مجلد 4.جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف : محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري،
[ 224 - 310 هـ ]
9292 - حدثني يعقوب بن إبراهيم
قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن أبيه ، عن شعبة بن التوأم ، عن قيس بن
عاصم : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف ، قال فقال : ما كان من حلف في
الجاهلية فتمسكوا به ، ولا حلف في الإسلام. (1)
9293 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن داود بن أبي عبد الله ، عن ابن
جُدْعان ، عن جدّته ، عن أمّ سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا حلف
في الإسلام ، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدّة " . (2)
__________
(1) الحديثان : 9291 ، 9292 - مغيرة : هو ابن مقسم الضبي ، مضى في : 3349. أبوه :
" مقسم الضبي " : مترجم في التعجيل ، ص : 409 ترجمة موجزة ، وأنه ذكره
ابن حبان في الثقات. وهو تابعي ، روى عن النعمان بن بشير. وترجمه البخاري في
الكبير 4 / 2 / 33. وابن أبي حاتم 4 / 1 / 414 - 415. ولم يذاكرا فيه جرحًا.
شعبة بن التوأم الضبي ، ويقال " التميمي " : تابعي ثقة. مترجم في
التعجيل ، ص : 177 - 178 ، والإصابة 3 : 230 ، والكبير 2 / 2 / 244 ، وابن أبي
حاتم 2 / 1 / 368.
والحديث رواه الطيالسي : 1084 ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن مغيرة ، أي بأول
الإسنادين هنا.
ورواه أحمد في المسند 5 : 61 (حلبي) عن هشيم ، عن مغيرة. أي بثانيهما.
ونقله ابن كثير 2 : 432 ، عن ثانيهما. ثم أشار إلى رواية أحمد. ثم نقله ثانيًا ، ص
433 ، من رواية المسند.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8 : 172. وقال : " رواه أحمد " . ثم لم
يزد!
وأشار إليه ابن أبي حاتم في ترجمة " شعبة بن التوأم " ، فقال : "
روى عن قيس بن عاصم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : لا حلف في الإسلام
" .
(2) الحديث : 9293 - داود بن أبي عبد الله ، مولى بني هاشم : ثقة ، ذكره ابن حبان
في الثقات ، كما في التهذيب. وترجمه ابن أبي حاتم 1 / 2 / 417 ، فلم يذكر فيه
جرحًا.
ابن جدعان : المشهور بذلك عند أهل هذا الشأن ، هو " علي بن زيد بن جدعان
" . وقد روى الترمذي 4 : 25 ، بهذا الإسناد : " أبو كريب... " -
حديث " المستشار مؤتمن " .
فظن الحافظ ابن عساكر - في كتاب الأطراف - أنه هو " علي بن زيد " .
وتعقبه الحافظ المزي في تهذيب الكمال ، ص : 817 - 818 (مخطوط مصور) ، فقال :
" وذلك وهم منه. والصواب : جده عبد الرحمن بن محمد بن زيد بن جدعان " -
يعني لقوله في الإسناد : " عن ابن جدعان ، عن جدته " .
وفي تهذيب الكمال ، وتهذيب التهذيب ، في ترجمة داود ، وفي ترجمة " عبد الرحمن
" (3 : 191 ، و6 : 267 من تهذيب التهذيب) أن البخاري روى في الأدب المفرد
حديث " المستشار مؤتمن " - من طريق داود " عن عبد الرحمن بن محمد
" هذا. وأن ذاك هو الدليل على أن المراد ب " ابن جدعان " هو "
عبد الرحمن بن محمد " . والذي رأيته في الأدب المفرد (ص : 29) بهذا الإسناد
حديث مطول ، ولكن ليس فيه كلمة " المستشار مؤتمن " . فالظاهر أنهما
يريدان أصل الحديث. ولكن رواية البخاري هي التي كشفت عن الصواب في اسم " ابن
جدعان " .
وجدة ابن جدعان - هذه - مجهولة ، لم يعرف اسمها. وعندي أن جهالتها لا تضر. فالغالب
- فيما أرى - أنها صحابية. لأن عبد الرحمن بن محمد تابعي ، روى عن عائشة ، وعن ابن
عمر. فجدته يكلد العارف أن يوقن أنها صحابية ، أو مخضرمة على الأقل. والنساء في
تلك العصور لم يعرفن باصطناع الروايات. ولذلك قال الذهبي في الميزان (3 : 395) :
" فصل في النسوة المجهولات. وما علمت في النساء من اتهمت ، ولا من تركوها
" . وقوله هنا " عن جدته " - في المطبوعة " عمن حدثه " !
وهو تحريف. وفي مطبوعة ابن كثير 2 : 432 - حين نقل هذا الحديث عن الطبري - "
عن ابن جدعان ، حدثه " ! وهو تحريف أيضًا. وصوابه ، كما أثبتنا " عن
جدته " . وقد ثبت على الصواب في مخطوطة الأزهر من تفسير ابن كثير (2 : 273
نسخة مصورة عندي).
والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8 : 173. وقال : " رواه أبو يعلى ،
والطبراني. وفيه جدة ابن أبي مليكة ، ولم أعرفها. وبقية رجاله ثقات " .
و " جدة ابن أبي مليكة " : هي " جدة ابن جدعان " ، لأن ابن
جدعان - هنا - : هو " عبد الرحمن بن محمد بن زيد بن جدعان " . فهو ابن
أخي " علي بن زيد بن جدعان " ، وقد نسبوا إلى جدهم الأعلى. إذ "
علي بن زيد " : هو " علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد
الله بن جدعان " . وإنما الذي اشتهر عند المحدثين باسم " ابن أبي مليكة
" - فهو " عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة زهير...
" . وهو ابن عم " علي بن زيد " .
(8/283)
9294 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ،
حدثنا حسين المعلم وحدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، حدثنا
حسين المعلم وحدثنا حاتم بن بكر الضبيّ قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن حسين المعلم
قال ، حدثنا أبي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أنّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة : فُوا بحلفٍ ، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة
، ولا تُحدثوا حلفًا في الإسلام " . (1)
__________
(1) الحديث : 9294 - حاتم بن بكر الضبي - شيخ الطبري : هكذا ثبت هنا اسم أبيه
" بكر " . وقد مضى في : 3222 بالتصغير " بكير " . وبينا هناك
أنه ثبت في التقريب والتهذيب " بكر " ، وفي الخلاصة " بكير "
. وها هو ذا الاختلاف وقع في موضعين من الطبري. ثم رجعت إلى النسخة المخطوطة
المصورة من تهذيب الكمال ، ص : 214 ، فظهر أن ناسخها أسقط كلمة " بكر "
فأثبته " حاتم بن غيلان " ، ممنسوبًا إلى جده. وهو سهو من الناسخ يقينًا
، لأنه أثبته قبل ترجمة " حاتم بن حريث " . ولو كان أصله " حاتم بن
غيلان " لأخره إلى موضعه في حرف الغين في آباء من اسمه " حاتم " ،
فيكون موضعه بعد " حاتم بن العلاء " . فبقي الإشكال في اسم أبيه كما هو
؟
وهذا الحديث رواه الطبري هنا ، مختصرًا ، بثلاثة أسانيد : عن " حميد بن مسعدة
، عن حسين المعلم " . ثم عن " مجاهد بن موسى ، عن يزيد بن هارون ، عن
حسين المعلم " . ثم عن " حاتم بن بكر الضبي ، عن عبد الأعلى ، عن حسين
المعلم " . ثم يقول حسين المعلم " حدثنا أبي ، عن عمرو بن شعيب " .
وفي هذه الأسانيد إشكالان :
أولهما : أن " حميد بن مسعدة " مات سنة 244 ، فمن المحال أن يروى عن
" حسين المعلم " ، ويقول - كما هنا - " حدثنا حسين المعلم " .
لأن حسينًا مات سنة 145 ، فبين وفاتيهما 99 سنة!! والراجح عندي أن يكون الناسخون
أسقطوا شيخًا بين حميد وحسين.
وثانيهما : أن " حسينًا المعلم " : هو " حسين بن ذكوان " .
وهو يروي عن عمرو بن شعيب مباشرة. ولو كان هذا وحده لكان هناك احتمال أن يروي عنه
أيضًا بواسطة أبيه. ولكن الإشكال في أن " ذكوان " والد " حسين
المعلم " ليس له ذكر في دوواين الرجال بشيء من الرواية ، ولا ذكر أحد أن ابنه
يروي عنه. فأنا أرجح أيضًا أن يكون قوله هنا " حدثنا أبي " زيادة خطأ من
الناسخين.
ويؤيد أن زيادة " حدثنا أبي " تخليط من الناسخين - أن ابن كثير حين أشار
إلى هذا الإسناد 2 : 432 ، قال : " ثم رواه - يعني الطبري - من حديث حسين
المعلم ، وعبد الرحمن بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب ، به " . فذكر أن حسينًا
رواه عن عمرو بن شعيب. ولم يذكر أنه " عن حسين عن أبيه " .
وأما الحديث نفسه ، فإنه سيأتي معناه ، من رواية محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب
: 9297 ، 9298 ، ومن رواية عبد الرحمن بن الحارث ، عن عمرو : 9299. ويأتي تخريجه
هناك ، إن شاء الله.
(8/284)
9295 - حدثنا أبو كريب وعبدة بن عبد
الله الصفار قالا حدثنا محمد بن بشر قال ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة قال ، حدثني
سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جبير بن مطعم : أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال :
لا حلف في الإسلام ، وأيُّما حِلف كان في الجاهلية ، فلم يزده الإسلام إلا شدة.
(1)
__________
(1) الحديث : 9295 - زكريا بن أبي زائدة الهمداني الوادعي : ثقة معروف ، من شيوخ
شعبة والثوري. أخرج له الجماعة.
سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، قاضي المدينة : ثقة كثير الحديث ، وهو ثبت
لا شك فيه. أخرج له الجماعة.
أبوه " إبراهيم بن عبد الرحمن " : تابعي ثقة ، من كبار التابعين. مترجم
في التهذيب. والكبير 1 / 1 / 295 ، وابن سعد 5 : 39 - 40 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 /
111.
" جبير بن مطعم " : صحابي معروف ، من قريش ، من بني نوفل. قدم المدينة
في فداء أسارى بدر. ثم أسلم بعد ذلك.
والحديث رواه أحمد في المسند : 16832ج4 ص83 حلبي ، من طريق زكريا ، وهو ابن أبي
زائدة - بهذا الإسناد.
وكذلك رواه مسلم 2 : 270 ، والبيهقي 6 : 262 - كلاهما من طريق زكريا.
وذكره ابن كثير 2 : 432 - 433 ، من رواية المسند. ثم أشار إلى أنه رواه مسلم ،
وأبو داود ، وابن جرير ، والنسائي.
(8/285)
9296 - حدثنا حميد بن مسعدة ومحمد بن
عبد الأعلى قالا حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق وحدثني
يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري ، عن
محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف ، أنّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : شهدت حلف المطيِّبين. وأنا غلام مع عُمومتي ، فما أحبّ أن لي
حٌمرَ النعم وأني أنْكُثُه زاد يعقوب في حديثه عن ابن علية. قال : وقال الزهري :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يُصب الإسلام حلفًا إلا زاده شدة. قال :
ولا حلفَ في الإسلام. قال : وقد ألَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قُريش
والأنصار. (1)
__________
(1) الحديث : 9296 - بشر بن المفضل بن لاحق البصري : ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق وابن
المديني. أخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 1 / 2 / 84 ، وابن
أبي حاتم 1 / 1 / 366.
وهذا الحديث رواه الطبري بإسنادين من طريق عبد الرحمن بن إسحاق.
وهو : " عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله العامري " . وهو ثقة ، وثقه
ابن معين وغيره ، وأخرج له مسلم. مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 1 / 1 / 52 ،
وابن سعد 5 : 151 - 152 ، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 218.
والحديث رواه أحمد : 1655 ، عن بشر بن المفضل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق - بهذا
الإسناد.
ثم روى له أوله : 1676 ، عن إسماعيل ، وهو ابن علية ، عن عبد الرحمن بن إسحاق.
وكذلك روى البخاري أوله ، في الأدب المفرد ، ص : 83 ، من طريق ابن علية. ووقع فيه
هناك خطأ مطبعي ، يصحح من هذا الموضع.
وهذا الحديث في حقيقته حديثان :
أولهما : حديث متصل ، من حديث عبد الرحمن بن عوف.
وثانيهما : حديث مرسل. وهو قول الزهري : " قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم... " - إلى آخره.
وقد فصلنا القول في ذلك في المسند : 1655.
(8/286)
9297 - حدثنا تميم بن المنتصر قال ،
حدثنا يزيد قال ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال
: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عامَ الفتح ، قام خطيبًا في الناس فقال
: " يا أيها الناس ، ما كان من حِلف في الجاهلية فإنّ الإسلام لم يزده إلا
شدة ، ولا حلف في الإسلام " .
9298 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن
عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
9299 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا خالد بن مخلد قال ، حدثنا سليمان بن بلال قال ،
حدثنا عبد الرحمن بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم نحوه. (1)
* * *
__________
(1) الأحاديث : 9297 - 9299 ، هي ثلاثة أسانيد لحديث واحد. وقد مضى بنحوه : 9294.
يزيد - في الإسناد الأول : هو يزيد بن هارون.
عبد الرحمن - في الإسناد الثالث : هو عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن
أبي ربيعة.
والحديث رواه أحمد في المسند - ضمن حديث مطول : 6692 ، عن يزيد بن هارون ، عن محمد
بن إسحاق. وأشرنا إلى كثير من أسانيده هناك ، وفي الاستدراك : 2832.
ورواه البخاري في الأدب المفرد ، ص : 83 - 84 ، مختصرًا كما هنا ، عن خالد بن مخلد
، بالإسناد الأخير هنا.
وذكره ابن كثير 2 : 432 ، عن الرواية : 9298 هنا. ثم أشار إلى الروايتين : 9294 ،
9299.
(8/287)
قال أبو جعفر : فإذ كان ما ذكرنا عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحًا وكانت الآية إذا اختُلف في حكمها منسوخ هو أم
غير منسوخ ، (1) غير جائز القضاء عليه بأنه منسوخ - مع اختلاف المختلفين فيه ،
ولوجُوب حكمها وَنفي النسخ عنه وجه صحيحٌ - (2) إلا بحجة يجب التسليم لها ، لما قد
بينَّا في غير موضع من كتبنا الدلالةَ على صحةِ القول بذلك (3) (4) فالواجب أن
يكون الصحيح من القول في تأويل قوله : " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم
" ، هو ما ذكرنا من التأويل ، وهو أن قوله : " عقدت أيمانكم " من
الحلف ، وقوله : " فآتوهم نصيبهم " من النصرة والمعونة والنصيحة والرأي
، على ما أمرَ به من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخبار التي ذكرناها
عنه (5) دون قول من قال : " معنى قوله : فآتوهم نصيبهم ، من الميراث " ،
وان ذلك كان حكما ثم نُسخ بقوله : " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب
الله " ، ودونَ ما سِوَى القول الذي قلناه في تأويل ذلك. (6)
وإذْ صَحّ ما قلنا في ذلك ، وجب أن تكون الآية محكمة لا منسوخةً. (7)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " منسوخ هي " ، خطأ ، صوابه ما أثبت.
(2) سياق العبارة : " غير جائز القضاء عليه بأنه منسوخ... إلا بحجة يجب
التسليم لها " ، والذي بينهما قيد اعترض به بين طرفي الكلام.
(3) انظر مقالته في : " الناسخ والمنسوخ " فيما سلف : 131 ، والتعليق 1
، والمراجع هناك.
(4) قوله : " فالواجب... " ، جواب قوله آنفًا : " فإذ كان ما ذكرنا
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحًصا " .
(5) السياق : " فالواجب أن يكون الصحيح من القول... هو ما ذكرنا من
التأويل... دون قول من قال " .
(6) في المطبوعة والمخطوطة : " دون ما سوى القول " بلا واو عاطفة ،
والصواب إثبات " واو العطف " ، عطفًا على قوله آنفًا : " دون قول
من قال " .
(7) أشكل على ابن كثير هذا الموضع من كلام الطبري فرواه عنه ثم قال : " وفيه
نظر ، فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة ، ومنه ما كان على الإرث ، كما
حكاه غير واحد من السلف وكما قال ابن عباس : كان المهاجري يرث الأنصاري دون
قراباته وذوي رحمه ، حتى نسخ ذلك. فكيف يقول : إن هذه الآية محكمة غير منسوخة ،
والله أعلم " .
وهذا الذي تعجب منه ابن كثير ، قد بينه الطبري ، وأقام عليه كل مذهبه ، في كل ناسخ
ومنسوخ ، وقد كرره مرات كثيرة في تفسيره ، وقد أعاده هنا عند ذكر الناسخ والمنسوخ
فقال : إن الآية إذا اختلف في حكمها منسوخ هو أم غير منسوخ ، واختلف المختلفون في
حكمها ، وكان لنفي النسخ عنها وإثبات أنها محكمة وجه صحيح ، لم يجز لأحد أن يقضي
بأن حكمها منسوخ ، إلا بحجة يجب التسليم لها. وقد بين أبو جعفر مرارًا أن الحجة
التي يجب التسليم لها هي : ظاهر القرآن ، والخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم. أما تأويل ابن عباس أو غيره من الأئمة ، فليس حجة في إثبات النسخ في
آية ، لتأويلها على أنها محكمة وجه صحيح.
فالعجب لابن كثير ، حين عجب من أبي جعفر في تأويله وبيانه. ولو أنصف لنقض حجة
الطبري في مقالته من الناسخ والمنسوخ ، لا أن يحتج عليه ويتعجب منه ، لحجة هي
منقوضة عند الطبري ، قد أفاض في نقضها مرارًا في كتابه هذا ، وفي غيرها من كتبه
كما قال ، رحم الله أبا جعفر ، وغفر الله لابن كثير.
(8/288)
القول في تأويل قوله : { إٍنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فآتوا الذين عقدت أيمانكم نصيبهم من النصرة
والنصيحة والرأي ، فإن الله شاهد على ما تفعلون من ذلك ، وعلى غيره من أفعالكم ،
مُرَاعٍ لكل ذلك ، حافظٌ ، حتى يجازي جميعَكم على جميع ذلك جزاءه ، أما المحسنَ
منكم المتبع أمري وطاعتي فبالحسنى ، وأما المسيءَ منكم المخالفَ أمري ونهيي
فبالسوأى. ومعنى قوله : " شَهيدا " ، ذو شهادة على ذلك. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الشهيد " فيما سلف 1 : 376 - 378 / 3 : 97. 145 / 6 :
60 ، 75 / 7 : 243
(8/289)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
القول في تأويل قوله : { الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : (1) " الرجال قوّامون على النساء
" ، الرجال أهل قيام على نسائهم ، في تأديبهن والأخذ على أيديهن فيما يجب
عليهن لله ولأنفسهم " بما فضّل الله بعضهم على بعض " ، يعني : بما فضّل
الله به الرجال على أزواجهم : من سَوْقهم إليهنّ مهورهن ، وإنفاقهم عليهنّ أموالهم
، وكفايتهم إياهن مُؤَنهنّ. وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهنّ ، ولذلك
صارُوا قوّامًا عليهن ، نافذي الأمر عليهن فيما جعل الله إليهم من أمورهن.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9300 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " الرجال قوّامون على النساء "
، يعني : أمرَاء ، عليها أن تطيعه فيما أمرَها الله به من طاعته ، وطاعته : أن
تكون محسنةً إلى أهله ، حافظةً لماله. وفضَّله عليها بنفقته وسعيه.
9301 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن
الضحاك في قوله : " الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض
" ، يقول : الرجل قائمٌ على المرأة ، يأمرها بطاعة الله ، فَإن أبت فله أن
يضربها ضربًا غير مبرِّح ، وله عليها الفضل بنفقته وسعيه.
9302 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " يعني بذلك جل ثناؤه " ، والسياق يقتضي ما
أثبت.
(8/290)
أسباط ، عن السدي : " الرجال
قوامون على النساء " ، قال : يأخذون على أيديهن ويُؤدّبونهن. (1)
9303 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ،
سمعت سفيان يقول : " بما فضل الله بعضهم على بعض " ، قال : بتفضيل الله
الرجال على النساء.
* * *
وذُكر أنّ هذه الآية نزلت في رجل لطم امرأته ، فخوصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم
في ذلك ، فقضَى لها بالقصاص.
ذكر الخبر بذلك :
9304 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
قال ، حدثنا الحسن : أنّ رجلا لطمَ امرأته ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ،
فأراد أن يُقِصّها منه ، فأنزل الله : " الرجالُ قوّامون على النساء بما فضل
الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم " ، فدعاه النبيّ صلى الله عليه
وسلم فتلاها عليه ، وقال : أردتُ أمرًا وأراد الله غيرَه.
9305 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" الرجال قوامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من
أموالهم " ، ذكر لنا أن رجلا لطم امرأته ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ،
ثم ذكر نحوه.
9306 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
في قوله : " الرّجال قوّامون على النساء " ، قال : صك رجل امرأته ، فأتت
النبي صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يُقِيدَها منه ، فأنزل الله : " الرجال
قوامون على النساء " .
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ويؤدبوهن " ، وهو سهو من الناسخ ، وفي
هامش المخطوطة حرف " ط " دلالة على الخطأ ، أو كأنه كان هكذا في الأصل الذي
نقله عنه ، خطأ أيضًا.
(8/291)
9307 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي
، عن جرير بن حازم ، عن الحسن : أنّ رجلا من الأنصار لطم امرأته ، فجاءت تلتمس
القصاص ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص ، فنزلت : ( وَلا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) [سورة طه : 114] ،
ونزلت : " الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضَهم على بعض " .
(1)
9308 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : لطم
رجلٌ امرأته ، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم القصاص. فبيناهم كذلك ، نزلت
الآية.
9309 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : أما " الرجال قوامون على النساء " ، فإن رجلا من الأنصار كان
بينه وبين امرأته كلامٌ فلطمها ، فانطلق أهلها ، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه
وسلم ، فأخبرهم : " الرجال قوامون على النساء " الآية.
* * *
وكان الزهري يقول : ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس.
9310 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، سمعت
الزهري يقول : لو أن رجلا شَجَّ امرأته أو جَرحها ، لم يكن عليه في ذلك قَوَدٌ ،
وكان عليه العَقل ، إلا أن يعدُوَ عليها فيقتلها ، فيقتل بها. (2)
* * *
وأما قوله : " وبما أنفقوا من أموالهم " ، فإنه يعني : وبما ساقوا إليهن
من
__________
(1) " سورة طه " سورة مكية باتفاق ، فيقول الحسن إنها نزلت في شأن
المرأة الأنصارية وذلك بالمدينة ولا ريب ، قول فيه نظر.
(2) " القود " : القصاص. و " العقل " الدية وما أشبهها.
هذا ، وبحسب امرئ مسلم أن يحفظ من صحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما
رواه البخاري ومسلم : " أيضرب أحدكم امرأته ، ثم يجامعها في آخر اليوم "
، وما رواه ابن ماجه : " خياركم خياركم لنسائهم " .
(8/292)
صداق ، وأنفقوا عليهن من نفقة ، كما :
-
9311 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : فضله عليها بنفقته وسعيه.
9312 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن
الضحاك مثله.
9313 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ،
سمعت سفيان يقول : " وبما أنفقوا من أموالهم " ، بما ساقوا من المهر.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذًا : الرجال قوامون على نسائهم ، بتفضيل الله
إياهم عليهن ، وبإنفاقهم عليهنّ من أموالهم.
* * *
و " ما " التي في قوله : " بما فضل الله " ، والتي في قوله :
" وبما أنفقوا " ، في معنى المصدر.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا
حَفِظَ اللَّهُ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فالصالحات " ، المستقيمات الدين
، العاملات بالخير ، (1) كما : -
9314 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، حدثنا عبد الله بن المبارك
قال ، سمعت سفيان يقول : " فالصالحات " ، يعملن بالخير.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الصالح " فيما سلف 3 : 91 / 6 : 380 / 7 : 130.
(8/293)
وقوله : " قانتات " ، يعني :
مطيعات لله ولأزواجهن ، كما : -
9315 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : " قانتات " ، قال : مطيعات.
9316 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " قانتات " ، قال : مطيعات.
9317 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله. (1)
9318 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " قانتات " ، مطيعات.
9319 - حدثنا الحسن بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة :
" قانتات " ، أي : مطيعات لله ولأزواجهن.
9320 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
قال : " مطيعات " .
9321 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " القانتات " ، المطيعات.
9322 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال :
سمعت سفيان يقول في قوله : " قانتات " ، قال : مطيعات لأزواجهن.
وقد بينا معنى " القنوت " فيما مضى ، وأنه الطاعة ، ودللنا على صحة ذلك
من الشواهد بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 9317 - هذا الأثر زدته من المخطوطة وقد حذفته المطبوعة ، وقد أحسن في
حذفه لأنه تكرار لا معنى له للذي قبله ، ولكني أثبته هنا مخافة أن يكون الناسخ قد
تجاوز بصره ، فوضع الإسناد مرة أخرى كما هو ، ويكون في الإسناد خلاف أخطأه نظره.
(2) انظر ما سلف 2 : 538 ، 539 / 5 : 228 - - 237 / 6 : 264 ، 401.
(8/294)
وأما قوله : " حافظات للغيب
" ، فإنه يعني : حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن عنهن ، في فروجهن وأموالهم
، وللواجب عليهن من حق الله في ذلك وغيره ، كما : -
9323 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
حافظات للغيب " ، يقول : حافظات لما استودعهن الله من حقه ، وحافظات لغيب
أزواجهن.
9324 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " حافظات للغيب بما حفظ الله " ، يقول : تحفظ على زوجها مالَه
وفرجَها حتى يرجع ، كما أمرَها الله.
9325 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت
لعطاء ما قوله : " حافظات للغيب " ، قال : حافظات للزوج.
9326 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا حجاج قال ، قال ابن جريج :
سألت عطاء عن " حافظات للغيب " ، قال : حافظات للأزواج.
9327 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، سمعت
سفيان يقول : " حافظات للغيب " ، حافظات لأزواجهن ، لما غاب من شأنهن.
9328 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا أبو معشر قال ، حدثنا سعيد
بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
خيرُ النساء امرأةٌ إذا نظرتَ إليها سرَّتك ، وإذا أمرَتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها
حفظتك في نفسها ومالك. قال : ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرجال
قوامون على النساء " الآية. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 9328 - في المطبوعة والمخطوطة : " سعيد عن أبي سعيد المقبري
" ، وهو خطأ ظاهر ، كما سيتبين لك من تخريجه ؛ أخرجه أبو داود الطيالسي في
مسنده : 306 من حديث أبي معشر ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، وذكر ابن كثير في
تفسيره 2 : 436 ، أن ابن أبي حاتم " رواه عن يونس بن حبيب ، عن أبي داود
الطيالسي ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، به سواء "
. فإن يكن ذلك كذلك ، فقد أخطأ ابن أبي حاتم في روايته عن أبي داود ، فالثابت في
مسنده أنه من حديثه عن أبي معشر ، ولعله وهم ، فإن الآثار التي قبله مباشرة ،
رواها أبو داود من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري.
وهذا الأثر نسبه السيوطي في الدر المنثور 2 : 151 ، لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
والحاكم ، والبيهقي في سننه. والذي وجدته في المستدرك للحاكم 2 : 161 ، من طريق
ابن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، بمعناه بغير هذا اللفظ
، مختصرًا ، وقال : " صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " . ولم أعرف
مكانه في سنن البيهقي.
(8/295)
قال أبو جعفر : وهذا الخبر عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم يدُلّ على صحة ما قلنا في تأويل ذلك ، وأن معناه :
صالحاتٌ في أديانهن ، مطيعاتٌ لأزواجهن ، حافظات لهم في أنفسهنّ وأموالهم.
* * *
وأما قوله : " بما حفظ الله " ، فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة القرأة في جميع أمصار الإسلام : ( بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ) ، برفع اسم
" الله " ، على معنى : بحفظ الله إياهن إذ صيَّرهن كذلك ، كما : -
9329 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا حجاج قال ، قال ابن جريج
سألت عطاء عن قوله : " بما حفظ الله " ، قال يقول : حفظهن الله.
9330 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال :
سمعت سفيان يقول في قوله : " بما حفظ الله " ، قال : بحفظ الله إياها ،
أنه جعلها كذلك.
* * *
وقرأ ذلك أبو جعفر يَزيد بن القَعْقاع المدني (1) ( بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ) يعني :
__________
(1) " أبو جعفر : يزيد بن القعقاع المدني المخزومي " مولى عبد الله بن
عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، أحد القراء العشرة ، تابعي مشهور كبير القدر ، أتوا
به إلى أم سلمة أم المؤمنين ، وهو صغير ، فمسحت على رأسه ودعت له بالبركة ، وصلى
بابن عمر. كان إمام أهل المدينة في القراءة فسمي " القارئ " قال ابن
معين : " كان ثقة قليل الحديث " . طبقات القراء 2 : 382 - 384.
(8/296)
بحفظهنّ الله في طاعته وأداء حقه بما
أمرهن من حفظ غَيب أزواجهن ، كقول الرجل للرجل : " ما حَفِظتَ اللهَ في كذا
وكذا " ، بمعنى : ما راقبته ولا حِفْتَهُ. (1)
* * *
قال أبو جعفر : والصوابُ من القراءة في ذلك ما جاءت به قرأة المسلمين من القراءة
مجيئًا يقطع عذرَ من بَلغه ويُثبّتُ عليهُ حجته ، دون ما انفرد به أبو جعفر فشذّ
عنهم. وتلك القراءة ترفع اسم " الله " تبارك وتعالى : ( بِمَا حَفِظَ
اللَّهُ ) ، مع صحة ذلك في العربية وكلام العرب ، وقُبح نصبه في العربية ، لخروجه
عن المعروف من منطق العرب.
وذلك أن العربَ لا تحذف الفاعلَ مع المصادر ، من أجل أنّ الفاعل إذا حذف معها لم
يكن للفعل صاحبٌ معروف.
* * *
وفي الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من الكلام عليه من ذكره ، ومعناه :
فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ، فاحسِنوا إليهن وأصلحوا.
* * *
وكذلك هو فيما ذكر في قراءة ابن مسعود.
9331 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال ،
حدثنا عيسى الأعمى ، عن طلحة بن مصرف قال : في قراءة عبد الله : ( فالصالحات
قانتات للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن واللاتي تخافون نشوزهن ) .
9332 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل. قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : ( فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ
) ، فأحسنوا إليهنّ.
__________
(1) في المخطوطة : " راقبته ولا خفته " ، وفي المطبوعة : " راقبته
ولاحظته " وصواب قراءة المخطوطة ما أثبت ، بزيادة " ما " قبل
" راقبته " ، وقوله : " ولا خفته " من الخوف.
(8/297)
9333 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا
عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس
قوله : " فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله " ، فأصلِحوا
إليهن.
9334 - حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما
حفظ الله " ، يعني : إذا كن هكذا ، فأصلحوا إليهنّ.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ } (1)
اختلف أهلُ التأويل في معنى قوله : " واللاتي تخافونُ نشوزهن " .
فقال بعضهم : معناه : واللاتي تعلمون نشوزهن. ووجه صرف " الخوف " ، في
هذا الموضع ، إلى " العلم " ، في قول هؤلاء ، نظيرُ صرف " الظن
" إلى " العلم " ، لتقارب معنييهما ، إذ كان " الظن " ،
شكًّا ، وكان " الخوفُ " مقرونًا برَجاء ، وكانا جميعًا من فعل المرء
بقلبه (2) كما قال الشاعر : (3)
وَلا تَدْفِنَنَّي فِي الْفَلاةِ فَإِنَّني... أَخَافُ إذَا مَا مِتُّّ أَنْ لا
أَذُوقُهَا (4)
معناه : فإنني أعلم ، وكما قال الآخر : (5)
__________
(1) لم يذكر في المخطوطة والمطبوعة : " فعظوهن " ، مع أنه فسرها بعد ،
ولم يفردها عن هذا الموضع.
(2) انظر تفسير " الخوف " فيما سلف 3 : 550 ، 551.
(3) هو أبو محجن الثقفي.
(4) سلف البيت وتخريجه في 3 : 551 ، وأزيد هنا ، معاني القرآن للفراء 1 : 146 ،
265 ، مع اختلاف يسير في الرواية ، ونسيت هناك أن أرده إلى هذا الموضع ، فألحق ذلك
بمكانه هناك.
(5) هو أبو الغول الطهوي.
(8/298)
أَتَانِي كَلامٌ عَنْ نُصَيْبٍ
يَقُوُلُهُ... وَمَا خِفْتُ ، يَا سَلامُ أَنَّكَ عَائِبي (1)
بمعنى : وما ظننتُ.
* * *
وقال جماعة من أهل التأويل : معنى " الخوف " في هذا الموضع : الخوف الذي
هو خلاف " الرجاء " . قالوا : معنى ذلك : إذا رأيتم منهن ما تخافون أن
ينشزن عليكم ، من نظر إلى ما لا ينبغي لهن أن ينظرن إليه ، ويَدخُلن ويخرجن ،
واسترْبتم بأمرهن ، فعِظُوهن واهجروهنّ. وممن قال ذلك محمد بن كعب. (2)
* * *
وأما قوله : " نشوزهن " ، فإنه يعني : استعلاءَهن على أزواجهن ،
وارتفاعهن عن فُرُشهم بالمعصية منهن ، والخلاف عليهم فيما لزمهنّ طاعتهم فيه ،
بغضًا منهن وإعراضًا عنهم.
* * *
وأصل " النشوز " الارتفاع. ومنه قيل للمكان المرتفع من الأرض : "
نَشْز " و " نَشَاز " . (3)
" فعظوهن " ، يقول : ذكّروهن الله ، وخوِّفوهن وعيدَه ، في ركوبها ما
حرّم الله عليها من معصية زوجها فيما أوجب عليها طاعته فيه. (4)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال : " النشوز " ، البغضُ ومعصيةُ الزوج.
9335 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا
__________
(1) سلف تخريجه وشرحه فيما مضى 3 : 550 ، وأزيد هنا معاني القرآن للفراء 1 : 146 ،
265. وكان في المطبوعة هنا " أنك عاتبي " ، وهو خطأ فاسد ، وهو في
المخطوطة غير منقوط.
(2) سيأتي خبر محمد بن كعب القرظي ، برقم : 9342.
(3) انظر تفسير " النشوز " ، و " النشز " فيما سلف 5 : 475 ،
476.
(4) انظر تفسير " الوعظ " فيما سلف 2 : 180 ، 181 / 6 : 14 / 7 : 233.
(8/299)
أسباط ، عن السدي : " واللاتي
تخافون نشوزهن " ، قال : بغضهن.
9336 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
واللاتي تخافون نشوزهن " ، قال : التي تخاف معصيتها. قال : " النشوز
" ، معصيته وخِلافه.
9337 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " واللاتي تخافون نشوزهن " ، تلك المرأة
تنشز ، (1) وتستخفّ بحق زوجها ولا تطيع أمره. (2)
9338 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا روح قال ، حدثنا ابن جريج قال
، قال عطاء : " النشوز " ، أن تحبَّ فراقَه ، والرجلُ كذلك.
* * *
ذكر الرواية عمن قال ما قلنا في قوله : " فعظوهن " .
9339 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثنا معاوية ، عن علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فعظوهن " ، يعني : عظوهن بكتاب الله. قال :
أمره الله إذا نشزت أن يعظَها ويذكّرها الله ، ويعظِّم حقّه عليها. (3)
9340 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن " ، قال : إذا نشزت المرأة
عن فراش زوجها يقول لها : " اتقي الله وارجعي إلى فراشك " ! فإن أطاعته
، فلا سبيلَ له عليها.
9341 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " قيل المرأة تنشز " ، وهو كلام فاسد جدًا
، والصواب من الدر المنثور 2 : 154 ، 155 ، والسنن الكبرى 7 : 303.
(2) الأثر : 9337 - رواه البيهقي في السنن 7 : 303 ، من طريق عثمان بن سعيد ، عن
عبد الله بن صالح ، بمثله مطولا ، وسيروي الطبري جزءًا منه برقم : 9339 ثم رقم :
9356.
(3) الأثر : 9339 - سنن البيهقي 3 : 303 ، وانظر التعليق على الأثر : 9337.
(8/300)
عن يونس ، عن الحسن قال : إذا نشزت
المرأة على زوجها فليعظْها بلسانه. يقول : يأمرها بتقوى الله وطاعته.
9342 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب
القرظي قال : إذا رأى الرجل خِفّةً في بَصرها ، (1) ومدخلَها ومخرجَها. قال يقول
لها بلسانه : " قد رأيت منك كذا وكذا ، فانتَهِي " ! فإن أعْتَبت ، فلا
سبيل له عليها. وإن أبت ، هَجر مَضجعها. (2)
9343 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، حدثنا ابن المبارك قال ،
أخبرنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فعظوهن " ، قال :
إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها ، فإنه يقول لها : " اتقي الله وارجعي "
.
9344 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عطاء : "
فعظوهن " ، قال : بالكلام.
9345 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قوله :
" فعظوهن " ، قال : بالألسنة.
9346 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد
بن جبير : " فعظوهن " قال : عظُوهن باللسان. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إذا رأى الرجل تقصيرها في حقه " ، وعلق عليه بقوله
: " في بعض النسخ : إذا رأى الرجل خفة في بصرها ، وفي مدخلها ومخرجها "
، والذي في بعض النسخ ، هو الذي في مخطوطتنا ، مع حذف " في " قبل "
وفي مدخلها " ، وهذا هو الصواب المحض ، والذي في المطبوعة لا شك في أنه تصرف
قبيح من ناسخ. وذلك أن أبا جعفر ذكر هذا آنفًا ص : 299س : 5 : " إذا رأيتم
منهن ما تخافون أن ينشزن ، من نظر إلى ما لا ينبغي لهن أن ينظرن إليه " ،
ونسبه إلى محمد بن كعب القرظي ، وهذا هو معنى " وخفة في بصرها " ، أي :
أنها تطمح ببصرها إلى غيره من الرجال.
(2) الأثر : 9342 - سيأتي آخره برقم : 9364. وقوله : " ومدخلها ومخرجها
" بالنصب فيهما عطفًا على قوله : " خفة " ، وهي مفعول " رأى
" . وقوله : " أعتبت " ، من قولك : " أعتبني فلان " ،
إذا ترك ما كنت تجد عليه من أجله ، ورجع إلى ما أرضاك عنه ، بعد إسخاطه إياك عليه.
(3) الأثر : 9346 - " عمرو بن أبي قيس الرازي " ، مضت ترجمته برقم :
8611.
(8/301)
القول في تأويل قوله : {
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : فعظوهن في نشوزهن عليكم ، أيها الأزواج ، فإن أبينَ
مراجعة الحقّ في ذلك والواجب عليهن لكم ، فاهجروهن بترك جماعهنَ في مضاجعتكم
إياهن.
*ذكر من قال ذلك :
9347 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فعظوهن واهجروهن في المضاجع
" ، يعني : عظوهن ، فإن أطعنكم ، وإلا فاهجروهنّ.
9348 - حدثني محمد بن مسعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " واهجروهن في المضاجع " ، يعني بالهجران : أن
يكون الرجل وامرأته على فراش واحد لا يجامعها.
9349 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير
قال : الهجر هجرُ الجماع.
9350 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : أما " تخافون نشوزهن " ، فإن على زوجها أن يعظها ، فإن لم تقبل
فليهجرها في المضجع. يقول : يرقدُ عندها ويولِّيها ظهره ويطؤُها ولا يكلمها هكذا
في كتابي : " ويطؤها ولا يكلِّمها " . (1)
__________
(1) قوله : " هكذا في كتابي " من كلام أبي جعفر الطبري ، وهذه دقة
متناهية ، وأمانة بالغة ، مع مخافة فساد المعنى من وجوه ، ولكنه أثبته كما وجده في
كتابه ، مخافة أن يكون عنى أن الهجر هجر الكلام وحده ، لا هجر الوطء وإن كان
الراجح خلاف ذلك ، وإلا لضمه إلى القول التالي ، وذكره مع الآثار التي في معناه
هناك.
(8/302)
9351 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو
بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " واهجروهن في
المضاجع " ، قال : يضاجعها ، ويهجر كلامها ، ويولِّيها ظهره.
9352 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، حدثنا ابن المبارك قال ،
أخبرنا شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : "
واهجروهن في المضاجع " ، قال : لا يجامعها.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : واهجروا كلامَهن في تركهن مضاجعتكم ، (1) حتى يرجعن
إلى مضاجعتكم.
*ذكر من قال ذلك :
9353 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن عبيد الله
، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس في قوله : " واهجروهن في المضاجع " ، أنها
لا تترك في الكلام ، ولكن الهِجران في أمر المضجع.
9354 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا أبو حمزة ، عن عطاء
بن السائب ، عن سعيد بن جبير : " واهجروهن في المضاجع " ، يقول : حتى
يأتين مضاجعكم. (2)
9355 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير :
" واهجروهن في المضاجع " ، في الجماع.
9356 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " واهجروهن في المضاجع " ، قال :
يعظها فإن هي قبلت ، وإلا هجرها في المضجع ، ولا يكلمها
__________
(1) في المطبوعة : " واهجروهن واهجروا " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر : 9354 - هذا الأثر مكرر في المخطوطة بنصه مرة أخرى.
(8/303)
من غير أن يَذَر نكاحها ، وذلك عليها
شديدٌ. (1)
9357 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ،
أخبرنا شريك ، عن خصيف ، عن عكرمة : " واهجروهن في المضاجع " ، الكلامَ
والحديثَ.
* * *
[وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا تقربوهن في فرشهن ، حتى يرجعن إلى ما تحبّون].
(2)
*ذكر من قال ذلك :
9358 - حدثني الحسن بن زُرَيق الطهوي قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن منصور ، عن
مجاهد في قوله : " واهجروهن في المضاجع " ، قال : لا تضاجعوهن. (3)
9359 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : الهجران أن
لا يضاجعها.
9360 - وبه قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عامر وإبراهيم قالا الهجران في
المضجع ، أن لا يضاجعها على فراش.
9361 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم
والشعبي أنهما قالا في قوله : " واهجروهن في المضاجع " ، قالا يهجر
مضاجعتها حتى ترجع إلى ما يحبّ.
9362 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 9357 - هذا تتمة الأثر السالف رقم : 9337 ، فانظر التعليق عليه هناك.
(2) ما بين القوسين ، ساقط من المخطوطة والمطبوعة ، واستظهرته من معاني الآثار
التالية ، وهو القول الثالث من الأقوال الأربعة في تفسير الآية.
(3) الأثر : 9358 - " الحسن بن زريق الطهوي الكوفي " . روى عن سفيان بن
عيينة ، وأبي بكر بن عياش ، وجماعة. قال العقيلي : " يحدث عن ابن عيينة بحديث
ليس له أصل من حديث ابن عيينة " يعني حديث أنس : " يا أبا عمير ، ما فعل
النغير " . فاعتدل له ابن عدي فقال : " لم أر له أنكر منه ، فما أدري :
وهم فيه ، أو أخطأ ، أو تعمد ، وبقية أحاديثه مستقيمة " . مترجم في لسان
الميزان 2 : 207 ، 208 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 15.
(8/304)
شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي
أنهما كانا يقولان : " واهجروهن في المضاجع " ، قالا يهجرُها في المضجع.
9363 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا حبان قال ، حدثنا ابن المبارك قال ، حدثنا شريك ،
عن خصيف ، عن مقسم : " واهجروهن في المضاجع " ، قال : هجرها في مضجعها :
أن لا يقرب فراشَها.
9364 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب
القرظي قال : " واهجروهن في المضاجع " ، قال : يعظها بلسانه ، فإن أعتبت
فلا سبيل له عليها ، وإن أبتْ هجر مضجعها. (1)
9365 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن
وقتادة في قوله : " فعظوهن واهجروهن " ، قالا إذا خاف نشوزَها وعظها.
فإن قبلتْ ، وإلا هجر مضجعها.
9366 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
واهجروهن في المضاجع " ، قال : تبدأ يا ابن آدم ، فتعظها ، فإن أبت عليك
فاهجرها يعني به : فراشَها.
* * *
وقال آخرون : معنى قوله : " واهجروهن في المضاجع " ، قولوا لهن من القول
هُجْرًا في تركهنّ مضاجعتكم.
*ذكر من قال ذلك :
9367 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن رجل
، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله : " واهجروهن في المضاجع " ، قال :
يهجرها بلسانه ، ويُغْلظ لها بالقول ، ولا يدع جماعها.
9368 - وبه قال ، أخبرنا الثوري ، عن خصيف ، عن عكرمة قال : إنما
__________
(1) الأثر : 9364 - هو بعض الأثر السالف رقم : 9342.
(8/305)
الهجران بالمنطق : أنْ يغلظ لها ، وليس
بالجماع.
9369 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن أبي
الضحى في قوله : " واهجروهن في المضاجع " ، قال : يهجر بالقول ، ولا
يهجر مضاجعتها حتى ترجع إلى ما يريد.
9370 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ،
حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن رجل عن الحسن قال : لا يهجرها إلا في المبيت ، في
المضجع. ليس له أن يهجر في كلام ولا شيء إلا في الفراش.
9371 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثني يعلى ، عن سفيان في قوله :
" واهجروهن في المضاجع " ، قال : في مجامعتها ، ولكن يقول لها : "
تعالَىْ ، وافعلي " ، كلامًا فيه غلظة. فإذا فعلتْ ذلك ، فلا يكلِّفْها أن
تحبه ، فإن قلبها ليس في يديها.
* * *
قال أبو جعفر : ولا معنى ل " الهجر " في كلام العرب إلا على أحد ثلاثة
أوجه.
أحدها : " هجر الرجل كلام الرجل وحديثه " ، وذلك رفضه وتركه ، يقال منه
: " هَجر فلان أهله يهجرُها هجرًا وهجرانًا " .
والآخر : الإكثار من الكلام بترديد كهيئة كلام الهازئ ، يقال منه : " هجر
فلانٌ في كلامه يَهْجُر هَجْرًا " ، إذا هذَى ومدّد الكلمة (1) " وما
زالت تلك هِجِّيراه ، وإهْجِيرَاه " ، ومنه قول ذي الرمة :
رَمَى فَأَخْطَأَ ، وَالأقْدَارُ غَالِبَةٌ... فَانْصَعْنَ وَالْوَيْلُ
هِجِّيرَاهُ وَالْحَرَبُ (2)
__________
(1) هذا التفسير لمعنى " الهجر " ، وهذه الصفة قلما تصيبها في كتب اللغة
، فأثبتها هناك.
(2) ديوانه : 16 ، والبيت من قصيدته الناصعة ، وهو من الأبيات التي وصف فيها حمر
الوحش ، وصائدها من قبيلة جلان ، جاءت الحمر ظماء إلى الماء ، وتخفى لها الصائد قد
أعد سهامه ، فلما وردت الحمر حين دعاها خرير الماء المنسكب ، ولم تكد تشرب منه
نغبًا تكسر ما تلقى من حرارة العطش ، حتى رماها الصائد فأخطأها ، على مهارته وحذقه
، فإن قدر الله غالب كل مقتدر " فانصعن " أي : تفرقن هاربات ، وبقي
الصائد دائبًا يدعو على نفسه بالويل والحرب. و " هجيراه " دأبه ، ألح
إلحاحًا على ذلك لما أخفق. و " الحرب " نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له
، يدعو على نفسه بذلك من الغيظ.
(8/306)
والثالث : " هَجَر البعير "
، إذا ربطه صاحبه بـ " الهِجَار " ، وهو حبل يُربط في حَقْويها ورُسغها
، (1) ومنه قول امرئ القيس :
رَأَتْ هَلَكًا بِنِجَافِ الْغَبِيطِ... فَكَادَتْ تَجُدُّ لِذَاكَ الْهِجَارَا
(2)
فأما القول الذي فيه الغلظة والأذى ، فإنما هو " الإهجار " ، ويقال منه
: " أهجر فلان في منطقه " إذا قال " الهُجْر " ، (3) وهو
الفحش من الكلام " يُهْجر إهجارًا وهُجرًا " .
* * *
فإذ كان لا وجه لـ " الهَجْر " في الكلام إلا أحد المعاني الثلاثة (4)
وكانت المرأة المخوف نشوزُها ، إنما أمر زوجها بوعظها لتنيب إلى طاعته فيما يجب
عليها له من موافاته عند دعائه إياها إلى فراشه فغير جائز أن تكون عظته لذلك حتى
تفيء المرأة إلى أمر الله وطاعة زوجها في ذلك ، (5) ثم يكون الزوج مأمورًا
__________
(1) الحقوان ، واحدهما حقو (بفتح فسكون) : الخاصرتان.
(2) ديوانه : 93 ، معجم ما استعجم : 991 ، واللسان (هلك) ثاني بيتين ، قالهما في
ناقته ، والأول : أَرَى نَاقَةَ الْقَيْسِ قَدْ أَصْبَحَتْ ... عَلَى الأيْنِ
ذَاتَ هِبَابٍ نَوَارَا
" القيس " يعني نفسه. و " الأين " شدة التعب. و " الهباب
" : النشاط : و " النوار " ، النفور من شدة بأسها وقوتها. و "
الهلك " (بفتحتين) : ما بين أعلى الجبل وأسفله ، أو المهواة بين الجبلين ، أو
الشق الذاهب في الأرض. و " الغبيط " صحراء متسعة لبني يربوع ، وسطها
منخفض وطرفها مرتفع ، كهيئة الغبيط وهو الرحل اللطيف وذكره امرؤ القيس في كثير من
شعره. و " النجاف " جمع " نجف " جمع " نجفة " : وهي
أرض مستطيلة مرتفعة لا يعلوها الماء ، تكون في بطن الوادي شبه جدار ليس بالعريض.
وقوله " تجد " أي : تقطع حبل الهجار وهو حبل يشد في رسغها وذلك نفورًا
من المهواة التي أفزعتها.
(3) " الهجر " هنا بضم الهاء وسكون الجيم.
(4) يعني " الهجر " بفتح الهاء وسكون الجيم.
(5) في المطبوعة : " ثم تصير " ، وفي المخطوطة مثله ، إلا أنه كتب
" تصير " بقلم مضطرب ، والظاهر أن الناسخ لم يستطع قراءة الكلمة على
وجهها فاضطرب قلمه. والصواب المحض " تفيء " أي ترجع ، وأما " ثم
" فهو سهو منه ، بل هي " حتى " كما أثبتها ، وهي حق السياق.
(8/307)
بهجرها في الأمر الذي كانت عظته إياها
عليه.
وإذ كان ذلك كذلك ، بطلَ قولُ من قال : " معنى قوله : " واهجروهن في
المضاجع ، واهجروا جماعهن " .
أو يكون - إذ بطل هذا المعنى - بمعنى (1) واهجروا كلامهن بسبب هجرهنّ مضاجعكم.
وذلك أيضًا لا وجه له مفهومٌ. لأن الله تعالى ذكره قد أخبر على لسان نبيه صلى الله
عليه وسلم : أنه لا يَحِل لمسلم أن يهجر أخاه فَوْقَ ثلاث. (2) على أن ذلك لو كان
حلالا لم يكن لهجرها في الكلام معنًى مفهوم. لأنها إذا كانت عنه منصرفةً وعليه
ناشزًا ، فمن سُرورها أن لا يكلمها ولا يَرَاها ولا تراه ، فكيف يُؤْمر الرجل في
حال بُغض امرأته إياه ، وانصرافها عنه بترك ما في تركه سُرُورها ، من ترك جماعها
ومحادثتها وتكليمها ؟ (3) وهو يؤمر بضربها لترتدع عما هي عليه من ترك طاعته ، إذا
دعاها إلى فراشه ، وغير ذلك مما يلزمها طاعته فيه. (4)
__________
(1) في المطبوعة : " فمعنى : واهجروا... " والفاء هنا خطأ لا شك فيه ،
ولكن ناسخ المخطوطة كتب " لمعنى " باء ، ثم وضع نقطة النون على الباء ،
فأساء الناشر قراءتها.
(2) هو من حديث أنس بن مالك ، رواه البخاري (الفتح 10 : 413) : " عن أنس بن
مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تَبَاغَضُوا ، ولا
تَحاسدُوا ، ولا تَدابَرُوا ، وكونوا عِبَاد اللهِ إخوانًا ، ولا يحلُّ لامرئ
مُسْلِمٍ أنْ يهجُرَ أَخاهُ فوق ثلاثٍ " .
وحديث أبي أيوب الأنصاري : " لا يحِلُّ لرجُل أن يهجُرَ أخاهُ فَوقَ ثلاثٍ ،
يلتقيانِ ، فيُعْرض هذا ويُعرِض هذا ، وخيرُهما الذي يبدأ بالسَّلام " ،
(الفتح 10 : 413).
(3) في المطبوعة : " مجاذبتها " ، واخترت قراءتها كما أثبتها ، وهي في
المخطوطة غير منقوطة.
(4) هذه الحجة جيدة جدًا ، إذا اقتصر المرء على صورة واحدة من صور النشوز ، وعلة
واحدة هي التي ذكرها أبو جعفر. ولكن للنشوز صور عديدة ، وعلله مختلفات ، وهذه
الآية أدب عام يعمل به المرء المسلم عند حاجته إليه عند مخافة النشوز أو معرفته
ومعرفة أسبابه. وسترى أن أبا جعفر قد أسقط جميع الأقوال ، ليفضي إلى تأويله الذي
ذهب إليه ، وسنذكر رد أبي بكر بن العربي عليه في تعليق يأتي في آخر مقالة أبي
جعفر.
(8/308)
أو يكون - إذ فسد هذان الوجهان - يكون
معناه (1) واهجروا في قولكم لهنّ ، بمعنى : ردّدوا عليهن كلامكم إذا كلمتموهن ،
بالتغليظ لهن. فإن كان ذلك معناه ، فلا وجه لإعمال " الهجر " في كناية
أسماء النساء الناشزات أعني في " الهاء والنون " من قوله : "
واهجروهن " . لأنه إذا أريد به ذلك المعنى ، كان الفعل غير واقع ، (2) إنما
يقال : " هَجَر فلان في كلامه " ولا يقال : " هجر فلان فلانًا
" .
