأرض وغلظ. واللوى: مستدق الرملة حيث ينقطع، يقال ألويتم فانزلوا: أي صرتم إلى آخر الرملة،وهواللوى.وجديس: قبيلة معروفة، فلذلك لم يصرفها. والرعال الجماعات المتفرقة، واحدها رعلةٌ.
والحرشف: نبت يكثر في البادية، وإنما شبه النبل به في الكثرة، والرجلة: الرجالة. وتتاح: تقدر، يقال أتاح الله له كذا وكذا، أي قدر له، والنبال جمع نبلٍ.
والناتق: الولود، فإذا أسرفت في ذلك وكثر ولدها جداً قيل منتاقٌ.
والسفح: أصل الجبل من الوادي. وحائل: موضع. وتناصى: تقابل وتقرب حتى يعلق هذا بهذا، وهذا بهذا عند هبوب الريح، يقال: تناصى الرجلان نصاء وتناصياً إذا اقتتلا فأخذ كل واحدٍ منهما بناصية صاحبه، والطلح والسيال: ضربان من الشجر معروفان.
وانتمى ونمى: انتسب. والشرى: موضع كثير السباع، وإنما يريد: كإقدام أسد الشرى وإقدامها، ثم حذف لعلم السامع.
وعصينا: جعلنا الرماح كالعصي. والعلل: الشرب الثاني، والنهل: الأول يريد أنا أعدناها إلى الطعن مرة بعد أخرى.
وقوادم: ذات إقدام، فجاء به على الأصل، كما قال:
يخرجن من أجواز ليلٍ غاض1
أي مغضٍ، فجاء به على الأصل، وهو كثير.
ـــــــ
1 البيت لرؤبة:
وبعده:
نضو قداح النابل النواضى
وانظر ديوانه 82.
والمربوعات: المعتدلة التي لم تبلغ أن تكون رمحاً، وهو رفعٌ، كأنه قيل له: ما هي? فقال: هي مربوعاتها وطوالها، ولو خفض وجعله بدل البعض من الكل لكان حسناً، وكان يكون مقوى، ولكن هكذا أنشدناه مرفوعاً على التقدير الذي ذكرناه.
باب
صبرة بن شيمان عند معاويةقال أبو العباس: حدثت أن صبرة بن شيمان الحداني دخل على معاوية،والوفود عنده، فتكلموا فأكثروا، فقام صبرة فقال: يا أمير المؤمنين، إنا حي فعالٍ، ولسنا بحي مقالٍ، ونحن بأدنى فعالنا عند أحسن مقالهم. فقال: صدقت.
كلمة يزيد بن أبي سفيان حين أرتج عليهوحدثت أن أبا بكر رضي الله عنه، ولى يزيد بن أبي سفيان ربعاً من أرباع الشام، فرقي المنبر فتكلم فأرتج عليه، فاستأنف فأرتج عليه، فقطع الخطبة، فقال: سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً، وبعد عي بياناً، وأنتم إلى أميرٍ فعالٍ أحوج منكم إلى أميرٍ قوالٍ.
فبلغ كلامه عمرو بن العاص، فقال: هن مخرجاتي من الشام استحساناً لكلامه.
جواب عامر بن قيس لعثمان بن عفانوقال عثمان بن عفان رحمه الله1 لعامر بن عبد قيسٍ العنبري ورآه ظاهر الأعرابية: يا أعرابي، أين ربك ? فقال بالمرصاد!
ـــــــ
1 س: رضي الله عنه.
جواب علي بن أبي طالب حين سئل: أين ربنا?وقال قائل لعلي بن أبي طالب رحمه الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض? فقال علي: أين، سؤال عن مكانٍ، وكان الله ولا مكان.
للحسن البصري في المواعظوحدثت أن راهبين دخلا البصرة من ناحية الشام، فنظرا إلى الحسن البصري، فقال أحدهما لصاحبه: مل بنا إلى هذا الذي كأن سمته سمت المسيح، فعدلا إليه، فألفياه مفترشاً بذقنه ظاهر كفه، وهو يقول: يا عجباً لقوم قد أمروابالزاد، وأوذنوا بالرحيل، وأقام أولهم على آخرهم! فليت شعري ما الذي ينتظرون?
ونظر الحسن إلى الناس في مصلى البصرة يضحكون ويلعبون في يوم عيد، فقال الحسن: إن الله جعل الصوم مضماراً لعباده ليستبقوا إلى طاعته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلف آخرون فخابو، ولعمري لو كشف الغطاء لشغل محسنٌ بإحسانه، ومسيءٌ بإساءته عن تجديد ثوب، أو ترطيل شعرٍ.
قوله:" ترطيل شعر" إنما تلبين الشعر بالدهن وما أشبهه، ويقال للرجل إذا كان فيه لينٌ وتوضيع: رجل رطلٌ، والذي يوزن به ويكال يقال له: رطلٌ، بكسر الراء.
وكان الحسن يقول: اجعل الدنيا كالقنطرة تجوز عيها ولا تعمرها.
قوله القنطرة يعني هذه المعقودة المعروفة عند الناس، والعرب تسمي كل أزج1 قنطرة قال طرفة بن العبد:
كقنطرة الرومي أقسم ربها ... لتكتنفاً حتى تشاد بقرمد
قوله"حتى تشاد" يقول: تطلى، وكل شيء طليت به البناء من جص أو جيار، وهو الكلس، فهو المشيد، يقال: دار مشيدةٌ، وقصر مشيدٌ، قال الله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 2 وقال الشماخ:
لا تحسبني وإن كنت امرأً غمراً ... كحية الماء بين الطين والشيد
وقال عدي بن زيد العبادي:
شاده مرمراً وجلله كِْلـ ... ـساً فللطير في ذراه وكور
والمقرمد: المطلي أيضاً، فمن ثم قال: "حتى تشاد بقرمد" في معنى حتى تطلى، ومن ذلك قول النابغة:
رابي المجسة بالعبير مقرمد3
ـــــــ
1 الأزج: نوع من الأبينة يطول بناؤه.
2 سورة النساء 78.
3 قبله:
وإذا طعنت طعنت في مستهدف
وانظر ديوانه 32.
وقال الحسن: تلقى أحدهم أبيض بضاً، يملخ في الباطل ملخاً، ينفض مذرويه، ويضرب أصدريه، يقول: هأنذا فاعرفوني. قد عرفناك، فمقتك الله، ومقتك الصالحون.
قوله: "أبيض بضاً" فالبض الرقيق اللون، الذي يؤثر فيه كل شيء.
وفي الحديث أن معاوية قدم على عمر بن الخطاب رحمهما الله1 من الشام وهو أبض الناس، فضرب عمر بيده على عضده، فأقلع عن مثل الشراب، أو مثل الشراك، فقال: هذا والله لتشاغلك بالحمامت، وذوو الحاجات تقطع أنفسهم حسراتٍ على بابك! وقال حميد بن ثورٍ الهلالي:
منعمةٌ بيضاء لو دب محولٌ ... على جلدها بضت مدارجه دما
وقوله: "يملخ في الباطل ملخاً، يقول: يمر مراً سريعاً، يقال: بكرةٌ ملوخٌ إذا كانت سهلة المر.
وقوله:" يضرب أصدريه وأزدريه"، فإنما يقال ذلك للفارغ، يقال: جاء فلان يضرب أصدريه وأزدريه، ولا يتكلم منه بواحدٍ، ويقال: فلانٌ ينفض مذرويه، وهما ناحيتاه، وإنما يوصف بالخيلاء، قال عنترة:
أحولي تنفض استك مذرويها ... لتقتلني، فهأنذا عمارا
ولا واحد لهما، ولو أفردت لقلت في التثنية مذريان، لأن ذوات الواو إذا وقعت فيهن الواو رابعة رجعت إلى الياء، كما تقول في ملهى: ملهيان، وهو من لهوت، وفي مغزى: مغزيان، وهو من غزوت، وإنما فعلت ذلك لأن فعله ترجع فيه الواو إلى الياء إذا كانت رابعة فصاعداً، نحو غزوت، فإذا أدخلت فيه الألف قلت: أغزيت، وكذلك غازيت واستغزيت، وإنما وجب هذا لانقلابها في المضارع، نحو يغزي، ويستغزي، ويغازي، وإنما انقلبت لانكسار ما قبلها.
ـــــــ
1 ر، س: "رحمه الله".
فإن قال قائل: فما بال يترجى ويتغازى، يكونان بالياء، نحو: هما يتغازيان ويترجيلن? فإنما ذلك لأنهما في الأصل: رجى يرجي، وغازى يغازي، ثم لحقت التاء بعد ثبات الياء. والدليل على ذلك أن التاء إنما تلحقه على معناه، فقولك: مذروان لا واحد له لما أعلمتك، وثبات الواو دليلٌ على أن أحدهما لا يفرد من الآخر، فلذلك جاء على أصله1.
ـــــــ
1 انظر أمالى المرتضى 156:1.
باب
ليزيد بن الصقيل، وكان يسرق الإبل ثم تابقال أبو العباس: قال يزيد بن الصقيل العقيلي-وكان يسرق الإبل، ثم تاب، وقتل في سبيل الله:
ألا قل لأرباب المخائض: أهملوا ... فقد تاب مما تعلمون يزيد
وإن امرأً ينجو من النار بعد ما ... تزود من أعمالها لسعيد
وفي هذا الشعر1:
إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت ... حميمك فاعلم أنها ستعود
قوله"ألا قل لأرباب المخائض"، فإن الناقة إذا لقحت قيل لها خلفة، وللجميع مخاض، وهذا جمع على غير واحده، إنما هو بمنزلة امرأةٍ ونساء، ثم جمع الجمع فقال: مخائض، كقولك في رسالةٍ: رسائل، وكما تقول في قوم أقوام، فتجمع الاسم الذي هو للجمع، وكذلك أعراب وأعاريب، وأنعام وأناعيم.
وقوله: " أهملوا": أي اسرحوا إبلكم، والهمل ما كان غير محظور، وهو السدى، ويروى في مثل قوله:
إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت ... حميمك فاعلم أنها ستعود
عن بعض الصالحين2 أنه كان يقول إذا مات له جار أو حميم: أولى لي! كدت والله أكون السواد المخترم3.
ـــــــ
1 س: "وفي هذا الشعر يقول".
2 حاشية الأصل: "هو محمد بن الحنفية"، وهو من زيادات ر.
3 يقال: اخترقن المنية، أى أخذتته من بين أصحابه.
لابن حبناء التميمي في مكارم الأخلاقوقال ابن حبناء التميمي:
أعوذ بالله من حالٍ تزين لي ... لوم العشيرة أو تدني من النار
لا أقرب البيت أحبو من مؤخره ... ولا أكسر في ابن العم أظفاري
إن يحجب الله أبصاراً أراقبها ... فقد يرى الله حال المدلج الساري
وقوله:
لا أقرب البيت أحبو من مؤخره
يقول: لا آتيه لريبةٍ. ومثل ذلك قوول الشاعر1:
ولست بصادرٍ من بيت جاري ... كفعل العير غمره الورود
يقول: لا أخرج خروج الخائف، لأنه إنما يقال: تغمر الشارب إذا لم يرو، ويقال للقدح الصغير: الغمر من هذا.
وقوله:
ولا أكسر في ابن العم أظفاري
يقول: لا أغتابه، وهذا مثلٌ كما قال الحطيئة:
ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنياب وأضراس
وقوله:
فقد يرى الله حال المدلج الساري
فالمدلج: الذي يسير من أول الليل، يقال: أدلجت، أي سرت من أول الليل، وأدلجت: أي سرت في السحر، قال زهير:
بكرن بكوراً وادلجن بسحرةٍ 2
والسرى لا يكون إلا سير الليل، قال الله عز وجل: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} 3 من قولك أسريت، وهي اللغة القرشية، وغيرهم من العرب يقول سريت، وقد جاء هذه اللغة في القرآن، قال الله عز وجل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} 4 فهذا من سرى،
ـــــــ
1زيادات ر: "وهو عقيل بن علفة"، والبيت من كلمه له في حماسه أبى تمام(152،151:1)- طبعة الرافعي.
2 رواية الديوان 10: "واستحرن بسحرة"، وبقيته:
فهن ووادى الرس كاليد في الفم
3 سورة الحجر 65.
4 سورة الفجر 4.
ولو كان من" أسرى" لكان" يسري"، كما قال لبيد:
فبات وأسرى القوم آخر ليلهم ... وما كان وقافاً بغير معصر
والمعصر الملجأ، والسري إنما هو من قولك سرى، كقولك: قضى فهو قاض، ومن أسرى يقال للفاعل: مسرٍ كما تقول: أعطى فهو معطٍ، كما قال الأخطل:
نازعتهم طيب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعه الساري
والدجاج هاهنا: الديوك، يريد وقت السحر، لأنه يقال للديك: هذا دجاجة، فإن أردت الأنثى قلت، هذه، وكذلك هذا بقرة، وهذا بطة، وهذا حمامة إذا أردت الذكر، ولهذا باب يذكر فيه إن شاء الله . قال جرير:
لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع باانواقيس
وقوله: ،" أرقني صوت الدجاج" ، والأرق لايكون في آخر الليل وإنما يكون في جميعه.
وكذلك النواقيس لا تقرع أيضاً إلا في السحر فإنما أراد: أرقني انتظاري هذا الوقت،لأنه وعد فيه وعداً فهو منتظر له .
قال أبو الحسن: أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى الأبيات الرائية المتقدمة بتمامها على ما أذكره لك عن أبي عبد الله بن العرابيٌ،وهي لأحد ابني حبناء أحسبه صخراٌ وهما من بني تميم، وكان من الأزارقة قال:
إني هزئت من أم الغمر إذ هزئت ... بشيب رأسي، وما بالشيب من عار
ما شقوة المرء بالإقتار يقتره ... ولا سعادته يوماٌ باكثار1
إن الشقي الذي في النار منزله ... والفوز فوز الذي ينجو من النار
ـــــــ
1 زيادات ر: "يقتره، الهاء تعود على الإقتار".
أعوذ بالله من أمر يزين لي ... لوم العشيرة أو يدني من العار
وخير دنيا ينسي شر آخرة ... وسوف ينبئني الجبار أخباري
ثم يتفقان بعد الرواية، وكان ربما أنشدنا: " إني هزأت من آم الغمر".
لأعرابي من بني الحارث بن كعبقال أبو العباس: وقال أعرابيٌ من بني الحارث بن كعب:
رئمت لسلمى بو ضيم وإنني ... قديما لآ بي الضيم وابن أباة
فقد وقفتني بين شك وشبهة ... وما كنت وقافاٌ على الشبهات
فيا بعل سلمى كم وكم بأذاتها ... عدمتك من بعل تطيل أذاتي
بنفسي حبيب حال بابك دونه ... تقطع نفسي دونه حسرات
ووالله لولا أن تساء لرعته ... بما ليس بالمأمون من فتكاتي
قوله: "رئمت لسلمى بوضيم" فإنما هذا مثل، وأصله أن الناقة إذا ألقت سقبها فخيف انقطاع لبنها أخذوا جلد حوار1 فحشوه تبناً، ولطخوه بشيء من سلاها، ثم حشوا أنفها بخرقة، فتجد لذلك كربا، ويقال للخرقة التي تجعل في أنفها: الغمامه، ثم تسل تلك الخرقة من أنفها فتجد روحاً، وترى ذلك البو تحتها، وهو جلد الحوار المحشو فترأمه، فإن درت عليه قيل: ناقة درور، وترأمه تشمه، ويقال في هذا المعنى: ناقة ظؤورٌ، فينتفع بلبنها، ويقال: ناقة رائم ورؤوم إذا كانت ترأم ولدها أو بوها، فإن رئمت ولم تدر عليه فتلك العلوق، ولا خير عندها وأنشدونا عن أبي عمرو وكان يقرأ: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} 2 على" فعلى"3:
ـــــــ
1 الحوار: ولد الناقة من حين تضعه إلى أن ينفطم.
2 الروم: 10.
3 زيادات ر: "لأفنون التغلبى"، والبيتان في أمالى القالى: 2-51، وشواهد المغنى للسيوطى 54.
أنى جزوا عامراً سوءى بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوءى من الحسن
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رئمان أنفٍ إذا ضن باللبن1
فقوله: "رئمت لسلمى بو ضيم": أي أقمت لها على الضيم، ويقال: فلان رؤوم للضيم، إذا كان ذليلا راضياً بالخسف.
ـــــــ
1 في حاشية الأصل: "قال ثعلب: اجتمع الكسائى والأصعمى بحضرة الرشيد، وكانا ملازمين له، يرحلان برحيله ويقيمان بإقامته، فأنشد الكسائى: "أنى جزوا عامرا...البيتين" فقال الأصعمي: إنما هم "رثمان" بالنصب، فقال له الكسائى: اسكت! ماأنت! وهذا! يجوز فيه الرفع والنصب والخفض، أما الرفع فعلى الرد على "ما" لأنها في موضع رفع ب"ينفع"، والنصب ب"لتعطى"، والخفض على الرد على الهاء في "به". قال ثعلب: فسكت الأصمعى".وانظر المغتى 41:1.
وفي أمالى القالى: "العلوق: التي ترأم بأنفها وتمنع درها، يقول: فأنتم تحسنون القول ولا تعطون شيئا فكيف ينفعنى ذلك!".
لأحد الأعرابوقال أعرابي - أحسبه تميمياً -:
وداهيةٍ بها القوم مفلق ... شديد بعوران الكلام أزومها
أصخت لها حتى إذا ما وعيتها ... رميت بأخرى يستدير أميمها
ترى القوم منها مطرقين كأنما ... تساقوا عقاراٌ لايبل سليمها
فلم تلقني فهاً، ولم تلق حجتي ... ملجلجةً أبغي لهل من يقيمها
قوله: "وداهية" يعني حجة داهي بها القوم مفلقٌ: يريد عجيبة،والفلق وجاء القوم بالفليق، وهذا مشهور كثير في الكلام، ومنه قول خلف الأحمر:
موت الإمام فلقةٌ من الفلق
وأنشدني منشد:
إذا عرضت دويةٌ مدلهمةٌ1 ... وغرد حاديها عملن بنا فلقا2
بفتح الفاء.
ـــــــ
1شطر هذ البيت لم يذكر في س، وفي ر بين علامتى الزيادة، ورواه: "داوية".
2 عرض: تعرض. وغرد حاديها: طرب في حدائه. والبيت في إصلاح المنطق لابن السكيت 264،32، وروايته فيه: "فرين بها فلقا". وقال في شرحه: "أى عملن بها داهية من شدة سيرهن. والفلق: القضيب يشق فيعمل منه قوسان، ويقال لكل واحدة قلق". وهو أيضا في اللسان "فلق".
وقوله: "شديد بعوران الكلام"، العوراء هي القبيحة، قال حاتم بن عبد الله الطائي:
وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر ... وذي أودٍ قومته فتقوما
وأزومها: إمساكها1، يقال: أزم به إذا عض به فأمسكه بين ثنيتيه. وفي الحديث أن أبا بكر رحمه الله قال في يوم أحدٍ: فنظرت إلى حلقةٍ من درع قد نشبت في جبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.، فانكببت لأنزعها فأقسم علي أبو عبيدة، فأزم بها أبو عبيدة بثنيتيه، فجذبها جذباً رفيقاً، فانتزعها، وسقطت،ثم نظرت إلى أخرى فأردتها فأقسم علي أبو عبيدة، ففعل فيها ما فعل في الأولى، وكان مشفقاً من تحريكها لئلا يؤذي بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أبو عبيدة أهتم.
وقوله: "فأزم بها" ، يقال: أزم يأزم،وأزم يأزم.
وقوله: "أصخت لها" : يقول استمعت لها،قال العبدي2:
يصيخ للنبأة أسماعه ... إصاخة الناشد للمنشد
والإصاخة الا ستماع والناشد: الطالب، والمنشد: المعرف، يقال نشدت الضالة إذا طلبتها، وأنشدتها: إذا عرفتها والنبأة: الصوت، قال ذو الرمة:
وقد توجس ركزاً مقفرٌ ندسٌ ... بنبأة الصوت ما في سمعه كذب3
وقوله: حتى إذا ما وعيتها يقول: جمعتها في سمعي، يقال: وعيت العلم،وأوعيت المتاع في الوعاء،قال الله عز وجل: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} 4 ، وقال الشاعر5:
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وقوله:
رميت بأخرى يستدير أميمها
ـــــــ
1 قال المرصفى: "أخطأ أبو العباس في تفسير الوصف بالمصدر والصواب: ممسكها".
2 زيادات ر: "وهو المثقب".
3 توجس: تسمع. والركز: الصوت الخفى. مقفر: أخو قفرة. والندس: السريع الاستماع للصوت الخفى، يصف الصائد.
4 المعارج 18.
5 زيادات ر: "هو عبيد بن الأبرص".
يريد يستدير، من الدوار،ويقال في هذا المعنى: يستديم،ومنه سميت الدوامة1، وفي الحديث: "كره البول في الماء الدائم" : لأنه كالمستدير في موضعه.، قال جرير:
عوى الشعراء بعضهم لبعضٍ ... علي فقد أصابهم انتقام
إذا أرسلت صاعقةً عليهم ... رأوا أخرى تحرق فاستداموا2
وقوله:" أميمها" يريد بها، ويقال: أميمٌ ومأموم، كقولك: قتيلٌ ومقتولٌ، ومجروح وجريح، ويقال،: للشجة التي قد وصلت إلى أم الدماغ وأم الدماغ جليدةٌ رقيقة تحيط بالدماغ فإذا وصل إلى تلك فالشجة آمة ومأمومة، قال الشاعر:
يحج مأمومة في قعرها لجفٌ ... فاست الطبيب قذاها كالمغاريد3
المغاريد: صغار الكمأة.
وقوله: "في قعرها لجف" أي تقلع، يقال: تلجفت البئر، إذا انقلع طيها من أسفلها، ولجف القوم مكيالهم، إذا وسعوه من أسفله.
وقوله: "تساقوا عقاراً" يريد: كأنهم سكارى لما نالهم من تلك الحجة والعقار: أسم من أسماء الخمر، وإنما سميت عقاراً لمعاقرتها الدن.
وقوله: "ما يبل" يقال: بل أبل من مرضه، وكذلك استبل.
والسليم الملسوع، وقيل له سليم على جهة التفاؤل، كما يقال للمهلكة مفازةٌ، وللغراب: الأعور على الطيرة منه لصحة بصره.
وقوله: "فلم تلقني فهاً" يقول: ضعيفاً، يقال: فه فلان عن حجته إذا ضعف عنها، ويقال: رجل مفهةٌ إذاكان عاجزاً.
وقوله: "ملجلجة"، وهو أن يرددها في فيه، وقد مضى تفسيره.
ـــــــ
1 الدوامة: فلكه يرميها الصبى بخيط فتدور.
2 استداموا: اخذهم الدوام، وهو الدوار.
3 البيت في اللسان "غرد" ونسبه المرصفى إلى غذار بن دارة السنائى.
لأبي مخزوم النهشلي يفخر بقومهوقال رجل يكنى أبا مخزوم، من بني نهشل بن دارم1:
إنا بني نهشل لا ندعي لأبٍ ... عنه، ولا هو بالأبناء يشرينا
إن تبتدر غايةٌ يوماً لمكرمةٍ ... تلق السوابق منا والمصلينا
وليس يهلك منا سيدٌ أبداً ... إلا افتلينا غلاما ًسيداً فينا
إني لمن معشرٍ أفنى أوائلهم ... قيل الكماة: ألا أين المحامونا؟
لو كان في الألف منا واحدٌ فدعوا: ... من فارس? خالهم إياه يعنونا
ولا تراهم وإن جلت رزيتهم ... مع البكاة على من مات يبكونا
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا ... ولو نسام بها في الأمن إغلينا
إذا الكماة تنحوا أن ينالهم ... حد الظباة وصلناها بأيدينا
فرضٌ على مكثرينا نيل بذلهم ... والجود والبذل في طبع المقلينا
إني ومن كأبي يحيى وعترته ... لا فخر إلا لنا أم من يوازينا
قوله: " إنا بني نهشل "يعني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، ومن قال: "إنا بنو نهشل"، فقد خبرك، وجعل" بنو" خبر" إن"، ومن قال: " بتي"، إنما جعل الخبر:
إن تبتدر غاية يوماً لمكرمةٍ ... تلق السوابق منا والمصلينا
ونصب"بني" على فعل مضمر للاختصاص، وهذا أمدح، ومثله:
نحن بني ضبة أصحاب الجمل2
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو بشامة بن حزن النهشلى". والأبيات أوردها أبو تمام مسنوبة إلى بعض بنى قيس بن ثعلبة، مع اختلاف في الرواية وترتيب الأبيات وعددها، وانظر الحمسة 97:1-بشرح التبريزي.
2 من رجز رواه ابن جرير الطبرى لعمرو بن يثربى الضبى قاله في وقعة الجمل، وبعده:
ننزل بالموت إذا الموت نزل ... القتل أحلى عندنا من العسل
ننعى ابن عفان بأطراف الأسل ... ردوا علينا شيخنا ثم بجل
وانظر تاريخ الطبرى، وحواث 36.
أراد نحن أصحاب الجمل، ثم أبان من يختص بهذا، فقال: أعني بني ضبة وقرأ عيسى بن عمر: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} 1أراد وامرأته: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} ثم عرفها بحمالة الحطب، وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} بعد قوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ} 2 إنما هو على هذا، وهو أبلغ في التعريف، وسنشرحه على حقيقة الشرح في موضعه إنشاء الله: وأكثر العرب ينشد3:
إنا بني منقرٍ قوم ذوو حسب ... فينا سراة بني سعدٍ وناديها
قرأ بعض القراء: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 4 وقوله: "يشرينا "يريد يبيعنا، يقال: شراه يشريه إذا باعه، فهذه المعروفة، قال الله عز وجل: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ} 5 وقال ابن مفرغٍ الحميري:
شريت برداً، ولولا ماتكنفني ... من الحوادث ما فارقته أبدا6
ويكون" شريت" في معنى أشتريت، وهو من الأضداد وأنشدني التوزي:
اشروا لها خاتناً وابغوا لخنتتها7 ... مواسياً أربعأ فيهن تذكير8
وقوله:
تلق السوابق منا والمصلينا
فالمصلي الذي في إثر السابق، وإنما سمي مصلياً لأنه مع صلوي السابق، وهما عرقان في الردف، قال الشاعر:
تركت الرمح يعمل في صلاه ... كأن سنانه خرطوم نسر
ـــــــ
1 سورة المسد 5،4.
2 سورة النساء 162.
3 زيادات ر: هو "لعمرو بن الأهتم المنقرى". وانظر...
4 سورة المؤمنون 14.
5 سورة يوسف 20.
6 بعده في س وزيادات ر:
يابرد مامسنا دهر أضر بنا ... من قبل هذا، ولابعنا له ولدا
7 كذا في الأصل. وفي ر: "لختنتها"، وهي المرة من الختن. وفي الزيادات: "كان ابن جابر يروي: "لختنتها" [بضم الخاء وتاءين]، ويقول: الخنت: "العفل". والعفل. لحم ينبت في قبل المرأة.
8 تذكير: صلابة وحدة.
وقوله:
إلا افتلينا غلام سيداً فينا
مأخوذ من قولهم: فلوت الفلو1 يا فتى، إذا أخذته عن أمه، قال الأعشى:
ملمع لاعة الفؤاد إلى جحـ ... ـش فلاه عنها، فبئس الفالي2
وأخذ هذا المعنى من قول أبي الطمحان القيني:
إذا مات منهم سيدٌ قام صاحبه
وقوله:
لو كان في الألف منا واحد فدعوا: ... من فارس? خالهم إياه يعنونا
مأخوذ من قول طرفة:
إذا القوم قالوا: من فتى? خلت أنني ... عينت، فلم أكسل ولم أتبلد
ومن قول متمم بن نويرة:
إذا القوم قالوا: من فتى لعظيمةٍ ... فما كلهم يدعى، ولكنه الفتى
وقوله؛" حد الظباة"، فالظبة الحد بعينه، يقال: أصابته ظبة السيف، وظبة النصل، وجمعه ظبات وأراد بالظبة ههنا موضوع المضرب من السيف وأخذ هذا المعنى من قول كعب بن مالك:
نصل السيوف إذا قصرنا بخطونا ... قدماً، ونلحقها إذا لم تلحق
وقوله:
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا
ـــــــ
1 الفلو: المهر.
2 البيت في وصف الناقة، ملمع: في ضرعها لمع سود. واللاعة: الملتاعة. والفالى: الطارد.
أخذه من قول الهمداني وهو الأجدع1 أبو مسروق بن الأجدع الفقيه:
لقد علمت نسوان هدمان أنني ... لهن غداة الروع غير خذول
وأبذل في الهيجاء وجهي وإنني ... له في سوى الهيجاء غير بذول
ومن القتال الكلابي حيث يقول:
أنا ابن الأكرمين بني قشير ... وأخوالي الكرام بنو كلاب
نعرض للطعان إذا التقينا ... وجوهاً لا تعرض للسباب
ـــــــ
1 هو الأجدع بن مالك بن أمية الوداعى، من بنى نوف بن حمدان: فارس شاعر، أدرك الإسلام، وبقي إلى زمن عمر بن الخطاب. "المؤتلف والمختلف للآمدى 49".
باب
من كلام عمر بن عبد العزيز
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ثلاثٌ من كن فيه فقد كمل: من لم يخرجه غضبه1 عن طاعة الله، ولم يستنزله رضاه إلى معصية الله، وإذا قدر عفا وكف.
ـــــــ
1 ر: "من".
من كلام الحسن البصيريقال الحسن: نعم الله أكثر من أن تشكر إلا ما أعان عليه، وذنوب ابن آدم أكثر من أن يسلم منها إلا ما عفا الله عنه.
كلام عمر بن ذر حينما دخل على ابنه وهو يجود بنفسهوقال عمر بن ذر1 ودخل على ابنه وهو يجود بنفسه فقال: يا بني، إنه ما علينا من موتك غضاضة، ولا بنا إلى أحد سوى الله حاجةٌ فلما قضى وصلى عليه وواره وقف على قبره، فقال:
يا ذر، إنه قد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، لأنا لا ندري ما قلت ولا ما قيل لك، اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه مما افترضت عليه من حقي، فهب له ما قصر فيه من حقك، واجعل ثوابي عليه له، وزدني من فضلك، إني إليك من الراغبين.
وسئل: ما بلغ من بره بك؟ فقال: ما مشى معي بنهار قط إلا قدمني، ولا بليل إلا تقدمني، ولا رقي سطحاً وأنا تحته.
ـــــــ
1 هو عمر بن ذر بن عبد الله الهمداني، من أقران أبى حنيفة وابن عيينة، وكان رأسا في الإرجاء، توفي سنه 50. "تهذيب التهذيب 445:7".
جواب أبي دلامة حينما سأله المنصورعما أعده ليوم القيامةوماتت بنت عم للمنصور، فحضر جنازتها، وجلس لدفنها، وأقبل أبو دلامة الشاعر، فقال له المنصور: ويحك ما أعددت لهذا اليوم? فقال: يا أمير المؤمنين ابنة عمك هذه التي واريتها قبيل قال: فضحك المنصور حتى استغرب1.
ـــــــ
1 استغرب في الضحك: أكثر منه.
الفرزدق في سجن مالك بن المنذر بن الجارودودخل لبطة بن الفرزدق على أبيه وهو محبوس في سجن مالك بن المنذر ابن الجارود1، ومالك عاملٌ على البصرة لخالد بن عبد الله القسري، فقال: يا أبت، هذا عمر بن يزيد الأسيدي، ضرب آنفاً ألف سوطٍ فمات فشد على حمار: فقال الفرزدق: كأنك والله يابني بمثل هذا الحديث قد تحدث به عن أبيك-والحسن2 إذ ذاك عند محبوس له-فقال: يا أبا فراس: ما عندك إن كان ذلك? فقال: والله يا أبا سعيد، الله أحب إلي من سمعي وبصري، ومن مالي وولدي، ومن أهلي وعشيرتي، أفتراه يخذلني! فقال الحسن: لا.
ـــــــ
1 حاشية الأصل: "كان السبب في سجن الفرزدق أنه كان قد هجا خالد بن عبد الله القسرى، فكتب خالد إلى ماك بن المنذر يأمره بحبسه، فأمر مالك أيوب بن عيسى الضبى فأتاه به، فأمر به إلى السجن، ففى ذلك يقول الفرزدق يهجو أيوب بن عيسى:
فلو كنت قيسيا إذا ما ماحبستنى ... ولكن زنجيا غليظا مشافره
متت له بالرحم بينى وبينه ... فألفيته منى بعيداً او اصره
2 هو الحسن البصرى.
الفرزدق حين قتل عمر بن يزيد الأسيديوكان عمر بن يزيد الأسيدي شريفاً، حدثني التوزي عن أبي عبيدة قال: كان رجل أهل البصرة عمر بن يزيد الأسيدي، ورجل أهل الشام عمر بن هبيرة الفزازي، ورجل أهل الكوفة بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فقيل ذلك لعمر بن عبد العزيز: فقال أجل، لولا خب1 في بلالٍ فقال، بلالٌ لما بلغه ذلك: "رمتني بدائها وانسلت". وقتله مالك2 بن المنذر تعصباً فيما تذكره المضرية. فلما دخل بمالك على هشام أقبل على أصحابه، فقال،أما رأيتم عمر بن يزيد: أما إني ما تمنيت أن تكون أمي ولدت رجلاً من العرب غير. ثم قال لمالك: قتلت والله خيراً منك حسباً، ونسباً، وريشاً3، وعقباً! فقال: وكيف يا أمير المؤمنين! ألست ابن المنذر بن الجارود، وابن مالك بن مسمع! وكان جده أبا أمه وجعل عمر والسياط تأخذه ينادي: يا هشاماه! ففي ذلك يقول الفرزدق:
ألم يك مقتل العبدي ظلماً ... أبا حفصٍ من الكبر العظام
قتيل جماعةٍ في غير حق ... يقطع وهو يدعو: يا هشام!
ـــــــ
1 الخب: الخداع والمكر.
2 أى قتل مالك عمر بن يزيد الأسيدي.
3 الريش: اللباس والزينة. وفي ر، س: "ودينا".
لقاء الحسن البصري والفرزدق في جنازةوالتقى الحسن والفرزدق في جنازة، فقال الفرزدق للحسن: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد? قال: وما يقولون? قال: يقولون?: اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس! فقال الحسن: كلا، لست بخيرهم، ولست بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم? فقال: شهادة أن لا إله إلا الله مذ1 ستون سنة، وخمس نجائب لا يدركن- يعني الصلوات الخمس- فيزعم بعض التميمية أن الفرزدق رئي في النوم، فقيل له: ما صنع بك ربك? فقال: غفر لي. فقيل له: بأي شيء فقال: بالكلمة التي نازعني فيها الحسن.
ـــــــ
1 ر: "منذا".
الفرزدق وأولاد بني تميموحدثني العباس بن الفرج في إسنادٍ له ذكره قال: كان الفرزدق يخرج من منزله فيرى بني تميم والمصاحف في حجورهم، فيسر بذلك ويجذل به، ويقول: إيه فدى لكم أبي وأمي! كذا والله كان آباؤكم.
قال أبو الحسن: إنما هو فداؤٌ لكم، لكنه قصر الممدود على هذه الرواية
الفرزدق وأبو هريرة الدوسيونظر إليه أبو هريرة فقال له1: مهما فعلت فقنطك الناس فلا تقنط من رحمة الله، ثم نظر إلى قدميه فقال: إني أرى لك قدمين لطيفتين، فابتغ لهما موقعاً صالحاً يوم القيامة.
يقال: قنط يقنط،وقنط يقنط، وكلاهما فصيح، فاقرأ بأيهما شئت، وكذلك نقم ينقم، ونقم ينقم.
ـــــــ
1 من ر، س.
قول الفرزدق حينما تعلق بأستار الكعبةوالفرزدق يقول في آخر عمره حين تعلق بأستار الكعبة، وعاهد الله ألا يكذب، ولا يشتم مسلماً:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رتاجٍ قائماً ومقام
على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من في زور كلام
وفي هذا الشعر:
أطعتك يا إبليس تسعين حجةٌ ... فلما انقضى عمري وتم تمامي
رجعت إلى ربي وأيقنت أنني ... ملاقٍ لأيام المنون حمامي
قوله: "لبين رتاج"، فالرتاج غلق الباب، ويقال: باب مرتج، أي مغلقٌ، ويقال: أرتج على فلان، أي أغلق عليه الكلام، وقول العامة: "أرتج عليه"، ليس بشيء، إلا أن التوزي حدثني عن أبي عبيدة. قال يقال: أرتج عليه، ومعناه وقع في رجةٍ، أي في اختلاط، وهذا معنى بعيد جداً.
وقوله: "ولا خارجاً" إنما وضع اسم الفاعل في موضع المصدر، أراد: لا أشتم الدهر مسلماً، ولا يخرج خروجاً من في زور كلام، لأنه على ذا أقسم، والمصدر يقع في موضع اسم الفاعل، يقال: ماءٌ غور، أي غائر، كما قال الله عز وجل: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} 1 ، ويقال: رجل عدلٌ، أي عادل، ويوم غم، أي غام، وهذا كثير جداً،فعلى هذا جاء المصدرعلى فاعل، كما جاء اسم الفاعل على المصدر، يقال: قم قائماً، فيوضع في موضع قولك: قم قياماً، وجاء من المصدر على لفظ "فاعل" حروفٌ، منها: فلج فالجا، وعوفي عافية، وأحرف سوى ذلك يسيرة. وجاءعلى "مفعول"، نحو رجل ليس له معقول، وخذ ميسوره، ودع معسوره، لدخول لمفعول على المصدر، يقال رجل رضاً، أي مرضي، وهذا درهم ضرب الأمير، أي مضروب، وهذه دراهم وزن سبعةٍ، أي موزونة، وكان عيسى بن عمر يقول: إنما قوله: "لا أشتم" حال، فأراد: عاهدت ربي في هذه الحال وأنا غير شاتمٍ ولا خارجٍ من في زوركلام، ولم يذكر الذي عاهد عليه.
ـــــــ
1 سورة الملك 30.
للفرزدق في أيام نسكهوقال الفرزدق في أيام نسكه:
أخاف وراء القبر إن لم يعافني ... أشد من القبر إلتهاباً وأضيقا
إذا قادني يوم القيامة قائدٌ ... عنيف، وسواق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولادي آدم من مشى ... إلى النار مغلول القلادة أزرقا1
إذا شربوا فيها الحميم رأيتهم ... يذوبون من حر الحميم تمزقا
ـــــــ
1 ر: "موثقا".
للفرزدق حين طلق النواروحدثني بعض أصحابنا عن الأصمعي عن المعتمر بن سليمان عن أبي مخزوم عن أبي شفقلٍ راوية الفرزدق، قال: قال لي الفرزدق يوماً: امض بنا إلى حلقة الحسن، فإني أريد أن أطلق النوار، فقلت: إني أخاف عليك أن تتبعها نفسك، ويشهد عليك الحسن وأصحابه، فقال: امض بنا فجئنا حتى وقفنا على الحسن، فقال: كيف أصبحت يا أبا سعيد? فقال: بخير، كيف أصبحت يا أبا فراس? قال: تعلمن أن النوار مني طالق ثلاثاً، فقال الحسن وأصحابه: قد سمعنا، قال: فانطلقنا، قال: فقال لي الفرزدق: يا هذا، إن في قلبي من النوار شيئاً، فقلت: قد حذرتك، فقال:
ندمت ندامة الكسعي لما1 ... غدت مني مطلقةٌ نوار2
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان علي للقدر الخيار
قال الأصمعي: ما روى المعتمر هذا الشعر إلا من أجل هذا البيت.
ـــــــ
1 الكسعى: رجل من كسع، حى من اليمن، اسمه غامد بن الحارث، وكان اتخذ قوساوخمسة أسهم وكمن في طريق قطيع، فرمى حمارا منه، فنفذ فيه السهم وصدم الجبل، فأورى نارا فظن أنه أخطأ، فرمى ثانيا وثالثا إلى آخرها وهو يظن خطأه، فعمد إلى قوسه فكسرها، ثم بات، فلما أصبح نظر فإذا الحمر مطرحه مصرعة، وأسهمه بالدم مضرجة، فندم وقطع إبهامه، وأنشد:
ندمت ندامة لو أن نفسى ... تطاوعنى إذا لقطعت خمسى
تبين لى سفاه الرأى منى ... لعمر أبيك حين كسرت قوسي
وانظر مجمع الأمثال "274:2".
2 في زيادات ر بعد هذا البيت:
وكنت كفاقئ عينيه عمدا ... فأصبح لا يضىء له النهار
وما فارقتها شعبا ولكن ... رأيت الزهد يأخذ ما أعار
باب
ماقيل في الخمرقال لقيط بن زراه:
شربت الخمر حتى خلت أني ... أبو قابوس أبو عبد المدان
أمشي في بني عدس بن زيدٍ ... رخي البال منطلق اللسان
وحدثني أبو عثمان المازني قال: أسر رجل يوم الحسين بن علي رضي الله عنه فأتي به يزيد بن معاوية، فقال له: أليس أبوك القائل:
أرجل جمتي وأجر ذيلي ... وتحمل شكتي أفقٌ كميت
أمشي في سراة بني غطيفٍ ... إذا ما سامني ضيمٌ أبيت
قال: بلى فأمر به فقتل.
خبر هانئ بن عروة المرادي مع معاويةقال أبو العباس: ونمي إلي أن معاوية ولى كثير بن شهاب المذحجي خراسان فاختان مالاً كثيراً ثم هرب فاستتر عند هانىء بن عروة المرادي، فبلغ ذلك معاوية فنذر دم هانىء فخرج هانىء فكان في جوار معاوية ثم حضر مجلسه ومعاوية لا يعرفه، فلما نهض الناس ثبت مكانه، فسأله معاوية عن أمره فقال: أنا هانىء بن عروة فقال: إن هذا اليوم ليس بيومٍ يقول فيه أبوك أرجل جمتي الشعر له هانىء: أنا اليوم أعز مني ذلك اليوم، قال له: بم ذاك? قال: بالإسلام يا أمير المؤمنين، قال له: أين كثير بن شهاب? قال: عندي في عسكرك ياأمير المؤمنين، فقال له معاوية: انظر إلى ما اختانه فخذ منه بعضاً، وسوغه بعضاً .
نبذ من أقوال الشعراء في الخمر وشاربيهاوقال أعرابي:
ولقد شربت الراح حتى خلتني ... لما خرجت أجر فضل المئزر
أبا قابوس أو عمر وبن هند ماثلاً ... يجبى له ما دون دارة قيصر
وقال آخر:
شربنا من الداذي حتى كأننا ... ملوك لهم بر العراقين والبحر
فلما انجلت شمس النهار رأيتنا ... تولى الغنى عنا وعاودنا الفقر
وقال آخر، وهو عبد الرحمن بن الحكم:
وكأسٍ ترى بين الإناء وبينها ... قظى العين قد نازعت أم أبان
ترى شاربيها حين يعترانها ... يميلان أحياناً ويعتدلان
فما ظن ذا الواشي بأروع ماجدٍ ... وبداء خودٍ حين يلتقيان
وقال آخر:
دعتني أخاها أم عمروٍ ولم أكن ... أخاها، ولم أرضع لها بلبان
دعتني أخاها بعدما كان بيننا ... من الأمر ما لا يفعل الأخوان
وقال آخر:
فبتنا فويق الحي لا نحن منهم ... ولا نحن بالأعداء مختلطان
وبات يقيناً ساقط الطل والندى ... من الليل بردى يمنةٍ عطران
نعدي بذكر الله في ذات بيننى ... إذا كان قلبانا بنا يردان
قال أبو الحسن: وزادني فيه غير أبي العباس: ؟ونصدر عن رأي العفاف وربما نقعنا غليل النفس بالرشفان وقال أبو العباس: " نعدي " أي نصرف الشر بذكر الله:يقال :فعد عما ترى، أي فانصرف عنه إلى غيره، ويقال:لا يعدونك هذا الحديث:أي لا يتجاوزونك إلى غيرك.
قال أبو العباس: وقال رجل من قريش:
من تقرع الكأس اللئيمة سنه ... فلا بد يوماً لأن يسىء ويجهلا
ولم أر مطلوباً أخس غنيمة ... وأوضع للأشراف منها وأخملا
وأجدر أن تلقى كريماً يذمها ... ويشربها حتى يخر مجدلا
فوالله ما أدري:أخبل أصابهم ... أم العيش فيها لم يلاقوه أشكلا
وقال الآخر :
إذا صدمتني الكأس أبدت محاسني ... ولم يخش ندماني أذاتي ولا بخلي
ولست بفاحشٍ عليه وإن أسا ... وما شكل من آذى نداماه من شكلي
وقال آخر:
كل هنيئاٌ وما شربت مريئاٌ ... ثم قم صاغراٌفغير كريم
لاأحب النيديم يومض بالعين ... إذا ماانتشى لعرس النديم
الإيماض: تفتح البرق ولمحه .يقال: أومضت المرأة إذا ابتسمت، وإنما ذلك تشبيه للمع ثناياها بتبسم البرق، فأراد أنه فتح عينه ثم غمضها بغمز.
وقال حسان بن ثابت :
كأن سبيئةٌ من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
إذا ما الأشربات ذكرن يوماٌ ... فهن لطيب الراح الفداء
نوليها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكاٌ ... وأسداٌ ما ينهنهها اللقاء
المغث:المماغثة باليد . واللحاء: الملاحاة باللسان، يقول : يعتذر المسىءبأن يقول : كنت سكران، فيعذر. وقوله : " كأن سبيئةٌ " ، يقال سبأتها: إذا اشتريتها سباءٌ، يعني الخمر، والسابيء:الخمار وقوله: " من بيت رأس " ، يعني موضعاٌ: كما يقال حارث الجولان.
باب
نبذ من أقوال الحكماءقال أبو العباس: قال الأحنف بن قيس: ألا أدلكم على المحمدة بلا مرزئة? الخلق السجيح1، والكف عن القبيح .ألاأخبركم بأدوإ الداء? الخلق الدنيء، واللسان البذيء.
وقال الأحنف: ثلاث في ما أقولهن إلا ليعتبر معتبر: ما دخلت بين اثنين حتى يدخلاني بينهما، ولا أتيت باب أحد من هؤلاء ما لم أدع، يعني السلطان ولا حللت حبوتي إلى ما يقوم إليه الناس.
تكسر الحاء وتضمها إذا أردت الاسم، وتفتحها إذا أردت المصدر، إنشدني عمارة بن عقيل لجرير:
قتل الزبير، وأنت عاقد حبوةٍ ... قبحاٌ لحبوتك التي لم تحلل
ويقال في جمع حبوة: حبى وحبى، مقصوران.
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ماأحسن الحسنات في آثار السيئات وأقبح السيئات في آثار الحسنات، وأقبح من ذا وأحسن من ذاك السيئات في آثارالسيئات، والحسنات في آثار الحسنات.والعرب تلف الخبرين المختلفين، ثم ترمي بتفسير هما جملة، ثقة بأن السامع يرد إلى كل خبره. وقال الله عز وجل: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} 2.
وقال رجل لسلم بن نوفل: ما أرخص السؤدد فيكم فقال سلم: أما نحن فلا نسود إلا من بذل لنا ماله، وأوطأنا عرضه، وامتهن في حاجتنا نفسه. فقال الرجل: إن السؤدد فيكم لغال.
ولسلم يقول القائل:
يسود أقوام وليسوا بسادة ... بل السيد المعروف سلم بن نوفل
ـــــــ
1 الخلق السجيح: السهل.
2 سورة القصص 73.
وقال معاوية رحمه الله لعرابة بن أوس بن قيظي الأنصاري: بم سدت قومك? فقال: لست بسيدهم،ولكني رجل منهم، فعزم عليه فقال: أعطيت في نائبهم وحلمت عن سفيههم، وشددت على يدي حليمهم، فمن فعل منهم مثل فعلي فهو مثلي، ومن قصر عنه فأنا أفضل منه، ومن تجاوزه فهو أفضل مني .
مدح الشماخ لعرابة بن أوسقال أبو العباس: وكان سبب ارتفاع عرابة أنه قدم من سفر، فجمعه الطريق والشماخ بن ضرار المري، فتحادثا، فقال عرابة: ماالذي أقدمك المدينة قال: قدمت لأمتار منها، فملأ له عرابة رواحله برا وتمراً، وأتحفه بغير ذلك،فقال الشماخ:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة، فاشرقي بدم الوتين
ومثل سراة قومك لم يجاروا ... إلى ربع الرهان ولا الثمين1
قوله:" تلقاها عرابة باليمين"، قال أصحاب المعاني: معناه بالقوة،وقالوا مثل ذلك في قول الله عز وجل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 2 وقد أحسن كل الاحسان في قوله:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
يقول: لست أحتاج إلى أن أرحل إلىغيره.
وقد عاب بعض الرواة قوله: "فاشرقي بدم الوتين"، وقال كان ينبغي أن ينظر لها مع استغنائه عنها، فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصارية3 المأسورة بمكة وقد نجت على ناقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إني نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لبئس ما جزيتها" وقال: "لانذرفي معصية، ولا نذر للانسان في غير ملكه".
ـــــــ
1 الرهان: ما يوضع من المال في مسابقة الخيل، والثمين: الثمن.
2 الزمر 67.
3 ذكر ابن هشام أنها امرأة رجل من غفار. "وانظر خبر أسرها مع زوجها في السيرة 323:3-327".
ومما لم يعب في هذا المعنى قول عبد الله بن رواحة الأنصاري لما أمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد زيد وجعفرٍ على جيش مؤتة1:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
الحساء: جمع حسي، وهو موضع رمل تحته صلابة، فإذا مطرت السماء على ذلك الرمل نزل الماء، فمنعته الصلابة أن يغيض، ومنع الرمل السمائم أن تنشفه، فإذا بحث ذلك الرمل أصيب الماء، يقال: حسي وأحساء وحساء، ممدودة.
وقوله: " ولا أرجع إلى أهلي ورائي" مجزوم لأنه دعاء، فقوله:" لا" يعني الجازمة، ومعناه: اللهم لا أرجع،كما تقول: زيد لا تغفر له2، فهذا الدعاء ينجزم بما ينجزم به الأمر والنهي، كما تقول: زيد ليقم، وزيد لا يبرح وقد اتبع ذو الرمة الشماخ في قوله:
إذا ابن أبي موسى بلالا بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر
الوصل: المفصل بما عليه من اللحم، يقال: قطع الله أوصاله، ويقال: وصل، وكسروجدل،في معنى واحد .
ـــــــ
1 مؤته: اسم قرية بالشام، موضع الغزوة المشهورة.
2 ر: "لايغفر الله له".
باب
لرجل من رجاز بني تميم في وقعة الجفرةقال أبو العباس: أنشدني الوزي لرجل من رجاز بني تميم في وقعة الجفرة1:
نحن ضربنا الأزد بالعراق ... والحي من ربيعة المراق
وابن سهيل قائد النفاق ... بلا معوناتٍ ولا أرزاق
إلا بقايا كرم الأعراق ... لشدة الخشية والإشفاق
ومن المخازي والحديث الباقي
الأعراق: جمع عرق، يقال: فلان كريم العرق ولئيم العرق، أي الأصل.
ـــــــ
1 الجفرة: موضع بالبصرة كانت به وقعة بين خالد بن عبد الله بن أسيد-وكان من قبل عبد الملك بن مروان- وبين أهل البصرة، من أصحاب مصعب بن الزبير، سنة 70. وانظر الخبر مفصلا في "معجم البلدان 116:3"
أقوال في قلة النوموقال آخر يصف ابنه:
أعرف منه1 قلة النعاس ... وخفةٌ في رأسه من راسي
كيف ترين عنده مراسي
يخاطب أم ابنه. فقوله: "أعرف منه قلة النعاس"، أي الذكاء والحركة. وكان عبد الملك بن مروان يقول لمؤدب ولده: علمهم العوم، وهذبهم بقلة النوم.
وكذا قال أبو كبيرٍ2 الهذلي:
فأتت به حوش الجنلن مبطناً ... سهداً إذل ما نام ليل الهوجل3
ـــــــ
1 س: "أعرف فيه".
2 س: "أبوبكير"، تصحيف.
3 حوش الجنان: حديد القلب. مبطنا: ضامر البطن خميصه. والهوجل: الأحمق.
وقال آخر:
فجاءت به حوش الفؤاد مسهداً ... وأفضل أولاد الرجال المسهد
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عيني تنامان ولا ينام قلبي".
لعروة بن الوردوقال عروة بن الورد العبسي، وهو عروة الصعاليك1:
لحا2 الله صعلوكاً إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفاً كل مجزر3
ينام ثقيلاً ثم يصبح قاعداً ... يحت الحصى عن جنبه المتعفر4
يعين نساء الحي ما يستعنه ... فيضحي طليحاً كالبعير المحسر5
ولكن صعلوكاً صفيحة وجهه ... كضوء سراج القابس المتنور6
مطلاً على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر7
وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المتنظر
فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميداً، وإن يستغن يوماً فأجدر8
قال أبو الحسن: كذا أنشده،" فذلك" لأنه لم يرو أول الشعر، والصواب كسر الكاف، لأنه يخاطب امرأة، ألا تراه قال:
أقلي علي اللوم يا ابنة مالك ... ونامي، وإن لم تشتهي ذاك فاسهري9
ـــــــ
1 لقب عروة الصعاليك؛ لأنه كان يجمع الفقراء الذين لا مال لهم –وهم الصعاليك- فيقوم بأمرهم وينفق عليهم.
2 لحا الله: دعاء عليه. والمشاش: العظام الرقيقة. والمجزر: موضع الجزر.
3 زيادات ر بعد هذا البيت:
يعد الغنى من نفصه كل ليلة ... أصاب قراها من صديق ميسر
4 يحت الحصى: يفركه.
5 طليحا: من الطلح، وهو الإعياء.
6 صفيحة وجهه: بشرة جلده. والقابس الآخذ شعلة من النار على طرف عود. والمتنور: الذي يبصر النار من بعيد.
7 مطلا على أعدائه: مشرفا عليهم. يزجرونه: يصيحون به. المنيح: من قداح الميسر، يستعار من صاحبه للتيمن بفوزه المشتهر.
8 زيادات ر بعد هذا البيت:
يريح على الليل أضياف ماجد ... كريم ومالى سارحا مال مقتر
9 مابين العلامتين تكمله من ر.
قوله:
يحث الحصى عن جنبه المتعفر
يريد المتترب، والعفر والعفر: اسمان للتراب، من ذلك قولهم: عفرالله خده، ويقال للظبية: عفراء إذا كانت يضرب بياضها إلى حمرة، وكذلك الكثيب الأعفر.
وقوله: "كالبعير المحسر" هو المعيي،: يقال: جمل حسير، وناقة حسير، قال الله عز وجل: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} 1 .
وقوله:
وإن بعدوا لايأمنون اقترابه
على التقديم والتأخير، أراد: لايأمنون اقترابه وإن بعدوا، وهذا حسن في الإعراب إذا كان الفعل الأول في المجازاة ماضياٌ، كما قال زهير:
وإن2 أتاه خليل يوم مسألة ... يقول: لا غائب مالي ولا حرم
فإن كان الفل الأول مجزوماٌ لم يجز رفع الثاني إلا ضرورة، فسيبويه3 يذهب إلى أنه على التقديم والتأخير، وهو عندي على إرادة الفاء،لعلة تلزمه في مذهبه، نذكرها في باب المجازاة إذا جرى في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، فمن ذلك قوله:
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع
أراد سيبويه: إنك تصرع إن يصرع أخوك. وهو عندي على قوله: إن يصرع أخوك فأنت تصرع يا فتى، ونستقصي هذا في بابه إن شاء الله تعالى.
وقوله:
كيف ترين عنده مراسي
ـــــــ
1 سورة الملك 4.
2 الكتاب 436:1.
3 نسبه سيبويه إلى جرير بن عبد الله البجلى، زنقل المرصفى عن كتاب قرحة الأديب أن صواب نسبته إلى عمرو بن خثارم البجلى، يحض الأفرع على أن يحكم بالفضل لجرير. "وانظر رغبة الآمل".
يقول للمرأة: عززتنى1 على شبهه. ويقال: أنجب الأولاد ولد الفارك. وذلك لأنها تبغض زوجها. فيسبقها بمائه. فيخرج الشبه إليه. فيخرج الولد مذكراً. وكان بعض الحكماء يقول: إذا أردت أن تطلب ولد المرأة فأغضبها، ثم قع عليها. فإنك تسبقها بالماء، وكذلك ولد الفزعة، كما قال، كما قال أبو كبير الهذلي:
من حملن به وهن عواقدٌ ... حبك النطاق فشب غير مهبل2
حملت به في ليلة مزؤودةٍ ... كرهاً، وعقد نطاقها لم يحلل
مزؤودة: ذات زؤدٍ، وهو الفزع، فمن نصب "مزؤودة "أراد المرأة. ومن خفض فإنه أراد الليلة، وجعل الليلة ذات فزع، لأنه يفزع فيها، قال الله عز وجل: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} 3 والمعنى: بل مكركم في الليل والنهار: وقال جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت، وما ليل المطي بنائم
وقال آخر:
فنام ليلي وتجلى همي4
وهذا الرجز ضد ما قال الآخر في ولده، فإنه أقر بأن امراته غلبته على شبهه، وذلك قوله:
نمت وعرق الخال لا ينام
يقول: عزتني أمه على الشبه، فذهبت به إلى أخواله. وقال آخر:
لقد بعثت صاحباً من العجم ... بين ذوي الأحلام والبيض اللملم 5
كان أبوه غائباً حتى فطم
ـــــــ
1 عزرتنى: غلبتنى.
2 الحبك: جمع حباك، وهو مايشد به النطاق، والنطاق، شقة تلبسها المرأة ترسل أعلاها إلى الركبة بعد شد وسطها بالحباك، وتدع الأسفل ينجر على الأرض. والمهبل: الكثير اللحم، أو المدعو عليه بالهبل وهو الثكل.
3 سورة سبأ 33.
4 هو رؤبة وقبله:
حارث قد فرجت عنى غمى
5 ذو الأحلام: واحده حلم ، وهو العقل. واللمم: جمع لمة، وهي ما ألم بالممنكب من شعر الرأس.
يقول: لم يسق غيلاً، وقال رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هممت أن أنهى أمتي عن الغيلة حتى علمت أن فارس والروم تفعل ذلك بأولادها،فلا تضير أولادها". والغيلة: أن ترضع المرأة وهي حامل، أو ترضع وهي تغشى. ويزعم أهل الطب من العرب والعجم أن ذلك اللبن داءٌ. وقالت أم تأبط شراً: والله ما حملته تضعاً - ووضعاً أيضأً - ولا وضعته تيناً، ولا سقيته غيلاً، ولا أبته مئقاً. وقال الأصمعي: ولا أبته على مأقةٍ.
قولها: "ما حملته تضعاً"، يقال إذا حملت المرأة عند مقتبل الحيض: حملته وضعاً وتضعاً، وإذا خرجت رجلاً المولود من قبل رأسه قيل: وضعته يتناً قال الشاعر:
فجاءت به يتناً يجر مشيمة1 ... تسابق رجلاه هناك الأناملا
ويقال للرجل إذا قلب الشيء عن جهته: جاء به يتناً قال عيسى بن عمر: سألت ذا الرمة عن مسألة، فقال لي: أتعرف اليتن? قلت: نعم، قال: فمسألتك هذه يتن. قال: وكنت قد قلت الكلام.
والغيل ما فسرناه.
وأما قولها: ولا أبته مئقاً، تقول: لن أبته مغيظاً: وذلك أن الخرقاء تبيت ولدها جائعاً مغموماً، لحاجته إلى الرضاع، ثم تحركه في مهده حتى يغلبه الدوار فينومه: والكيسة تشبعه وتغنيه في مهده، فيسري ذلك الفرح في بدنه من الشبع كما سرى ذلك الغم والجوع في بدن الآخر.
ومن أمثال العرب: "أنا تئق، وصاحبي مئق، فكيف نتفق? التئق: المملوء غيظاً وغضباً، والمئق: القليل الا حتمال، فلا يقع الاتفاق.
ـــــــ
1 المشيمة: ما يكون فيه الولد.
باب
من كلام ابن عباسقال أبو العباس: قال ابن العباس رضي الله عنهما: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه:
من كلام عبد الله بن جعفروأنشد عبد الله بن جعفر قول الشاعر:
إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى تصيب بها طريق المصنع
فقال: هذا رجل يريد أن يبخل الناس، أمطر المعروف مطراً، فإن صادف موضعاً فهو الذي قصدت له، وإلا كنت أحق به.
[قال أبو الحسن الأخفش: حدثنا المبرد في غير الكامل قال: قال الحسن والحسين رضوان الله عليهما لعبد الل بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال، قال: بأبي أنتما وأمي إن الله عودني أن يفضل علي، وعودته أن أفضل على عباده، فأخاف ان أقطع العادة فتقطع عني].
ليزيد بن المهلب وقد مر بأعرابية عند خروجه من سجنه.
ومر يزيد بن المهلب بأعرابية في خروجه من سجن عمر بن عبد العزيز يريد البصرة، فقرته عنزاً فقلبها، وقال لإبنه معاوية: ما معك من النفقة ? فقال: ثمانمائة دينار، قال: فادفعها إليها، قال أبنه: إنك تريد الرجال، ولا يكون الرجال إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير، وهي بعد لا تعرفك فقال له: إن كانت ترضى باليسير، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي ادفعها إليها.
حديث للأصمعي عن ضرار بن القعقاعوزعم الأصمعي أن حرباٌ كانت بالبادية، ثم اتصلت بالبصرة فتفاقم الأمر فيها، ثم مشي بين الناس بالصلح، فاجتمعوا في الجامع،قال: فبعثت وأنا غلام إلى ضرار بن القعقاع من بني دارم، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت، فإذا به في شملة يخلط بزراٌ له حلوب، فخبرته بمجتمع القوم، فأمهل حتى أكلت العنز، ثم غسل الصحفة وصاح: ياجارية غدينا، قال: فأتته بزيت وتمر، قال: فدعاني فقذرته1 أن آكل معه، حتى إذا قضى من أكله حاجة، وثب إلى طين ملقى في الدار، فغسل به يده، ثم صاح: يا جارية، اسقيني الماء، فأتته بماء، فشربه، ومسح فضله على وجهه، ثم قال: الحمد لله، ماء الفرات، بتمر البصرة، بزيت الشام، متى نؤدي شكر هذه النعم! ثم قال: يا جارية، علي بردائي، فأتته برداء عدني، فأرتدى به على تلك الشملة.
قال الأصمعي: فتجافيت عنه استقباحاً لزيه، فلما دخل المسجد صلى ركعتين، ثم مشى إلى القوم، فلم تبق حبوة2 إلا حلت إعظاماً له، ثم جلس، فتحمل جميع ما كان بين الأحياء في ماله وانصرف.
ـــــــ
1 س: "فقذرت".
2 الحبوة: أن يجمع الرجل ظهره وساقية بعمامة ونحوها.
بين زياد بن عمرو العتكي والأحنف بن قيس التميمي
وحدثني ابو عثمان بكر بن محمد1 المازني عن أبي عبيدة قال: لما أتى زياد ابن عمرو المربد2، في عقب قتل مسعود بن عمرو العتكي3، جعل في الميمنة بكر بن وائل، وفي الميسرة عبد القيس وهم لكيز بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة وكان زياد بن عمرو العتكي في القلب، فبلغ ذلك الأحنف، فقال: هذا غلام حدثٌ، شأنه الشهرة، وليس يبالي أين قذف بنفسه! فندب أصحابه، فجاءه حارثة بن بدرٍ الغداني، وقد اجتمعت بنو تميم، فلما طلع قال: قوموا إلى سيدكم، ثم أجلسه فناظره، فجعلوا سعداً والرباب في القلب، ورئيسهم عبس بن طلقٍ الطعان، المعروف بأخي كهمس، وهو أحد بني صريم بن
ـــــــ
1 من س.
2 المربد: سوق بالبصرة كانت تباع فيها الإبل.
3 كان مسعود بن عمرو من بنى عتيك، وهم بطن من الأزد، استخلفه عبيد الله بن زيباد على البصرة، بعد أن هرب إلى الشام مطاردا. فوقف على المنبر يبايع من أتاه، فرماه رجل من أهل فارس فقتله، وعلى إثر ذلك شاعت الفتنة بين الناس. فريق يقول: قتلته الخوارج وفريق يقول قتلته تميم، "وانظر تفصيل الخبر في تاريخ الطبري، حوادث سنة 65".
يربوع، فجعل في القلب بحذاء الأزد، وجعل حارثة بن بدرٍ في حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وجعلت عمرو بن تميم بحذاء عبد القيس، فذاك يقول حارثة بن بدرٍ للأحنف:
سيكفيك عبس ابن كهمس ... مقارعة الأزد بالمربد1
وتكفيك عمرو على رسلها2 ... لكيز بن أفصى وما عددوا
وتكفيك3 بكراً إذا أقبلت ... بضرب يشيب له الأمرد
فلما تواقفوا بعث إليهم الأحنف: يا معشر الأزد وربيعة من أهل البصرة، أنتم والله أحب إلينا من تميم الكوفة، وأنتم جيراننا في الدار، ويدنا على العدو، وأنتم بدأتمونا بالأمس، ووطئتم حريمنا، وحرقتم علينا فدفعنا عن أنفسنا ولا حاجة لنا في الشر ما أصابنا في الخير مسلكاً، فتيمموا بنا طريقة قاصدة4.
فوجه إليه زياد بن عمرو: تخير خلة من ثلاثٍ إن شئت فانزل أنت وقومك على حكمنا، وإن شئت فخل لنا عن البصرة وارحل أنت وقومك إلى حيث شئتم وإلا فدوا5 قتلانا، واهدروا دماءكم، وليود مسعودٌ دية المعشرة.
قال ابو العباس، وتاويل قوله: دية المشعرة" يريد أمر الملوك في الجاهلية، وكان الرجل إذا قتلوهو من أهل بيت المملكة ودي عشر ديات .
فبعث إليه الأحنف: سنختار، فانصرفوا في يومكم . فهز القوم راياتهم وانصرفوا، فلما كان الغد بعث إليهم: إنكم خيرتمونا خلالاً ليس فيها خيارٌ أما النزول على حكمكم فميف يكون والكلم يقطر دماً? وأما ترك ديارنا فهو أخو القتل، قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ} 6 ، ولكن الثالثة إنما هي حملٌ على المال، فنحن نبطل
ـــــــ
1 في البيت إقواء.
2 الرسل هنا: اللين والرفق.
3 ر: "تكفيك".
4 قاصدة: مستقيمة.
5 دوا قتلانا، من الدية.
6 النساء: 66.
دماءنا، وندي قتلاكم، وإنما1 مسعودٌ رجل من المسلمين، وقد أذهب الله أمر الجاهلية.
فاجتمع القوم على أن يقفوا أمر مسعود، ويغمد السيف، ويؤدي سائر القتلى من الأزد وربيعة. فضمن ذلك الأحنف، ودفع إياس بن قتادة المجاشعي رهينة حتى يؤدى هذا المال، فرضي به القوم، ففخر بذلك الفرزدق فقال:2
ومنا الذي أعطى يديه رهينةً ... لغاري معد يوم ضرب الجماجم3
عشية سال المربدان كلاهما ... عجاجة موتٍ بالسيف الصوارم
هنالك لو تبغي كليباً وجدتها ... أذل من القردان تحت المناسم4
قال أبو الحسن وكان أبو العباس ربما رواه: لغار5 معد
ويقال: إنما تميماً في الوقت مع باديتها وحلفائها من الأساورة6 والزط7، والسبابجة8 وغيرهم كانوا زهاء سبعين ألفاً، ففي ذلك يقول جرير:
سائل ذوي يمن ورهط محرقٍ ... والأزد إذ ندبوا لنا مسعودا9
فأتاهم سبعون ألف مدجج ... متسربلين يلامعا10 وحديدا
قال الأحنف بن قيس: فكثرت علي الديات، فلم أجدها في حاضرة تميم، فخرجت نحو يبرين11، فسألت عن المقصودهناك، فأرشدت إلى قبةٍ، فإذا شيخٌ
ـــــــ
1 س: "وأما مسعود".
2 من قصيدة يهجو فيها جريرا ويعرض بالبعيث، مطلعها:
ود جرير اللؤم لو كان عانيا ... ولم يدن من زأر الأسود الضراغم
3 الغاران: مثنى غار، وهو الجيش، ومنه قول على يوم الجمل: "مآظنك بامرىء جمع بين هذين الغارين"!.
4 يريد كليب بن يربوع، رهط الفرزدق. والقردان: جمع قراد، وهو دويبة تعض الإبل.
5 ر: "الغازي معد".
6 الأساورة: قوم من العجم بالبصرة نزلوها قديما، كالأحامرة. "اللسان".
7 الزط: جبل أسود من السند، وقيل هم من الهند. "اللسان".
8 السبابجة: قوم ذوو جلد من السند والهند، يكونون مع رئيس السفينة البحرية يبذرقونها، واحدهم سبيجى، ودخلت الهاء في جمعه والنسب، كما قالوا: البرابرة. "اللسان".
9 المحرق: هو عمرو بن هند ملك الحيرة، وكان حرق يوم أوارة تسعة وتسعين رجلا من دارم، قبيلة الفرزدق.
10 اليلامع: جمع يلمع، وهو الدرع هنا. وفي ر: "يلامقا"، جمع يلمق، وهو القباء.
11 يبرين: قرية كثيرة النخل في بلاد البحرين.
جالسٌ بفنائها، مؤترز بشملةٍ، محتب بحبل، فسلمت عليه، وانتسبت له فقال: ما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? فقلت: توفي صلوات الله عليه! قال: فما فعل عمر بن الخطاب الذي كان يحفظ العرب ويحوطها? قلت له: مات رحمه الله تعالى ! قال فأي خيرٍ في حاضرتكم بعدها ! قال فذكرت له الديات التي لزمتنا للأزد وريعة. قال: فقال لي: أقم، فإذا راعٍ قد أراح ألف بعير، فقال: خذها، ثم أراح عليه آخر مثلها، فقال: خذها، فقلت: لا أحتاج إليها، قال: فانصرفت بالألف عنه، ووالله من هو إلى الساعة!
قوله: "المناسم" واحدها منسم، وهو ظفر البعير في مقدم الخف، وهو من البغيرة كالسنبك من الفرس وقوله:
عشية سال المربدان كلاهما
يريد المربد وما يليه مما جرى مجراه، ةالعرب تفعل هذا في الشيئين إذا جريا في باب واحد، قال الفرزدق:
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
يريد الشمس والقمر: لأنهما قد اجتمعا في قولك، "النيران"، وغلب الاسم المذكر، وإنما يؤثر في مثل هذا الخفة، وقالوا: "العمران" لأبي بكر وعمر، فإن قال قائل: إنما هو عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، فلم يصب، لأن أهل الجمل نادوا بعلي بن أبي طالب رحمه الله عليه: أعطنا سنة العمرين. فإن قال قائل: فلم لم يقولوا: أبوي بكر، وأبو بكر أفضلهما فلأن عمر اسم مفرد، وإنما طلبوا الخفة. وأنشدني التوزي عن أبي عبيدة لجرير:
وما لتغلب إن عدوا مساعيهم ... نجم يضيء ولا شمس ولا قمر
ما كان يرضى رسول الله فعلهم ... والعمران أبو بكر ولا عمر
هكذا أنشدنيه1:
وقال آخر2:
قدني من نصر الخبيبين قدي
ـــــــ
1 زيادات ر: "إنما قال هكذا أنشدنيه غير التوزى يرويه:
والطيبان أبو بكر ولا عمر
2 زيادات ر: "هو حميد بن الأرقط"، والبيت في اللسان "قدد"، وإصلاح المنطق 444،377 وبعده:
ليس الإمام بالشحيح الملحد
يريد عبد الله ومصعبا ابني الزبير وإنما أبو خبيب عبد الله، وقرأ بعض القراء: {سَلامٌ عَلَى إِلْيَاسِينَ} 1 فجمعهم على لفظ إلياس ومن ذا قول العرب: المسامعة، والمهالبة، والمناذرة، فجمعهم على اسم الأب.
والمشعرة: اسم لقتلى الملوك خاصة، كانوا يكبرون أن يقولوا: قتل فلان، فيقولون أشعر فلان، من إشعار البدن2 .
ويروى أن رجلاً قال: حضرت الموقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فصاح به صائح: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال: يا أمير المؤمنين. فقال رجل من خلفي: دعاه باسم رجل ميت3، مات والله أمير المؤمنين. فالتفت فإذا رجل من بني لهب، وهم وهم من بني نصر بن الأزد،وهم أزجر4 قوم، قال كثير:
سألت أخاً لهب ليزجر زجرةً ... وقد صار زجر العالمين إلى لهب
قال: فلما وقفنا لرمي الجمار إذا حصاةٌ قد صكت صلعة عمر فأدمته، فقال قائل: أشعر والله أمير المؤمنين، والله لا يقف هذا الموقف أبداً. فالتقت فإذا بذلك اللهبي بعينه، فقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحول.
ـــــــ
1 سورة الصافات 130.
2 البدن، بالضم: جمع بدنة، وهي الناقة والبقرة وهذا البعير مما ينحر بمكة للهدى وإشعارها: أن يشق جلدها أو سنامها بمبضع ونحوه حتى يظهر الدم، ليعلم أنه هدى.
3 يريد أبا بكر.
4 الزجر للطير هو التيمن والتشاؤم بها، والتفاؤل بطيرانها وهو ضرب من الكهانة.
باب
لذي الرمة في الزجرقال أبو العباس: أنشدني رجل من أصحابنا من بني سعدٍ، قال: أنشدني أعرابي في قصيدة ذي الرمة:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
بيتين لم تأت بهما الرواة، وهما:
رأيت غراباً ساقطاً فوق قضبةٍ1 ... من القضب لم ينبت لها ورقٌ نضر
فقلت: غارباً لاغترلبٍ، وقضبةٌ ... لقضب النوى، هذي العيفة والزجر
ـــــــ
1 القضبة: واحدة القضب، هو شجر له ورق كورق الكمثرى، إلا أنه أرق وأنعم.
لجحدر العكليوقال آخر قال أبو الحسن: هو جحدرٌ العكلي، وكان لصاً:
وقدماً هاجني فازددت شوقاً ... بكاء حمامتين تجاوبان
وقدما عن أبي الحسن
تجاوبتا بلحن أعجمي ... على عودين من غربٍ وبان1
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغترابٌ غير دان
ـــــــ
1 الغرب والبان: ضربان من الشجر.
مما قيل في المالوأنشدني أبو محلمٍ من ولد طلبة بن قيس بن عاصم:
وكنت إذا خاصمت خصماً كببته ... على الوجه حتى خاصمتني الدراهم
فلما تنازعنا الخصومة غلبت ... علي، وقالوا: قم فإنك ظالم
وقرأت عن أبي الفضل العباس بن الفرج الرياشي، عن أبي زيد الأنصاري:
ولقد بغيت المال من مبغاته ... والمال وجهٌ للفتى معروض
طلب الغنى عن صاحبي ليحبني ... إن الفقير إلى الغني بغيض
وقال آخر أنشدني التوزي عن أبي زيد:
وصاحب نبهته لينهضا ... إذا الكرى في عينيه تمضمضا
فقام عجلان وما تأرضا ... يمسح بالكفين وجهاً أبيضا
قوله: " وما تأرضأ " :أي لم يلزم الأرض.
لشبيب بن البرصاء يفخر بكرمةوأنشدني التوزي عن أبي زيد الأنصاري قال أبو الحسن: هو شبيب بن البرصاء:
لقد علمت أم الصبيين أنني ... إلى الضيف قوام السنات خروج
إذا المرغث العوجاء بات يعزها ... على ضرعها ذو تومتين لهوج
وإني لأغلي اللحم نياً وإنني ... لممن يهين اللحم وهو نضيج
قوله:" قوام السنات، يريد سريع الانتباه، والسنة: شدة النعاس، وليس بالنوم بعينه، قال الله عز وجل: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} 1: وقال ابن الرقاع العاملي:
لولا الحياء وأن رأسي قد عسا ... فيه المشيب لزرت أم القاسم
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم2
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينيه سنةٌ، وليس بنائم3
ومعنى" رنقت" تهيأت، يقال: رنق النسر: إذا مد جناحيه ليطير، قال ذو الرمة4:
على حد قوسينا كما رنق النسر
ـــــــ
1 سورة البقرة 255.
2 جاسم: قرية بالشام، وفي ر: "عاسم"، وهو رمل لبنى سعد.
3 أقصده: أصابة.
4 قبله في زيادات ر:
إذا ضربته الربح رنق فوقنا
وانظر ديوانه 218.
وقوله: "المرغث": يعني التي ترضع وترغث1 ولدها، ويقال لها رغوثٌ، قال طرفة:
ليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثاً حول قبتنا تخور
وقوله: "يعزها"، أي يغلبها، وقال الله عز وجل: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} 2 يقول: غلبني في المخاطبة، وأصله من قوله: كان أعز مني فيها. ومن أمثال العرب: "من عز بز": وتأويله: من غلب استلب. وقال زهيرٌ: "وعزته يداه وكاهله"3 يقول: كان ذلك أعز ما فيه، ويقال: لهج الفصيل فهو لهوج إذا لزم الضرع، ويقال: رجل ملهجٌ، إذا لهجت فصاله، فيتخذ خلالاً، فيشده على الضرع، أو على أنف الفصيل، فإذا جاء ليرضع أوجعها بالخلال فضرحته4 عنها برجلها، قال الشماخ يصف الحمار:
رعى بارض الوسمي حتى كأنما ... يرى بسفا البهمى أخله ملهج
البارض: أول ما يبدو من النبت، والبهمى يشبه السنبل، يقول: فهو لما اعتاد هذا المرعى اللدان استخشن البهمى. وسفاها: شوكها. فيقول: كأنه مخلول عن البهمى، أي يراها كالأخلة.
وقوله: "ذو تومتين" فالتومة في الأصل الحبة5، ولكنها في هذا الموضع التي تعلق في الأذن. وكالبيت الأخير قوله:
وإني لأغلي لحمها وهي حيةٌ ... ويرخص عندي لحمها حين تذبح
بذا فاند بيني وامدحيني فإنني ... فتى تعتريه هزةٌ حين يمدح
ـــــــ
1 ر: "يعنى التي ترضع ترغث"، س: "التي ترضع الرغث".
2 سورة ص23.
3 البيت بتمامه:
تميم فلوناه فأكمل صنعه ... فتم، وعزته يداه وكاهله
وانظر ديوانه 130.
4 ضرحته: دفعته.
5 زيادات ر: "وقوله "الحبة" إنما معناه من حبات النظم".
باب
لعمر بن عبد العزيز حينما سئل: أي الجهاد أفضل?قيل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: أي الجهاد أفضل? فقال: جهادك هواك.
لرجل من الحكماء في مجاهدة النفسوقال رجل من الحكماء: أعص النساء وهواك واصنع ما شئت.
لمحمد بن علي بن الحسين في الزهدوقال محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب رضي الله عنهم: ما لك من عيشك إلا لذة تزدلف بك إلى حمامك، وتقربك من يومك، فأية أكلة ليس معها غصص أو شربة ليس معها شرق فتأمل أمرك، فكأنك قد صرت الحبيب المفقود،والخيال المخترم. أهل الدنيا أهل سفر لا يحلون عقد رحالهم إلا في غيرها.
قوله: "تزدلف بك إلى حمامك"، يقول: تقربك: ولذلك سميت المزدلفة وقوله عز وجل: {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} 1 إنما هي ساعات يقرب بعضها من بعض، قال العجاج:
ناج طواه لأين مما وجفا ... طي الليالي: زلفاٌ فزلفا
سماوة الهلال حتى احقوقفا
ناج: سريع، والأين: الإعياء .والوجيف: ضرب من السير.ونصب "طي الليالي" لأنه مصدر من قوله: "طواه الأين"، وليس بهذا الفعل، ولكن تقدير طواه الأين طياٌ مثل طي الليالي، كما تقول: زيد يشرب شرب الإبل، إنما التقديريشرب شرباٌ مثل الإبل، "فمثل" نعت، ولكن إذا حذفت المضاف استغنى بأن الظاهر يبينه، وقام أضيف إليه مقامه في الإعراب، من ذلك قول الله تبارك تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 2 نصب لأنه كان: "واسأل أهل القرية". وتقول:
ـــــــ
1 سورة هود 114.
2 سورة يوسف 82.
بنو فلان يطؤهم الطريق، تريد أهل الطريق فحذفت " أهل " فرفعت " الطريق " لأنه في موضع،فعلى هذا فقس إن شاء الله .وقوله " سماوة الهلال " إنما هو أعلاه،ونصب " سماوة " : " بطي " ، يريد طواه الأين كما طوت الليالي سماوة الهلال . والشاهد على إنه يريد أعلاه قول طفيل:
سماوته أسمال برد محبرٍ ... وسائره من أتحمي مشرعب
ويروى : " معصب " ، وإنما سماوته من قولك: سماء،. فاعلم فإذا وقع الإعراب على الهاء أظهرت ما تبنيه على التأنيث على أصله، فإن كان من الياء أظهرت الياء، وإن كان من الواو أظهرت فيه الواو، تقول شقاوة لأنها الشقوة وتقول هذه إمرأة سقاية: إذا أردت البناء على غير تذكير، فإن بنيته على التذكير قلبت الياء والواو همزتين: لأن الإعراب عليهما يقع، فقلت : سقاء وغزاء يا فتى، فإن أنثت قلت: سقاءة وغزاءة، والأجود فيما كان له تذكير الهمز،وفيما لم يكن له تذكير الأظهار، وإنما السماء من الواو، لأن الأصل سما يسمو إذا ارتفع، وسماء كل شيء سقفه.
وقوله: " حتى احقوقفا " يريد اعوج، وإنما هو افعوعل من الحقف. والحقف: النقا من الرمل يعوج ويدق، .قال الله عز وجل : " إذ أنذر قومه بالأحقاف " أي بموضع هو هكذا.
لعلي بن أبي طالب في وصف الدنياوقال رجل لعلي بن أبي طالب رحمة الله عليه1 وهو في خطبته2: يا أمير المؤمنين، صف لنا الدنيا، فقال: ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من صح فيها أمن، ومن مرض فيها ندم، ومن استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن.
ـــــــ
1 س: "رضي الله عنه".
2 ر، س: "وهو في خطيته".
مقدم الربيع بن زياد الحارثي على عمر بن الخطابقال الربيع بن زياد الحارثي: كنت عاملاً لأبي موسى الأشعري على البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب رحمه الله1 يأمره بالقدوم عليه هو وعماله، وأن يستخلفوا جميعاً . قال: فلما قدمنا أتيت يرفأ2 فقلت: يا يرفأ، مسترشد وابن سبيل، أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله فإومأ إلي بالخشونة، فاتخذت خفين مطارقين، ولبست جبة صوف، ولثت عمامتي على رأسي .
ودخلنا3 على عمر رحمه الله فصفنا بين يديه فصعد فينا وصوب، فلم تأخذ عينه أحداً غيري، فدعاني فقال: من أنت قلت: الربيع بن زياد الحارثي، فقال: وما تتولى من أعمالنا قلت: البحرين قال: كم ترتزق قلت: ألفا، قال: كثير، فما تصنع به قلت: أتقوت منه شيئا، وأعود به على أقارب لي. فما فضل عنهم فعلى فقراء المسلمين، قال: فلا بأس، ارجع إلى موضعك، فرجعت إلى موضعي من الصف، فصعد فينا وصوب، فلم تقع عينه إلا علي، فدعاني، فقال: كم سناك، قلت: خمس وأربعون سنة، قال: الآن حين استحكمت ثم دعا بالطعام وأصحابي حديث عهدهم بلين العيش، وقد تجوعت له فأتي بخبز وأكسار بعير، فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد، فجعلت4 أنظر إليه المؤمنين، إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى ألين من هذا فزجرني، ثم قالك كيف قلت؟ فقلت: أقول: ياأمير المؤمنين أن تنظر إلى قوتك من الطحين، فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لك اللحم كذلك، فتؤتى بالخبز لينا، واللحم غريضاً. فسكن من غربه وقال: أههنا غرت قلت: نعم، فقال: يا ربيع إنا لو نشاء ملأنا هذه الرحاب من صلائق، وسبائك،
ـــــــ
1 س: "رضى الله عنه".
2 يرفأ: مولى عمر بن الخطاب، يقال إنه أدرك الجاهلية. وحج مع عمر في خلافة أبى بكر، وكان حاجبا على بابه. "تاج العروس".
3 ر، س: "فدخلنا".
4 س: "ثم جعلت".
وصناب، ولكني رأيت الله عز وجل نعى على قوم شهواتهم، فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} 1 ، ثم أمر أبا موسى بإقراري، وأن يسدبدل بأصحابي.
قوله: "فلثتها على رأسي" يقول: أدرت بعضها على بغض على غير استواء يقال: رجل ألوث إذا كان شديداً، وذلك من اللوث، ورجل ألوث إذا كان أهوج، وهو مأخوذ من اللوثة. وحدثني عبد الصمد بن المعذل قال: سئل الأصمعي عن المجنون، المسمى قيس بن معاذ، فثبته وقال: لم يكن مجنوناً، ولكن كانت به2 لوثة كلوثة أبي حية الشاعر. وقيل للأشعث بن قيس بن معديكرب الكندي: بم كنتم تعرفون السؤدد في الصبي منكم قال: إذا كان ملوث الإزرة3، طويل الغرلة4، سائل الغرة5: كأن به لوثة، فلسنا نشك في سؤدده.
وقله: "تؤتى باللحم غريضا" يقول: طريا، يقال: لحم غريض، وشواء غريض، يراد به الطراء، قال الغساني6:
إذا ما فاتني لحم غريض ... ضربت ذراع بكري فاشتويت
وقوله: "صلائق" فمعناه ما عمل بالنار طبخاً وشيا، يقال: صلقت الجنب إذا شويته، وصلقت اللحم إذا طبخته على وجهه.
وقوله: "سبئك "يريد ما يسنك من الدقيق فيؤخذ خالصه يريد الحوارى7، وكانت العرب تسمي الرقاق السبائك، وأصله ما ذكرنا.
والصناب: صباغ بتخذ من الخردل والزبيب، ومن ذلك قيل للفرس صنلبي إذا كان في ذلك اللون وكان جرير اشترى جارية من رجل يقال له زيد من أهل
ـــــــ
1 سورة الأحقاف 20.
2 ر، س: "فيه".
3 كذا ضبطت في الأصل بالضم، والإزرة: هيئة الائتزار.
4 الغرلة: القلفة.
5 الغرة في الأصل: البياض في جبهة الفرس. وسيلانها: استطالتها، وهو هنا استعارة لإشراق الوجه.
6 زيادات ر: "هو السموءل".
7 الحوارى: لباب البر.
اليمامة، ففركت1 جريراً، وجعلت تحن إلى زيد، فقال جرير:
تكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالمرقق والصناب
وقالت: لا تضم كضم زيد ... وما ضمي وليس معي شبابي
فقال الفرزدق يجيبه:
فإن تفركك علجة آل زيد ... ويعوزك المرقق والصناب2
فقدماً كان عيش أبيك مراً ... يعيش بما تعيش به الكلاب
وأما قوله: "أكسر بعير" فإن الكسر3 والجدل والوصل: العظم ينفصل بما عليه من اللحم.
وأما قوله: "نعى على قوم" فمعناه أنه عابهم بها ووبخهم: قال أبو عبيدة: اجتمع العكاظيون4 على أن فرسان العرب ثلاثة، ففارس تميم عتيبة بن الحارث بن شهاب أحد بني ثعلبة بن يربوع بن حنظلة، صياد الفوارس وسم الفرسان. وفارس قيس عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب . وفارس ربيعة بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد، أحد بني شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، قال: ثم اختلفوا فيهم حتى نعوا عليهم سقطاتهم.
وأما قوله: "أههنا غرت"، يقول: ذهبت، يقال غار الرجل إذا أتى الغور وناحيته مما انخفض من الأ رض، وأنجد إذا أتى نجداً وناحيه مما ارتفع في الأرض، ولا يقال "أغار "إنما يقال: غار وأنجد، وبيت الأعشى ينشد على هذا:
نبي يرى ما لا ترون وذكره ... لعمري غار في البلاد وأنجدا
ـــــــ
1 فركته: أبغضته.
2 العلجة: مؤنث العلج، وهو الغليظ من كفار العجم.
3 الكسر والجدل، ضبطتا في الأصل بفتح أوله وكسره.
4 العكاظى: منسوب إلى عكاظ، وهم الذين عادتهم الذهاب كل عام إلى عكاظ، وهو سوق كانت تقيمة العرب بين نخلة والطائف في شوال من كل عام، يجتمع فيه شعراء العرب يناشدون الشعر.
وقوله: " فسكن من غربه"، يقول: من حده، وكذلك يقال في كل شيء في السيف والسهم والرجل وغير ذلك.
وقوله: "خفين مطارقين" تأويله: مطبقين يقال: طارقت نعلي إذا أطبقتها. ومن قال: " طرقت" أو" أطرقت" فقد أخطأ، ويقال لكل ما ضوعف: فقد طورق، قال ذو الرمة1:
طرق الخوافي واقع فوق ريعة ... ندى ليله في ريشة يترقرق2
قوله: " ريعة" موضع ارتفاع: قال الله عز وجل: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} 3 ، وهو جمع ريعة، وقال الشماخ:
تعن له بمذنب كل واد ... إذا ما الغيث أخضل كل ريع4
ـــــــ
1 زيادات ر: "يصف صقرا".
2 الخوافى: ريشات إذا ضم الطائر جناحية خفيت، صد القوادم، وطراقها: ركوب بعضها على بعض.
3 الشعراء 128.
4 تعن: تظهر. والمذنب: مسيل الماء في الحضيض.
خطبة لعمر بن عبد العزيزقال أبو العباس: وحدثني العباس بن الفرج الرياشي عن الأصمعي قال: قال عدي بن الفضيل: خرجت إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إستحفره بئراً بالعذبة، فقال لي: وأين العذبة؟ قلت: على ليلتين من البصرة، فتأسف ألا يكون بمثل هذا الموضع ماء فأحفرني، واشترط علي أن أول شارب ابن السبيل، قال فحضرته في جمعة، وهو يخطب، فسمعه وهو يقول:
يا أيها الناس، إنكم ميتون، ثم إنكم مبعوثون، ثم إنكم محاسبون، فلعمري لئن كنتم صادقين لقد قصرتم، ولئن كنتم كاذبين لقد هلكتم. أيها الناس إنه من يقدر له رزق برأس جبل أو بحضيض أرض يأته، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب.
قال: فأقمت عنده شهراً ما بي إلا استماع كلامه.
قوله: "حضيض1" يعني المستقر من الأرض إذا انحدر عن الجبل، ولا يقال حضيض إلا بحضرة جبل، يقال: حضيض الجبل، ويطرح الجبل فيستغنى عنه لأن هذا لا يكون إلا له،ومن ذلك قول امرىء القيس:
نظرت إليه قائماً بالحضيض2
ـــــــ
1 ر: "قوله بحضيض".
2 الضمير يعود على الفرس في البيت قبله وصدره:
فلما أجن الشمس عنى غيارها
نبذ من أقوال الحكماءوقال علي بن أبي طالب رحمه الله: يا ابن آدم، لا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه، فإنه إن يعلم أنه من أجلك يأت فيه رزقك، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلا كنت خازناً لغيرك فيه.
ويروى للنابغة1:
ولست بخابىْ ابداً طعاماً ... حذارغد،لكل غدٍ طعام
ويروى ان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من كان آمناً في سربه 2، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، كان كمن حيزت له الدنيا بحذافيرها".
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "في سربه" يقول: في مسلكه، يقال: فلان واسع السرب وخلي السرب، يريد المسالك والمذاهب، وإنما هو مثل مضروب للصدر والقلب، يقال: خل سربه، أي: طريقه حتى يذهب حيث شاء، ويقال ذلك للإبل لانها تنسرب في الطرقات، ويقال: سرب علي الإبل، أي أرسلها شيئاً بعد شيىء فإذا قلت: سرب، بكسر السين، فإنما هو قطيع من ظباء، أبو بقر، أو شاء أو نساء، أو قطا. قال امرؤ القيس:
فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار قي الملاء المذيل
دوار: نسك ينسكون عنده في الجاهلية ودوار ما استدار من الرمل، ودوار سجن اليمامة. قال بعض اللصوص3:
كانت منازلنا التي كنا بها ... شتى، فألف بيننا دوار
وقال عمر بن أبي ربيعة:
فلم ترعيني مثل سرب رأيته ... خرجنا علينا من زقاق ابن واقف4
ـــــــ
1 زيادات ر"هذا من شعر أوس بن حجر مثبت فيه في كلمة لم يعرفها الأصمعى".
2 زيادات ر: "كذا وقعت الرواية بفتح السين عن أبى العباس والصواب كسرها، وإنما السرب، بفتح السن: المال الراعى".
3 زيادات ر: "واسمه جحدر".
4 نسبه أبو الفرج في الأغانى 175:21 إلى هدبة بن خشرم، من أبيات أربعة، وبعده:
تضمخن بالجادى حتى كأنما الـ ... ـأنوف إذا استعرضن رواعف
وفيها إقواء.
وكان الحسن يقول: ليس العجب ممن عطب كيف عطب، إنما العجب ممن نجا كيف نجا .
وكان الحجاج بن يوسف يقول على المنبر: أيها الناس، اقدعوا هذه الأنفس. فإنما أسأل شيء إذا أعطيت، وأمنع شيء إذا سئلت، فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاماً وزماماً فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وعطفها بزمامها عن معصية الله. فإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه.
قوله: "اقدعوا" يقال قدعته عن كذا: أي منعته عنه، ومنه قول الشماخ:
إذا ما استافهن ضربن منه ... مكان الرمح من أنف القدوع
قوله:" استافهن" يعني حماراً يستاف أتنا، يقول: يرمحنه إذا اشتمهن، والسوف: الشم.
وقوله:
مكان الرمح من أنف القدوع
يريد بالقدوع المقدوع، وهذا من الأضداد، يقال طريق ركوب إذا كان يركب، ورجل ركوب للدواب إذا كان يركبها، ويقال: ناقة رغوث إذا كانت ترضع، وحوار رغوث إذا كانت ترضع، ومثل هذا كثير، يقال: شاة حلوب إذا كانت تحلب، ورجل حلوب إذا كان يحلب الشاة، والقدوع ههنا: البعير الذي يقدع، وهو أن يريد الناقة الكريمة ولايكون كريماً، فيضرب أنفه بالرمح حتى يرجع، يقال: قدعته، وقدعت أنفه، ويروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خطب خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ذكر لورقة بن نوفل فقال: محمد بن عبد الله يخطب خديجة بنت خويلد الفحل لا يقدع أنفه .
وكان الحجاج يقول: إن امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيه ربه،أو يستغفر من ذنبه،أو يفكر في معاده،لجدير أن تطول حسرته يوم القيامة.
باب
لعمارة بن عقيل يحض بني كعب وبني كلاب على بني نميرقال أبو الحسن: أنشدني عمارة بن عقيل لنفسه يحض بني كعب وبني كلاب، ابني ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن على بني نمير بن عامر بن صعصعة، وبينهم مطالبات وترات1. وكانت بنو نمير أعداء عمارة. فكان يحض عليهم السلطان، ويغري بهم إخوتهم، ويحاربهم في عشيرته، فقال:
رأينا كما يا ابني ربيعة خرتما ... لعض الحروب. والعديد كثير
وصدقتما قول الفرزدق فيكما ... وكذبتما ما كان قال جرير
أصابت نمير منكم فوق قدرها ... فكل نميري بذاك أمير
فإن تفخروا بما مضى من قديمكم ... فقد هدمت مدائن وقصور
رمتها مجانيق العدو فقوضت ... مدائن منها كالجبال وسور
وشيدها الأملاك: كسرى وهرمز ... وآل هرقل حقبة، ونضير
فإن تعمروا المجد القديم فلم يزل ... لكم في مضرات الحروب ضرير
خبطتم ليوث الشأم حتى تناذرت ... حماكم وحتى لا يهر عقور
فكيف بأكناف الشريف تصيبكم ... ثعالب يبحثن الحصى وأبور
قال أبو العباس: قوله:
فقد هدمت مدائن وقصور
مثل، يريد ان مجدكم الذي بناه آباؤكم متى لم تعمروه بأفعالكم خرب وذهب . وهذا كما قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
لسنا وإن كرمت أوائلنا ... يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ن ونفعل مثل ما فعلوا
ـــــــ
1 التراث: جمع ترة، وهي الجناية.
وكما قال الآخر:
ألهى بني جشم عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غير مسئوم
إن القديم إذا ما ضاع آخره ... كساعد فله الأيام محطوم
وكما قال عامر بن الطفيل:
إني وإن كنت ابن فارس عامر ... وفي السر منها والصريح المهذب
فما سودتني عامر عن وراثة ... إبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها، وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمقنب
قال أبو الحسن: أنشدني هذه الأبيات محمد بن الحسن المعروف بابن الحرون ويكنى أبا عبد الله لعامر بن الطفيل العامري. قال أبو الحسن: قال الأصمعي: وكان عامر بن الطفيل يلقب محبراً لحسن شعره، وأولها:
تقول ابنة العمري ما لك بعدما ... أراك صحيحاً كالسليم المعذب
فقلت لها: همي الذي تعلمينه ... من الثأر في حيي زبيد وأرحب
إن اغز زبيداً أغز قوماً أعزة ... مركبهم في الحي خير مركب
وإن أغز حيي خثعم فدماؤهم ... شفاء، وخير الثأر للمتأوب
فما أدراك الأوتار مثل محقق ... بأجرد طاو كالعسيب المشذب
وأسمر خطي وأبيض باتر ... وزغف دلاص كالغدير المثوب
سلاح امرىء قد يعلم الناس أنه ... طلوب لثارات الجال مطلب
ثم أتى بإنشاد أبي العباس على وجهه، إلا أنه روى: "من رماها بمنكب" السليم: الملدوغ، وقيل له: "سليم" تفاؤلاً له بالسلامة، وزبيد وأرحب: حيان من اليمن. والثأر: ما يكون لك عند من أصاب حميمك، من الترة، ومن قال "ثار" فقد أخطأ.
والمتأوب: الذي يأتيك لطلب ثأره عندك، يقال: آب يؤوب إذا رجع. والتأويب في غير هذا: السير في النهار بلا توقف.
والأوتار والأحقاد واحدهما وتر وحقد. والأجرد: الفرس المتحسر الشعر،والأجرد الضامر أيضاً. والعسيب: السعفة. والمشذب. الطويل الذي أخذ ما عليه من العقد والسلاء1 والخوص، ومنه قيل للطويل المعرق: مشذب.
وخطي: رمح منسوب إلى الخط، وهي جزيرة بالبحرين، يقال إنها تنبت عصا الرماح وقال الأصمعي: ليست بها رماح، ولكن سفينة كانت وقعت إليها، فيها رماح، وأرفئت بها في بعض السنين المتقدمة، فقيل لتلك الرماح: الخطية: ثم عم كل رمح هذا النسب إلى اليوم. والزغف: الدرع الرقيقة النسج، والمثوب: الذي تصفقه الرياح فيذهب ويجيء، وهو من ثاب يثوب إذا رجع. وإنما سمي الغدير غديراً لأن السيل غادره، أي تركه.
قال أبو العباس: وقوله:
لكم في مضرات الحروب ضرير
يقال: رجل ضرير إذا كان ذا مشقة على العدو، وقال مهلهل بن ربيعة التغلبي:
قتيلٌ ما قتيل المرء عمرو ... وهمام بن مرة ذو ضرير2
وقوله: "خبطتم ليوث الشام "يريد ما كان من نصر بن شبث العقيلي، وهو عقيل بن كعب بن ربيعة.
وقوله: "أبور" جمع وبر3، وإذا إنضمت الواو من غير علة فهمزها جائز، وقد ذكرنا ذلك قبل.
ـــــــ
1 السلاء: شوك النخيل.
2 زيادات ر: ما: زائدة، وفيها معنى التعظيم.
3 الوبر: دويبة على قدر السنوري.
لعمارة أيضاً في الحث على الأخذ بالثأر
وقال عمارة أيضاً لهم، أنشدنيه:
ألا لله در الحي كعب ... ذوي العدد المضاعف والخيول
أما فيهم كريمٌ مثل نصر ... يورع عنهم سنن الفحول
تنوخهم نمير كل يوم ... كفعل أخي العزازة بالذليل
وليسوا مثل عشرهم ولكن ... يضيع القوم من قبل العقول
فأين فوارس السلمات منهم ... وجعدة والحريش ذوو الفضول!
وأين عبادة الخشناء عنهم1 ... إذا ما ضاق مطلع السبيل!
قوله:
ألا لله در الحي كعب
يريد كعب بن ربيعة بن عامر صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. وقوله:
أما فيهم كريم مثل نصرٍ
يعني نصر بن شبث، أحد بني عقيل بن كعب بن ربيعة. وقوله:
يورع عنهم سنن الفحول
هو مثل ضربه، فجعلهم لإمساكهم عن الحرب بمنزلة النوق التي يقرعها الفحل. ويورع: يكف ويمنع ويدفع. والورع في الدين إنما هو الكف عن أخذ الحرام، وجاء في الحديث: "لا تنظروا إلى صومه، ولا إلى صلاته، ولكن انظروا إلى ورعه إذا أشفى"، ومعناه إذا أشرف على الدينار والدرهم. والسنن: القصد، ثم أبان ذلك بقوله:
تنوخهم نميرٌ كل يوم
يقال: سان الفحل الناقة فتنوخها، وذلك إذا ركبها من غير أن توطأ له، ولكن يعترضها اعتراضاً. وتقول العرب: إن ذلك أكرم النتاج، وذلك لأن
ـــــــ
1 ر: "منهم".
الولد يخرج صليباً مذكراً، ويقال لذلك الحمل الذي يقع من التنوخ والاعتراض: يعارة وعراضٌ، يقال: حملته عراضاً، وحملته يعارة يا فتى، قال الراعي:
قلائص لا يلقحن إلا يعارةً ... عراضاً، ولا يشربن إلا غواليا
وقال الطرماح:
سوف تدنيك من لميس سبندا1 ... ةٌ أمارات بالبول ماء الكراض
نضجته عشرين يوماً ونيلت ... حين نيلت يعارة في عراض
قوله:" سبنداة" فهي الجريئة الصدر، يقال للجريء الصدر: سبندى وسبنتى وأصل ذلك في النمر. وزعم الأصمعي أن الكراض حلق الرحم، قال: ولم أسمعه إلا في هذا الشعر.
وقوله: "نضجته عشرين يوماٌ"، إنما هو أن تزيد بعد الحول من حيث حملت أياماٌ، نحو الذي عد، فلا يخرج الولد إلامحكماٌ، قال الحطيئة:
لأدماء منها كالسفينة نضجت ... به الحول حتى زاد شهراٌ2 عديدها
والعزازة: العز، والمصادر تقع على" فعالة" للمبالغة، يقال عز عزا وعزازة، كما يقال: الشراسة والصرامة، قال الله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} 3 وفي موضع آخر: {لَيْسَ بِي ضَلالةٌ} 4.
وقوله: "فأين فوارس ا لسلمات"، يريد بني سلمة الخير، وبني سلمة الشر ابني قشير بن كعب، وجمع لأنه يريد الحي أجمع، كما تقول: المهالبة والمسامعة، فتجمعهم على اسم الأب، على المهلب ومسمع، وكذلك المناذرة، وقد مرت الحجة في هذا .
وجعدة بن كعب والحريش بن كعب وبنو عبادة، من عقيل بن كعب. وقال: "الخشناء" يريد القبيلة، وذكرها بالخشونة على الأعداء.
ـــــــ
1 ر. س: "سبنتاة وسبنداة"، وكلاهما جائز.
2 ر: "عشرا".
3 الأعراف 67.
4 الأعراف 61.
سؤال معاوية بن أبي سفيان لدغفل بن حنظلة عن قبائل العربويروى أن معاوية بن أبي سفيان رحمه الله قال لدغفل بن حنظلة النسابة: ما تقول في بني عامر بن صعصعة? قال: أعناق ظباء، وأعجاز نساء. قال: فما تقول في تميم? قال: حجر أخشن، إن صادمته آذاك، وإن تركته تركك. قال: فما تقول في اليمن?قال: سيد وأنوك.
لعمارة بن عقيل حينما أمره أبو سعد التميمي أن يضع يده في يد أبي نصر الطائيقال أبو العباس: وأنشدني عمارة لنفسه وسبب هذا الشعر الذي نذكره أن رجلا من بني تميم، يكنى أبا سعد، كان منقطعاٌ إلى أبي نصر بن حميد الطائي،ثم أحد بني نبهان، وكان أبو نصر والياً على العرب، وكتب أبو سعد إلى عمارة يأمره أن يضع يده في يد أبي نصر، فقال عمارة:
دعاني أبو سعدٍ وأهدى نصيحةٌ ... إلي، ومما أن تغر النصائح1
لأجزر لحمي كلب نبهان كالذي ... دعا القاسطي حتفه وهو نازح
أو البرمجي حين أهداه حينه ... لنار عليها موقدان وذابح
ورأي أبي سعدٍ وإن كان حازماً ... بصيراً وإن ضاقت عليه المسارح
أعار به ملعون نبهان سيفه ... على قومه، والقول عافٍ وجارح
ونصر الفتى في الحرب أعداء قومه ... على قومه للمرء ذي الطعم فاضح
قوله: "لأجزر لحمي كلب نبهان" أي لأكون جزرة له، والجزرة: البدنة تنحر، يقال أجزرت فلاناً، وتركت فلاناً جزراً، قال عنترة العبسي:
إن تشتما عرضي فإن أباكما ... جزر السباع وكل نسرٍ قشعم
وقوله:
...........
... كالذي دعا القاسطي حتفه وهو نازح
ـــــــ
1 زيادات ر: "مما بمعنى ربما".
فهذا الرجل من النمر بن قاسطٍ، خرج يبتغي قرطاً من بعدٍ، فنهشته حية فمات، وهو أحد القارظين. والقارظ الأول من عنزة، كان خرج مع ابن عم له في طلب القرظ، فقتله ابن عمه، لأنه كان يريد ابنته فمنعه منها، قال أبو خراش1 الهذلي:
وحتى يؤوب القارظان كلاهما ... وينشر في القتلى كليب لوائل
وقوله "كالذي دعا القاسطي حتفه" الهاء في حتفه ترجع على الذي وتقديره كالسبب الذي دعا القاسطي حتفه.
وقوله: "أبو البرمجي" فهذا الرجل من البراجم، وهم بنو مالك بن حنظلة كان عمرو بن هند لما قتل بني دارم بأوراة، وكان سبب ذلك أن أخاه أسعد بن المنذر وكان مسترضعاً في بني دارمٍ، في حجر حاجب بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم- انصرف ذات يوم من صيده وبه نبيذٌ، كما يعبث الملوك، فرماه رجل من بني دارم بسهم فقتله2. ففي ذلك يقول القائل، وهو عمرو بن ملقطٍ الطائي لعمرو بن هند:
فاقتل زرارة لا أرى ... في القوم أوفى من زرارة
فغزاهم عمرو بن هند، فقتلهم يوم القصيبة3 ويوم أوارة، ففي ذلك يقول الأعشى:
وتكون في الشرف المو ... زي منقراً وبني زرارة
أبناء قومٍ قتلوا ... يوم القصيبة والأوراة
ثم أقسم عمرو بن هند ليحرقن منهم مائة، فبذلك سمي محرقاً، فأخذ تسعة وتسعين رجلاً فقذهم في النار، ثم أراد أن يبر قسمه بعجوز منهم لتكمل بها
ـــــــ
1 زيادات ر: "الصحيح أن الشعر لأبى ذؤيب، وهو بهذه النسبة في ديوان الهذليين 145:1، من قصيدة مطلعها:
أساءلت رسم الدار أم لم تسائل ... عن السكن أم عن عهده بالأوائل!
2 زيادات ر: "رمى ناقة بسهم فقتلها" والرجل الذي قتله سويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم".
3 يوم القصيبة لعمرو بن هند على بنى تميم، وهو أوارة. "وانظر معجم البلدان 364:1،114:7".