فإذ كان في كلّ هذه المعاني ما ذكرنا من الخلل اللاحق ، فأولى الأقوال بالصواب في
ذلك أن يكون قوله : " واهجروهن " ، موجَّهًا معناه إلى معنى الرّبط
بالهجار ، على ما ذكرنا من قيل العرب للبعير إذا ربطه صاحبه بحبل على ما وصفنا :
" هَجَره فهو يهجره هجْرًا " .
* * *
وإذا كان ذلك معناه كان تأويل الكلام : واللاتي تخافون نشوزَهن فعظوهن في نشوزهن
عليكم. فإن اتعظن فلا سبيل لكم عليهنّ ، وإن أبين الأوْبة من نشوزهن فاستوثقوا منهنّ
رباطًا في مضاجعهن يعني : في منازلهن وبُيوتهن التي يضطجعن فيها ويُضاجعن فيها
أزواجهنّ ، كما : -
9372 - حدثني عباس بن أبي طالب قال ، حدثنا يحيى بن أبي بكير ، عن شبل قال ، سمعت
أبا قزعة يحدث ، عن عمرو بن دينار ، عن حكيم بن معاوية ، عن أبيه : أنه جاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : يطعمها ، ويكسوها
، ولا يضرب الوجه ، ولا يقبِّح ، ولا يهجر إلا في البيت. (3)
__________
(1) تكرار " يكون " هنا في هذا السياق عربي جيد.
(2) " الفعل الواقع " هو الفعل المتعدي ، وانظر فهرس المصطلحات فيما
سلف.
(3) الحديث : 9372 - عباس بن أبي طالب : هو " عباس بن جعفر بن عبد الله
" . مضت ترجمته في : 880. شبل : هو ابن عباد المكي القارئ. مضى في : 280.
أبو قزعة - بفتح القاف والزاي والعين : هو سويد بن جحير بن بيان. مضت ترجمته في :
8281 ، 8283.
وقوله هنا : " يحدث عن عمرو بن دينار " - الراجح عندي أنه خطأ ناسخ في
زيادة حرف " عن " . وأن يكون صوابه " يحدث عمرو بن دينار " .
أي : أن شبل بن عباد سمع الحديث من أبي قزعة وهو يحدث به عمرو بن دينار. لأن
الحديث معروف من حديث أبي قزعة عن حكيم بن معاوية ، ليس بينهما واسطة. وأبو قزعة
وعمرو بن دينار من طبقة واحدة ، فقد يحدث أحدهما عن الآخر. ولكن الواقع هنا - فيما
أرى - أن الحديث عن أبي قزعة عن حكيم مباشرة.
ثم استيقنت أن ما استظهرت هو الصواب. فإن هذا الحديث قطعة من حديث مطول ، رواه
أحمد في المسند 4 : 446 - 447 (حلبي) ، عن عبد الله بن الحارث ، وعن يحيى بن أبي
بكير - كلاهما عن شبل بن عباد ، قال : " سمعت أبا قزعة يحدث عمرو بن دينار ،
يحدث عن حكيم بن معاوية البهزي... " - إلى آخره. فوقع في مطبوعة المسند
" يحدث عن عمرو بن دينار " ، بزيادة " عن " ، كما في نسخة
الطبري هنا. ولكن ثبت في مخطوطة الرياض - من المسند - (ج3 ص1074) ، على الصواب
الذي ذكرنا ، بحذف كلمة " عن " . وهو الصواب إن شاء الله.
حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري : مضت ترجمته وترجمة أبيه في : 873.
والحديث يأتي تمام تخريجه في الرواية الثالثة : 9374.
(8/309)
9373 - حدثنا الحسن بن عرفة قال ،
حدثنا يزيد بن هارون ، عن شعبة بن الحجاج ، عن أبي قزعة ، عن حكيم بن معاوية ، عن
أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نَحوه. (1)
9374 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، حدثنا ابن المبارك قال ،
أخبرنا بهز بن حكيم ، عن جده قال ، قلت : يا رسول الله ، نساؤنا ، ما نأتي منها
وما نذر ؟ قال : حرثُك ، فأت حرثك أنَّى شئت ، غير أن لا تضرب الوجهَ ، ولا تقبِّح
، ولا تَهجر إلا في البيت ، وأطعم إذا طَعِمت ، واكْس إذا اكتسيتَ ، كيفَ وقد أفضى
بعضكم إلا بعض ؟ إلا بما حَلّ عليها. (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 9373 - الحسن بن عرفة العبدي البغدادي ، شيخ الطبري ثقة. مترجم في
التهذيب ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 31 - 32 ، وتاريخ بغداد 7 : 394 - 396. مات سنة
257 وقد جاوز 110 سنين.
والحديث رواه أحمد 4 : 447 (حلبي) ، عن يزيد بن هارون ، عن شعبة ، بهذا الإسناد.
(2) الحديث : 9374 - حبان - بكسر الحاء - بن موسى بن سوار السلمي : ثقة من شيوخ
البخاري ومسلم. مترجم في التهذيب ، والكبير 2 / 1 / 84 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 /
271.
وهذا الحديث هو تكرار للحديثين قبله ، مطولا. وقد جاء بالأسانيد الصحاح بأطول من
هذا أيضًا. ورواه عن حكيم بن معاوية ابناه : بهز وسعيد ، وغيرهما. فرواه أحمد في
المسند ، مطولا ومختصرًا ، 4 : 446 ، 447 ، مرارًا ، و5 : 3 ، 5 (حلبي).
ورواه أبو داود : 2142 - 2144.
ورواه ابن ماجه : 1850 ، من طريق يزيد بن هارون ، كالرواية التي قبل هذه.
ورواه البيهقي 7 : 295 ، 305 ، مطولا ومختصرًا. وقال المنذري : 2057 ، من تهذيب
السنن : " اختلف الأئمة في الاحتجاج بهذه النسخة ، فمنهم من احتج بها ، ومنهم
من أبى ذلك. وخرج الترمذي منها شيئًا وصححه " . يريد نسخة " بهز بن حكيم
عن أبيه عن جده " . والحق أنها صحيحة إذا صح الإسناد إلى بهز. وذكره ابن كثير
2 : 437 - مختصرًا - دون إسناد ، ونسبه للسنن والمسند.
وقوله : " إلا بما حل عليها " - وفي رواية المسند (ج5 ص5) : " إلا
بما حل عليهن " - يعني : إلا بما حل لكم عليهن من الضرب الذي أذن الله به لكم
إذا خفتم نشوزهن. وهو الذي نص الله عليه في هذه الآية الكريمة : (واللاتي تخافون
نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن). ولا يتجاوز في ذلك الحد الذي أذن
الله به : (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا).
(8/310)
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال عدّة
من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9375 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن الحسن قال :
إذا نشزت المرأة على زوجها فليعظها بلسانه ، فإن قبلت فذاك ، وإلا ضَربها ضربًا
غير مبرّح. فإن رجعت ، فذاك ، وإلا فقد حَلّ له أن يأخذ منها ويُخَلِّيها.
9376 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن أبي الضحى ،
عن ابن عباس في قوله : " واهجروهن في المضاجع واضربوهن " ، قال : يفعل
بها ذاك ، ويضربها حتى تطيعه في المضاجع ، فإذا أطاعته في المضجع ، فليس له عليها
سبيل إذا ضاجعته.
9377 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان قال ، حدثنا ابن المبارك قال ، أخبرنا يحيى
بن بشر : أنه سمع عكرمة يقول في قوله : " واهجروهن في المضاجع واضربوهن
" ضربًا غير مبرح ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اضربوهن
(8/311)
إذا عصينكم في المعروف ضربًا غير
مبرّح. (1)
* * *
قال أبو جعفر : فكلّ هؤلاء الذين ذكرنا قولهم : لم يوجبوا للهجر معنى غير الضرب.
ولم يوجبوا هجرًا إذا كان هيئة من الهيئات التي تكون بها المضروبة عند الضرب ، (2)
مع دلالة الخبر الذي رواه عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بضربهن إذا
عصين أزواجهن في المعروف ، من غير أمر منه أزواجهن بهجرهن (3) لما وصفنا من العلة.
قال أبو جعفر : فإن ظنّ ظانٌّ أن الذي قلنا في تأويل الخبر عن النبي صلى الله عليه
وسلم الذي رواه عكرمة ، ليس كما قلنا ، وصحّ أن تركَ النبي صلى الله عليه وسلم
أمرَ الرجل بهجر زوجته إذا عصته في المعروف وأمره بضربها قبل الهجر ، لو كان دليلا
على صحة ما قلنا من أنّ معنى " الهجر " هو ما بيناه لوجب أن يكون لا
معنى لأمر الله زوجَها أن يَعِظها إذا هي نشزت ، إذ كان لا ذِكر للعظة في خبر
عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم
(4) فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا
عصينكم في المعروف " ، دلالة بينة أنه لم يٌبح للرجل ضرب زوجته ، إلا بعد
عظتها من نشوزها. وذلك أنه لا تكون لهُ عاصية ، إلا وقد تقدّم منه لها أمرٌ أو
عِظَة بالمعروف على ما أمرَ الله به. (5)
* * *
__________
(1) الأثر : 9377 - الخبر الذي رواه عكرمة ، واحتج به الطبري بعد ، خبر مرسل. خرجه
السيوطي في الدر المنثور 2 : 155 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(2) يعني بقوله : " إذ كان هيئة من الهيئات... " ، أن المرأة المضروبة
لا تضرب إلا لأنها هجرت فراش زوجها ، فالهجر حالة من حالاتها التي تكون عليها حين
تضرب.
(3) السياق : " ولم يوجبوا هجرًا ... لما وصفنا من العلة " ، وفصل
بينهما بالسبب الذي من أجله لم يوجبوا الهجر.
(4) قوله : " فإن الأمر في ذلك ... " جواب قوله في أول الفقرة السالفة :
" فإن ظن ظان " ، وفصلت هذه الثانية فقرة مستقلة ، لأنها كالجواب ،
ولئلا تختلط معاني الكلام.
(5) تأويل الطبري في هذا الموضع لمعنى " الهجر " ، وأنه الشد بالهجار ،
والاستثياق منهن رباطًا في منازلهن وبيوتهن التي يضطجعن فيها ويضاجعن فيها أزواجهن
تأويل مستغرب جدًا ، شذ به عن كل تأويل تأوله المتقدمون. وقد استدرك عليه العلماء
بعده ، فمن أجود من قال في ذلك أبو بكر بن العربي في كتابه أحكام القرآن 1 : 175
قال : " يا لها هفوة من عالم بالقرآن والسنة!! وإني لأعجبكم من ذلك : أن الذي
جرأه على هذا التأويل ، ولم يرد أن يصرح بأنه أخذه منه ، وهو حديث غريب ، رواه ابن
وهب عن مالك : أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام... " ثم
ذكر قصة ضرب الزبير أسماء وضرتها ، وأنه عقد شعر واحدة بالأخرى ، وارتفاع أسماء
إلى أبي بكر ، ونصيحة أبي بكر لها أن تصبر ، لأن الزبير رجل صالح ، وعسى أن يكون
زوجها في الجنة ثم قال ابن العربي : " فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ ،
مع فعل الزبير ، فأقدم على هذا التفسير لذلك. وعجبًا له ، مع تبحره في العلوم وفي
لغة العرب ، كيف بعد عليه صواب القول ، وحاد عن سداد النظر " !!
واستخراج أبي بكر ضمير الطبري ، إذ ذكر الخبر الذي جرأه على هذا التفسير ، ليس
يعجبني ، ولو كان الطبري أراده لذكره كعادته. ولكني أظن أبا جعفر قد تورط في هذا
التأويل ، للعلل التي قدم ذكرها بعد كلامه في تفسير " الهجر " ، وأنه لو
كان الكلام " فاهجروهن في المضاجع " ، ولم يقل سبحانه قبله "
فعظوهن " ، لما احتاج أبو جعفر إلى هذا التأويل. وإذن فالذي دعاه إلى هذا
التأويل هو تتابع الكلامين " فعظوهن " و " اهجروهن في المضاجع
" ، ثم إنه أيضًا لم يجد مساغًا للجمع بين معنى " النشوز " ، ومعنى
" الهجر " ، كما قلت في ص : 308 تعليق : 4. ولاستيفاء القول في ذلك مكان
غير هذا المكان.
(8/312)
القول في تأويل قوله : {
وَاضْرِبُوهُنَّ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فعظوهن ، أيها الرجال ، في نشوزهن ، فإن
أبينَ الإياب إلى ما يلزمهن لكم ، فشدّوهن وثاقًا في منازلهن ، واضربوهن ليؤبن إلى
الواجب عليهن من طاعته الله في اللازم لهنّ من حقوقكم.
* * *
وقال أهل التأويل : صفة الضرب التي أباح الله لزوج الناشز أن يضربها : الضربُ غيرُ
المبرِّح.
*ذكر من قال ذلك :
9378 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ،
(8/313)
عن سعيد بن جبير : " واضربوهن
" ، قال : ضربًا غير مبرح.
9379 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، أخبرنا أبو حمزة ، عن عطاء
بن السائب ، عن سعيد بن جبير مثله.
9380 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : الضرب غير
مبرّح. (1)
9381 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، حدثنا ابن المبارك قال ،
أخبرنا شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " واضربوهن
" ، قال : ضربًا غير مبرح.
9382 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس : " واهجروهن في المضاجع واضربوهن " ، قال : تهجرها
في المضجع ، فإن أقبلت ، وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربًا غير مبرح ، ولا
تكسر لها عظمًا. فإن أقبلت ، وإلا فقد حَلّ لك منها الفدية.
9383 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن
وقتادة في قوله : " واضربوهن " ، قال : ضربًا غير مبرح.
9384 - وبه قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن جريج قال : قلت لعطاء :
" واضربوهن " ؟ قال : ضربًا غير مبرح.
9385 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة :
" واهجروهن في المضاجع واضربوهن " ، قال : تهجرها في المضجع. فإن أبت
عليك ، فاضربها ضربًا غير مبرح أي : غير شائن.
9386 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن
عطاء قال : قلت لابن عباس : ما الضرب غير المبرّح ؟ قال : السواك وشبهه ، يضربها
به.
__________
(1) في المطبوعة : " غير المبرح " وأثبت ما في المخطوطة.
(8/314)
9387 - حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري
قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال ، قلت لابن عباس : ما الضرب
غير المبرح ؟ قال : بالسواك ونحوه.
9388 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ،
أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
في خطبته : " ضربًا غير مبرح " ، قال : السواك ونحوه. (1)
9389 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : لا تهجروا النساء إلا في المضاجع ، واضربوهن ضربًا غير مبرح يقول
: غير مؤثّر.
9390 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عطاء : "
واضربوهن " ، قال : ضربًا غير مبرح.
9391 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا حبان قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، حدثنا يحيى
بن بشر ، عن عكرمة مثله.
9392 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " واضربوهن " ، قال : إن أقبلت في الهجران ، وإلا ضربها ضربًا
غير مبرح.
9393 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب قال :
تهجر مضجعها ما رأيتَ أن تنزع. (2) فإن لم تنزع ، ضربها ضربًا غير مبرح.
9394 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن
الحسن : " واضربوهن " ، قال : ضربًا غير مبرح.
__________
(1) يعني خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، وقد مضى ذلك برقم : 8905 ،
فراجع التخريج هناك.
(2) " تنزع " أي : تقلع عن نشوزها وتتركه.
(8/315)
9395 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان
قال ، حدثنا ابن المبارك قال ، أخبرنا عبد الوارث بن سعيد ، عن رجل ، عن الحسن قال
: ضربًا غير مبرح ، غير مؤثر.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن أطعنكم ، أيها الناس ، نساؤكم اللاتي
تخافون نشوزهن عند وعظكم إياهن ، فلا تهجروهن في المضاجع. فإن لم يطعنكم ،
فاهجروهن في المضاجع واضربوهن. فإن راجعنَ طاعتكم عند ذلك وفِئْنَ إلى الواجب
عليهن ، فلا تطلبوا طريقًا إلى أذاهن ومكروههن ، ولا تلتمسوا سبيلا إلى ما لا يحل
لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل. وذلك أن يقول أحدكم لإحداهن وهي له مطيعة :
" إنك لست تحبّيني ، وأنت لي مبغضة " ، فيضربها على ذلك أو يُؤذيها.
فقال الله تعالى للرجال : " فإن أطعنكم " أي : على بغضهنّ لكم فلا
تجنَّوا عليهن ، ولا تكلفوهن محبتكم ، فإنّ ذلك ليس بأيديهن ، فتضربوهن أو تؤذوهن
عليه.
* * *
ومعنى قوله : " فلا تبغوا " ، لا تلتمسوا ولا تطلبوا ، من قول القائل :
" بغَيتُ الضالة " ، إذا التمستها ، (1) ومنه قول الشاعر في صفة الموت :
(2)
بَغَاكَ وَمَا تَبْغِيِهِ ، حَتَّى وَجَدْتَهُ... كَأَنَّكَ قَدْ وَاعَدْتَهُ
أَمْسِ مَوْعِدَا (3)
__________
(1) انظر تفسير : " بغي " فيما سلف 3 : 508 / 4 : 163 / 6 : 196 ، 564 ،
570 / 7 : 53.
(2) هو سحيم عبد بني الحسحاس.
(3) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 4 : 163 / 7 : 53.
(8/316)
بمعنى : طلبك وما تطلبه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9396 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن
سبيلا " ، قال : إذا أطاعتك فلا تتجنَّ عليها العلل.
9397 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن أبي الضحى ،
عن ابن عباس قال ، إذا أطاعته ، فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته.
9398 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن جريج قوله :
" فلا تبغوا عليهن سبيلا " ، قال : العلل.
9399 - وقال أخبرنا عبد الرزاق قال : قال الثوري في قوله : " فإن أطعنكم
" قال : إن أتت الفراش وهي تبغضه.
9400 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يعلى ، عن سفيان قال : إذا
فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه ، لأن قلبها ليس في يديها.
9401 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد قال : إن أطاعته فضاجعته ، فإن الله يقول : " فإن أطعنكم فلا تبغوا
عليهنّ سبيلا " .
9402 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " ، يقول : فإن أطاعتك ، فلا تبغ عليها
العلل.
* * *
(8/317)
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) }
قال أبو جعفر يقول : إن الله ذو علوّ على كل شيء ، فلا تبغوا ، أيها الناس ، على
أزواجكم إذا أطعنكم فيما ألزمهن الله لكم من حق سبيلا لعلوِّ أيديكم على أيديهن ،
فإنّ الله أعلى منكم ومن كل شيء عليكم ، منكم عليهن (1) وأكبر منكم ومن كل شيء ،
وأنتم في يده وقبضته ، فاتقوا الله أن تظلموهن وتبغوا عليهن سبيلا. وهن لكم مطيعات
، فينتصر لهن منكم ربُّكم الذي هو أعلى منكم ومن كل شيء ، وأكبر منكم ومن كل شيء.
(2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا
مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ
اللَّهُ بَيْنَهُمَا }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه " وإن خفتم شقاق بينهما " ، وإن
علمتم أيها الناس (3) " شقاق بينهما " ، وذلك مشاقة كل واحد منهما صاحبه
، وهو إتيانه ما يشق عليه من الأمور. فأما من المرأة ، فالنشوز وتركها أداء حق
الله
__________
(1) في المطبوعة : " فإن الله أعلى منكم ومن كل شيء ، وأعلى منكم عليهن
" ، وفي المخطوطة : " ... ، عليهم منكم عليهن " ، فأراد الناشر
تصحيحه فأفسده ، والصواب " عليكم ، منكم عليهن " وقوله : " عليكم
" من سياق فإن الله أعلى منكم ومن كل شيء عليكم " .
(2) انظر تفسير : " العلي " فيما سلف 5 : 405.
(3) انظر تفسير " الخوف " بمعنى العلم فيما سلف قريبًا ص : 298 ، تعليق
: 2 ، والمراجع هناك.
(8/318)
عليها الذي ألزمها الله لزوجها. وأما
من الزوج ، فتركُه إمساكها بالمعروف أو تسريحها بإحسان.
* * *
و " الشقاق " مصدر من قول القائل : " شاقَّ فلان فلانًا " إذا
أتى كل واحد منهما إلى صاحبه ما يشق عليه من الأمور " فهو يُشاقُّه مشاقَّة
وشقاقًا " ، وذلك قد يكون عداوة ، (1) كما : -
9403 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي في قوله : " وإن خفتم شقاق بينهما " ، قال : إن ضربها فأبت أن
ترجع وشاقَّته يقول : عادته.
* * *
وإنما أضيف " الشقاق " إلى " البين " ، لأن " البين
" قد يكون اسمًا ، كما قال جل ثناؤه : ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) [سورة
الأنعام : 94] ، في قراءة من قرأ ذلك. (2)
* * *
وأما قوله : " فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها " ، فإن أهل
التأويل اختلفوا في المخاطبين بهذه الآية : مَنِ المأمور ببعثة الحكمين ؟ (3)
فقال بعضهم : المأمور بذلك : السلطانُ الذي يرفع ذلك إليه.
*ذكر من قال ذلك :
9404 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب ، عن سعيد بن
جبير : أنه قال في المختلعة : يعظها ، فإن انتهت وإلا هجرها. فإن انتهت ، وإلا
ضربها. فإن انتهت ، وإلا رفع أمرَها إلى السلطان ، فيبعث حكمًا من أهله وحكمًا من
أهلها ، فيقول الحكم الذي من أهلها : " يفعل بها
__________
(1) انظر تفسير " الشقاق " فيما سلف 3 : 115 ، 116 ، 336.
(2) هذه القراءة برفع " بينكم " ، بمعنى : وصلكم الذي يصل بينكم.
(3) في المطبوعة : " ببعثه الحكمين " ، وهو خطأ في قراءة المخطوطة ، وهي
غير منقوطة.
(8/319)
كذا " ، ويقول الحكم الذي من أهله
: " تفعل به كذا " . فأيهما كان الظالم ردَّه السلطان وأخذ فوق يديه ،
وإن كانت ناشزًا أمره أن يَخْلع.
9405 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك :
" وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها " ، قال
: بل ذلك إلى السلطان.
* * *
وقال آخرون : بل المأمور بذلك : الرجل والمرأة.
*ذكر من قال ذلك :
9406 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها
" ، إن ضربها. فإن رجعت ، فإنه ليس له عليها سبيل. فإن أبت أن ترجع وشاقّته ،
فليبعث حكمًا من أهله ، وتبعث حكمًا من أهلها.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيما يُبعث له الحكمان ، وما الذي يجوز للحكمين من الحكم
بينهما ، وكيف وَجْهُ بَعْثهِما بينهما ؟
فقال بعضهم : يبعثهما الزوجان بتوكيل منهما إياهما بالنظر بينهما. وليس لهما أن
يعملا شيئًا في أمرهما إلا ما وكَّلاهما به ، أو وكله كل واحد منهما بما إليه ،
فيعملان بما وكلهما به مَن وكلهما من الرجل والمرأة فيما يجوز توكيلهما فيه ، أو
توكيل من وُكل منهما في ذلك.
*ذكر من قال ذلك :
9407 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، عن
عبيدة قال : جاء رجل وامرأته بينهما شقاقٌ إلى علي رضي الله عنه ، مع كل واحد
منهما فِئام من الناس ، (1) فقال علي رضي الله عنه : ابعثوا حكمًا
__________
(1) " الفئام " : الجماعة الكثيرة.
(8/320)
من أهله وحكمًا من أهلها. ثم قال
للحكمين : تدرِيان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا ، وإن رأيتما
أن تفرِّقا أن تفرقا ، (1) قالت المرأة : رضيت بكتاب الله ، بما عليَّ فيه ولي.
قال الرجل : أما الفرقة فلا. فقال علي رضي الله عنه : كذبتَ والله ، لا تنقلب حتى
تقرَّ بمثل الذي أقرَّت به. (2)
9408 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا هشام بن حسان وعبد الله
بن عون ، عن محمد : أن عليَّا رضي الله عنه أتاه رجل وامرأته ، ومع كل واحد منهما
فئام من الناس. فأمرهما علي رضي الله عنه أن يبعثا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها
، لينظرا. فلما دنا منه الحكمان ، قال لهما علي رضي الله عنه : أتدريان ما لكما ؟
لكما إن رأيتما أن تفرّقا فرقتما ، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما قال هشام في حديثه
: فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله لي وعليّ ، فقال الرجل : أما الفرقة فلا! فقال
عليّ : كذبتَ والله ، حتى ترضى مثل ما رضيت به وقال ابن عون في حديثه : كذبتَ
والله ، لا تبرَحُ حتى ترضى بمثل ما رضيت به. (3)
9409 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا منصور
وهشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة قال : شهدت عليًّا رضي الله عنه ، فذكر مثله. (4)
9410 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ،
__________
(1) في المخطوطة : " فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها ، إن رأيتما أن
تجمعا ، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا " ، سقط من الكلام ما ثبت في المخطوطة
، وهو نص ما في المراجع التي سأذكرها بعد.
(2) الأثر : 9407 - رواه الشافعي في الأم 5 : 177 من طريق عبد الوهاب بن عبد
المجيد الثقفي ، عن أيوب بن أبي تميمة ، بمثله سواء. وأخرجه البيهقي في السنن
الكبرى 7 : 305 ، 306. وقال الشافعي : " حديث علي ثابت عندنا " .
(3) الأثران : 9408 ، 9409 - أخرجه البيهقي في السنن 7 : 306 ، مختصرًا.
(4) الأثران : 9408 ، 9409 - أخرجه البيهقي في السنن 7 : 306 ، مختصرًا.
(8/321)
عن السدي قال : إذا هجرها في المضجع
وضربها ، فأبت أن ترجع وشاقّته ، فليبعث حكمًا من أهله وتبعث حكمًا من أهلها. تقول
المرأة لحكمها : " قد وليتك أمري ، فإن أمرتني أن أرجعَ رجعت ، وإن فرَّقت
تفرقنا " ، وتخبره بأمرها إن كانت تريد نفقة أو كرهت شيئًا من الأشياء ،
وتأمره أن يرفع ذلك عنها وترجع ، أو تخبره أنها لا تريد الطلاق ، ويبعث الرجل
حكمًا من أهله يوليه أمره ، ويخبره يقول له حاجته : إن كان يريدها أو لا يريد أن
يطلقها ، أعطاها ما سألت وزادها في النفقة ، وإلا قال له : " خذ لي منها ما
لها علي ، وطلقها " ، فيوليه أمره ، فإن شاء طلق ، وإن شاء أمسك. ثم يجتمع
الحكمان ، فيخبر كل واحد منهما ما يريد لصاحبه ، ويجهد كل واحد منهما ما يريد
لصاحبه. فإن اتفق الحكمان على شيء فهو جائز ، إن طلَّقا وإن أمسكا. فهو قول الله :
" فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما
" . فإن بعثت المرأة حكمًا وأبى الرجل أن يبعث ، فإنه لا يقربها حتى يبعث
حكمًا.
* * *
وقال آخرون : إن الذي يبعث الحكمين هو السلطان ، غير أنه إنما يبعثهما ليعرفا
الظالم من المظلوم منهما ، ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قِبَل صاحبه ، لا
التفريق بينهما.
*ذكر من قال ذلك :
9411 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ،
عن الحسن وهو قول قتادة أنهما قالا إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم
بظلمه. وأما الفرقة ، فليست في أيديهما ولم يملَّكا ذلك يعني : " وإن خفتم
شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها " .
9412 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
قوله : " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا
(8/322)
من أهلها " ، الآية ، إنما يبعث
الحكمان ليصلحا. فإن أعياهما أن يصلحا ، شهدا على الظالم بظلمه ، وليس بأيديهما
فرقة ، ولا يملَّكان ذلك.
9413 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد قال :
وسألت عن الحكمين ، (1) قال : ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها ، فما حكم
الحكمان من شيء فهو جائزٌ ، يقول الله تبارك وتعالى : " إن يريدا إصلاحًا
يوفق الله بينهما " . قال : يخلو حكم الرجل بالزوج ، وحكم المرأة بالمرأة ،
فيقول كل واحد منهما لصاحبه : " اصدقني ما في نفسك " . فإذا صَدق كل
واحد منهما صاحبه ، اجتمع الحكمان ، وأخذ كل واحد منهما على صاحبه ميثاقًا :
" لتصدقني الذي قال لك صاحبك ، ولأصدقنك الذي قال لي صاحبي " ، فذاك حين
أرادا الإصلاح ، يوفق الله بينهما. فإذا فعلا ذلك ، اطَّلع كل واحد منهما على ما
أفضى به صاحبه إليه ، فيعرفان عند ذلك من الظالم والناشز منهما ، فأتيا عليه فحكما
عليه. فإن كانت المرأة قالا " أنت الظالمة العاصية ، لا ينفق عليك حتى ترجعي
إلى الحق وتطيعي الله فيه " . وإن كان الرجل هو الظالم قالا " أنت
الظالم المضارّ ، لا تدخل لها بيتًا حتى تنفق عليها وترجع إلى الحق والعدل "
. فإن أبت ذلك كانت هي الظالمةَ العاصيةَ ، (2) وأخذ منها ما لها ، وهو له حلال
طيب. وإن كان هو الظالمَ المسيءَ إليها المضارَّ لها طلقها ، ولم يحلّ له من مالها
شيء. فإن أمسكها ، أمسكها بما أمر الله ، وأنفق عليها وأحسن إليها. (3)
__________
(1) في المطبوعة : " سألت عن الحكمين " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو
صواب ، فالظاهر أنه بعض خبر ، لا بدء خبر ، وانظر التعليق رقم : 3.
(2) في المطبوعة : " وترجع إلى الحق والعدل ، فإن كانت هي الظالمة العاصية
أخذ... " ، وفسد الكلام : وفي المخطوطة : " وترجع إلى الحق والعدل ما
دامت ذلك كانت هي الظالمة العاصية وأخذ... " ، وهو تحريف من الناسخ ، وصواب
قراءتها " فإن أبت ذلك " كما أثبتها. والصواب أيضًا إثبات الواو في
" وأخذ " ، لا حذفها ، كما في المطبوعة.
(3) الأثر : 9413 - " قيس بن سعد المكي " مولى نافع بن علقمة ، روى عن
طاوس ، وعطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير. ثقة. مترجم في التهذيب.
وكان هذا الإسناد في المطبوعة : " قال حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ، عن قيس بن سعد " ، وكان في المخطوطة مثله ، إلا أن وضع بعد "
شبل " إلى أعلى : " لا " وبعد " مجاهد " إلى أعلى "
إلى " ، وذلك من إشاراتهم إلى حذف ما بينهما ، استغنوا بذلك عن الضرب عليه
بالقلم. فلم يعرف الناشر قاعدتهم في الكتابة والحذوف ، فأثبت ما حقه الحذف. و
" قيس بن سعد " كما ترى يروي عن مجاهد ، وليس مجاهد ممن يروي عنه. وهذا
الخبر ، كأنه مما سأل عنه قيس بن سعد مجاهدًا أو عطاء ، كما مر في بعض أسانيده
السالفة ، التي غاب عني مكانها اليوم.
(8/323)
9414 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي
، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي قال : كان علي بن أبي طالب رضي الله
عنه يبعث الحكمين ، حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها. فيقول الحكم من أهلها : "
يا فلان ، ما تنقِم من زوجتك " ؟ فيقول : " أنقِم منها كذا وكذا "
. قال فيقول : " أفرأيت إن نزعَت عما تكره إلى ما تحب ، هل أنت مُتقي الله
فيها ، ومعاشرها بالذي يحق عليك في نفقتها وكسوتها " ؟ فإذا قال : " نعم
" ، قال الحكم من أهله : " يا فلانة ما تنقمين من زوجك فلان " ؟
فيقول مثل ذلك ، فإن قالت : " نعم " ، جمع بينهما. قال : وقال علي رضي
الله عنه : الحكمان ، بهما يجمع الله وبهما يفرِّق.
9415 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال ، قال
الحسن : الحكمان يحكمان في الاجتماع ، ولا يحكمان في الفُرقة.
9416 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن " ، وهي
المرأة التي تنشز على زوجها ، فلزوجها أن يخلعها حين يأمر الحكمان بذلك ، وهو بعد
ما تقول لزوحها : " والله لا أُبرُّ لك قسمًا ولآذنَنَّ في بيتك بغير أمرك
" ! ويقول السلطان : " لا نجيز لك خلعًا " حتى تقول المرأة لزوجها
: " والله لا أغتسل لك من جنابة ، ولا أقيم لك صلاة " ! فعند ذلك يقول
السلطان : " اخلع المرأة " !
(8/324)
9417 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن
وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن " ،
قال : تعظها ، فإن أبت وغَلبت ، فاهجرها في مضجعها. فإن غلبت هذا أيضًا ، فاضربها.
فإن غلبت هذا أيضًا ، بُعث حكم من أهله وحكم من أهلها. فإن غلبت هذا أيضًا وأرادت
غيره ، فإنَّ أبِي قال أو : كان أبي يقول (1) ليس بيد الحكمين من الفرقة شيء ، إن
رأيا الظلم من ناحية الزوج قالا " أنت يا فلان ظالم ، انزع " ! فإن أبى
، رفعا ذلك إلى السلطان. ليس إلى الحكمين من الفراق شيء.
* * *
وقال آخرون : بل إنما يبعث الحكمين السلطانُ ، على أن حكمهما ماضٍ على الزوجين في
الجمع والتفريق.
*ذكر من قال ذلك :
9418 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله
وحكمًا من أهلها " ، فهذا الرجل والمرأة ، إذا تفاسد الذي بينهما ، فأمر الله
سبحانه أن يبعثوا رجلا صالحًا من أهل الرجل ، ومثله من أهل المرأة ، فينظران أيهما
المسيء. فإن كان الرجل هو المسيء ، حَجَبوا عنه امرأته وقَصَروه على النفقة ، (2)
وإن كانت المرأة هي المسيئة ، قصروها على زوجها ، ومنعوها النفقة. فإن اجتمع
رأيهما على أن يفرّقا أو يجمعا ، فأمرهما جائز. فإن رأيا
__________
(1) في المطبوعة : " فإن أبي كان يقول " ، وفي المخطوطة : " فإن
أبي قال وكان أبي يقول " والصواب ما في المخطوطة ، إلا قوله " وكان أبي
يقول " ، فصوابه " أو : كان أبي يقول " ، وقائل هذه الجملة هو :
عبد الله بن زيد أسلم وأبوه هو : زيد بن أسلم.
(2) " قصره على الشيء " حبسه عليه ، وألزمه إياه ، إجبارًا وقهرًا ، وفي
الحديث : " لتقصرنه على الحق قصرًا " ، أي : قهرًا وغلبة ، وهو من
" القسر " ، وأبدلت السين صادًا ، وهما يتبادلان في كثير من الكلام.
(8/325)
أن يجمعا ، فرضي أحد الزوجين وكره ذلك
الآخر ، ثم ماتَ أحدهما ، فإنّ الذي رضي يَرِث الذي كره ، ولا يرث الكارهُ الراضيَ
، وذلك قوله : " إن يريدا إصلاحًا " ، قال : هما الحكمان " يوفق
الله بينهما " .
9419 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا روح قال ، حدثنا عوف ، عن محمد بن سيرين : أن
الحكم من أهلها والحكم من أهله ، يفرِّقان ويجمعان إذا رأيا ذلك " فابعثوا
حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها " .
9420 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عمرو
بن مرة ، قال : سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فقال : لم أولد إذ ذاك! (1) فقلت :
إنما أعني حَكم الشقاق. قال : يقبلان على الذي جاء التداري من عنده. (2) فإن فعل ،
وإلا أقبلا على الآخر. فإن فعل ، وإلا حكما. فما حكما من شيء فهو جائز.
9421 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن
عامر في قوله : " فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها " ، قال : ما
قضى الحكمان من شيء فهو جائز.
9422 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن داود ،
__________
(1) ذهب سعيد بن جبير حين سأله عمرو بن مرة عن " الحكمين " ، إلى أنه
عنى الحكمين في أمر علي ومعاوية رضي الله عنهما ، واجتماعهما بدومة الجندل سنة 37
من الهجرة. فلذلك قال : " لم أولد إذ ذاك " ، لأن سعيد بن جبير رحمه
الله قتله الحجاج سنة 95 ، وهو ابن تسع وأربعين سنة ، كأنه ولد سنة 46 من الهجرة ،
بعد التحكيم. وروي أن سعيد بن جبير دعا ابنه حين دعي ليقتل ، فجعل ابنه يبكي ،
فقال : ما يبكيك ؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة ؟ فكأنه ولد - على هذه الرواية
سنة 38 من الهجرة ، وذلك أيضًا بعد تحكيم الحكمين.
(2) في المطبوعة : " الذي جاء الأذى من عنده " لم يحسن قراءة المخطوطة ،
لأنها غير منقوطة. وهو من " التدارؤ " ، ترك همزه ، " تدارأ
الرجلان " ، أي تشاغبا وخالف أحدهما صاحبه. وفي قول بعض الحكماء : " لا
تتعلموا العلم لثلاث ، ولا تتركوه لثلاث : لا تتعلموه للتداري ، ولا للتماري ، ولا
للتباهي ولا تدعوه رغبة عنه ، ولا رضًا بالجهل ، ولا استحياء من الفعل له " .
وعنى بقوله : " التداري " هنا الخصومة والتداعي. وانظر الأثر التالي رقم
: 9428.
(8/326)
عن إبراهيم قال : ما حكما من شيء فهو
جائز. إن فرّقا بينهما بثلاث تطليقات أو تطليقتين ، فهو جائز. وإن فرقا بتطليقة
فهو جائز. وإن حكما عليه بجزاء بهذا من ماله ، (1) فهو جائز : فإن أصلحا فهو جائز.
وإن وضَعا من شيء فهو جائز.
9423 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا حبان قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، حدثنا أبو
جعفر ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا
حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها " ، قال : ما صنع الحكمان من شيء فهو جائز
عليهما. إن طلقا ثلاثا فهو جائز عليهما. وإن طلقا واحدة وطلقاها على جُعْل ، فهو
جائز ، (2) وما صنعا من شيء فهو جائز.
9424 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن يحيى
بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : إن شاء الحكمان أن يفرقا فرّقا.
وإن شاءا أن يجمعا جمعَا.
9425 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني هشيم ، عن حصين ، عن الشعبي :
أن امرأة نشزت على زوجها ، فاختصموا إلى شريح ، فقال شريح : ابعثوا حكمًا من أهله
وحكمًا من أهلها. فنظر الحكمان في أمرهما ، فرأيا أن يفرِّقا بينهما ، فكره ذلك
الرجل ، فقال شريح : ففيم كانا اليوم ؟ وأجاز قولهما. (3)
9426 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن
طاوس ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عباس قال : بعثت
__________
(1) في المطبوعة : " بهذا من ماله " ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ،
وليس لها معنى هنا. ورجحت أن صوابها " بجزاء " ، لأنه سيأتي في الأثر
التالي : " أو طلقاها على جعل " و " الجعل " (بضم فسكون) ،
وهو المال المعطى على شيء ، أجرًا كان أو غيره. و " الجزاء " البدل ،
فكأنه يعطي لها بدلا مما لقيت من إساءته ، وعقوبة للمسيء.
(2) انظر التعليق السالف.
(3) الأثر : 9425 - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7 : 306.
(8/327)
أنا ومعاوية حكمين قال معمر : بلغني أن
عثمان رضي الله عنه بعثهما ، وقال لهما : إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما
أن تفرِّقا فرقتما. (1)
9427 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا ابن
جريج قال ، حدثني ابن أبي مليكة : أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة ابنة عتبة ،
فكان بينهما كلام. فجاءت عثمان فذكرت ذلك له ، فأرسل ابن عباس ومعاوية ، فقال ابن
عباس : لأفرقنَّ بينهما! وقال معاوية : ما كنت لأفرّق بين شيخين من بني عبد مناف!
فأتياهما وقد اصطلحا. (2) .
9428 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
في قوله : " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها
" ، يكونان عَدْلين عليهما وشاهدين. وذلك إذا تدارأ الرجل والمرأة وتنازعا
إلى السلطان ، (3) جعل عليهما حكمين : حكمًا من أهل الرجل ، وحكمًا من أهل المرأة
، يكونان أمينين عليهما جميعًا ، وينظران مِن أيهما يكون الفساد. فإن كان من قبل
المرأة ، أجبرت على طاعة زوجها ، وأمِرَ أن يتقي الله ويحسن صحبتها ، وينفق عليها
بقدر ما آتاه الله ، إمساكٌ بمعروف أو تسريح بإحسان. وإن كانت الإساءة من قبل
الرجل ، أُمر بالإحسان إليها ، فإن لم يفعل قيل له : " أعطها حقها وخَلِّ
سبيلها " . وإنما يلي ذلك منهما السلطان.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في قوله : " فابعثوا حكمًا من أهله
وحكمًا من أهلها " ، أن الله خاطب المسلمين بذلك ، وأمرهم ببعثة الحكمين عند
خوف الشِّقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما ، ولم يخصص بالأمر بذلك بعضهم دون بعض.
__________
(1) الأثر : 9426 - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7 : 306
(2) الأثر : 9427 - رواه الشافعي في الأم 5 : 177 ، 178 من طريق مسلم بن خالد ، عن
ابن جريج ، وخرجه البيهقي في السنن 7 : 306.
(3) انظر تفسير " تدارأ " فيما سلف ص : 326 ، تعليق : 2.
(8/328)
وقد أجمع الجميع على أن بعثة الحكمين
في ذلك ليست لغير الزوجين ، وغير السلطان الذي هو سائس أمر المسلمين ، أو من أقامه
في ذلك مقام نفسه.
واختلفوا في الزوجين والسلطان ، ومن المأمورُ بالبعثة في ذلك : الزوجان ، أو
السلطان ؟ (1) ولا دلالة في الآية تدل على أن الأمر بذلك مخصوص به أحد الزوجين ،
ولا أثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأمة فيه مختلفة.
وإذْ كان الأمر على ما وصفنا ، فأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يكون مخصوصًا من
الآية ما أجمع الجميع على أنه مخصوص منها. (2) وإذْ كان ذلك كذلك ، فالواجب أن
يكون الزوجان والسلطان ممن قد شمله حكم الآية ، والأمر بقوله : " فابعثوا
حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها " ، إذْ كان مختلفًا بينهما : هل هما معنيِّان
بالأمر بذلك أم لا ؟ وكان ظاهر الآية قد عمهما فالواجبُ من القول ، إذ كان صحيحًا
ما وصفنا ، صحيحًا أن يقال (3) إن بعث الزوجان كل واحد منهما حكمًا من قبله لينظر
في أمرهما ، وكان كل واحد منهما قد بعثه من قبله في ذلك ، لما لَه على صاحبه
ولصاحبه عليه ، (4) فتوكيله بذلك من وكِّل جائز له وعليه.
وإن وكَّله ببعض ولم يوكله بالجميع ، كان ما فعله الحكم مما وكله به صاحبه ماضيًا
جائزًا على ما وكله به. وذلك أن يوكله أحدهما بما له دون ما عليه.
وإن لم يوكل كل واحد من الزوجين بما له وعليه ، (5) أو بما له ، أو بما عليه ،
__________
(1) في المخطوطة : " الزوجين أو السلطان " ، وهو خطأ ظاهر.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " من أجمع الجميع " ، وهو خطأ ظاهر ، وفساد
، والصواب ما أثبت.
(3) في المطبوعة حذف " صحيحًا " هذه الثانية ، مع أنها مستقيمة لا ضير
منها.
(4) في المطبوعة : " وكان لكل واحد منهما ممن بعثه من قبله في ذلك طاقة على
صاحبه ولصاحبه عليه " ، وهو كلام لا يستقيم البتة. وفي المخطوطة : "
وكان كل واحد منهما من بعثه من قبله في ذلك لماقه على صاحبه ، ولصاحبه عليه "
، وظاهر أن قوله " من بعثه " هي : " قد بعثه " وأما قوله :
" في ذلك لماقه " فإني رجحت أن صوابها " في ذلك لما له " ،
وكأنه عنى أنه قد أرسله مملكًا في جميع أمره ، في جميع ماله على صاحبه ، ولصاحبه
عليه. واستأنست في ذلك بالجزء التالي من هذا الكلام.
(5) في المطبوعة : " أو لم يوكل واحد من الزوجين " مكان ما في المخطوطة
: " وإن لم يوكل " وهو تصرف معيب ، فإنه أفسد الكلام ، وزادها خلطًا على
خلط.
(8/329)
إلا الحكمين كليهما ، (1) [لم يجز] إلا
ما اجتمعا عليه ، دون ما انفرد به أحدهما. (2)
وإن لم يوكلهما واحد منهما بشيء ، وإنما بعثاهما للنظر بينهما ، ليعرفا الظالم من
المظلوم منهما ، (3) ليشهدا عليهما عند السلطان إن احتاجا إلى شهادتهما لم يكن
لهما أن يُحدثا بينهما شيئًا غير ذلك من طلاق ، أو أخذ مال ، أو غير ذلك ، ولم
يلزم الزوجين ولا واحدًا منهما شيء من ذلك. (4)
* * *
فإن قال قائل : وما معنى الحكمين ، إذ كان الأمر على ما وصفت ؟
قيل : قد اختلف في ذلك.
فقال بعضهم : معنى " الحكم " ، النظرُ العدلُ ، كما قال الضحاك بن مزاحم
في الخبر الذي ذكرناه ، الذي : -
9429 - حدثنا به يحيى بن أبي طالب ، عن يزيد ، عن جويبر عنه : لا أنتما قاضيان
تقضيان بينهما
* * *
على السبيل التي بيَّنَّا من قوله. (5)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : أنهما القاضيان ، يقضيان بينهما ما فوَّض إليهما الزوجان.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فليس للحكمين... " مكان ما في المطبوعة : "
إلا الحكمين " ، وزاد الكلام اضطرابًا.
(2) الذي بين القوسين ، ظاهر جدًا أنه سقط من الناسخ ، هو أو ما في معناه. وبهذا
استقامت هذه العبارة التي اقتضت من الجهد ما كنا في غنى عنه ، لو صحح الناسخ
كتابته.
(3) في المطبوعة ، حذف قوله : " بينهما " .
(4) في المخطوطة : " لم يلزم " بحذف الواو ، والصواب ما في المطبوعة.
(5) قوله : " على السبيل التي بينا من قوله " ، هذا من كلام الطبري ،
تعليقًا على سائر كلامه السالف. وعنى بذلك قول الضحاك الذي ذكره آنفًا برقم :
9428. ولو ترك هذا السياق بغير فواصل ، لما استطاع أن يفهمه إلا المصابر على
المشقات.
(8/330)
قال أبو جعفر : وأي الأمرين كان ، فليس
لهما ، ولا لواحد منهما ، الحكم بينهما بالفرقة ، ولا بأخذ مال إلا برضى المحكوم
عليه بذلك ، وإلا ما لزم من حق لأحد الزوجين على الآخر في حكم الله ، وذلك ما لزم
الرجلَ لزوجته من النفقة والإمساك بمعروف ، إن كان هو الظالم لها.
فأما غير ذلك ، فليس ذلك لهما ، ولا لأحد من الناس غيرهما ، لا السلطان ولا غيره.
وذلك أن الزوج إن كان هو الظالمَ للمرأة ، فللإمام السبيلُ إلى أخذه بما يجب لها
عليه من حق. وإن كانت المرأة هي الظالمةَ زوجها الناشزةَ عليه ، فقد أباح الله له
أخذَ الفدية منها ، وجعل إليه طلاقها ، على ما قد بيناه في " سورة البقرة
" . (1)
وإذْ كان الأمرُ كذلك ، لم يكن لأحدٍ الفرقةُ بين رجل وامرأة بغير رضى الزوج ، ولا
أخذُ مال من المرأة بغير رضاها بإعطائه ، إلا بحجة يجب التسليم لها من أصل أو
قياس.
وإن بعث الحكمين السلطانُ ، فلا يجوز لهما أن يحكما بين الزوجين بفرقة إلا بتوكيل
الزوج إياهما بذلك ، (2) ولا لهما أن يحكما بأخذ مال من المرأة إلا برضى المرأة.
يدل على ذلك ما قد بيناه قبلُ من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك ،
والقائلين بقوله. (3) ولكن لهما أن يصلحا بين الزوجين ، ويتعرفا الظالم منهما من
المظلوم ، ليشهدا عليه إن احتاج المظلوم منهما إلى شهادتهما.
وإنما قلنا : " ليس لهما التفريق " ، للعلة التي ذكرناها آنفًا. وإنما
يبعث السلطانُ الحكمين إذا بعثهما ، إذا ارتفع إليه الزوجان ، فشكا كل واحد منهما
صاحبه ، وأشكلَ عليه المحقّ منهما من المبطل. لأنه إذا لم يشكل المحق من المبطل ،
فلا وجه لبعثه الحكمين في أمر قد عرف الحكم فيه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 4 : 549 - 583.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ولا يجوز لهما " بالواو ، والصواب
بالفاء.
(3) انظر الآثار السالفة من 9407 - 9409.
(8/331)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
القول في تأويل قوله : { إِنْ يُرِيدَا
إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " إن يريدا إصلاحًا " ، إن يرد
الحكمان إصلاحًا بين الرجل والمرأة أعني : بين الزوجين المخوف شقاقُ بينهما يقول :
" يوفق الله " بين الحكمين فيتفقا على الإصلاح بينهما. وذلك إذا صدق كل
واحد منهما فيما أفضى إليه : مَنْ بُعِثَ للنظر في أمر الزوجين.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9430 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد في
قوله : " إن يريدا إصلاحًا " ، قال : أمَا إنه ليس بالرجل والمرأة ،
ولكنه الحكمان.
9431 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير :
" إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما " ، قال : هما الحكمان ، إن يريدا
إصلاحًا يوفق الله بينهما.
9432 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما " ،
وذلك الحكمان ، وكذلك كل مصلح يوفقه الله للحق والصواب.
9433 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما " ، يعني بذلك الحكمين.
9434 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن
(8/332)
سعيد بن جبير : " إن يريدا
إصلاحًا " ، قال : إن يرد الحكمان إصلاحًا أصلحا.
9435 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن أبي
هاشم ، عن مجاهد : " إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما " ، يوفق الله
بين الحكمين.
9436 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا جويبر ، عن الضحاك
قوله : " إن يريدا إصلاحًا " ، قال : هما الحكمان إذا نصحا المرأةَ
والرجلَ جميعًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : " إنّ الله كان عليمًا " ، بما أراد
الحكمان من إصلاح بين الزوجين وغيره " خبيرًا " ، بذلك وبغيره من
أمورهما وأمور غيرهما ، (1) لا يخفى عليه شيء منه ، حافظ عليهم ، حتى يجازي كلا
منهم جزاءه ، بالإحسان إحسانًا ، وبالإساءة غفرانًا أو عقابًا.
* * *
القول في تأويل قوله جل ذكره : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وذِلُّوا لله بالطاعة ، واخضعوا له بها ،
وأفردوه بالربوبية ، وأخلصوا له الخضوع والذلة ، بالانتهاء إلى أمره ، والانزجار
__________
(1) انظر تفسير " الخبير " فيما سلف 1 : 496 / 5 : 94 ، 586.
(8/333)
عن نهيه ، ولا تجعلوا له في الربوبية
والعبادة شريكًا تعظمونه تعظيمكم إياه. (1)
" وبالوالدين إحسانًا " ، يقول : وأمركم بالوالدين إحسانًا يعني برًّا
بهما ولذلك نصب " الإحسان " ، لأنه أمر منه جل ثناؤه بلزوم الإحسان إلى
الوالدين ، على وجه الإغراء. (2)
* * *
وقد قال بعضهم : معناه : " واستوصوا بالوالدين إحسانًا " ، وهو قريب
المعنى مما قلناه.
* * *
وأما قوله : " وبذي القربى " ، فإنه يعني : وأمرَ أيضًا بذي القربى وهم
ذوو قرابة أحدنا من قبل أبيه أو أمه ، ممن قربت منه قرابته برحمه من أحد الطرفين
(3) إحسانًا بصلة رحمه.
* * *
وأما قوله : " واليتامى " ، فإنهم جمع " يتيم " ، وهو الطفل
الذي قد مات والده وهلك. (4)
* * *
" والمساكين " وهو جمع " مسكين " ، وهو الذي قد ركبه ذل
الفاقة والحاجة ، فتمسكن لذلك. (5)
* * *
يقول تعالى ذكره : استوصوا بهؤلاء إحسانًا إليهم ، وتعطفوا عليهم ، والزموا وصيتي
في الإحسان إليهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عبد " فيما سلف 1 : 160 ، 161 ، 362 / 3 : 120 ، 317 /
6 : 488.
(2) انظر تفسير " وبالوالدين إحسانًا " فيما سلف 2 : 290 - 292.
(3) انظر تفسير " ذي القربى " فيما سلف 2 : 292 / 3 : 344.
(4) انظر تفسير " اليتامى " فيما سلف 2 : 292 / 3 : 345 / 4 : 295 / 7 :
524 ، 541.
(5) انظر تفسير " المساكين " فيما سلف 2 : 137 ، 293 / 3 : 345 / 4 :
295 / 7 : 116.
(8/334)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
القول في تأويل قوله : { وَالْجَارِ
ذِي الْقُرْبَى }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم : معنى ذلك : والجار
ذي القرابة والرحم منك.
*ذكر من قال ذلك :
9437 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " والجار ذي القربى " ، يعني : الذي بينك
وبينه قرابة.
9438 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " والجار ذي القربى " ، يعني : ذا الرَّحم.
9439 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
وابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " والجار ذي القربى " ، قال : جارك ،
هو ذو قرابتك.
9440 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد
في قوله : " والجار ذي القربى " ، قالا القرابة.
9441 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن
الضحاك في قوله : " والجار ذي القربى " ، قال : جارك الذي بينك وبينه
قرابة.
9442 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " والجار ذي القربى " ، جارك ذو القرابة.
9443 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
والجار ذي القربى " ، إذا كان له جار له رحم ، فله حقَّان اثنان : حق القرابة
، وحق الجار.
(8/335)
9444 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن
وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " والجار ذي القربى " ، قال : الجار ذو
القربى ، ذو قرابتك.
* * *
وقال آخرون : بل هو جارُ ذي قرابتك.
*ذكر من قال ذلك :
9445 - حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن ميمون بن مهران في قوله :
" والجار ذي القربى " قال : الرجل يتوسل إليك بجوار ذي قرابتك.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول قولٌ مخالفٌ المعروفَ من كلام العرب. وذلك أن الموصوف
بأنه " ذو القرابة " في قوله : " والجار ذي القربى " ، "
الجار " دون غيره. فجعله قائل هذه المقالة جار ذي القرابة. ولو كان معنى
الكلام كما قال ميمون بن مهران لقيل : " وجار ذي القربى " ، ولم يُقَل :
" والجار ذي القربى " . فكان يكون حينئذ إذا أضيف " الجار "
إلى " ذي القرابة " الوصية ببرّ جار ذي القرابة ، (1) دون الجار ذي
القربى. وأما و " الجار " بالألف واللام ، فغير جائز أن يكوى " ذي
القربى " إلا من صفة " الجار " . وإذا كان ذلك كذلك ، كانت الوصية
من الله في قوله : " والجار ذي القربى " ببرّ الجار ذي القربى ، (2) دون
جار ذي القرابة. وكان بينًا خطأ ما قال ميمون بن مهران في ذلك.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " الوصية بين جار ذي القرابة " ، وهو كلام
لا معنى له ، وهو تصحيف وتحريف ، صوابه ما أثبت.
(2) في المخطوطة والمطبوعة هنا أيضًا : " بين الجار ذي القربى " ، وهو
خطأ وتصحيف كما أسلفت.
(8/336)
وقال آخرون : معنى ذلك : والجار ذي
القربى منكم بالإسلام.
*ذكر من قال ذلك :
9446 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، حدثنا
سفيان عن أبي إسحاق ، عن نَوْف الشامي : " والجار ذي القربى " ، المسلم.
(1)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا أيضًا مما لا معنى له. وذلك أن تأويل كتاب الله تبارك وتعالى
، غير جائز صرفه إلا إلى الأغلب من كلام العرب الذين نزل بلسانهم القرآن ،
المعروفِ فيهم ، (2) دون الأنكر الذي لا تتعارفه ، إلا أن يقوم بخلاف ذلك حجة يجب
التسليم لها. وإذا كان ذلك كذلك وكان معلومًا أن المتعارف من كلام العرب إذا قيل :
" فلان ذو قرابة " ، إنما يعني به : إنه قريب الرحم منه ، دون القرب
بالدين كان صرفه إلى القرابة بالرحم ، أولى من صرفه إلى القرب بالدين.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالْجَارِ الْجُنُبِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم : معنى ذلك : والجار
البعيد الذي لا قرابة بينك وبينه.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 9446 - " نوف الشامي " ، هو : نوف بن فضالة الحميري البكالي
، مضت ترجمته برقم : 3965 ، وسيأتي في رقم : 9456.
(2) " المعروف " بالكسر ، صفة لقوله : " إلى الأغلب " . وفي
المطبوعة : " المعروف وفيهم " ، وهو خطأ في الطباعة ولا شك.
(8/337)
9447 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو
صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " والجار
الجنب " ، الذي ليس بينك وبينه قرابة.
9448 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " والجار الجنب " ، يعني : الجار من قوم جنب.
9449 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
والجار الجنب " ، الذي ليس بينهما قرابة ، وهو جار ، فله حق الجوار.
9450 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " والجار الجنب " ، الجار الغريب يكون من القوم.
9451 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
وابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " والجار الجنب " ، جارك من قوم آخرين.
9452 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " والجار الجنب " ، جارك لا قرابة بينك وبينه ، البعيد في
النسب وهو جار.
9453 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد
في قوله : " والجار الجنب " ، قال : المجانب.
9454 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
والجار الجنب " ، الذي ليس بينك وبينه رَحمٌ ولا قرابة. (1)
__________
(1) في المطبوعة : " ... وجه ولا قرابة " ، وهو لا معنى له ، والصواب من
المخطوطة.
(8/338)
9455 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ،
حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : " والجار الجنب " ، قال :
من قوم آخرين.
* * *
وقال آخرون : هو الجار المشرك.
*ذكر من قال ذلك :
9456 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، حدثنا
سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف الشامي : " والجار الجنب " ، قال :
اليهوديّ والنصرانيّ. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : " معنى ، الجنب
، في هذا الموضع : الغريبُ البعيد ، مسلمًا كان أو مشركًا ، يهوديًا كان أو
نصرانيًا " ، لما بينا قبل من أن " الجار ذي القربى " ، هو الجار
ذو القرابة والرحم. والواجب أن يكون " الجار ذو الجنابة " ، الجار
البعيد ، ليكون ذلك وصية بجميع أصناف الجيران قريبهم وبعيدهم.
* * *
وبعد ، فإن " الجُنب " ، في كلام العرب : البعيد ، كما قال أعشى بني قيس
:
أَتَيْتُ حُرَيْثًا زَائِرًا عَنْ جَنَابَةٍ... فَكانَ حُرَيْثٌ فِي عَطَائِي
جَامِدَا (2)
__________
(1) الأثر : 9456 - " عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي " ، مضت
ترجمته برقم : 5796 ، وهو يروي عن سفيان الثوري ، وعن شيبان بن عبد الرحمن
التميمي. وقد جاء في هذا الإسناد في المطبوعة " شيبان ، عن أبي إسحاق "
، وكذلك هو في المخطوطة ، ولكنه كتب " شيبان " كتابة سيئة ، كتابة شاك
في قراءتها. وقد سلف في الإسناد رقم : 9446 قريبًا " سفيان ، عن أبي إسحاق
" واضحة جدًا في المخطوطة ، فرجحتها لذلك ، وأثبتها هنا. وانظر التعليق على
الأثر : 9446.
(2) ديوانه : 49 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة : 126 ، الكامل 2 : 26 ، وسيأتي في
التفسير 20 : 26 (بولاق) من قصيدة هجا فيها الحارث بن وعلة بن مجالد بن زبان
الرقاشي ، وكان جاء يسأله فقال له : " ولا كرامة!! ألست القائل : أَلا مَنْ
مُبْلِغٌ عَنِّي حُرَيْثًا ... مُغَلْغَلَةً? أَحَانَ أَمِ ادَّرَانَا?
تهجوني وتصغرني ، ثم تسألني!! فكان مما قال له بعد البيت السالف ، فأوجعه :
لَعَمْرُكَ مَا أَشْبَهْتَ وَعْلَةَ فَي النَّدَى ... شَمَائِلَهُ ، وَلا أَباهُ
المُجَالِدَا
إذَا زَارَهُ يَوْمًا صَدِيقٌ ، كأنَّما ... يَرَى أُسُدًا فِي بَيْتِهِ
وَأَسَاوِدَا
في شعر كثير ، و " حريث " تصغير " الحارث " ، تصغير ترخيم ،
وقياسه " حويرث " . ورجل " جامد الكف ، وجماد الكف " : بخيل
لا تلين صفاته. وكان في المطبوعة هنا : " جاهدا " وهو خطأ ، وفي الموضع
الآخر من التفسير : " جاحدا " وهو خطأ أيضًا. وروى هنا : في عطائي
" ، وروايته في التفسير 20 : 26 " عن عطائي " وهي المطابقة لرواية
المراجع السالفة جميعًا ، ولا بأس بها.
(8/339)
يعني بقوله : " عن جنابة " ،
عن بعد وغُربة. ومنه ، قيل : " اجتنب فلان فلانًا " ، إذا بعد منه
" وتجنّبه " ، و " جنَّبه خيره " ، إذا منعه إياه. (1) ومنه
قيل للجنب : " جُنُب " ، لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل.
فمعنى ذلك : والجار المجانب للقرابة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك.
فقال بعضهم : هو رفيق الرجل في سَفره.
*ذكر من قال ذلك :
9457 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني
__________
(1) في المطبوعة : " وتجنبه خيره " ، أسقط : " وجنبه " بين
الكلامين ، ففسد السياق ، والصواب من المخطوطة.
(8/340)
معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن
عباس : " والصاحب بالجنب " ، الرفيق.
9458 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان ، عن أبي
بكير قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : " والصاحب بالجنب " ، الرفيق في
السفر. (1)
9459 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
وابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " والصاحب بالجنب " ، صاحبك في
السفر.
9460 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
والصاحب بالجنب " ، وهو الرفيق في السفر.
9461 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " والصاحب بالجنب " ، الرفيق في السفر ، منزله منزلك ،
وطعامه طعامك ، ومسيره مسيرك.
9462 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد :
" والصاحب بالجنب " ، قالا الرفيق في السفر.
9463 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن جابر ، عن عامر ،
عن علي وعبد الله قالا " الصاحب بالجنب " ، الرفيق الصالح.
__________
(1) الأثر : 9458 - " أبو بكير التيمي " ، مؤذن لتيم ، واسمه "
مرزوق " . روى عن سعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد. وروى عنه ليث بن أبي سليم
، وإسرائيل ، وسفيان الثوري ، وشريك. مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة : " أبو بكر " وهو خطأ ، صوابه ما أثبت من المخطوطة.
وسيأتي على الصواب في رقم : 9467 ، 9468.
(8/341)
9464 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني سليم ، عن مجاهد قال : "
الصاحب بالجنب " ، رفيقك في السفر ، الذي يأتيك ويده مع يدك.
9465 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، قراءة
على ابن جريج قال ، أخبرنا سليم : أنه سمع مجاهدًا يقول : " والصاحب بالجنب
" ، فذكر مثله.
9466 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " والصاحب بالجنب " ، الصاحب في السفر.
9467 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو دكين قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي بكير ، عن
سعيد بن جبير ، " والصاحب بالجنب " ، الرفيق الصالح.
9468 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن أبي
بكير ، عن سعيد بن جبير مثله.
9469 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن
الضحاك في قوله : " والصاحب بالجنب " ، قال : الرفيق في السفر.
9470 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
مثله.
* * *
وقال آخرون : بل هو امرأة الرجل التي تكون معه إلى جنبه.
*ذكر من قال ذلك :
9471 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر أو القاسم
عن علي وعبد الله رضوان الله عليهما : " والصاحب بالجنب " ، قالا هي
المرأة. (1)
__________
(1) قوله : " رضوان الله عليهما " ، زيادة من المخطوطة.
(8/342)
9472 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو
بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن بعض أصحابه ، عن جابر ، عن علي وعبد الله مثله.
9473 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " والصاحب بالجنب " ، يعني : الذي معك في منزلك.
9474 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن هلال
، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى : أنه قال في هذه الآية : " والصاحب بالجنب
" ، قال : هي المرأة.
9475 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم
، عن إبراهيم : " والصاحب بالجنب " ، قال : المرأة.
9476 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، قال الثوري ، قال أبو
الهيثم ، عن إبراهيم : هي المرأة.
9477 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن
إبراهيم مثله.
9478 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن محمد بن سوقة
، عن أبي الهيثم ، عن إبراهيم مثله.
9479 - حدثني عمرو بن بَيْذَق قال ، حدثنا مروان بن معاوية ، عن محمد بن سوقة ، عن
أبي الهيثم ، عن إبراهيم مثله. (1)
* * *
وقال آخرون : هو الذي يلزمك ويصحبك رَجاء نفعك.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 9479 - " عمرو بن بيذق " (بالذال المعجمة) هكذا في المخطوطة
، شيخ الطبري ، لم أعرف له ترجمة ، وقد روى عنه في كتاب تاريخ الصحابة والتابعين ،
الملحق بالتاريخ ص : 86 ، وكتبه هناك " عمرو بين بيدق " بالدال المهملة
، وكأن الأول أصح.
(8/343)
9480 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : " الصاحب بالجنب
" ، الملازم وقال أيضًا : رفيقك الذي يرافقك.
9481 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " والصاحب
بالجنب " ، الذي يلصق بك ، وهو إلى جنبك ، ويكون معك إلى جنبك رجاءَ خيرك
ونفعك.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل ذلك عندي : أن معنى : " الصاحب
بالجنب " ، الصاحب إلى الجنب ، كما يقال : " فلان بجَنب فلان ، وإلى
جنبه " ، وهو من قولهم : " جَنَب فلانٌ فلانًا فهو يجنُبُه جَنْبًا
" ، إذا كان لجنبه. (1) ومن ذلك : " جَنَب الخيل " ، إذا قاد بعضها
إلى جنب بعض. وقد يدخل في هذا : الرفيقُ في السفر ، والمرأة ، والمنقطع إلى الرجل
الذي يلازمه رجاءَ نفعه ، لأن كلهم بجنب الذي هو معه وقريبٌ منه. وقد أوصى الله
تعالى بجميعهم ، لوجوب حق الصاحب على المصحوب ، وقد : -
9482 - حدثنا سهل بن موسى الرازي قال ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن فلان بن عبد الله
، عن الثقة عنده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما
على راحلتين ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وسلم في غَيْضِة طرفاء ، (2) فقطع
قَصِيلين ، أحدهما معوجٌّ ، والآخر معتدل ، (3) فخرج بهما ،
__________
(1) هذا النص من تفسير اللغة ، قلما تجده في كتاب من كتب اللغة.
(2) " الغيضة " ، مكان يجتمع فيه الماء ويفيض ، فينبت فيه الشجر ويلتف ،
والجمع " غياض " . و " الطرفاء " من شجر العضاء ، وهدبه مثل
هدب الأثل ، وليس له خشب ، إنما يخرج عصيًا سمحة في السماء ، وقد تتحمض به الإبل ،
إذا لم تجد حمضًا غيره.
(3) في المطبوعة : " فصيلين " بالفاء ، ولا معنى لها ، وفي المخطوطة :
" فصيلين " غير منقوطة ، وفي الدر المنثور : " فصلين " وليس
لها معنى. و " القصيل " بالقاف : ما اقتصل (أي : اقتطع) من الزرع أخضر ،
ومنه : " القصيل " وهو الذي تعلف به الدواب. يقال : " قصل الدابة
" ، أي : علفها القصيل.
(8/344)
فأعطى صاحبه المعتدل ، وأخذ لنفسه
المعوج ، فقال الرجل : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، أنت أحق بالمعتدل مني! فقال
: " كلا يا فلان ، إن كل صاحب يصحب صاحبًا ، مسئول عن صحابته ولو ساعة من
نهار. (1)
9483 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن حيوة
قال ، حدثني شرحبيل بن شريك ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُليّ ، عن عبد الله بن عمرو
، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن خير الأصحاب عند الله تبارك وتعالى ،
خيرهم لصاحبه. وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره. (2)
* * *
قال أبو جعفر : فإذ كان " الصاحب بالجنب " ، محتملا معناه ما ذكرناه :
(3) من أن يكون داخلا فيه كل من جَنَب رجلا بصحبةٍ في سفر ، (4) أو نكاح ، أو
انقطاع إليه واتصال به (5) ولم يكن الله جل ثناؤه خصّ بعضَهم مما احتمله ظاهر
التنزيل
__________
(1) الأثر : 9482 - " سهل بن موسى الرازي " انظر ما كتبت عنه برقم :
4319 ، وقبله رقم : 180. وأما " ابن أبي فديك " فهو : محمد بن إسماعيل
بن مسلم بن أبي فديك ، مضت ترجمته برقم : 4319. وهذا الأثر على إرساله ضعيف ،
لجهالة من روى عنهم ابن أبي فديك. ولم أجده إلا في الدر المنثور 2 : 159 ، ولم
ينسبه لغير ابن جرير.
(2) الأثر : 9483 - رواه أحمد في مسنده رقم : 6566 من طريق عبد الله بن يزيد ، عن
حيوة وابن لهيعة ، بمثله ، والحاكم في المستدرك 4 : 164 ، والترمذي : 3 : 129 ، من
طريق عبد الله بن المبارك ، كرواية الطبري. قال أخي السيد أحمد : " إسناده
صحيح " .
و " أبو عبد الرحمن الحبلي " ، هو : عبد الله بن يزيد المعافري ، مضت
ترجمته برقم : 6657.
(3) في المطبوعة : " وإن كان الصاحب بالجنب معناه ما ذكرناه " ، أسقط "
محتملا " ، لأنها كتبت في المخطوطة " متصلا " مختلطة الكتابة ، فلم
يحسن قراءتها فحذفها ، مع أن الكلام لا يستقيم إلا بها. أما ما كان في المطبوعة
والمخطوطة من قوله : " وإن كان " ، فهو خطأ محض لا تستقيم به الجملة ،
صوابه ما أثبت : " فإذ كان " .
(4) في المطبوعة : " يصحبه في سفر " ، وهو خطأ معرق يختل به سياق
الكلام. وهو في المخطوطة غير منقوط ، وصواب قراءته ما أثبت.
(5) قوله : " ولم يكن الله " معطوف على قوله : " فإذ كان الصاحب
" .
(8/345)
(1) فالصواب أن يقال : جميعهم معنيّون
بذلك ، وكلهم قد أوصى الله بالإحسان إليه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَابْنِ السَّبِيلِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم : " ابن السبيل
" ، هو المسافر الذي يجتاز مارًا.
*ذكر من قال ذلك :
9484 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
وابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وابن السبيل " ، هو الذي يمر عليك وهو
مسافر.
9484م - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر
، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وقتادة مثله.
9485 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع في قوله : " وابن السبيل " ، قال : هو المارُّ عليك ، وإن كان في
الأصل غنيًّا.
* * *
وقال آخرون : هو الضيف.
*ذكر من قال ذلك :
9486 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن
__________
(1) قوله " فالصواب " ، جواب قوله : " فإذ كان الصاحب... فالصواب
أن يقال " .
(2) في المطبوعة : " وبكلهم قد أوصى... " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ،
والصواب ما أثبت.
(8/346)
ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله :
" وابن السبيل " ، قال : الضيف ، له حق في السفر والحضر.
9487 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
وابن السبيل " ، وهو الضيف.
9488 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن
الضحاك : " وابن السبيل " ، قال : الضيف.
9489 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
مثله.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك : أن " ابن السبيل " ، هو صاحب
الطريق و " السبيل " : هو الطريق ، وابنه : صاحبه الضاربُ فيه (1) فله
الحق على من مرّ به محتاجًا منقطَعًا به ، إذا كان سفره في غير معصية الله ، أن
يعينه إن احتاج إلى معونة ، ويضيفه إن احتاج إلى ضيافة ، وأن يحمله إن احتاج إلى
حُمْلان. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : والذين ملكتموهم من أرقائكم فأضاف "
الملك " إلى " اليمين " ، كما يقال : " تكلم فوك " ، و
" مشَتْ رجلك " ، و " بطشت يدك " ، بمعنى : تكلمتَ ، ومشيتَ ،
وبطشتَ. غير أن ما وصف به كل
__________
(1) انظر تفسير " ابن السبيل " فيما سلف 3 : 345 - 347 / 4 : 295 وتفسير
" السبيل " في 2 : 497 ، وسائر فهارس اللغة.
(2) " الحملان " (بضم الحاء وسكون الميم) : ما يحمل عليه من الدواب.
(8/347)
عضو من ذلك ، فإنما أضيف إليه ما وُصف
به (1) لأنه بذلك يكون ، في المتعارف في الناس ، دون سائر جوارح الجسد. فكان
معلومًا بوصف ذلك العضو بما وصف به من ذلك المعنى المراد من الكلام. فكذلك قوله :
" وما ملكت أيمانكم " ، لأن مماليك أحدنا تحت يديه ، (2) إنما يَطعم ما
تُناوله أيماننا ، ويكتسي ما تكسوه ، (3) وتصرِّفه فيما أحبَّ صرفه فيه بها. فأضيف
ملكهم إلى " الأيمان " لذلك.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9490 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " وما ملكت أيمانكم " ، ممّا خوّلك الله. كل هذا أوصى الله
به.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما يعني مجاهد بقوله : " كل هذا أوصى الله به " ،
الوالدين ، وذا القربى ، واليتامى ، والمساكين ، والجار ذا القربى ، والجار الجنب
، والصاحب بالجنب ، وابن السبيل. فأوصى ربنا جل جلاله بجميع هؤلاء عبادَه إحسانًا
إليهم ، وأمر خلقه بالمحافظة على وصيته فيهم. فحقٌّ على عباده حفظ وصية الله فيهم
، ثم حفظ وصية رسوله صلى الله عليه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ما وصفت به " في الموضعين ، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " يده " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " ونكسي ما يكسوه " ، وهو خطأ صوابه من المخطوطة ،
وأفعال هذه الجملة إلى آخرها غير منقوطة في المخطوطة ، فأساء ناشر المطبوعة وضع
النقط عليها ، فاختل معناها ، فقد كان فيها : " ... نطعم ... ونكسي ...
ونصرفه " ، والصواب ما أثبت.
(8/348)
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ
لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا (36) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " إن الله لا يحبّ من كان مختالا
" ، إن الله لا يحب من كان ذا خُيَلاء.
و " المختال : " المفتعل " ، من قولك : " خال الرجل فهو يخول
خَوْلا وخَالا " ، (1) ومنه قول الشاعر : (2)
فَإنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا... وإنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخُلْ (3)
ومنه قول العجاج :
وَالْخَالُ ثَوْبٌ مِنْ ثِيَابِ الْجُهَّالْ (4)
__________
(1) هذا أحد وجهي الكلام ، والآخر : " خال يخال خيلا وخالا " ، بالياء ،
ورجحه بعضهم لأنه من " الخيلاء " .
(2) هو أنس بن مساحق العبدي ، رجل من عبد القيس.
(3) حماسة أبي تمام 1 : 133 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 127 ، واللسان (خيل).
وقبل البيت : أَلا أبْلِغَا خُلَّتِي رَاشِدًا ... قَدِيمًا ، وصِنْوِي إذَا ما
تَصِلْ
بِأَنَّ الدَّقِيقَ يَهِيجُ الْجَلِيلَ ... وَأَنَّ الْعَزِيزَ لإذا سَاءَ ذَلْ
وَأَنَّ الْحَزَامَةَ أَنْ تَصْرِفُوا ... لِحَيٍّ سِوَانَا صُدُورَ الأسَلْ
وتقول في البيت " فخل " بضم الخاء وبفتحها ، أي : اذهب فاختل ما شاءت لك
الخيلاء.
(4) وَالدَّهْرُ فِيهِ غَفْلَةٌ لِلْغُفَّالْ ... وَالْمَرْءُ يُبْلِيهِ بَلاء
السِّرْبالْ
كَرُّ الَّليَالِي وَاخْتِلافُ الأحْوَالْ
وكان في المطبوعة : " ثياب الجمال " ، وهو تصحيف ، صوابه في المخطوطة.
(8/349)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
وأما " الفخور " ، فهو
المفتخر على عباد الله بما أنعم الله عليه من آلائه ، وبسط له من فضله ، ولا يحمده
على ما أتاه من طَوْله ، ولكنه به مختال مستكبر ، وعلى غيره به مُسْتطيل مفتخر.
كما : -
9491 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " إن الله لا يحب من كان مختالا " ، قال : متكبرًا ، "
فخورا " ، قال : يعدّ ما أُعطي ، وهو لا يشكر الله.
9492 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا محمد بن كثير ، عن عبد الله
بن واقد أبي رجاء الهرويّ قال : لا تجد سيِّئ الملِكة إلا وجدته مختالا فخورًا.
(1) وتلا " وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورًا " ولا
عاقًّا إلا وجدته جبارًا شقيًا. وتلا( وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي
جَبَّارًا شَقِيًّا ) [سورة مريم : 32]
* * *
القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الله لا يحب المختال الفخور ، الذي يبخل
ويأمر الناسَ بالبخل.
فـ " الذين " يحتمل أن يكون في موضع رفع ، ردًّا على ما في قوله :
" فخورًا " ، من ذِكرٍ (2) ويحتمل أن يكون نصبًا على النعت ل "
مَنْ " .
__________
(1) " الملكة " (بفتح الميم واللام) و(بكسر الميم وسكون اللام) ، وهو
الذي يسيء إذا ملك شيئًا ، فتجبر وتغطرس ، وفي الحديث : " لا يدخل الجنة سيئ
الملكة " ، وهو الذي يسيء إلى مماليكه أو إلى ما يقع تحت سلطانه.
(2) في المطبوعة : " من ذم " ، ولا معنى له البتة. والصواب من المخطوطة
، والمراد بقوله : " ذكر " ، الضمير ، وقد رد هذا الوجه أبو حيان في
تفسيره 3 : 247 ، ولم ينسبه للطبري.
(8/350)
و " البخل " في كلام العرب :
منع الرجل سائله ما لديه وعنده ما فضل عنه ، (1) كما : -
9493 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن
طاوس ، عن أبيه في قوله : " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل " ، قال
: البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه " والشح " : أن يشٍح على ما في
أيدي الناس. قال : يحبّ أن يكون له ما في أيدي الناس بالحِلِّ والحرام ، لا يقنع.
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " ويأمرون الناس بالبخل " .
* * *
فقرأته عامة قرأة أهل الكوفة : " بِالْبَخَلِ " بفتح " الباء
" و " الخاء " .
وقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض البصريين بضم " الباء " : "
بِالْبُخْلِ " .
قال أبو جعفر : وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد ، وقراءتان معروفتان غير مختلفتي
المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب في قراءته.
* * *
وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله : " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل
" ، الذين كتموا اسمَ محمد صلى الله عليه وسلم وصفته من اليهود ولم يبينوه
للناس ، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
*ذكر من قال ذلك :
9494 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن
الحضرمي : " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " من فضل عنه " ، وكأن الصواب المحض ما
أثبت. وتفسير " البخل " هذا قلما تصيبه في كتب اللغة.
(8/351)
الله من فضله " ، قال : هم اليهود
، بخلوا بما عندهم من العلم وكَتَموا ذلك.
9495 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل "
إلى قوله : " وكان الله بهم عليما " ، ما بين ذلك في يهود.
9496 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
9497 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "
الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل " ، وهم أعداءُ الله أهلُ الكتاب ، بخلوا
بحقّ الله عليهم ، وكتموا الإسلام ومحمدًا صلى الله عليه وسلم ، وهم يجدونه
مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
9498 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : أما " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل " ، فهم اليهود "
ويكتمون ما آتاهم الله من فضله " ، اسمَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم (1) وأما :
" يبخلون ويأمرون الناس بالبخل " ، يبخلون باسم محمد صلى الله عليه وسلم
، ويأمرُ بعضهم بعضًا بكتمانه.
9499 - حدثنا محمد بن مسلم الرازي قال ، حدثني أبو جعفر الرازي قال ، حدثنا يحيى ،
عن عارم ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : " الذين يبخلون
ويأمرون الناس بالبخل " ، قال : هذا للعلم ، ليس للدنيا منه شيء.
9500 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " الذين
يبخلون ويأمرون الناس بالبخل " ، قال : هؤلاء يهود. وقرأ : " ويكتمون ما
آتاهم الله من فضله " ، قال : يبخلون بما آتاهم الله من الرزق ،
__________
(1) في المطبوعة : " أو : يبخلون... " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(8/352)
ويكتمون ما آتاهم الله من الكتب. إذا
سئلوا عن الشيء وما أنزل الله كتموه. وقرأ : ( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ
فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ) [سورة النساء : 53] من بخلهم.
9501 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ،
عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان كَرْدَم بن زيد ، حليفُ كعب
بن الأشرف ، وأسامة بن حبيب ، ونافع بن أبي نافع ، وبَحْريّ بن عمرو ، وحُيَيّ بن
أخطب ، ورفاعة بن زيد بن التابوت ، يأتون رجالا من الأنصار ، وكانوا يخالطونهم ،
ينتصحون لهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون لهم : لا تنفقوا
أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ، ولا تسارعوا في النفقة ، فإنكم لا
تدرون ما يكون! فأنزل الله فيهم : " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل
ويكتمون ما آتاهم الله من فضله " ، أي : من النبوة ، (1) التي فيها تصديق ما
جاء به محمد صلى الله عليه وسلم " وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا " ،
إلى قوله : " وكان الله بهم عليمًا " . (2)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية على التأويل الأول : والله لا يحبّ ذوي الخُيلاء
__________
(1) في ابن هشام : " أي : من التوراة " ، وهي أجود الروايتين ، إن لم
تكن هذه التي هنا من سهو الناسخ. ولكني خشيت أن يكون لها وجه ، فتركتها.
(2) الأثر : 9501 - رواه ابن هشام عن ابن إسحاق في سيرته 2 : 208 ، 209 ، وهو تابع
الآثار التي آخرها : 8338 فيما مضى قديمًا.
أما " كردم بن زيد " فإنه في سيرة ابن هشام : " كردم بن قيس "
، وهو المذكور في سيرة ابن هشام 2 : 160 ، أيضًا أنه حليف كعب بن الأشرف ، من بني
النضير. أما " كردم بن زيد " في رواية الطبري عن ابن إسحاق ، فقد ذكره
ابن هشام في سيرته 2 : 162 ، وعده من بني قريظة. هذا ، والذين ذكرهم في هذا الأثر
من اليهود منسوبون في سيرة ابن هشام ، وهذه نسبتهم : " كردم بن قيس " و
" حيي بن أخطب " من بني النضير و " كردم بن زيد " ، وأسامة بن
حبيب ، ونافع بن أبي نافع ، من بني قريظة وبحري بن عمرو ، ورفاعة بن زيد بن
التابوت ، من بني قينقاع.
(8/353)
والفخر ، الذين يبخلون بتبيين ما أمرهم
الله بتبيينه للناس ، من اسم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته التي أنزلها في
كتبه على أنبيائه ، وهم به عالمون ويأمرون الناس الذين يعلمون ذلك مثل علمهم ،
بكتمان ما أمرهم الله بتبيينه له ، ويكتمون ما آتاهم الله من علم ذلك ومعرفته مَنْ
حرّم الله عليه كتمانه إيّاه.
* * *
وأما على تأويل ابن عباس وابن زيد : " إن الله لا يحب من كان مختالا فخورًا
" ، الذين يبخلون على الناس بفضل ما رزقهم الله من أموالهم ، ثم سائر
تأويلهما وتأويل غيرهما سواء.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ، ما قاله الذين قالوا : إن الله وصف
هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الآية ، بالبخل بتعريف من جهل أمرَ محمد صلى
الله عليه وسلم أنه حقّ ، وأنّ محمدًا لله نبيّ مبعوث ، وغير ذلك من الحق الذي كان
الله تعالى ذكره قد بيّنه فيما أوحى إلى أنبيائه من كتبه. فبخل بتبيينه للناس
هؤلاء ، وأمروا من كانت حاَله حالَهم في معرفتهم به : أن يكتموه من جَهِل ذلك ،
ولا يبيِّنوه للناس.
وإنما قلنا : هذا القول أولى بتأويل الآية ، لأن الله جل ثناؤه وصفهم بأنهم يأمرون
الناس بالبخل ، ولم يبلغنا عن أمة من الأمم أنها كانت تأمرُ الناس بالبخل ديانةً
ولا تخلُّقًا ، بل ترى ذلك قبيحًا وتذمَّ فاعله ؛ (1) وَتمتدح - وإن هي تخلَّقَت
بالبخل واستعملته في أنفسها - بالسخاء والجود ، (2) وتعدُّه من مكارم
__________
(1) في المطبوعة : " ويذم فاعله " بالياء ، وهو خطأ في قراءة المخطوطة ،
لأنها غير منقوطة ، واستتبع هذا الخطأ من ناشر المطبوعة أن يغير ما كان في
المخطوطة ، إذا اختلطت معاني الكلام عليه ، كما سترى.
(2) في المطبوعة : " ولا يمتدح... فالسخاء ، تعده... " ، لما أخطأ في
قراءة الكلمة السالفة ، غير ما في المخطوطة كل التغيير زاد " لا " في
" ويمتدح " ، وجعل " بالسخاء " " فالسخاء " ، وجعل
" وتعده " ، " تعده " بحذف الواو أراد أن تستقيم العبارة
ففسدت فسادًا مطلقًا بلا قيد ولا شرط!!
هذا ، وسياق الجملة : " بل ترى ذلك قبيحًا وتذم فاعله ، وتمتدح... بالسخاء
والجود ، وتعده من مكارم الأخلاق " ، وأتى بقوله : " وإن هي تخلقت
بالبخل ، واستعملته في أنفسها " ، اعتراضًا.
(8/354)
الأفعال وتحثُّ عليه. ولذلك قلنا : إنّ
بخلهم الذي وصفهم الله به ، إنما كان بخلا بالعلم الذي كان الله آتاهموه فبخلوا
بتبيينه للناس وكتموه ، دون البخل بالأموال إلا أن يكون معنى ذلك : الذين يبخلون
بأموالهم التي ينفقونها في حقوق الله وُسُبله ، ويأمرون الناس من أهل الإسلام بترك
النفقة في ذلك. فيكون بخلهم بأموالهم ، وأمرهم الناس بالبخل ، بهذا المعنى (1) -
على ذكرنا من الرواية عن ابن عباس - فيكون لذلك وجه مفهومٌ في وصفهم بالبخل
وأمرِهم به.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) }
قال أبو جعفر : يعني : بذلك جل ثناؤه : " وأعتدنا " ، وجعلنا للجاحدين
نعمة الله التي أنعم بها عليهم ، (2) من المعرفة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ،
المكذبين به بعد علمهم به ، الكاتمين نعته وصفته مَنْ أمرَهم الله ببيانه له من
الناس " عذابًا مهينًا " ، يعني : العقابَ المذلّ مَن عُذِّب بخلوده فيه
، (3) عَتادًا له في آخرته ، إذا قَدِم على ربه وَجدَه ، بما سلف منه من جحوده
فرضَ الله الذي فرضَه عليه. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة " فهذا المعنى " ، والصواب ما أثبته ، وسياقه
: فيكون بخلهم بأموالهم... بهذا المعنى...
(2) انظر تفسير : " أعتدنا " فيما سلف 8 : 103.
(3) انظر تفسير : " المهين " فيما سلف 2 : 347 ، 348 / 7 : 423 / 8 :
72.
(4) في المطبوعة : " وآخذه بما سلف... " والصواب ما في المخطوطة ، فإن
أول هذه الجملة " إذا قدم على ربه ، وجد... " ، وهو تفسير " العتاد
" .
(8/355)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
القول في تأويل قوله : { وَالَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الآخِرِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وأعتدنا للكافرين بالله من اليهود الذين وصف
الله صِفَتهم ، عذابًا مهينًا " والذين ينفقون أموالهم رئاءَ الناس. "
* * *
و " الذين " في موضع خفضٍ ، عطفًا على " الكافرين " .
* * *
وقوله : " رئاء الناس " ، يعني : ينفقه مُراءاة الناس ، في غير طاعة
الله أو غير سبيله ، ولكن في سبيل الشيطان (1) " ولا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر " ، يقول : ولا يصدقون بوحدانية الله ، ولا بالمَعَاد إليه يوم القيامة
(2) - الذي فيه جزاء الأعمال - أنه كائن. (3)
* * *
وقد قال مجاهد (4) إن هذا من صفة اليهود! وهو بصفة أهل النفاق الذين كانوا أهلَ
شرك ، (5) فأظهروا الإسلام تقيةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلِ الإيمان
به ، وهم على كفرهم مقيمون (6) أشبه منه بصفة اليهود. لأن اليهود كانت توحِّد الله
وتصدّق بالبعث والمعاد. وإنما كان كفرُها ، تكذيبَها بنبوة محمد صلى الله عليه
وسلم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " رئاء " فيما سلف 5 : 521 ، 522.
(2) في المطبوعة : " ولا بالميعاد " .
(3) قوله : " أنه كائن " ، سياقه " ولا يصدقون بالمعاد... أنه كائن
" .
(4) يعني في الأثر رقم : 9495.
(5) في المطبوعة والمخطوطة : " وهو صفة أهل النفاق " ، وهو لا يستقيم ،
كما سترى في التعليق التالي.
(6) السياق : " وهو بصفة أهل النفاق... أشبه منه بصفة اليهود " ، فصح
التصحيح السالف. أما ناشر المطبوعة ، فإنه لما رأى الكلام غير مستقيم ، كتب :
" أشبه منهم بصفة اليهود " ، فزاد الكلام فسادًا.
(8/356)
وبعدُ ، ففي فصل الله بين صفة الذين لا
يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، وصفة الفريق الآخر الذين وصفهم في الآية قبلها ،
وأخبر أنّ لهم عذابًا مهينًا بـ " الواو " الفاصلة بينهم (1) ما ينبئ عن
أنهما صفتان من نوعين من الناس مختلفي المعاني ، وإن كان جميعهم أهلَ كفر بالله.
(2) ولو كانت الصفتان كلتاهما صفة نوع من الناس ، لقيل إن شاء الله : "
وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا " ، " الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس
" ، ولكن فصل بينهم بـ " الواو " لما وصفنا.
* * *
فإن ظن ظان أن دخول " الواو " غير مستنكر في عطف صفة على صفة لموصوف
واحد في كلام العرب فإنّ ذلك ، (3) وإن كان كذلك ، فإن الأفصح في كلام العرب إذا
أريد ذلك ، ترك إدخال " الواو " . وإذا أريد بالثاني وصفٌ آخر غير
الأوّل ، إدخال " الواو " . (4) وتوجيه كلام الله إلى الأفصح الأشهر من
كلام مَنْ نزل بلسانه كتابُه ، أولى بنا من توجيهه إلى الأنكر من كلامهم.
* * *
__________
(1) السياق : ففي فصل الله... بالواو الفاصلة بينهم ، ما ينبئ " .
(2) في المطبوعة : " وإن كان جمعهم " ، وهو خطأ محض ، صوابه من المخطوطة
، وهي غير منقوطة.
(3) في المطبوعة : " في كلام العرب. قيل ذلك وإن كان كذلك " ، والذي دعا
ناشر المخطوطة إلى ذلك أن الناسخ كتب " العربفان " وصل " باء
" " العرب " ، بفاء " فإن " ، فاجتهد المصحح.
(4) في المطبوعة : " أدخل الواو " ، والصواب من المخطوطة.
(8/357)
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ يَكُنْ
الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ومن يكن الشيطان له خليلا وصاحبًا ، يعمل
بطاعته ، ويتبع أمره ، ويترك أمرَ الله في إنفاقه ماله رئاء الناس في غير طاعته ،
وجحوده وحدانية الله والبعث بعد الممات " فساء قرينًا " ، يقول : فساء
الشيطان قرينًا.
* * *
وإنما نصب " القرين " ، لأن في " ساء " ذكرًا من الشيطان ،
كما قال جل ثناؤه : ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا ) [سورة الكهف : 50] ، وكذلك
تفعل العرب في " ساء " ونظائرها (1) ومنه قول عدي بن زيد :
عَنِ الْمَرْءِ لا تَسْأَلْ ، وأبْصِرْ قَرِينَهُ... فَإنَّ الْقَرِينَ
بِالمُقَارِنِ مُقْتَدِ (2)
يريد : بـ " القرين " ، الصّاحبَ والصديق.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في " ساء " 8 : 138 ، تعليق : 8 ، ومعاني القرآن للفراء
1 : 267 - 269 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 127.
(2) ديوانه ، في شعراء الجاهلية : 466 ، ومجموعة المعاني : 14 ، وغيرهما كثير. وقد
أثبت البيت كما رواه أبو جعفر ، وكما جاء في المخطوطة ، أما ناشر المطبوعة فقد
غيره ، وأثبت ما درج عليه من الرواية : عَنِ الْمَرْءِ لا تَسأَل وسَلْ عَنْ
قَرِينِه ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارن يَقْتَدِي
وهو سوء تصرف لا شك فيه.
(8/358)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
القول في تأويل قوله : { وَمَاذَا
عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وأيّ شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم
رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " لو آمنوا بالله واليوم الآخر
" ، لو صدّقوا بأن الله واحدٌ لا شريك له ، وأخلصوا له التوحيد ، وأيقنوا
بالبعث بعد الممات ، وصدّقوا بأن الله مُجازيهم بأعمالهم يوم القيامة "
وأنفقوا مما رزقهم الله " ، يقول : وأدّوا زكاة أموالهم التي رَزَقهم الله
وأعطاهموها ، طيبةً بها أنفسهم ، ولم ينفقوها رئاء الناس ، التماس الذكر والفخر
عند أهل الكفر بالله ، والمحمدة بالباطل عند الناس " وكان الله " ،
بهؤلاء الذين وصَف صفتهم أنهم ينفقون أموالهم رئاء الناس نفاقًا ، وهم بالله
واليوم الآخر مكذّبون " عليمًا " ، يقول : ذا علم بهم وبأعمالهم ، (1)
وما يقصدون ويريدون بإنفاقهم ما ينفقون من أموالهم ، وأنهم يريدون بذلك الرَياء
والسُّمعة والمحمدة في الناس ، وهو حافظ عليهم أعمالهم ، لا يخفَى عليه شيء منها ،
حتى يجازيهم بها جزاءهم عند مَعادهم إليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
}
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم
__________
(1) في المخطوطة : " ذو علم " بالرفع ، ولا بأس به.
(8/359)
الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله " ،
فَإن الله لا يبخس أحدًا من خلقه أنفق في سبيله مما رزقه ، من ثواب نفقته في
الدنيا ، ولا من أجرها يوم القيامة " مثقال ذَرّة " ، أي : ما يزنها
ويكون على قدر ثِقَلها في الوزن ، ولكنه يجازيه به ويُثيبه عليه ، كما : -
9502 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
: أنه تلا " إن الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تَك حسنةً يضاعفها " ، قال
: لأنْ تفضُل حسناتي في سيئاتي بمثقال ذرّة ، أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها. (1)
9503 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان
بعض أهل العلم يقول : لأنْ تفضُل حسناتي على سيئاتي ما يزن ذَرّة أحب إليّ من أن
تكون لي الدنيا جميعًا.
* * *
وأما " الذرة " فإنه ذكر عن ابن عباس أنه قال فيها ، كما : -
9504 - حدثني إسحاق بن وهب الواسطيّ قال ، حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا شبيب بن بشر
، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " مثقال ذرة " ، قال : رأس نَملة
حَمراء. (2)
* * *
قال أبو جعفر : قال لي إسحاق بن وهب : قال يزيد بن هارون : زعموا أن هذه
__________
(1) غفرانك اللهم! إن ناشر المطبوعة يسيء إساءات لا عداد لها في تحريف الكلام ،
وتصرفه على غير أصل من فهم أو أمانة ، فلم يحسن قراءة المخطوطة كما أثبتها ، فجعل
ما فيها لغوًا وكتب مكانه " لأن تفضل حسناتي ما يزن ذرة ، أحب إلي من الدنيا
وما فيها " . ولا أدري ، ما كان أغناه عن مثل هذا العمل المنكر!
(2) الأثر : 9504 - " إسحاق بن وهب بن زياد العلاف " أبو يعقوب الواسطي.
روى عنه البخاري ، وابن ماجه ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم. مترجم في التهذيب.
و " أبو عاصم " هو : الضحاك بن مخلد. مضى مرارًا.
و " شيب بن بشر " روى عن أنس ، وعكرمة ، ثقة لين الحديث ، يخطئ كثيرًا.
مترجم في التهذيب.
(8/360)
الذرّة الحمراء ، ليس لها وزن. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك صحّت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
9505 - حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا أبو داود قال ، حدثنا عمران
، عن قتادة ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لا يظلم
المؤمن حسنةً ، يُثابُ عليها الرزق في الدنيا ، ويجزَى بها في الآخرة. وأما الكافر
فيُطعم بها في الدنيا ، فإذا كان يومُ القيامة لم تكن له حسنةً. (2)
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا جعفر بن عون قال ، حدثنا هشام بن
سعد قال ، أخبرنا زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار : والذي نَفسي بيده ، ما أحدكم
بأشدّ مُناشَدَةً في الحق يراه مصيبًا له ، من المؤمنين في إخوانهم إذا رأوا أن قد
خَلصُوا من النار ، يقولون : " أي ربنا ، إخواننا ، كانوا يصلّون معنا ،
ويصومون معنا ، ويحجون معنا ، ويجاهدون معنا ، قد أخذتهم النار " ! فيقول
الله لهم : " اذهبوا ، فمن عرفتم صورته فأخرجوه " ! ويحرِّم صورتهم على
النار ، فيجدون الرجل قد أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ، وإلى ركبتيه ، وإلى
حَقْويه ، فيخرجون منها بشرًا كثيرًا ، ثم يعودون فيتكلمون ، فيقول : "
اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال قيراط خير فأخرجوه " ! فيخرجون منها بشرًا
كثيرًا. ثم
__________
(1) في المطبوعة : " إن هذه الدودة الحمراء " ، وهو خطأ محض ، وفي
المخطوطة : " إن هذه الدود الحمراء " ، وهو تحريف.
(2) الحديث : 9505 - أبو داود : هو الطيالسي.
" عمران " : هو ابن داور القطان.
والحديث في مسند الطيالسي : 2011 ، بهذا الإسناد.
ورواه الإمام أحمد في المسند ، من طريق همام ، عن قتادة : 12264 ، 12291 ، 14063
(ج3 ص123 ، 125 ، 283 حلبي).
وكذلك رواه مسلم 2 : 344 - 345 ، من طريق همام. ثم رواه من طرق أخر.
وذكره ابن كثير 2 : 450 ، من رواية الطيالسي.
وذكره السيوطي 2 : 163 ، ونسبه لهؤلاء.
(8/361)
يعودون فيتكلمون ، فلا يزال يقولُ لهم
ذلك حتى يقول : " اذهبوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذَرّة فأخرجوه "
فكان أبو سعيد إذا حدَّث بهذا الحديث قال : إن لم تصدقوا ، فاقرأوا : " إنّ
الله لا يظلم مثقال ذَرّة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا " فيقولون
: " رَبنا لم نَذرْ فيها خيرًا " . (1)
9507 - وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثني أبي وشعيب بن الليث ، عن
الليث ، عن خالد بن يزيد ، عن ابن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ،
عن أبي سعيد الخدريّ ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. (2)
* * *
وقال آخرون في ذلك ، بما : -
9508 - حدثني به المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا صدقة بن أبي سهل
قال ، حدثنا أبو عمرو ، عن زاذان قال : أتيت ابن مسعود فقال :
__________
(1) الحديث : 9506 - جعفر بن عون بن عمرو بن حريث ، المخزومي الكوفي : ثقة. أخرج له
الجماعة.
والحديث قطعة من حديث طويل في الشفاعة. رواه الأئمة في الدواوين من أوجه كثيرة ،
عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري :
فرواه الطيالسي : 2179 ، عن خارجة بن مصعب ، عن زيد.
ورواه أحمد في المسند : 11144 (3 : 16 - 17 حلبي) ، من طريق عبد الرحمن بن إسحاق ،
عن زيد.
ورواه أيضًا : 11922 (3 : 94 - 95 حلبي) ، من طريق معمر ، عن زيد.
ورواه مسلم 1 : 66 - 67 ، من طريق حفص بن ميسرة ، عن زيد.
ثم رواه - ولم يذكر لفظه - من طريق جعفر بن عون ، عن هشام بن سعد. وهي الطريق التي
رواها الطبري هنا.
وستأتي الإشارة إلى رواية البخاري ، في الحديث التالي.
(2) الحديث : 9507 - " الليث " : هو ابن سعد. خالد بن يزيد : هو الجمحي
المصري. " ابن أبي هلال " : هو سعيد بن أبي هلال المصري.
والحديث مكرر ما قبله.
ورواه البخاري 13 : 358 - 361 (فتح) ، من طريق الليث بن سعد ، بهذا الإسناد. وذكر
ابن كثير 2 : 449 قطعة منه ، نسبها للصحيحين.
(8/362)
إذا كان يومُ القيامة ، جمع الله
الأولين والآخرين ، ثم نادى مناد من عند الله : " ألا من كان يطلب مظلمةً
فليجئ إلى حقه فليأخذه " ! قال : فيفرح والله المرءُ أن يَذُوب له الحقّ على
والده ، أو ولده ، أو زوجته ، فيأخذ منه ، وإن كان صغيرًا (1) ومصداق ذلك في كتاب
الله تبارك وتعالى : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ
يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) [سورة المؤمنون : 101] فيقال له : " ائت
هؤلاء حقوقهم " أي : أعطهم حقوقهم فيقول : " أي رب ، من أين وقد ذهبت
الدنيا " ؟ فيقول الله لملائكته : " أي ملائكتي ، انظروا في أعماله
الصّالحة ، وأعطوهم منها " ! فإن بقي مثقال ذَرّة من حسنة قالت الملائكة ؛
وهو أعلم بذلك منها : " يا ربنا ، أعطينا كل ذي حق حقه ، وبقي له مثقال ذرة
من حسنة " فيقول للملائكة : ضعِّفوها لعبدي ، وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة
" ومصداق ذلك في كتاب الله : " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة
يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا " ، أي : الجنة ، يعطيها. وإن فنيت حسناته
وبقيت سيئاته ، قالت الملائكة ، وهو أعلم بذلك : " إلهنا ، فنيت حسناته وبقي
سيئاته ، وبقي طالبون كثيرٌ " ! فيقول الله : " ضعِّفوا عليها من
أوزارهم ، واكتبوا له كتابًا إلى النار " (2) قال صدقة : أو صكًّا إلى جهنم ،
شك صَدَقة أيتهما قال. (3)
9509 - وحدثت عن محمد بن عبيد ، عن هارون بن عنترة ، عن عبد الله بن السائب قال :
سمعت زاذان يقول : قال عبد الله بن مسعود : يؤخذ بيد العبد والأمة يومَ القيامة ،
فينادي منادٍ على رؤوس الأولين والآخرين : " هذا فلان بن فلان ، من كان له حق
فليأت إلى حقه " ، فتفرح المرأة أنْ يَذُوب لها الحق على أبيها ، أو على
ابنها ، أو على أخيها ، أو على زوجها ، (4) ثم قرأ ابن مسعود : ( فَلا أَنْسَابَ
بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) [سورة المؤمنون : 101] ، فيغفر الله
تبارك وتعالى من حقه ما شاء ، ولا يغفر من حقوق الناس شيئًا ، فينصبُ للناس فيقول
: " ائتوا إلى الناس حقوقهم " ! فيقول : " رب فنيت الدنيا ، من أين
أوتيهم حقوقهم ؟ فيقول : " خذوا من أعماله الصالحة ، فأعطوا كل ذي حقّ حقه
بقدر مَظْلمته " . فإن كان وليًّا لله ، ففضل له مثقال ذرّة ، ضاعفها له حتى
يُدخله بها الجنة ثمّ قرأ علينا : " إنّ الله لا يظلم مثقال ذرة " وإن
كان عبدًا شقيًّا ، قال الملك : " رب فنيت حسناته ، وبقي طالبون كثير "
! فيقول : " خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ، ثم صُكُّوا له صكًّا إلى
النار " . (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فيفرح والله الصبي " ، وفي المخطوطة : " فيفرح
والله الصر أن يذوب " ، وصواب قراءتها " المرء " كما أثبتها من
المراجع المذكورة بعد.
" ذاب لي على فلان من الحق كذا ، يذوب " ، أي ثبت له ووجب.
(2) في المطبوعة : " ضعوا عليها من أوزارهم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
وانظر الأثر التالي.
(3) الحديث : 9508 - صدقة بن أبي سهل : مترجم في التعجيل ، ص : 185 - 186. والكبير
2 / 2 / 298 ، برقم : 2891 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 434 - 435 ، برقم : 1907. ولم
يذكرا فيه جرحًا ، فهو ثقة.
وشيخه " أبو عمرو " : لم أعرف من هو ؟ ففي هذه الكنية كثرة.
" زاذان " : هو الكندي الضرير. وهو تابعي ثقة معروف.
وانظر الإسناد التالي لهذا.
(4) انظر تفسير " يذوب " ، فيما سلف ص : 363 ، تعليق رقم : 1.
(5) الحديث : 9509 - هو تكرار للذي قبله بنحوه. ولكن الطبري جاء في أوله بصيغة
التجهيل : " حدثت عن محمد بن عبيد " . فضاع هذا الإسناد بهذا التجهيل.
ونقله ابن كثير 2 : 449 - 450 ، عن ابن أبي حاتم : " حدثنا أبو سعيد الأشج ،
حدثنا عيسى بن يونس ، عن هارون بن عنترة ... " ، فزال الضعف عن أول الإسناد.
وهارون بن عنترة : مضى توثيقه وترجمته في : 405.
عبد الله بن السائب الكندي ، ويقال : الشيباني ، الكوفي : ثقة معروف. روى عنه
الأعمش والثوري. وأخرج له مسلم.
فهذا الإسناد - عند ابن أبي حاتم - إسناد صحيح.
والحديث أثر موقوف على ابن مسعود. ولكني أراه من المرفوع حكمًا. فإن ما ذكره ابن
مسعود مما لا يعرف بالرأي. وما كان ابن مسعود ليقول هذا من عند نفسه : وليس هو ممن
ينقل عن أهل الكتاب ، ولا يقبل الإسرائيليات.
وقد ذكره ابن كثير - كما قلنا - ثم قال : " ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث
الصحيح " ونقله السيوطي 2 : 163 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد.
" الصك " : الكتاب. وقوله : " صكوا " فعل من " الصك
" ، أي : اكتبوا له صكًا ، وهذا الفعل ، لم تذكره كتب اللغة ، وهذا شاهده.
(8/363)
قال أبو جعفر : فتأويل الآية على تأويل
عبد الله هذا : إن الله لا يظلم عبدًا وجب له مثقال ذَرّة قِبَل عبد له آخر في
مَعاده ويوم لقائه فما فوقه ، (1) فيتركه عليه فلا يأخذه للمظلوم من ظالمه ، ولكنه
يأخذه منه له ، ويأخذ من كل ظالم لكل مظلوم تَبِعَتَهُ قِبَله (2) " وإن تك حسنة
يضاعفها " ، يقول : وإن تُوجد له حسنة يضاعفها ، بمعنى : يضاعف له ثوابها
وأجرها " ويُؤت من لدنه أجرًا عظيمًا " ، يقول : ويعطه من عنده أجرًا
عظيمًا ، " والأجر العظيم " (3) الجنة ، على ما قاله عبد الله.
* * *
ولكلا التأويلين وجه مفهوم أعني التأويل الذي قاله ابن مسعود ، والذي قاله قتادة
وإنما اخترنا التأويل الأول ، لموافقته الأثرَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
مع دلالة ظاهر التنزيل على صحته ، إذ كان في سياق الآية التي قبلها ، التي حث الله
فيها على النفقة في طاعته ، وذمِّ النفقة في طاعة الشيطان. ثم وَصَل ذلك بما وعدَ
المنافقين في طاعته بقوله : " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها
ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا " .
واختلفت القرأة في قراءة قَوله : " وإن تك حسنة " . فقرأت ذلك عامة قرأة
العراق : ( وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً ) بنصب " الحسنة " ، بمعنى : وإن تك
زنةُ الذرّة حسنةً ، يضاعفها.
* * *
__________
(1) السياق : " وجب له مثقال ذرة... فما فوقه " .