العدة، فلما أمر بها قالت العجوز: ألا فتى يفدي هذه العجوز بنفسه1! ثم قالت: "هيهات صارت الفتيان حمماً"! ومر وافد البراجموهو الذي ذكرنا - فاشتم رائحة اللحم، فظن أن الملك يتخذ طعاماً، فعرج إليه فأتي به إليه، فقال له: من أنت? فقال: ابيت اللعن? أنا وافد البراجم، فقال: "إن الشقي وافد البراجم". ثم أمر به فقذف في النار، ففي ذلك يقول جرير يعير الفرزدق:
أين الذين بنار عمرو حرقوا ... أم أين أسعد فيكم المسترضع!
وقال أيضاً:
وأخزاكم عمرو كما قال قد خزيتم ... وأدرك عماراً شقي البراجم
وقال الطرماح:
ودارم قد قذفنا منهم مائةً ... في جاحم النار إذ ينزون بالخدد2
ينزون بالمشتوى منها ويوقدها ... عمرو، ولولا شحوم القوم لم تقد3
ولذلك عيرت بنو تميم بحب الطعام، يعني لطمع البرجمي في الأكل. قال يزيد بن عمرو بن الصعق أحد بني عمرو بن كلاب:
ألا أبلغ لديك بني تميم ... بآية ما يحبون الطعاما
وقال الأخر4:
إذا ما مات ميتٌ من تميم ... فسرك أن يعيشك فجىء بزاد
بخبر أو بتمر أو بلحم ... أو الشيء الملفف في البجاد5
تراه ينقب البطحاء حولاً ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
ـــــــ
1 زيادات ر: "على ماذكر أصحاب الأخبار اسمها الحمراء بنت نضلة".
2 الخدد، أصله: "الخد" ففك إدغاق للقافية، وهو كالأخدود، حفرة في الأرض مستطيلة.
3 المشتوى: مكان الاشتواء.
4 زيادات ر: "ذكر ابن حبيب أن هذا الشعر لأبى المهوش الفقعسى، وذكر دعبل أنه لأبى المهموش الأسدى، وذكر ابن السيد البطليوسى أنه ليزيد بن عمرو بن الصعق الكلابى".
5 أراد وطب اللبن، يلف بكساء مخطط، اسمه البجاد.
وقوله: "للمرء ذي الطعم" يعني الراجع إلى عقل، يقال: ليس فلان بذي طعم، وفلان ليس بذي نزل، أي ليس بذي عقل ولا معرفة، وإنما يقال: هذا طعام ليس له نزل إذا لم يكن ذا ريع، ومن قال: "نزل "في هذا المعنى فقد أخطأ.
لأعرابي يهجو قوماً من طيىء
وقال أعرابي يهجو قوماً من طيىء:
ولما أن رأيت بني جوين ... جلوساً ليس بينهم جليس
يئست من التي أقبلت أبغي ... لديهم إنني رجل يؤوس
إذا ما قلت: أيهم لأي ... تشابهت المناكب والرؤوس
قوله: "جلوساً ليس بينهم جليس"، يقول: هؤلاء قوم لا ينتجع الناس معروفهم فليس فيهم غيرهم وهذا من أقبح الهجاء.
ومن أمثال العرب: "سمنهم في أديمهم"، ومعناه في مأدومهم، وقيل: أديهم ومأدوم مثل قتيل ومقتول، وتقول الحكماء: من كثر خيره كثر زائره.
وقال المهلب بن أبي صفرة لبنيه: يا بني، إذا غدا عليكم الرجل وراح مسلماً، فكفى بذلك تقاضياً.
وقال آخر:
أروح لتسليم عليك وأغتدي ... وحسبك بالتسليم مني تقاضياً
كفى بطلاب المرء ما لا يناله ... عناء، وباليأس المصرح ناهياً
1[قال أبوالحسن: وربما قال أبو العباس: "مصرح" بكسر الراء]1
ومن أحسن المدح قول زهير:
قد جعل الطالبون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقاً
ـــــــ
1 ر: "وربما قال أبو العباس: "مصرح" بكسر الراء، قال أبو الحسن والكسر أجود".
وقال رؤبة:
إن الندى حيث ترى الضغاطا
وقال آخر:
يزدحم الناس إلى بابه ... والمشرب العذب كثير الزحام
وقال أشجع في محمد بن منصور:
على باب ابن منصور ... علامات من البذل
جماعات وحسب البا ... ب نبلاً كثرة الأهل
وقوله:
تشابهت المناكب والرؤوس
إنما ضربه مثلاً للأخلاق والأفعال: أي ليس فيهم مفضل.
ويقال إن الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، آذته عشيرته من بني سعد، فخرج عنهم، فجعل لا يجاور قوماً إلا آذوه فقال: " أينما أذهب ألق سعداً " أي أفر من الأذى إلى مثله.
باب أقوال في المجالس والجلساء
قال أبو العباس: قال أبو إدريس الخولاني1: المساجد مجالس الكرام. وقيل للأحنف بن قيس أحد بني مرة بن عبيد بن الحارث بن كعب بن سعدٍ: أي المجالس أطيب? فقال: ما سافر فيه البصر، واتدع فيه البدن.
اتدع: افتعل من التوديع، والأصل "اوتدع" فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وهذا القول مذهب أهل الحجاز يقولون: ايتزن ياتزن، وهو رجل موتزنٌ2، والأجود أن تقلب ماكان أصله الواو والياء في باب "افتعل" تاءً وتدغمها في التاء من "افتعل" فتقول: اتدع يتدع، وهو متدعٌ، ومتزن3 ومتعد من الوعد، ومتئس من اليأس، تكون الياء كاواو، لأنها إن أظهرت انقلبت على حركة ما قبلها فصارت كاواو، وتكونان واوين عند الضمة، نحو موعدٍ وموتعدٍ، ومؤنسٍ ومؤتئسٍ، وياءين للكسرة، والواو قد تقلب إلى تاء ولا تاء بعدها، نحو تراث من ورث، وتجاه من الوجه وتكأةٍ. وإنما ذلك كراهية الضمة في الواو، وأقرب حروف الزوائد والبدل منها التاء فقلبت إليها، وقد تقلب للبدل في غير ضم، نحو: هذا أتقى من هذا، وضربته حتى أتكأته4، فلما كانت بعدها تاء افتعل كان الوجه القلب ليقع الإدغام. وقد فسرنا هذا على غاية الاستقصاء في الكتاب "المقتضب".
وقيل للمهلب بن أبي صفرة: ما خير المجالس؟ فقال: ما بعد فيه مدى الطرف، وكثرت فيه فائدة الجليس.
ويروى عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بني، إذا أتيت مجلس قوم فارمهم بسهم الإسلام ثم اجلس فإن أفاضوا في ذكر الله: فأجل سهمك مع سهامهم، وإن أفاضوا في غير فخلهم وانهض.
ـــــــ
1 هو عائد الله بن عبد بن عمرو أبو إدريس الخولانى، قاص أهل الشام وعالمهم، وقاضيهم روى عن أبى هريرة وأبى ذر وغيرهم. مات سنة 80هـ. "تهذيب التهذيب 85:5".
2 ر، س: "ايتزر، ياتزر، وهو رجل موتزر".
3 ر، س: "متزر".
4 اتكأته: وجدته على هيئة المتكىْ.
وقوله: "فارمهم بسهم الإسلام" يعني السلام. وقوله: "فأجل سهمك مع سهامهم"، يعني أدخل معهم في أمرهم، فضربه مثلاً، من دخول الرجل في قداح الميسر.
وقال وهب بن عبد مناف بن زهرة جد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمه:
وإذا أتيت جماعةٌ في مجلسٍ ... فاختر مجالسهم ولما تقعد
ودع الغواة الجاهلين وجهلهم ... وإلى الذين يذكرونك فاعمد
وقال ابن عباس رحمه الله: لجليسي علي ثلاثٌ: أن أرميه بطرفي إذا أقبل، وأوسع له إذا جلس وأصغي إليه إذا حدث.
وكان القعقاع بن شورٍ1، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل إذا جالسه جليسٌ فعرفه بالقصد إليه جعل له نصيباً في ماله وأعانه على عدوه، وشفع له في حاجته، وغدا إليه بعد المجالسة شاكراً له، حتى شهر بذلك. وفيه يقول القائل:
وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس
ضحوك السن إن أمروا بخير ... وعند السوء مطراقٌ عبوس
وحدثني التوزي أن رجلاً جالس قوماً من بني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، فأساؤوا عشرته، وسعوا به إلى معاوية، فقال:
شقيت بكم وكنت لكم جليساً ... فلست جليس قعقاع بن شور
ومن جهل أبو جهلٍ أخوكم ... غزا بدراً بمجمرةٍ وتور2
نسبه إلى التوضيع3، كقول عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف لحكيم بن حزام لما بلغه قول أبي جهل بن هشام: انتفخ والله سحره4 ونحره، سيعلم مصطر استه من انتفخ سحره اليوم!
ـــــــ
1 ذكره ابن حجر في لسان الميزان 454:4 قال: من كبار المراء في دولة بني امية وفي القاموس إنه من التابعين.
2 المجمرة: إحدى المجامر التي يوضع فيها الطيب ليتبخر به. والتور: إناء يبل فيه نحو العود والمسك.
3 التوضيع: التحنيث.
4 يراد بالسحر هنا الرئة.
يزيد بن معاوية والأنصار
...
وقال رجل من بني مخزوم للأحوص بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري ليؤذيه: أتعرف الذي يقول:
ذهبت قريشٌ بالمكارم كلها ... واللؤم تحت عمائم الأنصار
فقال الأحوص: لا أدري، ولكني أعرف الذي يقول:
الناس كنوه أبا حكم ... والله كناه أبا جهل
أبقت رياسته لأسرته ... لؤم الفروع ودقة الأصل
وهذا الشعر لحسان بن ثابت، والبيت الذي أنشده المخزومي للأخطل. وكان يزيد بن معاوية عتب على قوم من الأنصار، فأمر كعب بن جعيل التغلبي بهجائهم، فقال له كعبٌ: أأهجو الأنصار! أرادي أنت إلى الكفر بعد الإسلام! ولكني أدلك على غلام من الحي نصراني: كأن لسانه لسان ثورٍ يعني الأخطل.
قال: فلما قال هذا البيت دخل النعمان بن بشير بن سعدٍ الأنصاري على معاوية، فحسر عمامته عن رأسه، ثم قال: يا معاوية، أترى لؤماً! فقال: ما أرى إلا كرماً. فقال النعمان:
معاوي إلا تعطنا الحق تعترف ... لحي الأزد مسدولاً عليها العمائم
أيشتمنا عبد الأراقم ضلةً ... فماذا الذي تجدي عليك الأراقم!1
فما لي ثأر دون قطع لسانه ... فدونك من ترضيه عنه الدراهم
ـــــــ
1 الأرقم: هم بنو بكر وجشم ومالك والحارث ومعاوية أبناء تغلب، وهم قوم الأخطل.
نبذ من أقوال الحكماءوكان الأحنف بن قيس يقول: لا تزال العرب عرباً ما لبست العمائم، وتقلدت السيوف، ولم تعدد الحلم ذلاً، ولا التواهب فيما بينها ضعةٌ.
وقالوا في تأويل قوله: "ما لبست العمائم"، يقول: ما حافظت على زيها. وقوله: "وتقلدت السيوف" يريد الامتناع من الضيم. وقوله: "ولم تعدد الحلم ذلاً"، يقول: ما عرفت موضع الحلم، وتأويل ذلك: أن الرجل إذا أغضى للسلطان أو أغضى عن الجواب وهو مأسور لم يقل: حلم، وإنما يقال حلم إذا ترك أن يقول الشيء لصاحبه منتصراً، ولا يخاف عاقبة يكرهها، فهذا الحلم المحض، فإذا لم يفعل ذلك، ورأى أن تركه الحلم ذل فهو خطأ وسفهٌ. وقوله: "ولم تر التواهب بينها ضعةٌ" نحو من هذا، وهو أن يهب الرجل من حقه ما لا يستكره عليه.
وكان يقال: أحيوا المعروف بإماتته، وتأويل ذلك أن الرجل إذا اعتد بمعروفه كدره، وقيل: المنة تهدم الصنيعة.
وكان يقال: كتمان المعروف من المنعم عليه كفرٌ، وذكره من المنعم تكديرله.
وقال قيس بن عاصم: يا بني تميم، اصحبوا من يذكر إحسانكم إليه، وينسى أياديه إليكم.
باب
لبعض الشعراء يمدح أسيلم بن الأحنف...
قال أبو العباس: قال عبد الملك [بن مروان1] لأسلم بن الأحنف الأسدي: ما أحسن ما مدحت به? فستعفاه، فأبى أن يعفيه وهو معه على سريره، فلما أبى إلا أن يخبره، قال قول القائل:
ألا أيها الركب المخبون هل لكم ... بسيد أهل الشام تحبوا وترجعوا2
من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا3
إذا النفر السود اليمانون نمنموا ... له حوك برديه أجادوا وأوسع
جلا المسك والحمام والبيض كالدمى ... وفرق المدارى رأسه فهو أنزع4
فقال له عبد الملك: ما قال أخو الأوس أحسن مما قيل لك [قال أبو الحسن: هو أبو قيس بن الأسلت]
قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير تهجاع5
ـــــــ
1 من س.
2 المخبون: الذين تخب بهم دوابهم، من الخبب وهو سرعة العدو.
3 من القعقعة، وهي الصوت، والمراد أنهم لا يتهيبون لقاء الناس.
4 المدارى: حمع المدرى، وهو المشط. وأنزع، من النزوع، وهو انحسار الشعر من أعلى الجبين.
5 حصت: أذهبت شعره. والبيضة، هنا: لباس الرأس في الحرب. والتهجاع: النوم الخفيف.
لكثير في المدحوحدثت أن كثيراً كان يقول: لوددت أني كنت سبقت الأسود أو العبد الأسود إلى هذين البيتين يعني نصيباً في قوله:
من النفر البيض الذين إذا انتجوا ... أقرت لنجواهم لؤي بن غالب
يحيون بسامين طوراً، وتارةً ... يحيون عباسين شوس الحواجب1
والمختار من الشعر الأول قوله:
من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا
يخبر بجلالتهم ومعرفتهم بأقدارهم، وثقتهم بأن مثلهم لا يرد، وقد قال: جرير للتيم خلاف هذا، وهو قوله:
قوم إذا اختضر الملوك وفودهم ... نتفت شواربهم على الأبواب
ـــــــ
1 من الشوس، وهو النظر بمؤخر العين.
نقد لشعر نصيبوحدثت أن جريراً كان يقول: وددت أن هذا البيت من شعر هذا العبد كان لي بكذا وكذا بيتاً من شعري يعني قول نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
وأما قول نصيب:
أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت ... أوكل بدعدٍ من يهيم بها بعدي
فلم تجد الرواة ولا من يفهم جواهر الكلام له مذهباً، وقد ذكر عبد الملك لجلسائه ذلك فكل عابه، فقال عبد الملك: فلو كان إليكم كيف كنتم قائلين? فقال رجل منهم: كنت أقول:
أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت ... فوا حزنا من ذا يهيم بها بعدي!
فقال عبد الملك: ما قلت والله أسوأ مما قاله، فقيل له: فكيف كنت قائلاً في ذلك يا أمير المؤمنين? فقال كنت أقول:
أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت ... فلا صلحت دعدٌ لذي خلةٍ بعدي
فقالوا: أنت والله أشعر الثلاثة يا أمير المؤمنين.
الفرزدق ونصيب وما قالاه من الشعر عند سليمان بن عبد الملكوقد فضل نصيبٌ على الفرزدق في موقفه عند سليمان بن عبد الملك، وذلك أنهما حضرا، فقال سليمان للفرزدق: أنشدني -وإنما أراد أن ينشده مدحاً له- فأنشده:
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترةٌ من جذبها بالعصائب1
سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائب2
إذا آنسوا ناراً يقولون ليتها ... -وقد خصرت أيديهم- نار غالب3
فأعرض عنه سليمان كالمغضب، فقال نصيب: يا أمير المؤمنين، ألا أنشدك في رويها ما لعله لا يتضع عنها! فقال: هات، فأنشده:
أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب4
قفوا خبروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودان طالب5
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
وهذا في باب المدح حسن ومتجاوزٌ ومبتدع لم يسبق إليه. على أن الشاعر وهو أخو همدان قد قال في عصره في غير المدح:
يمرون بالدهنا خفافاً عيابهم ... ويخرجن من دارين بجر الحقائب
على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلاً زريق المال ندل الثعالب
ـــــــ
1 الترة: الثأر.
2 الأكوادر: الرحال، مفردها كور.
3 خصرت: بردت.
4 قفاذات أوشال: خلف بقعة ذات مياه. مياه مولاك: يريد نفسه، قارب: طالب للماء.
5 ودان: قرية قريبة من الجحفة.
وليس شعر نصيب هذا الذي ذكرناه في المدح بأجود من قول الفرزدق في الفخر، وإنما يفاضل بين الشيئين إذا تناسبا.
وقد قال سليمان للفرزدق وهو يقول:
وخير الشعر أشرفه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد
ثم نرجع إلى تفسير الشعر.
وقوله:
يمرون بالدهنا خفافاً عيابهم
يعني قوماً تجاراً، وقد قالو إنما ذكر لصوصاً، والأول أثبت، وذلك أن دارين سوقٌ من أسواق العرب.
وقوله: "بجر الحقائب" يقول: عظام، ويقال للرجل إذا اندلقت سرته فنتأت متقدمة: رجل أبجر، ويقال لها: البجرة والبجرةَ. وفعلةٌ وفعَلةٌ تقعان في الشييء، يقال: قلفةٌ وقَلفةٌ، وصلعة وصَلعةٌ، ومثل هذا كثير.
وقوله: "على حين ألهى الناس" إن شئت خفضت"حين" وإن شئت نصبت، أما الخفض فلأنه مخفوض فلأنه مخفوض، وهو اسم منصرف، وأما الفتح فلإضافتك إياه إلى شيء معرب، فبنيته على الفتح، لأن المضاف والمضاف إليه اسم واحد فبنيته من أجل ذلك، ولو كان الذي أضفته إليه معرباً لم يكن إلا محفوضاً، وما كان سوى ذلك فهو لحن، تقول" جئتك على حين زيد" و" جئتك في حين إمرة عبد الملك"، وكذا قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت: ألما أصح والشيب وازع!
إن شئت فتحت، وإن شئت خفضت، لأنه مضاف إلى فعل غير متمكن.
وكذلك قولهم: "يومئذ"، تقول: عجبت من يوم عبد الله، لا يكون غيره، فإذا أضفته إلى" إذ"، فإن شئت فتحت على ما ذكرت لك في "حين"، وإن شئت خفضت، لما كان يستحقه اليوم من التمكن قبل الإضافة. تقرأ إن شئت:
{مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} 1 ، وإن شئت: {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} على ما وصفت لك، ومن خفض بالإضافة قال: سير بزيدٍ يومئذ، فأعربته في موضع الرفع، كما فعلت به في الخفض، ومن قال: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} فبناه قال: سير بزيدٍ يومئذٍ، يكون على حالة واحدة لأنه مبني، كما تقول: دفع إلى زيد خمسة عشر درهماً، وكما قال عز وجل: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} 2 وأما قوله:
فندلاً زريق المال ندل الثعالب
فزريق قبيلة. وقوله" ندلاً" مصدر، يقول، اندلي ندلاً يا زريق المال، والندل: أن تجذبه جذباً، يقال: ندل الرجلا الدلو ندلاً إذا كان يجذبها مملوءة من البئر، فنصب" ندلاً "بفعل مضمر وهو" أندلي "وهذا في الأمر، تقول: ضرباً زيداً، وشتما عبد الله، لأن الأمر لا يكون إلا بفعل، فكان الفعل فيه أقوى، فلذلك أضمرته، ودل المصدر على الفعل المضمر، ولو كان خبراً لم يجز فيه الإضمار، لأن الخبر يكون بالفعل وغيره، والأمر لا يكون إلا بالفعل، قال الله عز وجل: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} 3. فكان في موضع "اضربوا"، حتى: كان القائل قال: فاضربوا، ألا ترى أنه ذكر بعده محضاً في قوله: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} ولو نون منون في غير القرآن لنصب "الرقاب" وكذلك كل موضع هو بالفعل أولى.
وقوله: "ندل الثعالب" يريد سرعة الثعالب، يقال في المثل: "أكسب من ثعلب".
وأما قول نصيب:
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
ـــــــ
1 المعارج 11.
2 المدثر 30.
3 محمد 4.
فإنما يريد أنهم يرجعون مملوءة حقائبهم من رفده، فقد أثنت عليه الحقائب من قبل أن يقولوا. وأما قول الأعشى:
وإن عتاق العيس سوف تزوركم ... ثناء على أعجازهن معلق1
فإنما أراد المدح الذي يحيدين به، والحادي من ورائها، كما الهادي أمامها.
وأما قول أبي وجزة السعدي:
راحت بستين وسقًا في حقيبتها ... ما حملت حملها الأدنى ولا السددا
فإنما أراد ما يوجب ستين وسقا، لا أن الناقة حملت ستين وسقاً
ـــــــ
1 عتاق العيس: نجائب الإبل البيض في شقرة يسيرة.
حديث أبي وجزة وأبي زيد الأسلميوكان من حديث ذلك أن أبا وجزة السلمي، المعروف بالسعدي لنززله فيهم،ومحالفته إياهم، كان شخص إلى المدينه يريد آل الزبير، وشخص أبو زيد الأسلمي يريد إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو والي المدينة فاصطحبا، فقال أبو وجزة: هلم فلنشترك فيما نصيبه، فقال أبو زيد الأسلمي: كلا،أمدح الملوك، وأنت تمدح السوق1 فلما دخلا المدينة صار أبو زيد إلى إبراهيم بن هشام فأنشده:
ياابن هشام يا أخا الكرام
فقال إبراهيم: وإنما أنا أخوهم، وكأني لست منهم ثم أمر به فضرب بالسياط وامتدح أبو وجزة آل الزبير، فكتبوا إليه بستين وسقاٌ من تمر، وقالوا: هي لك عندنا في كل سنةٍ، فانصرفا، فقال أبو زيد:
مدحت عروقاٌ للندى مصب الثرى ... حديثاٌ فلم تهمم بأن تتزعزها
نقائذ بؤس ذاقت الفقر والغنى ... وحلبت الأيام والدهر أضرعا
ـــــــ
1 السوق: حمع السوقة، وهي من الناس من لم يكن ذا سلطان.
سقاها ذوو الأرحام سجلاًعلى الظما ... وقد كربت أعناقها أن تقطعا
بفضل سجال لو سقوا من مشى بها ... على الأرض أرواهم جميعاٌ وأشبعا
فضمت بأيديها على فضل مائها ... من الري لما أوشكت أن تضلعا
وزهدها أن تفعل الخير في الغنى ... مقاساتها من قبله الفقر جوعا
وقال أبو وجزة:
راحت رواحاٌ قلوصي وهي حامدة ... آل الزبير ولم تعدل بهم أحدا
راحت بستين وسقاٌ في حقيبتها ... ما حملت حملها الأدنى ولا السددا
ما إن رأريت قلوصاٌ قبلها حملت ... ستين وسقاٌ ولا جابت به بلدا
ذاك القرى، لاقرى قوم رأيتهم ... يقرون ضيفهم الملوية الجددا
أما قول أبي زيد لإبراهيم:
"مدحت عروقاٌ للندى مصت الثرى....حديثاٌ.. "
فإنما عنى أن إبراهيم وأخاه محمداً إنما تطمعا بالعيش، ودخلا في النعمة، وخرجا من حد السوق إلى حد الملوك حديثاً، وذلك بهشام بن عبد الملك لأنهما كانا خاليه، وإنما ولاهما عن خمول.
وقوله: "فلم تهمهم بأن تتزعزعا"، فإنما هذا مثل: يقال: فلان يهتزللندى، ويرتاح لفعل الخير كما قال متمم بن نويرة:
تراه كنصل السيف يهتز للندى ... إذا لم تجد عند امرىء السوء مطمعا
وتأويل ذلك أنه يتحرك سرور لفعل الخير.
لأبي رباط في ابنهقال أبو العباس: وأنشدني التوزي لأبي رباط، يقول لابنه:
رأيت رباطاً حين تم شبابه ... وولى شبابي ليس في بره عتب1
ـــــــ
1 أي بر خالص لا عتب فيه ولا لوم.
إذا كان أولاد الرجال مرارةً ... فأنت الحلال الحلو والبارد العذب
لنا جانبٌ منه أنيقٌ وجانبٌ ... شديد على الأعداء مركبه صعب
وتأخذه عند المكارم هزةٌ ... كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب1
ـــــــ
1 البارح: الريح.
أعرابي عند عمر بن هبيرةقال: وحدثني علي بن عبد الله قال: حدثني العتبي قال: أشرف عمر بن هبيرة الفزاري من قصره يوماٌ فإذا هو بأعرابي يرقص جمله الآل1، فقال لحاجبه: إن أرادني هذا فأوصله إلي، فلما دنا الأعرابي سأله فقال: قصدت الأمير. فأدخله إليه، فلما مثل بين يديه قال له عمر: ما خطبك فقال الأعرابي:
أصلحك الله، قل ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
ألح دهر أنحى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا
رجوك للدهر أن تكون لهم ... غيث سحاب إن خانهم مطر
قال: فأخذت عمر الأريحية، فجعل يهتز في مجلسه، ثم قال: أرسلوك إلي وانتظروا إذاً والله لا تجلس حتى ترجع إليهم غانماً، فأمر له بألف دينار ورده على بعيره.
قال أبو العباس: وحدثني أبو إسحاق القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الخبر لمعن بن زائدة، وصح ذلك عندي.
وقوله: "نقائذ بؤس2" واحدتها نقيذة. وتأويله أنهم أنقذوا من بؤسٍ، يقال للرجل والمرأة ذلك على لفظ واحد، تقول: هذا نقيذة بؤسٍ، تقع الهاء للمبالغة، لأن أصله كالمصادر، كقولك: زيد مكرمةٌ لأهله، وزيد كريمة قومه، أي يحل محل العقدة الكريمة، والخصلة الكريمة.
ـــــــ
1 الآل: ماتراه في الضحى بين السماء والأرض.
2 من كلمة أبى زيد الأسلمى ص 188.
وفي الحديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم جرير بن عبد الله البجلي لما ورد عليه، فبسط له رداءه، وعممه بيده، وقال له: "إذا أتاكم كريمة قوم فأكرموه". هكذا روى فصحاء أصحاب الحديث.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وروده عليه: "يطلع عليكم من هذا الفج خير ذي يمن، عليه مسحة ملك".
لصخر بن عمرو بن الشريدوقال صخر بن عمرو بن الشريد، يعني معاوية أخاه، وكان قتله هاشم ودريد ابنا حرملة المريان من غطفان، فقيل لصخر: اهجهم، فقال: ما بيني وبينهم أقذع من الهجاء، ولو لم أمسك عن هجاءهم إلا صوناً لنفسي عن الخنا لفعلت ثم قال:
وعاذلة هبت بليل تلومني ... ألا لا تلوميني كفى اللوم ما بيا
تقول: ألا تهجو فوارس هاشم ... وما لي إذا أهجوهم ثم ما ليا
أبى الشتم أني قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا1
وتقول العرب للرجل: رواية ونسابة، فتزيد الهاء للمبالغة، وكذلك علامة وقد تلزم الهاء في الاسم فتقع للمذكر والمؤنث على لفظ واحد، نحو ربعةٍ ويفعةٍ وصرورةٍ2 . وهذا كثير لا تنزع الهاء منه، فأما رواية وعلامة ونسابة فحذف الهاء جائز فيه، ولا يبلغ في المبالغة ما تبلغه الهاء.
ـــــــ
1 زيادات ر بعد هذا البيت:
إذا ذكر الإخوان رقرقت عبرة ... وحييت رسما عند لثة ثاويا
إذا ما أمرؤ أهدى لميت تحية ... فحياك رب العرش عنى معاويا!
وهون وجدى أننى لم أقل له ... كذبت، ولم أبخل عليه بماليا
قال الأخفش: وأنشدني الأحول:
ومالى أن أهجوهم ثم ماليا
2 رجل ربعة: بين الطول والقصر. ويفعة: شارف الاحتلام، والصرورة: الرجل الذي لم يحج لوم يتزوج، وأصله من الحبس.
وقوله1:
"وحلبت الأيام والدهر أضرعا"
فإنه مثلٌ، يقال للرجل المجرب للأمور: فلان قد حلب الدهر أشطره أي قد قاسى الشدة والرخاء، وتصرف في الفقر والغنى، كما قال القائل:
قد عشت في الناس أطواراً على طرقٍ ... شتى، وقاسيت فيها اللين والفظعا
كلا بلوت،فلا النعماء تبطرني ... ولا تخشعت من لأوائها جزعاً
لا يملا الهول صدري قبل موقعه ... ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا
ومعنى قوله:" أشطره" فإنما يريد خلوفه.، يقال: حلبتها شطراً بعد شطرٍ.،وأصل هذا من التنصف، لأن كل خلفٍ عديلٌ لصاحبه. وللشطر وجهان في كلام العرب.، فأحدهما النصف كما ذكرنا، من ذلك قولهم: شاطرتك مالي، والوجه الآخر القصد، يقال: خذ شطر زيدٍ، أي قصده، قال الله عز وجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي قصده، {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 2.
قال أبو العباس: وأنشدني التوزي عن أبي عبيدة قول الشاعر:
إن العسير بها داءٌ مخامرها ... فشطرها نظر العينين محسور
يريد ناحيتها وقصدها، والعسير: التي تعسر بذنبها إذا حملت، أي تشيله وترفعه، ومنه سمي الذنب عوسراً، أي تضرب بذنبها. ومعنى ذلك أنه ظهر من جهدها وسوء حالها ما أطيل معه النظر إليها حتى تحسر العينان. والحسير: المعيي، وفي القرآن: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} 3 .
وقوله:
"سقاها ذوو الأرحام سجلاً على الظما"
ـــــــ
1 انظر ص 188.
2 سورة البقرة 144.
3 سورة الملك 4.
فالسجل في الأصل الدلو، وإنما ضربه مثلاً لما فاض عليها من ندى أقاربها، يقال للدلو- وهي مؤنثة: سجل وذنوب، وهما مذكران، والغرب مذكر وهو الدلو العظيمة، ويقال: فلان يساجل فلاناً، أي يخرج من الشرف مثل ما يخرج الآخر، وأصل المساجلة أن يستقي ساقيان، فيخرج كل واحدٍ منهما في سجله مثل ما يخرج الآخر،فأيهما نكل فقد غلب، فضربته العرب مثلا للمفاخرة والمساماة. وبين ذلك الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب في قوله:
من يساجلني يساجل ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ويقال: إن الفرزدق مر بالفضل وهو يستقي، وينشد هذا الشعر،فسرا الفرزدق ثيابه عنده، ثم قال: أنا أساجلك- ثقةً منه بنسبه- فقيل له: هذا الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب. فرد الفرزدق ثيابه عليه ثم قال: ما يساجلك إلا من عض بأير أبيه. يقال: سرا ثوبه ونضا ثوبه في معنى واحد، إذا نزعه، ويقال: سرى عليه الهم إذا أتى ليلاً، وأنشد:
"سرى همي وهم المرء يسري1"
وسرى همه إذا ذهب عنه. والمواضخة مثل المساجلة، قال العجاج:
"تواضخ التقريب قلواً مخلجاً"
أي تخرج من العدو ما يخرج.، قال الله عز وجل على مخرج كلام العرب وأمثالهم {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} 2 وأصل الذنوب الدلو كما ذكرت لك.
وقال علقمة بن عبدة للحارث بن أبي شمر الغساني: "قال أبو الحسن: غير أبي العباس يقول شمرٌ، وبعضهم يقول شمرٌ "وكان أخوه أسيراً عنده، وهو
ـــــــ
1 بقية البيت كما في زيادات ر:
وغار النجم إلا قيد؟
وفيها: "البيت لعروة بن أذينة الليثى شيخ مالك بن أنس".
2 سورة الذاريات 59.
شأس بن عبدة أسره في وقعة عين أباغ. [قال أبو الحسن: غيره يقول إباغ، بالكسر] في الواقعة التي كانت بينه وبين المنذر بن ماء السماء، في كلمةٍ له مدحه فيها:
وفي كل حي قد خبطت بنعمةٍ ... فحق لشأسٍ من نداك ذنوب
فقال الملك: نعم وأذنبةٌ .وقوله:
"وقد كربت أعناقها أن تقطعا"
يقول: سقيت هذا السجل وقد دنت أعناقها من أن تقطع عطشاً، وكرب في معنى المقاربة، يقال: كاد يفعل ذلك، وجعل يفعل ذلك، وكرب يفعل ذلك، أي دنا من ذلك. ويقال: جاء زيد والخيل كاربته، أي قد دنت منه وقربت. فأما أخذ يفعل، وجعل يفعل، فمعناهما أنه قد صار يفعل، ولا تقع بعد واحدة منهما: "أن" إلا أن يضطر شاعرٌ، قال الله عز وجل: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} 1 أي لم يقرب من رؤيتها، وإيضاحه: لم يرها ولم يكد، وكذلك: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 2، وكذلك: {كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} 3 بغير "أن" . ومن أمثال العرب: كاد النعام يطير، وكاد العروس يكون أميراً، وكاد المنتعل يكون راكباً وقد اضطر الشاعر فأدخل "أن" بعد "كاد"، كما أدخلها هذا بعد "كرب" فقال:
"وقد كربت أعناقها أن تقطعها"
وقال رؤبة:
"قد كاد من طول البلى أن يمصحا4"
ـــــــ
1 سورة النور 40.
2 سورة النور 43.
3 سورة التوبة 117.
4 يمصح: يدرس.
فكاد بمنزلة كرب في الإعمال والمعنى، قال الشاعر:
أغثني غياثاً يا سليمان إنني ... سبقت إليك الموت، والموت كاربي
خشية جورٍ من أميرٍ مسلطٍ ... ورهطي، وما عاداك مثل الأقارب!
وقوله: "لما أوشكت أن تضلعا": يقول: لما قاربت ذلك، والوشيك القريب من الشيء والسريع إليه، يقال: يوشك فلان أن يفعل كذا وكذا، والماضي منه أوشك، ووقعت بأن وهو أجود، وبغير "أن" كما كان ذلك في" لعل"، تقول: لعل زيداً يقوم، فهذه الجيدة، قال الله عز وجل: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} 1، و{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 2 و{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} 3 وقال تميم بن نويرة:
لعلك يوماً أن تلم ملمةٌ ... عليك من الآئي يدعنك أجدعا
وعسى، الأجود فيها أن تستعمل بأن، كقولك: عسى زيد أن يقوم، كما قال الله عز وجل: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} 4 وقال جل ثناؤه {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} 5 ويجوز طرح "أن "وليس بالوجه الجيد، قال هدبة:
عسى الكر بالذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرجٌ قريب
وقال آخر6:
عسى الله يغني عن بلاد ابن قادرٍ ... بمنهمرٍ جون الرباب سكوب
وحروف المقاربة لها باب قد ذكرناها فيه على مقاييسها في الكتاب المقتضب بغاية الاستقصاء.
ـــــــ
1 سورة الأحزاب 63.
2 سورة طه 44.
3 سورة الطلاق 01
4 سورة المائدة 52.
5 سورة التوبة 102.
6 هو سماعة بن أشول النعامي.
وقوله: "أن تضلعا"،معناه أن تمتلئ، وأصله أن الطعام والشراب يبلغان الأضلاع فيكظانها1،كذلك قال الأصمعي في قولهم: أكل حتى تضلع.
وأما قول أبي وجزة: "راحت بستين وسقاً" فالوسق خمسة أقفزةٍ بملجم2 البصرة، وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" فما كان أقل من خمسة وعشرين قفيزاً بالقفيز الذي وصفنا، وهو نصف القفيز البغدادي في أرض الصدقة فلا صدقة فيه، وإنما أراد: أنه أخذ الكتاب بهذه الأوسق، فلذلك قال:
ما إن رأيت قلوصاً قبلها حملت ... ستين وسقاً ولا جابت به بلدا
وأما قوله:
يقرون ضيفهم الملوية الجددا
فإنما أراد السياط، وجمع جديدٍ جددٌ، وكذلك باب "فعيل" الذي هو اسم، أو مضارع للاسم، نحو قضيب وقضيب، ورغيفٍ ورغفٍ، وكذلك سرير وسررٌ وجديدٌ وجددٌ، لأنه يجري مجرى الأسماء، وجريرٌ وجررٌ، فما كان من المضاعف جاز فيه خاصةً أن تبدل من ضمته فتحة لأن التضعيف مستثقلٌ، والفتحة أخف من الضمة، فيجوز أن يمال إليها استخفافاً، فيقال: جددٌ وسررٌ، ولا يجوز هذا في مثل قضيب لأنه ليس بمضاعفٍ، وقد قرأ بعض القراء: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} 3 ، ويقال للسوط: الأصبحي، ينسب إلى ذي أصبح الحميري، وكان أول من اتخذ هذه السياط التي يعاقب بها السلطان، ويقال له: العرفاص والقطيع. وقال الشماخ:
تكاد تطير من رأي القطيع
وقال الصلتان العبدي:
أرى أمةً شهرت سيفها ... وقد زيد في سوطها الأصبحي
ـــــــ
1 من الكظة.
2 مكيال لأهل البصرة.
3 سورة الواقعة 15.
وقال الراعي:
أخذوا العريف فقطعوا حيزومه ... بالأصبحية قائما ًمغلولا
وقال الراجز:
حتى تردى طرف العرفاص
وقوله: "ولا جابت به بلدا"، يقول: ولا قطعت به، يقال: جبت البلاد، وقال الله عز وجل: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}1 . ويقال: رجل جواب جوالٌ. وأنشدني علي بن عبد الله، قال: أنشدني القحذمي:
ما من أتت من دون مولده ... خمسون بالمغدور بالجهل
فإذا مضت خمسون عن رجلٍ ... ترك الصبا ومشى على رسل
وأمر مصعب بن الزبير رجلاً من بني أسد بن خزيمة بقتل مرة بن محكان السعدي، فقال مرة في ذلك:
بني أسد إن تقتلوني تحاربوا ... تميماً إذا الحرب العوان اشمعلت
ولست وإن كانت إلي حبيبةً ... بباكٍ على الدنيا إذا ما تولت
قوله: "إذا الحرب العوان" فهي التي تكون بعد حربٍ قد كانت قبلها، وكذلك أصل العوان في المرأة إنما هي التي قد تزوجت، ثم عاودت فخرجت عن حد البكر، وقول الله عز وجل في كتابه العزيز: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} 2 هو تمام الكلام، ثم استأنف فقال: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} والفارض ههنا: المسنة، والبكر الصغيرة، ويقال: لهاةٌ فارضٌ أي واسعة، وفرض القوس موضع معقد الوتر، وكل حز فرضٌ، والفرضة متطرقٌ إلى النهر، قال الراجز:
لها زجاجٌ ولهاة فارض
وقوله" اشمعلت، إنما هو ثارت فأسرعت، قال الشماخ:
ـــــــ
1 سورة القجر 9.
2 سورة البقرة 68.
=======

============
مجلد 2. من كتاب : الكامل في اللغة والأدب محمد بن يزيد المبرد
رب ابن عم لسيلمى مشمعل ... أروع في السفر وفي الحي غزل
طباخ ساعات الكرى زاد الكسل
وقوله:
ولست وإن كانت إلي حبيبةٍ ... بباكٍ على الدنيا........
إنما هو تفديم وتأخير، أراد: ولست بباكٍ على الدنيا وإن كانت إلي حبيبة. ولولا هذا التقدير لم يجز أن يضمر قبل الذكر، ومثله:
إن تلق يوماً على علاته هرماً ... تلق السماحة منه والندى خلقا
وكذلك قول حسان بن ثابت:
قد ثكلت أمه من كنت واحدة ... أو كان منتسباً في برثن الأسد
ويقول: من كنت واحده قد ثكلت أمه، وكذلك:
شر يوميها وأخزاه لها ... ركبت هندٌ بحدجٍ جملا
يقول: ركبت هند بحدج جملا في شر يوميها.
وقال رجل من مزينة:
خليلي بالبوباة عوجا فلا أرى ... بها منزلاً إلا جديب المقيد
نذق برد نجدٍ بعد ما لعبت بنا ... تهامة في حمامها المتوقد
قوله: "بالبوباة"، فهي المتسع من الأرض، وبعضهم يقول: هي الموماة بعينها، قلبت الميم باء لأنهما من ااشفة، ومثل ذلك كثير، يقولون: ما اسمك وبا اسمك? ويقولون: ضربة لازم ولازب، ويقولون: هذا ظأمي وظأبي، يعنون السلف، قال أبو الحسن: الجيد سلف، وما قال ليس بممتنع، ويقولون: زكبة سوءٍ وزكمة سوءٍ،أي ولد سوء ويقولون: عجم الذنب وعجب الذنب، ويقولون: رجل أخرم وأخرب، وهذا كثير. وقال عمر بن أبي ربيعة:
عوجا نحيي الطلل المحولا ... والربع من أسماء والمنزلا
بجانب البوباة لم نعده ... تقادم العهد بأن يؤهلا
وقوله: "إلا جديب المقيد"، يقال: بلد جدبٌ وجديبٌ، وخصب وخصيب، والأصل في النعت خصيبٌ ومخصبٌ، وجديبٌ ومجدب، والخصب والجدب إنما هما ما حل فيه، وقيل: خصيبٌ وأنت تريد مخصب، وجديبٌ وأنت تريد مجدبٌ، كقولك: عذاب أليم وأنت تريده مؤلم، قال ذو الرمة:
ونرفع من صدور شمردلاتٍ ... يصك وجوهها وهج أليم
ويقال: رجل سميع، أي مسمعٌ، قال عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
وأما قوله: "المقيد" فهو موضع التقييد: وكل مصدر زيدت الميم في أوله إذا جاوزت الفعل من ذوات الثلاثة فهو على وزن المفعول، وكذلك إذا أردت اسم الزمان واسم المكان، تقول: أدخلت زيداً مدخلاً كريماً. وسرحته مسرحاً حسناً، واستخرجت الشيء مستخرجاً، قال جرير:
ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عياً بهن ولا اجتلابا
أي تسريحي، وقال عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً} 1 ويقال: قمت مقاماً، واقمت مقاماً وقال عز وجل: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} 2 أي موضع، وقال الشاعر3:
وما هي إلا في إزارة وعلقةٍ ... مغار ابن همام على حي خثعما
يريد زمن إغارة ابن همام.
ـــــــ
1 سورة المؤمنون 29.
2 سورة الفرقان 66.
3 في زيادات ر قبل هذا البيت:
تطول القصار والطوال يطلنها ... فمن يرها لا ينسها ماتكلما
وفيها نسبة البيتين إلى حميد ين ثور، وقد حقق العلامة المرصفى نسبتهما إلى الطماح بن عامر "وانظر رغبة الآمل".
وأما قوله: "نذق برد نجدٍ" ، فذاك لأن نجداً مرتفعة وتهامة غورٌ منخفض، فنجدٌ باردة.
ويروى عن الأصمعي أنه قال: هجم علي شهر رمضان وأنا بمكة، فخرجت إلى الطائف لأصوم بها هرباً من حر مكة فلقيني أعرابي فقلت له: أين تريد? فقال: أريد هذا البلد المبارك لأصوم هذا الشهر المبارك فيه. فقلت له: أما تخاف الحر? فقال من الحر أفر.
وهذا الكلام نظير كلام الربيع بن خثيم، فإن رجلاً قال له - وقد صلى ليلةً حتى اصبح - أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب: إن أفره العبيد أكيسهم.
ونظير هذا الكلام قول روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب - ونظر إليه رجل واقفاً بباب المنصور في الشمس - فقال: قد طال وقوفك في الشمس! فقال روحٌ: ليطول وقوفي في الظل.
ومثله من الشعر قوله: قال أبو الحسن: هو عروة بن الورد:
تقول سليمى لو أقمت بأرضنا ... ولم تدر أني للمقام أطوف
لعل الذي خوفتنا من ورائنا ... سيدركه من بعدنا المتخلف
ويروى: "لسرنا".
وقال آخر:
سأطلب بعد الدار منكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
وهذا معنى كثير حسن جميل.
وقال حبيب بن أوس الطائي:
أآلفة النجب كم افتراقٍ ... أجد فكان داعية اجتماع
وليست فرحة الأوبات إلا ... لموقوفٍ على ترح الوداع
وقال رجل - واعتل في غربةٍ فتذكر أهله:
لو أن سلمى أبصرت تخددي ... ودقةً في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عودي ... عضت من الوجد بأطراف اليد
قوله: "أبصرت تخددي"، يريد ما حدث في جسمه من النحول، وأصل الخد ما شققته في الأرض، قال الشماخ:
فقلت لهم خدوا له برماحكم ... بطامسة الأعلام خفاقة الآل
ويقال للشيخ: قد تخدد، يراد قد تشنج جلده، وقال الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} 1 ، وقيل في التفسير: هؤلاء قوم خدوا أخاديد في الأرض، وأشعلوا فيها نيراناً فحرقوا بها المؤمنين.
وقوله:
عضت من الوجد بأطراف اليد
فإن الحزين، والمغيظ، والنادم والمتأسف يعض أطراف أصابعه جزعاً، قال الله عز وجل: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} 2.
وفي مثل ما ذكرنا من تخدد لحم الشيخ، يقول القائل3:
يا من لشيخ قد تخدد لحمه ... أفنى ثلاث عمائم ألوانا4
سوداء حالكةً وسحق مفوفٍ ... وأجد لوناً بعد ذاك هجانا
صحب الزمان على اختلاف فنونه ... فأراه منه كراهةً وهوانا
قصر الليالي خطوة فتدانى ... وحنون قائم صلبه فتحانى
والموت يأتي بعد ذلك كله ... وكأنما يعنى بذاك سوانا
قوله:
أفنى ثلاث عمائم ألوانا
ـــــــ
1 سورة البروج 4.
2 سورة آل عمران 119.
3 قوله في زيادات ر:
ذهب الشباب فلا شباب جمانا ... وكأن ماقد كان لم يك كانا
وطويت كفى ياجمان على العصا ... وكفى جمان بطيها حدثانا
4 زيادات ر: "الوانا: صفة لثلاث على المعنى، كأن قال: مختلفات".
يعني أن شعره كان أسود، ثم حدث فيه شيب مع السواد، فذلك قوله: مفوف، والتفويف: التنقيش، وإنما أخذ من الفوف، وهي النكتة البيضاء التي تحدث في أظفار الأحداث، وسميت بذلك لشبهها بشجرة يقال لها الفوفة وجمعها فوفٌ، والسحق: الخلق، يقال: عنده سحق ثوبٍ، وجرد ثوبٍ، وسمل ثوبٍ.
وقوله: أجد أي أستجد لوناً، والهجان الأبيض، وهي العمامة الثالثة يعني حيث شمله الشيب.
باب
من أمثال العربقال أبو العباس: من أمثال العرب: لم يذهب من مالك ما وعظك. يقول: إذا ذهب من مالك شيء، فحذرك أن يحل بك مثله، فتأديبه إياك عوضٌ من ذهابه.
ومن أمثالهم: رب عجلةٍ تهب ريثا. وتأويله أن الرجل يعمل العمل فلا يحكمه للاستعجال به، فيحتاج إلى أن يعود فينقضه ثم يستأنف، والريث الإبطاء، وراث عليه أمره إذا تأخر.
ومن أمثال العرب: عش ولا تغتر. وأصل ذلك أن يمر صاحب الإبل بالأرض المكلئة فيقول: أدع أن أعشي إبلي منها حتى أرد على أخرى، ولا يدري ما الذي يرد عليه.
وقريب منه قولهم: "أن ترد الماء بماء أكيس". وتأويله أن يمر الرجل بالماء فلا يحمل منه أتكالاً على ماءٍ آخر يصير إليه، فيقال له: أن تحمل معك ماء أحزم لك، فإن أصبت ماء آخر لم يضرك فإن لم تحمل فخفقت من الماء عطيت.
ومن أمثالهم: "قد أحزم لو أعزم" ، يقول: أعرف وجه الحزم فإن عزمت فأمضيت الرأي فأنا حازمٌ، وإن تركت الصواب وأنا أراه وضيعت العزم لم ينفعني حزمي، ومثله قول النابغة الجعدي:
أبى لي البلاء وإني امرؤٌ ... إذا ما تبينت لم أرتب
وقال أعرابي يمدح سوار بن عبد الله:
وأوقف عند الأمر ما لم يضح له ... وأمضى إذا ما شك من كلام ماضيا
فالذي يحمد إمضاء ما تبين رشده، فأما الإقدام على الغرر وركوب الأمر على الخطر فليس بمحمود عندي ذوي الألباب، وقد يتحسن بمثله الفتاك، كما قال1:
عليكم بداري فاهدموها فإنها ... تراث كريم لا يخاف العواقبا
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو سعد بن ناشب المازنى، عن الرياشى وغيره".
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... وأعرض عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
فهذا شأن الفتاك، وقال الآخر:
غلام إذا ما هم بالفتك لم يبل1 ... ألامت قليلاً أم كثيراً عواذله
وقال آخر:
وما العجز إلا أن تشاور عاجزاً ... وما الحزم إلا أن تهم فتفعلا
فأما قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من أكثر الفكرة في العواقب لم يشجع، فتأويله أنه من فكر في ظفر قرنه به، وعلوه عليه لم يقدم، وإنما كان الحزم عند علي رضي الله عنه أن يحظر أمر الدين ثم لا يفكر في الموت. وقد قيل له: أتقتل أهل الشام بالغداة، وتظهر بالعشي في إزار ورداءٍ? فقال: أبالموت أخوف? والله ما أبالي أسقطت على الموت، أم سقط الموت علي.
وقال للحسن ابنه: لا تبدأ بدعاءٍ إلى مبارزةٍ، فإن دعيت إليها فأجب، فإن طالبها باغٍ، والباغي مصروع.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلتف في كسائه، وينام ناحية المسجد، فلما ورد المرزبان2 عليه جعلوا يسألون عنه. فيقال: مر ههنا آنفاً، فيصغر في القلب المرزبان إذ رآه كبعض السوق، حتى انتهى إليه، وهو نائم في ناحية المسجد، فقال المرزبان: هذا والله الملك الهنيء. يقول: لا يحتاج إلى أحراس ولا عددٍ، فلما جلس عمر امتلأ قلب العلج منه هيبة لما رأى عنده من الجد والاجتهاد، وألبس من هيبة التقوى.
ـــــــ
1 أصله "يبالي"، حذفت الياء للجازم.
2 زيادات ر: "كذا وقعت الرواية "المرزبان". والصواب الهرمزان، وكان صاحب تستر".
للكلبي وقد سأله خالد القسري عن السؤددوقال الكلبي: قال لي خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرزٍ القسري: ما تعدون السؤدد? فقلت: أما في الجاهلية فالرياسة، وأما في الإسلام فالولاية،
وخيرٌ من ذا وذاك التقوى، فقال لي: صدقت كان أبي يقول: لم يدرك الأول الشرف إلا بالفعل، ولا يدركه الآخر إلا بما أدرك به الأول، قال: فقلت: صدق أبوك، ساد الأحنف بحلمه، وساد مالك بن مسمع بمحبة العشيرة له،وساد قتيبة بدهائه، وساد المهلب بجميع هذه الخلال، فقال لي: صدقت، كان أبي يقول: خير الناس للناس خيرهم لنفسه، وذلك أنه إذا كان كذلك اتقى على نفسه من السرق لئلا يقطع، ومن القتل لئلا يقاد، ومن الزنى لئلا يحد، فسلم الناس منه باتقائه على نفسه.
نبذ من أقوال الحكماءقال أبو العباس: وكان عبد الله بن يزيد أبو خالد من عقلاء الرجال، قال له عبد الملك يوماً: ما مالك? فقال: شيئان لا عيلة علي معهما، الرضا من الله، والغنى عن الناس. فلما نهض من بين يديه قيل له: هلا خبرته بمقدار مالك? فقال: لم يعد أن يكون قليلاً فيحرقني، أو كثيراً فيحسدني وقال رسول الله صلى الله عليه سلم: "من سره أن يكون أعز الناس فليتق الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من سره الغنى بلا مال، والعز بلا سلطان، والكثرة بلا عشيرة، فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته، فإنه واجد ذلك كله".
وخطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم فحمد الله بما هو أهله ثم أقبل على الناس، فقال: "أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، فإن العبد بين مخافتين: أجلٌ قد مضى لا يدري ما الله فاعل فيه، وأجلٌ باق لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة إلى الممات، فو الذي نفس محمد بيده، ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار".
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمرني ربي بتسع، الإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأن أعفو عمن ظلمني، وأصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبرة".
حدثت أنه التقى حكيمان، فقال أحدهما للآخر: إني لأحبك في الله،فقال له الآخر: لو علمت مني ماأعلمه من نفسي لأبغضتني في الله . فقال له صاحبه: لو علمت من ما تعلمه من نفسك لكان لي فيما أعلمه من نفسي شغل. وكان مالك بن دينار يقول: جاهدوا أهوءاكم كما تجاهدون أعداءكم .وكان يقول: ما أشد فطام الكبير.
وقيل لعمر بن عبد العزيز: أي الجهاد أفضل فقال: جهادك هواك.
وكان الحسن يقول: حادثوا هذه القلوب، فإنها سريعة الدثور . واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية.
قوله: "حادثوا" مثل، ومعناه: اجلوا واشحذوا، تقول العرب: حادث فلان سيفه إذا جلاه وشحذه، وقال زيد الخيل:
وقد علمت سلامة أن سيفي ... كريه كلما دعيت نزال
أحادثه بصقل كل يوم ... وأعجمه بهامات الرجال
قوله: "أعجمه بهامات الرجال": أي أعضه، يقال عجمه إذا عضه والدثور الدروس يقال: دثر الربع إذا مح1 ومعناه: تعهدوها بالفكر والذكر. وقوله: "فإنها طلعة"، يقول: كثيرة التشوف والتنزي إلى ما ليس لها . وأنشد الأصمعي:
زلا تمليت2 من مال ولا عمر ... إلا بما سر3 نفس الحاسد الطلعه
ـــــــ
1 محت الدار: عفت ودرست، وفي س: "امحى".
2 كذت في الأصل، بكسر التاء. وفي ر: بفتح التاء، وفي الزيادات: "الرواية الصحيحة بكسر التاء لاغير؛ لأنه يخاطب امرأة تقدم ذكرها في الشعر يدهو عليها".
3 ر، س: "ساء".
قال: ويقال للجارية إذا كانت تبرز وجهها لتري حسنها ثم تخفيه لتوهم الحياء: خبأة طلعة.
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: أيها الناس إنما خلقتم للأبد: ولكنكم تنقلون من دار إلى دار. ويروي عن المسيح صلوات الله عليه وسلامه أنه كان يقول: إن احتجتم إلى الناس فكلوا قصداً وامشوا جانباً.
ولما احتضر قيس بن عاصم قال لبنيه: يا بني، احفظوا عني ثلاثاً، فلا أحد أنصح لكم مني: إذا أنا مت فسودوا كباركم، ولا تسودوا صغاركم، فيحقر الناس كباركم، وتهنوا عليهم. وعليكم بحفظ المال فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم والمسألة فإنها أخر1 كسب الرجل.
ـــــــ
1 ر: "أخر" بفتح الهمزة وكسر الخاء. وفي الزيادات: بقصر الهمزة لا غير، ومن رواه بالمد فقد أخطأ، ومعنى أخر أدنى.
باب
لرجل من الأعراب يرثي رجلاً منهم
قال أبو العباس: أنشدت لرجل من الأعراب يرثي رجلاً منهم:
فلو كان شيخاً قد لبسنا شبابه ... ولكنه لم يعد أن طر شاربه1
وقاك الردى من ود أن ابن عمه ... يرى مقتراً أو أنه ذل جانبه
ـــــــ
1طر شاربه: طلع ونبت.
لحسان يوصي امرأتهوقال آخر لامرأته1:
فاما هلكت فلا تنكحي ... ظلوم العشيرة حسادها
يرى مجده ثلب أعراضها ... لديه، ويبغض من سادها
ـــــــ
1 زيادات ر: "حسان بن ثابت"، والبيتان في ديوانه 139.
لصخر بن حبناء يعاتب أخاهوقال آخر: قال أبو الحسن: هو ليزيد بن حبناء أو لصخر بن حبناء، يقول لأخيه:
لحى الله أكبانا زناداً وشرنا ... وأيسرنا عن عرض والده ذبا
رأيته لما نلت مالاً ومسنا ... زمان ترى في حد أنيابه شغبا
جعلت لنا ذنباً لتمنع نائلاً ... فأمسك، ولا تجعل غناك لنا ذنباً
قوله: "أكبانا زناداً"، الزناد التي تقدح بها النار، ويقال: أورى القادح إذا خرجت له النار، وأكبى إذا أخفق منها: هذا أصله يضرب للرجل الذي ينبعث الخير عن1 يديه، ويضرب الإكباء للذي يمتنع الخير على يديه، قال الأعشى:
وزندك خير زناد الملو ... ك صادف منهن مرخ عفارا
ولو بت تقدح في ظلمةٍ ... صفاة بنبع لأوريت نارا2
ـــــــ
1 ر، س: "على يدية".
2 الصفاة: الصخرة الملساء. والنبع: لا نار له، يريد أنه موفق في كل أمر.
والمرخ والعفار: شجر تسرع فيه النار، ومن أمثالهم: " في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار " : واستمجد: استكثر، يقال : أمجدته سبا وأمجدته ذما، إذا أكثرت من ذلك، ومن أمثالهم : " أرخ يديك واسترخ، إن الزناد من مرخ " .
ويقال : رجل ذو شغب إذا كان يشغب على خصمه، ضربه مثلاً للزمان الذي يهر على أربابه، أي يمسهم بالفقر والجدب .
لعبد الله بن معاوية يعاتب صديقهوقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففاً ... فكشفه التمحيص حتى بدا ليا
أأنت أخي ما لم تكن حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخا ليا
فلا زاد ما بيني وبينك بعدما ... بلوتك في الحاجات إلا تماديا
فلست براء عيب ذي الود كله ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا
فعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا
قوله: "كان شيئاً ملففاً" يقول: كان أمراً مغطى. والتمحيص: الاختبار، يقال أدخلت الذهب في النار فمحصته أي خرج عنه ما لم يكن منه، وخلص الذهب، قال الله عز وجل: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} 1 ويقال: محص فلان من ذنوبه.
وقوله:
"أأنت أخي ما لم تكن لي حاجة"
تقرير وليس باستفهام، ولكن معناه: أني قد بلوتك تظهر الإخاء فإذا بدت الحاجة لم أر من إخائك شيئاً وقال الله عز وجل: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2 إنما هو توبيخ وليس باستفهام. وهو رجل وعز العالم بأن عيسى لم يقله. وقد ذكرنا التقرير الواقع، بلفظ الاستفهام في موضعه من الكتاب "المقتضب "مستقصى، ونذكر منه جملة في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ـــــــ
1 سورة آل عمران 141.
2 سورة المائدة 116.
لعلي بن أبي طالب في الشجاعوقال علي بن أبي طالب رحمه الله: ثلاثة لايعرفون إلا في ثلاث،لا يعرف الشجاع إلا في الحرب، ولا الحليم إلا عند الغضب، ولا الصديق إلا عند الحاجة .
لعبد الله بن معاوية يمدحوقال عبد الله بن معاوية1 أيضاٌ:
أنى يكون أخاٌ أو ذا محافظة ... من كنت في غيبه مستشعراٌ وجلا
إذا تغيب لم تبرح تظن به ... سوءاٌ وتسأل عما قال أو فعلا
ـــــــ
1 زيادات ر: "ذكر دعبل في أخبار الشعراء أن هذا الشعر لعبد الله بن الزبير الأسدى".
لعبد الله بن الزبير الأسدي يمدح عمرو بن عثمان بن عفانوقال آخر1:
سأشكر عمراٌ ما تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت
ـــــــ
1 نسب هذه الأبيات أبو الفرج الأصفهانى إلى عبد الله بن الزبير الأسدى يقولها في عمرو بن عثمان بن عفان حينما أتاه فرأى تحت ثيابه ثوبا رثا، فدعا وكيله، قال: اقترض لنا مالا، فقال: هيهات مايعطينا التجار شيئا، قال: فأربحهم ماشاءوا فاقترض له أولا ثمانية آلاف درهم وثانيا عشرة آلاف، ووجه بها إليه مع تخت ثيابه، فقال فيه الأبيات. "الأغانى 23:13".
ما تمثل به علي بن أبي طالب من الشعر حينما رأى طلحة في القتلىوتمثل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في طلحة بن عبيد الله رحمه الله:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر1
فتى لا يعد المال ربا ولاترى ... به جفوة إن نال مالاً ولا كبر
فتى كان يعطي السيف في الروع حقه ... إذا ثوب الداعي، وتشفى به الجزر
وهون وجدي أنني سوف أغتدي ... على إثره يوماً وإن نفس العمر
قال أبو الحسن: بعضهم يقول هو للأبيرد الرياحي، وبعد البيت الثالث:
فلا يبعدنك الله، إما تركتنا ... حميداً وأودى بعدك المجد والفخر
ـــــــ
1 من أبيات لسلمة بن يزيد الجعفى، أحد الصحابة، يقولها في رثاء أخية قيس بن زيد؛ وقبله:
ألم تعلمى أن لست ماعشت لاقيا ... أخى إذ أتى من دون أوصاله القبر
وهون وجدى أننى سوف أغتدى ... على إثراه يوما وإن نفس الأمر
"وانظر الإصابة 120:3".
كلمة علي بن أبي طالب في طلحة حينما رآه مقتولاً
قال أبو العباس: وحدثني التوزي قال: حدثني محمد بن عباد بن حبيب بن المهلب -أحسبه عن ابيه- قال: لما انقضى يوم الجمل خرج علي بن أبي طالب رحه الله ذلك اليوم ومعه قنبرٌ بيده1 مشعلة من النار يتصفح القتلى حتى وقف على رجل - قال التوزي فقلت: أهو طلحة2? قال نعم - فلما وقف عليه قال: أعزز علي أبا محمد أن اراك معفراً تحت نجوم السماء وفي بطون الأودية! شفيت نفسي وقتلت معشري إلى الله أشكو عجري وبجري!
قوله معفراً أي ملصق الوجه بالتراب، ويقال للتراب: العفر والعفر يقال: ما مشى على عفر التراب مثل فلان.
وقوله: "إلى الله أشكو عجري وبجري"، يقول: ما أسر من أمري. قال الأصمعي: هو3 قول سائرٌ. في أمثال العرب: "لقي فلانٌ فلاناً فأبثه عجره وبجره".
ـــــــ
1 ر: "وفى يده".
2 أبو محمد كنية طلحة بن عبيد الله التميمي، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى رمى يوم الجمل بسهم في ركبته، فمازال الدم يسيح حتى مات وذلك في جمادى الأولى سنة 36، "الإصابة 290:3".
3 ر، س: "وهو".
مما قيل في الشباب والهرموقال النمر بن تولب1:
تدارك ما قبل الشباب وبعده ... حوادث أيام تمر وأغفل
يسر الفتى طول السلامة والبقا ... فكيف يرى طول السلامة يفعل
يرد الفتى اعتدال وصحةٍ ... بنوء إذا رام القيام ويحمل
قصر "البقاء" ضرورة، وللشاعر إذا اضطر أن يقصر المدود، وليس له أن يمد المقصور، وذلك أن الممدود قبل آخره ألف زائدة، فإذا احتاج حذفها لأنها ألف زائدة، فإذا حذفها رد الشيء إلى أصله، ولو مد المقصور لكان زائداً في الشيء ما ليس منه، قال الشاعر وهو يزيد بن عمرو بن الصعق:
فرغتم لتمرين السياط وأنتم ... يشن عليكم بالفنا كل مربع2
فقصر" الفناء" وهو ممدود. وقال الطرماح:
وأخرج أمه لسواس سلمى ... لمعفور الضرا ضرم الجنين
قوله: "وأخرج"، يعني رماداً، والأخرج الذي في لونه سواد وبياض، يقال: نعامة خرجاء.
وقوله: "لسواس سلمى"، فإن أجأ وسلمى جبلاً طيئ، وسواس سلمى: الموضع الذي بحضرة سلمى، يقال: هذا من سواس فلان ومن توس فلان: أي من طبعه. وأمه: يعني الشجرة التي هي أصله.
وقوله" لمعفور الضرا": فالضراء: ما واراك من شجرة خاصةً، والخمر ما واراك من شيء. والمعفور: يعني ما سقط من النار من الزند.
ـــــــ
1 زيادات ر: "كل نمر في العرب كالنمر بن قاسط وغيره مكسور النون مجزوم الميم إلا النمر بن تولب. عن ابن دريد، قال أبو حاتم: يقال: النمر، بفتح النون وتسكين الميم، ولايقال: النمر، بفتح النون وكسر الميم".
2 قال المرصفى: "يهجونى بنى أسد، وتمرين السياط: دلكها وتليينها بالدهان، يرميهم بأنهم أذلاء لا يصقلون السيوف ولا يشحذون الأسنة ولا يبرون النبال. وكل مربع: يريد في كل موضع أقمتم فيه زمن الربيع".
وقوله: "ضرم الجنين" يقول مشتعلٌ، والجنين: ما لم يظهر بعد، يقال للقبر جنن، والجنين: الذي في بطن أمه، والمجن: الترس لأنه يستر، والمجنون: المغطى العقل، وسمي الجن جناً لاختفائهم، وتسمى الدروع الجنن لأنها تستر من كان فيها. وقصر "الضراء" وهو ممدود، ومثل هذا كثير في الشعر جداً.
وقوله: "ينوء إذا رام القيام"، يقول: ينهض في تثاقلٍ، قال الله عز وجل: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} 1 والمعنى أن العصبة تنوء بالمفاتح، ولشرح هذا موضع آخر.
وقال آخر2:
أنوء ثلاثاً بعدهن قيامي
ويروى عن رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كفى بالسلامة داءً". وقال حميد بن ثور الهلالي:
أرى بصري قد رابني بعد صحةٍ ... وحسبك داءً أن تصح وتسلما
ولا يلبث العصران يومٌ وليلةٌ ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
وقال أبو حية النميري:
ألا حي من أجل الحبيب المغانيا ... لبسن البلى مما لبسن اللياليا
إذا ما تقاضى المرء يومٌ وليلةٌ ... تقاضاه شيءٌ لا يمل التقاضيا
وقال بعض شعراء الجاهلية3:
كانت قناتي لا تلين لغامر ... فألانها الإصباح والإمساء
ودعوت ربي في السلامة جاهداً ... ليصحني، فإذا السلامة داء
ـــــــ
1 سورة القصص 76.
2 زيادات ر: "العمر بن قميئة". وقبله:
على الراحتين مرة وعلى العصا
3 البيتان في زهر الآداب 223، ونسبهما إلى عمرو بن قميئة، وهما في العقد الفريد 58:3، وعيون الأخبار 322:2 من غير عزو. ونسبهما المرصفى إلى عبد الرحمن بن سويد المرى.
وقال عنترة بن شداد:
فما أوهى مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني
ومن أمثال العرب إذا طال عمر الرجل أن يقولوا: "لقد أكل الدهر عليه وشرب"، إنما يريدون أنه أكل هو وشرب دهراً طويلاً، قال الجعدي:
أكل الدهر عليهم وشرب1
والعرب تقول: نهارك صائم، وليلك قائم، أي أنت قائم في هذا وصائم في ذاك،كما قال الله عز وجل: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} 2 والمعنى والله أعلم، بل مكركم في الليل والنهار، وقال جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت، وما ليل المطي بنائم
ـــــــ
1 صدره كما في زيادات ر:
كم رأينا من أناس هلكوا
2 سورة سبأ 33.
للفرزدق يرثي ابني مسمعوقال الفرزدق:
تبكي على المنتوف بكر بن وائلٍ ... وتنهى عن ابني مسمع من بكاهما!1
غلامان شبا في الحروب وأدركا ... كرام المساعي قبل وصل لحاهما
وابنا مسمع كان قتلهما معاوية بن يزيد بن الملهب مع عدي بن أرطاة2 لما أتاه خبر قتل أبيه، وكان ابنا مسمع ممن خالف على يزيد بن الملهب. والمنتوف كان
ـــــــ
1 تبكى: تحمل الناس على البكاء.
2 عدى بن أرطأة الفزارى، والى البصرة ليزيد بن عبد الملك، وكان يزيد امره أن يتحرز من يزيد بن المهلب ويحبس أهله. وبلغ ابن المهلب ذلك، فلحق بالبصرة، وتغلب عليها، ودعا إلى نفسه، ويلغ يزيد بن عبد الملك، وقد اخرج أهله من السجن، وأسر اثنين وثلاثين رجلا، منهم عدى بن أرطاة وابنه محمد وابنا مسمع وربيع بن زياد الأزدى، ومال بهم إلى واسط، فوجه إليه يزيد أخاه مسلمة بجيش كثيف، فخرج له ابن المهلب، واستخلف ابنه معاوية على الخزائن والأسرى، فلما قتل أبيه ضرب أعناق الأسرى جميعا غير ربيع بن زياد، وكان ذلك سنة 132، "وانظر رغبة الآمل".
مولى لبني قيس بن ثعلبة بن عكابة. وابنا مسمع من بني قيس بن ثعلبة، وكان المنتوف كالخليفة ليزيد بن الملهب، وفي ذلك يقول جرير:
والأزد قد جعلوا المنتوف قائدهم ... فقتلتهم جنود الله وانتتفوا
وتمام شعر الفرزدق:
ولو قتلا من جذم بكر بن وائل ... لكان على الناعي شديداً بكاهما1
ولو كان حياً مالكٌ وابن مالكٍ ... إذا أوقدا نارين يعلو سناهما2
السنا: ضوء النار، وهو مقصور، قال الله عز وجل: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 3 والسناء من الشرف، ممدود، قال حسان بن ثابت:
وإنك خير عثمان بن عمرٍو ... وأسناها إذا ذكر السناء
والبكاء يمد ويقصر، فمن مد فإنما جعله كسائر الأصوات، ولايكون المصدر في معنى الصوت مضموم الأول إلا ممدوداً، لأنه يكون على "فعالٍ" وقلما يكون المصدر على "فعلٍ"، وقد جاء في حروف: نحو: الهدى والسرى وما أشبهه، وهو يسير، فأما الممدود فنحو: العواء، والدعاء. والرغاء، والثغاء، فكذلك البكاء، ونظيره من الصحيح الصراخ والنباح، ومن قصر فإنما جعل البكاء كالحزن، وقد قال حسان، فقصر ومد:
بكت عيني وحق لها بكاها ... وما يغنى البكاء ولا العويل!
ـــــــ
1 الجذم: الأصل، قال المرصفى: "هذه رواية منكرة؛ لأنها تنفى نسبهما عن بكر بن وائل، ورواية ديوانه:
ولو أصبحا من غير بكر بن وائل ... لكان على الجانى ثقيل دماهما
2 مالك أبو مسمع وابن مالك هو مسمع بن مالك بن مسمع بن شيبان بن شهاب البكرى.
3 سورة النور 43.
لجرير يرثي ابنه سوادةوقال جرير:
قالوا نصيبك من أجرٍ فقلت لهم ... كيف العزاء وقد فارقت أشبالي1
ـــــــ
1 زيادات ر: "نصيبك" بالنصب لا غير؛ لأنه مفعول بإضمار فعل تقديره احفظ نصيبك، أو احرز نصيبك".
هذا سوادة يجلو مقلتي لحمٍ ... بازٍ يصرصر فوق المرقب العالي
فارقته حين غض الدهر من بصري ... وحين صرت كعظم الرمة البالي
قوله: "يجلو مقلتي لحم" ، شبه مقلتيه بمقلتي البازي، ويقال: "طائر لحم" من هذا. وقوله: "يصرصر" يعني يصوت، يقال: صرصر البازي والصقر، وما كان من سباع الطير، ويقال: صرصر العصفور: وأحسبه مستعاراً. لأن الأصل فيه أن يستعمل في الجوارح من الطير، قال جرير:
بازٍ يصرصر بالسهبى قطاً جونا 1
وقال آخر:
كما صرصر العصفور في الرطب الثعد2
وأنشدني عمارة: "باز يصعصع" وهو أصح قال أبو الحسن: "يصعصع" وهو الصواب، ولكن هكذا وقع في كتابه. ويصرصر لايتعدى.
قال أبو العباس: وقوله: "كعظم الرمة "فهي البالية الذاهبة، والرميم: مشتق من الرمة، وإنما هو فعيلٌ وفعلةٌ، وليس بجمع له واحد.
ومما كفرت به الفقهاء الحجاج بن يوسف قوله: والناس يطوفون بقبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنبره وإن شئت قلت: "يطيفون" ، قال أبو زيد: تقول العرب: طفت وأطفت به، ودرت وأدرت به، ويقال: حدق وأحدق: قال الأخطل:
المنعمون بنو حربٍ وقد حدقت ... بي المنية واستبطأت أنصاري
إنما يطوفون بأعوادٍ ورمةٍ.
ومن أمثال العرب: "لولا أن تضيع الفتيان الذمة، لخبرتها بما تجد الإبل في الرمة" .، يقول: لولا أن تدع الأحداث التمسك بالوفاء، والرعاية للحرمة لأعلمتها أن الإبل تتناول العظم البالي، وهو أقل الأشياء فتجد له لذة.
ـــــــ
1 يصف الإبل وهي تسير في الفلوات والسهبى: موضع في بنى تميم. وقبله:
كأن حاديها لما أضر بها
2 الثعد: وواحدته ثعدة، وهو ما لان من البسر وأرطب.
ومثل بيت جرير الأخير قول أبي الشغب يرثي ابنه شغباً:
قد كان شغبٌ لو ان الله عمره ... عزاً تزداد به في عزها مضر
ليت الجبال تداعت قبل مصرعه ... دكاً فلم يبق من أحجارها حجر
فارقت شغباً وقد قوست من كبرٍ ... بئس الحليفان: طول الحزن والكبر
قوله: "قوست "يقول: انحنيت كالقوس، قال امرؤ القيس:
أراهن لايحببن من قل ماله ... ولا من رأيت الشيب فيه، وقوسا
لسليمان بن قتة يرثي الحسين بن عليوقال سليمان بن قتة يرثي الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام:
مررت على أبيات آل محمدٍ ... فلم أرها كعهدها يوم حلت
فلا يبعد الله الديار وأهلها ... وإن أصبحت من أهلها قد تخلت
وكانوا رجاءً ثم صاروا رزيةً ... فقد عظمت تلك الرزايا وجلت1
وإن قتيل الطف من آل هاشمٍ ... أذل رقاب المسلمين فذلت2
وعند غني قطرةٌ من دمائنا ... سنجزيهم يوماً بها حيث حلت3
إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها ... وتقتلنا قيسٌ إذا النعل زلت
وسليمان بن قتة4 رجل من بني تميم بن مرة بن كعب بن لؤي، وكان منقطعاً إلى بني هاشمٍ
ـــــــ
1 جاء هذا البيت في ر، س بعد البيت الذي يليه.
2 الطف: موضع قريب من الكوفة، قتل فيه الحسين عليه السلام.
3 غنى: قبيله في قيس.
4 هو سليمان بن قتة المحاربى التابعي، وقتة أمه.
للفرزدق يرثي ابنيهوقال الفرزدق يرثي ابنيه:
بفي الشامتين الترب أن كان مسني ... رزية شبلي مخدرٍ في الضراغم1
وما أحدٌ كان المنايا وراءه ... ولو عاش أياماً طوالا بسالم
أرى كل حي ما تزال طليعةً ... عليه المنايا من ثنايا المخارم
ـــــــ
1 المخدر في الأصل: الأسد الذي يلزم خدره، وهوهنا كناية عن نفسه.
يذكرني ابني السماكان موهناً ... إذا ارتفعا فوق النجوم العواتم
وقد رزىء الأقوام قبلي بنيهم ... وإخوانهم، فاقني حياء الكرائم
ومات أبي والمنذران كلاهما ... وعمرو بن كلثوم شهاب الأراقم
وقد كان مات الأقرعان وحاجب ... وعمرو أبو عمرو، وقيس بن عاصم
وقد مات بسطام بن قيس بن خالدٍ ... ومات أبو غسان شيخ اللهازم
وقد مات خيراهم فلم يهلكاهم ... عشية بانا رهط كعب وحاتم
فما ابناك إلا من بني الناس فاصبري ... فلن يرجع الموتى حنين المآتم
قال:وأنشدني التوزي عن أبي زيد: " خنين المآتم " بالخاء معجمة قوله: " ما تزال طليعة " يريد طالعةً، والثنايا جمع ثنيةٍ، وهي الطريق في الجبل، من ذلك:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
والمخارم: جمع مخرمٍ، وهو منقطع أنف الجبل. وقوله: " فوق النجوم العواتم " ، يعني المتأخرة، يقال: فلان يأتينا ولا يعتم: أي لايتأخر، وعتمة اسم للوقت، فلذلك سميت الصلاة بذلك الوقت، وكل صلاة مضافة إلى وقتها، تقول: صلاة الغداة، وصلاة الظهر، وصلاة العصر.وما قولك: الصلاة الأولى، فالأولى نعت لها إذا كانت أول ما صلي، وقيل أول ما أظهر.
وقوله: " فاقني حياء الكرائم " يقول: فالزمي، وأصل القنية المال اللازم، يقال: اقتنى فلان مالاً إذا اتخذ أصل مالٍ، وقيل في قول الله عز وجل: " وأنه هو أغنى وأقنى " ، النجم: 48 . أي جعل لهم أصل مال، وأنشد أبو عبيدة:
لو كان للدهر عز يطمئن به ... لكن للدهر صخر مال قنيان
والكرائم: جمع كريمة، والاسم من " فعيلة " والنعت يجمعان على " فعائل " ، فالاسم نحو: صحيفة وصحائف، وسفينة وسفائن، والنعت نحو: عقيلة وعقائل، وكريمة وكرائم.
وقوله: " ومات أبي " يريد التأسي بالأشراف. وأبوه غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع، وكان أبوه شريفاً، وأجداده إلى حيث إنتهوا، ولكل واحد منهم قصة يطول الكتاب بذكرها. والمنذران: المنذر بن المنذر بن ماء السماء اللخمي، يريد الابن والأب، وعمرو بن كلثوم التغلبي، قاتل عمرو بن هند، وكان أحد أشراف العرب وفتاكهم وشعرائهم. والأراقم: قبيلة من بني تغلب ابنة وائل، من بني جشم بن بكر. وزعم أهل العلم أنهم إنما سموا الأراقم لأن عيونهم شبهت بعيون الحيات، والأراقم: واحدها أرقم، فكانوا معروفين بهذا. قال الفرزدق يرد على جرير في هجائه له وللأخطل:
إن الأراقم لن ينال قديمها ... كلب عوى متهتم الأسنان
وجعله شهاباً لهم لنوره وبهائه وضيائه، تقول العرب: إنما فلان نجم أهله وكذلك قالت الخنساء:
كأنه علم في رأسه نار
والأقرعان: الأقرع بن حابس، وابنه الأقرع من بني مجاشع بن دارم، وكان الأقرع في صدر الإسلام سيد خندف، وكان محله فيها محل عيينة بن حصن في قيس. وحاجب بن زرارة بن عدس سيد بني تميم في الجاهلية غير مدافع. وعمرو أبو عمرو بن عدس، وكان شريفاً، وكان ابنه عمرو شريفاً، قتل يوم جبلة، قتلته بنو عامر بن صعصعة، وقتلوا لقيط بن زرارة وكان الذي ولي قتله عمارة الوهاب العبسي، وينسب إلى بني عامر، لأن بني عبس كانوا فيهم مع قيس بن زهير، وعمارة هذا كان يقال له: " دالق " ، وقتله شرحاف الضبي، ولذلك يقول الفرزدق:
وهن بشرحاف تداركن دالقاً ... عمارة عبس بعدما جنح العصر
وزعم أبو عبيدة أن فاطمة بنت الخرشب الأنمارية أريت في منامها قائلاً يقول: أعشرة هدرة أحب إليك أم ثلاثة كعشرة هدرة بالدال غير معجمة، قال أبو الحسن: هم السقاط من الناس فلم تقل شيئاً، فعادلها في الليلة الثانية فلم تقل شيئاً، ثم قصت ذلك على زوجها فقال: إن عاد لك الثالثة فقولي: ثلاثة كعشرة وزوجها زياد بن عبد الله بن ناشب العبسي، فلما عاد لها قالت: ثلاثة كعشرة، فولدتهم كلهم غاية، ولدت ربيع الحفاظ، وعمارة الوهاب، وأنس الفوارس، وهي إحدى المنجبات من العرب.
وأسرو حاجباً . فذلك حيث يقول جرير يعير الفرزدق ويعلمه فخر قيس عليه:
تحضض يا ابن القين قيساً ليجعلوا ... لقومك يوماً مثل يوم الأراقم
كأنك لم تشهد لقيطاً وحاجباً ... وعمرو بن عمرو إذ دعوا: يال دارم
ولم تشهد الجونين والشعب ذا الصفا ... وشدات قيس يوم دير الجماجم
الجونان: معاوية وحسان ابنا الجون الكنديان، أسرا في ذلك اليوم، فقتل حسان، وفودي معاوية بسبب يطول ذكره. والشعب: شعب جبلة.
وقوله:
وشدات قيس يوم دير الجماجم
هذا في الإسلام، يعني وقعة الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي بدير الجماجم.
وقوله:
وقد مات بسطام بن قيس بن خالد
يعني الشيباني، وهو فارس بكر بن وائل وابن سيدها، وقتل بالحسن وهو جبل قتله عاصم بن خليفة الضبي، وكان عاصم بن خليفة أسلم في أيام عثمان رحمه الله، فكان يقف ببابه فيستأذن عليه، فيقول عاصم بن خليفة الضبي: قاتل بسطام بن قيس بالباب قال أبو الحسن: الوجه عندي في " بسطام " ألا ينصرف لأنه أعجمي وكان سبب قتله إياه أن بسطاماً أغار على بني ضبة، وكان معه حاز يحزو له قال أبو الحسن: " حاز " بالزاي أي زاجر فقال له بسطام: إني سمعت قائلاً يقول:
الدلو تأتي الغرب المزله
فقال الحازي: فهلا قلت:
ثم تعود بادناً مبتله
قال: ما قلت فاكتسح إبلهم، فتنادوا واتبعوه، ونظرت أم عاصم إليه، وهو يقع حديدة له أي يحدها، والميقعة: المطرقة فقالت له: ما تصنع بهذه وكان عاصم مضعوفاً فقال لها: أقتل بها بسطام بن قيس، فنهرته، وقالت: است أمك أضيق من ذلك فنظر إلى فرس لعمه موثقةٍ إلى شجرة فاعروراها أي ركبها عرياً ثم أقبل بها كالريح، فنظر بسطام إلى الخيل قد لحقته، فجعل يطعن الإبل في أعجازها، فصاحت به بنو ضبة: يا بسطام، ما هذا السفه دعها، إما لنا وإما لك، وانحط عليه عاصم، فطعنه فرمى به على الألاءة وهي شجرة ليست بعظيمة، وكان بسطام نصرانياً، وكان مقتله بعد مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأراد أخوه الرجوع إلى القوم، فصاح به بسطام : أنا حنيف إن رجعت، ففي ذلك يقول ابن غنمة الضبي وكان في بني شيبان:
فخر على الألاءه لم يوسد ... كأن جبينه سيف صقيل
ولما قتل بسطام لم يبق في بكر بن وائل بيت إلا هجم أي هدم.
وقوله:
ومات أبو غسان شيخ اللهازم
يعني مالك بن مسمع بن شيبان بن شهاب، أحد بني قيس بن ثعلبة، وإليه تنسب المسامعة. وكان سيد بكر بن وائل في الإسلام، وهو الذي قال لعبيد الله بن زياد بن ظبيان، أحد بني تيم اللآت بن ثعلبة وكان حين حدث أمر مسعود بن عمرو المعني من الأزد فلم يعلمه به، فقال له عبيد الله وهو أحد فتاك العرب، وهو قابل مصعب بن الزبير: أيكون مثل هذا الحدث ولا تعلمني به لهممت أن أضرم دارك عليك ناراً فقال له مالك: اسكت أبا مطر، فوالله إن في كنانتي سهم أنا أوثق به مني بك، فقال له عبيد الله: أو أنا في كنانتك فوالله لو قمت فيها لطلتها، ولو قعدت فيها لخرقتها، فقال له مالك وأعجبه ما سمع منه: أكثر الله في العشيرة مثلك قال: لقد سألت ربك شططاً وفي مالك بن مسمع يقال:
إذا ما خشينا من أمير ظلامة ... دعونا أبا غسان يوماً فعسكراً
قوله: " وقد مات خيراهم " ، تثنية كقولك: مات أحمراهم، ولم يخرج مخرج النعت، ألا ترى أنك تقول: هذا أحمر القوم إذا أردت: هذا الأحمر الذي للقوم، فإذا أردت الذي يفضلهم في باب الحمرة قلت: هذا أشدهم حمرة، ولم تقل: هذا أحمرهم، وكذلك خيراهم، وإنما أردت هذا خيرهم ثم ثنيت، أي هذا الخير الذي هو فيهم.
وقوله: " عشية بانا " ، مردود على قوله: " خيراهم " .
وقوله: " رهط كعب وحاتم " ، إنما خفضت " رهطاً " لأنه بدل من " هم " التي أضفت إليها " الخيرين " والتقدير: وقد مات خيراً رهط كعب وحاتم، فلم يهلكاهم عشية بانا.
فأما كعب، فهو كعب بن مامة الإيادي، وكان وكان أحد أجواد العرب الذي آثر على نفسه،وكان مسافراً ورفيقه رجل من النمر بن قاسط فقل عليهما الماء فتصافناه والتصافن: أن يطرح في الإناء حجرٌ ثم يصب فيه من الماء ما يغمره لئلا يتغابنوا: وكذلك كل شيء وقف على كيله أو وزنه، والأصل ما ذكرنا فجعل النمري يشرب نصيبه، فإذا أخذ كعب نصيبه قال: اسق أخاك النمري، فيؤثره حتى جهد كعبٌ، ورفعت له أعلام الماء، فقيل له: رد كعب ولا ورود به، فمات عطشاً، ففي ذلك يقول أبو دؤاد الإيادي:
أوفى على الماء كعبٌ ثم قيل له ... رد كعب إنك ورادٌ فما وردا
فضرب به المثل، فقال جرير في كلمته التي مدح فيها عمر بن عبد العزيز:
يعود الفضل منك على قريشٍ ... وتفرج عنهم الكرب الشدادا
وقد أمنت وحشهم برفقٍ ... ويعيي الناس وحشك أن تصادا
وتبني المجد يا عمر ابن ليلى ... وتكفي الممحل السنة الجمادا
وتدعوا الله مجتهداً ليرضى ... وتذكر في رعيتك المعادا
وما كعب ابن مامة وابن سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا
تعود صالح الأخلاق إني ... رأيت المرء يلزم ما استعادا
هذا كعب ابن مامة الذي ذكرناه.
وأما ابن سعدى، فهو أوس بن حارثة بن لأم الطائي، وكان سيداً مقدماً، فوفد هو وحاتم بن عبد الله الطائي على عمرو ابن هند، وأبوه المنذر بن المنذر بن ماء السماء، فدعا أوساً فقال له: أأنت أفضل أم حاتم؟ فقال أبيت اللعن لو ملكني حاتم وولدي ولحمتي لوهبنا في غداةٍ واحدةٍ. ثم دعا حاتماً فقال له: أنت أفضل أم أوسٌ؟ فقال أبيت اللعن إنما ذكرت بأوسٍ، ولأحد ولده أفضل مني.
وكان النعمان بن المنذر دعا بحلة وعنده وفود العرب من كل حي فقال: احضروا في غد، فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم، فحضر القوم جميعاً إلا أوساً، فقيل له: لم تتخلف فقال إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء ألا أكون حاضراً، وإن كنت أنا المراد فسأطلب ويعرف مكاني.فلما جلس النعمان لم ير أوساً، فقال اذهبوا إلى أوس فقولوا له: احضر آمناً مما خفت، فحضر فألبس الحلة، فحسده قوم من أهله، فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلاثمائة ناقة، فقال الحطيئة: كيف أهجو رجلاً في بيتي أثاثاً ولا مالاً إلا من عنده ثم قال:
كيف الهجاء وما تنفك صالحةٌ ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
فقال لهم بشر بن أبي خازم، أحد بني أسد بن خزيمة : أنا أهجو لكم، فأخذ الإبل وفعل، فأغار أوس على الإبل فاكتسحتها، فجعل لا يستجير حياً إلا قال: قد أجرتك إلا من أوس. وكان في هجائه إياه قد ذكر أمه، فأتى به، فدخل أوس على أمه فقال: قد أتينا ببشرٍ الهاجي لك ولي، فما ترين فيه؟ فقالت له: أو تطيعني فيه؟ قال نعم، قالت: أرى أن ترد عليه ماله، وتعفو عنه وتحبوه، وافعل مثل ذلك، فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه.
فخرج إليه فقال: إن أمي سعدى التي كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا وكذا فقال: لا جرم والله لا مدحت أحداً حتى أموت غيرك. ففيه يقول:
إلى أوس بن حارثة بن لأمٍ ... ليقضي حاجتي فيمن قضاها
وما وطئ الثرى مثل ابن سعدى ... ولا لبس النعال ولا احتذاها
وأما حاتمٌ الذي ذكره الفرزدق، فهو حاتم بن عبد الله الطائي، جواد العرب، وقد كان الفرزدق صافن رجلاً من بني العنبر بن عمرو بن تميم إدواة في وقتٍ، فرامه العنبري وسلمه أن يؤثره وكان الفرزدق جوادا فلم تطب نفسه عن نفسه، فقال الفرزدق:
فلما تصافنا الإداوة أجهشت ... إلي غضون العنبري الجراضم
فجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصرائم
على ساعةٍ لو أن في القوم حاتماً ... على جوده ضنت به نفس حاتم
أما قوله: " أجهشت " فهو التسرع، وما تراه في فحواه من مقاربة الشيء، يقال: أجهش بالبكاء. والغضون: التكسر قي الجلد، والجراضم: الأحمر الممتلئ.
وقوله:
ليشرب ماء القوم بين الصرائم
فهي جمع صريمةٍ، وهي الرملة التي تنقطع من معظم الرمل، وقوله: " صريمة " يريد مصرومة، والصرم: القطع، وأتشد الأصمعي:
فبات يقول أصبح ليل حتى ... تجلى على صريمته الظلام
يعني ثوراً، وصريمته: رملته التي هو فيها. وقال المفسرون في قول الله عز وجل: " فأصبحت كالصريم " القلم 20 قولين، قال قوم: كالليل المظلم، وقال قوم: كالنهار المضيء، أي بيضاء لا شيء فيها، فهو من الأضداد. ويقال: لك سواد الأرض وبياضها، أي عامرها وغامرها، فهذا ما يحتج به لأصحاب القول الأخير، ويحتج لأصحاب القول الأول في السواد بقول الله تبارك وتعالى : " فجعله غثاءً أحوى " الأعلى 5، وإنما سمي السواد سواداً لعمارته، وكل خضرةٍ عند العرب سواد، ويروى:
على ساعةٍ لوأن في القوم حاتماً ... على جوده ما جاد بالماء حاتم
جعل " حاتما " تبيناً للهاء في جوده، وهو الذي يسميه البصريون البدل، أراد: على جود حاتمٍ
باب
نبذ من أقوال الحكماءقال أبو العباس: كان يقال: إذا رغبت في المكارم فاجتنب المحارم.
وكان يقال: أنعم الناس عيشاً من عاش غيره في عيشه.
وقيل في المثل السائر: من كان في وطن فليوطن غيره وطنه، ليرتع في وطن غيره في غربته.
قال: وأنتبه معاوية من رقدةٍ له، فأنبه عمرو بن العاص، فقال له عمرو: ما بقي من لذتك1? قال: عينٌ خرارة في أرض خوارة2، وعينٌ ساهرة لعينٌ نائمة، فما بقي من لذتك يا أبا عبد الله? قال: أن أبيت معرساً بعقيلة من عقائل العرب. ثم نبها وردان3، فقال له معاوية: ما بقي من لذتك? فقال: الإفضال على الإخوان، فقال له معاوية: اسكت، أنا4 أحق بها منك، قال5: قد أمكنك فافعل.
ويروى أن عمراً لما سئل قال: أن أستتم بناء مدينتي بمصر، وأن وردان لما سئل قال: أن ألقى كريماً قادراً في عقب إحسانٍ كان مني إليه، وأن معاوية سئل عن الباقي من لذته فقال: محادثة الرجال.
ويروى عن عبد الملك أنه قال: وقد سئل عن الباقي من لذته فقال: محادثة الإخوان في الليالي القمر6 على الكثبان العفر7.
وقال سليمان بن عبد الملك: قد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وركبنا الفاره8، وأمتطينا العذراء، فلم يبق من لذتي إلا صديق أطرح بيني وبينه مؤونة التحفظ.
ـــــــ
1 كذا في الأصل، س. وفي ر: "مابقى من لذتك يا أمير المؤمنين".
2 عين خرارة: جارية. خوارة: سهلة لينة.
3 وردان: مولى عمرو بن العاص.
4 ر: "فأنا".
5 ر: "فقال له".
6 قمر: جمع قمراء، وهي الليلة التي يغمرها ضوء القمر.
7 العفر: جمع أعفر، وهو اللون الأحمر.
8 الفاره: النشيط من الدواب.
وقال رجل لرجل من قريش: إني والله ما أمل الحديث، قال: أيمل العتيق1.
وقال المهلب بن أبي صفرة: العيش كله في الجليس الممتع.
وقال معاوية: الدنيا بحذافيرها الخفض والدعة .
وقال يزيد بن المهلب: ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا كله، قيل له: ولم أيها الأمير? قال: أكره عادة العجز.
ويروى عن بعض الصالحين أنه قال: لو أنزل الله كتاباً أنه معذب رجلاً واحداً لخفت أن أكونه، أو أنه راحمٌ رجلاً واحداً لرجوت أن أكونه، أو أنه معذبي2 لا محالة ما ازددت إلا اجتهاداً لئلا أرجع على نفسي بلائمة .
ـــــــ
1 ر، س:"إنما يمل العتيق"، والعتيق:القديم.
2 ر:"ولو علمت أنه معذبى".
أدب عمر بن عبد العزيزويروى أن عمر بن عبد العزيز كان يدخل إليه سالم مولى بني مخزوم وقالوا: بل زياد وكان عمر أراد شراءه وعتقه، فأعتقه مواليه، وكان عمر يسميه: أخي في الله، فكان إذا دخل وعمر في صدر مجلسه تنحى عن الصدر، فيقال له في ذلك فيقول: إذا دخل عليك من لا ترى لك عليه فضلاً فلا تأخذ عليه شرف المجلس.
وهم السراج ليلة بأن يخمد، فوثب إليه رجاء بن حيوة ليصلحه، فأقسم عليه عمر فجلس، ثم قام عمر فأصلحه. فقال له رجاء: أتقوم يا أمير المؤمنين قال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا ترفعوني فوق قدري فتقول في ما قالت النصارى في المسيح، فإن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً".
ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في مرضته التي مات فيها، فقال: ألا توصي يا أمير المؤمنين? قال: فيم أوصي? فوالله إن لي من مال، فقال: هذه مائة ألف فمر فيها بما أحببت، فقال: أو تقبل? قال: نعم،قال. ترد على من أخذت منه ظلماً. فبكى مسلمة ثم قال: يرحمك الله لقد ألنت منا قلوباً قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكراً .
بر علي بن الحسين بأمهوقيل لعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمهم الله: إنك من أبر الناس بأمك ولسنا نراك تأكل مع أمك في صحفةٍ، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه فأكون قد عققتها.
لعمر بن ذر في ابنهوقيل لعمر بن ذر حيث نظر إلى تعزيه عن إبنه كيف كان بره بك? فقال: ما مشيت بنهارٍ قط إلا مشى خلفي، ولا بليلٍ إلا مشى أمامي، ولا رقي سطحاً وأنا تحته.
لأبي المخش في ولدهوقال أبو المخش: كانت لي إبنة تجلس معي على المائدة، فتبرز كفاً كأنها طلعة1، في ذراعٍ كأنها جمارة2، فلا تقع عينها على أكلة نفيسة إلا خصتني بها، فزوجتها، وصار يجلس معي على المائدة ابنٌ لي فيبرز كفاً كأنها كرنافة، في ذراعٍ كأنها كربة، فوالله إن تسبق عيني إلى لقمة طيبة إلاسبقت يده إليها.
وقال الأصمعي: قيل لأبي المخش: أما كان لك ابنٌ? فقال: المخش، وما كان المخش? كان والله أشدق خرطمانياً إذا تكلم سال لعابه، كأنما ينظر من قلتين3، وكأن ترقوته بوان أو خالفة، وكأن مشاش منكبيه كركرة جمل، فقأ الله عيني هاتين إن كنت رأيت بهما أحسن منه قبله ولا بعده.
قوله: "بوان أو خالفة" فهما عمودان من عمد البيت، البوان في مقدمه والخالفة في مؤخره. والكرنافة: طرف الكربة العريض الذي يتصل بالنخلة كأنه كتف.
ـــــــ
1 الطلعة: واحدة الطلع، وهو نور النخلة.
2 الجمارة: شحمة النخلة.
3 مثنى قلت، وهو نقرة مستديرة في أرض صلبة.
حدثني بهذا الحديث العباس بن الفرج الرياشي عن الأصمعي، وحدثني عمن حدثه قال: مر بنا أعرابي ينشد إبناً له، فقلنا: صفه، فقال: دنينير، قلنا لم نره، فلم نلبث أن جاء بجعل على عنقه، فقلنا: لو سألت عن هذا لأرشدناك، ما زال منذ اليوم بين أيدينا.
وأنشد منشد، وأنشدني الرياشي أحد البيتين:
نعم ضجيع الفتى إذا برد الليل ... صحيراً وقرقف الصرد
زينها الله في الفؤاد كما ... زين في عين والدٍ ولد
ـــــــ
1 الزغب: مايبدو من ريش الفرخ.
2 الترجيل: التسريح. واللمة: شعر الرأس الذي يلم بالممنكب.
لأم ثواب الهزانية تصف عقوق ابنها
وقالت أم ثواب الهزانية، من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، تعني ابنها:
ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه ... أم الطعام ترى في ريشه زغبا1
حتى إذا آض كالفحال شذبه ... أباره ونفى عن متنه الكربا
أنشا يخرق أثوابي ويضربني ... أبعد ستين عندي يبتغي الأدبا
إني لأبصر في ترجيل لمته ... وخط لحيته في وجهه عجبا2
قالت له عرسه يوماً لتسمعني: ... رفقاً فإن لنا في أمنا أربا
ولو رأتني في نارٍ مسعرة ... من الجحيم لزادت فوقها حطبا
قوله: "أباره" ، فهو الذي يصلحه، يقال: أبرت النخل وأبرته خفيفة، إذا لقحته.
خبر مالك بن العجلان مع أبي جبيلةويرى أن مالك بن العجلان أو غيره من الأنصار كان يتحف أبا جبيلة الملك حيث نزل بهم بتمرٍ من نخلةٍ لهم شريفةٍ، فغاب يوماً، فقال أبو جبيلة: إن
مالكاً كان يقوت علينا جنى هذه النخلة فجدوها، فجاء مالك وقد جدت فقال: من سعى على عذق الملك فجده، فأعلموه أن الملك أمر بذلك، فجاء حتى وقف عليه فقال:
جددت جنى نخلتي ظالماً ... وكان الثمار لمن قد أبر
فلما دخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة أطرفوه بهذا الحديث، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الثمر لمن أبر، إلا أن يشترطه المشتري " .
والفحال فحال النخل: ولا يقال لشيء من الفحول فحال غيره. وأنشدني المازني:
يطفن بفحالٍ كأن ضبابه ... بطون الموالي يوم عيدٍ تغدت
وضبابه: طلعه. وآض: عاد ورجع.
وقولها: " شذبه " تقول: قطع عنه الكرب والعثاكيل وكل مشذب مقطوع ويقال للرجل الطويل النحيف: مشذب يشبه بالجذع المحذوف عنه الكرب وأصل التشذيب القطع وقال الفرزدق:
عضت سيوف تميمٍ حين أغضبها ... رأس ابن عجلى فأضحى رأسه شذباً
أراد: عضت سيوف تميم رأس ابن عجلى حين أغضبها.
وابن عجلى : عبد الله بن خازم السلمي وأمه عجلى وكانت سوداء وهو أحد غرباء العرب في الإسلام.
للمهلب وقد سئل من أشجع الناس?وسئل المهلب من أشجع الناس فقال: عباد بن حصين، وعمر بن عبيد الله بن معمر، والمغيرة بن المهلب فقيل. فأين ابن الزبير وابن خازم وعمير بن الحباب فقال: إنما سئلت عن الإنس ولم أسأل عن الجن!.
باب
من كلام عائشةروى شعبة عن واقد بن محمد، عن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد قال: قالت عائشة رضي الله عنها: من أرضى الله بإسخاط الناس كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن أرضى الناس بإسخاط الله وكله الله إلى الناس ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته.
بين الحسن بن زيد والي المدينة وابن هرمةويروى أن الحسن بن زيد1 لما ولي المدينة قال لابن هرمة2: إني لست كمن باع لك دينه رجاء مدحك أو خوف ذمك قد أفادني الله بولادة نبيه الممادح، وجنبني المقابح وإن من حقه علي ألا أغضي على تقصير في حقه وأنا أقسم بالله، لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدين: حدا للخمر، وحدا للسكر وأزيدن، لموضع حرمتك بي. فليكن تركها لله تعن عليه ولا تدعها للناس فتوكل إليهم. فنهض ابن هرمة وهو يقول:
نهاني ابن الرسول عن المدام ... وأدبني بآداب الكرام
وقال لي اصطبر عنها ودعها ... لخوف الله لا خوف الأنام
وكيف تصبري عنها وحبي ... لها حب تمكن من عظامي
أرى طيب الحلال علي خبثاً ... وطيب النفس في خبث الحرام
ـــــــ
1 هو الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن ابي طالب، ولى المدينة لأبى جعفر المنصور سنة 150.
2 هو إبراهيم بن هرمة من متقدمى الشعراء ممن أدرك الدولتين: الهاشمية والأموية "وانظر ترجمته ومراجعها في الشعر والشعراء 729-731"
من كلام مطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشيوقال الحسن لمطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي: يا مطرف، عظ أصحابك فقال مطرف: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل.
فقال الحسن: يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول لود الشيطان أنه ظفر بهذه منكم فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه عن منكر.
وقال مطرف بن عبد الله لابنه: يا عبد الله، العلم أفضل من العمل، والحسنة بين السيئتين وشر السير الحقحقة.
قوله: " الحسنة بين السيئتين " .، يقول: الحق بين فعل المقصر والغالي. ومن كلامهم: خير الأمور أوسطها.
قوله: " وشر السير الحقحقة " وهو أن يستفرغ المسافر جهد ظهره فيقطعه، فيهلك ظهره، ولا يبلغ حاجته. يقال: حقحق السير إذا فعل ذلك . وقال الراجز:
وأنبت فعل السائر المحقحق
وحدثت أن الحسن نفى سابق الحاج وقد أسرع، فجعل يومىء إليه بإصبعه فعل الغازلة وهو يقول: " خرقاء وجدت صوفاً " .
وهذا مثل من أمثال العرب يضربونه للرجل الأحمق الذي يجد مالاً كثيراً فيعيث فيه وشبيه بهذا المثل قوله: " عبد وخلى في يديه " .
ويروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهراً أبقى " .
قوله: " متين " ، المتين الشديد، قال الله عز وجل: " وأنلى لهم إن كيدى متين " الأعراف: 183.
وقوله: " فأوغل فيه برفق " ، يقول: ادخل فيه، هذا أصل الوغول، ويقال مشتقاً من هذا الرجل الذي يأتي شراب القوم من غير أن يدعى إليه: واغل، ومعناه أنه وغل في القوم وليس منهم، قال امرؤ القيس:
حلت لي الخمر وكنت امرأ ... عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أسقى غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
والمنبت: مثل المحقحق، واشتقاقه من الانقطاع، يقال: انبت فلان من فلان أي انقطع منه، وبت الله ما بينهم، أي قطع، قال محمد بن نمير:
تواعد للبين الخليط لينبتوا ... وقالوا لراعي الذود: موعدك السبت
وفي النفس حاجات إليهم كثيرة ... وموعدها في السبت لو قد دنا الوقت
ويروى:
ألا قرب الحي الجمال لينبتوا
وحدثت أن ابن السماك كان يقول: إذا فعلت الحسنة فافرح بها واستقللها فإنك إذا استقللتها زدت عليها، وإذا فرحت بها عدت إليها.
ويروى عن أويسٍ القرني أنه قال: إن حقوق الله لم تترك عند مسلم درهماًٍ.
باب
يزيد بن هبيرة ينصح المنصورودخل يزيد بن عمر بن هبيرة على أمير المؤمنين المنصور فقال: يا أمير المؤمنين، توسع توسعاً قرشياً، ولا تضق ضيقاً حجازياً.
ويروى أنه دخل عليه يوماً فقال له المنصور: حدثنا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن سلطانكم حديث، وإمارتكم جديدة، فأذيقوا الناس حلاوة عدلها، وجنبوهم مرارة جورها. فوالله ياأمير المؤمنين لقد محضت لك النصيحة.
ثم نهض معه سبعمائة من قيس، فأتأره المنصور بصره، ثم قال: لا يعز ملك يكون فيه مثل هذا.
قوله: "محضت لك النصيحة" يقول: أخلصت لك، وأصل هذا من اللبن، والمحض منه: الخالص الذي لا يشوبه شيء، وأنشد الأصمعي:
امتحضا وسقياني ضيحا ... وقد كفيت صاحبي الميحا1
ـــــــ
1 رواية اللسان عن شمر: "محضر" "إني كفيت" وفي زيادات ر: "الميح: طلب الشىء هاهنا وهاهنا".
ويقال: حسب محض.
وقوله: "أتاره بصره" يقول: أتبعه بصره، وحدد إليه النظر، وأنشد الأصمعي:
مازلت أرمقهم والآل يرفعهم ... حتى اسمدر بطرف العين إتآري1
ـــــــ
1 زيادات ر: "وهو للكميت بن زيد". والبيت في اللسان "تأر" غير منسوب. واسمدر: لم يكد يبصر.
لأسماء بن خارجة في كرم الخلقويروى عن أسماء بن خارجة أنه قال: لا أشاتم رجلاً، ولا أرد سائلاً، فإنما هو كريم أسد خلته، أو لئيم أشتري عرضي منه.
للأحنف بن قيسويروى عن الأحنف بن قيس أنه قال: وما شاتمت رجلاً، ولا زحمت ركبتاي ركبتيه، وإذا لم أصل مجتدي حتى ينتح جبينه عرقاً كما ينتح الحميت، فو الله ما وصلته.
قوله: "مجتدي" يريد الذي يأتيه يطلب فضله، يقال: اجتده يجتديه، واعتفاه يعتفيه، واعتراه يعتريه، واعتره يعتره، وعراه يعروه: إذا قصده يتعرض لنائله. وأصل ذلك مأخوذ من الجدا مقصور، وهو المطر العام النافع، يقال: أصابتنا مطرة كانت جداً على الأرض، فهذا الاسم، فإذا أردت المصدر، قلت: فلان كثير الجداء، ممدودة، كما تقول: كثير الغناء عنك، ممدودة، هذا المصدر، فإذا أردت الاسم الذي هو خلاف الفقر قلت: الغنى بكسر أوله وقصرت. قال خفاف بن ندبة يمدح أبا بكر الصديق رضي الله عنه:
ليس لشيء غير تقوى جداء ... وكل شيء عمره للفناء
إن أبا بكر هو الغيث إذ ... لم تشمل الأرض سحاب بماء
تالله لا يدرك أيامه ... ذو طرةٍ حاف ولا ذو حذاء
من يسع كي يدرك أيامه ... يجتهد الشد بأرضٍ فضاء
وهذا من طريف الشعر لأنه ممدود فهو بالمد الذي فيه من عروض السريع الأولى، وبيته في العروض:
أزمان سلمى لا يرى مثلها الرا ... ؤون في شام ولا في عراق
ثم نرجع إلى تأويل قول الأحنف.
قوله: " حتى ينتح جبينه عرقاً، فهو مثل الرشح.