(2) " التبعة " (بفتح التاء وكسر الباء) و " التباعة " (بكسر
التاء) : ما اتبعت به صاحبك من ظلامة أو حق لك عنده.
(3) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف 2 : 148 ، 512 / 5 : 519 / 7 : 501
(8/365)
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة : ( وَإِنْ
تَكُ حَسَنَةٌ ) ، برفع " الحسنة " ، بمعنى : وإن توجد حسنةٌ ، على ما
ذكرت عن عبد الله بن مسعود من تأويل ذلك. (1)
وأما قوله : " يُضَاعفها " ، فإنه جاء بـ " الألف " ، ولم يقل
: " يُضعِّفها " ، لأنه أريد به في قول بعض أهل العربية : (2) يُضاعفها
أضعافًا كثيرة ، ولو أريد به في قوله (3) يضعِّف ذلك ضِعفين لقيل : "
يضعِّفها " بالتشديد.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الذين وعدهم الله بهذه الآية ما وعدهم فيها.
فقال بعضهم : هم جميع أهل الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم. واعتلّوا في
ذلك بما : -
9510 - حدثنا الفضل بن الصباح قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن مبارك بن فضالة ، عن
علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي قال : لقيت أبا هريرة فقلت له : إنه بلغني أنك
تقول : إن الحسنة لتُضَاعف ألفَ ألف حسنة! قال : وما أعجبك من ذلك ؟ فوالله لقد
سمعته يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة!
(4)
وقال آخرون : بل ذلك : المهاجرون خاصة ، دون أهل البوادي والأعراب. واعتلوا في ذلك
بما : -
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 269.
(2) يعني أبا عبيدة في مجاز القرآن 1 : 127 ونصه : " يضاعفها " أضعافًا
و " يضعفها " ضعفين.
(3) يعني : في قول أبي عبيدة.
(4) الحديث : 9510 - رواه أحمد في المسند : 7932 ، عن يزيد بن هارون ، بهذا
الإسناد.
وهو حديث صحيح. فصلنا القول في تخريجه في المسند.
وذكره ابن كثير 2 : 451 ، عن رواية المسند ، ثم نقله من رواية ابن أبي حاتم
بإسنادين.
ثم ذكره مرة أخرى من رواية ابن أبي حاتم ، عند تفسير الآية : 38 من سورة التوبة
(ج4 ص168 - 169).
وذكره السيوطي 2 : 163 ، وقصر في تخريجه جدًا ، فلم ينسبه لغير الطبري. وذكر نحوه
قبله ، ونسبه لابن أبي شيبة فقط.
(8/366)
9511 - حدثني محمد بن هارون أبو نشيط
قال ، حدثنا يحيى بن أبي بكير قال ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي ، عن
عبد الله بن عمير قال : نزلت هذه الآية ، في الأعراب : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ
فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) [سورة الأنعام : 60] قال : فقال رجل : فما للمهاجرين
؟ قال ، ما هو أعظم من ذلك : " إنّ الله لا يظلم مثقال ذَرّة وإن تَكُ حسنةً
يضاعفها ويُؤت من لدنه أجرًا عظيمًا " ، وإذا قال الله لشيء : " عظيم
" ، فهو عظيم. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : " عُنى بهذه
الآية المهاجرون دون الأعراب " . (2) وذلك أنه غير جائز أن يكون في أخبار
الله أو أخبار رسوله صلى الله عليه وسلم شيء يدفع بعضه بعضًا. فإذْ كان صحيحًا
وعْدُ الله من جاء من عباده المؤمنين بالحسنة من الجزاء عشرَ أمثالها ، وَمنْ جاء
بالحسنة منهم أن يضاعفها له وكان الخبرَان اللذان ذكرناهما عنه صلى الله عليه وسلم
صحيحين كان غيرَ جائز إلا أن يكون أحدُهما مجملا والآخر مفسَّرًا ، إذ كانت
أخبارُه صلى الله عليه وسلم يصدِّق بعضها بعضًا. وإذ كان ذلك كذلك ، صحّ أن خبرَ
أبي هريرة معناهُ أنّ الحسنة لَتُضاعف للمهاجرين من أهل الإيمان ألفي ألفُ حسنة ،
وللأعراب منهم عشر أمثالها ، على ما رَوَى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
وأن قوله : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) ، يعني : من
جاء بالحسنة من أعراب المؤمنين فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالحسنة من مهاجريهم
__________
(1) الحديث : 9511 - هذا الإسناد ضعيف ، من أجل " عطية العوفي " . وقد
بينا ضعفه فيما مضى : 305.
وأما شيخ الطبري " محمد بن هارون بن إبراهيم الربعي " : فإنه ثقة. مترجم
في التهذيب.
والحديث نقله ابن كثير 2 : 450 ، من رواية ابن أبي حاتم ، من طريق فضيل بن مرزوق ،
بهذا الإسناد. ولم يذكر شيئًا في تخريجه ، ولا في تعليله.
وذكره السيوطي 2 : 162 - 163 ، وزاد نسبته لسعيد بن منصور ، وابن المنذر
والطبراني.
(2) في المطبوعة : " المهاجرين " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(8/367)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
يُضاعف له ويؤته الله من لدنه أجرًا
يعني يعطه من عنده " أجرًا عظيمًا " . يعني : عِوَضًا من حسنته عظيمًا ،
وذلك " العوض العظيم " ، الجنة ، كما : -
9512 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا صدقة بن أبي سهل قال
، حدثنا أبو عمرو ، عن زاذان ، عن ابن مسعود : " ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا
" ، أي : الجنة يعطيها. (1)
9513 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ،
أخبرني عباد بن أبي صالح ، عن سعيد بن جبير قوله : " ويؤت من لدنه أجرًا
عظيمًا " ، قال : الأجرُ العظيم ، الجنة. (2)
9514 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ويؤت
من لدنه أجرًا عظيمًا " ، قال : " أجرًا عظيمًا " ، الجنة.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ
وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا (41) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إنّ الله لا يظلم عباده مثقال ذرّة ، فكيف
بهم " إذا جئنا من كل أمة بشهيد " ، يعني : بمن يشهد عليها بأعمالها ،
وتصديقها رسلَها أو تكذيبها " وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا " ، (3) يقول :
وجئنا بك ،
__________
(1) الأثر : 9512 - هو من الأثر السالف رقم : 9508.
(2) الأثر : 9513 - " عباد بن أبي صالح ذكوان ، السمان " هو : "
عبد الله بن أبي صالح " . قال البخاري في الصغير : " منكر الحديث "
. وقال ابن معين : " ثقة " ، وقال الساجي : " ثقة ، إلا أنه روى عن
أبيه ما لم يتابع عليه " . مترجم في التهذيب.
(3) انظر تفسير " الشهيد " فيما سلف 1 : 376 - 378 / 3 : 97 ، 145 / 6 :
60 ، 75 / ...
(8/368)
يا محمد ، " على هؤلاء " ،
أي : على أمتك " شهيدًا " . يقول شاهدًا ، كما : -
9515 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا " ،
قال : إن النبيين يأتون يوم القيامة ، منهم من أسلم معه من قومه الواحدُ والاثنان
والعَشَرة ، وأقلُّ وأكثر من ذلك ، حتى يُؤتى بقوم لوط صلى الله عليه وسلم ، لم
يؤمن معه إلا ابنتاه ، فيقال لهم : هل بلَّغتم ما أرسلتُمْ به ؟ فيقولون : نعم.
فيقال : من يشهد ، فيقولون : أمة محمد صلى الله عليه وسلم! فيقال لهم : اشهدوا ،
إنّ الرسل أودعوا عندكم شهادة ، (1) فبم تشهدون ؟ فيقولون : ربنا نَشهد أنهم قد
بلغوا كما شهدوا في الدنيا بالتبليغ. فيقال : من يشهد على ذلك ؟ فيقولون : محمد
صلى الله عليه وسلم. فيدعى محمد عليه السلام ، فيشهدُ أن أمته قد صدَّقوا ، وأنّ
الرسل قد بلَّغوا ، فذلك قوله : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) [سورة
البقرة : 143].
9516 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج قوله
: " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد " ، قال : رسولها ، فيشهد عليها أن
قد أبلغهم ما أرسله الله به إليهم " وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا " ، قال
: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتَى عليها فاضت عيناه.
9517 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسن ، عن يزيد
النحوي ، عن عكرمة في قوله : ( وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ) [سورة البروج : 3] ، قال :
الشاهد محمد ، والمشهود يوم الجمعة. فذلك قوله : " فكيف إذا جئنا من كل أمة
بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا " .
__________
(1) في المطبوعة : " أتشهدون أن الرسل " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(8/369)
9518 - حدثني عبد الله بن محمد الزهري
قال ، حدثنا سفيان ، عن المسعودي ، عن جعفر بن عمرو بن حريث ، عن أبيه ، عن عبد
الله : " فكيف إذا جئنا منْ كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا " ،
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ
أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) . (1)
9519 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير قال ، حدثنا سفيان
بن عيينة ، عن المسعودي ، عن القاسم : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن
مسعود : اقرأ علي. قال ، أقرأ عليك ، وعليك أنزل ؟ قال : إني أحب أن أسمعه من
غيري. قال : فقرأ ابن مسعود " النساء " حتى بلغ : " فكيف إذا جئنا
من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا " ، قال : استعبر النبي صلى الله
عليه وسلم ، وكفّ ابن مسعود قال المسعودي ، فحدثني جعفر بن عمرو بن حريث ، عن أبيه
: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " شهيدًا عليهم ما دمت فيهم ، فإذا
توفيتني كنت أنت الرقيبَ عليهم ، وأنتَ على كل شيء شهيد " . (2)
* * *
__________
(1) الحديث : 9518 - سفيان : هو ابن عيينة.
المسعودي - هنا - : هو معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود. وهو ثقة. أخرج له
الشيخان. وترجمه البخاري في الكبير 4 / 1 / 390 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 277.
" جعفر بن عمرو بن حريث المخزومي " : ثقة. ترجمه البخاري 1 / 2 / 193 ،
وابن أبي حاتم 1 / 1 / 484.
أبوه " عمرو بن حريث " : صحابي.
وهذا الحديث - على صحة إسناده - لم أجده من غير رواية الطبري. وابن كثير لم ينسبه
لغيره 2 : 453 ، وكذلك السيوطي 2 : 164.
وانظر الحديث الذي بعده.
والآية ، تضمين لآية سورة المائدة 117.
(2) الحديث : 9519 - إبراهيم بن أبي الوزير - واسم أبي الوزير : عمر - بن مطرف
المكي ، مولى بني هاشم : ثقة ، وثقه محمد بن بشار وغيره. مترجم في التهذيب ، والكبير
1 / 1 / 333 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 114 - 115.
وهذا الحديث في الحقيقة حديثان :
أولهما : رواية المسعودي - معن بن عبد الرحمن - عن القاسم. والظاهر أن القاسم هذا
: هو أخوه " القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود " . وهو تابعي
ثقة. ولكنه لم يدرك أن يروي عن جده " عبد الله بن مسعود " ، ولم يذكر
هنا أنه " عن ابن مسعود " - حتى يكون إسنادًا منقطعًا. فهو حديث مرسل.
ولكن هذا الحديث الأول منهما ثابت صحيح بالأسانيد المتصلة. فقد رواه البخاري 9 :
81 (فتح) ، من طريق الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبيدة ، عن عبد الله. وكذلك رواه
أحمد في المسند : 3606 ، 4118 ، من طريق الأعمش ، به. ورواه أحمد أيضًا : 3550 ،
من رواية أبي حيان الأشجعي ، عن ابن مسعود ، و : 3551 ، من طريق أبي رزين ، عن ابن
مسعود.
ونقله ابن كثير في فضائل القرآن ، ص : 77 ، عن البخاري. ثم قال : " وقد رواه
الجماعة إلا ابن ماجه ، من طرق ، عن الأعمش. وله طرق يطول بسطها " .
ونقله في التفسير 2 : 452 - 453 ، عن البخاري أيضًا. ثم قال : " وقد روى من
طرق متعددة عن ابن مسعود. فهو مقطوع به. ورواه أحمد من طريق أبي حيان ، وأبي رزين
، عنه " .
ونقله السيوطي 2 : 163 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل.
وثانيهما : رواية المسعودي ، عن جعفر بن عمرو بن حريث ، عن أبيه. وهذا مكرر للحديث
السابق : 9518 ، ولكنه جعله هنا من حديث عمرو بن حريث ، لم يذكر فيه روايته عن ابن
مسعود. فيكون مرسل صحابي. فهو صحيح بكل حال.
وقد رواه الحاكم في المستدرك 3 : 319 ، من طريق جعفر بن عون ، عن المسعودي ، عن
جعفر بن عمرو بن حريث ، عن أبيه - مطولا - بقصة قراءة ابن مسعود هذه الآيات على
النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن فيه النص الذي هنا " شهيدًا عليهم ما دمت فيهم...
" . فأصل الحديث صحيح ثابت. ولذلك قال الحاكم : " هذا حديث صحيح الإسناد
، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي.
ونقل السيوطي 2 : 163 رواية الحاكم ، مختصرة قليلا ، ولم ينسبها لغيره.
(8/370)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
القول في تأويل قوله : { يَوْمَئِذٍ
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ
وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يوم نجيء من كلّ أمة بشهيد ، ونجيء بك على
أمتك يا محمد شهيدًا " يود الذين كفروا " ، يقول : يتمنى الذين جحدوا
وحدانية الله وعصوا رسوله ، " لو تُسَوَّى بهم الأرض " .. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " ود " فيما سلف 2 : 470 / 5 : 542.
(8/371)
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز ومكة والمدينة : ( لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ )
" بتشديد " " السين " و " الواو " وفتح "
التاء " ، بمعنى : لو تَتَسوّى بهم الأرض ، ثم أدغمت " التاء "
الثانية في " السين " ، يراد به : أنهم يودّون لو صاروا ترابًا فكانوا
سواءً هم والأرض.
وقرأ آخرون ذلك : ( لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ ) ، بفتح " التاء "
وتخفيف " السين " . وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة بالمعنى الأول ، غير
أنهم تركوا تشديد " السين " ، واعتلوا بأن العرب لا تكاد تجمع بين
تشديدين في حرف واحد.
وقرأ ذلك آخرون : ( لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ ) ، بمعنى : لو سوّاهم الله
والأرض ، فصاروا ترابًا مثلها بتصييره إياهم ، كما يفعل ذلك بمن ذكر أنه يفعله به
من البهائم.
قال أبو جعفر : وكل هذه القراءات متقاربات المعنى ، وبأي ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ ،
لأن من تمنى منهم أن يكون يومئذ ترابًا ، إنما يتمنى أن يكون كذلك بتكوين الله
إياه كذلك. وكذلك من تمنى أن يكون الله جعله كذلك ، فقد تمنى أن يكون ترابًا. على
أن الأمر وإن كان كذلك ، فأعجبُ القراءة إليّ في ذلك : ( لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ
الأرْضُ ) ، بفتح " التاء " وتخفيف " السين " كراهية الجمع
بين تشديدين في حرف واحد وللتوفيق في المعنى بين ذلك وبين قوله : ( وَيَقُولُ
الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ) [سورة النبأ : 40]. فأخبر الله عنهم
جل ثناؤه أنهم يتمنون أن كانوا ترابًا ، ولم يخبر عنهم أنهم قالوا : " يا
ليتني كنت ترابًا " . فكذلك قوله : " لو تَسوّى بهم الأرض "
فيسوَّوا هم. وهي أعجب إلي ، ليوافق ذلك المعنى الذي أخبرَ عنهم
(8/372)
بقوله : " يا ليتني كنتُ ترابًا
" . وأما قوله : " ولا يكتمون الله حديثًا " ، فإن أهل التأويل
تأوّلوه بمعنى : ولا تكتم الله جوارحُهم حديثًا ، وإن جحدتْ ذلك أفواههم.
ذكر من قال ذلك :
9520 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام قال ، حدثنا عمرو ، عن مطرف ، عن. المنهال
بن عمرو ، عن سعيد بن جبير قال : أتى رجلٌ ابن عباس فقال : سمعت الله يقول(
وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) [سورة الأنعام : 23] ، وقال في آية
أخرى : " ولا يكتمون الله حديثًا " . فقال ابن عباس : أما قوله : "
والله ربنا ما كنا مشركين " ، فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهلُ
الإسلام قالوا : " تعالوا فلنجحد " ! فقالوا : " والله ربنا ما كنا
مشركين " ! فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم ، فلا يكتمون الله
حديثًا.
9521 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن رجل ،
عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أشياءُ
تختلفُ علي في القرآن ؟ فقال : ما هو ؟ أشك في القرآن ؟ قال : ليس بالشك ، ولكنه
اختلاف! قال : فهات ما اختلف عليك. قال : أسمع الله يقول : ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ )
[سورة الأنعام : 23] ، وقال : " ولا يكتمون الله حديثًا " ، وقد كتموا!
فقال ابن عباس : أما قوله : " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما
كنا مشركين " ، فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لأهل الإسلام ويغفر
الذنوب ، ولا يغفر شركًا ، ولا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره جحد المشركون فقالوا :
" والله ربنا ما كنا مشركين " ، رجاءَ أن يغفر لهم ، فختم على أفواههم ،
وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك : " يَودّ الذين كفروا
وَعصوُا الرسول لو تسوَّى بهم الأرضُ ولا يكتمون الله حديثًا " .
(8/373)
9522 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا الزبير ، عن الضحاك : أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال : يا ابن عباس ، قول الله تبارك وتعالى : " يومئذ يودّ الذين
(8/374)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم
الأرض ولا يكتمون الله حديثًا " ، وقوله : ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا
مُشْرِكِينَ ) ؟ فقال له ابن عباس : إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت : "
ألقى علي ابن عباس مُتَشابه القرآن " ، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع
الناس يوم القيامة في بَقيع واحد ، (1) فيقول المشركون : " إن الله لا يقبل
من أحد شيئًا إلا ممن وحّده " ! فيقولون : " تعالوا نَقُل " ! (2)
فيسألهم فيقولون : " والله رَبنا ما كنا مشركين " ، قال : فيختم على
أفواههم ، ويستنطق جوارحهم ، فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين ، فعند ذلك
تمنوا لو أن الأرض سُوِّيت بهم ولا يكتمون الله حديثًا.
9523 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثنا أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " يومئذ يود الذين كفروا وعصوُا الرسول لو تسوَّى بهم
الأرض ولا يكتمون الله حديثًا " ، يعني : أن تسوّى الأرضُ بالجبال والأرضُ ،
عليهم. (3)
فتأويل الآية على هذا القول الذي حكيناه عن ابن عباس : يومئذ يود الذين كفروا
وعصوا الرسول ، لو تسوّى بهم الأرض ولم يكتموا الله حديثًا (4) كأنهم تمنوا أنهم
سوُّوا مع الأرض ، وأنهم لم يكونوا كتموا الله حديثًا.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : يومئذ لا يكتمون الله حديثًا ويودّون لو تسوّى بهم الأرض.
وليس بمنكتم عن الله شيء من حديثهم ، لعلمه جل ذكره بجميع حديثهم وأمرهم ، فإن همْ
كتموه بألسنتهم فجحدوه ، (5) لا يخفى عليه شيء منه.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : (6) " يا أيها الذين آمنوا " ،
صدّقوا الله ورسوله " لا تقربوا الصلاة " ، لا تصلوا " وأنتم سكارى
" ، وهو جمع " سكران " " حتى تعلموا ما تقولون " ، في
صلاتكم فتميّزون فيها ما أمركم الله به أو ندبكم إلى قيله فيها ، (7) مما نهاكم
عنه وزَجَركم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في " السكر " الذي عناه الله بقوله : " لا
تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " .
فقال بعضهم : عنى بذلك السّكر من الشراب.
__________
(1) " البقيع " : المكان المتسع من الأرض ، يكون فيه بعض الشجر.
(2) في المطبوعة : " تعالوا نجحد " ، غير ما في المخطوطة ، وهو ما أثبته
، ولم يستطع أن يعرف لها معنى ، وهي صواب ، وإن كانت كتب اللغة قد قصرت في إثبات
هذا المعنى. وذلك أن " نقل " هنا من " القول " يراد به الكذب
أو التعريض به ، وقد مر بي ذلك في كتب السيرة مرارًا منها ، ما قرأته في سيرة ابن
هشام 3 : 58 ، في خبر مقتل كعب الأشرف وقول محمد بن مسلمة لرسول الله صلى الله
عليه وسلم : " يا رسول الله ، لا بد لنا من أن نقول " ! فقال رسول الله
: " قولوا ما بدا لكم ، فأنتم في حل من ذلك " . وهو شبيه المعنى بالكذب.
(3) في المطبوعة : " أن تسوى الأرض بالجبال عليهم " حذف " الأرض
" الثانية ، والصواب ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة : " ولا يكتمون الله حديثًا " ، وهو خطأ فاحش ، والصواب
ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة : " فإنهم إن كتموه بألسنتهم " ، وهو خطأ فاحش أيضًا ،
والصواب ما في المخطوطة.
(6) في المطبوعة والمخطوطة : " يعني بذلك جل ثناؤه " ، والسياق يقتضي ما
أثبت.
(7) في المطبوعة : " وتقرأون فيها مما أمركم الله... " وهو سياق مضطرب
جدا ، وفي المخطوطة : " وتقرون فيها مما أمركم الله " غير منقوط ، وهو
مضطرب أيضًا ، ورجحت أن صواب قراءتها ما أثبت.
(8/375)
ذكر من قال ذلك
9524 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عطاء بن
السائب ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي : أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا
الخمر ، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) فخلط
فيها ، فنزلت : " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " .
9525 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن عطاء بن
السائب ، عن عبد الله بن حبيب : أن عبد الرحمن بن عوف صنعَ طعامًا وشرابًا ، فدعا
نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأكلوا وشربوا حتى ثَمِلوا ، فقدّموا
عليًّا يصلي بهم المغرب ، فقرأ : " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُون أَعْبُد
مَا تَعْبُدُون ، وَأَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَأَنَا عَابِدٌ مَا
عَبَدْتُمْ لَكُمْ دِيِنكُمْ وَلِيَ دِين " ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه
الآية : " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " .
9526 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى
" ، قبل أن تحرّم الخمر ، فقال الله : " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا
الصلاة وأنتم سكارى " ، الآية.
9527 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي رزين في قوله :
" يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " ، قال : نزل هذا
وهم يشربون الخمر. فقال : وكان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر.
9528 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي رزين قال : كانوا
يشربون بعد ما أنزلت التي في " البقرة " ، (1) وبعد التي في "
النساء " ،
__________
(1) يعني آية سورة البقرة : 219 : " يسألونك عن الخمر والميسر " .
(8/376)
فلما أنزلت التي في " المائدة
" تركوها. (1)
9529 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : " وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " ، قال : نهوا أن
يصلوا وهم سكارى ، ثم نسخها تحريمُ الخمر.
9530 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
9531 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
في قوله : " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " ، قال : كانوا يجتنبون
السكر عند حضور الصلوات ، ثم نسخ بتحريم الخمر.
9532 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي وائل ، وأبي رزين
وإبراهيم في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى
" و( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ) [سورة
البقرة : 90] ، وقوله : ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) [سورة
النحل : 67] ، قالوا : كان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى من النوم.
ذكر من قال ذلك
9533 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : " لا
تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " ، قال : ليست لمن يقربها سكران من الشراب ، إنما
عُنِي بها سكر النوم. (2)
__________
(1) يعني آية سورة المائدة : 90 ، 91 : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر
والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " .
(2) في المطبوعة : " قال : سكر النوم " ، حذف ما بين ذلك ، وكان في
المخطوطة : " لمن يقربها سكرا إنما عنى بها سكر النوم " بياض بين الكلام
، ووضع بهامش المخطوطة حرف " ط " بمعنى الخطأ. وقد اجتهدت قراءتها كما
أثبتها.
(8/377)
9534 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري قال
، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سلمة ، عن الضحاك : " يا أيها الذين آمنوا لا
تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " ، قال : لم يعن بها سكر الخمر ، وإنما عنى بها
سكر النوم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية ، تأويل من قال : ذلك نهيٌ من
الله المؤمنين عن أن يقربوا الصلاة وهم سكارى من الشراب قبل تحريم الخمر ، للأخبار
المتظاهرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك كذلك ، نهيٌ من الله وأن
هذه الآية نزلت فيمن ذكرت أنها نزلت فيه.
* * *
فإن قال لنا قائل : وكيف يكون ذلك معناه ، والسكران في حال زوال عقله ، نظيرُ
المجنون في حال زوال عقله ، وأنت ممن يُحيل تكليف المجانين لفقدهم الفهم لما يُؤمر
وينهى ؟ (1)
قيل له : إن السكران لو كان في معنى المجنون ، لكان غير جائز أمرُه ونهيه. ولكن
السكران هو الذي يفهم ما يأتي ويذَر ، غير أن الشراب قد أثقل لسانه وأجزاء جسمه
وأخدَرها ، (2) حتى عجز عن إقامة قراءته في صلاته ، وحدودها الواجبة عليه فيها ،
من غير زوال عقله ، فهو بما أمر به ونهى عنه عارف فَهِمٌ ، وعن أداء بعضه عاجز
بخدَرِ جسمه من الشراب. وأما من صار إلى حدّ لا يعقل ما يأتي ويذر ، فذلك منتقل من
السكر إلى الخَبل ومعاني المجانين ، (3) وليس ذلك
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " بما يؤمر... " ، والصواب " لما
" كما أثبته.
(2) في المطبوعة : " وأحر جسمه وأخدره " غير ما في المخطوطة لأنه كتب
" وأحرا حسمه وأخدرها " ، فلم يحسن قراءة " وأجزاء " ، فأفسد
الكلام.
(3) في المطبوعة : " ومعدود في المجانين " ، غير ما في المخطوطة ، وكان
فيها : " ومعاني المجانين " ، فلم يحسن قراءتها ، ففعل ما فعل كدأبه.
(8/378)
الذي خوطب بقوله : " لا تقربوا
الصلاة " ، لأن ذلك مجنون ، وإنما خوطب به السكران ، والسكرانُ ما وصفنا
صفته.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا
}
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم ، معنى ذلك : "
لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " " ولا تقربوها
جنبًا إلا عابري سبيل " يعني : إلا أن تكون مجتازي طريق ، أي : مسافرين
" حتى تغتسلوا " . (1)
*ذكر من قال ذلك :
9535 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا
شعبة ، عن قتادة ، عن أبي مجلز ، عن ابن عباس في قوله : " ولا جنبًا إلا
عابري سبيل " ، قال : المسافر وقال ابن المثنى : في السفر.
9536 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ولا جنبًا إلا عابري سبيل " ، يقول : لا
تقربوا الصلاة وأنتم جُنب إذا وجدتم الماء ، فإن لم تجدوا الماء فقد أحللتُ لكم أن
تمسَّحوا بالأرض.
9537 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن عباد
بن عبد الله أو : عن زِرّ عن علي رضي الله عنه : " ولا جنبًا إلا عابري سبيل
" ، قال : إلا أن تكونوا مسافرين فلم تجدوا الماء ، (2) فتيمموا. (3)
__________
(1) انظر تفسير : " الجنب " فيما سلف قريبًا ص : 340.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " فلا تجدوا الماء " ، والصواب ما أثبت.
(3) الأثر : 9537 - " عباد بن عبد الله الأسدي " . روى عن علي. وروى عنه
المنهال بن عمرو. قال البخاري : " فيه نظر " ، وذكره ابن حبان في الثقات
، وتكلم فيه أحمد. مترجم في التهذيب. وانظر الأثر التالي رقم : 9540.
(8/379)
9538 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد
الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير في قوله : "
ولا جنبًا إلا عابري سبيل " ، قال : المسافر.
9539 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن
أبي مجلز ، عن ابن عباس بمثله.
9540 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن ابن أبي ليلى
، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله ، عن علي رضي الله عنه قال : نزلت في
السفر : " ولا جنبًا إلا عابري سبيل " ، " وعابر السبيل " ،
المسافر ، إذا لم يجد ماء تيمم.
9541 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا هارون ، عن ابن مجاهد ، عن أبيه : " ولا
جنبًا إلا عابري سبيل " ، قال : المسافر ، إذا لم يجد الماءَ فإنه يتيمم ،
فيدخلُه فيصلي. (1)
9542 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولا جنبًا إلا عابري سبيل " ،
قال : هو الرجل يكون في السفر ، فتصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي.
9543 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " ولا جنبًا إلا عابري سبيل " ، قال : مسافرين ، لا يجدون
ماء فيتيممون صعيدًا طيبًا ، لم يجدوا الماء فيغتسلوا. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " فإنه يتيمم فيصلي " حذف " فيدخله " ،
كأنه لم يعرف ماذا عنى بها فحذفها ، وهذا عمل سيئ قبيح. وقوله : " فيدخله
" يعني : المسجد.
(2) في المطبوعة : " حتى يجدوا الماء فيغتسلوا " ، وفي المخطوطة :
" لي يجدوا الماء فيغتسلوا " ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(8/380)
9544 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا
أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولا جنبًا إلا
عابري سبيل " ، قال : مسافرين لا يجدون ماء.
9545 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مسعر ، عن بكير بن الأخنس ، عن الحسن
بن مسلم في قوله : " ولا جنبًا إلا عابري سبيل " ، قال : إلا أن يكونوا
مسافرين ، فلم يجدوا الماء فيتيمموا. (1)
9546 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن الحكم : "
ولا جنبًا إلا عابري سبيل " ، قال : المسافر تصيبه الجنابة ، فلا يجد ماء
فيتيمم.
9547 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان
، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير وعن منصور ، عن الحكم في قوله : " إلا
عابري سبيل " ، قالا المسافر الجنبُ ، لا يجد الماء فيتيمم فيصلي.
9548 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن سالم ، عن سعيد
بن جبير : " ولا جنبًا إلا عابري سبيل " ، إلا أن يكون مسافرًا.
9549 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن
الحكم نحوه.
9550 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد
الله بن كثير قال : كنا نسمع أنه في السفر.
9551 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا
جنبًا إلا عابري سبيل " ، قال : هو المسافر الذي لا يجد الماء ، فلا بد
__________
(1) في المطبوعة : " فلا يجدون الماء فيتمموا " ، وأثبت ما في المخطوطة
، إلا " فلم يجدوا " ، فقد كانت فيها " فلا يجدوا " .
(8/381)
له من أن يتيمم ويصلي ، فهو يتيمم
ويصلي قال : كان أبي يقولُ هذا.
* * *
وقال آخرون معنى ذلك ، لا تقربوا المصَلَّى للصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما
تقولون ولا تقربوه جنبًا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل يعني : إلا مجتازين فيه
للخروج منه.
فقال أهل هذه المقالة : أقيمت " الصلاة " مقام " المصلَّى " و
" المسجد " ، إذ كانت صلاة المسلمين في مساجدهم أيّامئذ ، لا يتخلَّفون
عن التجميع فيها. (1) فكان في النهي عن أن يقربوا الصلاة ، كفايةٌ عن ذكر المساجد
والمصلَّى الذي يصلون فيه.
*ذكر من قال ذلك :
9552 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن عبد
الكريم الجزري ، عن أبي عبيدة بن عبد الله ، عن أبيه في قوله : " ولا جنبًا
إلا عابري سبيل " ، قال : هو الممرُّ في المسجد. (2)
9553 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر الرازي ،
عن زيد بن أسلم ، عن ابن يسار ، عن ابن عباس : " ولا جنبًا إلا عابري سبيل
" : ، قال : لا تقرب المسجد إلا أن يكون طريقك فيه ، فتمرّ مارًّا ولا تجلس.
(3)
9554 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن
سعيد في الجنب : يمر في المسجد مجتازًا وهو قائم ، لا يجلس وليس بمتوضئ. وتلا هذه
الآية : " ولا جنبًا إلا عابري سبيل " .
__________
(1) في المطبوعة : " التجمع فيها " ، و " التجميع " هو : شهود
صلاة الجماعة ، أو إقامة صلاة الجماعة.
(2) الأثر : 9552 - " أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود " ، أبوه : عبد
الله بن مسعود الصحابي. مضت ترجمته في رقم : 43 ، 4570 ، وغيرهما.
(3) في المطبوعة : " فتمر مرًا " ، لم يحسن قراءة ما كان في المخطوطة ،
على سوء كتابتها.
(8/382)
9555 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا
هارون ، عن نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : لا بأس للحائض والجنب أن يمرَّا
في المسجد ما لم يجلسا فيه.
9556 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو الزبير قال :
كان أحدنا يمر في المسجد وهو جُنب مجتازًا.
9557 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن
في قوله : " ولا جنبًا إلا عابري سبيل " ، قال : الجنب يمر في المسجد
ولا يقعُد فيه.
9558 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم
قالا جميعًا ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم في قوله : " ولا جنبًا
إلا عابري سبيل " ، قال : إذا لم يجد طريقًا إلا المسجد ، يمرّ فيه.
9559 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل قال ، حدثنا إسرائيل ،
عن منصور ، عن إبراهيم في هذه الآية : " ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى
تغتسلوا " ، قال : لا بأس أن يمرّ الجنب في المسجد ، إذا لم يكن له طريق
غيره.
9560 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم مثله.
9561 - حدثني المثنى قال ، حدثنا [الحماني] قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد
بن جبير قال : الجنب يمرّ في المسجد ولا يجلس فيه. ثم قرأ : " ولا جنبًا إلا
عابري سبيل " . (1)
__________
(1) الأثر : 9561 - في المخطوطة : " حدثني المثنى قال حدثنا قال حدثنا شريك
" ، وهو إسناد ناقص ، فجاء في المطبوعة فجعله " حدثني المثنى قال حدثنا
شريك " ، واستظهرت أن يكون كما أثبته بين القوسين ، من الآثار التي تليه ،
ومن رواية المثنى بمثل هذا الإسناد فيما سلف.
(8/383)
9562 - حدثني المثنى قال ، حدثنا
الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن عبد الكريم ، عن أبي عبيدة مثله.
9563 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سماك ، عن عكرمة
مثله.
9564 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن الحسن بن عبيد
الله ، عن أبي الضحى مثله.
9565 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن إسماعيل ، عن الحسن قال : لا بأس
للحائض والجنب أن يمرّا في المسجد ، ولا يقعدَا فيه.
9566 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن الزهري قال :
رُخِّص للجنب أن يمرّ في المسجد.
9567 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني يزيد بن
أبي حبيب عن قول الله : " ولا جنبًا إلا عابري سبيل " ، أنّ رجالا من
الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم ، فيريدون الماء ولا
يجدون ممرًّا إلا في المسجد ، فأنزل الله تبارك وتعالى : " ولا جنبًا إلا
عابري سبيل " .
9568 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شعبة
، عن حماد ، عن إبراهيم ، " ولا جنبًا إلا عابري سبيل " ، قال : لا
يجتاز في المسجد ، إلا أن لا يجدَ طريقًا غيره.
9569 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن ابن مجاهد ، عن أبيه : لا يمر الجنب
في المسجد ، يتخذُه طريقًا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالتأويل لذلك ، تأويل من تأوَّله : " ولا
جنبًا إلا عابري سبيل ، إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بيَّن حكم المسافر إذا
عَدِم
(8/384)
الماء وهو جنب في قوله : ( وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ
أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا ) ، فكان معلومًا بذلك أن قوله (1) " ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى
تغتسلوا " ، لو كان معنيًّا به المسافر ، لم يكن لإعادة ذكره في قوله :
" وإن كنتم مرضى أو على سفر " معنى مفهوم ، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك.
* * *
وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا ، لا تقربوا المساجد
للصلاة مصلِّين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها أيضًا جنبًا
حتى تغتسلوا ، إلا عابري سبيل.
* * *
و " العابر السبيل " : المجتازُه مرًّا وقطعًا. يقال منه : " عبرتُ
هذا الطريق فأنا أعبُرُهُ عَبْرا وعبورًا " . ومنه قيل : " عبر فلان
النهرَ " ، إذا قطعه وجازه. ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار : " هي
عُبْر أسفار ، وعَبْر أسفار " ، (2) لقوتها على الأسفار.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ
أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " وإن كنتم مرضى " ، من جرح أو
جُدَرِيّ وأنتم جنب ، كما : -
9570 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا أبو
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فكان معلوم بذلك " ، والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة ، حذف " وعبر أسفار " الثانية ، كأنه ظنها تكرارًا.
وإنما أراد واحدة بضم العين وسكون الباء ، والأخرى بفتح العين وسكون الباء وهناك
ثالثة بكسر العين وسكون الباء.
(8/385)
المنبِّه الفضل بن سليم ، (1) عن
الضحاك ، عن ابن مسعود قوله : " وإن كنتم مرضى أو على سفر " ، قال :
المريض الذي قد أُرخص له في التيمم ، هو الكسير والجريح. فإذا أصابت الجنابة
الكسيرَ اغتسل ، (2) والجريح لا يحل جراحته ، إلا جراحة لا يخشى عليها. (3)
9571 - حدثنا تميم بن المنتصر قال ، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن شريك ، عن
إسماعيل السدي ، عن أبي مالك قال ، في هذه الآية : " وإن كنتم مرضى أو على
سفر " ، قال : هي للمريض الذي به الجراحةُ التي يخاف منها أن يغتسل ، فلا
يغتسل. فرُخِّص له في التيمم.
9572 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وإن كنتم مرضى " ، و " المرض " هو الجراح. والجراحة
التي يتخوّف عليه من الماء ، (4) إن أصابه ضرَّ صاحبه ، فذلك يتيمم صعيدًا طيبًا.
9573 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن
عزرة ، عن سعيد بن جبير في قوله : " وإن كنتم مرضى " ، قال : إذا كان به
جروح أو قُروح يتيمم. (5)
9574 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم :
" وإن كنتم مرضى " ، قال : من القروح تكون في الذراعين.
__________
(1) الأثر : 9570 - " أبو المنبه : الفضل بن سليم " ، لم أجده ، وإنما
وجدت " الفضل بن سليم العبدي " . روى عن القاسم بن خالد ، روى عنه مسلم
بن إبراهيم. مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 2 / 63.
(2) في المطبوعة ، حذف قوله : " ولم يحل جبائره " كأنه لم يعرف لها
معنى!! وهو أشهر من ذلك!
(3) في المخطوطة : " والجرح لا يحل جراحته " ، والصواب ما في المطبوعة.
(4) في المخطوطة : " التي يتخوف عليه منه الماء " ، وفي المطبوعة :
" التي يتخوف عليها من الماء " ، والصواب بينهما ما أثبت.
(5) الأثر 9573 - " عزرة بن عبد الرحمن الخزاعي " ، مضى برقم : 2752 ،
2753. وقد كان في المطبوعة : " عروة " ، والصواب من المخطوطة ، وإن كانت
غير منقوطة.
(8/386)
9575 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا
هارون ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم : " وإن كنتم مرضى " ، قال :
القروح في الذراعين.
9576 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن جويبر ، عن الضحاك قال :
صاحب الجراحة التي يتخوّف عليه منها ، يتيمم. ثم قرأ : " وإن كنتم مرضى أو
على سفر " .
9577 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " وإن كنتم مرضى " ، و " المرض " ، أن يصيب الرجل
الجرح والقرح والجدريّ ، (1) فيخاف على نفسه من برد الماء وأذاه ، يتيمم بالصعيد
كما يتيمم المسافر الذي لا يجد الماء.
9578 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن
عاصم يعني الأحول عن الشعبي : أنه سئل عن [قوله] : المجدور تُصيبه الجنابة ؟ قال :
ذهب فرسان هذه الآية. (2)
* * *
وقال آخرون في ذلك ، ما : -
9579 - حدثني به يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماءً فتيمموا " ، قال : المريضُ الذي لا
يجد أحدًا يأتيه بالماء ، ولا يقدر عليه ، وليس له خادم ولا عون ، فإذا لم يستطع
أن يتناول الماء ، وليس عنده من يأتيه به ، ولا يحبو إليه ، تيمم وصلَّى إذا
__________
(1) في المطبوعة : " أو القروح أو الجدري " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) هكذا في المخطوطة : " عن قوله : المجدور... " فأثبتها بين القوسين ،
لأني في شك منها. وأما قوله : " ذهب فرسان هذه الآية " ، فإنه مما أشكل
على معناه ، وربما رجحت أنه أراد أن الآية نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ، فيريدون
الماء ولا يجدون ممرًا إلا في المسجد ، كما مضى في الأثر رقم : 9567. فيكون قوله :
" ذهب فرسان هذه الآية " ، عن ذلك الشطر من الآية " ولا جنبًا إلا
عابري سبيل " ، وأنهم هم الأنصار من أصحاب رسول الله ، الذين كانت أبوابهم في
المسجد ، وقد مضوا ، لم يبق اليوم منهم أحد. هذا غاية اجتهادي ، وفوق كل ذي علم
عليم.
(8/387)
حلَّت الصلاة قال : هذا كله قولُ أبي
إذا كان لا يستطيع أن يتناول الماء وليس عنده من يأتيه به ، لا يترك الصلاة ، وهو
أعذَرُ من المسافر.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذًا : وإن كنتم جَرْحى أو بكم قروحٌ ، أو كسر ، أو
علّة لا تقدرون معها على الاغتسال من الجنابة ، وأنتم مقيمون غيرُ مسافرين ،
فتيمموا صعيدًا طيبًا.
* * *
وأما قوله : " أو على سفر " ، فإنه يعني : أو إن كنتم مسافرين وأنتم
أصحّاء جنب ، فتيمموا صعيدًا.
* * *
وكذلك تأويل قوله : " أو جاء أحد منكم من الغائط " ، يقول : أو جاء أحدٌ
منكم من الغائط ، قد قضى حاجته وهو مسافر صحيح ، فليتيمم صعيدًا أيضًا.
* * *
و " الغائط " : ما اتسع من الأودية وتصوَّب. وجعل كناية عن قضاء حاجة
الإنسان ، لأن العرب كانت تختار قضاءَ حاجتها في الغِيطان ، فكثر ذلك منها حتى غلب
عليهم ذلك ، فقيل لكل من قضى حاجته التي كانت تقضي في الغِيطان ، حيثُ قضاها من
الأرض : " مُتَغَوِّط " و " جاء فلان من الغائط " ، يعني به :
قضى حاجته التي كانت تقضى في الغائط من الأرض. (1) .
* * *
وذكر عن مجاهد أنه قال في " الغائط " : الوادي.
9580 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " أو جاء أحد منكم من الغائط " ، قال : الغائط ، الوادي.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الغائط " فيما سلف 5 : 354.
(8/388)
القول في تأويل قوله : { أَوْ
لامَسْتُمُ النِّسَاءَ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أو باشرتم النساءَ بأيديكم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في " اللمس " الذي عناه الله بقوله : " أو
لامستم النساء " .
فقال بعضهم : عنى بذلك الجماع.
*ذكر من قال ذلك :
9581 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي
بشر ، عن سعيد بن جبير قال : ذكروا اللمس ، فقال ناس من الموالي : ليس بالجماع.
وقال ناس من العرب : اللمس الجماع. قال : فأتيت ابن عباس فقلت : إنّ ناسًا من
الموالي والعرب اختلفوا في " اللمس " ، فقالت الموالي : ليس بالجماع ،
وقالت العرب : الجماع. قال : من أيّ الفريقين كنت ؟ قلت : كنت من الموالي. قال :
غُلِب فريق الموالي ، إن " المس " و " اللمس " ، و "
المباشرة " ، الجماع ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء. (1)
9582 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي قيس ،
عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله.
9583 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي
إسحاق قال : سمعت سعيد بن جبير يحدِّث عن ابن عباس : أنه قال : " أو لامستم
النساء " ، قال : هو الجماع.
9584 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، حدثنا أبي ،
__________
(1) الأثر : 9581 - أخرجه البيهقي في السنن 1 : 125 ، من طريق إبراهيم بن مرزوق ،
عن وهب بن جرير ، عن شعبة.
(8/389)
عن قتادة ، عن سعيد بن جبير قال :
اختلفتُ أنا وعطاء وعبيد بن عمير في قوله : " أو لامستم النساء " ، فقال
عبيد بن عمير : هو الجماع. وقلت أنا وعطاء : هو اللمس. قال : فدخلنا على ابن عباس
فسألناه فقال : غُلِب فريقُ الموالي ، وأصابت العرب ، هو الجماع ، ولكن الله يعفُّ
ويكني.
9585 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن
عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعبيد بن عمير : اختلفوا في الملامسة ،
فقال سعيد بن جبير وعطاء : الملامسة ما دون الجماع. وقال عبيد : هو النكاح. فخرج
عليهم ابن عباس فسألوه ، فقال : أخطأ الموليَان وأصَاب العربيّ ، الملامسة النكاح
، ولكن الله يكني ويعفّ.
9586 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بشر ، عن سعيد ، عن قتادة قال : اجتمع
سعيد بن جبير وعطاء وعبيد بن عمير ، فذكر نحوه.
9587 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن عثمة قال ، حدثنا سعيد بن بشير ، عن
قتادة قال ، قال سعيد بن جبير وعطاء في التماس : (1) الغمز باليد. وقال عبيد بن
عمير : الجماع. فخرج عليهم ابن عباس فقال : أخطأ الموليان وأصابَ العربيُّ ، ولكنه
يعفّ ويكني. (2)
9588 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا قال ابن عباس : اللمس ، الجماع. (3)
9589 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية وعبد الوهاب ، عن خالد ، عن عكرمة ،
عن ابن عباس مثله.
__________
(1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة ، ولعل صوابها : " اللماس " مصدر "
لامس ملامسة ولماسًا " ، كما سيأتي في الآثار التالية.
(2) الأثر : 9587 - محمد بن عثمة ، هو : " محمد بن خالد بن عثمة " مضى
برقم : 90 ، 5314 ، 5483.
(3) الأثر : 9588 - أخشى أن يكون في هذا الإسناد خرم.
(8/390)
9590 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ،
حدثنا هشيم قال ، حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : "
اللمس " و " المس " و " المباشرة " ، الجماع ، ولكن الله
يكني بما شاءَ.
9591 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، حدثنا إسحاق الأزرق ، عن سفيان ، عن عاصم
الأحول ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : الملامسة الجماع ، ولكن الله
كريم يكني عما شاء.
9592 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أيوب بن سويد ، عن سفيان
، عن عاصم ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عباس مثله.
9593 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن جعفر بن أبي
وحشية ، عن سعيد بن جبير قال : اختلفت العرب والموالي في " الملامسة "
على باب ابن عباس ، قالت العرب : الجماع. وقالت الموالي : باليد. قال : فخرج ابن
عباس فقال : غُلِب فريق الموالي ، الملامسة الجماع.
9594 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن رجل ، عن
سعيد بن جبير قال : كنا على باب ابن عباس ، فذكر نحوه.
9595 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا داود ، عن سعيد
بن جبير قال : قعد قوم على باب ابن عباس ، فذكر نحوه.
9596 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " أو لامستم النساء " ،
الملامسة هو النكاح.
9597 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن الأعمش ، عن عبد الملك بن ميسرة
، عن سعيد بن جبير قال : اجتمعت الموالي والعرب في المسجد ، وابن عباس في
الصُّفَّة ، فاجتمعت الموالي على أنّ " اللمس " دون الجماع ،
(8/391)
واجتمعت العرب على أنه الجماع. فقال
ابن عباس : من أيّ الفريقين أنت ؟ قلت : من الموالي. قال : غُلِبت.
9598 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس قال : اللمس ، الجماع.
9598م وبه عن سفيان ، عن عاصم ، عن بكر ، عن ابن عباس مثله.
9599 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن حبيب ، عن سعيد ، عن ابن
عباس قال : هو الجماع.
9600 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا مالك ، عن زهير ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن
عباس مثله.
9601 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص ، عن داود ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس : " أو لامستم النساء " ، قال : الجماع.
9602 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أشعث ، عن الشعبي ، عن علي
رضي الله عنه قال : الجماع.
9603 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن قال : الجماع.
9604 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا مالك ، عن خصيف قال : سألت مجاهدًا فقال ذلك.
9605 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة والحسن
قالا غشيان النساء.
* * *
وقال آخرون : عنى الله بذلك كلَّ لمسٍ ، بيدٍ كان أو بغيرها من أعضاء جسد الإنسان
وأوجبوا الوضوءَ على من مسَّ بشيء من جسده شيئًا من جسدها مفضيًا إليه.
(8/392)
*ذكر من قال ذلك :
9606 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن
مخارق ، عن طارق بن شهاب ، عن عبد الله أنه قال ، شيئًا هذا معناه : الملامسة ما
دون الجماع.
9607 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن منصور ،
عن هلال ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله أو : عن أبي عبيدة ، منصورٌ الذي شك قال :
القبلة ، من المس.
9608 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن مخارق ، عن
طارق ، عن عبد الله قال : اللمس ، ما دون الجماع.
9609 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن شعبة ، عن المغيرة ، عن
إبراهيم قال ، قال ابن مسعود : اللمس ، ما دون الجماع.
9610 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن
أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : القبلةُ ، من اللمس.
9611 - حدثنا أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن
فضيل عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : القبلة
، من اللمس ، وفيها الوضوء.
9612 - حدثنا تميم بن المنتصر قال ، أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن
إبراهيم ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود مثله.
9613 - حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال : أخبرنا سليم بن أخضر قال ، أخبرنا ابن عون
، عن محمد قال : سألت عبيدة عن قوله : " أو لامستم النساء " ، قال :
فأشار بيده هكذا وحكاه سليم وأراناه أبو عبد الله ، فضم أصابعه. (1)
__________
(1) الأثر : 9613 - " سليم بن أخضر البصري " . روى عن ابن عون ، قال ابن
سعد : " كان ألزمهم لابن عون. وكان ثقة " . مترجم في التهذيب. "
وأبو عبد الله " ، هو : " أحمد بن عبدة الضبي " مضى برقم : 5502.
(8/393)
9614 - حدثني يعقوب وابن وكيع قالا
حدثنا ابن علية ، عن سلمة بن علقمة ، عن محمد قال : سألت عبيدة عن قوله : "
أو لامستم النساء " ، قال بيده ، فطَبِنْتُ ما عَنىَ ، فلم أسأله. (1)
9615 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون قال : ذكروا عند محمد مسَّ
الفرج ، وأظنهم ذكروا ما قال ابن عمر في ذلك ، فقال محمد : قلت لعبيدة : قوله :
" أو لامستم النساء " ، فقال بيده. قال ابن عون بيده ، كأنه يتناوَل
شيئًا يقبض عليه. (2)
9616 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا خالد ، عن محمد قال ، قال
عبيدة : اللمس باليد.
9616م - قال [يعقوب] ، حدثنا ابن علية ، عن هشام ، عن محمد قال : سألت عبيدة عن
هذه الآية : " أو لامستم النساء " ، فقال بيده ، وضم أصابعه ، حتى عرفت
الذي أراد.
9617 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبيد الله بن
عمر ، عن نافع : أن ابن عمر كان يتوضأ من قُبْلة المرأة ، ويرى فيها الوضوء ، ويقول
: هي من اللِّماس. (3)
9618 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا محمد بن يزيد ، عن
__________
(1) قوله : " قال بيده " ، أي : أومأ بيده وأشار. وقوله : " فطبنت
ما عنى " ، أي : فطنت له وفهمته. يقال : " طبن الشيء يطبن طبنا وطبن له
" أي : فظن له. و " رجل طبن " : فطن حاذق عالم بكل شيء. وفي
المطبوعة : " فظننت ما عنى " ، ليست بشيء. وهي في المخطوطة ، سيئة
النقط. والصواب ما أثبته ، وسيأتي في الأثر رقم : 9616 : " حتى عرفت الذي
أراد " ، فهو المعرفة ، لا الظن كما ترى ، وكذلك الأثر رقم : 9626.
(2) " قال " في هذا الأثر ، في الموضعين ، بمعنى الإيماء والإشارة ، كما
أسلفت في التعليق السالف.
(3) " اللماس " (بكسر اللام) مصدر " لامسه ملامسة ولماسًا " .
(8/394)
إسماعيل ، عن عامر قال : الملامسة ما
دون الجماع.
9619 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا مُحِلّ بن محرز ، عن
إبراهيم قال : اللمس من شهوة ينقض الوضوء. (1) .
9620 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم
وحماد أنهما قالا اللمس ، ما دون الجماع.
9621 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن
عطاء قال : الملامسة ، ما دون الجماع.
9622 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص ، عن أشعث ، عن الشعبي ، عن أصحاب عبد الله
، عن عبد الله قال : الملامسة ، ما دون الجماع.
9623 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن عامر ، عن عبد الله قال :
الملامسة ، ما دون الجماع.
9624 - قال حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله مثله.
9624م - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن
عبد الله مثله.
9625 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بشر ، عن سعيد ، عن أبي معشر ، عن
إبراهيم قال ، قال عبد الله الملامسة ، ما دون الجماع. ثم قرأ : " أو لامستم
النساء فلم تجدوا ماء " .
9626 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن هشام ، عن ابن سيرين قال : سألت
عبيدة عن : " أو لامستم النساء " ، فقال بيده هكذا ، فعرفت ما يعني.
__________
(1) الأثر : 9619 - " محل بن محرز الضبي الكوفي الأعور " . روى عن أبي
وائل : وإبراهيم النخعي ، والشعبي. أدخله البخاري في الضعفاء ، فقال ابن أبي حاتم
: " سمعت أبي قال : يحول من هناك " . قال يحيى القطان : " كان وسطا
، ولم يكن بذاك " . وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
و " محل " بضم
الميم ، وكسر الحاء ، واللام مشددة.
(8/395)
9627 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي
، عن أبيه وحسن بن صالح ، عن منصور عن هلال بن يساف ، عن أبي عبيدة قال : القبلة
من اللمس.
9628 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، عن زهير ، عن خصيف ، عن أبي عبيدة
: القبلة والشيء. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : " عنى الله
بقوله : " أو لامستم النساء " ، الجماع دون غيره من معاني اللمس "
، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم
يتوضأ.
9629 - حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي قال ، أخبرنا أبو بكر بن عياش ، عن
الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله
عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل ، ثم يصلِّي ولا يتوضأ. (2)
9630 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن
عروة ، عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه ، ثم خرج إلى
الصلاة ولم يتوضأ. قلت : من هي إلا أنت ؟ فضحكت. (3)
__________
(1) قوله : " والشيء " ، هكذا هي في المطبوعة ، وفي المخطوطة "
السي " غير منقوطة ، وأخشى أن يكون صوابها " والمس " .