وحدثني أبو عثمان المازني في إسناد له ذكره قال: قال رؤبة بن العجاج: خرجت مع أبي نريد سليمان بن عبد الملك، فلما صرنا في الطريق أهدي لنا جنب من لحم عليه كرافىء الشحم، وخريطة من كمأة، ووطب من لبن، فطبخنا هذا بهذا، فما زالت ذفرياي تنتحان منه إلى أن رجعت.
وقوله : " الحميت " ، فالحميت والزق، اسمان له، وإذا زفت أو كان مربوباً الوطب، وإذا لم يكن مربوباً ولا مزفتاً فهو سقاء ونحي، والوطب يكون للبن والسمن، والسقاء يكون للبن والماء. قالت هند بنت عتبة لأبي سفيان بن حرب لما رجع مسلماً من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة في ليلة الفتح، فصاح: يامعشر قريش، ألا إني قد أسلمت فأسلموا، فإن محمداً قد أتاكم بما لا قبل لكم به فأخذت هند برأسه، وقالت : بئس طليعة القوم أنت والله ما خدشت خدشاً، يا أهل مكة، عليكم الحميت الدسم فاقتلوه.
وأما قول رؤبة: " كرافىء الشحم " ، يريد طبقات الشحم. وأصل ذلك في السحاب إذا ركب بعضه بعضاً، يقال له: كرفئ، والجميع كرافىء .
قال أبو الحسن الأخفش: واحد الكرافىء كرفئة، وهاء التأنيث إذا جمعت جمع التكسير حذفت لأنها زائدة بمنزلة اسم ضم إلى اسم وأحسب أن أبا العباس لم يسمع الواحد من هذا فقاسه، والعرب تجترىء على حذف هاء التأنيث إذا احتاجت إلى ذلك، وليس هذا موضع حاجة إذا كانت قد استعملت الواحدة بالهاء، ونظير هذا قولهم: ما في السماء كرفئة، وما في السماء قذعملة وقذعميلة، وما في السماء طحربة وطحربة، وما في السماء قر طعبة، وما في السماء كنهورة، وهي القطعة من السحاب العظيمة كالجبل وما أشبه.
باب
لحسان بن ثابت يهجو مسافع بن عياض التيميقال أبو العباس: قال حسان بن ثابت يهجو مسافع1 بن عياض التيمي، من تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، رهط أبي بكر الصديق رحمه الله:
لو كنت من هاشم أو من بني أسدٍ ... أو عبد شمس أو اصحاب اللوا الصيد
أو من بني نوفل أو رهط مطلبٍ ... لله درك لم تهمم بتهديدي
أو في الذؤابة من قوم ذوي حسبٍ ... لم تصبح اليوم نكساً ثاني الجيد
أومن بني زهرة الأخيار قد علموا ... أومن بني جمح البيض المناجيد
أو في السرارة من تيم رضيت بهم ... أو من بني خلف الخضر الجلاعيد
يا آل تيم ألاينهى سفيهكم ... قبل القذاف بقول كالجلاميد
لولا الرسول فإني لست عاصية ... حتى يغيبني في الرمس ملحودي
وصاحب الغار إني سوف أحفظك ... وطلحة بن عبد الله ذو الجود
لقد رميت بها شنعاء فاضحة ... يظل منها صحيح القوم كالمودي
قوله: "لو كنت من هاشم" يريد هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، والنضر أبو قريش، ومن كان من بني كنانة لم يلده النضر فليس بقرشي. وبنو أسد بن عبد العزى بن قصي. وعبد شمس هو عبد شمس2، بن عبد مناف بن قصي. وأصحاب اللواء بنو عبد الدار بن قصي. واللواء ممدود إذا أردت به لواء الأمير، ولكنه احتاج إليه فقصره، وقد بينا جواز ذلك، فأما اللوى من الرمل فمقصور، قال امرؤ القيس:
بسقط اللوى بين الدخول وحومل
كذا يرويه الأصمعي، وهذه أصح الروايات3.
ـــــــ
1 ذكره ابن حجر في الإصابة "86:6"، وقال: "لا أعرف له صحبة ولا أعرف له رواية".
2 مابين العلامتين ساقط من ر.
3 أي رواية "وحوامل" بالواو. ورواية المفضل: "فحومل".
وقوله: "أو من بني نوفل" فهو نوفل بن عبد مناف بن قصي. والمطلب الذي ذكره هو ابن عبد مناف بن قصي.
وقوله: "لم تصبح اليوم نكساً"، فالنكس الدنيء المقصر. ويقول بعضهم: إن أصل ذلك في السهام، وذلك أن السهم إذا ارتدع1 أو نالته أفة نكس في الكنانة ليعرف من غيره قال الحطيئة:
قد ناضلوك فأبدوا من كنانتهم
مجداً تليداً ونبلا غير أنكاس
قوله: "مجداً تليداً"، قالوا: نواصي الفرسان"2 الذين كان يمن عليهم.
وقوله: "ثاني الجيد" قد مر تفسيره في قول الله عز وجل: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3 وقوله: "أو من بني زهرة"، فهو زهرة بن كلاب بن مرة. ويروى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "خلقت من خير حيين: من هاشم وزهرة" وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي.
وقوله: "الناجيد" مفاعيل، من النجدة، والواحدة منجاد، وإنما يقال ذلك في تكثير الفعل، كما تقول: رجل مطعان بالرمح، ومطعام للطعام.
وقوله:
أو في السرارة من تيم رضيت بهم
يقول: في الصميم منهم والموضع المرضي، وأصل ذلك في التربة، تقول العرب: إذا غرست فاغرس في سرارة الوادي، ويقال: فلان في سر قومه، والسرة مثل ذلك، قال القرشي:
هلا سألت عن الذين تبطحوا ... كرم البطاح وخير سرة واد4
ـــــــ
1 السهم المرتدع: هو ما أصاب الهدف وانكسر عوده.
2 نواصي الفرسان: يريد شعور النواصى، وقد كانت العرب إذا أسروا أسير خيروه بين جزء الناصية والأسر، فإن اختار الجز جزوها، وخلوا سبيله.
3 سورة الحج 9.
4 تبطحو: سكنو بطاح مكة.
وعن الذين أبو فلم يستكرهوا ... أن ينزلوا الولجات من أجياد1
يخبرك أهل العلم أن بيوتنا ... منها بخير مضارب الأوتاد
وقوله: "أو من بني خلف الخضر"، فإنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين.
وليس بالوجه، وإنما يحذف من الحرف لالتقاء الساكنين حروف المد واللين، وهي الألف، والياء المكسور ما قبلها، والواو المضموم ما قبلها، نحو قولك: هذا قفا الرجل، وقاضي الرجل، ويغزو القوم، فلأما التنوين فجاز فيه هذا. لأنه نون في اللفظ، والنون تدغم في الياء والواو، وتزاد كما تزاد حروف المد واللين، ويبدل بعضها من بعض، فتقول: رأيت زيداٌ فتبدل الألف من التنوين، وتقول في النسب إلى صنعاء وبهراء2 صنعاني وبهراني، فتبدل النون من ألف التأنيت، وهذه جملة وتفسيرها كثير، فلذلك حذف، ومثل هذا من الشعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
وقال آخر3:
حميد الذي أمجٌ داره ... أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع4
وقرأ بعض القراء: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} وسمعت عمارة بن عقيل يقرأ: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 5 ، فقلت: ما تريد ? فقال: "سابقٌ النهار" . وقوله: "أواصحاب اللوا"، فإنما6 خفف الهمزة،
ـــــــ
1 والوجات: جمع ولجة، وهي الكهف، وأجياد: موضع بمكة مما يلي الصفا.
2 صنعاء: عاصمة اليمن، وبهراء: قبيلة بها.
3 نسبه الشريف المرتضى "269:2" إلى ابن الزبعري: ورواينه:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه
وبعده:
وهو الذي سن الرحيل لقومه ... رحل الشتاء ورحلة الأصياف
4 هوحميد الأمجى، منسوب إلى أمج: بلد من أعراض المدينة، من أبيات ذكرها ياقوت في معجم البلدان "أمج"، وهي:
شربت المدام فلم أقلع ... وعوتبت فيها فلم أسمع
حميد الذي أمج دراه ... اخو الخمر ذو الشيبة الأصلع
علاه المشيب على حبها ... وكان كريما فلم ينزع
5 سورة يس 40.
6 كلمة: "فإنما" ساقطة من ر.
وتخفف إذا كان قبلها ساكنٌ، فتطرح حركتها على الساكن وتحذف، كقولك: من أبوك? وقوله عز وجل: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1.
وخلف الذي ذكره من بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي.
وقوله: "الخضر الجلاعيد" يقال: فيه قولان: أحدهما أنه يريد سواد جلودهم2، كما قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهبٍ:
وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب
فهذا هو القول الأول. وقال آخرون: شبههم في جودهم بالبحور. وقوله: "الجلاعيد"، يريد الشداد الصلاب، واحدهم جلعدٌ، وزاد الياء للحاجة، وهذا جمعٌ يجيء كثيراً، وذلك أنه موضع تلزمه الكسرة، فتشبع فتصير ياءً، يقال في خاتم: خواتيم، وفي دانقٍ دوانيق، وفي طابق طوابيق قال الفرزدق في مثل هذا الجمع:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرةٍ ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف3
وقوله: "قبل القذاف" يريد المقاذفة، وهذه تكون من اثنين فما فوقهما، نحو المقاتلة والمشاتمة، فباب "فاعلت" إنما هو للاثنين فصاعداً، نحو قاتلت وضاربت، وقد تكون الألف زائدة في فاعلت فتبنى للواحد، كما زيدت الهمزة أولاٌ في "أفعلت "فتكون للواحد، نحو عاقبت اللص، وعافاه الله، وطارقت نعلي.
وقوله: "وصاحب الغار"، يعني أبا بكر رحمه الله، لمصاحبته النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار، وهذا مشهور لايحتاج إلى تفسيره .
وطلحة بن عبيد الله نسبه إلى الجود لأنه كان من أجود قريش. وحدثني التوزي قال: كان يقال لطلحة بن عبيد الله: طلحة الطلحات، وطلحة الخير، وطلحة الجود. وذكر التوزي عن الأصمعي أنه باع ضيعةٌ له بخمسة عشر ألف
ـــــــ
1 سورة النمل 25.
2 قال المرصفى: "وذلك أن العرب تسمى الأسود أخضر، والأخضر أسود، لما أن الخضرة إذا اشتدت تقارب السواد، والمراد من سود الجلمود لون السمرة لا السواد الحالك".
3 تنقاد الصياريف، أي تمييز الصياريف للدراهيم، لتخرج الزائف منها.
درهم، فقسمها في الأطباق1. وفي بعض الحديث أنه منعه أن يخرج إلى المسجد أن له بين ثوبين2.
وحدثني العتبي في إسناد ذكره قال: دعا طلحة بن عبيد الله أبا بكر وعمر وعثمان رحمة الله عليهم، فأبطأ عنه الغلام بشيء أراده، فقال طلحة: يا غلام، فقال الغلام: لبيك فقال طلحة: لا لبيك فقال أبو بكر: ما يسرني أني قلتها وأن لي الدنيا وما فيها. وقال عمر: ما يسرني أني قلتها ولي نصف الدنيا. قال عثمان: ما يسرني أني قلتها وأن لي حمر النعم قال: وصمت عليها أبو محمد، فلما خرجوا من عنده باع ضيعةً بخمسة عش ألف درهم، فتصدق بثمنها.
وقوله:
يظل منها صحيح القوم كالمودي
فالمودي في هذا الموضع الهالك، وللمودي موضع آخر يكون فيه القوي الجاد، حدثني بذلك التوزي في كتاب الأضداد، وأنشدني3:
مودون السبيل السابلا4
ـــــــ
1 الأطباق: جمع طبق: وهو الجماعة من الناس.
2 التلفيق: ضم أحد الثوبين إلى الاخر، قال المرصفى: "وكأنه كره الحضور بهما إلى المسجد خةف الشهرة".
3 البيت لرؤبة، وروايته في ديوانه 122:
مودين يحمون السبيل السابلا
وبعده:
تعدو العرضنى خيلهم عراجلا
4 زيادات ر: "المؤدى" بالهمز: التام الأداة والسلاح، وبغير الهمزة: الهالك.
لرجل من العرب يرثيوقال رجل من العرب:
خليلي عوجا بارك الله فيكما ... على قبر أهبان سقته الرواعد
فذاك الفتى كل الفتى كان بينه ... وبين المزجى نفنف متباعد
إذا نازع القوم الأحاديث لم يكن ... عيياٌ ولا عبئاٌ على من يقاعد
قوله: "على قبر أهبان" فهذا اسم علم كزيد وعمرو، واشتقاقه من وهب يهب، وهمز الواو لانضمامها، كقوله عز وجل: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} 1 فهو" فعلت"، من الوقت . وقد مضى همز الواو إذا انضمت. وهو لاينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة، وكل شيء ينصرف فصرفه في الشعر جائز، لأن أصله كان الصرف، فلما احتيج إليه رد إلى أصله، فهذا قول البصريين. وزعم قوم أن كل شيء لاينصرف فصرفه في الشعر جائز، إلا" أفعل" الذي معه" منك"، نحو: أفضل منك، وأكرم منك . وزعم الخليل وعليه أصحابه أن هذا إذا كانت معه" منك" بمنزلة" أحمر" لأنه إنما كمل أن يكون نعتاٌ" منك"، وأحمر لا يحتاج إليها، مع" منك" بمنزلة" أحمر" وحده، قال: والدليل على أن" منك" ليست بمانعته من الصرف أنه زال عن بناء" أفعل" انصرف، نحو قولك: مررت بخير منك، وشر منك، فلو كانت" منك" هي المانعة لمنعت هنا،فهذا قول بين جداٌ .
وقوله: " المزجى"، فهو الضعيف: يقال: زجى فلان حاجتي: أي خف عليه تعجيلها، والمزجاة من البضائع: اليسيرة الخفيفة المحمل. والنفنف وجمعها النفانف: كل ما كان بين شيئين عالٍ ومنخفض، قال ذو الرمة: "في نفنف يتطوح. "2
وقوله: "ولا عبئاٌ على من يقاعد"، فالعبء: الثقل، يقال حمل عبئاٌ ثقيلاٌ، ووكده بقوله:" ثقيلاٌ"، ولو لم يقله لم يحتج إليه.
ـــــــ
1 سورة المرسلات 11.
2 البيت بتمامة:
ترى قرطها في واضح الليت مشرفا ... على هالك في نفنف يتطوح
وانظر ديوانه 82.
لرجل يذكر ابنهوقال آخر يذكر ابنه:
ألايا سمية شبي الوقودا ... لعل الليالي تؤدي يزيدا
فنفسي فداؤك من غائب ... إذا ما المسارح كانت جليدا
كفاني الذي كنت أسعى له ... فصار أباٌ لي وصرت الوليدا
قوله: " شبي"، يقال: شببت النار والحرب إذا أوقدتهما، يقال: شب يشب شباٌ، قال الأعشى:
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
وقوله:
ذا ما المسارح كانت جليدا
فالمسارح الطرق التي يسرحون فيها، واحدها مسرح، والجليد يقع من السماء، وهو ندى فيه جمود، فتبيض له الأرض، وهو دون الثلج، يقال له: الجليد، والضريب، والسقيط، والصقيع.
وقالو في قوله:
رجلا عقاب يوم دجن تضرب
أي يصيبها الضريب .
وقوله: " وصرت1 الوليد"،الوليد2: الصغير، وجمعه ولدان، وهو في القرآن3.
ونظير وليد وولدان ظليم وظلمان، وقضيب وقضبان، وباب" فعال فعلان"، نحو عقبان وذبان وغربان . وقولهم: "أمر لاينادى وليده"، يقال فيه قولان يتقاربان4، فأحدهما أنه لا يدعى له الصغار، والوجه الآخر لأصحاب المعاني، يقولون: ليس فيه وليد فيدعى، ونظير ذلك قول النابغة الجعدي:
سبقت صياح فراريجها ... وضرب5 نواقيس لم تضرب
ـــــــ
1 ر، س: "وكنت".
2 س: "فالوليد".
3 زيادات ر: "قوله عزوجل: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} "الواقعة 17".
4 ر: "متقاربان".
5 ر: "وصوت".
أي ليست ثم، ولكن هذا من أوقاتها .وقالت أخت طرفة بن العبد:
عددنا له ستاٌ وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيداٌ ضخما
فجعنا به لما رجونا إيابه ... على خير حال لا وليداٌ ولا قمحا
الوليد: ما ذكرنا، والقحم: الرجل المتناهي سناٌ ويقال ذلك في البعير قحم وقحر ومقلحم، ويقال للبعير خاصةٌ: قحارية، في وزن1 قراسية، وأنشد الأصمعي:
رأين قحماٌ شاب واقلحما ... طال عليه الدهر فاسلهما
المسلهم: الضامر.
ـــــــ
1 ر: "بوزن".
لرجل آخر يرثي ابنهوقال آخر لابنه يرثيه:
ومن عجب أن بت مستشعر الثرى ... وبت بما زودتني متمتعا
ولو أنني أنصفتك الود لم أبت ... خلافك حتى ننطوي في الثرى معا
إبراهيم بن عبد الله يرثي أخاه
وقال إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن يرثي أخاه محمداٌ:
أبا المنازل يا عبر الفوارس من ... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا
الله يعلم أني لو خشيتهم ... أو آنس القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوك ولم أسلم أخي لهم ... حتى نعيش جميعاٌ أو نموت معا
قوله: "يا عبر الفوارس، يصفه بالقوة منهم وعليهم، كما يقال: ناقة عبر الهواجر وعبر السرى"1.
وقوله:
أوآنس القلب من خوف لهم فزعا
ـــــــ
1 عبر الفوارس، من قولهم: ناقة عبر أسفار: إذا كانت قوية.
يقول: أحس، وأصل الإيناس في العين، يقال آنست شخصاٌ، أي أبصرته من بعد وفي كتاب الله عز وجل: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} 1 .
ـــــــ
1 سورة القصص 39.
لمتمم بن نويرة يرثي أخاهوقال متمم بن نويرة1:
وقالوا: أتبكي كل قبر رأيته ... لميتٍ ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت لهم: إن الأسى يبعث البكا2 ... ذروني فهذا كله قبر مالك3
الأسى: الحزن وقد مر تفسيره.
ـــــــ
1 زيادات ر: "يرثى أخاه"، وفي س قبل هذا البيت:
ومستضحك إذ لم يصب كمصيبتى ... وليس أخو الشجو الحزين بضاحك
2 ر: "الأسى".
3 في س بعد هذا البيت:
ألم تره فينا يقسم ماله ... ويأوى إليه مرملات الضرائك
لعلي بن عبد الله بن العباس يفخرقال علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رحمة الله ورضوانه عليه:
أبي العباس قرم بني قصي ... وأخوالي الملوك بنو وليعه
هم منعوا دماري يوم جاءت ... كتائب مسرف وبنو اللكيعة
أراد بي التي لا عز فيها ... فحالت دونه أيدٍ منيعه
قوله: "بنو وليعة"، فهم أخواله من كندة، وأمه زرعة بن مشرحٍ الكندية ثم إحدى بني وليعةٍ.
وقوله: "كتائب مسرفٍ" يعني مسلم بن عقبة المري صاحب الحرة، وأهل الحجاز يسمونه مسرفاً وكان أراد أهل المدينة جميعاً على أن يبايعوا يزيد بن معاوية على أن كل واحدٍ منهم عبد قن له إلا علي بن الحسين، فقال حصين بن نمير السكوني من كندة: "ولا يبايع ابن أختنا علي بن عبد الله إلا على ما يبايع عليه علي بن الحسين، على أنه ابن عم أمير المؤمنين، وإلا فالحرب بيننا، فأعفي علي بن عبد الله، وقبل منه ما أراد، فقال هذا الشعر لذلك.
وقوله: " بنو اللكيعة " ، فهي اللئيمة، ويقال في النداء للئيم: يا لكع، وللأنثى: يا لكاع، لأنه موضع معرفة، كما يقال: يا فسق ويا خبث، فإن لم ترد أن تعدله عن جهته قلت للرجل: يا ألكع، وللأنثى يا لكعاء، وهذا موضع لا تقع فيه النكرة، وقد جاء في الحديث والأصل ما ذكرت لك: " لا تقوم الساعة حتى يلي أمر الناس لكع ابن لكع " ، فهذا كناية عن اللئيم ابن اللئيم، وهذا بمنزلة عمر ينصرف في النكرة، ولا ينصرف في المعرفة. ولكاع يبنى على الكسر، وسنشرح باب " فعال " للمؤنث على وجوهه الأربعة عند أول ما يجري من ذكره إن شاء الله. وقد اضطر الحطيئة فذكر " لكاع " في غير النداء، فقال يهجو امراته:
أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى بيتٍ قعيدته لكاع
قعيدة البيت: ربة البيت، وإنما قيل قعيدة لقعودها وملازمتها، ويقال للفرس قعدة من هذا، وهو الذي يرتبطه صاحبه فلا يفارقه، قال الجعفي :
لكن قعيدة بيتنا مجفوةٌ ... بادٍ جناجن صدرها، ولها غنى
الجناجن : ما يظهر عن الهزال من أطراف الصدر، واحداها جنجنٌ.
لهشام أخي ذي الرمةوقال هشام أخو ذي الرمة:
تعزيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاءً وجفن العين بالماء مترع
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع
غيلان: هو ذو الرمة، وكان هشام من عقلاء الرجال. حدثني العباس بن الفرج في إسناده له1 يعزوه إلى رجل أراد سفراً، فقال: قال لي هشام بن عقبة.
إن لكل رفقةٍ كلباً يشركهم في فضله الزاد، ويهر دونهم، فإن قدرت ألا تكون كلب الرفقة فافعل، وإياك وتأخير الصلاة عن وقتها، فإنك مصليها لا محالة، فصلها وهي تقبل منك.
ـــــــ
1 ر، س: "في إسناد ذكره".
لحسان بن ثابت الأنصاري في لهوهوقال حسان بن ثابت الأنصاري:
تقول شعثاء1 لو صحوت عن الـ ... ـكأس لأصبحت مثري العدد
أهوى حديث الندمان في قلق الصـ ... ـبح وصوت المسامر الغرد
لا أخدش الخدش بالجليس ولا ... يخشى نديمي إذا انتشيت يدي
يأبى لي السيف واللسان وقو ... م لم يضاموا كلبدة الأسد
لبيدة الأسد: ما يتطارق من شعره بين كتفيه، ويقال: أسدٌ ذو لبدةٍ وذو لبيدٍ.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هي امرأته، وهو اسمها".
لجرير في مرضه حين عادته قيسوحدثني عمارة قال: مرض جريرٌ مرضةً شديدةً، فعادته قيس، فقال:
نفسي الفداء لقوم زينوا حسبي ... وإن مرضت فهم أهلي وعوداي
لو خفت ليثاً أبا شبلين ذا لبدٍ ... ما أسلموني لليث الغابة العادي
إن تجر طيرٌ بأمرٍ فيه عافيةٌ ... أو بالرحيل فقد أحسنتم زادي
لعبد الرحمن بن ثابت يهاجي عبد الرحمن بن الحكموقال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرامٍ، وهو يهاجي عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس:
فأما قولك: الخلفاء منا ... فهم منعوا وريدك من وداجي
ولو لا هم لكنت كحوت بحر ... هوى في مظلم الغمرات داج
وكنت أذل من وتد بقاع ... بشجج راسه بالفهر واجي1
فكتب معاوية إلى مروان أن يؤدنهما وكانا تقاذفا، فضرب عبد الرحمن بن حسان ثمانين، وضرب أخاه عشرين، فقيل لعبد الرحمن بن حسان: قد أمكنك في مروان ما تريد، فأشد بذكره، وارفعه إلى معاوية، فقال: إذاً والله
ـــــــ
1 الفهر: الحجر الذي يملأ الكف.
لا أفعل، وقد حدني كما تحد الرحل الأحرار، وجعل أخاه كنصف عبد. فأوجعه بهذا القول.
ويروى أن عبد الرحمن بن حسان لسعه زنبور فجاء أباه يبكي، فقال له: ما لك فقال: لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة. قال: قلت والله الشعر : ويروى أن معلمه عاقب صبياناً على ذنب وأراده بالعقوبة، فقال :
الله يعلم أني كنت منتبذاً ... في دار حسان أصطاد اليعاسيبا
وأعرق قوم كانوا في الشعر آل حسان فإنهم كانوا يعتدون ستة في نسق كلهم شاعر، وهم سعيد بن عبد الحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، وبعد هؤلاء في الوقت آل أبي حفصة، فإنهم أهل بيت كلهم شاعر، يتوارثونه كابراً عن كابر .
ويروى أن ابنة لابن الرقاع وقف بباب أبيها قوم يسألون عنه، فقالت: ما تريدون فقالوا: جئنا لنهاجيه فقالت وهي صبية.
تجمعتم من كل أوب ووجهة ... على واحد لا زلتم قرن واحد
فهذه بلغت بطبعها على صغرها مبلغ الأعشى في قلب هذا المعنى، حيث يقول لهوذة بن علي
يرى جمع ما دون الثلاثين قصرة ... ويعدو على حمع الثلاثين واحدا
باب
نبذ من كلام الحكماءقال أبو العباس: قال عمر بن الخطاب رحمه الله1: علموا أولادكم العوم والرماية، ومروهم فليثبوا على الخلل وثباً، ورووهم ما يجمل من الشعر. وفي حديث آخر: وخير الخلق للمرأة المغزل.
ويروى عن الشعبي أنه قال: قال عبد الله بن العباس: قال لي أبي: يا بني، إني أرى أمير المؤمنين قد اختصك دون من ترى من المهاجرين والأنصار، فاحفظ عني ثلاثاً: لا يجربن عليك كذباً، ولا تغتب عنده مسلماً، ولا تفشين له سراً، قال: فقلت له: يا أبه، كل واحدةٍ منها خير من ألف، فقال كل واحدة منها خير من عشرة آلاف.
وحدثني العباس بن الفرج في إسناد ذكره قال: نظرإلى عمرو بن العاص على بغلةٍ قد شمط2 وجهها هرماً، فقيل له: أتركب هذه وأنت على أكرم ناخرةٍ بمصر فقال: لا ملل عندي لدابتي ما حملت رجلي، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري، إن الملل من كواذب الأخلاق.
قوله: "على أكرم ناخرة" يريد الخيل، يقال للواحد ناخر، وقيل: ناخرة يراد جماعة، كما تقول: رجل بغال وحمار، والجماعة البغالة والحمارة، وكذلك تقول: أتتني عصبة نبيلة، وقبيلة شريفة، والواحد نبيل وشريف.
ـــــــ
1 ر، س: "رضي الله عنه".
2 شمط وجهها: ابيض.
مشاورة معاوية عمرو بن العاص
في أمر عبد الله بن هاشم بن عتبة
وشاور معاوية عمراً في أمر عبد الله بن هاشم بن عتبة بن مالك بن أبي وقاص وكان هاشم بن عتبة أحد فرسان1 علي رحمه الله فإتي بابنه معاوية، فشاور عمراً فيه، فقال، أرى أن تقتله، فقال له معاوية: إني لم أر في العفو إلا خيراً، فمضى عمرو مغضباً، وكتب إليه:
ـــــــ
1 زيادات ر: "وهو المرقال".
أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
أليس أبوه يا معاوية الذي ... أعان علياً1 يوم حز الغلاصم2
فقتلنا حتى جرى من دمائنا ... بصفين أمثال البحور الخضارم
وهذا ابنه، والمرء يشبه عيصه3 ... ويوشك أن تلفى4 به جد نادم
فبعث معاوية بأبياته إلى عبد الله بن هاشم، فكتب إليه عبد الله بن هاشم:
معاوية إن المرء عمراً أبت له ... ضغينه خب غشها غير نائم
يرى لك قتلي يا ابن هند وإنما ... يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم
على أنهم لا يقتلون أسيرهم ... إذا كان منه بيعة للمسالم
فإن تعف عني تعف عن ذي قرابةٍ ... وإن تر قتلي تستحل محارمي
فصفح عنه.
ـــــــ
1 كذا في الأصل، س. وفي ر: "علينا".
2 الغلاصم: الحلاقيم.
3 العيص: الأصل.
4 ر: "تلقى" بالقاف.
من كلام عمرو بن العاص لعائشةوقال عمرو لعائشة رحمة الله عليهما1: لوددت أنك كنت قتلت يوم الجمل فقالت: ولم لا أبا لك فقال: كنت تموتين بأجلك، وتدخلين الجنة، ونجعلك أكبر التشنيع على علي.
ـــــــ
1 ر: "رحمها الله".
ما قاله عمرو بن العاص حين احتضروحدثني العباس بن الفرج الرياشي في إسنادٍ ذكره، آخره "ابن عباس" قال: دخلت على عمرو بن العاص وقد احتضر، فدخل عليه عبد الله بن عمرو فقال له: يا عبد الله، خذ ذلك الصندوق، فقال: لا حاجة لي فيه1، قال إنه مملوء مالاً، قال: لا حاجة لي به، فقال عمرو: ليته مملوء بعراً قال: فقلت:
ـــــــ
1 س: "به".
: يا أبا عبد الله، إنك كنت تقول: أشتهي أن أرى عاقلاً يموت حتى أسأله كيف يجد فكيف تجدك قال: أجد السماء كأنها مطبقة على الأرض وأنا بينهما، وأراني كأنما أتنفس من خرت إبرةٍ، ثم قال: اللهم خذ مني حتى ترضى. ثم رفع يديه فقالت: اللهم أمرت فعصينا، ونهيت فركبنا فلا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، ولكن لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم فاظ.
وقد روينا هذا الخبر من غير ناحية الرياشي بأتم من هذا، ولكن اقتصرنا على هذا لثقة إسناده.
قوله: " من خرت إبرة " ، يعني من ثقب إبرةٍ، يقال للدليل: خريت. وزعم الأصمعي أنه أريد به أنه يهتدي لمثل خرت الإبرة.
وقوله: " فاظ " أي مات، يقال : فاظ، وفاد، وفطس، وفاز، وفوز، كل ذلك في معنى الموت، ولا يقال : بالضاد إلا للإناء، قال رؤية:
لا يدفنون منهم من فاظا
وقال ابن جريج: " أما رأيت الميت حين فوظه " .
ومن قال ذلك للنفس قال: فاضت نفسه، يشببها بالأناء.
وحدثني أبو عثمان المازني أحسبه عن أبي زيد قال: كل العرب يقولون: فاضت نفسه إلا بني ضبة فإنهم يقولون: فاظت نفسه، وإنما الكلام الصحيح فاظ بالظاء إذا مات.
وفي الحديث أن امرأة سلام بن أبي الحقيق قالت: فاظ، وإله يهود.
نبذ من أقوال الحكماءوحدثني مسعود بن بشر قال: قال زياد: الإمرة تذهب الحفيظة، وقد كانت من قوم إلي هنات جعلتها تحت قدمي، ودبر أذني، فلو بلغني أن أحدكم قد أخذه
السل من بغضي ما هتكت له ستراً ولا كشفت له قناعاً حتى يبدي لي عن صفحته، فإذا فعل لم أناظره.
وسمع زياد رجلاً يسب الزمان فقال: لو كان يدري ما الزمان لضربت عنقه، إن الزمان هو السلطان.
وفي عهد أزدشير: وقد1 قال الأولون منا: عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان.
وقال المهلب بن أبي صفرة لبنيه: إذا وليتم فلينوا للمحسن، واشتدوا على المريب، فإن الناس للسلطان أهيب منهم للقرآن.
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
قوله: "يزع" أي يكف، يقال: وزع يزع إذا كف، وكان أصله "يزع" مثل يعد فذهبت الواو لوقوعها بين ياء وكره واتبعت حروف المضارع الياء لئلا يختلف الباب، وهي الهمزة، والنون، والتاء، والياء نحو أعد ونعد، وتعد، ويعد، ولكن انفتحت في "يزع" من أجل العين لأن حروف الحلق إذا كن في موضع عين الفعل أو لامه فتحن في الفعل الذي ماضيه "فعل"، وإن وقعت الواو مما هي فيه فاء في "يفعل" المفتوحة العين في الأصل صح الفعل، نحو: وحل يوحل، ووجل يوجل، ويجوز في هذه المفتوحة ياحل وياجل وييحل وييجل، وكل هذا كراهية للواو بعد الياء، تقول: وزعته: كففته، وأوزعته: حملته على ركوب الشيء وهيأته له، وهو من الله عز وجل توفيق، ويقال: أوزعك الله شكره، أي وفقك له.
وقال الحسن مرة: ما حاجة هؤلاء السلاطين إلى الشرط فلما ولي القضاء كثر عليه الناس، فقال: لا بد للسلاطين2 من وزعة.
ـــــــ
1 س: "قد" بحذف الواو.
2 ر، س: "للناس".
خطبة الحجاج في أهل العراقوخطب الحجاج بن يوسف ذات يوم، يوم جمعة، فلما توسط كلامه سمع تكبيراً عالياً من ناحية السوق، فقطع خطبة التي كان فيها، ثم قال: يا أهل العراق، ويا أهل الشقاق، ويا أهل النفاق، وسيئي الأخلاق، يا بني اللكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، إني لأسمع تكبيراً ما يراد الله به، إنما يراد به الشيطان، وإن مثلي ومثلكم قول ابن براقة الهمداني:
وكنت إذا قوم رموني رميتهم ... فهل أتا في ذا يال همدان ظالم
متى تجمع القلب الذكي وصارماً ... وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم
[ثم نزل فصلى بهم]1.
قوله: "يا أهل الشقاق"، فالمشقة المعاداة، وأصله أن يركب ما يشق عليه، ويركب منه مثل ذلك. والنفاق أن يسر خلاف ما يبدي، هذا أصله، وإنما أخذ من النافقاء، وهو أحد أبواب: جحر اليربوع، وذلك أنه أخفاها فإنما يظهر من غيره، ولجحره أربعة أبواب: النافقاء والراهطاء والداماء والسابياء، وكلها ممدودة، ويقال للسابياء: القاصعاء، وإنما قيل له السابياء لأنه لا ينفذه فيبقي بينه وبين إنفاذه هنة من الأرض رقيقة، وأخذ من سابياء الولد، وهي الجلدة الرقيقة التي يخرج فيها الولد من بطن أمه. قال الأخطل يضرب ذلك مثلاً ليربوع بن حنظلة لأنه سمي باليربوع:
تسد القاصعاء عليك حتى ... تنفق أو تموت بها هزالاً2
والعرب تزعم أنه ليس من ضب إلا وفي جحره عقرب، فهو لا يأكل ولد العقرب، وهي لا تضربهفهي مسألمة له، وهو مسالم لها، وأنشد3:
ـــــــ
1 تكملة من ر.
2 تنفق: تخرج من نافقائه.
3 زيادات ر: "كلها بالمد، ويقال بالقصر، ويقال أيضا فيها على وزن فعله[بضم الفاء وفتح العين] نفقة ورهطة ودممة وقصعة.
وحكي ابن القوطية في المقصور والممدود له الرهطاء كالراهطاء، والنفقاء كالنافقاء، والقصعاء كالقصعاء.
وحكى أيضا زيادة فقال: العاتقاء، جحر الأرنب واليربوع، والغابياء أيضا جحرة اليربوع. وأما قول أبى العباس في السابياء، فهو مما قد ورد عليه فيه، وقد تبعة ابن ولاد، وكلاهما غير مصيب، وإنما السابياء وعاء فيه ماء صاف يخرج مع الولد وهو الفقْ، وليس يخرج الولد فيه وقال الكميت:
وفقا فيها الغيث من سابيائه ... دواح وافقن النجوم البواجسا
فشبه ماء الغيث بماء السابياء وإنما الجلدة التي يكون فيها الولد الغرس، وقد تبع ابن القوطية أبا العباس في السابياء في أنه من أسماء جحر اليربوع، وذلك غلط.
وأخدع من ضب إذا خاف حارشاً1 ... أعد له عند الذنابة عقربا
وقوله: "بنو اللكيعة" يريد اللئيمة، وقد مر تفسير هذا في موضعه، قال ابن قيس الرقيات يذكر قتل بن الزبير2:
إن الرزية يوم مسـ ... ـكين والمصيبة والفجيعة
بأبن الحواري الذي ... لم يعده أهل الوقيعه3
غدرت به مضر العرا ... ق، وأمكنت منه ربيعه
فأصبحت وترك يا ربيـ ... ـع وكنت سامعة مطيعة
يا لهف لو كانت له ... بالطف يوم الطف شيعه
أولم يخونوا عهده ... أهل العراق بنو اللكيعه
لو جدتموه حين يغـ ... ـضب لا يعرج بالمضيعه4
وقوله: "عبيد العصا "يريد أنهم لا ينقادون إلا بالإذلال5، كما قال ابن مفرغ الحميري:
العبد يقرع بالعصا ... والحر تكيفه الملامه
وقال جرير يهجو التيم:
ألا إنما تيم لعمرو ومالك ... عبيد العصا لم يرج عتقاً قطينها
ـــــــ
1 الحارش: صائد الضباب.
2 قتل مصعب بن الزبير سنة 72، قتله عبد الملك بن مروان بموضع يقال له مسكن على نهر جيل.
والأبيات في معجم البلدان. (54:8).
3 الحوارى في الأصل: الناصر، ويريد به الزبير بن العوام.
4 روايته في معم البلدان:
لوجدتموه حين يعـ ... ـدو لايعرس بالصنيعة
5 ر: "يريد أنهم لا ينقادون إل بالإذلال".
من كلام بن الأشعث حين ظهور الحجاج عليهوخطب الناس عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالمربد عند ظهور أمر الحجاج عليه فقال: أيها الناس، إنه لم يبق من عدوكم إلا كما يبقى من ذنب الوزغة تضرب به يميناً وشمالاً فلا تلبث أن تموت. فسمعه رجل من بني قشير بن كعب بن عامر بن صعصعة فقال: قبح الله هذا: يأمر أصحابه بقلة الاحتراس من عدوهم ويعدهم الغرور.
كلام عرار بن شأس لعبد الملك حينما حمل إليه رأس ابن الأشعثوروت الرواة أن الحجاج لما أخذ رأس ابن الأشعث وجه به إلى عبد الملك بن مروان مع عرار بن عمرو بن شأس الأسدي وكان أسود دميماً فلما ورد به عليه جعل عبد الملك لا يسأل عن شيئ من أمر الوقعة1 إلا أنبأه به عرار، في أصح لفظ، وأشبع قول، وأجزاء اختصار، فشفاه من الخبر، وملأ أذنه صواباً وعبد الملك لا يعرفه، وقد اقتحمته عينه حيث رآه فقال متمثلاً:
أرادت عراراً بالهوان ومن يرد ... لعمري عراراً بالهوان فقد ظلم2
وإن عراراً إن يكن غير واضح ... فإني أحب الجون ذا المنكب العمم
فقال له عرار: أتعرفني با أمير المؤمنين قال: لا، قال: فأنا والله عرار فزاده في سروره، وأضعف له الجائزة.
ـــــــ
1 ر: "الوقيعة".
2 البيتان لعمرو بن شأس، وانظر ديوان الحماسة لأبى تمام-بشرح التبريزى 272:1.
كتاب صاحب اليمن إلى عبد الملك في وقت محاربته ابن الأشعثوكتب صاحب اليمن إلى عبد الملك وقت محاربته ابن الأشعث: إني قد وجهت إلى أمير المؤمنين بجارية اشتريها بمال عظيم لم ير مثلها قط، فلما دخل بها عليه رأى وجهاً جميلاً وخلقاً نبيلاً فألقى إليها قضيباً كان في يده فنكست لتأخذه فرأى منها جسماً بهره، فلما هم بها أعلمه الآذن أن رسول الحجاج بالباب، فأذن له، ونحى الجارية، فأعطاه كتاباً من عبد الرحمن، فيه سطور أربعة:
سائل مجاور جرم: هل جنيت لها ... حرباً تزيل بين الجيرة الخلط1
ـــــــ
1 نسب أبو الفرج هذه الأبيات إلى وعلة الجرمى، وانظر الأغانى 140:19.
وهل سموت بجرار له لجب ... جم الصواهل بين الجم والفرط
وهل تركت نساء الحي ضاحيه ... في ساحة الدار يستوقدن بالغبط
وتحتها :
قتل الملوك وسار تحت لائه ... شجر العرى وعراعر الأقوام
قال: فكتب إليه عبد الملك كتاباً، وجعل في طيه جواباً لابن الأشعث:
ما بال من أسعى لأجبر عظمه ... حفاظاً وينوي من سفاهته كسري
أظن خطوب الدهر بيني وبينهم ... ستحملهم مني على مركب وعر
وإني إياهم كمن نبه القطا ... ولو لم باتت الطير لا تسري
أناة وحملماً وانتظر بهم غداً ... فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر
وينشد: " بالفاني " . ثم بات يقلب كف الجارية ويقول: ما أفدت فائدة أحب إلي منك، فتقول: فما بالك ياأمير المؤمنين وما يمنعك قال: يمنعني ما قال الأخطل لأني إن خرجت منه كنت ألأم العرب:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأظهار
فما إليك سبيل أو يحكم الله بيني وبين عدو الرحمن، ابن الأشعث، فلم يقربها حتى قتل عبد الرحمن .
قوله: " فرأى منها جسماً بهره " ، يقال: بهر الليل إذا سد الأفق بظلمته، وبهر القمر إذا ملأ الأرض ببهائه، ومن ثم قيل: القمر الباهر، أنشدني المازني لرجل من بني الحارث بن كعب:
والقمر الباهر السماء لقد ... زرنا هلالاً بجحفل لجب
تسمع زجر الكماة بينهم: ... قدم، وأخر، وأرحبي، وهبي
من كل هداءةٍ كعالية الر ... مح أمونٍ وشيظم سلب
وقال طفيل الغنوي يصف كيف تزجر الخيل، فجمعه في بيت واحد:
وقيل اقدمي واقدم وأخ وأخري ... وها، وهلاً واضرح وقادعها هبي قال أبو الحسن: وأج.
ومن زجر الخيل أيضاً: " هقب وهقط " ، وأنشدني المازني:
لما سمعت زجرهم هقط ... علمت أن فارساً منحط
وقوله: " بين الجم والفرط " هما موضعان بأعيانهما.
وقوله: " في ساحة الدار يستوقدن بالغبط " يقال فيه قولان متقاربان: أحدهما أنهن قد يئسن من الرحيل فجعلن مراكبهن حطباً، هذا قول الأصمعي. وقال غيره: بل قد منعهن الخوف من الاحتطاب، والغبيط من مراكب النساء: وكذلك الحدج قال امرؤ القيس :
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً: ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فأعلمك أن الغبيط لها، والمحامل إنما أول من اتخذها الحجاج، ففي ذلك يقول الراجز:
أول عبدٍ عمل المحاملا ... أخزاه ربي عاجلاً وآجلاً
وقوله: " شجر العرا " فالعرا : نبت إن ضم العين، والعراء ممدوداً وجه الأرض، قال الله عز وجل: " لنبذ بالعراء وهو مذوم " القلم : 49 . وقال الهذلي :
رفعت رجلاً لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي
وهذا التفسير والإنشاد عن أبي عبيدة.
وقوله: " دون النساء ولو باتت بأطهار " معناه أنه يجتنبها، في طهرها، وهو الوقت الذي يستقيم له غشيانها فيه، وأهل الحجاز يرون " الأقراء " الطهر، وأهل العراق يرونه الحيض، وأهل المدينة يجعلون عدد النساء الأطهار، ويحتجون بقول الأعشى:
وفي كل أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مؤرثه مالاً، وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وقوله: " ولو باتت بأطهار " ، ف " لو " أصلها في الكلام أن تدل على وقوع الشيء لوقوع غيره، تقول: لو جئتني لأعطيك، ولو كان زيد هناك لضربته، ثم يتسع فتصير في معنى " إن " الواقعة للجزاء تقول: أنت لا تكرمني ولو أكرمتك، تريد " وإن " قال الله عز وجل: " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " يوسف: 107، فأما قوله عز وجل: " فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به " آل عمران: 91 فإن تأويله عند أهل اللغة : لا يقبل أن يتبرأ به وهو مقيم على الكفر، ولا يقبل إن افتدى به، ف " لو " في معنى " إن " وإنما منع " لو " أن تكون من حروف المجازاة فتجزم كما تجزم " إن " أن حروف المجازاة إنما تقع لما لم يقع، ويصير الماضي معها في معنى المستقبل تقول: إن جئتني أعطيتك، وإن قعدت عني زرتك، فهذا لم يقع.،وإن كان لفظ الماضي لما أحدثته فيه " إن " وكذلك متى أتيتني أتيتك.،و " لو " تقع في معنى الماضي، تقول: لو جئتني أمس لصادفتني، ولو ركبت إلي أمس لألفيتني، فلذلك خرجت من حروف الجزاء،فإذا أدخلت معها " لا " صار معناها أن الفعل يمتنع لوجود غيره، فهذا خلاف ذلك المعنى، ولا تقع إلا على الأسماء، ويقع الخبر محذوفاً لأنه لا يقع فيها الأسم إلا وخبره مدلول عليه، فاستغني عن ذكره، لذلك تقول: لولا عبد الله لضربتك، والمعنى في هذا المكان: من قرابتك، أوصداقتك، أو نحو ذلك، فهذا معناها في هذا الوضع، ولها موضع آخر تكون فيه على غير هذا المعنى، وهي " لولا " التي تقع في معنى " هلا " للتحضيض، ومن ذلك قوله: " لولا إذا سمعتوه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً " ،النور 12 أي هلا، وقال الله عز وجل: " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم " .المائدة 63 فهذه لا يليها إلا الفعل.، لأنها للأمر والتحضيض، مظهراً أو مضمراً.،كما قال:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطري لولا الكمي المقنعا
أي هلا تعدون الكمي المقنعا، " ولولا " الأولى لا يليها إلا الاسم على ما ذكرت لك.،ولا بد في جوابها من اللام أو معنى اللام.، تقول: لولا زيدٌ فعلت، والمعنى لفعلت، وزعم سيبويه أن " زيداً " من حديث " لولا " واللام والفعل حديثٌ معلقٌ بحديث " لولا " ، وتأويله أنه للشرط الذي وجب من أجلها وامتنع لحال الاسم بعدها، و" لو " لا يليها إلا الفعل مضمراً أو مظهراً.، لأنها تشارك حروف الجزاء في ابتداء الفعل وجوابه، تقول: لو جئتني لأعطيتك.، فهذا ظهور الفعل، وإضماره، قوله عز وجل: " قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربي " .الإسراء100 والمعنى والله أعلم: لو تملكون أنتم.، فهذا الذي رفع " أنتم " ولما أضمر ظهر بعده ما يفسره، ومثل ذلك: " لو ذات سوارٍ لطمتني " أراد لو لطمتني ذات سوارٍ، ومثله:
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسماً
وكذلك قول جرير:
لو غيركم علق الزبير بحبله ... أدى الجوار إلى بني العوام
فنصب بفعل مضمر يفسره ما بعده، لأنها للفعل، وهو في التمثيل: لو علق الزبير غيركم، وكذلك كل شيء للفعل نحو: الاستفهام، والأمر، والنهي، وحروف الفعل نحو: " إذ وسوف " وهذا مشروح في الكتاب " المقتضب " على حقيقة الشرح. وأما قوله: " وعراعر الأقوام " فمعناها رؤوس الأقوام.، الواحد عرعرة، وعرعرة كل شيءٍ أعلاه، من ذلك كتاب يزيد بن المهلب إلى الحجاج بن يوسف: " وإن العدو نزلوا بعرعرة الجبل، ونزلنا بالحضيض " ، فقال الحجاج: ليس هذا من كلام يزيد، فمن هناك؟ قيل: يحيى بن يعمر، فكتب إلى يزيد أن يشخصه إليه.
الحجاج ويحيى بن يعمر
وزعم التوزي قال: قال الحجاج ليحيى بن يعمر: أتسمعني ألحن? قال: الأمير أفصح من ذلك! قال: فأعاد عليه القول وأقسم. فقال نعم، تجعل "أن" مكان "إن" ، فقال له: ارحل عني ولا تجاورني.
قال أبو العباس: هذا على أن يزيد لم تؤخذ عليه زلةٌ في لفظ إلا واحدةٌ، فإنه قال على المنبر - وذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب - فقال: "هذه الضبعة العرجاء" ، فاعتدت عليه لحناً، لأن الأنثى إنما يقال لها الضبع، ويقال للذكر الضبعان، فإذا جمع قيل ضبعان،وونما جمع على التأنيث دون التذكير، والباب على خلاف ذلك، لأن التأنيث لا زيادة فيه، وفي التذكير زيادة الألف والنون، فثني على الأصل، وأصل التأنيث أن يكون زائداً على بناء التذكير، أنه منه يخرج، مثل قائم وقائمة وكريم وكريمة، فمن حيث قلت للأنثى والذكر في التثنية كريمان على حذف الزيادة قلت: ضبعان، وتقول: له ابنان إذا
أردت: له ابن وابنة، ولا تقول: في الدار رجلان إذا أردت رجلاً وامرأة، إلا على قول من قال للأنثى رجلةٌ.، فقد جاء ذلك، قال الشاعر:
كل جارٍ ظل مغتبطاً ... غير جيراني بني جبله
خرقوا جيب فتاتهم ... لم يبالو حرمة الرجله
ولا يقال للناقة والجمل جملان، ولا الثوران للثور والبقرة1، لاختلاف الاسمين، إنما يكون ذلك فيما ذكرنا إلا في قول من قال للأنثى: ثورةٌ، قال الشاعر2:
جزى الله الأعورين ملامةً3 ... وعبدة4 ثفر الثورة المتضاجم 5
قال أبو الحسن: المتضاجم: المتسع.6
ـــــــ
1 ر: "ولا يقال للبقرة والثور ثوران".
2 هو الأخطل، والبيت في ديوانه 277.
3 الديوان: "مذمة".
4 في الديوان "وفردة".
5 ثفر الثورة: فرجها.
6 من ر.
باب
للراعي في النسيبقال أبو العباس: قال الراعي:
ومرسلٍ ورسولٍ غير متهمٍ ... وحاجةٍ غير مزجاةٍ من الحاج
طاوعته بعد ما طال النجي بنا ... وظن أني عليه غير منعاج
ما زال يفتح أبواباً ويغلقها ... دوني، وأفتح باباً بعد إرتاج
حتى أضاء سراجٌ دونه بقرٌ ... حمر الأنامل عينٌ طرفها ساج
يا نعمها ليلةً حتى تخونها ... داعٍ دعا في فروع الصبح شحاج!
لما دعا الدعوة الأولى فأسمعني ... أخذت بردي واستمررت أدراجي
قوله:
وحاجة غير مزجاة من الحاج
المزجاة: اليسيرة الخفيفة المحمل، قال الله عز وجل: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} 1، والحاج: جمع حاجةٍ، وتقديره فعلةٌ وفعل، كما تقول: هامةٌ وهام، وساعة وساع، قال القطامي:
وكنا كالحريق أصاب غاباً ... فيخبو ساعةً ويشب ساعا
فإذا أراد أدنى العدد قلت: ساعات، فأما قولهم: في جمع حاجةٍ حوائج فليس من كلام العرب على كثرته على ألسنة المولدين، ولا قياس له، ويقال: في قلبي منك حوجاء، أي حاجة، ولو جمع، على هذا لكان الجمع حواجٍ يا فتى، وأصله حواجي يا فتى، ولكن مثل هذا يخفف، كما تقول في صحراء: صحار يا فتى، وأصله صحاري.
وقوله:
طاوعته بعدما طال النجي بنا
ـــــــ
1 سورة يوسف 88.
يريد المناجاة، فأخرجه على لفظ: "فعيل"، ونظيره من المصادر الصهيل، والنهيق، الشحيج، ويقال: شب الفرس شبيباً، ولذلك كان "النجي" يقع على الواحد والجماعة نعتاً، كما تقول: امرأة عدلٌ ورجل عدلٌ وقوم عدلٌ: لأنه مصدر قال الله عز وجل: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} 1، أي مناجياً، وقال للجماعة: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً} 2 أي متناجين.
وقوله: "منعاج": أي منعطف، يقال3: عجت عليه أي عرجت عليه، وعجت إليه أعيج، أي عولت عليه.
وقوله: "بعد إرتاج" أي بعد إغلاق، يقال: أرتجت الباب إرتاجاً، أي أغلقته إغلاقاً، ويقال: لغلق الباب الرتاج، ويقال للرجل إذا امتنع عليه الكلام أرتج عليه.
وقوله:
حتى أضاء سراج دونه بقرٌ
يعني نساء، والعرب تكني عن المرأة بالبقرة والنعجة، قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} 4 وقال الأعشى:
فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها
وقوله: "عينٌ"، إنما هو جمع عيناء، وهي الواسعة العين، وتقديره: "فعل"، ولكن كسرت العين لتصح الياء، ونحو ذلك بيضاء وبيض، وتقديره حمراء وحمر، ولو كان من ذوات الواو لكان مضموماً على أصل الباب، لأنه لا إخلال فيه، تقول: سوداء وسود، وعور. وقوله: "طرفها ساج" ولم يقل: "أطرافها" لأن تقديرها تقدير المصدر، من طرفت طرفاً، قال الله عز وجل: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} 5
ـــــــ
1 سورة مريم 52.
2 سورة يوسف 80.
3 ر: "تقول".
4 سورة ص 23.
5 سورة البقرة 7.
لأن السمع في الأصل مصدر. قال جرير:
إن العيون التي في طرفها مرضٌ ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وقوله: "ساج "أي ساكن، قال الله عز وجل: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} 1 وقال جرير:
ولقد رمينك يوم رحن بأعينٍ ... يقتلن من خلل الستور سواج
وقال الراجز:
يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرقٌ مثل ملاء النساج
وقوله: "حتى تخونها": يريد تنقصها، يقال: تخونني السفر، أي تنقصني، والداعي: المؤذن.