(2) الحديثان : 9639 - 9630 - عروة ، في هذين الإسنادين : هو عروة بن الزبير ، ابن
أخت عائشة ، على اليقين ، خلافًا لمن زعم أنه " عروة المزني " ، من اجل
كلمة قالها الثوري : " ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني " ! فإنه إن لم
يحدثه عن عروة بن الزبير ، فقد حدث غيره عنه.
والحديث رواه أحمد في المسند 6 : 210 (حلبي) ، عن وكيع - بالإسناد الثاني هنا -
وفيه صراحة " عن عروة بن الزبير " . وكذلك جاء التصريح بأنه " عروة
بن الزبير " ، في رواية ابن ماجه : 502 ، من طريق وكيع. فارتفع كل شك وكل
إشكال.
وكلمة الثوري رواها أبو داود في سننه ، عقب الحديث : 180 ، بصيغة التمريض : "
روى عن الثوري " . ثم نقضها هو نفسه ، فقال : " وقد روى حمزة الزيات ،
عن حبيب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة - حديثًا صحيحًا " .
والحديث رواه أيضًا أبو داود : 179 ، والترمذي : 86 (بشرحنا) - كلاهما من طريق
وكيع ، به. وفيهما " عن عروة " فقط ، كما هنا.
وقد أطال العلماء الكلام في تعليل هذا الحديث ، وخالفهم آخرون ، فأثبتوا صحته
" عن عروة بن الزبير " . وهو الصواب. وفصلنا القول فيه في شرحنا للترمذي
1 : 133 - 142. وأثبتنا صحته ، وترجيح القول بأن " الملامسة " في هذه
الآية هي الجماع ، وأن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. ولم نر حاجة لتكرار ذلك
والإطالة به هنا.
وانظر السنن الكبرى للبيهقي ، ورد ابن التركماني عليه 1 : 123 - 127 ، وابن كثير 2
: 465 - 466.
(3) الحديثان : 9639 - 9630 - عروة ، في هذين الإسنادين : هو عروة بن الزبير ، ابن
أخت عائشة ، على اليقين ، خلافًا لمن زعم أنه " عروة المزني " ، من اجل
كلمة قالها الثوري : " ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني " ! فإنه إن لم
يحدثه عن عروة بن الزبير ، فقد حدث غيره عنه.
والحديث رواه أحمد في المسند 6 : 210 (حلبي) ، عن وكيع - بالإسناد الثاني هنا -
وفيه صراحة " عن عروة بن الزبير " . وكذلك جاء التصريح بأنه " عروة
بن الزبير " ، في رواية ابن ماجه : 502 ، من طريق وكيع. فارتفع كل شك وكل
إشكال.
وكلمة الثوري رواها أبو داود في سننه ، عقب الحديث : 180 ، بصيغة التمريض : "
روى عن الثوري " . ثم نقضها هو نفسه ، فقال : " وقد روى حمزة الزيات ،
عن حبيب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة - حديثًا صحيحًا " .
والحديث رواه أيضًا أبو داود : 179 ، والترمذي : 86 (بشرحنا) - كلاهما من طريق
وكيع ، به. وفيهما " عن عروة " فقط ، كما هنا.
وقد أطال العلماء الكلام في تعليل هذا الحديث ، وخالفهم آخرون ، فأثبتوا صحته
" عن عروة بن الزبير " . وهو الصواب. وفصلنا القول فيه في شرحنا للترمذي
1 : 133 - 142. وأثبتنا صحته ، وترجيح القول بأن " الملامسة " في هذه
الآية هي الجماع ، وأن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. ولم نر حاجة لتكرار ذلك والإطالة
به هنا.
وانظر السنن الكبرى للبيهقي ، ورد ابن التركماني عليه 1 : 123 - 127 ، وابن كثير 2
: 465 - 466.
(8/396)
9631 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا حفص
بن غياث ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن زينب السهمية ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم : أنه كان يقبَّل ثم يصلي ولا يتوضأ. (1)
9632 - حدثنا أبو زيد عمر بن شبة قال ، حدثنا شهاب بن عباد قال ، حدثنا مندل ، عن
ليث ، عن عطاء ، عن عائشة وعن أبي روق ، عن إبراهيم التيمي ، عن عائشة قالت : كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلةَ بعد الوضوء ، ثم لا يعيد الوضوء
(2)
__________
(1) الحديث : 9631 - حجاج : هو ابن أرطاة.
زينب السهمية : هي بنت محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. فهي عمة عمرو بن شعيب.
وذكرها ابن حبان في الثقات. وزعم الدارقطني أنها مجهولة!
والحديث في هذه الرواية مرسل ، لأن زينب السهمية تابعية ، لا صحابية.
وقد رواه أحمد في المسند موصولا 6 : 62 (حلبي) ، عن محمد بن فضيل ، عن الحجاج ، عن
عمرو بن شعيب ، عن زينب السهمية ، عن عائشة. فارتفع الإرسال.
وكذلك رواه ابن ماجه : 503 ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن محمد بن فضيل ، به ،
موصولا.
وأعله بعض الحفاظ بأن الحجاج بن أرطاة مدلس ، وأنه رواه هنا بقوله : " عن
عمرو بن شعيب " ، لم يصرح بالتحديث.
(2) الحديث : 9632 - هذا الحديث يرويه الطبري هنا من وجهين :
فيرويه عن عمر بن شبة ، عن شهاب بن عباد ، عن مندل. ثم يرويه مندل عن ليث ، عن
عطاء ، عن عائشة - ويرويه مندل أيضًا عن أبي روق ، عن إبراهيم التيمي ، عن عائشة.
عمر بن شبة أبو زيد : مضت ترجمته في : 6310. شهاب بن عباد العبدي الكوفي أبو عمر :
ثقة من شيوخ البخاري ومسلم. قال ابن عدي : " كان من خيار الناس " .
مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2 / 2 / 236 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 363.
ووقع اسمه محرفًا في المخطوطة والمطبوعة " سهاد بن عباد " ! ولا يوجد
راو بهذا الاسم. ووقع أيضًا محرفًا تحريفًا آخر في ابن كثير 2 : 466 " هشام
بن عباد " ! نقلا عن هذا الموضع من الطبري. وثبت على الصواب في المخطوطة
الأزهرية من تفسير ابن كثير (2 : 301 نسخة مصورة عندي).
مندل - بفتح الميم والدال بينهما نون ساكنة - : هو ابن علي العنزي ، بفتح النون ،
الكوفي. وهو مختلف فيه بين التوثيق والتضعيف. والراجح - عندي - أنه حسن الحديث.
وهو مترجم في التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 73 ، وابن سعد 6 : 265 ، وابن أبي حاتم 4
/ 1 / 434 - 435.
ليث : هو ابن أبي سليم.
عطاء : هو ابن أبي رباح.
وأبو روق : هو عطية بن الحارث الهمداني. مضى توثيقه في : 137.
والحديث من الوجه الأول : رواية " عطاء عن عائشة " - رواه أيضًا البزار
في مسنده ، من طريق محمد بن موسى بن أعين ، عن أبيه ، عن عبد الكريم الجزري ، عن
عطاء ، عن عائشة ، به. نقله ابن التركماني في الجوهر النقي 1 : 125 (مع السنن
الكبرى) ، والزيلعي في نصب الراية 1 : 74 (طبعة مصر). وهذا إسناد صحيح ، ولا علة
له.
وقد رواه الدارقطني ، ص : 50 ، من طريق عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن
عطاء ، عن عائشة. وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكن الدارقطني حاول إعلاله بعلة غير
قادحة. فذكر أن الثوري رواه عن عبد الكريم ، عن عطاء ، فقط ، من قوله يعني : من
كلام عطاء. وقال : " وهو الصواب " ! وهذه علة متهافتة. فالوصل والرفع
زيادتان من ثقة ، فهما مقبولتان.
تنبيه : وقع في الجوهر النقي في هذا الحديث " عن عبد الكريم ، عن عائشة
" ، دون ذكر " عن عطاء " . وهو خطأ مطبعي لا شك فيه. بدلالة نقل
الزيلعي ، وبأن باقي الكلام في الجوهر النقي يدل على أنه " عن عطاء عن عائشة
" - يقينا.
والحديث من الوجه الثاني : رواية إبراهيم التيمي ، عن عائشة - رواه أحمد في المسند
6 : 210 (حلبي) ، عن وكيع ، عن سفيان - وهو الثوري - عن أبي روق ، به.
وكذلك رواه أبو داود : 178 ، والنسائي 1 : 39 ، والدارقطني ، ص 50 ، 51 ، والبيهقي
1 : 126 - 127 ، كلهم من طريق الثوري ، عن أبي روق ، به. وقال أبو داود : "
هو مرسل. إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة شيئًا " . وقال النسائي : "
ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلا " . وأشار إليه
الترمذي 1 : 138 (بشرحنا) ، وقال : " وهذا لا يصح أيضًا. ولا نعرف لإبراهيم
التيمي سماعًا عن عائشة " .
وهذا الحديث قد روي موصولا أيضًا ، من رواية إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن عائشة.
وقد بينت ذلك مفصلا في شرح الترمذي.
ثم للحديث إسناد آخر صحيح عن عائشة :
فرواه الدارقطني ، ص : 49 ، من طريق سعيد بن بشير ، عن منصور ، عن الزهري ، عن أبي
سلمة ، عن عائشة. ونقله عنه الزيلعي وابن التركماني.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 247 ، وقال : " رواه الطبراني في الأوسط.
وفيه سعيد بن بشير : وثقه شعبة وغيره ، وضعفه يحيى وجماعة " . و " سعيد
بن بشير " رجحنا توثيقه في : 5439.
(8/397)
9633 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثني أبي قال ، حدثني
(8/398)
يزيد بن سنان ، عن عبد الرحمن الأوزاعي
، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أم سلمة : أنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يقبِّلها وهو صائم ، ثم لا يفطر ، ولا يحدث وضوءًا. (1)
ففي صحة الخبر فيما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الدلالةُ الواضحة على
أنّ " اللمس " في هذا الموضع ، لمس الجماع ، لا جميع معاني اللمس ، كما
قال الشاعر :
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا... إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا (2)
يعني بذلك : ننك لماسًا. (3)
* * *
__________
(1) الحديث : 9633 - هذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة. ولم أجده في مسند أحمد
أيضًا.
ونقله ابن كثير 2 : 466 ، عن الطبري ، ولم ينسبه لغيره.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 247 ، وقال : " رواه الطبراني في الأوسط.
وفيه يزيد بن سنان الرهاوي : ضعفه أحمد ويحيى وابن المديني ، ووثقه البخاري وأبو
حاتم ، وثبته مروان بن معاوية. وبقية رجاله موثقون " . ويزيد هنا ، مختلف فيه
كما قال الهيثمي. والراجح عندنا توثيقه. وهو مترجم في التهذيب ، وترجمه البخاري في
الكبير 4 / 2 / 337 ، فلم يذكر فيه جرحًا ، ولم يذكره في الضعفاء ، وترجمه ابن أبي
حاتم 4 / 2 / 266.
(2) مضى تخريجه في 4 : 126 ، تعليق : 1.
(3) قوله : " لماسًا " أي ، ملامسة. وكأنه جعل " اللميس "
مصدرًا من " اللمس " ، مثل " المسيس " مصدرًا من " المس
" . وهو قول غريب لم أجده عند غيره. بل أكثرهم يقول : " لميس : اسم
امرأة " ، ومعنى " امرأة لميس " : هي المرأة اللينة الملمس.
(8/399)
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جنابة ، وفيهم جراح. (1)
9634 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن محمد
بن جابر ، عن حماد ، عن إبراهيم ، في المريض لا يستطيع الغُسل من الجنابة ، أو
الحائض ، قال : يجزيهم التيمم. وقال : أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
جراحة ففشت فيهم ، (2) ثم ابتلوا بالجنابة ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه
وسلم ، فنزلت : " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط "
، الآية كلها.
* * *
وقال آخرون : نزلت في قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أعوَزَهم الماء فلم
يجدوه في سفر لهم.
*ذكر من قال ذلك :
9635 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، سمعت عبيد الله
بن عمر ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن عائشة أنها قالت : كنت في مَسِير مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كنا بذات الجيش ضلَّ عِقدي ، (3) فأخبرت بذلك
النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالتماسه ، فالتُمِس فلم يوجد ، فأناخ النبي صلى
الله عليه وسلم وأناخ الناس ، فباتوا ليلتهم تلك ، فقال الناس : حبست عائشة النبي
صلى الله عليه وسلم! قالت : فجاء إليّ أبو بكر ورأس النبي صلى الله عليه
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وهم جراح " ، و " جريح " جمعه
" جرحى " ، لا يجمع على " جراح " ، ولم أجد من نص عليه ، أو
على شذوذ على القياس. ورجحت أن الناسخ كتب " وهم " مكان " وفيهم
" فأثبتها كذلك.
(2) في المطبوعة " ونال أصحاب رسول الله... " مكان : " وقال : أصاب
أصحاب رسول الله " ، كأنه أخطأ قراءة المخطوطة.
(3) " ضل الشيء " : إذا ضاع.
(8/400)
وسلم في حجري وهو نائم ، فجعلَ
يَهمِزُني ويَقْرصني ويقول (1) من أجل عقدك حبست النبيَّ صلى الله عليه وسلم! قالت
: فلا أتحرك مخافة أن يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أوجعني ، فلا أدري
كيف أصنع! فلما رآني لا أُحير إليه ، انطلق. (2) فلما استيقظ النبي صلى الله عليه
وسلم وأراد الصلاة فلم يجد ماء ، قالت : فأنزل الله تعالى آية التيمم. قالت : فقال
ابن حضير : ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر! (3)
9636 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة
: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر ، ففقدت عائشة قلادة لها ، فأمر الناس
بالنزول ، فنزلوا وليس معهم ماء. فأتى أبو بكر على عائشة فقال لها : شَقَقت على
الناس! وقال أيوب بيده ، يصف أنه قرصها (4) قال : وَنزلت آية التيمم ، ووُجدت
القلادة في مُناخ البعير ، فقال الناس : ما رأينا قط امرأة أعظم بركة منها! (5)
__________
(1) همز صاحبه : غمزه بيده ولمزه ونخسه.
(2) يقال : " أحار عليه جوابه ، وأحار له جوابًا ، فهو يحير " ، إذا رد
عليه. ويقال : " ما أحار بكلمة " ، و " ما أحار إلى جوابًا "
. أي ما رد جوابًا. وقولها : " لا أحير إليه " ، أي : ما أجيبه ولا
أكمله.
وكان في المطبوعة : " لا أجير " بالجيم ، وهو خطأ. والصواب ما أثبت من
المخطوطة.
(3) الحديث : 9635 - عبيد الله بن عمر : هو العمري ، أحد الفقهاء السبعة.
وهذا الحديث ظاهره الإرسال. لأنه - هنا - من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن عائشة.
وعبد الرحمن لم يدرك أن يسمع من عمة أبيه عائشة.
وسيأتي بنحوه : 9641 ، من رواية عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة -
متصلا. ونخرجه هناك ، إن شاء الله.
(4) قوله : " قال بيده " أي أومأ وأشار ، كما سلف مرارًا.
(5) الحديث : 9636 - وهذا أيضًا مرسل ، لأن ابن أبي مليكة حكى القصة دون أن يذكر
من حدثه. وهو تابعي.
وسيأتي نحو معناه : 9639 ، من رواية ابن أبي مليكة ، عن ذكوان حاجب عائشة.
وسيأتي أيضًا : 9642 ، من رواية ابن أبي مليكة ، عن قصة ابن عباس وعائشة ، دون
واسطة ذكوان.
(8/401)
9637 - حدثني محمد بن عبد الله الهلالي
قال ، حدثني عمران بن محمد الحداد قال ، حدثني الربيع بن بدر قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن رجل منا ، من بَلَعْرَج ، (1) يقال له الأسلع قال : كنت أخدم النبي صلى
الله عليه وسلم وأرحَلُ له ، فقال لي ذات ليلة : يا أسلع ، قم فارحلْ لي. قلت : يا
رسول الله ، أصابتني جنابة! فسكت ساعة ، ثم دعاني وأتاه جبريل عليه السلام بآية
الصعيد ، ووصف لنا ضربتين. (2)
__________
(1) " بلعرج " يعني : بني الأعرج ، كما يقولون في " بني العنبر
" " بلعنبر " ، وكان حقه أن يكون " بلأعرج " ، (بفتح
الباء وسكون اللام وفتح الهمزة) ، ولكنه عاد فسهل الهمزة ، وألقى حركتها على اللام
، فصارت مفتوحة الباء واللام ساكنة العين. و " بنو الأعرج " هم : بنو
الأعرج بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. واسم " الأعرج " : الحارث ،
قطعت رجله ، كما ذكر أبو عبيدة في النقائض : 1025.
(2) الحديث : 9637 - محمد بن عبد الله الهلالي - شيخ الطبري - مضى في : 1275 ،
6180.
عمران بن محمد الحداد : لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من المراجع.
الربيع بن بدر بن عمرو بن جراد السعدي الأعرجي ، ولقبه " عليلة " : ضعيف
مجمع على ضعفه.
أبوه " بدر " ، وجده " عمرو بن جراد " : فيهما جهالة. فلم يرو
عنهما غير الربيع بن بدر ، وهو ضعيف كما قلنا.
والحديث رواه الطبري عقب هذا ، من طريق عمرو بن خالد ، عن الربيع ، به ، نحوه.
ورواه ابن سعد في الطبقات 7 / 1 / 45 ، في ترجمة " الأسلع " ، عن مسلم
بن إبراهيم ، عن الربيع بن بدر. ووقع عنوان الترجمة فيه هكذا " ميمون بن
سنباذ الأسلع " . وهو تخليط من الطابع. فإن " ميمون بن سنباذ " غير
" الأسلع " وإنما هي عنوان مستقل ، دون ترجمة ، كما يقع في ابن سعد
كثيرًا ، ثم " الأسلع " عنوان ترجمة أخرى.
ورواه الدارقطني ، ص : 66 ، والطحاوي في معاني الآثار 1 : 67 - 68 ، والبيهقي في
السنن الكبرى 1 : 208 - كلهم من طريق الربيع بن بدر. وقال البيهقي : " الربيع
بن بدر ضعيف ، إلا أنه غير منفرد به " .
ونقله الزيلعي في نصب الراية 1 : 153 ، ونقل كلام البيهقي ، وتعقبه بأن هذا لا
يكفي في الاحتجاج به حتى يعلم الوجه الآخر ودرجته. وكذلك تعقبه ابن التركماني في
الجوهر النقي.
والوجه الآخر الذي أشار إليه البيهقي - نقله ابن كثير 2 : 472 - 473 ، من رواية
ابن مردويه ، من طريق العباس بن أبي سرية ، " حدثني الهيثم بن رزيق المالكي ،
من بني مالك بن كعب بن سعد ، وعاش مائة وسبعة عشر سنة ، عن أبيه ، عن الأسلع بن
شريك... " - فذكر الحديث ، بنحوه.
و " العباس بن أبي سرية " : لم أعرف من هو ؟ ولم أجد له ترجمة.
و " الهيثم بن رزيق " : ترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 83 - 84 ، ولم يذكر
فيه جرحًا ، وأشار إلى هذه الرواية. وله ترجمة موجزة في لسان الميزان 6 : 206 ،
ولم يذكر أنه يروي عن أبيه. و " رزيق " : بتقديم الراء ، كما في المشتبه
، ص : 221 ، والمخطوطة الأزهرية من ابن كثير 2 : 307. ووقع مغلوطًا في المراجع
التي نشير إليها.
وأبوه " رزيق " : ترجمه ابن أبي حاتم 1 / 2 / 504 (في باب الراء).
وقد رواه أيضًا الطبراني في الكبير ، من هذا الوجه. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد
1 : 261 - 262 ، وقال : " وفيه الهيثم بن رزيق. قال بعضهم : لا يتابع على حديثه
" .
وذكر الهيثمي أيضًا رواية الربيع بن بدر ، بلفظين 1 : 262 ، ونسبهما للطبراني في
الكبير ، وأعلمهما بضعف الربيع.
وذكر الحافظ ابن حجر هذه الروايات في الإصابة 1 : 34 - 35 ، في ترجمة "
الأسلع " . وفيها فوائد كثيرة.
(8/402)
9638 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن
وهب قال ، حدثنا عمرو بن خالد قال ، حدثني الربيع بن بدر قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن رجل منا يقال له الأسلع ، قال : كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم فذكر
مثله إلا أنه قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا (1) أو قال : ساعةً ،
الشك من عمرو قال : وأتاه جبريل عليه السلام بآية الصعيد ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : قم يا أسلع فتيمم. قال : فتيممت ثم رحَلت له. قال : فسرنا حتى
مررنا بماء ، فقال : يا أسلع ، مَسَّ أو : أمِسّ بهذا جلدك. قال : وأراني التيمم ،
كما أراه أبوه : ضربة للوجه ، وضربة لليدين والمرفقين. (2)
9639 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا حفص بن بُغيل قال ، حدثنا زهير بن معاوية قال ،
حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم قال ، حدثني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة
: أنه حدثه ذكوان أبو عمرو ، حاجبُ عائشة : أن ابن عباس دخل عليها في مرضها فقال :
أبشري ، كنت أحبَّ نساء رسول الله صلى
__________
(1) قوله : " شيئًا " ، أي قليلا ، وقد فسر في هذا الخبر ، " ساعة
" وقد أسلفت شرح ذلك بشواهده ، وأنه من نوادر اللغة التي أغفلتها المعاجم في
6 : 448 ، تعليق : 2.
(2) في المطبوعة : " إلى المرفقين " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(8/403)
الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، ولم يكن رَسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ إلا طيبًا ، وسقطت
قلادتك ليلة الأبْوَاء ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقطها حتى أصبح في
المنزل ، فأصبح الناس ليس معهم ماء ، فأنزل الله : " تيمموا صعيدًا طيبًا
" ، فكان ذلك من سببك ، وما أذن الله لهذه الأمة من الرخصة. (1)
9640 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة
: أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت ، (2) فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
رجالا في طلبها ، فوجدوها. وأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء ، فصلوا بغير وضوء.
فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله آية التيمم. فقال أسيد
بن حضير لعائشة : جزاك الله خيرًا ، فوالله ما نزل بك أمر
__________
(1) الحديث : 9639 - حفص ين بغيل الهمداني المرهبي الكوفي : مترجم في التهذيب ،
وابن أبي حاتم 1 / 2 / 170 ، ولم يذكر فيه جرحًا ، فهو ثقة. و " بغيل "
: بضم الباء الموحدة وفتح الغين المعجمة. ووقع في المطبوعة " نفيل " .
وهو تصحيف. وفي المخطوطة غير منقوط.
عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة : هو التابعي المعروف. وقد مضت ترجمته في :
6605 ، ووقع في المطبوعة " عبد الله بن عبيد الله عن ابن أبي مليكة " !
جعل راويين. وهو خطأ صرف ، فليس في شيوخ عبد الله بن عثمان بن خثيم ، ولا في
تلاميذ ابن أبي مليكة - من يسمى " عبد الله بن عبيد " ، بالاستقصاء التام
الذي في تهذيب الكمال (مخطوط مصور). وابن خثيم يروي عن ابن أبي مليكة مباشرة.
ثم هذا الحديث - بعينه - معروف من روايته عنه ، كما سيأتي.
ذكوان أبو عمرو المدني ، حاجب عائشة ومولاها : تابعي ثقة. مترجم في التهذيب ،
والكبير للبخاري 2 / 1 / 238 ، وابن سعد 5 : 218 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 451.
والحديث قطعة من حديث طويل ، رواه أحمد في المسند : 2496 ، عن معاوية بن عمرو ، عن
زائدة ، عن ابن خثيم ، عن ابن أبي مليكة ، عن ذكوان.
ثم رواه أيضًا : 3262 ، بمعناه ، عن عبد الرازق ، عن معمر ، عن ابن خثيم.
وسيأتي مختصرًا ، بنحوه ، من طريق ابن عيينة : 9642.
وكان استئذان ابن عباس على عائشة ، حين كانت تموت. ولذلك قال لها ابن عباس حينذاك
: " أبشري ، ما بينك وبين أن تلقي محمدًا صلى الله عليه وسلم والأحبة ، إلا
أن تخرج الروح من الجسد " . رضي الله عنها وأرضاها.
وقوله : " وما أذن الله لهذه الأمة من الرخصة " - هذا هو الصواب الثابت
في المطبوعة ، وهو الموافق لرواية المسند 2496. ويؤيده ما في الرواية الأخرى منه :
3262 : " فكان في ذلك رخصة للناس عامة في سببك " . ووقع في المخطوطة هنا
" لهذه الآية " . وهو خطأ لا معنى له.
(2) قوله : " هلكت " ، أي انقطعت وضاعت وضلت.
(8/404)
تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه
خيرًا! (1)
9641 - حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال ، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال ،
أخبرني عمرو بن الحارث : أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه ، عن أبيه ، عن عائشة زوج
النبي صلى الله عليه وسلم : أنها قالت : سقطت قلادة لي بالبَيداء ، ونحن داخلون
إلى المدينة ، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل. فبينا رسول الله صلى الله
عليه وسلم في حِجْري راقد ، أقبل أبي فلكزني لَكْزة ثم قال : حبست الناس! ثم إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ وحَضرت الصبح ، فالتمس الماء فلم يوجد ،
ونزلت : " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " الآية. قال أسيد
بن حضيرك لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر! ما أنتم إلا بركة! (2)
9642 - حدثني الحسن بن شبيب قال ، حدثنا ابن عيينة قال ، حدثنا عبد الله بن عثمان
بن خثيم ، عن عبد الله بن أبي مليكة قال : دخل ابن عباس على عائشة فقال : كنتِ
أعظم المسلمين بركة على المسلمين! سقطت قلادتك بالأبواء ، فأنزل الله فيك آية
التيمم! (3)
* * *
__________
(1) الحديث : 9640 - رواه أحمد في المسند 6 : 57 (حلبي) ، عن ابن نمير بهذا
الإسناد.
وكذلك رواه البخاري 1 : 373 (فتح) ، من طريق ابن نمير.
ورواه مسلم 1 : 109 - 110 ، وأبو داود : 317 ، وابن ماجه : 568 ، والبيهقي في
السنن الكبرى 1 : 214 - من طرق ، عن هشام بن عروة ، نحوه.
ونقله ابن كثير 2 : 471 ، عن رواية المسند.
وانظر الحديث التالي لهذا.
(2) الحديث : 9641 - مضى معناه بإسناد منقطع : 9635 ، من رواية عبد الرحمن بن
القاسم ، عن عائشة. وأما هذا فمتصل ، يرويه عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن
عائشة.
وقد رواه مالك في الموطأ ، ص : 53 - 54 ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن
عائشة.
وكذلك رواه أحمد في المسند 6 : 179 (حلبي) ، والبخاري 1 : 365 - 368 (فتح). ومسلم
1 : 109 ، والنسائي 1 : 59 - كلهم من طريق مالك.
ونقله ابن كثير 2 : 471 - 472 ، عن رواية البخاري.
(3) الحديث : 9642 - الحسن بن شبيب بن راشد بن مطر ، أبو علي المؤدب ، شيخ الطبري
: ترجمه ابن أبي حاتم ترجمة موجزة 1 / 2 / 18 ، وترجمه الخطيب في تاريخ بغداد 7 :
328 ، والحافظ في لسان الميزان 2 : 213 - 214. وقال ابن عدي : " حدث عن
الثقات بالبواطيل ، ووصل أحاديث هي مرسلة " . وقال الدارقطني : " يعتبر
به ، وليس بالقوي " .
وهذا الحديث عن هذا الشيخ فيه غلط يقينًا ولعله من تخليطه!! فإنه يرويه عن ابن
عيينة ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم - مباشرة ، بالتصريح بالسماع. وهذا - في
ذاته - ممكن ، لأن ابن عيينة سمع من ابن خثيم. ولكن هذا الحديث بعينه ليس كذلك :
فقد رواه أحمد في المسند : 1905 ، بأطول مما هنا - عن سفيان ، وهو ابن عيينة :
" عن معمر ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم " . فأثبت الواسطة بين ابن
عيينة وابن خثيم. ولا نستسيغ أن نوازن بين الإمام أحمد وهذا الشيخ " الحسن بن
شبيب " .
وقد رواه - بنحوه - البخاري 8 : 371 - 372 ، وابن سعد في الطبقات 8 : 51 ، كلاهما
من طريق عمر بن سعيد بن أبي حسين ، عن ابن أبي مليكة.
وفي هذه الروايات الثلاث ، كما في رواية الطبري هنا : أنه من حكاية ابن أبي مليكة
للقصة ، دون أن يذكر أنه أخبره بها " ذكوان حاجب عائشة " ، كما مضى في
الرواية : 9639.
والراجح عندي أن تكون هذه الروايات مرسلة ، وأن ابن أبي مليكة لم يشهد احتضار عائشة
ودخول ابن عباس عليها ، وأنه سمع ذلك من مولاها ذكوان. ولكن حاول الحافظ في الفتح
التكلف في احتمال أن يكون شهد ذلك. وهو تكلف بعيد.
(8/405)
واختلفت القرأة في قراءة قوله : "
أو لامستم النساء " .
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين : ( أَوْ لامَسْتُمُ )
بمعنى : أو لمستم نساءكم ولَمَسْنَكم.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : ( أو لمستم النساء ) بمعنى : أو لمستم ، أنتم أيها
الرجال ، نساءكم. وهما قراءتان متقاربتا المعنى. لأنه لا يكون الرجل لامسًا امرأته
إلا وهي لامِستُه. فـ " اللمس " في ذلك يدل على معنى " اللِّماس
" ، و " اللماس " على معنى " اللمس " من كل واحد منهما
صاحبه. فبأي القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب ، لاتفاق معنييهما.
* * *
(8/406)
القول في تأويل قوله : { فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فلم تجدوا ماء " ، " أو
لمستم النساء ، فطلبتم الماء لتتطَّهروا به فلم تجدوه بثمن ولا غير ثمن "
فتيمموا " يقول : فتعمَّدوا.
* * *
وهو : " تفعَّلوا " من قول القائل : " تيممت كذا " إذا قصدته
وتعمدته " فأنا أتيمّمه " ، وقد يقال منه : " يَمَّمه فلان فهو
يُيممه " ، و " أمّمته أنا " و " أمَمْته " خفيفة ، و
" تيممت وتأمَّمت " ، ولم يسمع فيها " يَمَمْت " خفيفة. (1)
ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
تَيَمَّمْتَ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ... مِنَ الأرْضِ مِنْ مَهْمَةٍ ذِي شَزَنْ (2)
يعني بقوله : " تيمَّمت " ، تعمدت وقصدت. (3)
* * *
وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله : " فَأُمُّوا صَعِيدًا " .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9643 - حدثني عبد الله بن محمد قال ، حدثنا عبدان قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ،
سمعت سفيان يقول في قوله : " فتيمموا صعيدًا طيبًا " ، قال : تحرَّوا
وتعمَّدوا صعيدًا طيبًا. (4)
* * *
__________
(1) بل روى ذلك اللحياني فقال : " أمو ، ويموا " .
(2) سلف البيت وشرحه وتخريجه في 5 : 558.
(3) انظر تفسير : " تيمم " فيما سلف 5 : 558 ، 559.
(4) الأثر : 9643 - " عبد الله بن محمد " هو : " عبد الله بن محمد
بن يزيد ، أبو محمد الحنفي " و " عبدان " ، هو : " عبد الله
بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد الأزدي " .
مضت ترجمتهما برقم : 5000 ، ومضى هذا الإسناد نفسه برقم : 5009 ، 6198 ، 6200 ،
وانظر الإسناد التالي : 9648 ، 9676.
(8/407)
وأما " الصعيد " ، فإن أهل
التأويل اختلفوا فيه.
فقال بعضهم : هو الأرض الملساء التي لا نَبات فيها ولا غِرَاس.
*ذكر من قال ذلك :
9644 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة :
" صعيدًا طيبًا " ، قال : التي ليس فيها شجر ولا نبات.
* * *
وقال آخرون : بل هو الأرض المستوية.
*ذكر من قال ذلك :
9645 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " الصعيد "
، المستوي.
* * *
وقال آخرون : بل " الصعيد " ، التراب.
*ذكر من قال ذلك :
9646 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير قال ، حدثنا عمرو بن قيس الملائي
قال : الصعيد ، التراب. (1)
* * *
وقال آخرون : " الصعيد " ، وجه الأرض.
* * *
وقال آخرون : بل هو وجه الأرض ذاتِ التراب والغُبَار.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى ذلك بالصواب قول من قال : " هو وجه الأرض الخالية من
النبات والغُروس والبناء ، المستوية " ، ومنه قول ذي الرمة :
__________
(1) الأثر : 9646 - " الحكم بن بشير بن سلمان " ، مضت ترجمته برقم :
1497 ، 6171. وكان في المطبوعة والمخطوطة : " الحكم بن بشر " ، وهو خطأ.
" عمرو بن قيس الملائي " مضت ترجمته : 886 ، 6171.
(8/408)
كَأنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي
الصَّعِيدَ بِهِ... دَبَّابَةٌ في عِظَامِ الرَّأسِ خُرْطُومُ (1)
يعني : تضرب به وجه الأرض.
* * *
وأما قوله : " طيبًا " ، فإنه يعني به : طاهرًا من الأقذار والنجاسات.
(2)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : " طيبًا " .
فقال بعضهم : حلالا.
*ذكر من قال ذلك :
9647 - حدثني عبد الله بن محمد قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن المبارك
قال ، سمعت سفيان يقول في قوله : " صعيدًا طيبًا " قال ، قال بعضهم :
حلالا.
* * *
وقال بعضهم بما : -
9648 - حدثني عبد الله قال ، حدثنا عبدان قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج
قراءة ، قال : قلت لعطاء : " فتيمموا صعيدًا طيبًا " ، قال : طيّب ما
حولك. (3) قلت : مكان جَرْدٌ غير بَطِح ، (4) أيجزئ عني ؟ قال : نعم. (5)
* * *
__________
(1) ديوانه : 571 ، من قصيدته المحكمة المشهورة. والبيت من أبياته في ذكر ظبية
أودعت ولدها الصغير بين أشجار ، فإذا ارتفعت شمس الضحى نال منه التعب ، فانطرح على
الأرض ، كأنه سكران أثقله النعاس. وقوله : " دبابة " : تدب في أوصال
شاربها ، يعني الخمر. وكان في المطبوعة : " وما به " ، وهو خطأ. و
" خرطوم " ، صفة للخمر السريعة الإسكار ، تأخذ شاربها حتى يشمخ بخرطومه
- أي : أنفه - من شدة السكر وغلبته.
(2) انظر تفسير " طيب " فيما سلف 3 : 301 / 5 : 555 / 7 : 424.
(3) في المطبوعة : " الطيب ما حولك " ، وكان مثلها في المخطوطة ، إلا
أنه ضرب على الألف واللام.
(4) قوله : " جرد " (بفتح فسكون) : وهي الأرض الفضاء لا نبت فيها ،
وكأنه عنى أنها كانت ذات نبات ثم جردها الشتاء والقحط. وقوله : " بطح "
على وزن " فرح " وهو الرمل في البطحاء ، وهو " الأبطح " ،
أيضًا ، وهو أرض ترابها سهل لين فيه دقاق الحصى. وكان في المطبوعة : " غير
أبطح " ، ولكني أثبت ما في المخطوطة.
(5) الأثر : 9648 - انظر التعليق على الإسناد السالف رقم : 9643.
(8/409)
ومعنى الكلام : فإن لم تجدوا ماء ،
أيها الناس ، وكنتم مرضى ، أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لمستم
النساء ، فأردتم أن تصلّوا " فتيمموا " ، يقول : فتعمدوا وجه الأرض
الطاهرة " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم " .
* * *
القول في تأويل قوله : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم ، ولكنه ترك ذكر
" منه " ، اكتفاء بدلالة الكلام عليه.
* * *
و " المسح منه بالوجه " ، أن يضرب المتيمم بيديه على وجه الأرض الطاهر ،
أو ما قام مقامه ، فيمسَح بما علق من الغُبار وجهه. فإن كان الذي علق به من
الغُبار كثيرًا فنفخ عن يديه أو نفضه ، فهو جائز. وإن لم يعلَق بيديه من الغبار
شيء وقد ضرب بيديه أو إحداهما الصعيد ، ثم مسح بهما أو بها وجهه ، أجزأه ذلك ، لإجماع
جميع الحجَّة على أن المتيمم لو ضرب بيديه الصعيد وهو أرض رمل فلم يعلق بيديه منها
شيء فتيمم به ، أن ذلك مجزئَه ، لم يخالف ذلك من يجوز أن يُعْتَدّ خلافًا. (1)
فلما كان ذلك إجماعًا منهم ، كان معلومًا أن الذي يراد به من ضَرْب الصعيد باليدين
، مباشرةُ الصعيد بهما ، بالمعنى الذي أمرً الله بمباشرته بهما ، لا لأخْذِ ترابٍ
منه.
* * *
وأما " المسح باليدين " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في الحدِّ الذي أمر
الله بمسحه من اليدين.
__________
(1) في المطبوعة : " أن يعتد بخلافه " ، غير ما في المخطوطة ، وهو معرق
في الصواب. وقوله : " يعتد خلافًا " أي : يحسب خلافا. وأقام "
خلافًا " المصدر ، صفة مثل " عدل " ، ومعناه : الذي يعد خلافه
خلافًا.
(8/410)
فقال بعضهم : حدّ ذلك الكفّان إلى
الزَّندين ، وليس على المتيمم مسح ما وراء ذلك من الساعدين.
*ذكر من قال ذلك :
9649 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن حصين ، عن أبي
مالك قال : تيمّم عمّارٌ فضرب بيديه إلى التراب ضربةً واحدة ، ثم مسح بيديه واحدة
على الأخرى ، ثم مسح وجهه ، ثم ضرب بيديه أخرى ، فجعل يلوي يَدَه على الأخرى ، ولم
يمسح الذراع. (1)
9650 - حدثنا أبو السائب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن ابن أبي خالد قال : رأيت
الشعبي وصفَ لنا التيمم : فضرب بيديه إلى الأرض ضربة ، ثم نفضهما ومسح وجهه ، ثم
ضرب أخرى ، فجعل يلوي كفَّيه إحداهما على الأخرى. ولم يذكر أنه مسح الذراع.
9651 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، عن أبي مالك قال : وضع عمار
بن ياسر كفيه في التراب ، ثم رفعهما فنفخهما ، فمسح وجهه وكفيه ، ثم قال : هكذا
التيمم.
9652 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا أبو تميلة قال ، حدثنا سلام مولى حفص قال ،
سمعت عكرمة يقول : التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة للكفين.
9653 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن سعيد وابن
جابر : أن مكحولا كان يقول : التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع ويتأوّل مكحول
القرآن في ذلك : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ )
[سورة المائدة : 6] ، وقوله في التيمم : " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم " ،
ولم يستثن فيه كما استثنى في الوضوء " إلى المرافق " قال مكحول : قال
الله
__________
(1) الأثر : 9649 - رواه بغير هذا اللفظ ، البيهقي في السنن الكبرى 1 : 210 ،
وانظر الأثر الآتي رقم : 9651.
(8/411)
( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) [سورة المائدة : 38] ، فإنما تقطع يد السارق من
مَفصِل الكوع.
9654 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا بشر بن بكر التنيسي ، عن
ابن جابر : أنه رأى مكحولا يتيمم ، يضرب بيديه على الصعيد ، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه
بواحدةٍ.
9655 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي قال :
التيمم ضربة للوجه والكفين.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة من الأثر ، ما :
9656 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبدة ومحمد بن بشر ، عن ابن أبي عروبة ، عن
قتادة ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن عمار بن ياسر : أنه سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التيمم ، فقال : مرة للكفين والوجه (1) وفي حديث
ابن بشر : أن عمارًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن التيمم. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " على الوجه " ، والصواب ما في المخطوطة.
(2) الحديث : 9656 - سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، مولى خزاعة : تابعي ثقة. أخرج
له الجماعة.
أبوه : عبد الرحمن بن أبزى ، له صحبة ، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم معه.
والحديث رواه أحمد في المسند 4 : 263 (حلبي) ، عن عفان ، عن أبان ، عن قتادة ، عن
عزرة ، عن سعيد بن عبد الرحمن ، بهذا الإسناد ، نحوه.
فزاد في الإسناد " عن عزرة " بين قتادة وسعيد.
وعزرة : هو ابن عبد الرحمن بن زراة الخزاعي. مضت ترجمته في : 2752 ، 2753.
وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى ، ص : 67 ، من طريق عفان ، عن أبان.
وكذلك رواه أبو داود : 327 ، والترمذي : 144 بشرحنا - كلاهما من طريق يزيد بن زريع
، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عزرة ، به.
وقال الترمذي : " حديث عمار حديث حسن صحيح. وقد روى عن عمار من غير وجه
" .
وكذلك رواه البيهقي 1 : 210 ، من طريق عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد بن أبي عروبة.
ثم قال البيهقي : " وكذلك رواه جماعة عن ابن أبي عروبة. ورواه عيسى بن يونس ،
عن ابن أبي عروبة - دون ذكر عزرة في إسناده. وكذلك رواه أبان بن يزيد العطار ، عن
قتادة ، واختلف عليه في ذكر عزرة في إسناده.
ورواه الدارمي 1 : 190 ، عن عفان - وهو الشيخ الذي رواه عنه أحمد بن حنبل ، عن
أبان بن يزيد العطار ، عن قتادة ، عن سعيد بن عبد الرحمن - بدون ذكر عزرة في
الإسناد.
أفيكون هذا من الاختلاف على " أبان " الذي أشار إليه البيهقي ؟ قد يكون.
ولكني أراه بعيدًا ، لأن هذا إنما هو في النسخة المطبوعة من الدارمي ، وهي مملوءة
بالغلط والتحريف ، لا يعتمد عليها. وقد ثبت ذكر " عن عزرة " في مخطوطة
عتيقة صحيحة بدار الكتب ، من كتاب الدارمي. فهي العمدة في ذلك - إلى أن شيخ
الدارمي هو شيخ أحمد. وقد رواه عنه بزيادة " عن عزرة " ، كما ذكرنا
آنفًا.
وأيا ما كان فالإسناد صحيح ، لأن قتادة يروي أيضًا عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى
مباشرة. ولكن الذين زادوا " عزرة " في الإسناد أكثر وأحفظ ممن لم يذكره.
وإن صح الإسنادان ، فلعله يكون من المزيد في متصل الأسانيد.
ولكن متن الحديث هنا محرف " مرة بالكفين على الوجه " ! وهذا لا معنى له.
وصوابه في المخطوطة : " مرة للوجه والكفين " . وهو الموافق لمعنى الحديث
في الروايات الأخر. ولفظ المسند : " ضربة للوجه والكفين " أيضًا.
والحديث ذكره ابن كثير 2 : 469 ، عن رواية المسند. ووقع فيه (مخطوطًا ومطبوعًا)
" عروة " بدل " عزرة " . وهو تحريف من الناسخين.
(8/412)
9657 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا
عبيد بن سعيد القرشي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبزى ، قال : جاء رجل إلى عمر
فقال : إنّي أجنبت فلم أجد الماء! فقال عمر : لا تصل. فقال له عمار : أما تذكر
أنّا في مسيرٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجنبت أنا وأنت ، فأما أنت
فلم تصل ، وأما أنا فتمعَّكت في التراب وصلَّيت ، (1) فأتيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقال : " إنما كان يكفيك " ، وضرَب كفّيه
الأرض ، ونفخ فيهما ، ومسح وجهه وكفيه مرة واحدة ؟ (2)
__________
(1) " تمعك في التراب " : تمرغ فيه.
(2) الحديث : 9657 - عبيد بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص ، القرشي الأموي : ثقة
، وثقه أحمد ، وابن معين ، وغيرهما. وهو أخو " يحيى بن سعيد الحافظ " .
الحكم : هو ابن عتيبة الكندي.
ابن أبزى : هو سعيد بن عبد الرحمن ، المترجم في الحديث الذي قبل هذا.
والحديث على ظاهر الإسناد الذي هنا - يكون منقطعًا ، فإنه يكون من رواية سعيد بن
عبد الرحمن بن أبزى للحادثة في عهد عمر ، وهو لم يدرك ذلك يقينًا ، لأنه من صغار
التابعين. وهو إنما يروي هذا عن أبيه.
فلا أدري أوقعت هذه الرواية للطبري هكذا ، أم هو تخليط من الناسخين.
وأما الحديث في ذاته فهو صحيح من هذا الوجه :
فقد رواه أحمد في المسند 4 : 265 (حلبي) ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ،
عن ذر - وهو ابن عبد الله المرهبي الهمداني - عن ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه
: " أن رجلا أتى عمر... " ، إلخ.
وكذلك رواه الطيالسي ، عن شعبة ، بنحوه : 638.
وكذلك رواه البخاري 1 : 375 - 377 ، بأسانيد من طريق شعبة.
وكذلك رواه مسلم 1 : 110 ، وأبو داود : 324 - 326 ، والنسائي 1 : 59 - 60 ، و60 -
61 ، وابن ماجه : 569 ، والبيهقي في السنن الكبرى 1 : 209 - 210 ، بأسانيد - كلهم
من طريق شعبة ، به نحوه.
ففي كل هذه الأسانيد أنه من رواية سعيد عن أبيه. أما زيادة " ذر بن عبد الله
المرهبي " في الإسناد بين الحكم وسعيد. فإنه ثبت عند الشيخين - البخاري ومسلم
- تصريح الحكم بأنه سمعه من " ابن عبد الرحمن بن أبي أبزى عن أبيه ، مثل حديث
ذر " . فقد سمعه عن سعيد بالواسطة ، ثم سمعه منه مباشرة.
وسيأتي حديثان آخران لعمار في شأن التيمم : 9670 ، 9672.
(8/413)
وقالوا : أمر الله في التيمم بمسح
الوجه واليدين ، فما مسح من وجهه ويديه في التيمم أجزأه ، إلا أن يمنع من ذلك ما
يجب التسليم له من أصل أو قياس.
* * *
وقال آخرون : حدُّ المسح الذي أمر الله به في التيمم ، أن يمسح جميع الوجه واليدين
إلى المرفقين.
*ذكر من قال ذلك :
9658 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوراث بن سعيد قال ، حدثنا
أيوب عن نافع : أن ابن عمر تيمم بمربد النعم ، (1) فضرب ضربة فمسح وجهه ، وضرب
ضربة فمسح يديه إلى المرفقين.
9659 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر قال : سمعت عبيد الله ،
__________
(1) " المربد " (بكسر فسكون) : المكان تحبس فيه الإبل والغنم. و "
مربد النعم " بالمدينة.
(8/414)
عن نافع ، عن عبد الله أنه قال :
التيمم مسحتان ، يضرب الرجل بيديه الأرض يمسح بهما وجهه ، ثم يضرب بهما مرة أخرى
فيمسح يديه إلى المرفقين. (1)
9660 - حدثني ابن المثنى قال ، حدثنا يحيى بن عبيد الله قال ، أخبرني نافع ، عن
ابن عمر في التيمم قال : ضربة للوجه ، وضربة للكفين إلى المرفقين.
9661 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس ، عن عبيد الله ، عن نافع
، عن ابن عمر قال : كان يقول في المسح في التيمم : إلى المرفقين. (2)
9662 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا ابن عون قال :
سألت الحسن عن التيمم ، فضرب بيديه على الأرض فمسح بهما وجهه ، وضرب بيديه فمسح
بهما ذراعيه ظاهرَهما وباطنهما.
9663 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عامر : أنه
قال في هذه الآية : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) [سورة المائدة :
6] ، وقال في هذه الآية( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) (3)
[سورة المائدة : 6] ، قال : أمر أن يمسح في التيمم ، ما أمر أن يغسل في الوضوء ،
وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء : الرأس والرجلان.
9664 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية وحدثنا ابن المثنى قال ، حدثني محمد بن
أبي عدي جميعًا ، عن داود ، عن الشعبي في التيمم قال :
__________
(1) في المخطوطة : " ثم يمسح بهما مرة أخرى " ، والصواب ما في المطبوعة.
(2) الآثار : 9658 - 9661 - انظر ما أخرجه البيهقي في سننه 1 : 207 من أثر ابن
عمر.
(3) هذه الآية من سورة المائدة ، وفيها " منه " ، أما آية سورة النساء
التي نحن فيها ، فليس فيها " منه " ، ولكن ثبت في المخطوطة " منه
" ، فرددتها إلى آية المائدة.
(8/415)
ضربة للوجه ، ولليدين إلى المرفقين.
(1)
9665 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : أمر بالتيمم
، فيما أمر بالغسل.
9666 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب قال : سألت سالم بن عبد الله
عن التيمم ، فضرب بيديه على الأرض ضربة فمسح بهما وجهه ، ثم ضرب بيديه على الأرض
ضربة أخرى ، فمسح بهما يديه إلى المرفقين.
9667 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، وأخبرنا حبيب بن الشهيد ، عن الحسن
: أنه سئل عن التيمم فقال : ضربة يمسح بها وجهه ، ثم ضربة أخرى يمسح بها يديه إلى
المرفقين.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة : أن التيمم بدلٌ من الوضوء ، وعلى المتيمم أن يبلغ بالتراب
من وجهه ويديه ما كان عليه أن يبلغه بالماء منهما في الوضوء. (2) واعتلوا من الأثر
بما : -
9668 - حدثني به موسى بن سهلٍ الرملي قال ، حدثنا نعيم بن حماد قال ، حدثنا خارجة
بن مصعب ، عن عبد الله بن عطاء ، عن موسى بن عقبة ، عن الأعرج ، عن أبي جهيم قال :
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول ، فسلَّمت عليه ، فلم يرد عليَّ. فلما فرغ
قام إلى حائط فضرب بيديه عليه ، فمسح بهما وجهه ، ثم ضرب بيديه إلى الحائط فمسح
بهما يديه إلى المرفقين ، ثم ردَّ عليَّ السلام. (3)
__________
(1) في المطبوعة : " وضربة لليدين " ، زاد " ضربة " ، وأثبت
ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " على المتيمم " بإسقاط الواو ، وأثبتها من المخطوطة.
(3) الحديث : 9668 - نعيم بن حماد بن معاوية ، الخزاعي الفارضي : ثقة من شيوخ
البخاري ، تكلم فيه بعضهم بما لا يقدح. مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 4 / 2
/ 100 ، وابن سعد 7 / 2 / 205 - 206 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 463 - 464 ، وتاريخ
بغداد 13 : 306 - 314.
خارجة بن مصعب بن خارجة الخراساني : مختلف فيه جدًا. والأكثر على تضعيفه. ولكن
أعدل كلمة فيه كلمة الحاكم في المستدرك 1 : 499 ، قال : " خارجة لم ينقم عليه
إلا روايته عن المجهولين ، وإذا روى عن الثقات الأثبات فروايته مقبولة " .
عبد الله بن عطاء : إن لم يكن الطائفي المكي فلا أدري من هو ؟ وأخشى أن يكون من
المجهولين الذين يروي عنهم نعيم بن حماد.
الأعرج : هو عبد الرحمن بن هرمز ، التابعي الثقة المشهور. وما رأيت له رواية عن
أبي جهيم ، وما إخاله أدركه. وهو يروي هذا الحديث عن " عمير مولى ابن عباس
" عن أبي جهيم ، كما سيأتي.
فلا أدري أسقط هذا من نسخ الطبري ، أم هو هكذا في هذه الرواية ؟ فيكون من غلط نعيم
بن حماد ، أو من غلط شيخه عبد الله بن عطاء!
وقد نقله ابن كثير 2 : 468 - 469 ، كما ثبت هنا. فإن كان خطأ في النسخ ، كان خطأ
قديمًا.
أبو جهيم - بالتصغير - بن الحارث بن الصمة الأنصاري : صحابي معروف.
والحديث في أصله ثابت صحيح ، بغير إسناد الطبري هذا الذي لا يكاد يقوم!
فرواه البخاري 1 : 374 - 375 (فتح) : " حدثنا يحيى بن بكير ، قال : حدثنا
الليث [هو ابن سعد] ، عن جعفر بن ربيعة ، عن الأعرج ، سمعت عميرًا مولى ابن عباس ،
قال : أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ،
حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري ، فقال أبو جهيم : أقبل النبي
صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل ، فسلم عليه ، فلم يرد عليه النبي صلى الله
عليه وسلم حتى أقبل على الجدار ، فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه السلام " .
فهذه هي الرواية الصحيحة. أما ما هنا من زيادة " إلى المرفقين " - فهي
زيادة ضعيفة الإسناد كما ترى. وقد أشار الحافظ إلى روايتين أخريين فيهما : "
فمسح بوجهه وذراعيه " ، وضعفهما بضعف رواتهما ، وقال " والثابت في حديث
أبي جهيم بلفظ : يديه ، لا ذراعيه " .
وانظر السنن الكبرى للبيهقي 1 : 205.
ورواه أيضًا أبو داود : 329 ، والنسائي 1 : 59 - كلاهما من طريق الليث بن سعد ،
به.
وذكره مسلم في صحيحه 1 : 110 - 111 تعليقًا ، قال : " وروى الليث بن سعد
" - إلخ. ويظهر أنه لم يكن متوثقا منه. فوقع فيه وهم في موضعين : " عبد
الرحمن بن يسار " ، بدل " عبد الله بن يسار " . و " أبو جهم
" بالتكبير ، بدل " أبو جهيم " . وقد نص الحافظ في الفتح على وهمه
في الموضعين.
ورواه أيضًا أحمد في المسند : 17614 (ج4 ص169 حلبي) ، عن حسن بن موسى ، عن ابن
لهيعة : " حدثنا عن الرحمن الأعرج " ، فذكر الحديث ، كرواية البخاري.
ووقع للحافظ ابن حجر وهم شديد في هذه الرواية ، في الإصابة 7 : 35 ، في ترجمة أبي
جهيم ، فقال : " ورواه ابن لهيعة ، عن عبد الله بن يسار ، عن أبي جهيم! أخرجه
أحمد " ! ورواية أحمد ليست كما قال. بل هي كروايات البخاري وأبي داود
والنسائي ، اللاتي ذكرهن من قبل.