وقوله: "شحاج"، إنما هو استعارة في شدة الصوت، وأصله للبغل، والعرب تستعير من بعضٍ لبعض، قال العجاج ينعت حماراً:
كأن في فيه إذا ما شحجا ... عوداً دوين اللهوات مولجا
وقال جرير:
إن الغراب بما كرهت لمولعٌ ... بنوى الأحبة دائم التشحاج
وقوله: "واتمررت أدراجي" أي فرجعت من حيث جئت، تقول العرب: رجع فلان أدراجه، ورجع في حافرته، ورجع عوده على بدئه، وإن شئت رفعت فقلت: رجع عوده على بدئه، أما الرفع فعلى قولك: رجع وعوده على بدئه، أي وهذه الحاله، والنصب على وجهين: أحدهما أن يكون مفعولاً كقولك: رد عوده على بدئه، والوجه الآخر أن يكون حالاً في قول سيبويه، لأن معناه رجع ناقضاً مجيئه، ووضع هذا في موضعه، كما تقول: كلمته فاه إلي في، أي مشافهةً، وبايعته يداً بيدٍ، أي نقداً، ويجوز أن تقول: فوه إلى في: أي وهذه حاله، ومن نصب فمعناه في هذه الحال.
ـــــــ
1 سورة الضحى 2،1.
قال أبو العباس: فأما "بايعته يداً بيدٍ "فلا يكون فيه إلا النصب، لأنك لست تريد بايعته ويدٌ بيدٍ كما كنت تريد في الأول، وإنما تريد النقد، ولا تبالي: أقريباً كان أم بعيداً.
لأعرابي يشكو حبيبتهؤقال أعرابي:
شكوت فقالت كل هذا تبرما ... بحبي! أراح الله قلبك من حبي
فلما كتمت الحب قال: لشدما ... صبرت، وما هذا بفعل شجي القلب
وأدنو فتقصيني فأبعد طالباً ... رضاها، فتعتد التباعد من ذنبي
فشكواي تؤذيها وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي، وتنفر من قربي
فيا قوم من حيلة تعرفونها؟ ... أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربي
قوله: "كل هذا تبرماً"، مردود على كلامه، كأنها تقول له: أشكوتني كل هذا تبرما ولو رفع رافع" كلا" لكان جيداً، يكون "كل هذا "ابتداء1 وتبرم خبره.
وشجي مخفف، من شددها فقد أخطأ، والمثل: "ويل للشجي من الخلي"، الياء في الشجي مخففة، وفي "الخلي" مثقلة، وقياسه أنك إذا قلت: فعل يفعل فعلاً، فالاسم منه على فعل، فرق يفرق فرقاً فهو فرق، وحذر يحذر حذراً فهو حذرٌ، وبطر يبطر بطراً فهو بطرٌ فعلى هذا شجي يشجى شجى فهو شجٍ يا فتى، كما تقول: هوي يهوى فهو هوٍ يا فتى.
وقوله:
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها
موضع "تعرفونها" خفضٌ، لأنه نعت للحيلة وليس بجواب، ولو كان ههنا شرط يوجب جواباً لا نجزم، تقول: ائتني بدابة أركبها، أي بدابةٍ مركوبة، فإذا
ـــــــ
1 ر، س: "مبتدأ".
أردت معنى: فإنك إن أتيتني بدابة ركبتها قلت: "أركبها"، لأنه جواب الأمر، كما أن الأول جواب الاستفهام، وفي القرآن: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 1، أي مطهرة لهم، وكذلك: {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً} 2 أي كائنة لنا عيداً، وفي الجواب: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} 3، أي إن تركوا خاضوا ولعبوا، وأما قوله عز وجل: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} 4 فإنما هو فذرهم في هذه الحال لأنهم كانوا يلعبون، وكذلك: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} 5، إنما هو [لا تمنن6] مستنكثراً فمعنى هذا: هل معروفة عندكم?
ـــــــ
1 سورة التوبة 103.
2 سورة المائدة 114.
3 سورة الزخرف 83.
4 سورة الأنعام 91.
5 سورة المدثر 6.
6 من ر، س.
لأعرابي في الملحوقال أعرابي أنشدنيه أبو العالية:
ألاتسأل ذا العلم ماالذي ... يحل من التقبيل في رمضان؟
فقال لي المكي: أما لزوجةٍ ... فسبع، وأما خلةٍ فثماني
قوله: "خلةٍ" يريد ذات خلة، ويكون سماها المصدر، كما قالت الخنساء:
فإنما هي إقبال وإدبار1
يجوز أن تكون نعتتها بالصدر لكثرته منها، ويجوز أن تكون أرادت ذات إقبال وإدبار، فحذفت المضاف وأقامت المضاف إليه مقامه، كما قال عز وجل: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} 2 فجائز أن يكون المعنى بر من آمن بالله، وجائز أن يكون ذا البر من آمن بالله، والمعنى يؤول إلى شيء واحد.
ـــــــ
1 صدره
ترتع مارتعت حتى إذا اد كرت
2 سورة البقرة 177.
وفي هذا الشعر عيب، وهو الذي يسميه النحويون العطف على عاملين، وذلك أنه عطف "خلةٌ" على اللام الخافضة لزوجة، وعطف "ثمانيا" على "سبع"، ويلزم من قال هذا أن يقول: مر عبد الله بزيد وعمرو وخالد، ففيه هذا القبح، وقد قرأ بعض القراء وليس بجائز عندنا: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ آَيَاتٍ} 1 فجعل "آيات" في موضع نصب وخفضها لتاء الجميع فحملها على "إن" وعطفها بالواو، وعطف "اختلافا" على "في" ولا أرى ذا في القرآن جائزاٌ لإنه ليس بموضع ضرورة، وأنشد سيبويه لعدي بن زيد العبادي2:
أكل امرىء تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا
فعطف على "امرئ" وعلى المنصوب الأول .
"قال أبو الحسن: وفيه عيب آخر أن "أما" ليست من العطف في شيء، وقد أجرى"خلة" بعدها مجراها بعد حروف العطف حملاً على المعنى، فكأنه قال: لزوجةٍ كذا ولخلة كذا.
"وقوله: "أما لزوجة" فهذه مفتوحة، وهي التي تحتاج إلى خبر، ومعناها: إذا قلت: أما زيدٌ فمنطلقٌ مهما يكن من شيء فزيدٌ منطلقٌ. وكذلك: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} 3 إنما هي: مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم، وتكسر إذا كانت في معنى "أو" ويلزمها التكرير، تقول: ضربت إما زيداً وإما عمراً، فمعناه ضربت زيداً أو عمراً، وكذلك: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 4، وكذلك: {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} 5، و{إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} 6، وإنما كررتها لأنك إذا
ـــــــ
1 سورة الجاثية 5.
2 زيادات ر: "الصحيح أنه لأبى داؤد الإيادى".
3 سورة الضحى 9.
4 سورة الدهر 3.
5 سورة مريم 75.
6 سورة الكهف 86.
قلت: ضربت زيداً أو عمراً، أو قلت: اضرب زيداً أو عمراً فقد ابتدأت بذكر الأول، وليس عند السامع أنك تريد غير الأول، ثم جئت بالشك، أو التخيير، وإذا قلت: ضربت إما زيداً وإما عمراً، فقد وضعت كلامك بالابتداء على التخيير أو على الشك، وإذا قلت: ضربت إما زيداً وإما عمراً، فالأولى وقعت لبنية الكلام عليها، والثانية للعطف، لأنك تعدل بين الثاني والأول، فإنما تكسر في هذا الموضع.
وزعم سيبويه أنها إن ضمت إليها "ما" فإن اضطر شاعر فحذف "ما" جاز له ذلك لأنه الأصل، وأنشد في مصداق ذلك1:
لقد كذبتك نفسك فاكذبنها ... فإن جزعاً وإن إجمال صبر
ويجوز في غير هذا الموضع أن تقع "إما" مكسورة، ولكن "ما" لاتكون لازمة، ولكن تكون زائدة في "إن" التي هي للجزاء. كما تزداد في سائرالكلام نحو: أين تكن أكن، وأينما تكن أكن، وكذلك متى تأتني آتك، ومتى ما تأتني آتك،فتقول: إن تأتني آتك، وإما تأتني آتك، تدغم النون في الميم لاجتماعهما في الغنة، وسنذكر الإدغام في موضع نفرده به إن شاء الله، كما قال امرؤالقيس2:
فإما تريني لاأغمض ساعةٌ ... من الليل إلا أن أكب فأنعسا
فيارب رب مكروب كررت وراءه ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا
وفي القرآن: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} 3 وقال: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} 4 فأنت في زيادة "ما" بالخيار في جميع حروف الجزاء، إلا في حرفين، فإن "ما" لابد منها لعلة نذكرها إذا أفردنا باباٌ للجزاء إن شاء الله، والحرفان: حيثما تكن أكن،كما قال الشاعر:
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو دريد بن الصمة الجشمى".
2 كذا في ر، وفي س: "كما قال الشاعر".
3 سورة مريم 26.
4 سورة الإسراء 28.
حيثما تستقم يقدرلك الله ... نجاحاٌ في غابر الأزمان
والحرف الثاني" إذاما" كما قال العباس بن نرداس:
إذ ما أتيت على الرسول فقل له ... حقاٌ عليك إذا اطمأن المجلس
لايكون الجزاء في" حيث" و"إذ" إلا بما.
قال أبو العباس: وأنشدني أبو العالية:
سل المفتي المكي هل في تزاور ... ونظرة مشتاق الفؤاد جناح
فقال: معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراح
وأنشد لبعض المحدثين:
تلاصقنا وليس بنا فسوق ... ولم يرد الحرام بنا اللصوق
ولكن التباعد طال حتى ... توقد في الضلوع بنا حريق
فلما أن أتيح لنا التلاقي ... تعانقنا كما اعتنق الصديق
وهل حرجاٌ تراه أو حراماٌ ... مشوق ضمه كلف مشوق1
وأنشدني غيره:
وماهجرتك النفس يامي أنها ... قلتك ولا أن قل منك نصيبها
ولكنهم يا أملح الناس أولعوا ... بقول إذا ما جئت: هذا حبيبها
أنها في موضع نصب، وكان التقدير "لأنها"، فلما حذفت اللام وصلا الفعل، فعمل، تقول: جئتك أنك تحب الخير، فمعناه لأنك، وكذلك أتيتك أن تأمر لي بشيء، أي لأن وتقديره في النصب أن: "أن" الخفيفة والفعل مصدر: نحو:
ـــــــ
1 الأبيات الواقعة بين العلامتين لم ترد في نسخة الأصل ووردت في س بين علامتى الزيادة.
أريد أن تقوم يا فتى، أى قيامك و"أن" الثقيلة واسمها وخبرها مصدر، تقول بلغني أنك منطلق، أي انطلاقك، فإذا قلت: جئتك أنك تريد الخير، فمعناها إرادتك الخير: أي مجيئي لأنك تريد الخير إرادة يافتى، كما قال الشاعر1:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
قوله:
وأغفرعوراء الكريم ادخاره
أي أدخره ادخاراٌ، وأضافه إليه، كما ثقول: ادخاراٌ له، وكذلك قوله:" تكرماٌ" إنما أراد للتكرم فأخرجه مخرج أتكرم تكرماٌ .
قال أبو العباس: وأنشدني أبو العالية2:
مازلت أبغي الحي أتبع ظلهم ... حتى دفعت إلى ربيبة هودج
قالت: وعيش أبي وأكبر إخوتي ... لأنبهن الحي إن لم تخرج
فخرجت خفية قولها، فتبسمت ... فعلمت أن يمينها لم تخرج
فلثمت فاها آخذاٌ بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وزاد فيها الجاحظ عمرو بن بحر:
وتناولت رأسي لتعرف مسه ... بمخضب الأطراف غير مشنج3
تقول العرب: هودج، وبنو سعد زيد مناة ومن وليهم يقولون فودج. وقوله:
فعلمت أن يمينها لم تحرج
يقول: لم تضق عليها، يقال: حرج يحرج إذا دخل في مضيق والحرجة: الشجر الملتف المتضايق ما بينه، قال الله عز وجل: {فَلا يَكُنْ فِي
ـــــــ
1 زيادات ر: هو حاتم الطائى، والبيت في ديوانه.
2 زيادات ر: "قيل إن الشعر لعروة بن أذنية" وفي حواشى الأصل إنه لجميل بن عبد الله بن معمر.
3 من التشنج وهو التقبض.
صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} 1 وقال تعالى: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} 2 وقرىء "حرجاٌ"، فمن قال: "حرجاٌ "أراد التوكيد للضيق، كأنه قال: ضيق شديد الضيق. ومن قال: "حرجاٌ" جعله مصدراٌ، مثل قولك: ضيق ضيقاٌ. وقوله: "ببرد ماء الحشرج" فهو الماء الجاري على الحجارة.
ـــــــ
1 سورة الأعراف 2.
2 سورة الأتعام 125.
لقيس بن معاذ في النسيبوقال قيس بن معاذٍ أحد بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وهو المجنون وحدثني عبد الصمد بن المعذل قال: سمعت الأصمعي يثبته ويقول: لم يكن مجنوناٌ، إنما كانت به لوثة كلوثة أبي حية3:
ولم أر ليلى بعد موقف ساعةٍ ... ببطن منى ترمي جمار المحصب
ويبدي الحصا منها إذا قذفت به ... من البرد أطراف البنان المخضب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
ألا إنما غادرت يا أم مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب
هذا البيت من أعجب ما قيل في النحافة.
ومما يستطرف في هذا الباب قول عمر بن أبي ربيعة:
رأت رجلاٌ أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر
أخا سفر جواب أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعثٌ أغبر
قليلاٌ على ظهر المطية ظله ... سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
ومن هذا الباب قول القائل4:
فأصبحت في أقصى البيوت يعدنني ... بقية ما أبقين نصلاٌ يمانيا
ـــــــ
1 سورة الأعراف 2.
2 سورة الأتعام 125.
3 زيادات س، ر بعد هذه الكلمة: "النميري، وهو من أشعر الناس، ومن شعره".
4 زيادات ر: "هو قيس بن معاذ مجنون بنى عامر الذي تقدم ذكره لابن الأبرش".
بقية بدل من الياء في يعدنني بدل الاشتمال
تجمعن من شتى، ثلاثٌ وأربعٌ ... وواحدةٌ حتى كملن ثمانيا1
يعدن مريضاٌ هن هيجن ما به ... ألا إنما بعض العوائد دائيا
وفي هذا الباب أشياء كثيرة تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى، ومن الإفراط فيه قوله:
فلو أن ما أبقيت مني معلقٌ ... بعود ثمام ما تأود عودها
الثمام: نبت ضعيف، واحدته ثمامة، وهذا متجاوز كقول القائل:
ويمنعها من أن تطير زمامها
وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبه، وأحسن منه ما أصاب به الحقيقة، ونبه فيه بفطنته على ما يخفى عن غيره، وساقه برصفٍ قوي واختصار قريب.
وقال قيس بن معاذ:
وأخرج من بين الجلوس لعلني ... أحدث عنك النفس في السر خاليا
وإني لأستغشي وما بي نعسة ... لعل خيالاٌ منك يلقى خياليا
وفي هذا الشعر:
أشوقاٌ ولما تمض لي غير ليلةٍ ... رويد الهوى حتى تغب لياليا
هذا من أحسن الكلام واوضحه معنى.
ويستحسن لذي الرمة قوله في مثل هذا المعنى:
أحب المكان القفر من أجل أنني ... به أتغنى باسمها غير معجم
ـــــــ
1 مابين العلامتين لم ترد في الأصل، وهى في س وزيادات ر.
لبعض القرشيينوأنشد1 ابن عائشة لبعض القرشيين2:
وقفوا ثلاث منى بمنزل غبطةٍ ... وهم على غرض هنالك ما هم
متجاورين بغير دار إقامةٍ ... لو قد أجد تفرقٌ لم يندموا3
ولهن بالبيت العتيق لبانةٌ ... والركن يعرفهن لو يتكلم
لو كان حياٌ قبلهن ظعائناٌ ... حيا الحطيم وجوههن وزمزم
وكأنهن وقد صدرن لواغباٌ ... بيض بأفنية المقام مركم
اللاغب المعيي، قال الله عز وجل: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 4 والمركم: الذي بعضه على بعض، والمرأة تشبه ببيضة النعامة كما تشبه بالدرة، قال الله عز وجل: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} 5 والمكنون: المصون، والمكن: المستور، يقال: أكننت السر، قال الله عز وجل: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 6 وقال أبو دهبل، وأكثر الناس يرويه لعبد الرحمن بن حسان7:
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغو ... اص ميزت من جوهر مكنون
وقال ابن الرقيات:
واضحٌ لونها كبيضة أدحي ... لها في النساء خلقٌ عميم
العميم: التام، والأدحي: موضع بيض النعامة خاصة، وشعر عبد الرحمن هذا شعر مأثور مشهور عنه.
ـــــــ
1 ر: "وأنشدنى".
2 حاشية الأصل: الشعر لابن أذنية، وانظر الأغانى 110:21.
3 زيادات ر: "يعنى طواف الوداع، وقوله: "ثلاث منى" أراد أيام النفر، وأخرجه على الليالى، وقوله: "لم يندموا" لأنهم يرجعون إلى أوطانهم".
4 سورة ق 38.
5 سورة الصافات 49.
6 سورة البقرة 235.
7 زيادات ر: "ابن ثابت الأنصارى".
لعبد الرحمن بن الأشعث في بنت معاويةوروى بعض الرواة أن أبا دهبل الجمحي كان تقياٌ وكان جميلاٌ، فقفل من الغزو ذات مرة، فمر بدمشق، فدعته امرأةٌ إلى أن يقرأ لها كتاباٌ، وقالت: إن صاحبته في هذا القصر، وهي تحب أن تسمع ما فيه، فلما دخلت به برزت له امرأةٌ جميلة، وقالت له: إنما احتلت لك بالكتاب حتى أدخلتك. فقال لها: أما الحرام فلا سبيل إليه، فقالت: فلست تراد حراماٌ، فتزوجته، وأقام عندها دهراٌ حتى نعي بالمدينة، ففي ذلك يقول وقد استأذنها ليلم بأهله ثم يعود، فجاء وقد اقتسم ميراثه، فلما هم بالعود إليها نعيت له، فهذا ما روي من هذا الوجه والذي كأنه إجماع أنه لعبد الرحمن بن حسان، وهو في بيت معاوية1:
صاح حيا الإله أهلاٌ وداراٌ ... عند أصل القناة من جيرون
هن يساري إذا دخلت من البا ... ب وإن كنت خارجاٌ فيميني
فبتلك ارتهنت بالشأم حتى ... ظن أهلي مرجمات الظنون
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا ... ص ميزت من جوهر مكنون
إذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناءٍ من المكارم دون
ثم خاصرتها إلى القبة الخضر ... راء تمشي في مرمرٍ مسنون
تجعل المسك واليلنجوج والنـ ... ـد صلاءً لها على الكانون
قبةٌ من مراجلٍ ضربتها ... عند برد الشتاء في قيطون
المسنون: المصبوب على استواء. والمراجل: ثياب من ثياب اليمن، قال العجاج:
بشيةٍ كشية الممرجل
والقيطون: البيت في جوف بيت.
وقال آخر:
وأبصرت سعدى بين ثوبي مراجلٍ ... وأثواب عصبٍ من مهلهلة اليمن
ـــــــ
1 زيادات ر: "ابن أبى سفيان".
ويروى أن يزيد بن معاوية قال لمعاوية: أما سمعت قول عبد الرحمن بن حسان في ابنتك? قال: وما الذي قال? قال: قال:
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا ... ص ميزت من جوهر مكنون
قال معاوية: صدق، فقال يزيد: وقال:
وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناءٍ من المكارم دون
قال: "1صدق، فقال1" إنه قال:
ثم حاصرتها إلى القبة الخضر ... راء تمشي في مرمر مسنون
قال معاوية: كذب.
ـــــــ
1 ر، س: "قال معاوية. صدق فقال يزيد".
باب
عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب عند رسول اللهقال أبو العباس: حدثني مسعود بن بشر، قال: حدثني محمد بن حربٍ، قال: أتى عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكساه حلةً وأقعده إلى جانبه، ثم قال: "إنه ابن أمي، وكان أبوه يرحمني" 1 .
ـــــــ
1 زيادات ر: الزبير أخو عبد الله بن عبد المطلب شقيقه.
لرجل من بني ضبة يخاطب بني تميمقال: وأنشدني مسعود قال: أنشدني طاهر بن علي بن سليمان قال: أنشدني منصور بن المهدي لرجل من بني ضبة بن أد، يقوله لبني تميم بن مُر بن أُدّ:
أبني تميم إنني أنا عمكم ... لا تحرمن نصيحة الأعمام
إني أرى سبب الفناء وإنما ... سبب الفناء قطيعة الأرحام
فتداركوا بأبي وأمي أنتم ... أحسابكم1 برواجح الأحلام
ـــــــ
1 ر، س: "أرحامكم" وفي زيادات ر: "كذا أنشد: أرحامكم، ويروى: أحسابكم".
خطبة عبد الله بن الزبير حين ورد عليه خبر قتل أخيه مصعب
ويروى أنه أتى عبد الله بن الزبير[خبر]1 قتل مصعب بن الزبير خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنه أتانا خبر قتل المصعب فسررنا به، واكتأبنا [له]1، فأما السرور فلما قدر له من الشهادة. وحيز له من الثواب، وأما الكآبة فلوعةٌ يجدها الحميم عند فراق حميمه، وإنا لله ما نموت حبجاً كميتة آل أبي العاص، إنما نموت قتلاً بالرماح، وقعصاً تحت ظلال السيوف، فإن يهلك المصعب فإن في آل الزبير منه خلفاً.
قوله: "حبجاً" ، يقال: حبج بطنه، إذا انفتخ، وكذلك حبط بطنه. المقعص: المقتول. واللوعة: الحرقة، يقال: لاع يلاع لوعة يا فتى فهو لائع، ويقال: لاع يافتى، على القلب، وأنشد أبوزيد:
ولا فرحٍ بخيرٍ إن أتاه ... ولا جزعٍ من الحدثان لاع
ـــــــ
1 زيادة من ر.
من كلام زيادقال: وحدثني مسعود في إسنادٍ ذكره قال: قال زياد لحاجبه: يا عجلان، إني وليتك هذا الباب، وعزلتك عن أربعة. عزلتك عن هذا المنادي إذا دعا للصلاة فلا سبيل لك عليه، وعن طارق الليل فشرٌ ما جاء به، ولو جاء بخير ما كنت من حاجته، وعن رسول صاحب الثغر فإن إبطاء ساعةٍ يفسد تدبير سنة، وعن هذا الطباخ إذا فرغ من طعامه.
قال: وحدثني مسعود قال: قال زياد: يعجبني من الرجل إذا سيم خطة الضيم أن يقول: "لا" بملء فيه، وإذا أتى نادي قومٍ علم أين ينبغي لمثله أن يجلس فجلس، وإذا ركب دابة حملها ما تحب ولم يبعثها إلى ما تكره.
بلاغة جعفر بن يحيىوكتب إلى جعفر بن يحيى: إن صاحب الطريق قد اشتط فيما يطلب من الأموال، فوقع جعفر: هذا رجل منقطع عن السلطان، وبين ذؤبان العرب بحيث العدد والعدة، والقلوب القاسية، والأنوف الحمية، فليمدد من المال بما يستصلح به من معه ليدفع به عدوه، فإن نفقات الحروب يستظهر لها. ولا يستظهر عليها.
ورفع قوم إليه1 شكية عاملهم. فوقع في قصتهم2: يا هذا، قد كثر شاكوك، [وقل حامدوك]3 ، فإما عدلت، وإما اعتزلت.
وزعم الجاحظ قال: قال ثمامة4 بن أشرس النميري: ما رأيت رجلاً أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون.
وقال مويس بن عمران: ما رأيت رجلاً أبلغ من يحيى بن خالد، وأيوب بن جعفر.
وقال جعفر بن يحيى لكتابه: إن قدرتم أن تكون كتبكم كلها توقيعاتٍ فافعلوا.
ـــــــ
1 ر، س: "وأكثر الناس شكية عامل".
2 كلمة "قصتهم" لم ترد في س.
3 تكملة من ر.
4 س: "ثمامة الأشرس".
نبذ من الأقوال الحكيمةوقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو تكاشفتم ما تدافنتم".
يقول: لو علم بعضكم سريرة بعض لاستثقل تشييعه ودفنه.
وقال عليه السلام: "اجتنبوا القعود على الطرقات، إلاأن تضمنوا أربعاٌ: رد السلام وغض الأبصار، وإرشاد الضال وعون الضعيف".
وقالت هند بنت عتنة: إنما النساء أغلال، فليختر الرجل غلاٌ ليده.
وذكرت هند بنت المهلب بن أبي صفرة النساء فقالت: ما زين بشيء كأدب بارع، تحته لب ظاهر.
وقالت هند بنت المهلب بن أبي صفرة[أيضا]1: إذا رأيتم النعم مستدرة فبادروا بالشكر قبل حلول الزوال.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "افصلوا بين حديثكم بالاستغفار".
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: قيدوا النعم بالشكر، وقيدوا العلم بالكتاب .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه2: العجب لمن يهلك والنجاة معه، فقيل: كيف يا أمير المؤمنين? قال: الاستغفار.
وقال الخليل بن أحمد: يعني الخليل: كن على مدارسة ما في قلبك أحرص منك على حفظ ما في كتبك .
وقال ابن أحمد يعني الخليل: اجعل ما في كتبك رأس مال، وما في صدرك للنفقة.
وقيل لنصر بن سيار: إن فلاناٌ لا يكتب، فقال: تلك الزمانة الخفية.
وقال نصر بن سيار لولا أن عمر بن هبيرة كان بدوياٌ ما ضبط عمال العراق وهو لا يكتب .
ـــــــ
1 تكملة من ر.
2 ر: "رضوان الله عليه".
وفادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رأى فداءه من أسرى بدرٍ، فمن لم يكن له فداءٌ أمره أن يعلم عشرة من المسلمين الكتابة، ففشت الكتابة بالمدينة.
ومن أمثال العرب: خير العلم ما حوضر به، يعني1: ما حفظ وكان2 للمذاكرة.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاتزال أمتي صالحاٌ أمرها ما لم تر الفيء مغنماً، والصدقة مغرماً".
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: "يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل3، ولا يظرف فيه إلا الفاجر، ولا يضعف فيه إلا المنصف، يتخذون الفيء مغنماً، والصدقة مغرماً، وصلة الرحم مناً، والعبادة استطالةً على الناس، فعند ذلك يكون سلطان النساء، ومشاورة الإماء، وإمارة الصبيان" .
ـــــــ
1 ر: "يمنى".
2 ر: "مكان".
3 زياداتر: "الماحل: الواشي، يقال: محل فلان بفلان إذا وشى به ومكر".
نبذ من أخبار الحجاجويروى عن محمد بن المنتشر بن الأجدع الهمداني، قال: دفع إلي الحجاج أزاد مرد بن الهربذ، وأمرني أن أستخرج منه وأغلظ عليه، فلما انطلقت به قال لي: يا محمد، إن لك شرفاً وديناً، وإني لاأعطي على القسر شيئاً، فاستأدني1 وارفق بي، قال: ففعلت، فأدى إلي في أسبوع خمسمائة ألف، قال: فبلغ ذلك الحجاج فأغضبه، وانتزعه من يدي، ودفعه إلى رجل كان يتولى له العذاب، فدق يديه ورجليه، ولم يعطهم شيئاً.
قال محمد بن المنتشر: فإني لأمر يوماً في السوق إذا صائحٌ بي: يا محمد، فالتفت فإذا به معرضاً على حمارٍ، مدقوق اليدين والرجلين، فخفت الحجاج إن أتيته، وتذممت منه، فملت إليه، فقال لي: إنك وليت مني ماولي هؤلاء فأحسنت، وإنهم صنعوا بي ما ترى ولم أعطهم شيئاً، وههنا خمسمائة ألف عند فلان، فخذها فهي لك، قال: فقلت: ما كنت لآخذ منك على معروفي أجراً، ولا لأرزأك على هذه الحال شيئاً، قال: فأما إذا أبيت فاسمع أحدثك: حدثني بعض
ـــــــ
1 استأذنى: أى طلب منى الأداء.
أهل دينك عن نبيك "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" كثيراً، قال: إذا رضي الله عن قوم أمطرهم المطر في وقته، وجعل المال في سمحائهم، واستعمل عليهم خيارهم، وإذا سخط عليهم استعمل عليهم شرارهم، وجعل المال عند بخلائهم، وأمطرهم المطر في غير حينه. قال: فانصرفت فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسول الحجاج، فأمرني بالمسير إليه، فالفيته جالساً على فرشه والسيف منتضىً في يده، فقال لي: ادن، فدنوت شيئاً، ثم قال: ادن، فدنوت شيئاً، ثم صاح الثالثة: ادن لا أبا لك! فقلت: ما بي إلى الدنو من حاجة، وفي يد الأمير ما أرى. فأضحك الله سنه، وأغمد سيفه عني، فقال لي: اجلس، ما كان من حديث الخبيث? فقلت له: أيها الأمير، والله ما غششتك منذ استنصحتني، ولا كذ بتك منذ استخبرتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني. ثم حدثته الحديث، فلما صرت إلى ذكر الرجل الذي المال عنده أعرض عني بوجهه، وأومأ إلي بيده، وقال: لا تسمه، ثم قال: إن للخبيث نفساً، وقد سمع الأحاديث.
ويقال: كان الحجاج إذا استغرب1 ضحكاً2 والى بين الإستغفار، وكان إذا صعد المنبر تلفع بمطرفه3 ثم تكلم رويداً فلا يكاد يسمع، ثم يتزيد في الكلام، حتى يخرج يده من مطرفه ويزجر الزجرة فيفزع بها أقصى من في المسجد وكان يطعم في كل يوم ألف مائدة، على كل مائدة ثريدٌ وجنبٌ من شواءٍ وسمكة طريةٌ، ويطاف به في محفةٍ على تلك الموائد ليتفقد أمور الناس، وعلى كل مائدة عشرة، ثم يقول: يا أهل الشأم، اكسروا الخبز لئلا يعاد عليكم. وكان له ساقيان، أحدهما يسقي الماء والعسل، والآخر يسقي اللبن. ويروى أ ن ليلى الأخيلية قدمت عليه فأنشدته:
إذا ورد الحجاج أرضاً مريضةً ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العقام الذي بها ... غلامٌ إذا هز القناة ثناها4
ـــــــ
1 استغرب ضحكا: بالغ في الضحك.
2 ومن هنا وقع خرم في نسخة الأصل، والنص، الذي أثبتناه هو نص "ر" إلى آخر الخرم.
3 المطرف: رداء من خز.
4 زيادات ر: "العقام، بالفتح والضم، والضم أفصح". وفي س: العضال.
فقال لها: لا تقولي: غلام، قولي: همامٌ، ثم قال لها: أي نسائي أحب إليك أن أنزلك عندها الليلة? قالت: ومن نساؤك أيها الأمير? قال أم الجلاس بنت سعيد بن العاصي الأموية، وهند بنت أسماء بن خارجة الفزارية، وهند بنت الملهب بن أبي صفرة العتكية، فقالت: القيسية أحب إلي. فلما كان الغد دخلت عليه فقال: يا غلام أعطها خمسمائة، فقالت: أيها الأمير، اجعلها أدماً فقال قائل: إنما لك بشاء، قالت: الأمير أكرم من ذلك، فجعلها إبلاً إناثاً استحياء، وإنما كان أمر لها بشاءٍ أولاً. والأدم1: البيض من الإبل وهي أكرمها.
ويروى عن بعض الفقهاء2 قال: دعاني الحجاج فسألني عن الفريضة المخمسة وهي أمٌ وجدٌ وأخت، فقال لي: ما قال فيها الصديق رحمه الله? قلت، أعطى الأم الثلث والجد ما بقي لأنه كان يراه أباً، قال: فما قال فيها أمير المؤمنين? يعني عثمان رحمه الله قلت: جعل المال بينهم أثلاثاً،قال: فما قال فيها ابن مسعود? قال: قلت: أعطى الأخت النصف، والأم ثلث ما بقي والجد الثلثين?لأنه كان لا يفضل أما على جد. قال: فما قال فيهازيد بن ثابت?قال: قلت أعطى الأم الثلث، وجعل ما بقي بين الأخت والجد.، للذكر مثل حظ الأنثيين، لأنه كان يجعل الجد كأحد الإخوة إلى الثلاثة، قال: فزم بأنفه ثم قال: فما قال فيها أبو ترابٍ? قال: قلت أعطى الأم الثلث والأخت النصف والجد السدس، قال: فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال: فإنه المرء يرغب عن قوله3.
وجلس4 الحجاج يأكل ومعه جماعة على المائدة منهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة، وحجار بن أبجر بن بجير العجلي، فأقبل في وسطٍ من الطعام على محمد بن عمير بن عطاردٍ فقال: يا محمد، أيدعوك قتيبة بن مسلم إلى نصرتي يوم رستقباذ5 فتقول: هذا أمر لاناقة لي فيه ولا جمل لا جعل الله لك فيه ناقة ولا جملاٌ ياحرسي، خذ بيده وجرد سيفك
ـــــــ
1 س: "الأدم" بدون الواو.
2 زيادات ر: "هو الشعبى".
3 قال المرصفى: "إنما حمله على ذلك بغضه لأمير المؤمنين على كرم الله وجهه".
4 س: "وجعل".
5 ارستقباذ: موضع بفارس.
فاضرب عنقه، فنظر إلي حجاربن أبجر وهو يبتسم، فدخلته العصبية، وكان مكان حجارٍ من ربيعة كمكان محمد بن عمير من مضر، وأتى الخباز بفرنيةٍ1 فقال: اجعلها مما يلي محمداً فإن اللبن يعجبه، يا حرسي، شم سيفك وانصرف.
وكان محمدٌ شريفاً، وله يقول الشاعر:
علم القبائل من معد وغيرها ... إن الجواد محمدٌ بن عطارد
وذكرت بنو دارم يوماً بحضرة عبد الملك، فقالوا: قوم لهم الحظ، فقال عبد الملك: أتقولون ذلك وقد مضى منهم لقيط بن زرارة ولا عقب له، ومضى القعقاع بن معبد بن زرارة ولا عقب له، ومضى محمد بن عمير بن عطارد ولا عقب له، والله لاتنسى العرب هؤلاء الثلاثة أبداً.
قوله: "شم سيفك"، يقول: اغمده، ويقال: شمت السيف: إذا سللته، وهو من الأضداد، ويقال: شمت البرق إذا نظرت من أي ناحية يأتي.
قال الأعشى:
فقلت للشرب في درنى2 وقد ثملوا: ... شيموا، وكيف يشيم الشارب الشارب الثمل!
وقال الفرزدق:
بأيدي رجالٍ لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت
وهذا البيت طريف عند أصحاب المعاني، وتأويل لم يشيموا: لم يغمدوا ولم تكثر القتلى، أي لم يغمدوا سيوفهم إلا وقد كثرت القتلى [بها]3حين سلت.
ـــــــ
1 الفرنية: الخبزة المستديرة، منسوبة إلى الفرن.
2 درنى: بلد باليمامة.
3 تكملة من س.
علي بن جبلة والحسن بن سهلوحدثني الحسن بن رجاء قال: قدم علينا علي بن جبلة إلى عسكر الحسن بن سهل والمأمون هناك بانياً على خديجة بنت الحسن بن سهل المعروفة ببوران،
فقال الحسن: ونحن إذا ذاك نجري1 على نيف وسبعين ألف ملاحٍ، وكان الحسن بن سهل يسهر مع المأمون، يتصبح فيجلس الحسن للناس إلى وقت انتباهه، فلما ورد علي قلت: قد ترى شغل الأمير، قال: إذن لا أضيع معك. قلت: أجل. فدخلت على الحسن بن سهل في وقت ظهوره فأعلمته مكانه، فقال: ألاترى ما نحن فيه? قلت: لست بمشغول عن الأمر له، فقال: يعطى عشرة آلاف درهمٍ إلى أن نتفرغ له، فأعلمت ذلك علي بن جبلة، فقال في كلمة له:
أعطيتني يا ولي الحق مبتدئاً ... عطيةً كافأت مدحي ولم ترني
ما شمت برقك حتى نلت ريقه ... كأنما كنت بالجدوى تبادرني
ـــــــ
1 نجرى: نعطى.
باب
للمفضل بن الملهب بن أبي صفرة في الشجاعة والنجدةقال أبو العباس: قال المفضل بن المهلب بن أبي صفرة1:
هل الجود إلا أن تجود بأنفسٍ ... على كل ماضي الشفرتين قضيب
وما خير عيشٍ بعد قتل محمدٍ ... ويعد يزيد والحرون حبيب
ومن هو أطراف القنا خشية الردى ... فليس لمجدٍ صالح بكسوب
وما هي إلا رقدة تورث العلا ... لرهطك ما حنت روائم نيب
وقوله:
ومن هر أطراف القنا خشية الردى
يقول: من كره، قال عنترة بن شداد:
خلفت لهم والخيل تردى بنا معاً ... نفارقهم حتى يهروا العواليا
عوالي زرقاً من رماح ردينةٍ ... هرير الكلاب يتقين الأفاعيا
والردى: الهلاك، وأكثر ما يستعمل في الموت. يقال: ردي يردى ردًى، قال الله عز وجل: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} 2، وهو "تفعل" من الردى في أحد التفسيرين، وقيل: إذا تردى في النار، أي إذا سقط فيها.
وقوله: " الحرون" فإن حبيب بن المهلب كان ربما انهزم عنه أصحابه فلا يريم مكانه، فكان يلقب الحرون3 .
وقوله:
وما هي إلا رقدة تورث العلا
فهذا مأخوذ من قول أخيه يزيد بن المهلب، وذلك أنه قال في يوم العقر وهو اليوم الذي قتل فيه: قاتل الله ابن الأشعث ما كان عليه لو غمض عينيه ساعة للموت، ولم يكن قتل نفسه وذلك أن ابن الأشعث قام في الليل وهو في
ـــــــ
1 زيادات ر: "يصف الشجاعة والنجدة".
2 سورة الليل 11.
3 س: "بالحرون".
سطح، للبول، فزعموا أنه ردى نفسه، وغير أهل هذا القول يقولون: بل سقط منه بسنة النوم .
وقوله: "تورث العلا لرهطك" فالمعنى تورث العلا رهطك، وهذه اللام تزاد في المفعول على معنى زيادتها في الإضافة، تقول: هذا ضاربٌ زيداً، وهذا ضاربٌ لزيدٍ، لأنها لا تغير معنى الإضافة إذا قلت: هذا ضارب زيدٍ وضارب له.
وفي القرآن: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} 1. وكذلك {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ}2 ويقول النحويون في قوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} 3 إنما هو "ردفكم".
والنيب: جمع ناب، وهي المسنة من الإبل، وتقديرها "فعل" ساكنة، وأبدلت من الضمة كسرة لتصح الياء، كما قلت في أبيض: بيضٌ، وإنما هو مثل أحمر وحمرٍ، وكذلك أشيب وشيبٌ، فتقدير ناب ونيب إذا جاء على"فعل" و"فعل" تقدير أسد وأسدٍ، ووثنٍ ووثن، وناب تقديرها "فعلٌ" وإنما انقلبت الباء ألفاً فسكنت، وإنما تنقلب إذا كانت في موضع حركة. والروائم قد مضى تفسيرها .
ـــــــ
1 سورة الزمر 12.
2 سورة يوسف 43.
3 سورة النحل 73.
شيخ من الأعراب وامرأتهوأنشدني الزيادي قال: أنشدني أبو زيد، نظر شيخٌ من الأعراب إلى امرأته تتصنع وهي عجوز فقال:
عجوز ترجي أن تكون فتيةٌ ... وقد لحب الجنبان واحدودب الضهر
تدس إلى العطار سلعة بيتها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
قال أبو الحسن: وزادني غير أبي العباس في شعر هذا الأعرابي:
وماغرني إلا خضابٌ بكفها ... وكحل بعينيها وأثوابها الصفر
وجاؤوا بها قبل المحاق بليلةٍ ... فكان محاقاً كله ذلك الشهر
قال: فقالت له امرأته1:
ألم تر أن الناب تحلب علبةٌ ... ويترك ثلب، لا ضرابٌ ولا ظهر!
قال: ثم استغاثت بالنساء. وطلب الرجال فإذا هم خلوفٌ2، فاجتمع النساء عليه فضربنه.
قوله: "قد لحب الجنبان"،يقول: قل لحمهما، يقال: بعير ملحوبٌ وقد لحب مثل عرق.
وقوله:
تدس إلى العطار سلعة بيتها
يريد السويق والدقيق وما أشبه ذلك، وكل عرضٍ فالعرب تقول له: سلعة، أنشدني عمارة بن عقيل شعراٌ يمدح به خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني ويذم تميم ابن خزيمة بن حازم النهشلي:
أأترك إن قلت دراهم خالدٍ ... زيارته? إني إذاٌ للئيم
وقد يسلع المرء3 اللئيم اصطناعه ... ويعتل نقد المرء وهو كريم
فتى واسطٌ في ابني نزارٍ، مجببٌ ... إلى ابني نزارٍ، في الخطوب عميم4
فليت ببرديه لنا كان خالدٌ ... وكان لبكرٍ في الثراء تميم
فيصبح فينا سابقٌ متمهلٌ ... أغر، وفي بكرٍ أغم بهيم
قوله:
وقد يسلع المرء اللئيم اصطناعه
أي يكثر سلعته لاصطناعه.
ـــــــ
1 س: "فقالت المرأة".
2 خلوف: غائبون.
3 زيادات ر: "من رفع "المرء" فصب اصطناعه" وأما على تفسير أبى العباس فبنصب "اصطناعه" لاغير".
4 فتى واسط في قومه:شريف فيهم.
وقوله: "أغم بهيم"، فالغم كثرة شعر الوجه والقفا، قال هذبة بن خشرمٍ العذري: فلا
تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا
والعرب تكره الغمم. والبهيم: الذي لا يخلط لونه غيره من أي لون كان .
وقولها:
ألم تر أن الناب تحلب علبة
تقول فيها منفعة على حال، والعلبة: إناء لهم من جلود يحلبون فيه، من ذلك قوله:
لم تتلفع بفضل مئزرها ... دعدٌ، ولم تغد بالعلب
ومن أمثال العرب: "قد تحلب الضجور العلبة"، يضربون ذلك للرجل البخيل الذي لا يزال ينال منه الشيء القليل، والضجور: الناقة السيئة الخلق، إنما تحلب حين تطلع عليها الشمس فتطيب نفسها، والثلب: الذي قد انتهى في السن من الإبل.
من أقوالهم في الفقر والغنى
وقال آخر:
لم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أرى مثل المال أرفع للرذل
ولم أر عزاً لامرئ كعشيرةٍ ... ولم أر ذلاً مثل نأي عن الأصل
ولم أر من عدم أضر على امرئٍ ... إذا عاش بين الناس من عدم العقل
وقال آخر:
لعمري، لقوم المرء خير بقيةٍ ... عليه، وإن عالوا به كل مركب
من الجانب الأقصى وإن كان ذا غنى ... جزيل ولم يخبرك مثل مجرب
وإن خبرتك النفس أنك قادرٌ ... على ما حوت أيدي الرجال فكذب
إذا كنت في قومٍ عداً لست منهم ... فكل ما علفت من خبيثٍ وطيب
العدا: الغرباء في هذا الموضع، ويقال للأعداء عداً، والعداة الأعداء لا غير.
وقال أعرابي من باهلو:
سأعمل نص العيس حتى يكفني ... غنى المال يوماً أو غنى الحدثان
فللموت خيرٌ من حياة يرى لها ... على المرء ذي العلياء مس هوان
متى يتكلم يلغ حكم مقاله ... وإن لم يقل قالوا عديم بيان
كأن الغنى في أهله بورك الغنى ... بغير لسانٍ ناطقٌ بلسان
من أخبار حارثة بن بدر الغدانيونظير هذا الشعر ما حدثنا به في أمر حارثة بن بدرٍ الغداني، فإنا حدثنا عن حارثة بن بدر، وكان رجل بني تميم في وقته. وكان قد غلب على زيادٍ، وكان الشراب قد غلب عليه، فقيل لزيادٍ: إن هذا قد غلب عليك وهو مستهترٌ1 بالشراب، فقال زياد: كيف لي بأطراح رجلٍ هو يسايرني منذ دخلت العراق، لم يصكك ركابي ركباه، ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عني فلويت عنقي إليه، ولا أخذ علي الشمس في شتاءٍ قط، ولا الروح في صيف قط، ولا سألته عن علم إلا ظننت أنه لم يحسن غيره. فلما مات زيادٌ جفاه عبيد الله، فقال له حارثة: أيها الأمير، ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال عند أبي المغيرة2 فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة كان قد برع بروعاً لا يلحقه معه عيب، وأنا حدثٌ، وإنما أنسب إلى من يغلب علي، وأنت رجل تديم الشراب، فمتى قربتك فظهرت رائحة الشراب منك لم آمن أن يظن بي، فدع النبيذ وكن أول داخل علي وآخر خارج عني، فقال له حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك ضري ونفعي، أفأدعه للحال عندك قال: فاختر من عملي ما شئت، قال: توليني رامهرمز3، فإنها أرض عذاةٌ4، وسرق5 فإن بها شراباً وصف لي. فولاه إياهما، فلما خرج شيعه الناس، فقال أنس بن أبي أنيس:
ـــــــ
1 مستهتر بالشراب. مولع به.
2 كنيةزياد.
3 رامهرمز: مدينة في بلاد الفرس.
4 أرض غذاة: طيبة.
5 سرق: إحدى كور الأهواز.
أحار بن بدرٍ قد وليت إمارةً ... فكن جرذاً فيها تخون وتسرق
ولا تحقرن يا حار شيئاً وجدته ... فحظك من ملك العراقين سرق
وباه تميماً بالغنى إن للغنى ... لساناً به المرء الهيوبة ينطق1
فإن جميع الناس، إما مكذبٌ ... يقمل بما يهوى وإما مصدق
يقولون أقوالاً ولا يعلمونها ... ولو قيل: هاتوا حققوا لم يحققوا
ورثى حارثة بن بدرٍ زياداً وكان زياد مات بالكوفة، ودفن بالثوية فقال:
صلى الله على قبر وطهره ... عند الثوية يسفي فوقه المور
زفت إليه قريشٌ نعش سيدها ... فثم كل التقى والبر مقبور
أبا المغيرة والدنيا مفجعةٌ ... وإن من غرت الدنيا لمغرور
وقد كان عندك بالمعروف معرفةٌ ... وكان عندك للنكراء تنكير
وكنت تغشي وتعطي المال من سعةٍ ... إن كان بيتك أضحى وهو مهجور
الناس بعدك قد خفت حلومهم ... كأنما نفخت فيها الأعاصير
ونطير هذا قول مهلهل يرثي أخاه كليباً، وكان كليبٌ إذا جلس لم يرفع بحضرته صوت، ولم يستب بفنائه اثنان:
ذهب الخيار من المعاشر كلهم ... واستب بعدك يا كليب المجلس
وتقاولوا في أمر كل عظيمة ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينسبوا
قول حارثة: "الثوية"، فهي بناحية الكوفة، ومن قال الثوية: فهو تصغير الثوية، وكل ياء أخرى فوقعت معتلةً طرفاً في التصغير فوليتها ياء التصغير فهي محذوفة، وذلك قولك في عطاءٍ: عطي، وكان الأصل عطييٌ، كما تقول في سحاب: سحيب، ولكنها تحذف لاعتلالها، واجتماعياءين معها، وتقول في تصغير أحوى: أحي، في قول من قال في أسود: أسيد، وهو الوجه الجيد، لأن الياء الساكنة إذا كانت بعدها واو متحركة قلبتها ياء، كقولك: أيام، والأصل "أيوام"، وكذلك سيد، والأصل سيودٌ، ومن قال في تصغير أسود: أسيودٌ فهو جائز، وليس كالأول قال في تصغير أحوى أحيو يا فتى، فتثبت الياء، لأنه ليس فيها ما يمنعها نم اجتماع الياءات، ومن قال أسود، فإنما أظهر الواو، لأنها كانت
ـــــــ
1الهيوبة: الجبان.
في التكبير متحركة، ولا تقول في عجوز إلا عجيزةٌ لأنها ساكنة، وإنما يجوز هذا على بعدٍ إذا كانت الواو في موضع العين من الفعل، أو ملحقة بالعين، نحو واو جدول، وإنما استجازوا إظهارها في التصغير للتشبيه بالجمع،لأن ما جاوز الثلاثة فتصغيرهعلى مثال جمعه، ألا تراهم يقولون في الجمع: أساود وجداول. فهذا على التشبيه بهذا. فإن كانت الواو في موضع اللام كانت منقلبة على كل حال، تقول في غزوة: غزيةٌ، وفي عروة: عريةٌ، فهذا شرح صالح في الموضوع، وهو مستقصى في الكتاب المقتضب.
وقوله: "يسفي فوقه المور"، فمعناه أن الريح تسفيه، وجعل الفعل للمور وهو التراب، وتقول: سقاك الله الغيث، ثم يجوز أن تجعل الفعل للغيث، فتقول: سقاك الغيث يا فتى، وقال علقمة بن عبدة:
سقاك يمانٍ ذو حبي وعارضٌ ... تروح به جنح العشي جنوب
وقوله:
زفت إليه قريش نعش سيدها
يقال: زففت السرير، وزففت العروس. وحدثني أبو عثمان المازني قال: حدثني الزيادي قال: سمعت قوماً من العرب يقولون: أزففت العروس، وهي لغةٌ.
وقوله: "نعش سيدها" يريد موضعه من النسب، لأنه نسبه إلى أبي سفيان. وكان رئيس قريش من قبل مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وله يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل الصيد في بطن الفرا". وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفرش فراشاً في بيته في وقت خلافته فلا يجلس عليه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب، ويقول: هذا عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا شيخ قريش. وكان حرب بن أمية رئيس قريش يوم الفجار، فكان آل حرب إذا ركبوا في قومهم من بني أمية قدموا في المواكب، وأخليت لهم صدور المجالس، إلا رهط عثمان رضي الله عنه، فإن التقديم لهم في الإسلام بعثمان. وكان أبو سفيان صاحب العير يوم بدرٍ، وصاحب الجيش يوم
أحد وفي يوم الخندق، وإليه كانت تنظر قريش في يوم فتح مكة، وجعل له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه من دخل في داره فهو آمن قي حديث مشهور.
وقوله:
كأنما نفخت فيها الأعاصير
هذا مثل، وإنما يراد خفة الحلوم. والإعصار فيما ذكر أبو عبيدة: ريح تهب بشدة فيما بين السماء والأرض. ومن أمثال العرب: "إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً"، يضرب للرجل يكون جلداً فيصادف من هو أجلد منه، قال لله عز وجل: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} 1.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل الصيد في بطن الفرا" يعني الحمار الوحشي، وذلك أن أجل شيئ يصيده الصائد الحمار الوحشي، فإذا ظفر به، فكأنه قد ظفر بجملة الصيد، والعرب تختلف فيه، فبعضهم يهمزه فيقول: هذا فرأ، كما ترى، وهو الأكثر، وبعضهم لا يهمزه، ومن أمثالهم "أنكحنا الفرا، فسنرى" أي زوجنا من لا خير فيه فسنعلم كيف العاقبة، وجمعه في القولين جميعاً "فراءٌ" كما ترى، ونظيره: جملٌ وجمالٌ، وجبلٌ وجبالٌ قال الشاعر2:
بضرب كآذان الفراء فضوله ... وطعنٍ كإيزاع المخاض تبورها
الإيزاع: دفع الناقة ببولها، يقال: أوزعت به إيزاعاً، وأزغلت به إزغالً، وذلك حين تلقح، فعند ذلك يقال لها: خلفةٌ، وللجميع المخاض، وقد مر هذا. والبور: أن تعرض على الفحل ليعلم أهي حامل أم حائل ?
ـــــــ
1 سورة البقرة 266.
2 هو مالك بن زغبه الباهلى.
لضابئ البرمجي وهو في السجنوقال ضابئ بن الحارث البرمجي1:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقياراً بها لغريب
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحاً ولا عن ريثهن يخيب
ورب أمور لا تضيرك ضيرةً ... وللقلب من مخاشتهن وجييب
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
ـــــــ
1 زيادات ر: "من السجن".
وقوله:
فإني وقياراً بها لغريب
أراد: فإني لغريب بها وقياراٌ، ولو رفع لكان جيداٌ، تقول: إن زيداٌ منطلقٌ وعمراٌ وعمرو، فمن قال: "عمراٌ" فإنما رده على زيد، ومن قال: "عمرو" فله وجهان من الإعراب: أحدهما جيد، والآخر جائز، فأما الجيد فأن تحمل عمراٌ على الموضع، لأنك إذا قلت: إن زيداٌ منطلق فمعناه زيد منطلق فرددته على الموضع، ومثل هذا لست بقائم ولا قاعداً، والباء زائدةٌ، لأن المعنى لست قائماٌ ولا قاعداٌ، ويقرأ على وجهين: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 1 {وَرَسُولُهُ} والوجه الآخر لأن يكون معطوفاٌ على المضمر في الخبر، فإن قلت إن زيداٌ منطلق هو وعمرو حسن العطف لأن المضمر المرفوع إنما يحسن العطف عليه إذا أكدته، كما قال الله تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} 2 و{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} 3 إنما قبح العطف عليه بغير تأكيد لأنه لا يخلو من أن يكون مستكنا في الفعل بغير علامة، أو في الاسم الذي يجري مجرى الفعل، نحو إن زيداً ذهب وإن زيداٌ ذاهب فلا علامة له، أو تكون له علامة يتغير لها الفعل عما كان نحو ضربت، سكنت الباء التي هي لام الفعل من أجل الضمير لأن الفعل والفاعل لاينفك أحدهما عن صاحبه فهما كالشيء الواحد، ولكن المنصوب يجوز العطف عليه، ويحسن بلا تأكيد، لأنه لا يغير الفعل إذ كان الفعل قد يقع ولا مفعول فيه، نحو ضربتك وزيداً، فأما قول الله عز وجل: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} 4 فإنما يحسن بغير توكيد لأن" لا" صارت عوضاً، والشاعرإذا احتاج أجراه بلا توكيد لا حتمال الشعر ما لا يحسن في الكلام. وقال عمر بن أبي ربيعة:
قلت إذا أقبلت وزهرٌ تهادى ... كنعاج الملا تعفسن رملا
وقال جرير:
ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه ... ما لم يكن وأبٌ له لينالا
فهذا كثير. فأما النعت إذا قلت إن زيداً يقوم العاقل فأنت مخير إن شئت
ـــــــ
1 سورة التوبة 3.
2 سورة المائدة 24.
3 سورة البقرة 35.
4 سورة الأنعام 148.
قلت العاقل فجعلته نعتاً لزيد، أو نصبته على المدح وهو بإظمار أعني، وإن شئت رفعت على أن تبدله من المضمر في الفعل، وإن شئت كان على قطع وابتدءٍ، كأنك قلت إن زيداً قام، فقيل من هو فقلت: العاقل، كما قال الله عز وجل: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} 1 ، أي هو النار والآية تقرأ على وجهين على ما فسرنا: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} 2 وعلام "الغيوب".
وقوله:
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحاً ............................
يقول: إذا لم تعجل له طير سانحةٌ فليس ذلك بمبعدٍ خيراً عنه، ولا إذا أبطأت خاب، فعاجلها لا يأتيه بخير، وآجلها لا يدفعه عنه، إنما له ما قدر له، والعرب تزجر على السانح وتتبرك به، وتكره البارح وتتشاءم به، والسانح: ما أراك مياسره فأمكن الصائد، والبارح: ما أراك ميامنه فلم يمكن الصائد، إلا أن ينحرف له، وقد قال الشاعر:
لا يعلم المرء ليلاً ما يصبحه ... إلا كواذب مما يخبر الفال
والفال والزجر والكهان كلهم ... مضللون، ودون الغيب أقفال
وقوله:
ورب أمورٍ لا تضيرك ضيرةً ... وللقلب من مخشلتهم وجيب3
فإن العرب تقول: ضارة يضيرة ضيرةً، ولا ضرر عليه، وضره يضره، ولا ضرر عليه [ولا ضر عليه]4، ويقال أصابه ضر بمعنى، والضر مصدر، والضر اسم، وقد يكون الضر من المرض، والضر عاماً، وهذا معنى حسن، وقد قال أحد المحدثين، وهو إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية:
وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ... وينجو بإذن الله من حيث بحذر
ـــــــ
1 سورة الحج 72.
2 سورة سبأ 48.
3 المخشاة: الخشية: والوجيب: خفقاق القلب واضطرابه.
4 الزيادة من س.
وقال الله عز وجل: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} 1.
وقال رجل لمعاوية: والله لقد بايعتك وأنا كاره، فقال معاوية: قد جعل الله في الكره خيراً كثيراً .
وقوله:
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
نظيره قول كثير:
أقول لها يا عز كل مصيبةٍ ... إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت
وكان عبد الملك بن مروان يقول: لو كان قال هذا البيت في صفة الحرب لكان أشعر الناس .
وحكي عن بعض الصالحين أن ابناً له مات فلم ير به جزعٌ، فقيل له في ذلك، فقال: هذا أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره.
ـــــــ
1 سورة النساء 19.
باب
جرير بن عبد الله البجلي عند معاويةقال أبو العباس: وجه علي بن أبي طالب رضي الله عنه جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية رحمه الله يأخذه بالبيعة له، فقال له: إن حولي من ترى من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المهاجرين والأنصار، ولكني اخترتك لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيك: "خير ذي يمن"، إيت معاوية فخذه بالبيعة، فقال جرير: والله ياأمير المؤمنين ما أدخرك من نصرتي شيئاً، وما أطمع لك في معاوية، فقال علي رضي الله عنه: إنما قصدي حجة أقيمها عليه، فلما إتاه جرير دافعه معاوية، فقال له جريرٌ: إن المنافق لا يصلي حتى لا يجد من الصلاة بداً، ولا أحسبك تبايع حتى لا تجد من البيعة بداً فقال له معاوية: إنها ليست بخدعة الصبي عن اللبن إنه أمر له ما بعده، فأبلعني ريقي. فناظر عمراً، فطالت المناظرة بينهما، وألح عليه جرير، فقال له معاوية: ألقاك بالفصل في أول مجلس إن شاء الله تعالى.
ثم كتب لعمرو بمصر طعمة، وكتب عليه: "ولا ينقض شرطٌ طاعة"، فقال عمرو: يا غلام اكتب، ولا تنقض طاعة شرطاً، فلما اجتمع له أمره رفع عقيرته1 ينشد ليسمع جريراً:
تطاول ليلي واعترتني وساوسي ... لآتٍ أتى بالترهات البسابس2
أتاني جريرٌ والحوادث جمةٌ ... بتلك التي فيها اجتداع المعاطس
أكايده والسيف بيني وبينه ... ولست لأثوب الدني بلابس
إن الشأم أعطت طاعةً بمنية ... تواصفها أشياخها في المجالس
فإن يفعلو أصدم علياً بجبهةٍ3 ... تفت عليه كل رطبٍ ويابس
وإني لأرجو خير ما نال نائلٌ ... وما أنا من ملك العراق بيائس
ـــــــ
1 العقيرة: الصوت.
2 البسابس في الأصل: القفر الواسع، يري الأباطيل.
3 زيادات ر: "الجبهة: جماعة الخيل".
كتاب معاوية إلى علي
وكتب إلى علي رضي الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب: أما بعد: فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين، وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل، وقوي بك الضعيف. وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كان شورى بين المسلمين. ولعمري ما حجتك علي كحجتك على طلحة والزبير، لأنهما بايعاك ولم أبايعك. وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة لأن أهل البصرة، أطاعوك ولم يعطك أهل الشام، وأما شرفك في الإسلام، وقرابتك من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وموضعك من قريش فلست أدفعه. ثم كتب في كتاب إليه في آخر الكتاب بشعر كعب بن جعيل، وهو:
أرى الشأم تكره ملك العراق ... وأهل العراق لهم كارهيناً
وكلا لصاحبه مبغضاً ... يرى كل ما كان من ذاك دينا
إذا ما رمونا رميناهم ... ودناهم مثل ما يقرضونا
فقالوا: علي إمامٌ لنا ... فقلنا: رضينا ابن هند رضينا
وقالوا: نرى أن تدينوا له ... فقلنا: ألا لا نرى أن ندينا
ومن دون ذلك خرط القتاد ... وضربٌ وطعنٌ يقر العيونا
وأحسن الروايتين: "يفض الشؤونا". وفي آخر هذا الشعر ذم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أمسكنا عن ذكره.
قوله: "ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين" فهو من الإغراء وهو التحضيض عليه، يقال أغريته به، وآسدته الكلب على الصيد أوسه إيساداً، ومن قال: أشليت الكلب في معنى أغريت فقد أخطأ، إنما أشليته دعوته إلي وآسدته أغريته.
وقول ابن جعيل:
وأهل العراق لهم كارهينا
محمول على "أرى" ومن قال:
وأهل العراق لهم كارهونا
فالرفع من وجهين: أحدهما قطعٌ وابتداءٌ، ثم عطف جملة على جملة بالواو، ولم يحمله على أرى، ولكن كقولك كان زيدٌ منطلقاً، وعمرو منطلقٌ الساعة، خبرت بخبر بعد خبر، والوجه الآخر أن تكون الواو وما بعدها حالاً، فيكون معناها "إذ"، كما تقول رأيت زيداً قائماً وعمرو منطلق، تريد إذ: عمٌرو منطلق. وهذه الآية تحمل على هذا المعنى، وهو قول الله عز وجل: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} 1، والمعنى والله أعلم: إذ طائفةٌ في هذه الحال وكذلك قراءة من قرأ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} 2 ، أي والبحر هذه حاله، وإن قرأ {وَالْبَحْرُ} فعلى"أن"0
وقوله:
ودناهم مثل ما يقرضونا
يقول جزيناهم. وقال المفسرون في قوله عز وجل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 3. قالوا: يوم الجزاء والحساب، ومن أمثال العرب: "كما تدين تدان"، وأنشد أبو عبيدة4:
واعلم وأيقن أن ملكك زائلٌ ... واعلم بأن كما تدين تدان
وللدين مواضع منها كا ذكرنا، ومنها الطاعة ودين الإسلام من ذلك يقال: فلان في دين فلانٍ، أي لم يكونوا في دين ملك، وقال زهيرٌ:
لئن حللت بجو في بني أسدٍ ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك
فهذا يريد: في طاعة عمرو بن هند، والدين: العادة، يقال: ما زال هذا ديني ودأبي وعادتي وديدني وإجرياي، قال المثقب العبدي:
ـــــــ
1 سورة آل عمران 154.
2 سورة لقمان 27.
3 سورة الفاتحة 4.
4 زيادات: "الشعر ليزيد بن الصعق الكلابى وله خبر". وقد أورد هذا الخبر المرصفى في رغبة الأمل:215،214:3.
تقول إذا درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني
أكل الدهر حل وارتحالٌ ... أما تبقي علي وما تقيني
وقال المكيت بن زيدٍ:
على ذاك إجرياي وهي ضريبتي ... وإن أجلبوا طراً علي وأحلبوا1
وقوله:
فقلنا: رضينا ابن هند رضينا
يعني معاوية بن أبي سفيان، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
وقوله: "أن تدينوا له" ، أي أن تطيعوه وتدخلوا في دينه: أي في طاعته:
وقوله:
ومن دون ذلك خرط القتاد
فهذا مثل من أمثال العرب، القتاد: شجيرة شاكة غليظة أصول الشوك، فلذلك يضرب خرطه مثلاً في الأمر الشديد، لأنه غاية الجهد. ومن قال: "يفض الشؤونا"، فيفض يفرق، تقول: فضضت عليه المال. والشؤون، وأحدها شأن، وهي مواصل قبائل الرأس، وذلك أن للرأس أربع قبائل، أي قطع مشعوبٌ بعضها إلى بعض، فموضع شعبها يقال له: الشؤون، واحدها شأنٌ، وزعم الأصمعي قال: يقال إن مجاري الدموع منها، فلذلك يقال استهلت شؤونه، وأنشد قول أوس من حجرٍ:
لا تحزنيني بالفراق فإنني ... لا تستهل من الفراق شؤوني
ومن قال "يقر العيونا"، ففيه قولان: أحدهما للأصمعي، وكان يقول: لا يجوز غيره، يقال: قرت عينه وأقرها الله، وقال: إنما هو بردت من القر، وهو خلاف قولهم: سخنت عينه وأسخنها الله، وغيره يقول: قرت هدأت، وأقرها الله أهدأها الله، وهذا قول حسن جميل، والأول أغرب وأطرف.
ـــــــ
1 اجرياى: عادتى. وأجلبوا: صاحوا. وأحلبوا: تألبوا.
جواب علي بن أبي طالب لمعاويةفكتب إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه جواب هذه الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، من علي بن أبي طالب إلى معاوية بن صخر، أما بعد: فإنه أتاني منك كتاب امرىء ليس له بصرٌ يهديه، ولا قائدٌ يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده فاتبعه، زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان. ولعمري ما كنت إلا رجلاً من المهاجرين أوردت كما أوردوا، وأصدرت كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على ضلال، ولا ليضربهم بالعمى.
وبعد، فما أنت وعثمان إنما أنت رجل من بني أمية، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه، فإن زعمت أنك أقوى على ذلك، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم إلي. وأما تمييزك بينك وبين طلحة والزبير وأهل الشام وأهل البصرة، فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا سواءٌ، لأنها بيعةٌ شاملة، لا يستثنى فيها الخيار، ولا يستأنف فيها النظر. وأما شرفي في الإسلام، وقرابتي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموضعي من قريش، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته".
ثم عاد النجاشي أحد بني الحارث بن كعب فقال له: إن ابن جعيلٍ شاعر أهل الشام، وأنت شاعر أهل العراق، فأجب الرجل، فقال: ياأمير المؤمنين، أسمعني قوله، قال: إذاً أسمعك شعر شاعرٍ، فقال النجاشي يجيبه:
دعاً يا معاوي مالن يكونا ... فقد حقق الله ما تحذرون
أتاكم عليٌ بأهل العراق ... وأهل الحجاز فما تصنعونا
وبعد هذا ما نمسك عنه.
قوله: "ليسي له بصر يهديه" ،فمعناه يقوده، والهادي: هو الذي يتقدم فيدل، والحادي: الذي يتأخر فيسوق، والعنق يسمى الهادي لتقدمه، قال الأعشى:
إذا كان هادي الفتى في البلا ... د صدر القناة أطاع الأميرا
يصف أنه قد عمي فإنما تهديه عصاً، ألا تراه يقول:
وهاب العثار إذا ما مشى ... وخال السهولة وعثاً وعورا
وقال القطامي:
إني وإن كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلا ضربة الهادي
وقال أيضاً:
قربن يقصون من بزل مخيسة ... ومن عرابٍ بعيداتٍ من الحادي
وقوله: "ولا قائد يرشده" قد أبان به الأول.
وقوله: "دعاه الهوى" فالهوى من" هويت" مقصور، وتقديره "فعل"، فانقلبت الياء ألفاً، فلذلك كان مقصوراً، وإنما كان كذلك لأنك تقول: هوي يهوى، كما تقول: فرق يفرق وهو هو، كما تقول: هو فرق، كما ترى، وكان المصدر على"فعل"، بمنزلة الفرق والحذر والبطر. لأن الوزن واحد في الفعل واسم الفاعل، فأما الهواء، من الجو فمدود، يدلك على ذلك جمعة إذا قلت: أهويةٌ، لأن أفعله إنما تكون جمع فعالٍ وفعالٍ وفعولٍ وفعيل، كما تقول قذالٌ وأقذلةٌ وحمار وأحمرةٌ، فهواءٌ كذلك، والمقصور جمعه أهواء فاعلم، لأنه على فعل، وجمع فعل أفعالٌ كما تقول: جمل وأجمال وقتب وأقتاب، قال الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} 1. وقوله هذا هواء يا فتى في صفة الرجل إنما هو ذمٌ، يقول: لا قلب له، قال الله عز وجل: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ} 2 أي خالية، وقال زهير:
كأن الرحل منها فوق صعلٍ ... من الظلمان جؤجؤه هواء
وهذا من هواء الجو، قال الهذلي3:
هواءٌ مثل بعلك مستميتٌ ... على ما في وعائك كالخيال
وكل واو مكسورة وقعت أولاً فهمزها جائز ينشد: "على ما في إعائك"، ويقال: وسادةٌ وإسادةٌ وشاحٌ وإشاحٌ.
وأما قوله: "فما أنت وعثمان" فالرفع فيه الوجه لأنه عطف اسماً ظاهراً على اسم مضمر منفصل وأجراه مجراه، وليس ههنا فعل، فيحمل على المفعول، فكأنه قال: فما أنت وما عثمان، هذا تقديره في العربية، ومعناه لست منه في شيء، قد
ـــــــ
1 سورة محمد 14.
2 سورة إبراهيم 43.
3 هو حبيب الأعلم، وانظر ديوان الهذليين 83:2.
ذكر سيبويه رحمه الله النصب وجوزه جوازاً حسناً وجعله مفعولاً معه، وأضمر كان من أجل الاستفهام، فتقديره عنده: ما كنت وفلاناً. وهذا الشعر كما أصف لك ينشد:
وأنت امرؤ من أهل نجدٍ وأهلنا ... تهامٍ وما النجدي والمتغور
وكذلك قوله1:
تكلفني سويق الكرم جرمٌ ... وما جرمُ وما ذاك السويق
فإن كان الأول مضمراً متصلاً كان النصب، لئلا يحمل ظاهر على مضمر، تقول: ما لك وزيداً وذلك أنه أضمر الفعل، فكأنه قال في التقدير: وملابستك زيداً، وفي النحو تقديره: مع زيد. وإنما صلح الإضمار لأن المعنى عليه إذا قلت: ما لك وزيداً فإنما تنهاه عن ملابسته، إذا لم يجز" وزيدٍ" وأضمرت لأن حروف الاستفهام للأفعال، فلو كان الفعل ظاهراً لكان على غير إضمار، نحو قولك: ما زلت وعبد الله حتى فعل، لأنه ليس يريد: ما زلت ومازال عبد الله، ولكنه أراد: وما زلت بعبد الله. فكان المفعول مخفوضاً بالياء، فلما زال ما خفضه وصل الفعل إليه فنصبه، كما قال تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} 2، فالواو في معنى مع، وليست بخافضة، فكان ما بعدها على الموضع، فعلى هذا ينشد هذا الشعر3:
فما لك والتلدد حول نجدٍ ... وقد غصت تهامة بالرجال4
ولو قلت: ما شأنك وزيداً لا ختير النصب، لأن زيداً لا يلتبس بالشأن، لأن المعوطف على الشيء أبداً في مثل حاله، ولو قلت: ما شانك وشأن زيد لرفعت، لأن الشأن يعطف على الشأن، وهذه الآية تفسر على وجهين من الإعراب: أحدهما هذا، وهو الأجود فبها وهو قوله عز وجل: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} 5. فالمعنى والله أعلم: مع شركائكم، لأنك تقول: جمعت
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو الأعجم".
2 سورة الأعراف 155.
3 زيادات ر: "هو مسكين الدارمى".
4 التلدد: التلفت يمينا وشمالا.
5 سورة يونس: 17.
قومي، وأجمعت أمري، ويجوز أن يكون لما أدخل الشركاء مع الأمر حمله على مثل مثل لفظه. لأن المعنى يرجع إلى شيء واحد، فيكون كقوله1:
ياليت زوجك قد غدا ... مقتلداً سيفاً ورمحا
وقال آخر:
شراب ألبانٍ وتمرٍ أقط
وهذا بين.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو عبد الله بن الزبعرى".
خالد بن يزيد بن معاوية عند عبد الملك بن مروانويروى أن عبد الله بن يزيد بن معاوية أتى أخاه خالداً، فقال: يا أخي، لقد هممت اليوم أن أفتك بالوليد بن عبد الملك فقال له خالد: بئس والله ما هممت به في ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين فقال: إن خيلي مرت به فعبث بها وأصغرني، فقال له خالد: أنا أكفيك، فدخل خالد على عبد الملك والوليد عنده، فقال: يا أمير المؤمنين، الوليد ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين، فقال: إن خيلي مرت به فعبث بها وأصغرني، فقال له خالد: أنا أكفيك، فدخل خالد على عبد الملك والوليد عنده، فقال يا أمير المؤمنين، الوليد ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين، مرت به خيل ابن عمه عبد الله بن يزيد فعبث بها، وأصغره، وعبد الملك مطرق، فرفع رأسه، فقال: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 1 ، فقال خالد: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} 2، فقال عبد الملك: أفي عبد الله تكلمني والله لقد دخل علي فما أقام لسانه لحناً فقال له خالد: أفعلى الوليد تعول فقال عبد الملك: إن كان الوليد يلحن فإن أخاه سليمان، فقال له خالد: وإن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالد، فقال له الوليد: اسكت يا خالد، فوالله ما تعد في العير ولا في النفير، فقال خالد: اسمع يا أمير المؤمنين، ثم أقبل عليه وقال: ويحك فمن العير والنفيرغيري? جدي أبو سفيان صاحب العير، وجدي عتبة بن ربيعة صاحب النفير، ولكن لو قلت: غنيمات، وحبيلات، والطائف ورحم الله عثمان لقلنا: صدقت!
ـــــــ
1 سورة النمل: 34.
2 سورة الإسراء 16.
أما قوله: "في العير" فهي عير قريش التي أقبل بها أبو سفيان من الشأم فنهد إليها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وندب إليها المسلمين، وقال: "لعل الله ينفلكموها"، فكانت وقعة بدر، وساحل أبو سفيان بالعير، فكانت الغنيمة ببدر، كما قال الله عز وجل: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} 1 . أي غير الحرب، فلما ظفر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأهل بدر، قال المسلمون: انهد بنا2 يا رسول الله إلى العير، فقال العباس رحمه الله: إنما وعدكم الله إحدى الطائفتين.
وأما النفير فمن نفر من قريش ليدفع عن العير، فجاؤوا فكانت وقعة بدر، وكان شيخ القوم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وهو جد خالد من قبل جدته هند، أم معاوية بنت عتبة، ومن أمثال العرب:
لست في العير يوم يحدون ... بالعير ولا في النفير يوم النفير
ثم اتسع هذا المثل حتى صار يقال لمن لا يصلح لخير ولا لشر ولا يحفل به: لا في العير، ولا في النفير.
وقوله: "غنيمات، وحبيلات" يعني أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أطرد الحكم بن أبي العاصي بن أمية. وهو جد عبد الملك بن مروان لجأ إلى الطائف، فكان يرعى غنيمات، ويأوي إلى حبيلة وهي الكرمة.
وقوله: "رحم الله عثمان" : أي لرده إياه.
وقولنا" أطرده": أي جعله طريداً، وطرده: نحاه، كما تقول حمدته: أي شكرته، وأحمدته: أي صادفته محموداً. وكان عثمان رحمه الله استأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رده متى أفضى الأمر إليه، روى ذلك الفقهاء.
ـــــــ
1 سورة الأنفال: 7.
2 نهد ونهض كلاهما بمعنى واحد.
باب
لرجل من بني أسد يمدح يحيى بن حيانقال أبو العباس: قال رجل من بني أسدٍ بن خزيمة يمدح يحيى بن حيان أخا النخع بن عمرو بن علة بن جلد مذحج، وهو مالك:
ألا جعل الله اليمانين كلهم ... فدى لفتى يحيى بن حيان
ولولا عريق في من عصبيةٍ ... لقلت وألفا من معد بن عدنان
ولكن نفسي لم تطب بعشيرتي ... وطابت له نفسي بأبناء قحطان
وهذا من التعصب المفرط.
وحدثني شيخ من الأزد ثقة عن رجل منهم أنه كان يطوف بالبيت، وهو يدعو لأبيه، فقيل له: ألاتدعو لأمك فقال: إنها تميمية.
وسمع رجل يطوف بالبيت، وهو يدعو لأمه ولا يذكر أباه، فعوتب، فقال: هذه ضعيفة، وأبي رجل يحتال لنفسه.
وحدثني المازني عمن حدثه قال: رأيت رجلاً يطوف بالبيت، وأمه على عنقه، وهو يقول:
أحمل أمي وهي الحماله ... ترضعني الدرة والعلاله
لا يجازى والد فعاله
قوله: "الدرة" فهو اسم ما يدر من ثدييها، ابتداء كان ذلك أو غير ذلك والعلالة لا تكون إلا بعد، يقال: عله يعله ويعله علاً، والاسم العلالة، وكل شيء كان على "فعلت" من المدغم. فمضارعه إذا كان متعدياً إلى مفعول يكون على يفعل، نحو رده يرده، وشجه يشجه، وفر يفره، فإذا قلت: فر يفر، فإنما ذلك لأنه غير متعد إلى مفعول، ولكن تقول: فررت الدابة أفره. وجاء "فعل يفعل" من المتعدي في ثلاثة أحرف يقال: عله يعله ويعله، وهره يهره ويهره: إذا كرهه،ويقال: أحبه يحبه، وجاء حبه يحبه، ولا يكون فيه "يفعل" قال الشاعر:
لعمرك إنني وطلاب مصر ... لكالمزداد مما حب بعدا
وقال آخر:
وأقسم لولا تمره ما حببته ... وكان عياض منه أدنى ومشرق
وقرأ أبو رجاء العطاردي: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 1، ففعل في هذا شيئين أحدهما أنه جاء به من "حببت" والآخر أنه أدغم في موضع الجزم وهو مذهب تميم وقيس وأسد وجماعة من العرب يقولون: رد يا فتى، يدغمون، ويحركون الدال الثانية لالتقاء الساكنين فيتبعون الضمة الضمة. ومنهم من يفتح لالتقاء الساكنين فيقول: رد يا فتى، لأن الفتح أخف الحركات، ومنهم من يقول رد يافتى فيكسر: لأن حق التقاء الساكنين الكسر، فإذا كان الفعل مكسوراً ففيه وجهان: تقول: فر يا فتى للإتباع وللأصل في ألتقاء الساكنين، وتفتح. لأن الفتح أخف الحركات، وإذا كان مفتوحاً فالفتح للإتباع، ولأنه أخف الحركات، والكسر على أصل التقاء الساكنين، نحو. عض، يا فتى، وعض يا فتى، فإذا لقيته ألف ولام فالأجود الكسر، من أجل ما بعده، وهي لام المعرفة، نحو:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
ومنهم من يجري مجرى الأول، فتقع لام المعرفة بعد انقضاء الحركة في الأول فيقول2:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
ومن كان من شأنه أن يتبع أو يكسر فعلى ذلك، ومما جاء في القرآن على لغة من يكسر قوله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 3.
وأما أهل الحجاز فيجرونه على القياس الأصلي، فيقول: اردد واغضض، ويقولون: افرر من زيد واعضض. لما سكن الثاني ظهر التضعيف لأنه لا يلتقي ساكنان، وكل ذلك من قولهم وقول التميميين قياس مطرد بين، وقد شرحناه في الكتاب المقتضب على حقيقة الشرح.
ـــــــ
1 سورة آل عمران 31.
2 زيادات ر: "هو جرير".
3 سورة الحشر 5.
لرجل في الصبروقال آخر:
إذا ضيقت أمراً ضاق جداً ... وإن هونت ما قد عز هانا
فلا تهلك لشيء فات يأساً ... فكم أمر تصعب ثم لانا
سأصبر عن رفيقي إن جفاني ... على كل الأذى إلا الهوانا
فإن المرء يجزع في خلاءٍ ... وإن حضر الجماعة أن يهانا
لعبيد بن أيوب العنبريوقال آخر أحسبه من لصوص بني سعد.
قال أبو الحسن: هو عبيد بن أيوب العنبري، وأنشد هذا الشعر ثعلب:
فإني وتركي الإنس من بعد حبهم ... وصبري عمن كنت ما إن أزايله
لكالصقر جلى بعد ما صاد قنية ... قديراً ومشوياً عبيطاً خرادله
أهابوا به فازداد بعداً وصده ... عن القرب منهم ضوء برقٍ ووابله
ألم ترني صاحبت صفراء نبعة ... لها ربذي لم تفلل معابله
وطال احتضاني السيف حتى كأنما ... يلاط بكشحي جفنه وحمائله
أخو فلواتٍ صاحب الجن وانتحى ... عن الإنس حتى قد تقضت وساءله
له نسب الإنسي يعرف نجره ... وللجن منه شكله وشمائله
وقوله:
وصبري عمن كنت ما إن أزايله
إن: زائدة، وهي تزاد مغيرة للإعراب، وتزاد توكيداً، وهذا موضع ذلك، فالموضع الذي تغير فيه الإعراب هو وقوعها بعد"ما" الحجازية، تقول: ما زيدٌ أخاك، وما هذا بشراً، فإذا أدخلت إن هذه بطل النصب بدخولها، فقلت: ما إن زيد منطلق، قال الشاعر1:
وما إن طبنا جبنٌ ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو فروة بن مسبك".
فزعم سيبويه أنها منعت "ما" العمل كما منعت "ما" إن الثقيلة أن تنصب تقول: إن زيداً منطلق، فإذا أدخلت"ما" صارت من حروف الابتداء، ووقع بعدها المبتدأ وخبره والأفعال، نحو: إنما زيد أخوك، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1 ولولا "ما" لم يقع الفعل بعد"إن" لأن"إن" بمنزلة الفعل، ولا يلي فعل فعلاً لأنه لا يعمل فيه، فأما كان يقوم زيدٌ، "كاد يزيع قلوب فريق منهم" ففي كان وكاد فاعلان مكنيان.
و"ما" تزاد على ضربين، فأحدهما أن يكون دخولها في الكلام كإلغائها، نحو {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} 2 أي فبرحمة، وكذلك: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} 3 وكذلك {مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} 4 وتدخل لتغيير اللفظ، فتوجب في الشيء ما لولا هي لم يقع، نحو ربما ينطلق زيد، و{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} 5، ولولا" ما" لم تقع رب على الأفعال، لأنها من عوامل الأسماء، وكذلك جئت بعد ما قام زيد، كما قال المرار6:
أعلقة أم الوليد بعد ما ... أفنان رأسك كالثغام المخلس 7
فلولا" ما" لم يقع بعدها إلا اسم واحد، وكان مخفوضاً بإضافة" بعد" إليه، تقول: جئتك بعد زيد.
وقوله: "كالصقر جلى"، تأويل التجلي أن يكون يحس شيئاً فيتشوف إليه، فهذا معنى" جلى"، قال العجاج:
تجلى البازي إذا البازي كسر
أي نظر، ويقال: تجلى فلانٌ فلانه تجلياً، وأجتلاها اجتلاءً، أي نظر إليها وتأملها، والأصل واحد .
وقوله: " قديراً: ، هو ما يطبخ في القدر، يقال: قدير ومقدور، كقولك: قتيل ومقتولٌ .
ـــــــ
1 سورة فاطر 28.
2 سورة آل عمران 159.
3 سورة نوح 25.
4 سورة البقرة 26.
5 سورة الحجر 2.
6 زيادات ر: "هو المراد الفقعسى".
7 العلاقة: الحب. والوليد: تصغير الوليد، والأفتان في الصل: الغصون، وأراد بها هاهنا خصل الشعر.
وقوله:" عبيطاً خرادله"، فالعبيط الطري، يقال: لحم عبيط إذا كان طرياً، وكذلك دم عبيطٌ، ويقال اعتبط فلان بكرته إذا نحرها شابةً من غير علةٍ وكذلك اعتبط فلان إذا مات شاباً، قال أمية1:
من لم يمت عبطة يمت هرماً ... للموت كأس فالمرء ذائقها
وحدثني الزيادي إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن ابي بكر بن عبد الرحمن ابن زياد.
قال تحدث رجل من الأعراب، قال: نزلت برجل من طيئ، فنحر لي ناقة فأكلت منها، فلما كان الغد نحر أخرى، فقلت: إن عندك من اللحم ما يغني ويكفي، فقال: إني والله لا أطعم ضيفي إلا لحماً عبيطاً، قال: وفعل ذلك في اليوم الثالث وفي كل ذلك آكل شيئاً، ويأكل الطائي أكل جماعةٍ ثم نؤتى باللبن فأشرب شيئاً، ويشرب عامة الوطب2، فلما كان في اليوم الثالث ارتقبت غفلته فاضطجع، فلما امتلأ نوماً استقت قطيعاً من إبله فأقبلته الفج3، فانتبه واختصر علي الطريق حتى وقف لي في مضيق منه، فألقم وتره فوق4 سهمه، ثم نادى بي: لتطب نفسك عنها قلت أرني آية، فقال. انظر إلى ذلك الضب، فإني واضع سهمي في مغرز ذنبه، فرماه فأندر ذنبه5، فقلت زدني، فقال: انظر إلى أعلى فقاره، فرماه فأثبت سهمه في الموضع، ثم قال لي: الثالثة والله في كبدك فقلت: شأنك بإبلك فقال: كلا حتى تسوقها إلى حيث كانت. قال: فلما انتهيت بها قال: فكرت فيك فلم أجد لي عندك ترة تطالبني بها، وما أحسب الذي حملك على أخذ إبلي إلا الحاجة. قال: قلت هو والله ذاك. قال: فاعمد إلى عشرين من خيارها فخذها، فقلت: إذاٌ والله لاأفعل حتى تسمع مدحك: والله ما رأيت رجلاٌ أكرم ضيافةٌ، ولا أهدى لسبيلٍ، ولا أرمى كفاٌ، ولا أوسع صدراٌ، ولا أرغب6 جوفاٌ، ولا أكرم عفواٌ منك قال: فاستحيا فصرف وجهه عني، ثم قال: انصرف بالقطيع مباركاٌ لك فيه.
وقوله: "خرادله" يعني قطعه، يقال: ضرباٌ خردله، وتأويله قطعه، كما قال:
ـــــــ
1 زيادات ر: "ابن أبى الصلت، والصحيح أنه لرجل من الخوارج، عن الأصمعى".
2 الوطب: سقاء اللبن.
3 الفج: الطريق الواضح.
4 الفوق: مشق رأس السهم حيث يقع الوتر.
5 أندرذنبه: قطعها.
6 من الرغب، وهو سعة البطن وكثرة الأكل.
والضرب يمضي بيننا خرادلا
وقوله: "أهابوا به"، يقول: دعوه، يقال: أية به، وأهاب به: أي ناداه، قال القرشي:
أهاب بأحزان الفؤاد مهيب ... وماتت نفوس للهوى وقلوب
وقوله: "ضوء برق ووابله"، أراد صده عنهم ضوء برقٍ ووابله، فأضاف الوابل من المطر إلى البرق. وإنما الإضافة إلى الشيء على جهة التضمين، ولا يضاف الشيء إلى الشيء إلا وهو غيره أو بعضه، فالذي هو غيره: غلام زيدٍ ودار عمرو، والذي هو بعضه: ثوب خز، وخاتم حديد، وإنما أضاف الوابل إلى البرق، وليس هو له، كما قلت: دار زيد، على جهة المجاورة، وأنهما راجعان إلى السحابة، وقد يضاف ما كان كذا على السعة، كما قال الشاعر:
حتى أنخت قلوصي في دياركم ... بخير من يحتذي نعلاً وحافيها
فأضاف الحافي إلى النعل، والتقدير: حافٍ منها.
ألم ترني صاحبت صفراء نبعة
فالنبع خير الشجر للقسي، ويقال: إن النبع والشوحط والشريان شجرة واحدة، ولكنها تختلف أسماؤها وتكرم وتحسن بمنابتها، فما كان في قلة الجبل منها فهو النبع، وما كان في سفحه فهو الشوحط، وما كان في الحضيض فهو الشريان.
وقوله: "لها ربذي"، يريد وتراً شديد الحركة عند دفع السهم، يقال رجل ربذ اليد إذا كان يكثر التحريك ليديه والعبث بهما، ويوصف به الفرس لكثرة حركة قوائمه، وكان الأصل ربذاً لأنه" ربذ"، ولكن ما كان من "فعل" فنسب إليه فتح موضع العين منه استثقالاً لاجتماع ياءي النسب وكسرة اللام، لأن ياءي النسب تكسران ما تليانه، فلم يدعوا مع ذلك العين مكسورة، تقول في النسب إلى النمر بن قاسط: نمري، وإلى الحطبات: حبطي، وإلى شقرة وهو الحارث ابن تميم بن مر: شقري، وفي النسب إلى عم عموي يا فتى.
وقوله: "لم تفلل معابله"، يريد لم ينكسر حدها، من الفلول.
ويروى أن عروة بن الزبير سأل عبد الملك أن يرد عليه سيف أخيه عبد الله بن الزبير فأخرجه إليه في سيوف منتضاةٍ، فأخذه عروة من بينها، فقال له عبد الملك: بم عرفته فقال: بما قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
والمعبلة: واحد المعابل، وهي سهم خفيف، قال عنترة:
وآخر منهم أجررت رمحي ... وفي البجلي معبلة وقيع1
بإسكان الجيم لاغير .
[قال أبو الحسن: بجيلة: قبيلة من بني الهجيم، من اليمن].
ـــــــ
1 الوقيع، من وقع المدية ونحوها يقعها وقعا: أحدها. والبجلى: منسوب إلى بجلة، لقب مالك بن ثعلبة.
باب
لبعض الشعراء يحرض على خالد بن يزيدقال أبوالعباس: تزوج خالد بن يزيد بن معاوية نساء هن شرف من هن منه، منهن أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وآمنة بنت سعيد بن العاصي بن أمية، ورملة بنت الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، ففي ذلك يقول بعض الشعراء يحرض عليه عبد الملك:
عليك أمير المؤمنين بخالدٍ ... ففي خالدٍ عما تحب صدود
إذا ما نظرنا في مناكح خالدٍ ... عرفنا الذي ينوي وأين يريد؟
فطلق آمنة بنت سعيد، فتزوجها الوليد بن عبد الملك، ففي ذلك يقول خالد:
فتاة أبوها ذو العصابة، وابنه ... وعثمان، ما أكفاؤها بكثير
فإن تفتلتها والخلافة، تنقلب ... بأكرم علقي منبر وسرير
قوله: " أبوها ذو العصابة"يعني سعيد بن العاصي بن أمية، وذلك أن قومه يذكرون أنه كان إذا اعتم لم يعتم قرشي إعظاماٌ له، وينشدون:
أبو أحيحة من يعتم عمته ... يضرب وإن كان ذا مالٍ وذا عدد
ويزعم الزبيريون أن هذا البيت باطل موضوع.
وقوله: " فإن تفتلتها" : يقول: تأخذها فجاءةٌ، ومن ذلك قول الشاعر:
من يأمن الأيام بعد ... صبيرة القرشي ماتا1
سبقت منيته المشيب ... وكان ميتته افتلاتا
وفي الحديث أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أمي افتلتت، أي ماتت فجاءة.
ـــــــ
1 زيادات ر: "صبيرة، بالصاد مهملة في الرواية المشهورة، وبالضاد معجمة، رواية عاصم، على الشرط وكسر النون لالتقاء الساكنين" رواية ابن سراج برفع "يأمن"، على الاستفهام".
لخالد بن يزيد في رملة بنت الزبيرويروى أن آمنه لبثت عند الوليد، فلما هلك عبد الملك سعى بها ساع إلى الوليد. قال أبو العباس: وبلغني أنها سعت بها إحدى ضراتها إلى الوليد بأنها لم تبك على عبد الملك كما بكى نظائرها فقال لها الوليد في ذلك، فقالت: صدق القائل، أكنت قائلة ماذا أقول ياليته كان بقي حتى يقتل أخاً لي آخر كعمرو بن سعيد! وفي رملة بنت الزبير يقول خالد:
تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالاً يجول ولا قلبا1
فلا تكثروا فيها الملام فإنني ... تخيرتها منهم زبيرية قلبا2
أحب بني العوام طراً لحبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
وزيد فيها:
فإن تسلمي أسلم وإن تتنصري ... يعلق رجال بين أعينهم صلبا
فيروى أن عبد الملك ذكر له هذا البيت، فقال له: يا خالد، أتروي هذا البيت فقال: يا أمير المؤمنين، على قائلة لعنة الله!
ـــــــ
1 القلب هنا: السوار.
2 امرأة قلب، بفتح القاف: خالصة النسب.
زواج الحجاج بن يوسف بابنة عبد الله بن جعفر ثم طلاقه لهاوذكر العتبي أن الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي لما أكره عبد الله بن جعفر على أن زوجه ابنته استأجله في نقلها سنة، ففكر عبد الله بن جعفر في الانفكاك منه، فألقي في روعه خالد بن يزيد، فكتب إليه يعلمه ذلك، وكان الحجاج تزوجها بإذن عبد الملك، فورد على خالد كتابه ليلاً، فاستأذن من ساعته على عبد الملك، فقيل له: أفي هذا الوقت فقال: إنه أمر لا يؤخر، فأعلم عبد الملك بذلك. فأذن له، فلما دخل عليه، قال له عبد الملك: فيم السرى يا أبا هاشم قال: أمر جليل لم آمن أن أؤخر، فتحدث علي حادثة فلا أكون قضيت حق بيعتك، قال: وما? قال: أتعلم أنه ما كان بين حيين من العداوة
والبغضاء ما كان آل الزبير وآل أبي سفيان? قال لا. قال: فإن تزويجي إلى آل الزبير حلل ما كان لهم في قلبي، فما أهل بيت أحب إلي منهم، قال: فإن ذلك ليكون، قال: فكيف أذنت للحجاج أن يتزوج في بني هاشم، وأنت تعلم ما يقولون ويقال فيهم، والحجاج من سلطانك بحيث علمت قال: فجزاه خيراٌ، وكتب إلى الحجاج بعزمةٍ أن يطلقها فطلقها، فغدا الناس عليه يعزونه عنها، فكان فين أتاه عمرو بن عتبة بن أبي سفيان، فأوقع الحجاج بخالد، فقال: كان الأمر لآبائه فعجز عنه حتى انتزع منه. فقال له عمرو بن عتبة: لاتقل ذا أيها الأمير، فإن لخالد قديماٌ سبق إليه، وحديثاٌ لم يغلب عليه، ولو طلب الأمر لطلبه بحد وجد، ولكنه علم علماٌ، فسلم العلم إلى أهله، فقال الحجاج: يا آل أبي سفيان، أنتم تحبون أن تحلموا ولا يكون الحلم إلا عن غضب، فنحن نغضبكم في العاجل ابتغاء مرضاتكم في الآجل، ثم قال الحجاج: والله لأتزوجن من هو أمس به رحماٌ، ثم لا يمكنه فيه شيء، فتزوج أم الجلاس بنت عبد الله بن خالد بن أسيد.
أما قوله: "ألقي في روعه" ، فإن العرب تقول ألقي في روعي، وفي قلبي وفي جخيفي وفي تاموري كذا كذا، ومعناه كله واحد، إلا أن لهذه الأشياء. مواضع مختصة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وصلم: "إن روح القدس نفث في روعي"، فالروع والجخيف غير مختلفين، والعرب تقول: أذهب الله قلبه، ولا قلب له. ولا تقول: لاروع له، فكأن الروع هو متصل بالقلب، وعنه يكون الفهم خاصة، ويقال: رأيت قلب الطائر. ولا يقال: رأيت روع الطائر، والتامور عند العرب: بقية النفس عند الموت، وبعضهم يفصح عنه فيجعله دم القلب خاصة الذي يبقى للا نسان ما بقي، يقال: ضعه في تامورك وفي قلبك وفي روعك وفي جخيفك. والذماء، ممدود: مثل التامور سواء تقول العرب: ليس في الحيوان أطول ذماء من الضب، وذلك أنه يذبح ثم يطرح في النار بعد أن ظن أنه قد برد فربما سعى من النار.
نبذ من أقوال الحكماءوقال رجل لإبراهيم بن أدهم: عظني، فقال: اتخذ الله صاحباً وذر الناس جانباً.
قال سعيد بن المسيب: كنت بين القبر والمنبر مفكراً، فسمعت قائلاً ولم أره: اللهم إني أسألك عملاً باراً. ورزقاً داراً. وعيشاً قاراً.1
قال سعيد: فلزمتهن فلم أر إلا خيراً .
وقال الأصمعي: كان من دعاء أبي المجيب: اللهم اجعل خير عملي ما قارب أجلي .
قال: وكان يقول في دعائه: اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا فنعجز، ولا إلى الناس فنضيع.
ـــــــ
1 قارا: مستقرا.
أعرابي في حلقة يونسقال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: حدثني أبو زيد قال: وقف علينا أعرابي في حلقة يونس النحوي فقال: الحمد لله كما هو أهله، وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه، خرجنا من المدينة، مدينة رسول الله صلى الله عليه سلم، ثلاثين رجلاً ممن أخرجته الحاجة، وحمل على المكروه، لا يمرضون مريضهم، ولا يدفنون ميتهم، ولا ينتقلون من منزلٍ إلى منزل وإن كرهوه. والله يا قوم لقد جعت حتى أكلت النوى المحرق، ولقد مشيت حتى انتعلت، وحتى خرج من قدمي بخص ولحم كثير. أفلا رجل يرحم ابن سبيل، وفل طريق، ونضو سفر فإنه لا قليل من الأجر، ولا غنى عن ثواب الله عز وجل، ولا عمل بعد الموت، وهو الذي يقول جل ثناؤه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} 2 ملي وفي ماجد واجد جوادٌ، لا يستقرض من عوزٍ، ولكنه يبلو الأخيار. قال: فبلغني أنه لم يبرح حتى أخذ ستين ديناراً .
قوله: "بخص"، يريد اللحم الذي يركب القدم، هذا قول الأصمعي، وقال غيره: هو لحم يخلطه بياض من فساد يحل فيه، ويقال: بخصت عينه، بالصاد، ولا يجوز إلا ذلك، ويقال. بخسته حقه، بالسين: إذا ظلمته ونقصته، كما قال الله عز وجل: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} 3، وفي المثل: "تحسبها حمقاء وهي باخسٌ" ويدل على أنه اللحم الذي قد خالطه الفساد قول الراجز:
ـــــــ
1 قارا: مستقرا.
2 سورة البقرة 345.
3 سورة الأعراف 85.
[قال أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش: الراجز هو أبو شراعة]
يا قدمي لا أرى لي مخلصاً ... مما أراه أو تعودا بخصا1
وقوله "فل" فالفل في أكثر كلامهم: المنهزم الذاهب .
وفي خبر كعب بن معدان الأشعري2"إنا آثرنا الحد على الفل". يعني مجاهدتهم عبد ربه الصغير، لأنه كان مقبلاً على حربهم وتركهم قطرياً لأنه كان منهزماً.
ـــــــ
1 قال المرصفى: "يريد ذواتى بخس".
2 زيادات ر: "الأشقرى، بالقاف لاغير". وخبر كعب هو حديثه مع الحجاج بن يوسف، وكان قد وجهه المهلب بن أبى صفوة الأزدى يبشره بمناهدته الخوارج وفراغه لهم.
وانظر رغبة الأمل 28:5".
خبر الحجاج بن علاط السلمي مع قريشوفي حديث الحجاج بن علاط السلمي. وكان قد أسلم ولم تعلم قريش بإسلامه، فاستأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خيبر في أن يصيرإلى مكة فيأخذ ما كان له من مال، وكانت له هناك أموال متفرقة، وهو غريب بينهم إنما هو أحد بني سليم بن منصور، ثم أحد بني بهزٍ فأذن له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، إني أحتاج أن أقول، قال: "فقل".
قال أبو العباس: وهذا كلام حسن ومعنى حسن، يقول: أقول على جهةالاحتيال غير الحق، فأذن له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه من باب الحيلة، وليس هو من باب الفساد، وأكثر ما يقال في هذا المعنى تقول، كما قال المولى عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} 2 فصار إلى مكة فقالت قريش: هذا لعمر الله عنده الخبر. قال: فقولوا: بلغنا أن القاطع4 قد يخرج إلى أهل خيبر، فقال الحجاج: نعم، فقتلوا أصحابه قتلاً لم يسمع بمثله، وأخذوه أسيراً، وقالوا: نرى أن نكارم به قريشاً، فندفعه إليهم، فلا تنال لنا هذه اليد في رقابهم. وإنما بادرت لجمع مالي لعلي أصيب به من فل محمدٍ وأصحابه قبل أن تسبقني إليه
ـــــــ
1 سورة الطور 44.
2 يصفون محمدا بقطع الأرحام، وحاشاه.
التجار ويتصل بهم الحديث. قال: فاجتهدوا في أن جمعوا إلي مالي أسرع جمعٍ، وسروا أكثر سروراً، وقالوا بلا رغم1، وأتاني العباس وهو كالمرأة الواله2 فقال: ويحك يا حجاج ما تقول قال: فقلت: أكاتمٌ أنت علي خبري? فقال: إي والله قال: فقلت: فالبث علي شيئاً حتى يخف موضعي. قال فسرت إليه، فقلت. الخبر والله على خلاف ما قلت لهم، خلفت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد فتح خيبر، وخلفته والله معرساً بابنة ملكهم، وما جئتك إلا مسلماً، فاطو الخبر ثلاثاً حتى أعجز القوم، ثم أشعه، فإنه والله الحق، فقال: العباس: ويحك، أحق ما تقول? قلت إي والله قال: فلما كان بعد ثلاثة تخلق العباس، وأخذ عصاه وخرج يطوف بالبيت قال: فقالت: قريش: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة فقال: كلا، ومن حلفتم به لقد فتحها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعرس بابنة ملكهم فقالوا: من اتاك بهذا الحديث? فقال: الذي أتاكم بخلافه، ولقد جاءنا مسلماً، ثم أتت الأخبار من النواحي بذلك، فقالوا: أفلتنا الخبيث، أولى له3.
وأصل الفل مأخوذ من فللت الحديدة4 إذا كسرت حدها. والنضو: البالي المجهود، ويقال ناقة نضوٌ: إذا جهدها السير، وجمعه أنضاءٌ، وفلان نضوً من المرض .
وقوله: "لا يستقرض من عوزٍ"، فالعوز: تعذر المطلوب، يقال: أعوز فلان فهو معوز إذا لم يجد، والمعاوز في غير هذا الموضع: الثياب التي تبتذل ليصان بها غيرها. وقوله: "ولكن ليبلوا الأخيار"، يقال: الله يبلوهم ويبتليهم ويختبرهم في معنى، وتأويله: يمتحنهم، وهو العالم عز وجل بما يكون كعلمه بما كان، قال ال جلله ثناؤه {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 5 قال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: رأيت أبا فرعون العدوي، ومعه
ـــــــ
1 الرغم هنا: الكره.
2 الواله: الحزينة.
3 أولى له: كلمة تهديد وتوعد، غلبت في الدعاء بالعسر.
4 الحديدة: وصف للسكين يقال سكين حديدة، وحادة.
5 سورة هود 7.
ابنتاه، وهو في سكة العطارين بالبصرة يقول:
بنيتي صابرا أباكما ... إنكما بعين من يراكما
الله ربي سيدي مولاكما ... ولو يشاء عنهم أغناكما
وكان أبو فرعون، وهو من بني عدي بن الرباب بن عبد مناة بن أد، وقال اليزيدي: هو مولاهم وكان فصيحاً، وقدم قوم من الأعراب البصرة من أهله، فقيل له: تعرض لمعروفهم، فقال:
ولست بسائل الأعراب شيئاً ... حمدت الله إذ لم يأكلوني
حديث رجل من الصيارفة افتقروروى الأسدي أنه افتقر أنه رجل من الصيارفة بإلحاح الناس في أخذ أموالهم التي كانت لهم لديه، وتعذر أمواله التي كانت له عند الناس، فسأل جماعة من الجيران أن يصيروا معه إلى رجل1 من قريش كان موسراٌ من أولاد أجوادهم ليسد من خلته، فصاروا إليه، فجلسوا في الصحن، فخرج إليهم يخطر بقضيب في يده، حتى ثنى وسادةٌ فجلس عليها، فذكروا حاجتهم وخلة صاحبهم، مع قديم نعمته وقريب جواره، فخطر بالقضيب. ثم قال متمثلاٌ2:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة تقوى أو صديق توامقه3
بخلت وبعض البخل حزم وقوة ... فلم يفتلذك المال إلاحقائقه
ثم أقبل على القوم، فقال: إنا والله ما نجمد عن الحق، ولا نتدفق في الباطل، وإن لنا لحقوقاٌ تشغل فضول، وما كل من أفلس من الصيارفة احتلنا لجبره، قوموا رحمكم الله قال: فابتدر القوم الأبواب.
قوله: "فلم يفتلذك المال"، يقول: لم يقتطع منك، يقال فلذ له من العطاء: أي قطع له، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدرٍ حين قال الغلامان: في القوم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام بن هشام، وأمية بن خلف وفلان وفلان، فقال رسول الله صلى عليه وسلم: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها".
وقال أبو قحافة أعشى باهلة يعني المنتشر بن وهب الباهلي:
تكفيه فلذة كبدٍ إن ألم بها ... من الشواء ويكفي شربة الغمر
ـــــــ
1 هو ابن عمران الطلحى.
2 زيادات ر: "الشعر لنصيب؛ وقيل لكثير، والأول أثبت".
3 توامقه: توده.
رجل من أزد شنوءة بين يدي عتبة بن أبي سفيانقال عبد الملك بن عمير، استعمل عتبة بن أبي سفيان رجلاٌ من آله على الطائف، فظلم من أزد شنوءة، فأتى الأزدي عتبة، فمثل بين يديه، فقال:
أمرت من كان مظلوماٌ ليأتيكم ... فقد أتاكم غريب الدار مظلوم
ثم ذكر ظلامته، فقال له عتبة: إني أراك أعرابياً جافياً، والله ما أحسبك تدري كم تصلي في كل يوم وليلة فقال: أرأيت إن أنبأتك ذلك، أتجعل لي عليك مسألة? قال نعم، فقال الأعرابي:
إن الصلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهن أربع
ثم صلاة الفجر لا تضيع
فقال: فاسأل: فقال: كم فقار ظهرك فقال: لا أدري، فقال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك قال: ردوا عليه غنيمته.
قوله: "فقار"، إنما هو جمع فقارة، ويقال فقرة، فمن قال في الواحدة فقرة قال في الجميع: فقر، كسرة وكسر، ومن قال للواحدة: فقارة، قال للجميع: فقارٌ، كقولك دجاجة ودجاج، وحمامة وحمامٌ.
أعرابي عند معاويةوشهد أعرابي عند معاوية بشيء كرهه، فقال له معاوية: كذبت فقال الأعرابي: الكاذب والله متزمل في ثيابك. فقال معاوية وتبسم: هذا جزاء من عجل.
حديث السواقطقال أبو العباس: قرأت على عبد الله بن محمد المعروف بالتوزي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي، قال: كانت السواقط ترد اليمامة في الأشهر الحرم لطلب التمر، فإن وافقت ذلك، وإلا أقامت بالبلد إلى أوانه، ثم تخرج منه فيشهر حرام، فكان الرجل منهم إذا قدم يأتي رجلً من بني حنيفة، وهم أهل اليمامة، أعني بني حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط ابن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربعة بن نزار فيكتب له على سهم أو غيره: "فلان جار فلان" والسواقط: من ورد اليمامة من غير أهلها، وقد كان النعمان بن المنذر أراد أن يجليهم منها، فأجارهم مرارة بن سلمي الحنفي.
ثم أحد بني ثعلبة بن الدول بن حنيفة، فسوغه الملك ذلك، فقال أوس بن حجرٍ يحض النعمان عليه:
زعم ابن سلمي مرارة أنه ... مولى السواقط دون آل المنذر
منع اليمامة حزنها وسهولها ... من كل ذي تاجٍ كريم المفخر
وذكر أبو عبيدة أن رجلاً من السواقط من بني أبي بكر بن كلاب قدم اليمامة، ومعه أخ له، فكتب له عمير بن سلمى أنه له جار وكان أخو هذا الكلابي جميلاً فقال له قرين، أخو عمير: لا تردن أبياتنا بأخيك هذا، فرآه بعد بين أبياتهم، فقتله.
قال أبو عبيدة: وأما المولى1 فذكر أن قريناً أخا عميرٍ كان يتحدث إلى امرأة أخي الكلابي، فعثر عليه زوجها فخافه قرين عليها فقله، وكان عمير غائباً، فأتى الكلابي قبر سلمي أبي عمير وقرين فاستجار به وقال:
[قال أبو الحسن الأخفش، قال أبو العباس: قرينٌ، ووجدته بخط دماذ، صاحب أبي عبيدة قرين].
وإذا استجرت من اليمامة فاستجر ... زيد بن يربوع وآل مجمع
وأتيت سلمياً فعذت بقبره ... وأخو الزمانة عائدٌ بالأمنع2
أقرين إنك لو رأيت فوارسي ... بعمامتين3 إلى جوانب ضلفع4
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغل الإصبع
فلجأ قرينٌ إلى قتادة بن مسلمة بن عبيد بن يربوع بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة، فحمل قتادة إلى الكلابي دياتٍ مضاعفةً، وفعلت وجوه بني حنيفة مثل
ـــــــ
1 السواقط هنا: اللثام.