(8/416)
وقال آخرون : الحدّ الذي أمر الله أن يبلغ بالتراب إليه في التيمم : الآباط.
(8/417)
*ذكر من قال ذلك :
9669 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن البرقي قال ، حدثني عمرو بن أبي سلمة التنيسي ،
عن الأوزاعي ، عن الزهري قال : التيمم إلى الآباط.
وعلة من قال ذلك : أن الله أمر بمسح اليد في التيمم ، كما أمر بمسح الوجه. وقد
أجمعوا أن عليه أن يمسح جميع الوجه ، فكذلك عليه جميع اليد ، ومن طرف الكفّ إلى
الإبط " يدٌ " . واعتلوا من الخبر بما : -
9670 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا صيفي بن ربعي ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ،
عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي اليقظان قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فهلك عقد لعائشة ، (1) فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الصبح
، فتغيَّظ أبو بكر على عائشة ، فنزلت عليه الرخصة ، المسح بالصعيد. فدخل أبو بكر
فقال لها : إنك لمباركة! نزل فيك رخصة! فضربنا بأيدينا : ضربة لوجوهنا ، (2) وضربة
بأيدينا إلى المناكب والآباط. (3)
* * *
__________
(1) " هلك العقد " انقطع فضاع.
(2) في المطبوعة : " لوجهنا " بالإفراد ، والصواب من المخطوطة.
(3) الحديث : 9670 - صيفي بن ربعي الأنصاري : ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في
التهذيب. وترجمه ابن أبي حاتم 2 / 1 / 448 ، وروى عن أبيه ، قال : " صالح
الحديث ، ما أرى بحديثه بأسًا " . ووقعت ترجمته في مطبوعة ابن أبي حاتم في
ترجمتين برقمين ، اتباعًا لإحدى نسخه المخطوطة. ووهم مصححه الفاضل في ترجيحها على
المخطوطة الأخرى التي جعلت فيه ترجمة واحدة.
أبو اليقظان : هو عمار بن ياسر. وهذه كنيته.
والحديث رواه الطيالسي في مسنده : 637 ، عن ابن أبي ذئب ، بهذا الإسناد ، مطولا.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 1 : 208 ، من طريق الطيالسي.
ورواه أحمد في المسند 4 : 320 (حلبي) ، عن حجاج ، عن ابن أبي ذئب ، بهذا الإسناد.
ورواه ابن ماجه : 565 ، من طريق الليث بن سعد ، عن الزهري ، بهذا الإسناد.
والحديث من هذا الوجه بهذا الإسناد - منقطع ، لأن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
بن مسعود لم يدرك عمار بن يسار ، وروايته عنه مرسلة.
وقد ثبت أن عبيد الله سمعه من أبيه من عمار ، وسمعه من ابن عباس عن عمار. فاتصل
إسناده من هذين الوجهين :
قال البيهقي - بعد روايته - : " وكذلك رواه معمر بن راشد ، ويونس بن يزيد
الأيلي ، والليث بن سعد ، وابن أخي الزهري ، وجعفر بن برقان - عن الزهري ، عن عبيد
الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عمار " .
ثم رواه - بنحوه - من طريق مالك ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
" أنه أخبره عن أبيه ، عن عمار بن ياسر " .
وقال أبو داود - بعد الحديث : 320 ، الذي سنذكره بعد - قال : " وقال مالك :
عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبيه ، عن عمار. وكذلك قال أبو أويس ،
عن الزهري " .
ورواه ابن ماجه : 566 ، من طريق سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، وهو ابن دينار ، عن
الزهري : " عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبيه ، عن عمار بن ياسر " -
مختصرًا.
وأما من رواية عبيد الله عن ابن عباس : فرواه أحمد في المسند 4 : 263 - 264 ، من
طريق صالح - وهو ابن كيسان - عن الزهري : " حدثني عبيد الله بن عبد الله ، عن
ابن عباس ، عن عمار بن ياسر " - فذكره مطولا.
وكذلك رواه البيهقي 1 : 208 - 209 ، من طريق أحمد في المسند.
وذكره ابن كثير 2 : 472 ، من رواية المسند.
وكذلك رواه أبو داود : 320 ، والنسائي 1 : 60 - كلاهما من طريق صالح ، عن الزهري ،
به - بذكر ابن عباس في الإسناد.
وقال الطيالسي - بعد الحديث : 637 ، الذي ذكرناه آنفًا - : " روى هذا الحديث
محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن عمار
" .
وكذلك نص أبو داود في السنن ، والبيهقي - بعد روايتهما الحديث من طريق صالح - على
أن ابن إسحاق رواه عن الزهري ، وذكر فيه " عن ابن عباس " .
وأياما كان : فالحديث صحيح. ولسنا نرى هذا اضطرابًا ، بل هي طرق متعددة ثابتة ، لا
تكون واحدة منها علة لغيرها.
(8/418)
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك : أن الحدّ الذي لا يجزئ المتيمم أن يقصِّر عنه في مسحه بالتراب من يديه : الكفان إلى الزّندين ، لإجماع الجميع على أن التقصير عن ذلك غير جائز. ثم هو فيما جاوز ذلك مخيّر ، إن شاء بلغ بمسحه المرفقين ، وإن شاء الآباط. والعلة التي من أجلها جعلناه مخيرًا فيما جاوز الكفين : أن الله لم يحدَّ في مسح ذلك بالتراب في التيمم حدًّا لا يجوز التقصير عنه. فما مسح المتيمم من يديه أجزأه ، إلا ما أُجمع عليه ، أو قامت الحجة بأنه لا يجزئه التقصير عنه. وقد أجمع الجميعُ على أن التقصير عن الكفين غير
(8/419)
مجزئ ، فخرج ذلك بالسنة ، (1) وما عدا
ذلك فمختلف فيه. وإذا كان مختلفًا فيه ، وكان الماسح بكفيه داخلا في عموم الآية
كان خارجًا مما لزمه من فرض ذلك.
* * *
واختلف أهل التأويل في الجنب ، هل هو ممن دخل في رخصة التيمم إذا لم يجد الماء أم
لا ؟
فقال جماعة من أهل التأويل من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين : حكم
الجنب فيما لزمه من التيمم إذا لم يجد الماء ، حكم من جاء من الغائط وسائر من
أحدَث ممن جُعل التيمم له طهورًا لصلاته. وقد ذكرت قول بعض من تأوّل قول الله :
" أو لامستم النساء " ، أو جامعتموهن ، وتركنا ذكر الباقين لكثرة من قال
ذلك.
* * *
واعتلَّ قائلو هذه المقالة ، بأن للجنب التيمم إذا لم يجد الماء في سفره ، بإجماع
الحجة على ذلك نقلا عن نبيها صلى الله عليه وسلم ، الذي يقطع العذر ويزيل الشك.
* * *
وقال جماعة من المتقدمين : لا يجزئ الجنب غيرُ الاغتسال بالماء ، وليس له أن يصلي
بالتيمم ، والتيمم لا يطهره. قالوا : وإنما جعل التيمم رخصة لغير الجنب. وتأولوا
قول الله : " ولا جنبًا إلا عابري سبيل " . قالوا : وقد نهى الله الجنب
أن يقرب مصَلَّى المسلمين إلا مجتازًا فيه حتى يغتسل ، ولم يرخِّص له بالتيمم.
قالوا : وتأويل قوله : " أو لامستم النساء " أو لامستموهن باليد ، دون
الفرج ، ودون الجماع.
قالوا : فلم نجد الله رخص للجنب في التيمم ، بل أمره بالغسل ، وأن لا يقرب الصلاة
إلا مغتسلا. قالوا : والتيمم لا يطهِّره لصلاته.
*ذكر من قال ذلك :
9671 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا أبو معاوية ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " فخرج ذلك بالسنة " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(8/420)
الأعمش ، عن شقيق قال : كنت مع عبد
الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري ، فقال أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن ، أرأيت
رجلا أجنبَ فلم يجد الماء شهرًا ، أيتيمم ؟ فقال عبد الله : لا يتيمم وإن لم يجد
الماء شهرًا. فقال أبو موسى : فكيف تصنعون بهذه الآية في " سورة المائدة
" : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ) [سورة المائدة : 6] ؟ فقال عبد الله
: إن رُخّص لهم في هذا ، لأوشكوا إذا بَرَد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد! فقال
له أبو موسى : إنما كرهتم هذا لهذا! قال : نعم! قال أبو موسى : ألم تسمع قول عمار
لعمر : " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة ، فأجنبت فلم أجد الماء
، فتمرَّغت في الصعيد كما تَمَرَّغ الدابة. قال : فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه
وسلم فقال : إنما يكفيك أن تصنع هكذا وضرب بكفيه ضربة واحدة ، ومسح بهما وجهه ،
ومسح كفيه " ؟ قال عبد الله : ألم تر عُمرَ لم يقنع لقول عمار ؟ (1)
9672 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن سلمة ، عن
أبي مالك ، وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، قال : كنا عند عمر بن الخطاب
رحمه الله ، (2) فأتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا
__________
(1) الحديث : 9671 - أبو السائب : هو سلم بن جنادة ، مضت ترجمته في : 48 شقيق : هو
ابن سلمة ، أبو وائل الأسدي ، التابعي الكبير المخضرم.
والحديث رواه أحمد في المسند 4 : 264 - 265 (حلبي) ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش
بهذا الإسناد.
وكذلك رواه البخاري 1 : 386 (فتح) ، ومسلم 1 : 110 ، وأبو داود : 321 : والنسائي 1
: 61 - كلهم من طريق أبي معاوية عن الأعمش.
ورواه أحمد أيضًا 4 : 265 ، من طريق عبد الواحد ، وهو ابن زياد العبدي ، عن الأعمش
، به ، بنحوه.
ونقله ابن كثير 2 : 269 عن هذه الرواية من المسند.
وكذلك رواه مسلم 1 : 110 ، من طريق عبد الواحد.
ورواه البيهقي 1 : 211 ، من طريق يعلى بن عبيد ، عن الأعمش. ثم قال : " أخرجه
البخاري ومسلم ، من أوجه عن الأعمش. وأشار البخاري إلى رواية يعلى بن عبيد ، وهو
أثبتهم سياقة للحديث " . وإشارة البخاري هي فيه 1 : 387 ، عقب رواية أبي
معاوية.
(2) في المطبوعة : " رضي الله عنه " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(8/421)
نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء!
فقال عمر : أمّا أنا ، فلو لم أجد الماء لم أكن لأصلِّي حتى أجد الماء. قال عمار
بن ياسر : أتذكر يا أمير المؤمنين ، حيث كنا بمكان كذا وكذا ، ونحن نرعي الإبل ،
فتعلم أنّا أجنبنا ؟ قال : نعم! فأما أنا فتمرغت في التراب ، فأتينا النبي صلى
الله عليه وسلم قال : إن كان الصعيد لكَافيك! وضرب بكفَيه الأرض ، ثم نفخ فيهما ،
ثم مسح وجهه وبعضَ ذراعيه ؟ فقال : اتق الله يا عمار! فقال : يا أمير المؤمنين ،
إن شئت لم أذكره! فقال : لا ولكن نُوَلِّيك من ذلك ما تولَّيت. (1)
9673 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم
قال : سمعت إبراهيم في دُكان مسلم الأعور ، فقلت : أرأيت إن لم تجد الماء وأنت جنب
؟ قال : لا أصلي. (2)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك : أن الجنب ممن أمره الله بالتيمم إذا لم
يجد الماء ، والصلاةِ (3) بقوله : " أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا
صعيدًا طيبًا " . وقد بينا ثَمَّ أن معنى " الملامسة " ، في هذا
الموضع : الجماع ، بنقل الحجة التي لا يجوزُ الخطأ فيما نقلته مجمعةً عليه ، ولا
السهو ولا التواطؤ والتشاعر ، (4) بأن حكم الجنب في ذلك حكم سائر من أحدث فلزمه
التطهر لصلاته مع ما قد روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار
التي قد ذكرنا بعضها ، وتركنا ذكر كثير منها ، استغناءً بما ذكرنا منها عما لم
نذكر ، وكراهة منا إطالة الكتاب باستقصاء جميعه.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فلم تجدوا ماء فتيمموا " ، وهل
ذلك أمر من الله بالتيمم كلما لزمه طلب الماء ، (5) أم ذلك أمر منه بالتيمم كلما
لزمه الطلب وهو محدِثَ حدثًا يجب عليه منه الوضوء بالماء ، لو كان للماء واجدًا ؟
فقال بعضهم : ذلك أمر من الله بالتيمم كلما لزمه فرضُ الطلب بعد الطلب ، محدثًا
كان أو غير محدث.
*ذكر من قال ذلك :
9674 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن الحجاج ، عن أبي إسحاق ،
__________
(1) الحديث : 9672 - عبد الرحمن : هو ابن مهدي.
سفيان : هو الثوري.
سلمة : هو ابن كهيل. مضت ترجمته في 439 ، 2435.
أبو مالك : هو غزوان الغفاري ، وهو تابعي معروف ، مضى مرارًا.
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى : ثقة. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 /
94 وهو أخو " سعيد بن عبد الرحمن " المترجم في : 9656 ، 9657.
ووقع في الطبري هنا من الناسخين يقينًا ، إذ سقط منه مخطوطًا ومطبوعًا [عن عبد
الرحمن بن أبزى]. فصار ظاهر الإسناد أن عبد الله بن عبد الرحمن هو الذي كان عند
عمر وحكى القصة! وما كان هذا قط ، لأن عبد الله لم يدرك ذلك ، وليست له رواية إلا
عن أبيه. ولا يحتمل السياق هنا أن يكون هذا اختلاف رواية.
ثم مما يقطع بذلك أن النسائي روى هذا الحديث 1 : 60 ، عن محمد بن بشار - شيخ
الطبري هنا - بهذا الإسناد نفسه ، وفيه : [عن عبد الرحمن بن أبزى] ، التي زدناها
هنا.
وكذلك رواه أحمد في المسند 4 : 319 (حلبي) ، عن عبد الرحمن بن مهدي - شيخ شيخ الطبري
هنا ، بهذا - الإسناد. وفيه هذه الزيادة. ولكن وقع في مطبوعة المسند خطأ مطبعي
" عن أبي ثابت " بدل " عن أبي مالك " ، وصححناه من مخطوطة
المسند التي عندنا.
فالحديث يرويه سلمة بن كهيل ، عن شيخين ، هما : أبو مالك ، وعبد الله بن عبد
الرحمن بن أبزى - كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي أبزى.
وقد أشار البيهقي 1 : 209 - 210 إلى روايات لسلمة بن كهيل في هذا الحديث ، زعمها
اضطرابًا من سلمة ، ولكن الظاهر أنها اختلاف روايات من الرواة عنه.
وقوله - في متن الحديث - " قال : نعم. فأما أنا فتمرغت... " - هذا هو
الثابت أيضًا في رواية النسائي. وفي طبعة مصر " أما أنا " بدون الفاء.
وهو سياق صحيح ، على تقدير حذف " قال " بعد قوله " نعم " .
لظهور أن قوله " فأما أنا " من كلام عمار بن ياسر ، لا من كلام عمر.
ومثل هذا كثير. ولفظ المسند في هذا الموضع : " قال : نعم ، قال : فإني تمرغت
في التراب " .
(2) الأثر : 9673 - " مسلم الأعور " ، هو " مسلم بن كيسان الضبي
" ، ضعيف يتكلمون فيه ، ولكن ليس له مدخل في هذا الأثر. و " إبراهيم
" هو النخعي.
(3) قوله : " والصلاة " مجرورًا عطفًا على " أمره الله بالتيمم...
والصلاة " .
(4) " التشاعر " ، التعالم والتواطؤ. وقد سلفت هذه الكلمة في 6 : 127 ،
تعليق : 2 و155 ، تعليق : 1. وكان في المطبوعة : " والتضافر " ، غيرها
إذ لم يفهمها.
(5) في المطبوعة : " هل ذلك أمر " بحذف الواو ، وأثبت ما في المخطوطة.
(8/422)
عن الحارث ، عن علي رضي الله عنه أنه
كان يقول : التيمم لكل صلاة.
9675 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ،
أخبرنا هشيم قال ، أخبرنا الحجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي مثله.
9676 - حدثني عبد الله بن محمد قال ، حدثنا عبدان المروزي قال ، أخبرنا ابن
المبارك قال ، أخبرنا عبد الوراث قال ، أخبرنا عامر الأحول ، عن نافع : أنه حدثه
عن ابن عمر مثل ذلك. (1)
9677 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، أخبرنا مجالد ، عن الشعبي
قال : لا يصلى بالتيمم إلا صلاة واحدة.
9678 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سعيد ، عن
قتادة قال : يتيمم لكل صلاة ويتأوّل هذه الآية : " فلم تجدوا ماء " .
9679 - قال أخبرنا ابن المبارك قال ، حدثنا الفريابي ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن
سعيد وعبد الكريم بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قالوا : التيمم لكل صلاة. (2)
9680 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا عمران القطان ، عن
قتادة ، عن النخعي قال : يتيمم لكل صلاة.
* * *
وقال أخرون : بل ذلك أمرٌ من الله بالتيمم بعد طلب الماء مَنْ لزمه فرض الطلب إذا
كان محدثًا. فأما من لم يكن أحدث بعد تطهره بالتراب ، فلزمه فرض الطلب ، فليس عليه
تجديد تيممه ، وله أن يصلي بتيممه الأول.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 9676 - انظر التعليق على الأثر : 9643.
(2) الأثر : 9679 - " يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري " القاضي ، روى عن
أنس. و " عبد الكريم بن أبي المخارق " ، الفقيه روى عن أنس.
" وربيعة بن أبي عبد الرحمن التيمي " ، وهو : ربيعة الرأي ، صاحب الفتوى
بالمدينة. وكان في المطبوعة والمخطوطة : " وعبد الكريم بن ربيعة بن أبي عبد
الرحمن " ، وهو خطأ ، ولا يستقيم مع السياق أيضًا.
(8/424)
9681 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ،
حدثنا سفيان بن حبيب ، عن يونس ، عن الحسن قال : التيمم بمنزلة الوضوء.
9682 - حدثنا إسماعيل بن موسى السدي قال ، حدثنا عمر بن شاكر ، عن الحسن قال :
يصلي المتيمم بتيممه ما لم يحدث ، فإن وجد الماء فليتوضأ. (1)
9683 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا هشام ، عن الحسن قال :
كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم يحدث. وكذلك التيمم.
9684 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا هشام ، عن الحسن قال :
كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد.
9685 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن
الحسن قال : يصلي الصلوات بالتيمم ما لم يحدث.
9686 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا سفيان بن حبيب ، عن ابن جريج ، عن عطاء
قال : التيمم بمنزلة الوضوء.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب ، قول من قال : " يتيمم
المصلي لكل صلاة لزمه طلب الماء للتطهر لها فرضًا " ، لأن الله جل ثناؤه أمر
كل قائم إلى الصلاة بالتطهر بالماء ، فإن لم يجد الماء فالتيمم. ثم أخرج القائمَ
إلى الصلاة من كان قد تقدم من قيامه إليها الوضوء بالماء (2) سنةُ رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، (3) إلا أن يكون قد أحدث حدثًا ينقض طهارته ، فيسقط فرض الوضوء
عنه بالسنة. وأما القائم إليها وقد تقدم قيامه إليها بالتيمم لصلاة قبلها ، ففرض
التيمم له لازم بظاهر التنزيل ، بعد طلبه الماء إذا أعوزه.
* * *
__________
(1) الأثر : 9682 - " عمر بن شاكر البصري " . يروي عن أنس المناكير. روى
عنه إسماعيل بن موسى السدي الفزاري. مترجم في التهذيب.
(2) في المطبوعة : " قد تقدم قيامه إليها " ، بحذف " من " ،
وهي صواب في مكانها ، كما في المخطوطة.
(3) قوله : " سنة رسول الله " مرفوع ، فاعل قوله : " ثم أخرج
القائم... سنة رسول الله " .
(8/425)
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الله لم يزل (1) " عفوا " ، عن
ذنوب عباده ، (2) وتركه العقوبة على كثير منها ما لم يشركوا به ، كما عفا لكم ،
(3) أيها المؤمنون ، عن قيامكم إلى الصلاة التي فرضها عليكم في مساجدكم وأنتم
سكارى " غفورًا " ، يقول : فلم يزل يستر عليهم ذنوبهم بتركه معاجلتهم
العذابَ على خطاياهم ، كما ستر عليكم ، أيها المؤمنون ، بتركه معاجلتكم على صلاتكم
في مساجدكم سكارى. يقول : فلا تعودوا لمثلها ، فينالكم بعودكم لما قد نهيتكم عنه
من ذلك ، مُنَكِّلَة. (4)
* * *
القول في تأويل قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ
الْكِتَابِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى قوله جل ثناؤه : " ألم تر إلى
الذين " . فقال قوم : معناه : ألم تخبر ؟
* * *
وقال آخرون : معناه ألم تعلم ؟ (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " كان " بمعنى : لم يزل ، فيما سلف 7 : 523 / 8 : 51 ،
88 ، 98 ، 229.
(2) انظر تفسير " العفو " فيما سلف 7 : 215 ، 327.
(3) في المطبوعة : " كما عفا عنكم " ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة.
(4) قوله : " منكلة " (بضم الميم وفتح النون وتشديد الكاف مكسورة) من
التنكيل : وهو إنزال العقاب الشديد ، إذا رآه غير نكل عنه وحذره. ولو قرئت :
" منكلة " ، (بفتح الميم وسكون النون واللام المفتوحة) ، لكانت صوابًا ،
ومثلها : " المنكل " وهو النكال أيضًا.
(5) انظر تفسير " ألم تر " فيما سلف 3 : 160 / 5 : 429 ، 430 / 6 : 288
ومعاني القرآن للفراء 1 : 270.
(8/426)
قال أبو جعفر : والصواب من القول في
ذلك : ألم تر بقلبك ، يا محمد ، علمًا (1) " إلى الذين أوتوا نصيبًا " .
وذلك أن " الخبر " و " العلم " لا يجليان رؤية ، ولكنه رؤية
القلب بالعلم. فذلك كما قلنا فيه. (2)
* * *
وأما تأويل قوله : " إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب " ، فإنه يعني :
إلى الذين أعطوا حظَّا من كتاب الله فعلموه (3)
وذكر أن الله عنى بذلك طائفة من اليهود الذين كانوا حوالَيْ مُهاجَر رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك :
9687 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا
السبيل " ، فهم أعداء الله اليهود ، اشتروا الضلالة.
9688 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
عكرمة : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب " إلى قوله : "
يحرفون الكلم عن مواضعه " ، قال : نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب اليهودي.
(4)
9689 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق
__________
(1) في المخطوطة : " ألم تر بعلمك " ، وهو خطأ ، صوابه ما في المبطوعة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " لذلك " ، وصواب السياق ما أثبت.
(3) انظر تفسير " الإيتاء " في فهارس اللغة وتفسير " النصيب "
فيما سلف 4 : 206 / 6 : 288 / 8 : 274.
(4) هكذا في المخطوطة أيضًا " رفاعة بن زيد بن السائب " ، وسترى أنه :
" ... بن زيد بن التابوت " في الأثر التالي ، وأسماء يهود مشكلة ، فلم
أستطع أن أقطع بخطئها ، فلعل " السائب " اسم جده ، ولقبه " التابوت
" .
(8/427)
قال ، (1) حدثني محمد بن أبي محمد مولى
زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن
زيد بن التابوت من عظمائهم - يعني من عظماء اليهود إذا كلم رسول الله صلى الله
عليه وسلم لوى لسانه وقال : " راعنا سمعَك ، يا محمد حتى نفهمك " ! ثم
طعن في الإسلام وعابه ، فأنزل الله : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من
الكتاب يشترون الضلالة " إلى قوله : " فلا يؤمنون إلا قليلا " (2)
9690 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، (3) بإسناده ، عن ابن
عباس ، مثله.
* * *
__________
(1) كان في المطبوعة والمخطوطة : " عن أبي إسحاق " ، وهو خطأ فاحش.
(2) الأثر : 9689 - سيرة ابن هشام 2 : 209 ، وهو تال للأثر السالف رقم : 9501.
(3) في المطبوعة وحدها : " عن أبي إسحاق " ، والمخطوطة صواب هنا.
(8/428)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
القول في تأويل قوله : { يَشْتَرُونَ
الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يشترون الضلالة " ، اليهود
الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب ، يختارون الضلالة وذلك : الأخذ على غير طريق الحقّ
، وركوبُ غير سبيل الرشد والصواب ، مع العلم منهم بقصد السبيل ومنهج الحق. (1)
وإنما عنى الله بوصفهم باشترائهم الضلالة : مقامهم على التكذيب بمحمد صلى الله
عليه وسلم ، وتركهم الإيمان به ، وهم عالمون أنّ السبيل الحقَّ الإيمانُ به ،
__________
(1) انظر تفسير " الاشتراء " فيما سلف 1 : 312 - 315 / 2 : 340 - 342 ،
455 / 3 : 328 / 6 : 527 وتفسير " الضلالة " 1 : 195 ، 313 / 2 : 495 ،
496 / 6 : 66 ، 500 ، 584 / 7 : 369.
(8/428)
وتصديقه بما قد وجدوا من صفته في كتبهم
التي عندهم.
* * *
وأما قوله : " ويريدون أن تضلوا السبيل " ، يعني بذلك تعالى ذكره :
ويريد هؤلاء اليهود الذين وصَفهم جل ثناؤه بأنهم أوتوا نصيبًا من الكتاب " أن
تضلوا " أنتم ، يا معشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، المصدقين به "
أن تضلوا السبيل " ، يقول : أن تزولوا عن قصد الطريق ومَحَجَّة الحق ،
فتكذبوا بمحمد ، وتكونوا ضلالا مثلهم.
وهذا من الله تعالى ذكره تحذيرٌ منه عبادَه المؤمنين ، أن يستنصحوا أحدًا من أعداء
الإسلام في شيء من أمر دينهم ، أو أن يسمعوا شيئًا من طعنهم في الحق.
* * *
ثم أخبر الله جلّ ثناؤه عن عداوة هؤلاء اليهود الذين نهى المؤمنين أن يستنصحوهم في
دينهم إياهم ، فقال جل ثناؤه : " والله أعلم بأعدائكم " ، يعني بذلك
تعالى ذكره : والله أعلم منكم بعداوَة هؤلاء اليهود لكم ، أيها المؤمنون. يقول :
فانتهوا إلى طاعتي فيما نهيتكم عنه من استنصاحهم في دينكم ، (1) فإني أعلم بما هم
عليه لكم من الغشِّ والعداوة والحسد ، وأنهم إنما يبغونكم الغوائل ، ويطلبون أن
تضلوا عن محجة الحق فتهلكوا.
* * *
وأما قوله : " وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيرًا " ، فإنه يقول :
فبالله ، أيها المؤمنون ، فثقوا ، وعليه فتوكلوا ، وإليه فارغبوا ، دون غيره ،
يكفكم مهمَّكم ، وينصركم على أعدائكم " وكفى بالله وليًّا " ، يقول :
وكفاكم وحسْبكم بالله ربكم وليًّا يليكم ويلي أموركم بالحياطة لكم ، والحراسة من
أن يستفزّكم أعداؤكم عن دينكم ، أو يصدّوكم
__________
(1) في المخطوطة : " مما نهيتكم عنه " ، وفي المطبوعة : " عما
نهيتكم عنه " ، والصواب ما أثبت.
(8/429)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
عن اتباع نبيكم (1)
" وكفى بالله نصيرًا " ، يقول : وحسبكم بالله ناصرًا لكم على أعدائكم
وأعداء دينكم ، وعلى من بغاكم الغوائل ، وبغى دينكم العَوَج. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ
مَوَاضِعِهِ }
قال أبو جعفر : ولقوله جل ثناؤه : " من الذين هادوا يحرفون الكلم " ،
وجهان من التأويل.
أحدهما : أن يكون معناه : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب "
" من الذين هادوا يحرفون الكلم " ، فيكون قوله : " من الذين هادوا
" من صلة " الذين " . وإلى هذا القول كانت عامة أهلِ العربية من
أهل الكوفة يوجِّهون قوله : " من الذين هادوا يحرِّفون " . (3)
* * *
والآخر منهما : أن يكون معناه : من الذين هادوا من يُحرِّف الكلم عن مواضعه ،
فتكون " مَن " محذوفة من الكلام ، اكتفاء بدلالة قوله : " من الذين
هادوا " ، عليها. وذلك أن " مِن " لو ذكرت في الكلام كانت بعضًا ل
" مَن " ، فاكتفى بدلالة " مِنْ " ، عليها. والعرب تقول :
" منا من يقول ذلك ، ومِنا لا يقوله " ، (4) بمعنى : منا
__________
(1) انظر تفسير : " الولي " فيما سلف 2 : 489 ، 564 / 5 : 424 / 6 : 142
، 313 ، 497.
(2) انظر تفسير " النصير " فيما سلف 2 : 489 ، 564 / 5 : 581 / 6 : 443
، 449.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 271.
(4) في المطبوعة : " والعرب تقول : منا من يقول ذلك " بزيادة " من
" وهو خطأ ، والصواب من معاني القرآن للفراء. أما المخطوطة فكان فيها :
" والعرب تقول ذلك ومثالا لا يقوله " وهو من عبث الناسخ وإسقاطه.
(8/430)
من يقول ذاك ، ومنا من لا يقوله فتحذف
" مَن " اكتفاء بدلالة " مِنْ " عليه ، كما قال ذو الرمة :
فَظَلُّوا ، وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهُ... وَآخَرُ يَثْنِي دَمْعَةَ
العَيْنِ بِالهَمْلِ (1)
يعني : ومنهم مَن دمعه ، وكما قال الله تبارك وتعالى : ( وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ
مَقَامٌ مَعْلُومٌ ) [سورة الصافات : 164]. وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية
من أهل البصرة يوجِّهون تأويل قوله : " من الذين هادوا يحرفون الكلم " ،
غير أنهم كانوا يقولون : المضمر في ذلك " القوم " ، كأن معناه عندهم :
من الذين هادوا قوم يحرِّفون الكلم ، ويقولون : نظير قول النابغة :
كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ
(2)
يعني : كأنك جمل من جمال أقيش.
فأما نحويو الكوفة فينكرون أن يكون المضمر مع " مِن " إلا " مَن
" أو ما أشبهها. (3)
* * *
__________
(1) ديوانه 485 ، وقبله : مع اختلاف الرواية : بَكَيْتُ عَلَى مَيٍّ بِهَا إذْ
عَرَفْتُهَا ... وَهِجْتُ الْهَوَى حَتَّى بَكَى القَوْمُ مِنْ أَجْلِي
فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ غَالِبٌ لَهُ ... وَآخَرُ يَثْنِي عَبْرَةَ العَيْنِ
بالهَمْلِ
وَهَلْ هَمَلانُ الْعَيْنِ رَاجِعُ مَا مَضَى ... مِنَ الوَجْدِ ، أوْ مُدْنِيكِ
يَا مَيُّ مِنْ أَهْلِي
وكان في المطبوعة : " يذري دمعة العين بالمهل " وهو خطأ ، وتغيير من
الطابع ، وفي المخطوطة " يثني " كما في الديوان.
وقوله : " يثني دمعة العين " ، أي يرد هملانها. وقوله : " بالهمل
" متعلق بقوله " دمعة " ووضع " دمعة " هنا مصدرًا لقوله
: " دمعت عينه دمعًا ودمعانًا ودموعًا " ، وزاده هو " دمعة "
على وزن " رحمة " في المصادر وكذلك في رواية " عبرة " ،
كلاهما مصدر ، ولم تثبته كتب اللغة. يقول : وآخر يرد إرسال العين دمعها منهملا ،
يعني : لولا ذلك لسالت دموعه غزارًا.
(2) مضى تخريجه فيما سلف 1 : 179 ، تعليق : 2 ، ونسيت هناك أن أرده إلى هذا المكان
، فأثبته.
(3) انظر مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 271.
(8/431)
قال أبو جعفر : والقول الذي هو أولى
بالصواب عندي في ذلك : قول من قال : قوله : " من الذين هادوا " ، من صلة
" الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب " ، لأن الخبرين جميعًا والصفتين ، من
صفة نوع واحد من الناس ، وهم اليهود الذين وصفَ الله صفتهم في قوله : " ألم
تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب " . وبذلك جاء تأويلُ أهل التأويل ، فلا
حاجة بالكلام إذ كان الأمر كذلك إلى أن يكون فيه متروك.
* * *
وأما تأويل قوله : " يُحَرِّفون الكلِمَ عن مواضعه " ، (1) فإنه يقول :
يبدِّلون معناها ويغيِّرونها عن تأويله.
* * *
و " الكلم " جماع " كلمة " .
* * *
وكان مجاهد يقول : عنى بـ " الكلم " ، التوراة.
9691 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : " يحرفون الكلم عن مواضعه " ، تبديل اليهود التوراة.
9692 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
* * *
وأما قوله : " عن مواضعه " ، فإنه يعني : عن أماكنه ووجوهه التي هي
وجوهه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التحريف " فيما سلف 2 : 248 ، 249.
(8/432)
القول في تأويل قوله : { وَيَقُولُونَ
سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا }
يعني بذلك جل ثناؤه : من الذين هادوا يقولون : سمعنا ، يا محمد ، قولك ، وعصينا
أمرك ، كما : -
9693 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن
القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : " سمعنا وعصينا " ، قال : قالت
اليهود : سمعنا ما نقول ولا نطيعك.
9694 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد مثله.
9695 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
9696 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " سمعنا
وعصينا " ، قالوا : قد سمعنا ، ولكن لا نطيعك.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود الذين كانوا حوالَيْ مهاجر
رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره : أنهم كانوا يسبّون رسول الله صلى الله
عليه وسلم ويؤذونه بالقبيح من القول ، ويقولون له : اسمع منا غير مسمع ، كقول
القائل للرجل يَسُبُّه : " اسمع ، لا أسمعَك الله " ، كما : -
9697 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " واسمع
غير مسمع " ، قال : هذا قول أهل الكتاب يهود ، كهيئة ما يقول الإنسان :
(8/433)
" اسمع لا سمعت " ، أذًى
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشتمًا له واستهزاءً.
9698 - حدثت عن المنجاب قال ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن
ابن عباس : " واسمع غير مسمع " قال : يقولون لك : " واسمع لا سمعت
" .
وقد روي عن مجاهد والحسن : أنهما كانا يتأوّلان في ذلك بمعنى : واسمع غير مقبول
منك.
ولو كان ذلك معناه لقيل : " واسمع غير مسموع " ، ولكن معناه : واسمع لا
تسمع ، ولكن قال الله تعالى ذكره : " ليًّا بألسنتهم وطعنًا في الدين "
، فوصفهم بتحريف الكلام بألسنتهم ، والطعن في الدين بسبِّ النبي صلى الله عليه
وسلم.
* * *
وأما القول الذي ذكرته عن مجاهد : " واسمع غير مسمع " ، يقول : غير
مقبول ما تقول ، فهو كما : -
9699 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد : " واسمع غير مسمع " ، قال : غير مُسْتمع - قال ابن جريج ، عن
القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : " واسمع غير مسمع " ، غير مقبول ما
تقول.
9700 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
9701 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن
في قوله : " واسمع غير مسمع " ، قال : كما تقول اسمع غير مَسْموع منك.
9702 - وحدثنا موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ،
(8/434)
عن السدي قال : كان ناس منهم يقولون :
" واسمع غير مسمع " ، كقولك : اسمع غير صاغِرٍ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي
الدِّينِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " وراعنا " ، أي : راعنا سمعك ، افهم عنّا
وأفهمنا. وقد بينا تأويل ذلك في " سورة البقرة " بأدلته ، بما فيه
الكفاية عن إعادته. (2)
* * *
ثم أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ليًّا بألسنتهم " ، يعني تحريكًا منهم بألسنتهم بتحريف منهم لمعناه
إلى المكروه من معنييه ، (3) واستخفافًا منهم بحق النبي صلى الله عليه وسلم ،
وطعنًا في الدين ، كما : -
9703 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال ، قال
قتادة : كانت اليهود يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : " راعنا سمعك "
! يستهزئون بذلك ، فكانت اليهود قبيحة أن يقال : (4) " راعنا سمعك "
" ليًّا بألسنتهم " والليّ : تحريكهم ألسنتهم بذلك " وطعنًا في
الدين " .
9704 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " راعنا ليًّا بألسنتهم " ، كان
__________
(1) في المطبوعة : " غير صاغ " ، والصواب من المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 2 : 459 - 467.
(3) انظر تفسير " اللي " و " اللي بالألسنة " فيما سلف 6 :
535 - 537.
(4) في المخطوطة والمطبوعة : " فكان في اليهود قبيحة فقال " ، وهو كلام
لا يستقيم البتة ، وصوابه الذي لا شك فيه ما أثبت ، وانظر كونها كلمة قبيحة لليهود
في 2 : 460.
(8/435)
الرجل من المشركين يقول : " أرعني
سمعك " ! يلوي بذلك لسانه ، يعني : يحرِّف معناه.
9705 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أييه ، عن ابن عباس : " من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه " ، إلى
" وطعنًا في الدين " ، فإنهم كانوا يستهزئون ، ويلوون ألسنتهم برسول
الله صلى الله عليه وسلم ، ويطعنون في الدين.
9706 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " وراعنا ليا
بألسنتهم وطعنًا في الدين " ، قال : " راعنا " ، طعنهم في الدين ،
وليهم بألسنتهم ليبطلوه ، ويكذبوه. قال : و " الرَّاعن " ، الخطأ من
الكلام. (1)
9707 - حدثت عن المنجاب قال ، حدثنا بشر قال ، حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن
عباس في قوله : " ليا بألسنتهم " ، قال : تحريفًا بالكذب.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولو أن هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم ،
قالوا لنبي الله : " سمعنا يا محمد قولك ، وأطعنا أمرك ، وقبلنا ما جئتنا به
من عند الله ، واسمع منا ، وانظرنا ما نقول ، وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا
" " لكان خيرًا لهم وأقوم " ، يقول : لكان ذلك خيرًا لهم عند الله
" وأقوم " ، يقول : وأعدل وأصوبَ في القول.
* * *
__________
(1) انظر القول في " الراعن " فيما سلف 2 : 465 ، 466.
(8/436)
وهو من " الاستقامة " من قول
الله : ( وَأَقْوَمُ قِيلا ) [سورة المزمل : 6] ، بمعنى : وأصوبُ قيلا (1) كما : -
9708 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولو
أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرًا لهم " ، قال : يقولون اسمع
منا ، فإنا قد سمعنا وأطعنا ، وانظرنا فلا تعجل علينا.
9709 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن
جابر ، عن عكرمة ومجاهد قوله : " وانظُرنا " ، قال : اسمع منا.
9710 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد : " وانظرنا " ، قال : أفهمنا.
9711 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد ، " وانظرنا " ، قال : أفهمنا.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله مجاهد وعكرمة ، من توجيههما معنى : " وانظرنا
" إلى : " اسمع منا " وتوجيه مجاهد ذلك إلى " أفهمنا "
فما لا نعرف في كلام العرب ، (2) إلا أن يكون أراد بذلك من توجيهه إلى "
أفهمنا " ، انتظرنا نفهم ما تقول أو : انتظرنا نقل حتى تسمع منا فيكون ذلك
معنًى مفهومًا ، وإن كان غير تأويلٍ للكلمة ولا تفسير لها. (3) ولا نعرف : "
انظرنا " في كلام العرب ، (4) إلا بمعنى : انتظرنا وانظر إلينا فأما "
انظرنا " بمعنى : انتظرنا ، فمنه قول الحطيئة :
وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ لَوْ أَنَّ دِرَّتَكُمْ... يَوْمًا يَجِيء بها مَسْحِي
وَإِبْسَاسِي (5)
__________
(1) انظر تفسر " أقوم " فيما سلف 6 : 77 ، 78.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ما لا نعرف " بغير فاء ، ولكني زدتها
لأنها أعرق في العربية وأقوم للسياق.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " غير تأويل الكلمة " والصواب ما أثبت.
(4) في المطبوعة : " فلا نعرف " بالفاء ، والأجود ما في المخطوطة ، كما
أثبته.
(5) ديوانه : 52 ، والكامل 1 : 351 ، وهذا خطأ لا شك فيه في رواية البيت ، وأثبته
على حاله ، لأنه دلالة على عجلة أبي جعفر أحيانًا في كتابة تفسيره ، ودليل على
حفظه الشعر ، ولولا ذلك لم يخلط هذا الخلط فإن هذه القصيدة ، هي التي هجا بها
الزبرقان بن بدر ، ومدح بغيض ابن عامر ، والتي شكاه من أجلها الزبرقان إلى عمر بن
الخطاب فحبسه ، يقول للزبرقان لما غضب حين استضافه بغيض : مَا كانَ ذَنْبُ بَغِيض
لا أَبَا لَكُمُ ... فِي بَائِسٍ جَاءَ يَحْدُو آخِرَ الناسِ
لَقَدْ مَرَيْتُكُمُ لَوْ أَنَّ دِرَّتكُمْ ... يَوْمًا يجِيءُ بِهَا مَسْحِي
وَإبْسَاسِي
وَقَدْ مَدَحْتُكُمْ عَمْدًا لأُرْشِدَكُمْ ... كَيْمَا يَكُونَ لَكُمْ مَتْحٍي
وَإمْرَاسِي
ثم يليه بيت الشاهد الذي كان ينبغي أن يذكره هنا أبو جعفر ، كما ذكره فيما سلف في
تفسير " انظرنا " من سورة البقرة 2 : 467 ، 468 وقد شرحته هناك. ولولا
أن أثبت حال أبي جعفر في كتابه ، لألغيت البيت المذكور في المتن ، ولوضعت هذا
البيت : وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ أَعْشَاءَ صَادِرَةٍ ... لِلْخِمْسِ طَالَ بِهَا
حَوْزِي وَتَنْسَاسِي
وقوله : " لقد مريتكم " من قولهم : " مري الناقة يمريها مريًا
" : إذا مسح ضرعها لتدر. و " الدرة " : الدفعة من اللبن و "
المسح " مسح الضرع للحلب. و " الإبساس " : هو صوت الراعي ، يلينه
لناقته عند الحلب لتسكن ويسهل حلبها. يقول : لقد ترفقت لكم ، أستخرج خيركم بالمديح
الرقيق والقول اللين ، فلم ألمق خيرًا ، ولم تجودوا به.
وكان في المخطوطة : " يجيء به " وهو خطأ.
(8/437)
وأما " انظرنا " ، بمعنى :
انظر إلينا ، فمنه قول عبد الله بن قيس الرقيات :
ظَاهِرَاتُ الجَمالِ وَالحُسْنِ يَنْظُرْنَ... كَمَا يَنْظُرُ الأَرَاكَ
الظِّبَاءُ (1)
__________
(1) ديوانه : 171 ، من قصيدته التي فخر فيها بقريش ، ومدح مصعب بن الزبير ، وذكر
نساء عبد شمس بن عبد مناف فقال : وَحِسَانٌ مِثْلُ الدُّمَي عَبْشَمِيَّاتٌ ...
عَلَيْهِن بَهْجَةٌ وَحَيَاءُ
لا يَبِعْنَ العِيَابَ في مَوْسِمٍ النَّاسِ ... إذَا طَافَ بِالعِيابِ النِّسَاءُ
ظَاهِرَاتُ الجَمَالِ والسَّرْو ........ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
و " السرو " : الشرف وكرم المحتد. وهي أجود الروايتين ، وقوله : "
كما ينظر الأراك الظباء " ، من حسن التشبيه ، ودقة الملاحظة للعلاقة بين
الشرف والسؤدد. وما يكون للمرء من شمائل وسمت وهيأة. ويعني أنهن قد ينصبن أجيادهن
، كأنهن ظباء تعطو الأراك لتناله. وذلك أظهر لجمال أجيادهن ، وحركتهن. والجيد فيه
دلالة من دلائل الخلق لا يخطئها بصير.
(8/438)
بمعنى : كما ينظر إلى الأراك الظباء.
(1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا
يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (46) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : ولكن الله تبارك وتعالى أخْزَى هؤلاء اليهود الذين وصف
صفتهم في هذه الآية ، فأقصاهم وأبعدهم من الرشد واتباع الحق (2) " بكفرهم
" ، يعني : بجحودهم نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند
ربهم من الهدى والبينات " فلا يؤمنون إلا قليلا " ، يقول : فلا يصدقون
بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند ربهم ، ولا يقرُّون بنبوته "
إلا قليلا " ، يقول : لا يصدقون بالحق الذي جئتهم به ، يا محمد ، إلا إيمانًا
قليلا كما : -
9712 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
في قوله : " فلا يومنون إلا قليلا " ، قال : لا يؤمنون هم إلا قليلا.
قال أبو جعفر : وقد بيّنا وجه ذلك بعلله في " سورة البقرة " . (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير نظيرة هذه الكلمة من آية البقرة : " وقولوا انظرنا " 2 :
467 - 469.
(2) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف 2 : 328 / 3 : 254 ، 261 / 6 : 577.
(3) يعني تفسير قوله تعالى " فقليلا ما يؤمنون " 2 : 329 - 331.
(8/439)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يا أيها الذين أوتوا الكتاب " ،
اليهود من بني إسرائيل ، الذين كانوا حوالَيْ مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم
، قال الله لهم : يا أيها الذين أنزل إليهم الكتاب فأعطوا العلم به " آمنوا
" يقول : صدِّقوا بما نزلنا إلى محمد من الفرقان " مصدقًا لما معكم
" ، يعني : محقِّقًا للذي معكم من التوراة التي أنزلتها إلى موسى بن عمران
" من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " .
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : " طمسه إياها " : محوه آثارها حتى تصير كالأقْفَاء.
وقال آخرون : معنى ذلك أن نطمس أبصارها فنصيّرها عمياء ، ولكن الخبر خرج بذكر
" الوجه " ، والمراد به بصره " فنردّها على أدبارها " ، فنجعل
أبصارَها من قبل أقفائها.
*ذكر من قال ذلك :
9713 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا عمي قال حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا " إلى
قوله : " من قبل أن نطمس وجوهًا " ، وطمسها : أن تعمى " فنردها على
أدبارها " ، يقول : أن نجعل وجوههم من قبل أقفِيتهم ، فيمشون القهقرى ، ونجعل
لأحدهم عينين في قفاه.
(8/440)
9714 - حدثني أبو العالية إسماعيل بن
الهيثم العبْدي قال ، حدثنا أبو قتيبة ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي في
قوله : " من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " ، قال : نجعلها في
أقفائها ، فتمشي على أعقابها القهقرى. (1)
9715 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى قال ، حدثنا
فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، بنحوه إلا أنه قال : طمْسُها : أن يردَّها على أقفائها.
9716 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
: " فنردها على أدبارها " ، قال : نحوِّل وجوهها قِبَل ظهورها.
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك (2) من قبل أن نعمي قومًا عن الحق " فنردها على
أدبارها " ، في الضلالة والكفر.
*ذكر من قال ذلك :
9717 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : " أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها " ، فنردها عن
الصراط ، عن الحق (3) " فنردها على أدبارها " ، قال : في الضلالة.
9718 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " أن نطمس وجوهًا " عن صراط الحق " فنردها على أدبارها
" ، في الضلالة.
9719 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك قراءة ، عن ابن
جريج ، عن مجاهد مثله.
__________
(1) الأثر : 9714 - " أبو العالية ، إسماعيل بن الهيثم العبدي " ، لم
نجده ، وانظر ما سلف رقم : 9365 ، 9366.
و " أبو قتيبة " هو : سلم بن قتيبة ، مضت ترجمته برقم : 1899 ، 1924 ،
9365.
(2) في المطبوعة ، أسقط : " بل " .
(3) في المطبوعة : " عن الصراط الحق " ، أسقط " عن " الثانية.
(8/441)
9720 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ،
أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال ، الحسن : " نطمس وجوهًا " ،
يقول : نطمسها عن الحق " فنردها على أدبارها " ، على ضلالتها.
9721 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " يا أيها الذين أوتوا الكتاب " إلى قوله : " كما لعنّا
أصحاب السبت " ، قال : نزلت في مالك بن الصَّيِّف ، ورفاعة بن زيد بن التابوت
، من بني قينقاع. أما " أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " ، يقول :
فنعميها عن الحق ونُرجعها كفارًا.
9722 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " من قبل أن نطمس وجوهًا فنردها على
أدبارها " ، يعني : أن نردهم عن الهدى والبصيرة ، فقد ردَّهم على أدبارهم ،
فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : من قبل أن نمحو آثارهم من وجوههم التي هم بها ، وناحيتهم
التي هم بها " فنردها على أدبارها " ، من حيث جاءوا منه بَديًّا من
الشام. (1)
*ذكر من قال ذلك :
9723 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " من
قبل أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها " ، قال : كان أبي يقول : إلى الشأم.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " من قبل أن نطمس وجوهًا " ، فنمحو أثارها
__________
(1) في المطبوعة : " بدءًا من الشام " ، وأثبت في المخطوطة ، وكلتاهما
صواب. و " بديًا " ، في بدء أمرهم. وتفسير " الوجوه " هنا :
النواحي.
(8/442)
ونسوِّيها " فنردها على أدبارها
" ، بأن نجعل الوجوه منابتَ الشَّعر ، كما وجوه القردة منابت للشعر ، لأن
شعور بني آدم في أدبار وجوههم. فقالوا : إذا أنبت الشعر في وجوههم ، فقد ردَّها
على أدبارها ، بتصييره إياها كالأقفاء وأدبار الوجوه. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قولُ من قال : معنى قوله : "
من قبل أن نطمس وجوها " ، من قبل أن نطمس أبصارَها ونمحو آثارها فنسوّيها
كالأقفاء " فنردها على أدبارها " ، فنجعل أبصارها في أدبارها ، يعني
بذلك : فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه ، فيكون معناه : فنحوّل الوجوه أقْفاءً
والأقفَاء وجوهًا ، فيمشون القهقرى ، كما قال ابن عباس وعطية ومن قال ذلك.
* * *
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب : لأن الله جل ثناؤه خاطب بهذه الآية اليهودَ الذين
وصف صفتهم بقوله : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يشترون الضلالة
" ، ثم حذرهم جل ثناؤه بقوله : " يا أيها الذين أوتوا الكتاب أمنوا بما
نزلنا مصدِّقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " الآية ،
بأسَه وسطوته وتعجيل عَقابه لهم ، (2) إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به. ولا
شك أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارًا.
* * *
وإذْ كان ذلك كذلك ، فبيّنٌ فساد قول من قال : تأويل ذلك : أن نعمِيها عن الحق
فنردها في الضلالة. فما وجْه ردِّ من هو في الضلالة فيها ؟! وإنما يرد في الشيء من
كان خارجًا منه. فأما من هو فيه ، فلا وجه لأن يقال : " نرده فيه " .
* * *
وإذْ كان ذلك كذلك ، وكان صحيحًا أنّ الله قد تهدَّد للذين ذكرهم في هذه
__________
(1) هو الفراء في معاني القرآن 1 : 272.
(2) السياق : ثم حذرهم... بأسه وسطوته...
(8/443)
الآية بردّه وجوهَهم على أدبارهم كان
بيّنًا فساد تأويل من قال : معنى ذلك : يهددهم بردِّهم في ضلالتهم.
* * *
وأما الذين قالوا : معنى ذلك : من قبل أن نجعل الوجوه منابتَ الشعر كهيئة وجوه
القردة ، فقولٌ لقول أهل التأويل مخالف. وكفى بخروجه عن قول أهل العلم من الصحابة
والتابعين فمن بعدهم من الخالفين ، على خطئه شاهدًا.
* * *
وأما قول من قال : معناه : من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها ، فنردّهم إلى
الشأم من مساكنهم بالحجاز ونجدٍ ، فإنه وإن كان قولا له وجه مما يدل عليه ظاهر
التنزيل بعيد. (1) وذلك أن المعروف من " الوجوه " في كلام العرب ، التي
هي خلاف " الأقفاء " ، وكتاب الله يُوَجَّه تأويله إلى الأغلب في كلام
مَن نزل بلسانه ، حتى يدلّ على أنه معنيٌّ به غير ذلك من الوجوه ، الذي يجب
التسليم له. (2)
* * *
وأما " الطمس " ، فهو العُفُوّ والدثور في استواء. منه يقال : "
طمست أعلام الطريق تطمِسُ طُموسًا " ، إذا دثرت وتعفَّت ، فاندفنت واستوت
بالأرض ، كما قال كعب بن زهير :
مِنْ كُلِّ نَضَّاحَةِ الذِّفْرَى إذَا عَرقَتْ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأعْلام
مَجْهُولُ (3)
يعني : " طامس الأعلام " ، دائر الأعلام مندفنها. ومن ذلك قيل للأعمى
الذي
__________
(1) في المطبوعة : " كما يدل عليه " ، وفيه خطأ ، وفي المخطوطة : "
كما يدل على " وفيه خطآن. والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة : " من الوجوه التي ذكرت ، دليل يجب التسليم له " ، زاد
فيما كان في المخطوطة لتستقيم الجملة ، وكان فيها : " من الوجوه التي يجب
التسليم له " والأمر أهون من ذلك ، أخطأ فكتب " التي " مكان "
الذي " ، وهو حق السياق.
(3) سلف البيت وتخريجه في 4 : 424 ، تعليق : 4.
(8/444)
قد تعفَّى غَرُّ ما بين جفني عينيه
فدثر : (1) " أعمى مطموس ، وطمْيس " ، كما قال الله جل ثناؤه : ( وَلَوْ
نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ) [سورة يس : 66].
* * *
قال أبو جعفر : " الغَرُّ " ، الشقّ الذي بين الجفنين. (2)
* * *
فإن قال قائل : فإن كان الأمر كما وصفت من تأويل الآية ، فهل كان ما توعَّدهم به ؟
(3)
قيل : لم يكن ، لأنه آمن منهم جماعة ، منهم : عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ،
وأسد بن سعية ، (4) وأسد بن عبيد ، ومُخَيْرِق ، (5) وجماعة غيرهم ، فدفع عنهم
بإيمانهم.
ومما يبين عن أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين ذكرنا صفتهم ، ما : -
9724 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير وحدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة
جميعًا ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد
__________
(1) في المطبوعة : " الذي قد تعفى ما بين جفني... " حذف " غر
" ، لأنه لم يحسن قراءتها ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ، وانظر شرح أبي جعفر
لكلمة " غر " ، والتعليق عليه بعد.
(2) في المطبوعة : (العراسق الذي بين الخفين) ، واستدرك عليه الناشر الأول ، وكتب
فيه خلطًا شديدًا ، نقله عنه آخرون!! وأما المخطوطة التي لم يحسن الناشر قراءتها
فكان فيها : العرالسق الذي بين الخفين " كله غير منقوط ، وصوابه قراءته ما
أثبت. وأصل ذلك أن " الغر " (بفتح الغين وتشديد الراء) هو الشق في
الأرض. و " الغر " أيضًا : الكسر يكون في الثوب ، والغضون في الجلد ،
وهو مكاسر الجلد ، ومنه قليل : " اطو الثوب على غره " أي على كسره. وقد
جاءت هذه الكلمة في تفسير أبي جعفر 23 : 17 ، 18 مصحفة بالزاي : " والطمس على
العين هو أن لا يكون بين جفني العين (غز) ، وذلك هو الشق الذي بين الجفنين "
. وانظر شرح ابن إسحاق في سيرته 2 : 210 : " المطموس العين : الذي ليس بين
جفنيه شق " .
فتبين من هذا صحة قراءتنا وصوابها ، وخلط من لا يحسن أن يخلط ، فضلا عن أن يصيب!!
(3) " كان " هنا تامة ، بمعنى : وقع وحدث.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " أسد بن سعية " وعند ابن إسحاق : "
أسيد بن سعية " (بفتح الألف وكسر السين). والاختلاف في اسمه واسم أبيه كثير.
(5) لم أجد " مخيرق " في غير هذا الموضع ، وهو في سائر الكتب وفي ترجمته
" مخيريق " ، والاختلاف في أسماء بني إسرائيل كثير. فتركته على حاله هنا
، لأنه هكذا ثبت في المخطوطة.
(8/445)
مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن
جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : كلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من
أحبار يهود : منهم عبد الله بن صوريا ، وكعب بن أسد فقال لهم : يا معشر يهود ،
اتقوا الله وأسلموا! فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحقٌّ! (1) فقالوا : ما
نعرف ذلك يا محمد! وجحدوا ما عرفوا ، وأصرّوا على الكفر ، فأنزل الله فيهم :
" يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم من قبل أن
نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها " ، الآية (2)
9725 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح ، عن عيسى بن المغيرة قال :
تذاكرنا عند إبراهيم إسلامَ كعبٍ ، (3) فقال : أسلم كعب في زمان عمر ، أقبل وهو
يريد بيت المقدس ، فمرّ على المدينة ، فخرج إليه عمر فقال : يا كعب ، أسلم! قال :
ألستم تقرأون في كتابكم : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ
يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) [سورة الجمعة : 5] ؟ وأنا
قد حملت التوراة! قال : فتركه. ثم خرج حتى انتهى إلى حمص ، قال : فسمع رجلا من
أهلها حزينًا وهو يقول : " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا
مصدقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " ، الآية. فقال
كعب : يا رب آمنت ، يا رب أسلمت! مخافة أن تصيبه الآية ، ثم رجع فأتى أهله باليمن
، ثم جاء بهم مسلمين.
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " الذي حكم به لحق " ، وفي هامش النسخة بخط عتيق :
" الصواب : بعثت " ، وأخطأ من كتب ، فالصواب ما في المطبوعة ، وهو نص
سيرة ابن هشام.
(2) الأثر 9724 - سيرة ابن هشام 2 : 209 ، وهو تابع الأثر السالف : 9689 ، 9690.
(3) يعني " كعب الأحبار " .
(8/446)
القول في تأويل قوله : { أَوْ
نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ
مَفْعُولا (47) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " أو نلعنهم " ، أو نلعنكم
فنخزيكم ونجعلكم قردة " كما لعنا أصحاب السبت " ، يقول : كما أخزينا
الذين اعتدوا في السبت من أسلافكم. (1) قيل ذلك على وجه الخطاب في قوله : "
آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم " ، كما قال : ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي
الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا ) [سورة يونس :
22]. (2)
وقد يحتمل أن يكون معناه : " من قبل أن نطمس وجوها فنردَّها على أدبارها
" ، أو نلعن أصحاب الوجوه فجعل " الهاء والميم " في قوله : "
أو نلعنهم " ، من ذكر أصحاب الوجوه ، إذ كان في الكلام دلالة على ذلك :
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9726 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" يا أيها الذين أوتوا الكتاب " إلى قوله : " أو نلعنهم كما لعنّا
أصحاب السبت " ، أي : نحوّلهم قردة.
9727 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن
: " أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت " ، يقول : أو نجعلهم قردة.
9728 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف قريبًا ص : 439 ، تعليق : 2 ،
والمراجع هناك.
(2) انظر ما سلف 1 : 154 / 3 : 304 ، 305 / 6 : 238 ، 464 ، ومواضع أخرى كثيرة
فيما سلف.
(8/447)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
أسباط ، عن السدي : " أو نلعنهم
كما لعنا أصحاب السبت " ، أو نجعلهم قردة.
9729 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " أو
نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت " ، قال : هم يهود جميعًا ، نلعن هؤلاء كما
لعنّا الذين لعنّا منهم من أصحاب السبت. (1)
* * *
وأما قوله : " وكان أمر الله مفعولا " ، فإنه يعني : وكان جميع ما أمر
الله أن يكون ، كائنًا مخلوقًا موجودًا ، لا يمتنع عليه خلق شيء شاء خَلْقه. و
" الأمر " في هذا الموضع : المأمور سمي " أمر الله " ، لأنه
عن أمره كان وبأمره.
والمعنى : وكان ما أمر الله مفعولا.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما
نزلنا مصدقًا لما معكم " وإن الله لا يغفر أن يشرك به ، فإن الله لا يغفر
الشرك به والكفر ، ويغفر ما دون ذلك الشرك لمن يشاء من أهل الذنوب والآثام.
* * *
وإذ كان ذلك معنى الكلام ، فإن قوله : " أن يشرك به " ، في موضع نصب
بوقوع " يغفر " عليها (2) وإن شئت بفقد الخافض الذي كان يخفضها لو كان
ظاهرًا. وذلك أن يوجَّه معناه إلى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ، على تأويل
الجزاء ،
__________
(1) انظر خبر " أصحاب السبت " فيما سلف 2 : 166 - 175.
(2) " الوقوع " تعدى الفعل إلى مفعول ، كما سلف مرارًا كثيرة.
(8/448)
كأنه قيل : إن الله لا يغفر ذنبًا مع
شرك ، أو عن شرك. (1)
وعلى هذا التأويل يتوجه أن تكون " أن " في موضع خفض في قول بعض أهل
العربية. (2)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت في أقوام ارتابوا في أمر المشركين حين نزلت : ( قُلْ
يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) [سورة الزمر : 53].
ذكر الخبر بذلك :
9730 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع قال ، حدثني مُجَبَّر ، عن عبد الله بن عمر : أنه قال : لما نزلت : (
يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) الآية ، قام رجل فقال :
والشرك ، يا نبيَّ الله. فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إنّ
الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما
عظيما " . (3)
__________
(1) في معاني القرآن للفراء 1 : 272 : " مع شرك ، ولا عن شرك " ،
والصواب في التفسير.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 272 فهذه مقالته.
(3) الحديث : 9730 - ابن أبي جعفر : هو عبد الله بن أبي جعفر الرازي : مضت ترجمته
وترجمة أبيه في : 7030.
الربيع : هو ابن أنس البكري. مضت ترجمته في : 5480.
مجبر - بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الباء الموحدة المفتوحة ، بوزن " محمد
" - : هو ابن أخي عبد الله بن عمر. و " مجبر " لقبه ، واسمه :
" عبد الرحمن بن عبد الرحمن الأصغر بن عمر بن الخطاب " . ذكره المصعب في
نسب قريش ، ص : 356 ، وابن حزم في جمهرة الأنساب ، ص : 146 ، والمشتبه للذهبي ، ص
: 462. مترجم في التعجيل ، ص : 392 - 393 ، وله ذكر فيه أيضًا في ترجمة ابنه
" عبد الرحمن " ص : 256 - 257.
وله رواية في المسند : 1402 ، عن عثمان وطلحة. وأظنها رواية منقطعة ، فإن طبقته
أصغر من أن يدركهما.
وله ذكر في الموطأ ص : 397 : " مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر : أنه
لقي رجلا من أهله يقال له المجبر ، قد أفاض ولم يحلق ولم يقصر ، جهل ذلك ، فأمره
عبد الله أن يرجع ، فيحلق أو يقصر ، ثم يرجع إلى البيت فيفيض " .
ولم أجد له ترجمة غير ذلك. فهذا تابعي عرف شخصه ، ولم يذكر بجرح ، فأقل حالاته أن
يكون حديثه حسنًا.
والحديث نقله ابن كثير 2 : 481 ، عن هذا الموضع. ثم قال : " وقد رواه ابن
مردويه من طرق عن ابن عمر " .
وذكره السيوطي 1 : 169 ، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم.
وسيأتي عقب هذا بإسناد ضعيف ، لإبهام شيخ الطبري.
(8/449)
9731 - حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن
أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " إن الله لا يغفر أن يشرك له
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ، قال : أخبرني مُجَبَّر ، عن عبد الله بن عمر
أنه قال : لما نزلت هذه الآية : ( يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ ) الآية ، قام رجل فقال : والشرك يا نبي الله. فكره ذلك النبي ، فقال
: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " .
9732 - حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا الهيثم بن جَمّاز
قال ، حدثنا بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم لا نَشُك في قاتلِ النفس ، وآكل مال اليتيم ، وشاهد الزور ، وقاطع
الرَّحم ، حتى نزلت هذه الآية : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء " ، فأمسكنا عن الشهادة. (1)
وقد أبانت هذه الآية أنّ كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله ، إن شاء عفا عنه ، وإن شاء
عاقبه عليه ، ما لم تكن كبيرة شركًا بالله.
* * *
__________
(1) الحديث : 9732 - آدم : هو ابن أبي إياس العسقلاني. مضت ترجمته في : 187 ،
الهيثم بن جماز البكاء ، الحنفي البصري القاضي : ضعيف ، ضعفه أحمد ، وابن معين ،
والنسائي ، وغيرهم. مترجم في لسان الميزان 6 : 204 - 205 ، والكبير للبخاري 4 / 2
/ 216. وابن أبي حاتم 4 / 2 / 81 ، والضعفاء للنسائي ، ص : 30.
و " جماز " : بفتح الجيم وتشديد الميم وآخره زاي. ووقع في المخطوطة
والمطبوعة " حماد " ، وهو تصحيف. وكذلك وقع مصحفًا في التهذيب 11 : 100
، عند ذكره بترجمة " الهيثم بن أبي الهيثم " .
بكر بن عبد الله المزني : تابعي ثقة معروف ، أخرج له الجماعة.
والحديث ذكره السيوطي 2 : 169 ، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم ، والبزار.
ومعناه ثابت عن ابن عمر من روايات أخر :
ففي الدر المنثور 2 : 169 " أخرج ابن الضريس ، وأبو يعلى ، وابن المنذر ،
وابن عدي - بسند صحيح ، عن ابن عمر ، قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر
حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم : (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما
دون ذلك لمن يشاء) ، وقال : إني ادخرت دعوتي ، شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ،
فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ، ثم نطقنا بعد ورجونا " . وذكره الهيثمي
في مجمع الزوائد 7 : 5 ، وقال : " رواه أبو يعلى ، ورجاله رجال الصحيح ، غير
حرب بن سريج ، وهو ثقة " .
وفي مجمع الزوائد 10 : 210 - 211 " عن ابن عمر ، قال : كنا نمسك عن الاستغفار
لأهل الكبائر ، حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول (إن الله لا يغفر أن يشرك
به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، وقال : أخرت شفاعتي لأهل الكبائر يوم القيامة.
رواه البزار ، وإسناده جيد " . وهو نحو الذي قبله.
وفيه أيضًا روايات بهذا المعنى عن ابن عمر 10 : 193.
هذا ، وكان في المخطوطة : " لا نشك في المؤمن ، وآكل مال اليتيم " :
بينهما بياض وقبل " المؤمن " في أعلاه حرف " ط " ، وهذا دال
على أن النسخة التي نقل عنها كانت غير واضحة فأثبتنا ما جاء في الروايات الأخر.
(8/450)
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ومن يشرك بالله " في عبادته غيره
من خلقه " فقد افترى إثما عظيما " ، يقول : فقد اختلق إثما عظيمًا. (1)
وإنما جعله الله تعالى ذكره " مفتريًا " ، لأنه قال زورًا وإفكًا بجحوده
وحدانية الله ، وإقراره بأن لله شريكًا من خلقه وصاحبة أو ولدًا. فقائل ذلك
مُفترٍ. وكذلك كل كاذب ، فهو مفترٍ في كذبه مختلقٌ له.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " افترى " فيما سلف 6 : 292.
(8/451)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
القول في تأويل قوله : { أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ألم تر ، يا محمد بقلبك ، (1) الذين يزكون
أنفسهم من اليهود فيبرِّئونها من الذنوب ويطهرونها. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل ، في المعنى الذي كانت اليهود تُزَكي به أنفسها.
فقال بعضهم : كانت تزكيتهم أنفسَهم ، قولهم : " نحن أبناء الله وأحباؤه
" .
*ذكر من قال ذلك :
9733 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يُظلمون فتيلا
" ، وهم أعداء الله اليهود ، زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه ، فقالوا : "
نحن أبناء الله وأحِبّاؤه " . وقالوا : " لا ذنوب لنا " .
9734 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن
في قوله : " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " ، قال : هم اليهود
والنصارى ، قالوا : " نحن أبناء الله وأحباؤه " . وقالوا : " لن
يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى " .
9735 - وحدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن
سليمان ، عن الضحاك قال : قالت يهود : " ليست لنا ذنوب إلا كذنوب أولادنا يوم
يولدون! فإن كانت لهم ذنوب فإنّ لنا ذنوبًا! فإنما نحن
__________
(1) انظر تفسير " ألم تر " فيما سلف قريبًا : 426 ، تعليق : 5 ،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " التزكية " فيما سلف : 369 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(8/452)
مثلهم " ! قال الله تعالى ذكره :
( انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا
مُبِينًا )
9736 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ألم
تر إلى الذين يزكون أنفسهم " ، قال : قال أهل الكتاب : " لن يدخل الجنة
إلا من كان هودًا أو نصارى " ، وقالوا : " نحن أبناء الله وأحباؤه
" ، وقالوا : " نحن على الذي يحب الله " . فقال تبارك وتعالى :
" ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء " ، حين زعموا
أنهم يدخلون الجنة ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه وأهل طاعته.
9737 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل لله يزكي من يشاء ولا يظلمون
فتيلا " ، نزلت في اليهود ، قالوا : " إنا نعلم أبناءنا التوراة صغارًا
، فلا تكون لهم ذنوب ، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا ، ما عملنا بالنهار كُفَّر عنا
بالليل " .
* * *
وقال آخرون : بل كانت تزكيتهم أنفسَهم ، تقديمهم أطفالهم لإمامتهم في صلاتهم ،
زعمًا منهم أنهم لا ذنوب لهم.
*ذكر من قال ذلك :
9738 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : " يزكون أنفسهم " ، قال : يهود ، كانوا يقدمون صبيانهم
في الصلاة فيؤمُّونهم ، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم. فتلك التزكية.
9739 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
9740 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
الأعرج ، عن مجاهد قال : كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في
(8/453)
الدعاء والصلاة يؤمُّونهم ، ويزعمون
أنهم لا ذنوب لهم ، فتلك تزكية قال ابن جريج : هم اليهود والنصارى.
9741 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حصين ، عن أبي مالك في
قوله : " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " ، قال : نزلت في اليهود ،
كانوا يقدمون صبيانهم يقولون : " ليست لهم ذنوب " .
9742 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي مكين ، عن عكرمة في قوله : "
ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " ، قال ، كان أهل الكتاب يقدمون الغلمان
الذين لم يبلغوا الحِنْث يصلُّون بهم ، يقولون : " ليس لهم ذنوب " !
فأنزل الله : " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " ، الآية. (1)
* * *
وقال آخرون : بل تزكيتهم أنفسهم ، كانت قولهم : " إن أبناءنا سيشفعون لنا
ويزكوننا " .
*ذكر من قال ذلك :
9743 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " ، وذلك أن
اليهود قالوا : " إن أبناءنا قد تُوُفُّوا ، وهم لنا قربة عند الله ،
وسيشفعون ويزكوننا " ! فقال الله لمحمد : " ألم تر إلى الذين يزكون
أنفسهم " إلى " ولا يظلمون فتيلا " .
* * *
وقال آخرون : بل ذلك كان منهم ، تزكية من بعضهم لبعض.
*ذكر من قال ذلك :
9744 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه ،
__________
(1) الأثر : 9742 - " أبو مكين " هو : نوح بن ربيعة الأنصاري ، مولاهم.
مترجم في التهذيب.
(8/454)
عن الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق
بن شهاب قال : قال عبد الله : إن الرجل ليغدو بدينه ، ثم يرجع وما معه منه شيء!
يلقى الرجل ليس يملك له نفعًا ولا ضرًا ، فيقول : " والله إنك لذَيْتَ وذَيْتَ
" ، ولعله أن يرجع ولم يَحْلَ من حاجته بشيء ، (1) وقد أسخط الله عليه. ثم
قرأ : " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " الآية. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قول من قال : معنى " تزكية القوم
" ، الذين وصفهم الله بأنهم يزكون أنفسهم ، وَصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها
ولا خطايا ، وأنهم لله أبناء وأحبّاء ، كما أخبر الله عنهم أنهم كانوا يقولونه.
لأن ذلك هو أظهر معانيه ، لإخبار الله عنهم أنهم إنما كانوا يزكون أنفسهم دون
غيرها.
* * *
وأما الذين قالوا : معنى ذلك : " تقديمهم أطفالهم للصلاة " ، فتأويل لا
تدرك صحته إلا بخبر حجة يوجب العلم.
* * *
وأما قوله جل ثناؤه : " بل الله يزكي من يشاء " ، فإنه تكذيب من الله
المزكِّين أنفسهم من اليهود والنصارى ، المبرِّئيها من الذنوب. يقول الله لهم : ما
الأمر كما
__________
(1) في المطبوعة : " ويجعله أن يرجع " ، وهو خطأ لا شك فيه ، والصواب في
المخطوطة. وقوله : " لم يحل من حاجة بشيء " ، أي لم يظفر منها بشيء ،
ولم يصب شيئًا مما ابتغى ، وهو لا يستعمل إلا مع النفي والجحد بهذا المعنى.
وقوله : " ذيت وذيت " من ألفاظ الكنايات ، بمعنى : " كيت وكيت
" .
(2) الأثر : 9744 - " يحيى بن إبراهيم بن أبي عبيدة بن معن بن عبد الرحمن بن
عبد الله بن مسعود المسعودي " سلفت ترجمته برقم : 5379.
و " قيس بن مسلم الجدلي العدواني " روى عن طارق بن شهاب ، وروى عنه
الأعمش ، وسفيان الثوري وآخرون. قال أحمد " ثقة في الحديث ، كان مرجئًا
" وقال أحمد عن سفيان : " يقولون : ما رفع رأسه إلى السماء منذ كذا وكذا
تعظيمًا لله " .
و " طارق بن شهاب الأحمسي " ، روى عنه الأربعة. ورأى طارق النبي صلى
الله عليه وسلم ، وروى عنه مرسلا ، وروى عن الخلفاء الأربعة ، وبلال ، وحذيفة ،
وخالد بن الوليد.
(8/455)
زعمتم أنه لا ذنوب لكم ولا خطايا ،
وأنكم برآء مما يكرهه الله ، ولكنكم أهل فِرْية وكذب على الله ، وليس المزكَّي من
زكى نفسه ، ولكنه الذي يزكيه الله ، والله يزكي من يشاء من خلقه فيطهره ويبرِّئه
من الذنوب ، بتوفيقه لاجتناب ما يكرهه من معاصيه ، إلى ما يرضاه من طاعته.
* * *
وإنما قلنا إنّ ذلك كذلك ، لقوله جل ثناؤه : " انظر كيف يفترون على الله
الكذب " ، وأخبر أنهم يفترون على الله الكذب بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه
، وأن الله قد طهرهم من الذنوب.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا (49) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولا يظلم الله هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم
يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه ، فيبخسهم في تركه تزكيتهم ، وتزكية من ترك تزكيته
، وفي تزكية من زكى من خلقه شيئًا من حقوقهم ، ولا يضع شيئًا في غير موضعه ، ولكنه
يزكي من يشاء من خلقه ، فيوفِّقه ، ويخذل من يشاء من أهل معاصيه. كل ذلك إليه
وبيده ، وهو في كل ذلك غير ظالم أحدًا ممن زكاه أو لم يزكه فتيلا.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " الفتيل " .
فقال بعضهم : هو ما خرج من بين الإصبعين والكفين من الوسخ ، إذا فتلتَ إحداهما
بالأخرى.
*ذكر من قال ذلك :
9745 - حدثني سليمان بن عبد الجبار [ قال ، حدثنا محمد بن الصلت]
(8/456)
قال ، حدثنا أبو كدينة ، عن قابوس ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قال : الفتيل ما خرج من بين إصبعيك. (1) 9746 - حدثنا ابن حميد
قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن التيمي قال : سألت ابن
عباس عن قوله : " ولا يظلمون فتيلا " ، قال : ما فتلت بين إصبعيك.
9747 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن يزيد بن درهم أبي العلاء قال ، سمعت
أبا العالية ، عن ابن عباس : " ولا يظلمون فتيلا " ، قال : الفتيل ، هو
الذي يخرج من بين إصبعي الرجل. (2)
9748 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " ولا يظلمون فتيلا " ، والفتيل ، هو أن تدلُك
إصبعيك ، (3) فما خرج بينهما فهو ذلك.
9749 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ،
__________
(1) الأثر : 9745 - " سليمان بن عبد الجبار بن زريق الخياط " مضى برقم :
5994 وكذلك مضت ترجمة : " محمد بن الصلت " ، وترجمة " أبي كدينة :
يحيى بن المهلب " . هذا وقد كان الإسناد مخرومًا فيما رجحت ، سقط منه ذكر
" محمد بن الصلت " كما مضى في 5994 ، 7964 ، وكما سيأتي الإسناد نفسه
برقم : 9799 ، ولأن سليمان بن عبد الجبار ، لم يلحق " أبا كدينة " .
و " قابوس " هو : قابوس بن أبي ظبيان الجنبي ، روى عن أبيه حصين بن
جندب. وهو ضعيف ، لا يحتج به ، كما قال ابن سعد. قال ابن حبان : " كان رديء
الحفظ ، ينفرد عن أبيه بما لا أصل له " .
وأبوه : " حصين بن جندب الجنبي ، أبو ظبيان. روى عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود
، وابن عباس ، وابن عمر وغيرهم من الصحابة والتابعين ، وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر : 9747 - " يزيد بن درهم ، أبي العلاء العجمي " ، أخو : محمد
بن درهم ، روى عن أنس بن مالك ، والحسن ، وهذا هو يروي أيضًا عن أبي العالية ، ولم
يذكروه. روى عنه وكيع ، وعبد الصمد بن عبد الوارث. قال الفلاس : " ثقة "
، وقال ابن معين : " ليس بشيء " . وذكره ابن حبان في الثقات وقال :
" يخطئ كثيرًا " . مترجم في ابن أبي حاتم 4 / 2 / 260 ، ولسان الميزان 6
: 286. وانظر الأثر التالي : 9811 ، والتعليق عليه.
هذا ، وكان في المطبوعة : " زيد بن درهم : ... " ، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة " تدلك بين إصبعيك " ، زاد " بين " وليست في
المخطوطة.
(8/457)
عن أبي مالك في قوله : " ولا
يظلمون فتيلا " ، قال : الفتيل : الوَسخ الذي يخرج من بين الكفين.
9750 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي ، قال : الفتيل ، ما فتلت به يديك ، فخرج وَسَخ.
9751 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في
قوله : " ولا يظلمون فتيلا " ، قال : ما تدلكه في يديك فيخرج بينهما.
* * *
وأناس يقولون : الذي يكون في بَطن النواة.
*ذكر من قال ذلك :
9752 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فتيلا " ، قال : الذي في بطن
النواة.
9753 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء قال : الفتيل
، الذي في بطن النواة.
9754 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني طلحة بن عمرو : أنه سمع عطاء
بن أبي رباح يقول ، فذكر مثله.
9755 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال قال ابن جريج :
أخبرني عبد الله بن كثير : أنه سمع مجاهدًا يقول : الفتيل ، الذي في شِقّ النواة.
9756 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن سعيد قال ، حدثنا سفيان بن سعيد ،
عن منصور ، عن مجاهد قال : الفتيل ، في النَّوى.
9757 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا
(8/458)
معمر ، عن قتادة في قوله : " ولا
يظلمون فتيلا " ، قال : الفتيل الذي في شِقّ النواة.
9758 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول : الفتيل ، شق النواة.
9759 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : الفتيل ، الذي في بطن
النواة.
9760 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
قال : الفتيل ، الذي يكون في شِقّ النواة.
9761 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " ولا يظلمون فتيلا " ، فتيل النواة.
9762 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا قرة ، عن عطية قال :
الفتيل ، الذي في بطن النواة. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأصل " الفتيل " ، المفتول ، صرف من " مفعول "
إلى " فعيل " كما قيل : " صريع " و " دهين " من
" مصروع " و " مدهون " .
وإذ كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه إنما قصد بقوله : " ولا يظلمون فتيلا
" ، الخبرَ عن أنه لا يظلم عبادَه أقلَّ الأشياء التي لا خطر لها ، فكيف بما
له خطر ؟ وكان الوسخ الذي يخرج من بين إصبعي الرجل أو من بين كفيه إذا فتل إحداهما
على الأخرى ، كالذي هو في شق النواة وبطنها ، وما أشبه ذلك من
__________
(1) الأثر : 9762 - " أبو عامر " هو أبو عامر العقدي ، عبد الملك بن
عمرو ، مضت ترجمته برقم : 4143.
و " قرة " هو قرة بن خالد السدوسي ، روى عن أبي رجاء العطاردي ، وابن
سيرين ، والحسن. وروى عنه شعبة ، ويحيى بن سعيد القطان ، وأبو داود الطيالسي ،
وغيرهم. مترجم في التهذيب و " عطية " هو : عطية بن سعد بن جنادة العوفي.
مترجم في رقم : 305.
(8/459)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
الأشياء التي هي مفتولة ، مما لا خطر
له ، ولا قيمة فواجبٌ أن يكون كل ذلك داخلا في معنى " الفتيل " ، إلا أن
يخرج شيئًا من ذلك ما يجب التسليم له ، مما دل عليه ظاهر التنزيل.
* * *
القول في تأويل قوله : { انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : انظر ، يا محمد ، كيف يفتري هؤلاء الذين
يزكون أنفسهم من أهل الكتاب القائلون : " نحن أبناء الله وأحباؤه " ،
وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى ، الزاعمون أنه لا ذنوب لهم الكذبَ
والزور من القول ، فيختلقونه على الله " وكفى به " ، يقول : وحسبهم
بقيلهم ذلك الكذبَ والزورَ على الله " إثمًا مبينًا " ، يعني أنه يبين
كذبهم لسامعيه ، ويوضح لهم أنهم أفَكَةٌ فجرة ، (1) كما : -
9763 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "
ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " ، قال : هم اليهود والنصارى " انظر كيف
يفترون على الله الكذب " (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " ألم تر " ، فيما سلف قريبًا : 452 ، تعليق : 1 ،
والمراجع هناك وتفسير " النصيب " فيما سلف : 427 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(8/460)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51)
القول في تأويل قوله : { أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ألم تر بقلبك ، يا محمد ، إلى الذين أُعطوا
حظًّا من كتاب الله فعلموه " يؤمنون بالجبت والطاغوت " ، يعني :
يصدِّقون بالجبت والطاغوت ، ويكفرون بالله ، وهم يعلمون أن الإيمان بهما كفر ،
والتصديقَ بهما شرك.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى " الجبت " و " الطاغوت " .
فقال بعضهم : هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله.
*ذكر من قال ذلك :
9764 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال ،
أخبرني أيوب ، عن عكرمة أنه قال : " الجبت " و " الطاغوت " ،
صنمان.
* * *
وقال آخرون : " الجبت " الأصنام ، و " الطاغوت " تراجمة
الأصنام. (1)
*ذكر من قال ذلك :
9765 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون
بالجبت والطاغوت " ، " الجبت " الأصنام ، و " الطاغوت "
، الذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبّرون عنها الكذبَ ليضلوا الناس.
* * *
وزعم رجال أنّ " الجبت " ، الكاهن ، و " الطاغوت " ، رجل من
اليهود يدعى
__________
(1) يعني بقوله : " تراجمة الأصنام " ، الكهان ، تنطق على ألسنة الأصنام
، كأنها تقول للناس بلسانهم ، ما قالته تلك بألسنتها.
(8/461)
كعب بن الأشرف ، وكان سيِّد اليهود.
* * *
وقال آخرون : " الجبت " ، السحر ، و " الطاغوت " ، الشيطان.
*ذكر من قال ذلك :
9766 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن شعبة ، عن أبي
إسحاق ، عن حسان بن فائد قال : قال عمر رحمه الله : " الجبت " السحر ، و
" الطاغوت " الشيطان. (1)
9767 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن حسان بن
فائد العبسي ، عن عمر مثله. (2)
9768 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك ، عمن
حدثه ، عن مجاهد قال : " الجبت " السحر ، و " الطاغوت "
الشيطان.
9769 - حدثني يعقوب قال ، أخبرنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا ، عن الشعبي قال :
" الجبت " ، السحر ، و " الطاغوت " ، الشيطان.
9770 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : " يؤمنون بالجبت والطاغوت " ، قال : " الجبت
" السحر ، و " الطاغوت " ، الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه ،
وهو صاحب أمرهم.
9771 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد قال :
" الجبت " السحر ، و " الطاغوت " ، الشيطان والكاهن.
* * *
__________
(1) الأثر : 9766 - " حسان بن فائد العبسي " ، مضى برقم : 5834 ، وكان
في المطبوعة في هذا الأثر والذي يليه : " حسان بن قائد العنسي " . ومضى
هذا الإسناد برقم : 5835.
(2) الأثر : 9767 - مضى برقم : 5834.
(8/462)
وقال آخرون : " الجبت " ،
الساحر ، و " الطاغوت " ، الشيطان.
*ذكر من قال ذلك :
9772 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : كان أبي يقول :
" الجبت " ، الساحر ، و " الطاغوت " ، الشيطان.
* * *
وقال آخرون : " الجبت " ، الساحر ، و " الطاغوت " ، الكاهن.
*ذكر من قال ذلك :
9773 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ،
عن سعيد بن جبير في هذه الآية : " الجبت والطاغوت " ، قال : "
الجبت " الساحر ، بلسان الحبشة ، و " الطاغوت " الكاهن.
9774 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن رفيع قال :
" الجبت " ، الساحر ، و " الطاغوت " ، الكاهن.
9775 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثني عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن أبي
العالية أنه قال : " الطاغوت " الساحر ، و " الجبت " الكاهن.
9776 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن داود ، عن
أبي العالية ، في قوله : " الجبت والطاغوت " ، قال : أحدهما السحر ،
والآخر الشيطان.
* * *
وقال آخرون : " الجبت " الشيطان ، و " الطاغوت " الكاهن.
*ذكر من قال ذلك :
9777 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
قوله : " يؤمنون بالجبت والطاغوت " ، كنا نحدَّث أن الجبت شيطان ،
والطاغوت الكاهن.
(8/463)
9778 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ،
أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله.
9779 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : " الجبت " الشيطان ، و " الطاغوت " الكاهن.
* * *
وقال آخرون : " الجبت " الكاهن ، و " الطاغوت " الساحر. (1)
*ذكر من قال ذلك :
9780 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير قال
: " الجبت " الكاهن ، و " الطاغوت " الساحر.
9781 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا حماد بن مسعدة قال ، حدثنا عوف ، عن محمد قال
في الجبت والطاغوت ، قال : " الجبت " الكاهن ، والآخر الساحر.
* * *
وقال آخرون : " الجبت " حيي بن أخطب ، و " الطاغوت " ، كعب بن
الأشرف.
*ذكر من قال ذلك :
9782 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي ، عن ابن عباس قوله : " يؤمنون بالجبت والطاغوت " ، "
الطاغوت " : كعب بن الأشرف ، و " الجبت " : حيي بن أخطب.
9783 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن
الضحاك قال : " الجبت " : حيي بن أخطب ، و " الطاغوت " : كعب
بن الأشرف.
9784 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " والطاغوت الشيطان " ، وصواب السياق ما
أثبت.
(8/464)
جويبر ، عن الضحاك في قوله : "
الجبت والطاغوت " ، قال : " الجبت " : حيي بن أخطب ، و "
الطاغوت " : كعب بن الأشرف.
* * *
وقال آخرون : " الجبت " كعب بن الأشرف ، و " الطاغوت "
الشيطان.
*ذكر من قال ذلك :
9785 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد قال : " الجبت
" : كعب بن الأشرف ، و " الطاغوت " : الشيطان ، كان في صورة إنسان.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل : " يؤمنون بالجبت والطاغوت "
، أن يقال : يصدِّقون بمعبودَين من دون الله ، يعبدونهما من دون الله ، ويتخذونهما
إلهين.
وذلك أن " الجبت " و " الطاغوت " : اسمان لكل معظَّم بعبادةٍ
من دون الله ، أو طاعة ، أو خضوع له ، كائنًا ما كان ذلك المعظَّم ، من حجر أو
إنسان أو شيطان. وإذ كان ذلك كذلك ، وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها ،
كانت معظمة بالعبادة من دون الله فقد كانت جُبوتًا وطواغيت. وكذلك الشياطين التي
كانت الكفار تطيعها في معصية الله ، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولا منهما
ما قالا في أهل الشرك بالله. وكذلك حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ، لأنهما كانا
مطاعين في أهل ملّتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله ، فكانا جبتين
وطاغوتين.
* * *
وقد بينت الأصل الذي منه قيل للطاغوت : " طاغوت " ، بما أغنى عن إعادته
في هذا الموضع. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 5 : 419 ، وسائر الآثار في " الطاغوت " من رقم : 5834 -
5845.
(8/465)
القول في تأويل قوله : { وَيَقُولُونَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا (51) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ويقولون للذين جحدوا وحدانية الله ورسالة
رسوله محمد صلى الله عليه وسلم : " هؤلاء " ، يعني بذلك : هؤلاء الذين
وصفهم الله بالكفر " أهدى " ، يعني : أقوم وأعدل " من الذين آمنوا
" ، يعني : من الذين صدَّقوا الله ورسوله وأقرُّوا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى
الله عليه وسلم " سبيلا " ، يعني : طريقًا.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما ذلك مَثَلٌ. ومعنى الكلام : أن الله وصف الذين أوتوا نصيبًا
من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة والإذعان له بالطاعة في الكفر
بالله ورسوله ومعصيتهما ، بأنهم قالوا : (1) إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل
الإيمان به ، وأن دين أهل التكذيب لله ولرسوله ، أعدل وأصوبُ من دين أهل التصديق
لله ولرسوله. وذكر أن ذلك من صفة كعب بن الأشرف ، وأنه قائل ذلك.
ذكر الآثار الواردة بما قلنا :
9786 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن عكرمة ، عن
ابن عباس قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة ، قالت له قريش : أنت حَبْر أهل المدينة
وسيدهم ؟ (2) قال : نعم. قالوا : ألا ترى إلى هذا
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " وأنهم قالوا " بالواو ، والواو متصلة
بالألف في المخطوطة ، والصواب ما أثبته ، وقوله : " بأنهم " متعلق بقوله
: " إن الله وصف... " .
(2) في المطبوعة : " خير أهل المدينة " ، وفي المخطوطة " حبر
" ، وإن كانت غير منقوطة في كثير من المواضع. ووقع في لسان العرب مادة (صنبر)
: " خير " وفي مادة (بتر) : " حبر " ، فأثبتها ورجحتها ، لأنهم
إنما سألوه عن شأن الدين ، والحبر : العالم من أهل الكتاب ، فهو المسئول عن مثل ما
سألوه عنه من أمر خير الدينين.
(8/466)
الصُّنبور المنبتر من قومه ، (1) يزعم
أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج وأهل السِّدانة وأهل السِّقاية ؟ قال : أنتم خير
منه. قال : فأنزلت : ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ) [سورة الكوثر : 3] ،
وأنزلت : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت
" إلى قوله : " فلن تجد له نصيرًا " .
9787 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عكرمة في
هذه الآية : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب " ثم ذكر نحوه.
9788 - وحدثني إسحاق بن شاهين قال ، أخبرنا خالد الواسطي ، عن داود ، عن عكرمة قال
: قدم كعب بن الأشرف مكة ، فقال له المشركون : احكم بيننا ، وبين هذا الصنبور
الأبتر ، فأنت سيدنا وسيد قومك! فقال كعب : أنتم والله خيرٌ منه! فأنزل الله تبارك
وتعالى : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب " ، إلى آخر الآية.
(2)
9789 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال ،
أخبرنا أيوب ، عن عكرمة : أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش ،
فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، (3) وأمرهم أن
__________
(1) " الصنبور " : سفعات تنبت في جذع النخلة ، غير مستأرضة في الأرض. ثم
قالوا للرجل الفرد الضعيف الذليل الذي لا أهل له ولا عقب ولا ناصر " صنبور
" . فأراد هؤلاء الكفار من قريش أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ، بأبي هو وأمي
، صنبور نبت في جذع نخلة ، فإذا قلع انقطع : فكذلك هو إذا مات ، فلا عقب له.
وكذبوا ، ونصر الله رسوله وقطع دابر الكافرين.
و " المنبتر " و " الأبتر " : المنقطع الذي لا عقب له.
(2) الأثر : 9788 - " إسحاق بن شاهين الواسطي " ، مضى برقم : 8211 ، ولم
نجد له ترجمة . و " خالد الواسطي " ، هو : خالد بن عبد الله بن عبد
الرحمن الواسطي " مضى برقم : 7211.
(3) " استجاش القوم " : طلب منهم أن يجيشوا جيشًا.
(8/467)
يغزوه ، وقال : إنا معكم نقاتله.
فقالوا : إنكم أهل كتاب ، وهو صاحب كتاب ، ولا نأمن أن يكون هذا مكرًا منكم! فإن
أردت أن نخرج معك ، فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما. ففعل. ثم قالوا : نحن أهدى أم
محمد ؟ فنحن ننحر الكوماء ، (1) ونسقي اللبن على الماء ، ونصل الرحم ، ونقري الضيف
، ونطوف بهذا البيت ، ومحمد قطع رحمه ، وخرج من بلده ؟ قال : بل أنتم خير وأهدى!
فنزلت فيه : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت
والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا " .
9790 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : قال : لما كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واليهود من بني النضير
ما كان ، (2) حين أتاهم يستعينهم في دية العامريَّين ، فهمّوا به وبأصحابه ، (3)
فأطلع الله رسوله على ما هموا به من ذلك. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة ، فهرب كعب بن الأشرف حتى أتى مكة ، فعاهدهم على محمد ، فقال له أبو سفيان
: يا أبا سعد ، إنكم قوم تقرؤون الكتابَ وتعلمون ، ونحن قوم لا نعلم! فأخبرنا ،
ديننا خير أم دين محمد ؟ قال كعب : اعرضوا عليّ دينكم. فقال أبو سفيان : نحن قوم
ننحر الكوماء ، ونسقي الحجيج الماء ، ونقري الضيف ، ونعمر بيت ربنا ، ونعبد آلهتنا
التي كان يعبد آباؤنا ، ومحمد يأمرنا أن نترك هذا ونتبعه! قال : دينكم خير من دين
محمد ، فاثبتوا عليه ، ألا ترون أنّ محمدًا يزعم
__________
(1) " الكوماء " : هي الناقة المشرقة السنام العاليته ، وهذه خير النوق
وأسمنها وأعزها عليهم ، والجمع " كوم " .
(2) في المطبوعة : " واليهود بني النضير " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) ذلك في سنة أربع من الهجرة ، فأرادوا أن يغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم
وتمالأوا على أن يلقوا عليه حجرًا من فوق جدار البيت الذي كان رسول الله جالسًا
إلى جنبه ، فأطلعه الله على ذلك من أمرهم ، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة ، ثم أمر
بالتهيؤ لحرب بني النضير ، فحاصرهم ، وأجلاهم ، وفيهم نزلت " سورة الحشر
" بأسرها. انظر سيرة ابن هشام 3 : 199 - 213.
(8/468)
أنه بُعِث بالتواضع ، وهو ينكح من
النساء ما شاء! وما نعلم مُلْكًا أعظم من ملك النساء!! (1) فذلك حين يقول : "
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين
كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا " .
9791 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد قال : نزلت في كعب بن الأشرف وكفار قريش ، قال : كفار قريش أهدى من محمد!
" عليه السلام " قال ابن جريج : قدم كعب بن الأشرف ، فجاءته قريش فسألته
عن محمد ، فصغَّر أمره ويسَّره ، وأخبرهم أنه ضالٌّ. قال : ثم قالوا له : ننشدك
الله ، نحن أهدى أم هو ؟ فإنك قد علمت أنا ننحر الكُوم ، ونسقي الحجيج ، ونعمر
البيت ، ونطعم ما هبَّت الريح ؟ (2) قال : أنتم أهدى.
* * *
وقال آخرون : بل هذه الصفة ، صفة جماعة من اليهود ، منهم : حُيَيّ بن أخطب ، وهم
الذين قالوا للمشركين ما أخبر الله عنهم أنهم قالوه لهم.
ذكر الأخبار بذلك :
9792 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن قاله قال ، أخبرني
محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الذين
حَزَّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة : حيي بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق
أبو رافع ، (3) والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق ، (4)
__________
(1) لم تزل هذه مقالة كل طاعن على رسول الله من المستشرقين وأذنابهم في كل أرض ،
والكفر كله ملة واحدة ، والذي يلقى على ألسنتهم ، هو الذي ألقى على لسان هذا
اليهودي الفاجر ، عدو الله وعدو رسوله.
(2) قوله : " نطعم ما هبت الريح " ، يراد به معنى الدوام. ولو أرادوا به
زمن الشتاء في القحط ، لكان صوابًا.
(3) في المطبوعة : " وأبو رافع " بزيادة الواو ، وهو خطأ : " أبو
رافع " كنية سلام ابن أبي الحقيق. والصواب من المخطوطة ، وهو مطابق لما في
سيرة ابن هشام.
(4) في المطبوعة : " والربيع بن أبي الحقيق " أسقط " بن الربيع
" ، والصواب من المخطوطة ، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام.
(8/469)
وأبو عمار ، (1) ووَحْوَح بن عامر ،
وهوذة بن قيس فأما وحوح وأبو عمار وهوذة ، (2) فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني
النضير فلما قدموا على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأوَل ،
فاسألوهم : أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم ، فقالوا : بل دينكم خير من دينه ،
وأنتم أهدى منه وممن اتبعه! فأنزل الله فيهم : " ألم تر إلى الذين أوتوا
نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت " ، إلى قوله : " وآتيناهم
ملكًا عظيمًا " . (3)
9793 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت " ،
الآية ، قال : ذُكر لنا أن هذه الآية أنزلت في كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ،
ورجلين من اليهود من بني النضير ، لقيا قريشًا بمَوْسم ، (4) فقال لهم المشركون :
أنحن أهدى أم محمد وأصحابه ؟ فإنا أهل السِّدانة والسقاية ، وأهل الحرم ؟ فقالا لا
بل أنتم أهدى من محمد وأصحابه! وهما يعلمان أنهما كاذبان ، إنما حملهما على ذلك
حَسَد محمد وأصحابه.
* * *
وقال آخرون : بل هذه صفة حيي بن أخطب وحده ، وإياه عنى بقوله : " ويقولون
للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا " .
*ذكر من قال ذلك :
9794 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ألم
تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب " إلى آخر الآية ، قال : جاء حيي بن
__________
(1) " أبو عمار " في المطبوعة في الموضعين " أبو عامر " ، وهو
خطأ ، صوابه من المخطوطة ، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام.
(2) " أبو عمار " في المطبوعة في الموضعين " أبو عامر " ، وهو
خطأ ، صوابه من المخطوطة ، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام.
(3) الأثر : 9792 - سيرة ابن هشام 2 : 210 ، وهو تابع الآثار التي آخرها رقم :
9724.
(4) الموسم : مجتمع الناس ، في سوق أو في حج أو غيرهما.
(8/470)
أخطب إلى المشركين فقالوا : يا حيي ،
إنكم أصحاب كتب ، فنحن خير أم محمد وأصحابه ؟ فقال : نحن وأنتم خير منهم! فذلك
قوله : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب " إلى قوله : "
ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصحة في ذلك ، قولُ من قال : إن ذلك خبر من الله
جل ثناؤه عن جماعة من أهل الكتاب من اليهود. وجائز أن تكون كانت الجماعةَ الذين
سماهم ابن عباس في الخبر الذي رواه محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد ، أو يكون
حُيَيًّا وآخر معه ، (1) إما كعبًا ، وإما غيره.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " أن يكون " ، وهو خطأ لا ريب فيه ، صوابه ما أثبت.
(8/471)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
القول في تأويل قوله : { أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
نَصِيرًا (52) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " أولئك " ، هؤلاء الذين وصف
صفتهم أنهم أوتوا نصيبًا من الكتاب وهم يؤمنون بالجبت والطاغوت ، هم " الذين
لعنهم الله " ، يقول : أخزاهم الله فأبعدهم من رحمته ، بإيمانهم بالجبت
والطاغوت ، وكفرهم بالله ورسوله عنادًا منهم لله ولرسوله ، وبقولهم للذين كفروا :
" هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا " " ومن يلعن الله " ،
يقول : ومن يخزه الله فيبعده من رحمته " فلن تجد له نصيرًا " ، يقول :
فلن تجد له ، يا محمد ، ناصرًا ينصره من عقوبة الله ولعنته التي تحلّ به ، فيدفع
ذلك عنه ، كما : -
9795 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن
(8/471)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
قتادة قال : قال كعب بن الأشرف وحيي بن
أخطب ما قالا يعني من قولهما : " هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا "
وهما يعلمان أنهما كاذبان ، فأنزل الله : " أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن
الله فلن تجد له نصيرًا " . (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ
النَّاسَ نَقِيرًا (53) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " أم لهم نصيب من الملك " ، أم
لهم حظ من الملك ، يقول : ليس لهم حظ من الملك ، (2) كما : -
9796 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " أم لهم نصيب من الملك " ، يقول : لو كان لهم نصيب من الملك ،
إذًا لم يؤتوا محمدًا نقيرًا.
9797 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج قال ، قال ابن جريج :
قال الله : " أم لهم نصيب من الملك " ، قال : فليس لهم نصيب من الملك ،
[لم يؤتوا الناس نقيرًا] " فإذا لا يؤتون الناس نقيرًا " ، (3) ولو كان
لهم نصيب وحظ من الملك ، لم يكونوا إذًا يعطون الناس نقيرًا ، من بُخْلهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى : " النقير " .
فقال بعضهم : هو النقطة التي في ظهر النواة.
__________
(1) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف : 439 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك
وتفسير " النصير " فيما سلف : 430 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " النصيب " فيما سلف : 460 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة حذف جملة " لم يؤتوا الناس نقيرًا " كلها ، وهي في
الحقيقة جملة قلقة ، فأثبتها كما هي بين قوسين.
(8/472)
*ذكر من قال ذلك :
9798 - حدثني المثنى قال ، حدثني عبد الله قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " نقيرًا " ، يقول : النقطة التي في ظهر
النواة.
9799 - حدثني سليمان بن عبد الجبار قال ، حدثنا محمد بن الصلت قال ، حدثنا أبو
كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : النقير الذي في ظهر النواة. (1)
9800 - حدثني جعفر بن محمد الكوفي المروزي قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن
خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : النقير وَسط النواة. (2)
9801 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا " ، " النقير
" نقيرُ النواة : وَسطها.
9802 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " أم لهم نصيب من الملك فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا " ،
يقول : لو كان لهم نصيب من الملك ، إذًا لم يؤتوا محمدًا نقيرًا و " النقير
" ، النكتة التي في وَسَط النواة.
9803 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني طلحة بن عمرو : أنه سمع عطاء
بن أبي رباح يقول : النقير الذي في ظَهر النواة.
__________
(1) الأثر : 9799 - انظر التعليق على الأثر رقم : 9745.
(2) الأثر : 9800 - " جعفر بن محمد الكوفي المروزي " ، لم أعرف من هو ،
ولكني رأيت أبا جعفر روى عنه في التاريخ 5 : 18 ، دون ذكر " المروزي " ،
و " جعفر بن محمد " كثير ، ولكن لم أجد هذه النسب التي ذكرها الطبري. و
" عبيد الله " لم أعرفه.
(8/473)
9804 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ،
أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : " النقير " ، النقرة
التي تكون في ظهر النواة.
9805 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن أبي مالك
قال : " النقير " ، الذي في ظهر النواة.
* * *
وقال آخرون : " النقير " ، الحبة التي تكون في وَسَط النواة.
*ذكر من قال ذلك :
9806 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : " نقيرًا " ، قال : " النقير " ، حبة
النواة التي في وَسَطها.
9807 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا " ، قال : النقير ، حبة
النواة التي في وسطها.
9808 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سفيان بن سعيد ،
عن منصور ، عن مجاهد قال : " النقير " ، في النوى.
9809 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج :
أخبرني عبد الله بن كثير : أنه سمع مجاهدًا يقول : " النقير " ، نقير
النواة الذي في وسطها.
9810 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول : " النقير " ، نقير النواة الذي يكون
في وَسط النواة.
* * *
(8/474)
وقال آخرون : معنى ذلك : نَقْرُ الرجل
الشيء بَطَرف أصابعه.
*ذكر من قال ذلك :
9811 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن يزيد بن درهم أبي العلاء قال ، سمعت
أبا العالية : ووضع ابن عباس طرف الإبهام على ظهر السبابة ، ثم رفعهما وقال : هذا
النقير. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال ، إن الله وصف هؤلاء الفرْقة
من أهل الكتاب بالبخل باليسير من الشيء الذي لا خطر له ، ولو كانوا ملوكًا وأهلَ
قدرة على الأشياء الجليلة الأقدار. فإذْ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بمعنى
" النقير " ، أن يكون أصغرَ ما يكون من النُّقر. وإذا كان ذلك أولى به ،
فالنقرة التي في ظهر النواة من صغار النُّقر ، وقد يدخل في ذلك كل ما شَاكلها من
النُّقر. ورفع قوله : " لا يؤتون الناس " ، ولم ينصبْ بـ " إذَنْ
" ، ومن حكمها أن تنصب الأفعال المستقبلة إذا ابتدئ الكلام بها ، لأن معها
" فاء " . ومن حكمها إذا دخل فيها بعضُ حروف العطف ، أن توجه إلى
الابتداء بها مرة ، وإلى النقل عنها إلى غيرها أخرى. وهذا الموضع مما أريد بـ
" الفاء " فيه ، النقل عن " إذَنْ " إلى ما بعدها ، وأن يكون
معنى الكلام : أم لهم نصيب ، فلا يؤتون الناس نقيرًا إذَنْ. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 9811 - " يزيد بن درهم ، أبي العلاء " مضى برقم : 9747 في
مثل هذا الإسناد ، وقد علقت عليه هناك. وكان في المطبوعة هنا أيضًا " زيد بن
درهم " ، وقد بينت خطأ ذلك هناك. أما المخطوطة هنا ، فكان فيها : " عن
ابن در بن درهم " سيئة الكتابة ، متصلة الراءين ، غير منقوطة.
(2) القول في " إذن " استوفاه الفراء في معاني القرآن 1 : 273 ، 274.
(8/475)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
القول في تأويل قوله : { أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " أم يحسدون الناس " ، أم يحسد
هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من اليهود ، كما : -
9812 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : " أم يحسدون الناس " ، قال : يهود.
9813 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
9814 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة مثله.
* * *
وأما قوله : " الناس " ، فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عَنَى الله به.
فقال بعضهم : عنى الله بذلك محمدًا صلى الله عليه وسلم خاصةً.
*ذكر من قال ذلك :
9815 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط قال ، أخبرنا هشيم ، عن
خالد ، عن عكرمة في قوله : " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله
" ، قال : " الناس " في هذا الموضع ، النبيّ صلى الله عليه وسلم
خاصةً.
9816 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " ، يعني محمدًا
صلى الله عليه وسلم.
(8/476)
9817 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني
أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس مثله.
9818 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد : " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " ، قال : "
الناس " ، محمدًا صلى الله عليه وسلم.
9819 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول ، فذكر نحوه.
* * *
وقال آخرون : بل عنى الله به العرب.
*ذكر من قال ذلك :
9820 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " ، أولئك اليهود ، حسدوا
هذا الحيَّ من العرب على ما آتاهم الله من فضله.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إنّ الله عاتب اليهودَ
الذين وصف صفتهم في هذه الآيات ، فقال لهم في قيلهم للمشركين من عبدة الأوثان إنهم
أهدى من محمد وأصحابه سبيلا على علم منهم بأنهم في قيلهم ما قالوا من ذلك كذَبة :
أتحسدون محمدًا وأصحابه على ما آتاهم الله من فضله. (1)
* * *
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن ما قبل قوله : " أم يحسدون الناس على ما
آتاهم الله من فضله " ، مضى بذّم القائلين من اليهود للذين كفروا : "
هؤلاء أهدىَ من الذين آمنوا سبيلا " ، فإلحاق قوله : " أم يحسدون الناس
على ما آتاهم الله من فضله " ، بذمهم على ذلك ، وتقريظ الذين آمنوا الذين قيل
فيهم ما قيل أشبهُ
__________
(1) في المطبوعة : " أم يحسدون " ، والصواب من المخطوطة.
(8/477)
وأولى ، ما لم تأت دلالة على انصراف
معناه عن معنى ذلك.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل " الفضل " الذي أخبر الله أنه آتى الذين
ذكرهم في قوله : " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " . (1)
فقال بعضهم : ذلك " الفضل " هو النبوّة.