2 هو الذي أجاره عمير.
3 عماية: جبل بنجد، وإنما ثناه بما حوله.
4 الزمانة: العاهة، يريد بها هنا الضعف. والأمنع: الذي به قوة تمنع من يريده بسوء.
ذلك فأبى الكلابي أن يقبل، فلما قدم عمير قالت له أمه وهي أم قرين: لا تقتل أخاك، وسق إلى الكلابي جميع ماله، فأبى الكلابي أن يقبل، وقد لجأ قرينٌ إلى خاله السمين بن عبد الله فلم يمنع عميراً منه، فأخذه عميرٌ فمضى به حتى قطع الوادي فربطه إلى نخلة، وقال للكلابي: أما إذ أبيت إلا قتله فأمهل حتى أقطع الوادي، وارتحل عن جواري فلا خير لك فيه، فقتله الكلابي، ففي ذلك يقول عمير:
قتلنا أخانا للوفاء بجارنا ... وكان أبونا قد تجير مقابره
وقالت أم عمير:
تعد معاذراً لا عذر فيها ... ومن يقتل أخاه فقد ألاما
وقوله: "ولم تكن للغدر خائنةً"، ولم يقل خائناً. فإنما وضع هذا في موضع المصدر والتقدير: ولم تكن ذا خيانة .
وقوله"للغدر": أي من أجل الغدر، وقال المفسرون والنحويون في قول الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} 1 أي لشديدٌ: من أجل حب الخير، والخير ههنا: المال، من قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} 2.
وقوله" لشديدٌ": أي لبخيل، والتقدير والله أعلم: إنه لبخيل من أجل حبه للمال، تقول العرب: فلان شديد ومتشدد أي بخيل، قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد3
وقلما يجيء المصدر على فاعل، فمما جاء على وزن "فاعل": قولهم عوفي عافيةً، وفلج فالجاً، وقم قائماً: أي قم قياماً، وكما قال:
ـــــــ
1 سورة العاديات 8.
2 سورة البقرة 18.
3 يعتام: يختار،وعقيلة المال: أكرمه: والفاحش: السيء الخلق.
ولا خارجاً من في زور كلام
أي ولايخرج خروجاً، وقد مضى تفسير هذا .
والمغل الذي عنده غلول، وهو ما يختان ويحتجن، ويستعمل مستعاراً في غير المال، يقال: غل يغل كقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1.
ويقال: أغل فهو مغل إذا صودف يغل، أو نسب إليه، ومن قرأ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} 2. فتأويله أن يأخذ ويستأثر، ومن قرأ: {يَغُلَّ} فتأويله على ضربين يكون أن يقال ذلك فيه، ويكون وهو الذي يختار أن يخون، فإن قال قائل كيف يكون التقدير، وقد قال: ما كان لنبي أن يغل فيغل لغيره، وأنت لا تقول ما كان لزيد أن يقوم عمرو? فالجواب أنه في التقدير على معنى: ما ينبغي لنبي أن يخون، كما قال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} 3. ولو قلت: ما كان لزيد أن يقوم عمرو إليه لكان جيداً، على تقديرك: ما كان زيدٌ ليقوم عمرو إليه، كما قلنا في الآية .
والإصبع، أفصح ما يقال وقد يقال: أصبع وإصبع وأصبع موضعها ههنا موضع اليد. يقال: لفلان عليك يدٌ، ولفلان عليك إصبعٌ، وكل جيدٌ، وإنما يعني ههنا النعمة.
وأما قوله:
قتلنا أخانا للوفاء بجارنا
فيكون على ضربين: أحدهما أن يكون فخم نفسه وعظمها، فذكرها باللفظ الذي يذكر الجميع به، والعرب تفعل هذا ويعد كبراً، ولا ينبغي على حكم الإسلام أن يكو هذا مستعملاً إلا عن الله عز وجل، لأنه ذو الكبرياء، كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 4 و{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} 5، وكل صفات الله أعلى الصفات وأجلها، فما استعمل في المخلوقين على تلك الألفاظ
ـــــــ
1 سورة آل عمران 161.
2 قال المرصفى: يريد أنه مأخوذ من غل الثلائ المبنى للمفعول، وتأويلة: أن يؤخذ.
3 سورة آ ل عمران 145.
4 سورة القدر 1.
5 سورة النساء 163.
وإن خالفت في الحكم فحسن جميل، كقولك: في فلان عالم، وفلان قادرٌ، وفلان رحيم، وفلان ودودٌ، إلا ما وصفنا قبل من ذكر التكبر، فإنك إذا قلت: فلان جبار أو متكبر كان عليه عيباً ونقصاً، وذلك لمخالفة هاتين الصفتين الحق. وبعدهما من الصواب، لأنهما للمبدئ المعيد الخالق البارئ، ولا يليق ذلك بمن تكسره الجوعة، وتطغيه الشبعة، وتنقصه اللحظة، وهو في كل أموره مدبرٌ. وأما القول الآخر في البيت وهو" قتلنا أخانا" فمعناه أنه له ولمن شايعه من عشيرته .
وأما قولها:
ومن يقتل أخاه فقد ألاما
تقول: أتى ما يلازم عليه، يقال: ألام الرجل إذا تعرض لأن يلام.
باب
مما أنشد أبو محلم السعديقال أبو العباس: انشدني السعدي أبو محلمٍ:
إنا سألنا قومنا فخيارهم ... من كان أفضلهم أبوه الأول
أعطى الذي أعطى أبوه قبله ... وتبخلت أبناء من يتبخل
وأنشدني أيضاً:
لطلحة بن حبيب حين تسأله ... أندى وأكرم من فند بن هطال
وبيت طلحة في عز ومكرمةٍ ... وبيت فندٍ إلى ربقٍ وأحمال1
ألا فتى من بني ذبيان يحملني2 ... وليس يحملني إلا ابن حمال
فقلت طلحة أولى من عمدت له ... وجئت أمشي إليه مشي مختال
مستيقناً أن حبلي سوف يعلقه ... في رأس ذيالةٍ أو رأس ذيال
قوله:" إلى ربق وأحمال"، إنما أراد جمع حملٍ على القياس، كما تقول في جميع باب فعل: جملٌ وأجمالٌ، وصنمٌ وأصنامٌ .
وقوله:
ألا فتى من بني ذبيان يحملني
يعني ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر، وأنشد بعضهم:
وليس حاملني إلا ابن حمال
وهذا لايجوز في الكلام، لأنه إذا نون الاسم لم يتصل به المضمر، لأن المضمر لا يقوم بنفسه، فإنما يقع معاقباً للتنوين، تقول: هذا ضارب زيداً غداً، وهذا ضاربك غداً، ولا يقع التنوين ههنا، لأنه لو وقع لا نفصل المضمر، وعلى هذا قول الله تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} 3. وقد روى سيبويه يتين محمولين
ـــــــ
1 ربق: جبل فيه عدة عرا تشد به إليهم، وأحمال: جمع حمل بالفتح، وهو الخروف وفيه أيضا أجمال جمع جمل.
2 يحملنى. من حمله إذا أعطاه ما يحمله من الدواب.
3 سورة العنكبوت 33.
على الضرورة، وكلاهما مصنوع، وليس أحد من النحويين المفتشين يجيز مثل هذا في الضرورة، لما ذكرت من انفصال الكناية، والبيتان اللذان رواهما سيبويه:
هم القائلون الخير والأمرونه ... إذا مال خشوا يوماً من الأمر معظما
وأنشد:
ولم يرتفق والناس محتضرونه ... جميعاً وأيدي المعتفين رواهقه1
وإنما جاز أن تبين الحركة إذا وقفت في نون الاثنين والجميع لأنه لا يلتبس بالمضمر، تقول: هما رجلانه، وهم ضاربوه، إذا وقفت، لأنه لا يلتبس بالمضمر إذ كان لا يقع هذا الموقع، ولا يجوز، تقول ضربته، وأنت تريد ضربت، والهاء لبيان الحركة، لأن المفعول يقع في هذا الموضع، فيكون لبساً، فأما قولهم: ارمه واغزه فتلحق الهاء لبيان الحركة، فإنما جاز ذلك لما حذفت من أصل الفعل، ولا يكون في غير المحذوف .
وقوله: "في رأس ذيالة"، يعني فرساً أنثى أو حصاناً، والذيال: الطويل الذنب، وإنما يحمد منه طول شعر الذنب، وقصر العسيب2، واما الطويل العسيب فمذموم، ويقال ذلك للثور ايضاً أعني ذيالاً، قال امرؤ القيس:
فجال الصوار واتقين بفرهب ... طويل القرا والروق أخنس ذيال3
ويقال أيضاً للرجل: ذيالٌ إذا كان يجر ذيله اختيالاً، ويقال له: فضفاضٌ في ذلك المعنى.
ـــــــ
1 يرنفق: يتكىء على يده. المعتفون طلاب المعروف. ورواهقه: دانية منه.
2 العسيب: مستدق عظم الذنب.
3 الصوار: القطيع من بقر الوحش، والقرهب: الثور المسن الضخم. والقرا: الظهر. والروق: القرن.
من كلام عمر بن عبد العزيز لمؤدبهويروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لمؤدبه: كيف كانت طاعتي إياك وأنت تؤدبني? فقال أحسن طاعةٍ. قال: فأطعني الآن كما أطيعك إذ ذاك خذ من شاربك حتى تبدو شفتاك، ومن ثوبك حت تبدو عقباك .
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فضل الازار في النار" .
لرجل يخاطب آخر اسمه ددوقال آخر1:
ما لدد ما لددٍ ما له ... يبكي وقد أنعمت ما باله
ما لي أراه مطرقاً سامياً ... ذا سنةٍ يوعد أخواله
وذاك منه خلق عادةٌ ... أن يفعل الأمر الذي قاله
إن ابن بيضاء وترك الندى ... كالعبد إذ قيد أجماله
آليت لا أدفن قتلاكم ... فدخنوا المرء وسرباله
والدرع لا أبغي بها نثرةً ... كل امرئٍ مستودعٌ ماله
والرمح لا أملأ كفي به ... واللبد لا أتبع تزوال
قوله: "ما لدد"، يعني رجلاٌ، ودد في الأصل . هو اللهو، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لست من وددٍ ولاددٌ مني"، وقد يكون في غير هذا الموضع مأخوذاٌ من العادة، وهذه اللام الخافضة تكون مكسورة مع الظهر ومفتوحة مع المضمر، والفتح أصلها، ولكن كسرت مع الظاهر خوف اللبس بلام الخبر، تقول إن هذا لزيد، فيعلم أنه شيء في ملك زيد: فإن قلت: إن هذا لزيدٌ في الوقف، علم قبل الإدراج إنه زيد، ولو فتحت المكسورة لم يعلم الملك من المعنى الآخر في الوقف، وأما المضمر فبين فيه، لأن علامة المخفوض غير علامة المرفوع، تقول: إن هذا لك، وإن هذا أنت.
وقوله:
......... وقد أنعمت ما باله
فـ"ما" زائدة، والبال ههنا: الحال، وللبال موضع آخر، وحقيقته الفكر، تقول: ما خطر هذا على بالي.
وقوله:" مطرقاً سامياً" فالسامي الرافع رأسه، يقال سما يسمو إذا ارتفع، والمطرق: الساكت المفكر المنكس رأسه، فإنما أراد سامياً بنفسه.
وقوله: "ذا سنةٍ "يقول: كأنه لطول إطراقه في نعسةٍ. وقوله:
ـــــــ
1 نسبه المرصفى إلى سلمة بن ذهل التيمى.
كالعبد إذ قيد أجماله
يريد أنه غير مكترث لاكتساب المجد والفضل، وذلك أن العبد الراعي إذا قيد أجماله لف رأسه ونام حجرةٌ، وهذا شبيه بقوله:
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وقوله:
فدخنوا المرء وسرباله
يروي أنه طعن فارساً فأحدث، فقال: نظفوه فإني لا أدفن القتيل منكم إلا طاهراً، وقوله:
والدرع لا أبغي بها نثرة
فالنثرة: الدرع السابغة، يقول: درعي هذه تكفيني، وقوله:
كل امرىءٍ مستودعٌ ماله
أي مسترهن بأجله، وهو كقول الأعشى:
كنت المقدم غير لابس جنةٍ ... بالسيف تضرب معلماً أبطالها
وعلمت أن النفس تلقى حتفها ... ما كان خالقها الفضيل قضى لها
وقوله:
الرمح لا أملأ كفي به
يتأول على وجهين: أحدهما أن الرمح لا يملأ كفي وحده، أنا أقاتل بالسيف وبالرمح وبالقوس وغير ذلك. والقول الآخر أني لا أملأ كفي به إنما أختلس به كما قال الشاعر:
ومدجج سبقت يداي له ... تحت الغبار بطعنه خلس
وقوله:
واللبد لا أتبع تزواله
يقول: إن انحل الحزام فمال اللبد لم أمل معه، أي أنا فارس ثبتٌ.
للفرزدق وقد نزل به ذئب فأضافهوقال الفرزدق، ونزل به ذئبٌ فأضافه:
وأطلس عسالٍ وما كان صاحباً ... رفعت لناري موهناً فأتاني
فلما دنا قلت أدن دونك إنني ... وإياك في زادي لمشتركان
فبت أقد الزاد بيني وبينه ... على ضوء نارٍ مرة ودخان
وقلت له لمت تكشر ضاحكاً ... وقائم سيفي من يدي بمكان
تعش فإن عاهدتني لاتخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وأنت امرؤٌ يا ذئب والغدر كنتما ... أخيين كانا أرضعا بلبان
ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى ... رماك بسهمٍ أو شباة سنان
قوله:" وأطلس عسال"، فالأطلس الأغبر. وحدثني مسعود بن بشرٍ قال: أنشدني طاهر بن علي الهاشمي قال: سمعت عبد الله بن طاهر بن الحسين ينشد في صفة الذئب:
بهم بني محاربٍ مزداره1 ... أطلس يخفى شخصه غباره
في شدقه شفرته وناره
قوله: " يخفي شخصه غباره"، يقول: هو في لون الغبار، فليس يتبين فيه. وقوله:" عسال"، فإنما نسبه إلى مشيته، يقال: مر الذئب يعسل، وهو مشيٌ خفيف كالهرولة، قال الشاعر2 يصف رمحاً:
لدنٌ بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
وقال لبيدٌ:
عسلان الذئب أمسى قارباً ... برد الليل عليه فنسل
قال أبو عبيدة: نسل في معنى عسل، وقال الله عز وجل: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} 3. وخفض بهذه الواو لأنها في معنى "رُبَّ"، وإنما
ـــــــ
1 البهم: واحدتها بهمة، وهي الصغيرة من أولاد الغنم.
2 هو ساعدة بن جؤية الهذلى، وانظر ديوان الهذليين ج1 ص190.
3 سورة الأنبياء 96.
جاز أن يخفض بها لوقوعها في معنى"رب" لأنها حرف خفض، وهي أعني الواو تكون بدلاً من الباء في القسم لأن مخرجها في مخرج الباء من الشفة، فإذا قلت: والله لأفعلن، فمعناه: أقسم بالله لأفعلن، فإن حذفتها قلت: الله لأفعلن، لأن الفعل يقع على الاسم فينصبه، والمعنى معنى"الباء" كما قال عز وجل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} 1. وصل الفعل فعمل، والمعنى معنى"من" لأنها للتبعيض، فقد صارت"الواو" تعمل بلفظها عمل "الباء"، وتكون في معناها، وتعمل عمل "رب" لاجتماعها في المعنى للاشتراك في المخرج.
وقوله: "رفعت لناري"، من القلوب، إنما أراد رفعت له ناري والكلام إذا لم يدخله لبسٌ جاز القلب للاختصلر، قال الله عز وجل: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} 2. والعصبة تنوء بالمفاتيح، أي تستقل بها في ثقلٍ، ومن كلام العرب: إن فلانة لتنوء بها عجيزاتها، والمعنى لتنوء بعجيزاتها، وأنشد أبو عبيدة للأخطل:
أما كليب بن يربوع فليس لها ... عند التفاخر إيرادٌ ولا صدر
مخلفون ويقضي الناس أمرهم ... وهم بغيبٍ وفي عمياء ما شعروا
مثل القنافذ هداجون قد بلغت ... نجران أو بلغت سوءاتهم هجر
فجعل الفعل للبلدتين على السعة.
ويروى أن يونس بن حبيبٍ قال لأبي الحسن الكسائي: كيف تنشد بيت الفرزدق? فأنشده:
غداة أحلت لابن أصرم طعنةٌ ... حصين عبيطات السدائف والخمر3
فقال الكسائي لما قال:
"غداة أحلت لابن أصرم طعنة ... حصين عبيطات السدائف .."
تم الكلام. فحمل الخمر على المعنى، أراد: وحلت له الخمر، فقال له
ـــــــ
1 سورة الأعراف 155.
2 سورة القصص 76.
3 هو حصين بن أصرم، من بنى ضبة، وكان نذر ألا يأكل لحما ولا يشرب خمرا حتى يقتل ابن الجون الكندى. والسدائف: جمع سديف وهو السنام، والعبيطات: الطرية.
يونس: ما أحسن ما قلت ولكن الفرزدق أنشدنيه على القلب، فنصب الطعنة ورفع العبيطات والخمر على ما وصفناه من القلب. والذي ذهب إليه الكسائي أحسن في محض العربية، وإن كان إنشاد الفرزدق جيداً.
وقوله: "لما دنا قلت ادن دونك" أمر بعد أمرٍ، وحسن ذلك لأن قوله: "أدن" للتقريب، وفي قوله: "دونك"،أمره بالأكل، كما قال جرير لعياش بن الزبرقان:
أعياش قد ذاق القيون مواسمي1 ... وأوقدت ناري فادن دونك فاصطل
وقوله:
على ضوء نارٍ مرة ودخان
يكون على وجهين: أحدهما على ضوء نار، وعلى دخانٍ أي على هاتين الحالتين ارتفعت النار أو خبت. وجائز أن يعطف الدخان على النار، وإن لم يكن للدخان ضياءٌ، ولكن للاشتراك كما قال الشاعر:
ياليت زوجك قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحا
لأن معناها الحمل، وكما قال:
شراب ألبانٍ وتمرٍ وأقط
فأدخل التمر في المشروب لاشتراك المأكول والمشروب في الحلوق وهذه الآية تحمل على هذا: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} 2.
والشواظ: اللهب لا دخان له والنحاس: الدخان، وهو معطوف على النار، وهي مخفوضة بالشواظ لما ذكرت لك، قال النابغة الجعدي:
تضيء كمثل سراج الذبا ... ل لم يجعل الله فيه نحاسا
وقوله:
نكن مثل من يا د ئب يصطحبان3
ـــــــ
1 زيادات ر: "جمع ميسم، وهو حديدة يصنع بها البيطار".
2 سورة الرحمن 35.
3 زيادات ر: "من يجوز أن تكون نكرة موصوفة تقديرة مثل اثنين يصطحبان، وأن تكون بمعنى الذى، ويصطحبان: صلته".
فـ"من" تقع للواحد والاثنين والجميع والمؤنث على لفظ واحد، فإن شئت حملت خبرها على لفظها فقلت: من في الدار يحبك، عنيت جميعاً أو اثنين أو واحداً أو مؤنثاً، وإن شئت حملته على المعنى فقلت: يحبانك،وتحبك إذا عنيت امرأة ويحبونك إذا عنيت جميعاً كل ذلك جائز جيد، وقال الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} 1. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} 2. وقال فحمل على المعنى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} 3 . وقرأ أبو عمرو: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً} 4 فحمل الأول على اللفظ والثاني على المعنى. وفي القرآن: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ}.
فهذا كله على اللفظ، ثم قال: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على المعنى.
وقوله: "أو شباة سنان" فالشبا والشباة واحد وهو الحد.
ـــــــ
1 سورة يونس 40.
2 سورة التوبة 49.
3 سورة يونس 42.
4 سورة الأحزاب 31.
في وصف الجود والحث على المبادرة بهومما يستحسن في وصف الجود والحث على المبادرة به، وتعريف حد العاقبة فيه، قول النمر بن تولب العكلي، أحد بني عكل بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس1 بن مضر:
أعاذل إن يصبح صداي بقفرةٍ ... بعيداً نآني صاحبي وقريبي
تري أن ما أبقيت لم أك ربه ... وأن الذي أنفقت كان نصيبي
وذي إبل يسعى ويحسبها له ... أخي نصب في رعيها ودؤوب
غدت وغدا رب سواه يقودها ... وبدل أحجاراً وجال قليب
ـــــــ
1 زيادات ر: "قال ابن السراج: من رواه إلياس فقد أخطأ، إنما هو ابن بوصل اليأس بوصل الألف وكسر السين، والألف واللام للتعريف، والاسم "يأس" مشق من يئست.
قوله: "إن يصبح صداي بقفزة" فالصدى: على ستة أوجه: أحدها ما ذكرنا وهو ما يبقى من الميت في قبره، والصدى: الذكر من البوم، قال ابن مفرغ1:
وشريت برداً ليتني ... من بعد بردٍ كنت هامة2
هتافة تدعو صدى ... بين المشقر واليمامة
ويقال: فلان هامة اليوم أوغدٍ، أي يموت في يومه أو في غده. ويقال ذلك للشيح إذا أسن، والمريض إذا طالت علته، والمحتقر3 لمدة الآجال. وفي الحد يث أن حسلاً4 أباحذيفة بن حسل بن اليمان قال لشيخ آخر تخلف معه في غزوةأحدٍ: انهض بنا ننصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنما نحن هامة اليوم أو غدٍ وكانا قد أسنا. والصدى: حشوة الرأس. يقال لذلك: الهامة والصدى وتأويل ذلك عند العرب في الجاهلية أن الرجل كان عندهم إذا قتل فلم يدرك به الثأر أنه يخرج من رأسه طائر كالبومة وهي الهامة والذكر: الصدى فيصيح على قبره. اسقوني اسقوني فإن قتل قاتله كف ذلك الطائر. قال ذو الإصبع5 العدواني أحد بني عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر:
ياعمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
والصدى: ما يرجع عليك من الصوت إذا كنت بمتسع من الأرض، أو بقرب جبل، كما قال:
إني على كل إيساري ومعسرتي ... أدعو حنيفاً كما تدعى ابنة الجبل
يعني الصدى، وتأويله أنه يجيبني في سرعة إجابة الصدى. وقال آخر:
كأني إذ دعوت بني سليم ... دعوت بدعوتي لهم الجبالا
ـــــــ
1 زيادات ر: "اسمه ربيعة، وسمى مفرغا لأنه شرب سقاءين ففرغهما".
2 شريت هنا: بعت.
3 زيادات ر: رواية عاصم بن أيوب رحمه الله برفع "المحتقر" يرفعه بالابتداء ويضمر الخبر، فيكون التقدير: والمحتقر لمدة الآجال، يقال ذلك له، ورواية ابن سراج بالخفض على العطف".
4 زيادات ر: "حسل أبو حذيفة، هو حسل بن جابر، وهو اليمان، والشيخ الذي تخلف معه ثابت بن وقش الأنصاري".
5 زيادات ر: "هو حرثان من محرث، سمى بذى الإصبع؛ لأنه كان له إصبع زائدة، وقيل: لأن حية عضته في إصبعه".
والصدأ، مهموز: صدأ الحديد وما أشبه، قال النابغة الذبياني:
سهكين من صدإ الحديد كأنهم ... تحت السنور جنة البقار1
وقال الأعشى:
فأما إذا ركبوا فالوجو ... ه في الروع من صدإ البيض حم2
والصدى: مصدر الصدي، وهو العطشان، يقال: صدي يصدى صدى وهو صدٍ، قال طرفة:
ستعلم إن متنا صدى أينا الصدي3
وقال القطامي:
فهن ينبذن من قولٍ يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
تأويل قوله: "نآني" يكون على ضربين، يكون أبعدني، وأحسن [من]4 ذلك أن يقول: "أنآني". وقد رويت هذه اللغة الأخرى، وليست بالحسنة، وإنما جاءت في حروف: يقال غاض الماء وغضته، ونزحت البئر ونزحته، وهبط الشيء وهبطنه، وبنو تميم يقولون: أهبطته، وأحرف سوى هذه يسيرة. والوجه في "فعل أفعلته"، نحو دخل وأدخلته، مات وأماته الله، فهذا الباب المطرد.ويكون "نآني" في موضع" نأى عني"، كما قال عز وجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 5 أي كالوا لهم أو وزنوا لهم.
وقوله: "ودؤوب"، يقول: وإلحاح عليه، تقول: دأبت على الشيء، قال الشاعر6:
دأبت إلى أن ينبت الظل بعدما ... تقاصر حتى كاد في الآل يمصح
وقوله عز وجل: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} 7 يقول: كعادتهم وسنتهم، ومثله الدين والديدن، وقد مر هذا.
ـــــــ
1 سهكين، من السهك، وهو ريح صدإ الحديد. والسنور هنا: الدروع، وجنة البقار: موضع رمل عالج.
2 حم: جمع أحم، وهو الأسود من كل شيء.
3 زيادات ر: "ويروى: "صدى أينا" بخفض "أينا" على الإضافة: فصدى على هذه الرواية يرتفع بالابتداء، والصدى: الخبر".
4 تكمله من س.
5 سورة المطففين 3.
6 زيادات ر: "هو الراعى".
7 سورة آل عمران 11.
وقوله:
وبدل أحجاراٌ وجالٌ قليب
فالجال الناحية، يقال لكل ناحية من البئر والقبر وما أشبه ذلك: جال وجول، وقال مهلهل:
كأن رماحهم أشطان بئر ... بعيد بين جاليها جرور1
ويقال: رجل ليس له جول، أي ليس له عقل، وهذا الشعر نظير قول حاتم الطائي:
أماوي إن يصبح صداي بقفرةٍ ... من الأرض، لا ماء لدي ولا خمر
ترى أن ما أبقيت لم أك ربه ... وأن يدي مما بخلت به صفر
ـــــــ
1 الأشطان: جمع شطن، وهو الحبل الشديد الفتل. وجرور: نعت للبئر: وهي التي يدق عمقها حتى يجر دلوها على شفيرها.
للحارث بن حلزة اليشكري في الجودوقال الحارث بن حلزة اليشكري في هذا المعنى:
قلت لعمرو حين أرسلته ... وقد خبا من دوننا عالج
لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
واصبب لأضيافك ألبانها ... فإن شر اللبن الوالج
قوله:
لاتكسع الشول بأغبارها
فإن العرب كانت تنضح على ضروعها الماء البارد ليكون أسمن لأولادها التي في بطونها. والغبر: بقية اللبن في الضرع، فيقول: لاتبق ذلك اللبن لسمن الأولاد، فإنك لاتدري من ينتجها، فلعلك تموت، فتكون للوارث أو يغار عليها.
وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "يقول ابن آدم مالي مالي، وما من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت".
ويرى عن بعضهم أنه قال: إني أحب البقاء، وكالبقاء عندي حسن الثناء. وأنشد أبو عثمان عمرو بن الجاحظ:
فإذا بلغتم أرضكم فتحدثوا ... ومن الحديث متالف وخلود
وأنشد:
فأثنوا علينا لاأبا لأبيكم ... بأفعالنا، إن الثناء هو الخلد
وقال معاوية لابن الأشعث بن قيس: ما كان قيس بن معد يكرب أعطى الأعشى? فقال: أعطاه مالاٌ، وظهراٌ، ورقيقاً، وأشياء أنسيتها، فقال معاوية: لكن ما أعطاكم الأعشى لا ينسى.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنة هرم بن سنان المري: ما وهب أبوك لزهير? فقالت: أعطاه مالاٌ وأثاثاٌ أفناه الدهر. فقال عمر: لكن ما أعطاكموه لا يفنيه الدهر.
وقال المفسرون في قول الله عز وجل عن ابراهيم صلوات الله عليه: { َاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} 1 أي ثناء حسناٌ، وفي قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 2 أي يقال له هذا في الآخرين. والعرب تحذف هذا الفعل من "قال" ويقول "استغناءٌ عنه، قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 3، أي فيقال لهم. ومثله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4 أي يقولون، وكذلك: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ} 5
ـــــــ
1 سورة الشعراء 84.
2 سورة الصافات 108،109.
3 سورة آل عمران 106.
4 سورة الزمر 3.
5 سورة الرعد 23، 24.
زيادات ر بعد ذلك مايأتي: "حدثنا يموت بن المزرع البصرى قال: حدثنا رفيع بن سلمة المنبز بدماذ قال: حدثنا أبو عيادة قال: قال الحجاج يوما لعمائر العرب وهم في مجلسه: ما أحسب هذا المزونى بناصحنا في حربنا-يعني المهلب- والرأى مشترك، فقالوا: الرأى للأمير-أصلحه الله- أن يكتب إلى ابن الفجاءة: بإطعامه بعض الأرضين، فإذا هو نخع بطاعته وأظهر الدعوة له سهلت الحيلة فيه، فقال: وفقكم الله، وكتب إلى ابن الفجاءة، وأنفذه على يد الغضبان بن القبعثرى الشيباني. نسخة الكتاب:
"بسم الله الرحمن الرحيم: من الحجاج بن يوسف إلى قطرى بن الفجاءة، سلام عليك، الموحد الله، والمصلى عليه محمد عليه السلام. أما بعد، فإنك كنت أعرابيا يدويا تستطعم الكسرة، وتحف إلى التمرة، ثم خرجت تحاول ماليس لك بحق، وأعرضت عن كتاب الله، ومرقت من سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فارجع عما ......=
.................................................................................
ـــــــ
=أنت عليه بما زين لك، وادعونى فقد آن لك".
فلما أوصل الغضبان الكتاب إلى قطرى قال: ياغلام، ازبر هذه الصحيفة، فتلا عليه مافبها فتنهد قطرى الصعداء, فقال: ياغضبان ألفيتنى محزونا، وانشأ يقول:
فيا كبدا من غير جوع ولا ظمأ ... وياكبدا من وجد أم حكيم
فلو شهدتنى يوم دولاب أبصرت ... طعان فتى في الحرب غير لئيم
غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
وكان بعبد القيس أول حدها ... وآب عميد الأزد غير ذميم
-يعنى المهلب، وأم حكيم هذه: امرأة من الخوارج قتلت بين يديه، ثم قال: ياغلام، اكتب، "بسم الله الرحمن الرحيم" من قطرى بن الفجاءة إلى الحجاج بن يوسف. سلام على من اتبع الهدى. ذكرت في كتابك أنى كنت يدويا أستطعم الكسرة، وأبدر إلى النمرة، وبالله لقد قلت زورا، بل الله بصرنى من دينه ما أعماك عنه؛ إذ أنت سايح في الضلالة غرق في غمرات الكفر، ذكرت أن الضرورة طالت بى فهلا برزلى من حزبك من نال الشيع، واتكأ فاتدع! أما والله لئن أبرز الله صفحتك، وأظهر لى صلعتك، لتنكرن شيعك، ولتعلمن أن مقارعة الأبطال، ليس كتسطير الأمثال".
باب
من خطبة لعلي بن أبي طالبقال أبو العباس: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خطبة له: أيها الناس، اتقوا الله الذي إن قلتم سمع، وإن أضمرتم علم. وبادروا الموت الذي إن هربتم منه أدرككم، وإن أقمتم أخذكم .
خطبة الحجاج حين قدم أميراٌ على العراق
قال: وحدثني التوزي في إسناد ذكره آخره عبد الملك بن عمير الليثي، قال: بينما نحن في المسجد الجامع بالكوفة، وأهل الكوفة يومئذ ذوو حالٍ حسنةٍ، يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه، إذ أتى آتٍ فقال: هذا الحجاج قدم أميراٌ على العراق. فإذا به قد دخل المسجد معتماٌ بعمامة غطى بها أكثر وجهه، متقلداٌ سيفاً، متنكباٌ قوساٌ، يؤم المنبر، فقام الناس نحوه، حتى صعد المنبر، فمكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق حتى قال عمير بن ضابيء البرجمي: ألاأحصبه لكم? فقالوا: أمهل حتى ننظر، فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض وقال1:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال: يا أهل الكوفة، إني لأرى رؤوساٌ قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، ثم قال2:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس برلعي إبلٍ ولا غنم ... ولا بجزارٍ على ظهر وضم
ثم قال:
قد لفها الليل بعصلبي ... أروع خراج من الدوي
مهاجر ليس بأعرابي
وقال:
قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدت الحرب بكم فجدوا
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو لسحيم بن وثيل الرياشى".
2 زيادات ر: "الشعر لرويشد بن وميض العنبرى".
والقوس فيها وترٌ عرد ... مثل ذراع البكر أو أشد
لابد مما ليس منه بد
إني والله يا أهل العراق، ما يقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز التين. ولقد فرزت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وإن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه نثر كنانته بين يديه، فعجم عيدانها، فوجدني أمرها عوداً. وأصلبها مكسراً، فرماكم بي.
لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مراقدالضلال. والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. والخوف بما كانوا يصنعون. وإنى والله ما أقول إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة. وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين. فقرأ:
"بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين سلامٌ عليكم" فلم يقل أحد منهم شيئاً، فقال الحجاج: اكفف يا غلام، ثم أقبل على الناس، فقال: أسلم عليكم أمير المؤمنين، فلم تردوا عليه شيئاً هذا أدب ابن نهية أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمن. اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين، فلما بلغ إلى قوله: "سلامٌ عليكم"لم يبق في المسجد أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام1.
ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون حتى أتاه شيخ يرعش كبراً، فقال: أيها الأمير، إني من الضعف على ما ترى، ولي ابنٌ هو أقوى على الأسفار مني فتقلبه بدلاً مني. فقال الحجاج: نفعل أيها الشيخ، فلما ولى قال له قائل2: أتدري من هذا أيها الأمير? قال: لا قال: هذا عمير بن ضابئ البرمجي الذي يقول أبوه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
ـــــــ
1 زيادات ر: "زعم أبو العباس أن ابن نهية رجل كان على الشرطة بالبصرة قبل الحجاج".
2 قال المرصفى: "هو عنبسة بن سعيد بن العاصى الأموى".
ودخل الشيخ على عثمان مقتولاٌ فوطىء بطنه، فكسر ضلعين من أضلاعه، فقال ردوه ! فلما رد قال الحجاج: أيها الشيخ، هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان بدلاٌ يوم الدار! إن في قتلك أيها الشيخ لصلاحاٌ للمسلمين: يا حرسي، اضربن عنقه. فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيرتحل، ويأمر وليه أن يلحقه بزاده، ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي1:
تجهز فإما أن تزور ابن ضابىءٍ ... عميراٌ وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسفٍ نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا2
فأضحى ولو كانت خراسان دونه3 ... رآها مكان السوق أو هي أقربا
قوله: "أنا ابن جلا"، إنما يريد المنكشف الأمر، ولم يصرف "جلا" لأنه أرادالفعل فحكى، والفعل إذا كان فاعله مضمراٌ أو مظهراٌ لم يكن إلاحكاية، كقولك: تأبط شرأ، وكماقال الشاعر:
كذبتم وبيت الله لاتأخذونها ... بني شاب قرناها تصر وتحلب
وتقول: قرأت: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 4 لأنك حكيت، وكذلك الابتداء، تقول: قرأت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وقال الشاعر:
والله ما زيد بنام صاحبه5
وقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
لسحيم بن الرياحي، وإنما قاله الحجاج متمثلاً.
وقوله: "وطلاع الثنايا" الثنايا: جمع ثنيةو الثنية: الطريق في الجبل.
ـــــــ
1 زيادات ر: الأسدى أسد خزيمة، وليس من أسد قريش.
2 حوليا: يريد مهرا أتى عليه حول. من الثلج أشبها: يريد أن لونه أشدشبهة من الثلج.
3 زيادات ر: "دونه عائدة على المهلب. وأقرب: ظرف، وقيل مفعول ثان".
4 سورة القمر 1.
5 بقيته كما في زيادات ر
ولا مخالط الليان جانبه
والطريق في الرمل يقال له: الخل، وإنما أراد به أنه جلد يطلع الثنايا في ارتفاعها وصعوبتها، كما قال دريد بن الصمة يعني أخاه عبد الله:
كميش الإزار خارجٌ نصف ساقه ... بعيد من السوءات طلاع أنجد
والنجد: ما ارتفع من الأرض، وقد مضى تفسير هذا.
وقوله: "إني لأرى رؤوساٌ قد أينعت"، يريد أدركت، يقال: أينعت الثمرة إيناعاٌ وينعت ينعاٌ، ويقرأ: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} 1 و{ َيَنْعِهِ} كلاهما جائز.
قال أبو عبيدة: هذا الشعر يختلف فيه، فبعضهم ينسبه إلى الأحوص وبعضهم ينسبه إلى يزيد بن معاوية. [قال أبو الحسن: الصحيح أنه ليزيد يصف جارية] وهو:
ولها بالماطرين2 إذا ... أكل النمل الذي جمعا
خرفة حتى إذا ربعت ... سكنت من جلقٍ بيعا3
في قباب حول دسكرةٍ ... حولها الزيتون قد ينعا
قال أبو الحسن: أول هذه الأبيات:
طال هذا الهم فاكتنعا ... وأمر النوم فامتنعا
وبعد هذا ما أنشد أبو العباس، ويروى" بالماطرون".
قال أبو العباس: وقوله:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم
يعني فرساٌ أو ناقة، والشعر للحطم القيسي .
وقوله:
قد لفها الليل بسواق حطم
ـــــــ
1 سورة الأنعام 99.
2 الماطرون: موضع قرب دمشق. ورواه أبو العباس معربا، ورواية ياقوت "دولها بالماطر".
3 الخرفة: مايجتبنى من الفاكهة. وربعات: دخلت في الربيع، وجلق: من قرى دمشق.
فهو الذي لا يبقي من السير شيئاٌ، ويقال: رجل حطمٌ للذي يأتي على الزاد لشدة أكله، ويقال للنار التي لا تبقي: حطمةٌ. وقوله: "على ظهر وضم"، فالوضم: كل ما قطع عليه اللحم. قال الشاعر1:
وفتيان صدقٍ حسان الوجو ... ه لا يجدون لشيء ألم
من آل المغيرة لا يشهدو ... ن عند المجازر لحم الوضم
وقوله:
قد لفها الليل بعضلبي
أي شديد. وأروع. أي ذكي.
وقوله: "خراج من الدوي"، يقول: خراجٍ من كل غماء شديدة2:
ويقال للصحراء دوية، وهي التي لا تكاد تنقضي، وهي منسوبة إلى الدو، والدو: صحراء ملساء لاعلم بها ولا أمارة، قال الحطيئة3:
وأنى اهتدت والدو بيني وبينها ... وما خلت ساري الليل بالدو يهتدي
والداوية: المتسعة التي تسمع لها دوياٌ بالليل، وإنما ذلك الدوي من أخفاف الإبل تنفسح أصواتها فيها. وتقول جهلة الأعراب: إن ذلك عزيف الجن وقوله:
والقوس فيها وترعرد
فهو الشديد ويقال عرند في هذا المعنى.
وقوله:" إني والله ما يقعقع لي بالشنان"، واحدها شن، وهو الجلد اليابس، فإذا قعقع به نفرت الإبل منه، فضرب ذلك مثلاٌ لنفسه، وقال النابغة الذبياني:
كأنك من جمال بني أقيش4 ... يقعقع بين رجليه بشن
وقوله: "ولقد فررت عن ذكاء" ، يعني تمام السن. والذكاء على ضربين:
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو عمر بن أبى ربيعة".
2 زيادات ر: "غما، مقصور، رواية عاصم".
3 زيادات ر: "يصف خيالها وأنت على معنى المرأة".
4 زيادات ر: "أفيش: من عكل".
أحدهما تمام السن، والآخر الحدة حدة القلب، فمما جاء في تمام السن قول قيس بن زهير: "جري المذكيات غلاب"1. وقال زهير:
يفضله إذا اجتهدا عليه ... تمام السن منه والذكاء
وقوله: "فعجم عيدانها"، يقول: مضغها لينظر أيها أصلب، يقال: عجمت العود، إذا مضغته، وكذلك في كل شيء، قال النابغة:
فظل يعجم أعلى الروق منقبضاٌ ... في حالك اللون صدق غير ذي أود
والمصدر العجم، يقال عجمته عجماٌ: ويقال لنوى كل شيء: عجمٌ مفتوح، ومن أسكن فقد أخطاٌ، كما قال الأعشى:
وجذعانها كلقيط العجم2
وقوله: "طالما ما أوضعتم في الفتنة"، الإيضاع: ضرب من السير. وقوله:
فأضحى ولو كانت خراسان دونه
يعني دون السفر رآها مكان السوق للخوف والطاعة.
ـــــــ
1 زيادات ر: "ويروى: غلاء".
2 شدره كما في زيادات ر:
غزتك بالخيل أرض العدو
خبر ضابىء البرجمي مع عثمانوكان من قصة عمير بن ضابىء أن أباه ضابىء بن الحارث البرجمي وجب عليه حبسٌ عند عثمان رحمه الله وأدب وذلك أنه كان استعار من قوم كلباٌ فأعاروه إياه ثم طلبوه منه وكان فحاشاٌ فرمى أمهم به، فقال في بعض كلامه:
وأمكم لا تتركوها وكلبكم ... فإن عقوق الوالدات كبير
فاضطغن على عثمان ما فعل به فلما دعي به ليؤدب شد سكيناً في ساقه ليقتل بها عثمان، فعثر عليه، فأحسن أدبه، ففي ذلك يقول:
وقائلةٍ إن مات في السجن ضابىء ... لنعم الفتى نخلو به ونواصله
وقائلة لايبعدن ذلك الفتى ... ولا تبعدن أخلاقه وشمائله
وقائلة لايبعد الله ضابئاً ... إذالكبش لم يوجد له من ينازله
وقائلةٍ لا يبعد الله ضابئاٌ ... إذ الخصم لم يوجد له من يقاوله
فلا تتبعيني إن هلكت ملامةً ... فليس بعارٍ قتل من لاأ قاتله
هممت ولم أفعل، وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
وما الفتك ما آمرت فيه ولا الذي ... تخبر من لاقيت أنك فاعله
حديث أبي شجرة السلمي مع عمر بن الخطابقال أبو العباس: وشبيه بقوله ما حدثنا به عن أبي شجرة السلمي وكان من فتاك العرب1 فأتى عمر بن الخطاب رحمه الله يستحمله2، فقال له عمر: ومن أنت? فقال: أنا أبو شجرة السلمي،فقال له عمر: أي عدي نفسه، ألست القاتل حيث ارتددت:
ورويت رمحي من كتيبة خالدٍ ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا3
وعارضتها شهباء تخطر بالقنا ... ترى البيض في حافاتها والسنورا4
ثم انحنى عليه عمر بالدرة، فسعى إلى ناقته فحل عقالها وأقبلها حرة بني سليم بأحث السير هرباٌ من الدرة، وهو يقول:
قد ضن عنها أبو حفص بنائله ... وكل مختبط يوماٌ له ورق
مازال يضربني حتى خذ يت له ... وحال من دون بعض الرغبة الشفق5
ـــــــ
1 زيادات ر: "أبو شجرة هو عمرو بن عبد العزى، وأمه الخنساء. وقال الطبرى: اسمه سليم بن عبد العزي".
2 يستحمله: يسأله أن يحمله على ركوبه.
3 زيادات وبروى: "أن أعمرا، بكسر الميم، ومعناه أن أفعل ذلك بكتيبة عمر".
4 شهباء: من الشهبة: وهو بياض في خلاله سواد. وتخطر، من الخطران؛ وهو الاهتزاز.
5 الشفق: من الإشفاق، وهو الخوف.
ثم التفت إليها وهي حانية ... مثل الرتاج إذا ما لزه الغلق1
أقبلتها الخل من شوران مجتهداٌ ... إني لأزري عليها وهي تنطلق2
ويروى أنه كان يرمي المسلمين يوم الردة فلا يغني شيئاٌ، فجعل يقول:
ها إن رميي عنهم لمعبول ... فلا صريح اليوم إلا المصقول
وقوله:
وكل مختبط يوماٌ له ورق
أصل هذا في الشجرة أن يختبطها الراعي.، وهو أن يضربها حتى يسقط ورقها، فضرب ذلك مثلاً لمن يطلب فضله، وقال زهير:
وليس مانع قربى وذي نسبٍ ... يوماً ولا معدم من خابط ورقا3
وقوله: "حتى خذيت له". يقول: خضعت له، وأكثر ما تستعمل العامة هذه اللفظة بالزيادة، تقول: استحذيت له. وزعم الأصمعي أنه شك فيها، وأنه أحب أن يستثبت، أهي مهموزة أم غير مهموزة? قال: فقلت لأعرابي: أتقول: استحذيت4 أم استحذأت? قال: لاأقولهما، قلت: ولم فقال: لأن العرب لاتستخذي. وهذا غير مهموز5. واشتقاقه من قولهم: أذن خذواء وينمة خذواء، أي مسترخية.
قال أبو الحسن: الينمة: نبت مسترخٍ على وجه الأرض تأكله الإبل فتكثر عنه ألبانها.
ـــــــ
1 حانية: لاوية عتفها. والغلق اسم لما يغلق به، والرتاج: الباب الكبير. واللزة الشد والإلصاق.
2 الخل: الطريق النافذ بين الرمال. وشوران: جبل مرتفع قرب المدينة.
3 زيادات ر:"قوله: ولا بعدم بالخفض؛ عطفه على توهم الباء في مانع ومثله ماأنشده:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها
على توهم الباء في "مصلحين"و "من" في "خابط" زائدة.
4 استخذى: خضع.
5 هنا آخر الخرم الموجود في نسخة الأصل.
قال الأصمعي: وقلت لأعرابي: أتهمز الفارة ! قال: تهمزها الهرة.
وقوله: "إني لأزري عليها"، يقول: أستحثها، يقال: زرى عليه: أي عاب عليه، وأزرى به أي قصر به، فيقول: إنها لمجتهدة، وإني لأزري عليها، أي أعيب عليها لطلبي النجاء والسرعة، وقال الأخطل:
فظل يفديها وظلت كأنها ... عقاب دعاها جنح ليلٍ إلى وكر
وقوله: "ها إن رميي عنهم لمعبول" ، يقول: مخبول مردود. والصريح: المحض الخالص، يقال ذلك للبن إذا لم يشبه ماء، ويقال عربي صريح ومولى صريح، أي خالص.
خطبة لعمر بن الخطاب حين سمع أن قوماٌ يفضلونه على أبي بكر
قال: وحدثني محمد بن إبراهيم الهاشمي في إسناد ذكره قال: بلغ عمر بن الخطاب رحمه الله أن قوماٌ يفضلونه على أبي بكر الصديق رحمه الله، فوثب مغضباٌ حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنىعليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال:
أيها الناس، إني سأخبركم عني وعن أبي بكر، إنه لما توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اردتدت العرب، ومنعت شاتها وبعيرها، فأجمع رأينا كلنا أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قلنا له: يا خليفة رسول الله، إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم، فالزم بيتك ومسجدك، فإنه لاطاقة لك بقتال العرب. فقال أبو بكر الصديق: أو كلكم رأيه على هذا ? فقلنا: نعم فقال: والله لأن أخر من السماء فتخطفني الطير أحب إلي من أن يكون هذا رأيي ثم صعد المنبر، فحمد الله وكبره وصلى على نبيه صلى عليه وسلم، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمداٌ فإن محمداٌ قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت. أيها الناس، أإن كثر أعداؤكم، وقل عددكم، ركب الشيطان منكم هذا المركب? والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون. قوله الحق، ووعده الصدق، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ، و{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. والله أيها الناس، لو أفردت من جميعكم لجاهدتهم في حق جهاده حتى أبلي بنفسي
عذراً أو أقتل قتيلاً، والله أيها الناس لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه، واستعنت عليهم الله وهو خير معينٍ.
ثم نزل فجاهد في الله حق جهاده حتى أذعنت العرب بالحق .
قوله: "كم من فئة" فهي الجماعة، وهي مهموزة، وتخفيف الهمز في هذا الموضع أن تقلب الهمزة ياءً، وإن كانت قبلها ضمة وهي مفتوحة قلبتها واواً نحو جؤنٍ1 تقول جونٌ.
وقوله: "لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه" على خلاف ما تتأوله العامة ولقول العامة وجهٌ قد يجوز، فأما الصحيح فإن المصدق2 إذا أخذ من الصدقة ما فيها ولم يأخذ ثمنها قيل: أخذ عقالاً، وإذا أخذ الثمن قيل: أخذ نقداً، قال الشاعر:
أتانا أبو الخطاب يضرب طبله3 ... فرد ولم يأخذ عقالاً ولا نقدا
والذي تقوله العامة تأويله: لو منعوني ما يساوي عقالاً، فضلاً عن غيره وهذا وجه، والأول هو الصحيح، لأنه ليس عليهم عقال يعقل به البعير فيطلبه فيمنعه، ولكن مجازه في قول العامة ما ذكرنا.
ومن كلام العرب: أتانا بجفنةٍ يقعد عليها ثلاثةٌ، أي لو قعد عليها ثلاثة لصلح.
ـــــــ
1 زيادات ر: "الجؤنة: الحقة يجعل فيها الحلى".
2 المصدق: جابى الزكاة.
3 زيادات ر: "كانت الأمراء إذا خرجت لأخذ الصدقة تضرب الطبول".
من أبيات للحطيئة حين ارتد بعض العربوكان ارتداد من ارتد من العرب أن قالوا: نقيم الصلاة ولا نؤتي الزكاة، فمن ذلك قول الحطيئة:
ألا كل أرماح قصارٍ أذلةٍ ... فداء لأرماحٍ نصبن على الغمر1
فباست بني عبس وأستاه طيئٍ ... وباست بني دودان حاشا بني نصر
أبوا غير ضربٍ يجثم الهام وقعه ... وطعن كأفواه المزفتة الحمر2
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا ... فيا لهفتا، ما بال دين أبي بكر!
ـــــــ
1 الغمر هنا: اسم ماء.
2 زيادات ر: "لمزفتة: المطلبية بالزفت، وهو القطران".
أيورثها بكراً إذا مات بعده ... فتلك وبيت الله قاصمة الظهر!
فقوموا ولا تعطوا اللئام مقادةً ... وقوموا ولو كان القيام على الجمر
فدى لبني نصرٍ طريفي وتالدي ... عشية ذادوا بالرماح أبا بكر1
قوله: "يجثم الهام وقعه"، إنما هو مثلٌ، يقال: جثم الطائر، كما يقال: برك الجمل، وربض البعير.
وكان قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقرٍ عاملاً على صدقات بني سعدٍ، فقسم ما كان في يده من أموال الصدقات على بني منقرٍ، وقال:
فمن مبلغ عني قريشاً رسالةً ... إذا ما أتتها محكمات الودائع
حبوت بما صدقت في العام منقراً ... وأيأست منها كل أطلس طامع
قوله: "فأجمع رأينا كلنا أصحاب محمد"، فإنما خفض"كلا" على أنه توكيد لأسمائهم المضمرة، والظاهرة لا تكون بدلاً من المضمر الذي يعني به المتكلم نفسه، أو يعني به المخاطب.
لايجوز أن تقول مررت بي زيدٍ، لأن هذه الياء لا يشركه فيها شريك فتحتاج إلى التبيين، وكذلك لا يجوز: ضربتك زيداً، لأن المخاطب منفرد بهذه الكاف، فأما الهاء نحو مررت به عبد الله، فيجوز لأنا نحتاج إلى أن يعرفنا مبيناً: من صاحب الهاء? لأنها ليست للذي يخاطبه فلا ينكر نفسه، وإنما يحدث به عن غائب فيحتاج إلى البيان.
وقوله: "أصحاب محمد" اختصاص: وينتصب بفعل مضمر، وهو "أعني" ليبين من هؤلاء الجماعة، كما ينشد:
نحن بني ضبة أصحاب الجمل
أراد: نحن أصحاب الجمل، ثم عين من هم، لأن هذا قد كان يقع على من دون بني ضبة معه، وعلى من فوقها إلى مضر ونزار ومعد ومن بعدهم، وكذلك: نحن العرب أقرى الناس لضيف، ونحن الصعاليك لا طاقة لنا على المروءة.
ـــــــ
1 زيادات ر: "قوله: "ذادوا بالرماح أبا بكر" كذب، إنما خرجوا على الإبل فقعقعوا لها بالشنان فتفرت وفرت".
ويختار من الشعر1:
إنا بني منقر ذوو حسبٍ ... فينا سراة بني سعد وناديها
وقليل هذا يدل على جميع هذا الباب، فافهم.
ـــــــ
1 زيادات ر: "هو لعمرو بن الأهتم".
المجلد الثاني
باب في المختار من أشعار المولدين
لعبد الصمد بن المعذل...
قال أبو العباس: هذه أشعار اخترناها من أشعار المولدين حكيمة مستحسنة. يحتاج إليها للتمثل،لأنها أشكل بالدهر،ويستعار من ألفاظها في المخاطبات والكتب.
لعبد الصمد بن المعذل
قال ابن المعذل1:
تكلفني إذلال نفسي لعزها ... وهان عليها أن أهان لتكرما
تقول سل المعروف يحيى بن أكثم ... فقلت سليه رب يحيى بن أكثما2
ـــــــ
1 ر: "عبد الصمد بن المعذل".
2 زيادات ر: "بالثاء مثلثة لا غير، وكذلك أكثم بن صيفى، ويقال إن يحيى بن أكثم من ولد أكثم بن صيفى".
لبشار بن بردوقال بشار بن برد يذكر عبيد الله بن قزعة، وهو أبو المغيرة أخو الملوي المتكلم، قال: وقال المازني لم أر اعلم من الملوي بالكلام، وكان من أصحاب إبراهيم النظام:
خليلي من كعب أعينا أخاكما ... على دهره إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
كأن عبيد الله لم يلق ماجداً ... ولم يدر أن المكرمات تكون
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا ... وفي كل معروف عليك يمين
إذا جثته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
نظير قوله:
وفي كل معروف عليك يمين
قول جرير:
ولاخير في مال عليه آلية ... ولا في يمين عقدت بالمآثم1
ـــــــ
1 ر: "عقدت". وديوانه 553: "ولا في يمين غير ذات مخارم".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...