*ذكر من قال ذلك :
9821 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " ، حسدوا هذا الحيَّ من العرب
على ما آتاهم الله من فضله. بعث الله منهم نبيًا ، فحسدوهم على ذلك.
9822 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج :
" على ما آتاهم الله من فضله " ، قال : النبوة.
وقال آخرون : بل ذلك " الفضل " الذي ذكر الله أنه آتاهموه ، هو إباحته
ما أباح لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من النساء ، ينكح منهن ما شاء بغير عدد.
قالوا : وإنما يعني : بـ " الناس " ، محمدًا صلى الله عليه وسلم ، على
ما ذكرتُ قبل.
*ذكر من قال ذلك :
9823 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله "
الآية ، وذلك أن أهل الكتاب قالوا : " زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع ،
وله تسع نسوة ، ليس همه إلا النكاح! فأيّ ملك أفضَلُ من هذا " ! فقال الله :
" أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " .
9824 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " الفضل " فيما سلف في فهارس اللغة.
(8/478)
أسباط ، عن السدي : " أم يحسدون
الناس على ما آتاهم الله من فضله " ، يعني : محمدًا ، أن ينكح ما شَاء من
النساء.
9825 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من
فضله " ، وذلك أن اليهود قالوا : " ما شأن محمد أُعطي النبوّة كما يزعم
، وهو جائع عارٍ ، وليس له هم إلا نكاحُ النساء ؟ " فحسدوه على تزويج الأزواج
، وأحل الله لمحمد أن ينكح منهن ما شاء أن ينكح. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، قولُ قتادة وابن جريج الذي
ذكرناه قبل : أن معنى " الفضل " في هذا الموضع : النبوّة التي فضل الله
بها محمدًا ، وشرّف بها العرب ، إذ آتاها رجلا منهم دون غيرهم لما ذكرنا من أن
دلالة ظاهر هذه الآية ، تدلّ على أنها تقريظٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
رحمة الله عليهم ، (2) على ما قد بينا قبل. وليس النكاح وتزويجُ النساء وإن كان من
فضْل الله جل ثناؤهُ الذي آتاه عباده بتقريظ لهم ومدح.
* * *
__________
(1) الأثر : 9825 - في المخطوطة والمطبوعة : " حدثت عن الحسين بن الفرج قال
سمعت الضحاك يقول " ، أسقط من الإسناد ما أثبته. وهو إسناد دائر في التفسير ،
أقربه رقم : 9819.
وقد أسلفت أن مقالة اليهود هذه ، قد تلقفها من بعدهم أهل الضغن على محمد رسول الله
، ولا يزالون يبثونها في كتبهم ، وقد تعلق بها أشياعهم من أهل الضلالة المتعبدين
لسادتهم من المستشرقين في زماننا هذا.
(2) في المطبوعة : " رضي الله عنهم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وقد فعلت
ذلك مرارًا دون أن أنبه عليه في بعض المواضع.
(8/479)
القول في تأويل قوله : { فَقَدْ
آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا
عَظِيمًا (54) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أم يحسد هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه
الآيات الناسَ على ما آتاهم الله من فضله ، من أجل أنهم ليسوا منهم ؟ فكيف لا
يحسدون آل إبراهيم ، فقد آتيناهم الكتاب ويعني بقوله : " فقد آتينا آل
إبراهيم " ، فقد أعطينا آل إبراهيم ، يعني : أهله وأتباعه على دينه (1)
" الكتاب " ، يعني كتاب الله الذي أوحاه إليهم ، وذلك كصحف إبراهيم
وموسى والزّبور ، وسائر ما آتاهم من الكتب.
* * *
وأما " الحكمة " ، فما أوحى إليهم مما لم يكن كتابًا مقروءًا (2) "
وآتيناهم ملكًا عظيمًا " .
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " الملك العظيم " الذي عناه الله في هذه
الآية. (3)
فقال بعضهم : هو النبوّة.
*ذكر من قال ذلك :
9826 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
في قول الله : " أم يحسدون الناس " ، قال : يهود " على ما آتاهم
الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب " ، وليسوا منهم " والحكمة
وآتيناهم ملكًا عظيمًا " ، قال : النبوّة.
__________
(1) انظر تفسير " آل " فيما سلف 2 : 37 / 3 : 222 ، تعليق : 1 / 6 :
326.
(2) انظر تفسير " الحكمة " فيما سلف 7 : 369 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " الملك " فيما سلف 1 : 148 - 150 / 2 : 488 / 5 : 312 ،
314 ، 371 / 6 : 299 ، 300.
(8/480)
9827 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو
حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله إلا أنه قال : "
ملكًا " ، النبوّة.
* * *
وقال آخرون : بل ذلك تحليلُ النساء. قالوا : وإنما عنى الله بذلك : أم يحسدون
محمدًا على ما أحلّ الله له من النساء ، فقد أحل الله مثل الذي أحله له منهن ،
لداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء ، فكيف لم يحسدوهم على ذلك ، وحسدوا محمدًا عليه
السلام ؟
*ذكر من قال ذلك :
9828 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فقد آتينا آل إبراهيم " ، سليمان وداود " الحكمة "
، يعني : النبوة " وآتيناهم ملكًا عظيمًا " ، في النساء ، فما باله حَلّ
لأولئك وهم أنبياء : أن ينكح داود تسعًا وتسعين امرأة ، وينكح سليمان مئة ، ولا
يحل لمحمد أن ينكح كما نكحوا ؟
* * *
وقال آخرون : بل معنى قوله : " وآتيناهم ملكًا عظيمًا " ، الذي آتى
سليمان بن داود.
*ذكر من قال ذلك :
9829 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " وآتيناهم ملكًا عظيمًا " . يعني ملكَ سليمان.
* * *
وقال آخرون : بل كانوا أُيِّدوا بالملائكة.
*ذكر من قال ذلك :
9830 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا
(8/481)
فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن همام بن
الحارث : " وآتيناهم ملكًا عظيمًا " ، قال : أُيِّدوا بالملائكة
والجنود.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية وهي قوله : " وآتيناهم ملكًا
عظيمًا " القولُ الذي رُوي عن ابن عباس أنه قال : " يعني ملك سليمان
" . لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب ، دون الذي قال إنه ملك النبوّة ، ودون
قول من قال : إنه تحليلُ النساء والملك عليهن. (1) لأن كلام الله الذي خوطب به
العرب ، غيرُ جائز توجيهه إلا إلى المعروف المستعمل فيهم من معانيه ، إلا أن تأتي
دلالةٌ أو تقوم حُجة على أن ذلك بخلاف ذلك ، يجبُ التسليم لها.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : { فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ
عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فمن الذين أوتوا الكتاب من يهود بني إسرائيل
، الذين قال لهم جل ثناؤه : " آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم من قبل أن
نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها " " مَنْ آمن به " ، يقول : من
صدَّق بما أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم مصدّقًا لما معهم " ومنهم من
صدّ عنه " ، ومنهم من أعرَض عن التصديق به ، (2) كما : -
9831 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : " فمنهم من آمن به " ، قال : بما أنزل على محمد من يهود "
ومنهم من صدّ عنه " .
__________
(1) انظر تفسير " الملك " فيما سلف 1 : 148 - 150 / 2 : 488 / 5 : 312 ،
314 ، 371 / 6 : 299 ، 300.
(2) انظر تفسير " الصد " فيما سلف 4 : 300 / 7 : 53.
(8/482)
9832 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو
حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر : وفي هذه الآية دلالة على أن الذين صدّوا عما أنزل الله على محمد
صلى الله عليه وسلم ، من يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالَيْ مُهاجَر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، إنما رَفعَ عنهم وعيدَ الله الذي توعِّدهم به في قوله : (
آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ
وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا
أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ) في الدنيا ، (1) وأخرت
عقوبتهم إلى يوم القيامة ، لإيمان من آمن منهم ، وأن الوعيدَ لهم من الله بتعجيل
العقوبة في الدنيا ، إنما كان على مقام جميعهم على الكفر بما أنزل على نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم. فلما آمن بَعضُهم ، خرجوا من الوعيد الذي توعَّده في عاجل
الدنيا ، وأخرت عقوبةُ المقيمين على التكذيب إلى الآخرة ، فقال لهم : كفاكم بجهنم
سعيرًا. (2)
* * *
ويعني بقوله : " وكفى بجهنم سعيرًا " ، وحسبكم ، أيها المكذبون بما
أنزلت على محمد نبيي ورسولي " بجهنم سعيرًا " ، يعني : بنار جهنم ،
تُسعَر عليكم أي : تُوقدُ عليكم.
* * *
وقيل : " سعيرًا " ، أصله " مسعورًا " ، من " سُعِرت
تُسعَر فهي مسعورة " ، كما قال الله : ( وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ )
[سورة التكوير : 12] ، ولكنها صرفت إلى " فعيل " ، كما قيل : " كف
خضيب " ، و " لحية دهين " ، بمعنى : مخضوبة ومدهونة - و "
السعير " ، الوقود. (3)
* * *
__________
(1) هي الآية السالفة من " سورة النساء " رقم : 47.
(2) انظر ما سلف ص : 445س : 4 وما بعده.
(3) انظر تفسير " السعير " فيما سلف : 30.
(8/483)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
القول في تأويل قوله : { إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ }
قال أبو جعفر : هذا وعيد من الله جل ثناؤه للذين أقاموا على تكذيبهم بما أنزل الله
على محمد من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر الكفار ، وبرسوله. يقول الله لهم :
إن الذين جحدوا ما أنزلتُ على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم ، من آياتي يعني : من
آيات تنزيله ، ووَحي كتابه ، وهي دلالاته وحججه على صدق محمد صلى الله عليه وسلم
فلم يصدقوا به من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر أهل الكفر به " سوف نصليهم
نارًا " ، يقول : سوف ننضجهم في نارٍ يُصلون فيها أي يشوون فيها (1) "
كلما نضجت جلودهم " ، يقول : كلما انشوت بها جلودهم فاحترقت " بدلناهم
جلودًا غيرها " ، يعني : غير الجلود التي قد نضجت فانشوت ، كما : -
9833 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن ثوير ، عن ابن عمر :
" كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها " ، قال : إذا احترقت جلودهم
بدّلناهم جلودًا بيضًا أمثالَ القراطيس. (2)
9834 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا كلما نضجت جلودهم
__________
(1) انظر تفسير " الإصلاء " فيما سلف : 27 - 29 ، 231.
(2) الأثر : 9833 - " ثوير " ، هو : ثوير بن أبي فاختة سعيد بن علاقة
الهاشمي. مضت ترجمته برقم : 3212 ، 5414. وفي المطبوعة : " نوير " ، وفي
المخطوطة غير منقوط.
في المطبوعة : " جلودًا بيضاء " ، وهو خطأ ، والصواب في المخطوطة.
و " القراطيس " جمع " قرطاس " : وهو الصحيفة البيضاء التي
يكتب فيها.
(8/484)
بدلناهم جلودًا غيرَها " ، يقول :
كلما احترقت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرَها.
9835 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع في قوله : " كلما نضجت جلودهم " ، قال : سمعنا أنه مكتوب في
الكتاب الأول : جلدُ أحدهم أربعون ذراعًا ، (1) وسِنُّه سبعون ذراعًا ، وبطنه لو
وضع فيه جبل وَسِعه. (2) فإذا أكلت النار جلودهم بُدّلوا جلودًا غيرها.
9836 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك قال :
بلغني عن الحسن : " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها " ، قال :
ننضجهم في اليوم سبعين ألف مرة.
9837 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو عبيدة الحداد ، عن هشام
بن حسان ، عن الحسن قوله : " كلما نضجت جلودهم بدلناهم غيرها " ، قال :
تنضج النار كل يوم سبعين ألف جلد. قال : وغلظ جلد الكافر أربعون ذراعًا ، والله
أعلم بأيِّ ذراع! (3) .
* * *
قال أبو جعفر : فإن سأل سائل فقال : وما معنى قوله جل ثناؤه : " كلما نضجت
جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها " ؟ وهل يجوز أن يبدّلوا جلودًا غير جلودهم
التي كانت لهم في الدنيا ، فيعذَّبوا فيها ؟ فإن جاز ذلك عندك ، فأجز أن يُبدَّلوا
أجسامًا وأرواحًا غير أجسامهم وأرواحهم التي كانت لهم في الدنيا فتعذّب! وإن أجزت
ذلك ، لزمك أن يكون المعذبون في الآخرة بالنار ، غيرُ الذين أوعدهم الله العقابَ
على كفرهم به ومعصيتهم إياه ، وأن يكون الكفار قد ارتفعَ عنهم العذاب!!
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " أن جلده... " ، وأثبت ما في المخطوطة. وعنى بذلك
غلظ الجلد ، كما سيأتي في رقم : 9837.
(2) في المطبوعة : " لوسعه " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الأثر : 9837 - " أبو عبيدة الحداد " ، هو : عبد الواحد بن واصل
السدوسي. مضت ترجمته برقم : 8284.
و " هشام بن حسان القردوسي " مضى برقم : 2827.
(8/485)
قيل : إن الناس اختلفوا في معنى ذلك.
فقال بعضهم : العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم ، (1) وإنما
يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب. وأما الجلد واللحم ، فلا يألمان. قالوا :
فسواء أعيد على الكافر جلدهُ الذي كان له في الدنيا أو جلدٌ غيره ، إذ كانت الجلود
غير آلمة ولا معذَّبة ، وإنما الآلمةُ المعذبةُ : النفسُ التي تُحِس الألم ، ويصل
إليها الوجع. قالوا : وإذا كان ذلك كذلك ، فغير مستحيل أن يُخْلق لكل كافر في
النار في كل لحظة وساعة من الجلود ما لا يحصى عدده ، ويحرق ذلك عليه ، ليصل إلى
نفسه ألم العذاب ، إذ كانت الجلود لا تألَمُ.
* * *
وقال آخرون : بل الجلودُ تألم ، واللحمُ وسائرُ أجزاء جِرْم بني آدم. وإذا أحرق
جلدهُ أو غيره من أجزاء جسده ، وصل ألم ذلك إلى جميعه. قالوا : ومعنى قوله :
" كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها " : بدلناهم جلودًا غير
محترقة. وذلك أنها تعاد جديدة ، والأولى كانت قد احترقتْ ، فأعيدت غير محترقة ،
فلذلك قيل : " غيرها " ، لأنها غير الجلود التي كانت لهم في الدنيا ،
التي عصوا الله وهى لهم. قالوا : وذلك نظيرُ قول العرب للصّائغ إذا استصاغته
خاتمًا من خاتم مَصُوغ ، (2) بتحويله عن صياغته التي هُو بها ، إلى صياغة أخرى :
" صُغْ لي من هذا الخاتم خاتمًا غيره " ، فيكسره ويصوغ له منه خاتمًا
غيره ، والخاتم المصوغ بالصّياغة الثانية هو الأول ، ولكنه لما أعيد بعد كسره
خاتمًا قيل : " هو غيره " . قالوا : فكذلك معنى قوله : " كلما نضجت
جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها " ، لما
__________
(1) في المخطوطة : " الذي هو الجلد واللحم " ، وهو لا يستقيم ، وأصاب
ناشر المطبوعة الأولى في زيادة " غير " .
(2) " استصاغه خاتما " : طلب إليه أن يصوغ له خاتمًا. وهذه صيغة لم
تذكرها كتب اللغة ، وهي عربية معرقة ، وقياس صحيح.
(8/486)
احترقت الجلود ثم أعيدت جديدة بعد
الاحتراق ، (1) قيل : " هي غيرها " ، على ذلك المعنى.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " كلما نضجت جلودهم " ، (2) سرابيلهم ، بدلناهم
سرابيل من قَطِران غيرها. فجعلت السرابيل [من] القطران لهم جلودًا ، (3) كما يقال
للشيء الخاص بالإنسان : " هو جِلدة ما بين عينيه ووجهه " ، لخصُوصه به.
قالوا : فكذلك سرابيل القطران التي قال الله في كتابه : ( سَرَابِيلُهُمْ مِنْ
قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) [سورة إبراهيم : 50] ، لما صارت لهم
لباسًا لا تفارق أجسامهم ، جعلت لهم جلودًا ، فقيل : كلما اشتعل القَطِران في
أجسامهم واحترق ، بدلوا سرابيل من قطران آخر. قالوا : وأما جلود أهل الكفر من أهل
النار ، فإنها لا تحترق ، (4) لأن في احتراقها إلى حال إعادتها فناءَها ، (5) وفي
فنائها رَاحتها. قالوا : وقد أخبر الله تعالى ذكره عنها : أنهم لا يموتون ولا يخفف
عنهم من عذابها. قالوا : وجلود الكفار أحد أجسامهم ، ولو جاز أن يحترق منها شيء
فيفنى ثم يعاد بعد الفناء في النار ، جاز ذلك في جميع أجزائها. وإذا جاز ذلك ، وجب
أن يكون جائزًا عليهم الفناء ، ثم الإعادة والموت ، ثم الإحياء ، وقد أخبر الله
عنهم أنهم لا يموتون. قالوا : وفي خبره عنهم أنهم لا يموتون ، دليل واضح أنه لا
يموت شيء من أجزاء أجسامهم ، والجلود أحدُ تلك الأجزاء.
* * *
وأما معنى قوله : " ليذوقوا العذاب " ، فإنه يقول : فعلنا ذلك بهم ،
ليجدوا ألم العذاب وكربه وشدته ، بما كانوا في الدنيا يكذّبون آيات الله ويجحدونها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " الاحتراق " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وقال آخرون : معنى ذلك " ، والسياق يقتضي
ما أثبت.
(3) الزيادة التي بين القوسين ، لا غنى عنها.
(4) في المطبوعة : " لا تحرق " والجيد ما في المخطوطة كما أثبته.
(5) يعني : أنها عندئذ تفنى حتى تعاد مرة أخرى ، وفناؤه يوجب فترة يخف فيها عنهم
العذاب. وهذا باطل كما سترى في الحجج التالية.
(8/487)
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) }
قال أبو جعفر : يقول : إن الله لم يزل (1) " عزيزًا " في انتقامه ممن
انتقم منه من خلقه ، لا يقدر على الامتناع منه أحد أرادَه بضرّ ، ولا الانتصار منه
أحدٌ أحلّ به عقوبة " حكيمًا " في تدبيره وقضائه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا (57) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " والذين آمنوا وعملوا الصالحات "
، والذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وصدّقوا بما أنزل الله على
محمد مصدّقًا لما معهم من يهود بني إسرائيل وسائر الأمم غيرهم " وعملوا
الصالحات " ، يقول : وأدّوا ما أمرهم الله به من فرائضه ، واجتنبوا ما حرّم
الله عليهم من معاصيه ، وذلك هو " الصالح " من أعمالهم " سندخلهم
جنات تجري من تحتها الأنهار " ، يقول : سوف يدخلهم الله يوم القيامة "
جنات " ، يعني : بساتين (3) " تجري من تحتها الأنهار " ، يقول :
تجري من تحت تلك الجنات الأنهار " خالدين فيها أبدًا " ، يقول : باقين
فيها أبدًا بغير نهاية ولا انقطاع ، دائمًا ذلك لهم فيها أبدًا " لهم فيها
أزواج " ، يقول : لهم في تلك الجنات التي وصف صفتها " أزواج
__________
(1) انظر تفسير " كان " بمعنى : لم يزل فيما سلف : 426 ، تعليق : 1 ،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " في فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير " جنة " فيما سلف : 7 : 494 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك.
(8/488)
مطهرة " ، يعني : بريئات من
الأدناس والرَّيْب والحيض والغائط والبول والحَبَل والبُصاق ، وسائر ما يكون في
نساء أهل الدنيا. وقد ذكرنا ما في ذلك من الآثار فيما مضى قبل ، وأغنى ذلك عن
إعادتها. (1)
* * *
وأما قوله : " وندخلهم ظِلا ظليلا " ، فإنه يقول : وندخلهم ظلا كَنينًا
، كما قال جل ثناؤه : ( وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ) [سورة الواقعة : 30] ، وكما : -
9838 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن وحدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد
بن جعفر قالا جميعًا ، حدثنا شعبة قال ، سمعت أبا الضحاك يحدّث ، عن أبي هريرة ،
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : إنّ في الجنة لشجرةً يسيرُ الراكب في ظلّها
مئة عام لا يقطعها ، شجرةُ الخلد. (2)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 395 - 397 / 6 : 261 ، 262.
(2) الحديث : 9838 - عبد الرحمن : هو ابن مهدي.
أبو الضحاك البصري : تابعي ، لم يعرف إلا بهذا الحديث ، ولم يرو عنه أحد غير شعبة.
مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 395.
والحديث رواه أحمد في المسند : 9870 ، عن محمد بن جعفر وحجاج ، و : 9951 ، عن عبد
الرحمن ، وهو ابن مهدي - ثلاثتهم عن شعبة. (المسند 2 : 455 ، 462 حلبي).
وذكر الحافظ في المزي في تهذيب الكمال (مخطوط مصور) أنه رواه ابن ماجه في التفسير.
ونقله ابن كثير 2 : 490 ، عن هذا الموضع من الطبري.
وأصل الحديث ثابت عن أبي هريرة ، من أوجه كثيرة ، في المسند والصحيحين وغيرهما ،
دون زيادة " شجرة الخلد " . انظر المسند : 7490. وقد أشرنا لكثير من
طرقه هناك.
(8/489)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ }
* * *
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية.
فقال بعضهم : عني بها ولاة أمور المسلمين.
*ذكر من قال ذلك :
9839 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن أبي مكين ،
عن زيد بن أسلم قال : نزلت هذه الآية : " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات
إلى أهلها " ، في ولاة الأمر. (1)
9840 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا ليث ، عن شهر قال : نزلت
في الأمراء خاصة " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم
بين الناس أن تحكموا بالعدل " .
9841 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا إسماعيل ، عن مصعب بن
سعد قال ، قال علي رضي الله عنه كلماتٍ أصاب فيهن : " حقٌّ على الإمام أن
يحكم بما أنزل الله ، وأن يؤدِّيَ الأمانة ، وإذا فعل ذلك ، فحقّ على الناس أن
يسمعوا ، وأن يُطيعوا ، وأن يجيبوا إذا دُعوا " . (2)
9842 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، حدثنا إسماعيل عن مصعب بن
سعد ، عن علي بنحوه.
__________
(1) الأثر : 9839 - " أبو أسامة " هو : حماد بن أسامة بن زيد القرشي ،
مضى برقم : 5265. و " أبو مكين " هو : نوح بن ربيعة ، مضى برقم : 9742.
(2) الأثر : 9841 - " مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري " . روى عن أبيه ،
وعلي ، وطلحة ، وعكرمة ابن أبي جهل ، وغيرهم ، تابعي ثقة ، قال ابن سعد : "
كان ثقة كثير الحديث " . مترجم في التهذيب.
(8/490)
9843 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي
قال ، حدثنا موسى بن عمير ، عن مكحول في قول الله : " وأولي الأمر منكم
" ، قال : هم أهلُ الآية التي قبلها : " إن الله يأمرُكم أن تؤدّوا
الأمانات إلى أهلها " ، إلى آخر الآية.
9844 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا ابن زيد قال ، قال أبي : هم
الوُلاة ، أمرهم أن يؤدّوا الأمانات إلى أهلها.
وقال آخرون : أمر السلطان بذلك : أن يعِظوا النساء. (1)
*ذكر من قال ذلك :
9845 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن الله يأمرُكم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها " ، قال : يعني السلطان ، يعظون النساء. (2)
* * *
وقال آخرون : الذي خوطب بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم في مفتاح الكعبة ، أمر
برَدّها على عثمان بن طلحة.
*ذكر من قال ذلك :
9846 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله :
" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " ، قال : نزلت في عُثمان
بن طلحة بن أبي طلحة ، قَبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة ، ودخل به
البيت يوم الفتح ، (3) فخرج وهو يتلو هذه الآية ، فدعا عثمان
__________
(1) في المطبوعة : " أن يعطوا الناس " ، غير ما في المخطوطة ، وهو الذي
أثبته ، ولكنه كان في المخطوطة غير منقوط ، فلم يحسن قراءته ، فكتب ما لا معنى له.
والمقصود بذلك أن على الأمراء أن يعظوا النساء في النشوز وغيره ، حتى يردوهن إلى
أزواجهن. وهو القول المنسوب إلى ابن عباس في كتب التفسير.
(2) في المطبوعة : " يعظون الناس " ، وهو خطأ ، وانظر التعليق السالف.
(3) في المطبوعة : " مفاتيح الكعبة ، ودخل بها البيت " ، وكان في
المخطوطة : " مفاتيح الكعبة ودخل به البيت " ، ورد اللفظ مفردًا "
المفتاح " في هذا الأثر والذي يليه ، وكذلك نقله ابن كثير في تفسيره 2 : 492
" مفتاح الكعبة " بالإفراد ، فصححت نص المخطوطة ، كما في ابن كثير.
(8/491)
فدفع إليه المفتاح. قال : وقال عمر بن
الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية : فداهُ أبي
وأمي! (1) ما سمعته يَتلوها قبل ذلك!
9847 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا الزنجي بن خالد ، عن الزهري
قال : دفعه إليه وقال : أعينوه. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي ، قولُ من قال : هو خطاب من
الله ولاةَ أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من وَلُوا أمره في فيئهم وحقوقهم ،
وما ائتمنوا عليه من أمورهم ، بالعدل بينهم في القضية ، والقَسْم بينهم بالسوية.
يدل على ذلك ما وَعظ به الرعية (3) في : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ) ، فأمرهم بطاعتهم ، وأوصى الرّاعي بالرعية
، وأوصى الرعية بالطاعة ، كما : -
9848 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الأمْرِ مِنْكُمْ ) قال : قال أبي : هم السلاطين. وقرأ ابن زيد : ( تُؤْتِي
الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ
تَشَاءُ ) [سورة آل عمران : 26] ، وإنما نقول : هم العلماء الذي يُطيفون على
__________
(1) في المطبوعة : " فداؤه أبي وأمي " ، وأثبت ما في المخطوطة وابن
كثير.
(2) الأثر : 9847 - " الزنجي بن خالد " هو : مسلم بن خالد بن فروة ، أبو
خالد الزنجي ، الفقيه المكي. وإنما سموه " الزنجي " قالوا : لأنه كان
شديد السواد. وقالوا : لأنه كان أشقر كالبصلة. وقالوا : كان أبيض مشربًا بحمرة ،
وإنما سمى " الزنجي " لمحبته التمر. قالت له جاريته : " ما أنت إلا
زنجي " ، لأكل التمر ، فبقي عليه هذا اللقب.
ومن الزنجي تعلم الشافعي الفقه قبل أن يلقى مالكًا. ولكنهم تكلموا في حديثه ، فقال
البخاري : " منكر الحديث ، يكتب حديثه ولا يحتج به " . وذكروا عللا في
ضعف حديثه وهو صدوق. مترجم في التهذيب.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " فدل على ذلك ما وعظ به الرعية " ، وهو
كلام فاسد جدًا ، أخل بحجة الطبري ، والصواب ما أثبت.
(8/492)
السلطان ، (1) ألا ترى أنه أمرهم فبدأ
بهم ، بالولاة فقال (2) " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها "
؟ و " الأمانات " ، هي الفيء الذي استأمنهم على جمعه وقَسْمه ، والصدقات
التي استأمنهم على جمعها وقسمها " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل
" الآية كلها. فأمر بهذا الولاة. ثم أقبل علينا نحن فقال : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ
مِنْكُمْ ) .
* * *
وأما الذي قال ابن جريج من أنّ هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة ، فإنه جائز أن
تكون نزلت فيه ، وأريد به كل مؤتمن على أمانة ، فدخلَ فيه ولاة أمور المسلمين ،
وكلّ مؤتمن على أمانة في دين أو دنيا. ولذلك قال من قال : عُني به قضاءُ الدين ،
وردّ حقوق الناس ، كالذي : -
9849 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها
" ، فإنه لم يرخص لموسِر ولا معسر أن يُمسكها.
9850 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " ، عن الحسن : أن
__________
(1) حذف ناشر المطبوعة هذه الجملة إذ لم يفهمها ، وجعل سياق الكلام هكذا : "
... ممن تشاء ، ألا ترى أنه أمر فقال : إن الله يأمركم " ، وهذا فساد شديد ،
وهجر للأمانة ، وعبث بكلام أهل التاويل. وقائل هذا الكلام هو ابن زيد ، بعد أن ذكر
تأويل أبيه زيد بن أسلم.
وقوله : " يطيفون على السلطان " هم الذين يقاربونه ويدنيهم في مجالسه
ويستشيرهم. من قوله : " طاف بالشيء وطاف عليه وأطاف به وأطاف عليه " :
دار حوله.
(2) في المطبوعة : " أنه أمر فقال... " كما ذكرت في التعليق السالف.
وسياق عبارته أنه أمر العلماء بالولاة - فبدأ بهم ، أي : بالعلماء. والعلماء هم
الذين يفتون الولاة في قسمة الفيء والصدقات ، لأنهم هم أهل العلم بها. فهذا خطاب
للعلماء الذين ائتمنوا على الدين. ثم قال للولاة : " وإذا حكمتم بين الناس
" ، كما ترى في سياق الأثر.
(8/493)
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول
: أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك. (1)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذًا إذ كان الأمر على ما وصفنا : إن الله يأمركم ،
يا معشر ولاة أمور المسلمين ، أن تؤدوا ما ائتمنتكم عليه رعيّتكم من فَيْئهم
وحقوقهم وأموالهم وصدقاتهم إليهم ، على ما أمركم الله بأداء كل شيء من ذلك إلى من
هو له ، بعد أن تصير في أيديكم ، لا تظلموها أهلها ، ولا تستأثروا بشيء منها ، ولا
تضعوا شيئًا منها في غير موضعه ، ولا تأخذوها إلا ممن أذن الله لكم بأخذها منه قبل
أن تصيرَ في أيديكم ويأمركم إذا حكمتم بين رعيتكم أن تحكموا بينهم بالعدل والإنصاف
، وذلك حكمُ الله الذي أنزله في كتابه ، وبيّنه على لسان رسوله ، لا تعدُوا ذلك
فتجورُوا عليهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا معشر ولاة أمور المسلمين ، إن الله نعم
الشيء يَعظكم به ، ونعمت العظة يعظكم بها في أمره إياكم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها ، وأن تحكموا بين الناس بالعدل (2)
* * *
" إن الله كان سميعًا " ، يقول : إن الله لم يزل سميعًا بما تقولون
وتنطقون ، وهو سميع لذلك منكم إذا حكمتم
__________
(1) الأثر : 9850 - قال ابن كثير في تفسيره 2 : 490 " وفي حديث الحسن ، عن
سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ،
ولا تخن من خانك " . رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن " .
(2) انظر تفسير " نعما " فيما سلف 5 : 582.
(8/494)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
بين الناس ولما تُحاورونهم به (1)
" بصيرًا " بما تفعلون فيما ائتمنتم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم ، (2)
وما تقضون به بينهم من أحكامكم : بعدل تحكمون أو جَوْر ، لا يخفى عليه شيء من ذلك
، حافظٌ ذلك كلَّه ، حتى يجازي محسنكم بإحسانه ، ومسيئكم بإساءته ، أو يعفو بفضله.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ربكم فيما
أمركم به وفيما نهاكم عنه ، وأطيعوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ، فإن في
طاعتكم إياه لربكم طاعة ، وذلك أنكم تطيعونه لأمر الله إياكم بطاعته ، كما : -
9851 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع
أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني. (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " .
__________
(1) في المطبوعة : " ولم تجاوزوهم به " ، ولا معنى لها البتة ، والصواب
ما في المخطوطة ، ولكنه لم يفهم ما أراد ، فحرفه وغيره.
(2) في المطبوعة : " فيما ائتمنتكم عليه " ، غير ما في المخطوطة لغير
شيء.
(3) الحديث : 9851 - ورواه أحمد في المسند مرارًا ، من طرق مختلفة ، منها : 7330 ،
7428 ، 7643. ورواه الشيخان وغيرهما ، كما فصلنا هناك.
وذكره ابن كثير 2 : 497 ، بقوله : " وفي الحديث المتفق على صحته " . وهو
كما قال.
(8/495)
فقال بعضهم : ذلك أمرٌ من الله باتباع
سنته.
*ذكر من قال ذلك :
9852 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عمرو قال ، حدثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء
في قوله : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " ، قال : طاعة الرسول ، اتباع
سُنته.
9853 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يعلى بن عبيد ، عن عبد الملك ،
عن عطاء : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " ، قال : طاعة الرسول ، اتباع
الكتاب والسنة.
9854 - وحدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك ،
عن عطاء مثله.
* * *
وقال آخرون : ذلك أمرٌ من الله بطاعة الرّسول في حياته.
*ذكر من قال ذلك :
9855 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " ، إن كان حيًّا.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : هو أمرٌ من الله بطاعة رسوله في
حياته فيما أمرَ ونهى ، وبعد وفاته باتباع سنته. (1) وذلك أن الله عمّ بالأمر
بطاعته ، ولم يخصص بذلك في حال دون حال ، (2) فهو على العموم حتى يخصّ ذلك ما يجبُ
التسليم له.
* * *
واختلف أهل التأويل في " أولي الأمر " الذين أمر الله عبادَه بطاعتهم في
هذه الآية.
__________
(1) في المطبوعة : " في اتباع سنته " ، وكان في المخطوطة " في
باتباع سنتنا " ، وضرب على " في " .
(2) في المطبوعة : " لم يخصص ذلك " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(8/496)
فقال بعضهم : هم الأمراء.
*ذكر من قال ذلك :
9856 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن
أبي صالح ، عن أبي هريرة في قوله : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم " ، قال : هم الأمراء. (1)
9857 - حدثنا الحسن بن الصباح البزار قال ، حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج قال
، أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : " يا أيها
الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " ، نزلت في رجل
بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على سرية. (2)
9858 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبيد
الله بن مسلم بن هرمز ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في عبد
الله بن حُذافة بن قيس السهمي ، إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في السرية. (3)
__________
(1) الحديث : 9856 - هذا موقوف على أبي هريرة. وإسناده صحيح. ومعناه صحيح.
وقد ذكره الحافظ في الفتح 8 : 191 ، وقال : " أخرجه الطبري بإسناد صحيح
" .
(2) الحديث : 9857 - يعلى بن مسلم بن هرمز البصري المكي : ثقة ، أخرج له الشيخان.
ووثقه ابن معين وأبو زرعة. مترجم في التهذيب. والكبير للبخاري 4 / 2 / 417 ، وابن
أبي حاتم 4 / 2 / 302. وهو أخو " عبد الله بن مسلم " الآتي في الإسناد
بعده - كما رجحه البخاري وغيره.
والحديث رواه أحمد في المسند : 3124 ، عن حجاج ، وهو ابن محمد ، بهذا الإسناد.
وفيه تسمية الرجل ، أنه " عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي " .
وكذلك رواه البخاري 8 : 190 - 191 ، عن صدقة بن الفضل ، عن حجاج بن محمد ، به.
وذكره ابن كثير 2 : 494 ، عن رواية البخاري ، ثم قال : " وهكذا أخرجه بقية
الجماعة إلا ابن ماجه ، من حديث حجاج بن محمد الأعور ، به. وقال الترمذي : حديث
حسن غريب ، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج " .
وقصة عبد الله بن حذافة رواها أحمد في المسند : 11662 (ج3 ص67 حلبي) ، من حديث أبي
سعيد الخدري. روى معناها أيضًا من حديث علي بن أبي طالب : 622.
(3) الحديث : 9858 - عبد الله بن مسلم بن هرمز : هو أخو يعلى الذي في الحديث
السابق - على الراجح. وعبد الله هذا : فيه ضعف ، مع أن الثوري يروي عنه ، والثوري
لا يروي إلا عن ثقة. فالظاهر أن ضعفه من قبل حفظه. وهو مترجم في التهذيب ، وابن
أبي حاتم 2 / 2 / 164 - 165.
ووقع في المخطوطة والمطبوعة هنا " عبيد الله " ، بدل " عبد الله
" وهو خطأ واضح.
والحديث بمعنى الذي قبله.
(8/497)
9859 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا
حكام ، عن عنبسة ، عن ليث قال : سأل مسلمةُ ميمونَ بن مهران عن قوله : "
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " ، قال : أصحاب السرايا على
عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
9860 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " يا
أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " ، قال. قال
أبي : هم السلاطين. قال وقال ابن زيد في قوله : " وأولي الأمر منكم " ،
قال أبي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطاعةَ الطاعة ، وفي الطاعة بلاء.
وقال : ولو شاء الله لجعل الأمر في الأنبياء (1) يعني : لقد جعلت [الأمر] إليهم
والأنبياء معهم ، (2) ألا ترى حين حكموا في قتل يحيى بن ز كريا ؟
9861 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " ، قال : بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم سريَّة عليها خالد بن الوليد ، وفيها عمار بن ياسر ،
فساروا قِبَل القوم الذين يريدون ، فلما بلغوا قريبًا منهم عرَّسوا ، (3) وأتاهم
ذو العُيَيْنَتين فأخبرهم ، (4) فأصبحوا قد هربوا ، (5) غير رجل أمر أهله فجمعوا
__________
(1) في المطبوعة : " ولو شاء الله لجعل " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " يعني : لقد جعل إليهم الأنبياء معهم " ، وهو مستقيم
، ولكنه كان في المخطوطة : " لقد جعلت إليهم الأنبياء معهم " ، فاستظهرت
سقوط " الأمر " ، فوضعته بين قوسين.
(3) " عرس القوم تعريسًا " : إذا نزلوا في السفر من آخر الليل ، يقعون
وقعة للاستراحة ، ثم ينيخون وينامون نومة خفيفة ، ثم يثورون مع انفجار الصبح
سائرين.
(4) " ذو العيينتين " و " ذو العوينتين " ، و " ذو
العينين " : الجاسوس.
(5) في المطبوعة وابن كثير 2 : 496 " وقد هربوا " ، وأثبت ما في
المخطوطة.
(8/498)
متاعهم ، (1) ثم أقبل يمشي في ظلمة
الليل حتى أتى عسكر خالد ، فسأل عن عمار بن ياسر ، فأتاه فقال : يا أبا اليقظان ،
إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا عبده ورسوله ، وإنّ قومي لما
سمعوا بكم هربوا ، وإني بقيت ، فهل إسلامي نافعي غدًا ، وإلا هربت ؟ قال عمار : بل
هو ينفعك ، فأقم. فأقام ، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدًا غير الرجل ، فأخذه
وأخذ ماله. فبلغ عمارًا الخبر ، فأتى خالدًا ، فقال : خلِّ عن الرجل ، فإنه قد
أسلم ، وهو في أمان مني. فقال خالد : وفيم أنت تجير ؟ فاستبَّا وارتفعا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم : فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير الثانية على أمير. فاستبَّا
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال خالد : يا رسول الله ، أتترك هذا العبد
الأجدع يسبني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا خالد ، لا تسبَّ عمارًا ،
فإنه من سب عمارًا سبه الله ، ومن أبغض عمارًا أبغضه الله ، ومن لعن عمارًا لعنه
الله. فغضب عمار فقام ، فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه ، فرضي عنه ، فأنزل
الله تعالى قوله : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " .
(2)
* * *
وقال آخرون : هم أهل العلم والفقه.
*ذكر من قال ذلك :
9862 - حدثني سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن علي بن صالح ، عن عبد الله بن
محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله..... (3)
__________
(1) في المخطوطة : " غير رجال من أهله " ، وهو فاسد ، وأثبت ما في
المطبوعة وتفسير ابن كثير.
(2) الأثر : 9861 - أخرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 497 ، ثم قال : " وهكذا
رواه ابن أبي حاتم من طريق ، عن السدي مرسلا. ورواه ابن مردويه من رواية الحكم بن
ظهير ، عن السدي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، فذكر بنحوه. والله أعلم " .
(3) الأثر : 9862 - كان هذا الأثر والذي يليه متصلين ، " ... عن جابر بن عبد
الله قال حدثنا جابر بن نوح " وهو خطأ وفساد لا شك فيه. وكأن هذا الأثر كان :
" حدثني بذلك سفيان بن وكيع... " أو : " عن جابر بن عبد الله قال :
هم أهل العلم والفقه " . أو ما شابه ذلك. ولكني وضعت النقط دلالة على الخزم.
(8/499)
9863 - .... قال ، حدثنا جابر بن نوح ،
عن الأعمش ، عن مجاهد في قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
" ، قال : أولي الفقه منكم. (1)
9864 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا ليث ، عن مجاهد في قوله
: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " ، قال : أولي الفقه
والعلم.
9865 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح :
" وأولي الأمر منكم " ، قال : أولي الفقه في الدين والعقل.
9866 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
9867 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم " ، يعني : أهل الفقه والدين.
9868 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن حصين ، عن
مجاهد : " وأولي الأمر منكم " ، قال : أهل العلم.
9869 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء
بن السائب في قوله : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " ،
قال : أولي العلم والفقه.
__________
(1) الأثر : 9863 - كأن صواب هذا الإسناد : " حدثني أبو كريب ، قال حدثنا
جابر بن نوح " ، فإن أبا كريب هو يروي عن جابر بن نوح ، كما سلف مرارًا ،
أقربها رقم : 9842 ، ولكني تركته على حاله ، ووضعت مكان ذلك نقطًا.
(8/500)
9870 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو
بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء : " وأولي الأمر منكم
" ، قال : الفقهاء والعلماء.
9871 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن
في قوله : " وأولي الأمر منكم " ، قال : هم العلماء.
9872 - قال ، وأخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله :
" وأولي الأمر منكم " ، قال : هم أهل الفقه والعلم.
9873 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع ، عن أبي العالية في قوله : " وأولي الأمر منكم " ، قال : هم أهل
العلم ، ألا ترى أنه يقول : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي
الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) [سورة النساء
: 83] ؟
* * *
وقال آخرون : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك :
9874 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قوله : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " ،
قال : كان مجاهد يقول : أصحاب محمد قال : وربما قال : أولي العقل والفقه ودين
الله. (1)
* * *
وقال آخرون : هم أبو بكر وعمر رحمهما الله. (2)
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " أولي الفضل " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " رضي الله عنهما " .
(8/501)
9875 - حدثنا أحمد بن عمرو البصري قال
، حدثنا حفص بن عمر العدني قال ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة : " أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " ، قال : أبو بكر وعمر. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : هم الأمراء والولاة
لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما
كان [لله] طاعةً ، وللمسلمين مصلحة ، (2) كالذي : -
9876 - حدثني علي بن مسلم الطوسي قال ، حدثنا ابن أبي فديك قال ، حدثني عبد الله
بن محمد بن عروة ، عن هشام بن عروة ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة : أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : سيليكم بعدي ولاة ، فيليكم البَرُّ ببِرِّه ،
والفاجر بفجوره ، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق ، وصلُّوا وراءهم. فإن
أحسنوا فلكم ولهم ، وإن أساؤوا فلكم وعليهم. (3)
__________
(1) الأثر : 9875 - " أحمد بن عمرو البصري " ، لم أجده في كتب التراجم ،
وظننت أنه " أحمد بن عمرو بن عبد الخالق " البزار ، أبو بكر العتكي
البصري ، من أهل البصرة ، قال الخطيب : " كان ثقة حافظًا ، صنف المسند ،
وتكلم على الأحاديث ، وبنى عللها ، وقدم بغداد وحدث بها " ومات بالرملة سنة
291 ، فهو خليق أن يكون رآه أبو جعفر وروى عنه في بغداد أو في الرملة. مترجم في
تاريخ بغداد 4 : 334.
و " حفص بن عمر العدني " مضت ترجمته برقم : 6796.
(2) الزيادة بين القوسين ، أراها زيادة لا غنى عنها.
(3) الحديث : 9876 - ابن أبي فديك : هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك
المدني. وهو ثقة معروف ، من شيوخ الشافعي وأحمد. أخرج له الجماعة.
عبد الله بن محمد بن عروة : هو عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة بن الزبير
المدني. قال أبو حاتم : " هو متروك الحديث ، ضعيف الحديث جدًا " . وقال
ابن حبان : " يروى الموضوعات عن الثقات " . مترجم في لسان الميزان 3 :
331 - 332 ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 158.
فهذا حديث ضعيف جدًا ، لم نجده إلا في هذا الموضع.
وقد نقله ابن كثير 2 : 495 ، والسيوطي 2 : 177 - ولم ينسباه لغير الطبري.
(8/502)
9877 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا
يحيى ، عن عبيد الله قال ، أخبرني نافع ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : على المرء المسلم ، الطاعةُ فيما أحب وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية ؛ فمن
أمر بمعصية فلا طاعة. (1)
9878 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثني خالد ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر
، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (2)
فإذ كان معلومًا أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل ، وكان
الله قد أمر بقوله : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم "
بطاعة ذَوِي أمرنا كان معلومًا أن الذين أمرَ بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا ،
هم الأئمة ومن ولَّوْه المسلمين ، (3) دون غيرهم من الناس ، وإن كان فرضًا القبول
من كل من أمر بترك معصية الله ودعا إلى طاعة الله ، وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما
أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه ، إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما
أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعيّة ، فإن على من أمروه بذلك طاعتهم ،
وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية.
__________
(1) الحديثان : 9877 ، 9878 - يحيى في الإسناد الأول : هو ابن سعيد القطان.
وخالد - في الإسناد الثاني : هو ابن الحارث الهجيمي البصري. مضت ترجمته في : 7818.
عبيد الله - في الإسنادين : هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، العمري.
ووقع في المطبوعة ، في الإسنادين : " يحيى بن عبيد الله " ، " خالد
بن عبيد الله " ! وهو خطأ واضح ، صوابه من المخطوطة.
والحديث رواه أحمد في المسند : 4668 ، عن يحيى ، وهو القطان ، بمثل الإسناد الأول
هنا.
ورواه أيضًا : 6278 ، عن ابن نمير ، عن عبيد الله ، به.
وقد شرحناه شرحًا وافيًا ، وخرجناه - في الموضع الأول.
وذكره ابن كثير 2 : 494 ، من رواية أبي داود - من طريق يحيى القطان. ثم نسبه
للشيخين من طريق يحيى.
وقصر السيوطي جدًا ، إذ ذكره 2 : 177 ، ونسبه لابن أبي شيبة ، وابن جرير - فقط!
وهو في المسند والصحيحين وغيرهما.
(2) الحديثان : 9877 ، 9878 - يحيى في الإسناد الأول : هو ابن سعيد القطان.
وخالد - في الإسناد الثاني : هو ابن الحارث الهجيمي البصري. مضت ترجمته في : 7818.
عبيد الله - في الإسنادين : هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، العمري.
ووقع في المطبوعة ، في الإسنادين : " يحيى بن عبيد الله " ، " خالد
بن عبيد الله " ! وهو خطأ واضح ، صوابه من المخطوطة.
والحديث رواه أحمد في المسند : 4668 ، عن يحيى ، وهو القطان ، بمثل الإسناد الأول
هنا.
ورواه أيضًا : 6278 ، عن ابن نمير ، عن عبيد الله ، به.
وقد شرحناه شرحًا وافيًا ، وخرجناه - في الموضع الأول.
وذكره ابن كثير 2 : 494 ، من رواية أبي داود - من طريق يحيى القطان. ثم نسبه
للشيخين من طريق يحيى.
وقصر السيوطي جدًا ، إذ ذكره 2 : 177 ، ونسبه لابن أبي شيبة ، وابن جرير - فقط!
وهو في المسند والصحيحين وغيرهما.
(3) في المطبوعة : " ومن ولاه المسلمون " ، وأثبت ما في المخطوطة ، ولم
يرد أبو جعفر معنى ما كان في المطبوعة ، بل أراد : ومن ولاه الأئمة أمور المسلمين.
(8/503)
وإذ كان ذلك كذلك ، كان معلومًا بذلك
صحة ما اخترنا من التأويل دون غيره.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن اختلفتم ، أيها المؤمنون ، في شيء من أمر
دينكم : أنتم فيما بينكم ، أو أنتم وولاة أمركم ، فاشتجرتم فيه (1) " فردوه
إلى الله " ، يعني بذلك : فارتادوا معرفة حكم ذلك الذي اشتجرتم أنتم بينكم ،
أو أنتم وأولو أمركم فيه من عند الله ، يعني بذلك : من كتاب الله ، فاتبعوا ما
وجدتم وأما قوله : " والرسول " ، فإنه يقول : فإن لم تجدوا إلى علم ذلك
في كتاب الله سبيلا فارتادوا معرفة ذلك أيضًا من عند الرسول إن كان حيًا ، وإن كان
ميتًا فمن سنته " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " ، يقول : افعلوا
ذلك إن كنتم تصدقون بالله " واليوم الآخر " ، يعني : بالمعاد الذي فيه
الثواب والعقاب ، فإنكم إن فعلتم ما أمرتم به من ذلك. فلكم من الله الجزيل من
الثواب ، وإن لم تفعلوا ذلك فلكم الأليم من العقاب.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9879 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا ليث ، عن مجاهد في قوله
: " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " ، قال : فإن تنازع
العلماء ردّوه إلى الله والرسول. قال يقول : فردّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله.
__________
(1) انظر تفسير " تنازع " فيما سلف 7 : 289.
(8/504)
ثم قرأ مجاهد هذه الآية : ( وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) [سورة النساء : 83].
9880 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن
ليث ، عن مجاهد في قوله : " فردوه إلى الله والرسول " ، قال : كتاب ،
الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم :
9881 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن ليث
، عن مجاهد في قوله : " فردوه إلى الله والرسول " ، قال : إلى الله
" ، إلى كتابه وإلى " الرسول " ، إلى سنة نبيه.
9882 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، قال : سأل مسلمةُ
ميمونَ بن مهران عن قوله : " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول
" ، قال : " الله " ، كتابه ، و " رسوله " سنته ، فكأنما
ألقمه حجرًا.
9883 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، أخبرنا جعفر بن مروان ، عن
ميمون بن مهران : " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " ، قال
: الرد إلى الله ، الردّ إلى كتابه والرد إلى رسوله إن كان حيًا ، فإن قبضه الله
إليه فالردّ إلى السنة.
9884 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " ، يقول : ردوه إلى كتاب
الله وسنة رسوله " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " .
9885 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " ، إن كان الرسول
حيًا و " إلى الله " قال : إلى كتابه.
* * *
(8/505)
القول في تأويل قوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (59) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ذلك " ، فردُّ ما تنازعتم فيه
من شيء إلى الله والرسول ، " خير " لكم عند الله في معادكم ، وأصلح لكم
في دنياكم ، لأن ذلك يدعوكم إلى الألفة ، وترك التنازع والفرقة " وأحسن
تأويلا " ، يعني : وأحمد مَوْئلا ومغبّة ، وأجمل عاقبة.
* * *
وقد بينا فيما مضى أن " التأويل " " التفعيل " من "
تأوّل " ، وأنّ قول القائل : " تأوّل " ، " تفعّل " ، من
قولهم : " آل هذا الأمر إلى كذا " ، أي : رجع بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9886 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " وأحسن تأويلا " ، قال : حسن جزاء.
9887 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
9888 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
ذلك خير وأحسن تأويلا " ، يقول : ذلك أحسنُ ثوابًا ، وخير عاقبةً.
9889 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وأحسن تأويلا " قال : عاقبة.
__________
(1) انظر ما سلف 6 : 204 - 206.
(8/506)
9890 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن
وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ذلك خير وأحسن تأويلا " ، قال :
وأحسن عاقبة قال : و " التأويل " ، التصديق.
* * *
(8/507)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
القول في تأويل قوله : { أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ
أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا
بَعِيدًا (60) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ألم تر " ، يا محمد ، بقلبك ،
فتعلم إلى الذين يزعمون أنهم صدقوا بما أنزل إليك من الكتاب ، وإلى الذين يزعمون
أنهم آمنوا بما أنزل من قلبك من الكتب ، يريدون أن يتحاكموا في خصومتهم إلى
الطاغوت يعني إلى : من يعظمونه ، ويصدرون عن قوله ، ويرضون بحكمه من دون حكم الله
، (1) " وقد أمروا أن يكفروا به " ، يقول : وقد أمرهم الله أن يكذبوا
بما جاءهم به الطاغوتُ الذي يتحاكون إليه ، فتركوا أمرَ الله واتبعوا أمر الشيطان
" ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا " ، يعني : أن الشيطان يريد أن
يصدَّ هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن سبيل الحق والهدى ، فيضلهم عنها ضلالا
بعيدًا يعني : فيجور بهم عنها جورًا شديدًا (2) .
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلا من اليهود في خصومة كانت
بينهما إلى بعض الكهَّان ، ليحكم بينهم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين
أظهُرهم.
__________
(1) انظر تفسير " الطاغوت " فيما سلف 5 : 416 - 419 / 8 : 461 - 465.
(2) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف : 8 : 428 ، تعليق : 4 ، والمراجع
هناك.
(8/507)
*ذكر من قال ذلك :
9891 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عامر
في هذه الآية : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل
من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " ، قال : كان بين رجل من اليهود
ورجل من المنافقين خصومة ، فكان المنافق يدعو إلى اليهود ، لأنه يعلم أنهم يقبلون
الرشوة ، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين ، لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة.
فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جُهَيْنة ، فأنزل الله فيه هذه الآية : " ألم
تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " حتى بلغ " ويسلموا
تسليمًا " .
9892 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عامر في
هذه الآية : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " ،
فذكر نحوه وزاد فيه : فأنزل الله : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما
أنزل إليك " ، يعني المنافقين " وما أنزل من قبلك " ، يعني اليهود
" يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " ، يقول : إلى الكاهن " وقد
أمروا أن يكفروا به " ، أمر هذا في كتابه ، وأمر هذا في كتابه ، أن يكفر
بالكاهن.
9893 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي قال :
كانت بين رجل ممن يزعم أنه مسلم ، وبين رجل من اليهود ، خصومة ، فقال اليهودي :
أحاكمك إلى أهل دينك أو قال : إلى النبي لأنه قد علم أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا يأخذ الرشوة في الحكم ، فاختلفا ، فاتفقا على أن يأتيا كاهنًا في جهينة ،
قال : فنزلت : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " ،
يعنى : الذي من الأنصار " وما أنزل من قبلك " ، يعني : اليهوديّ (1)
" يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " ، إلى الكاهن " وقد أمروا
__________
(1) في المخطوطة : " اليهود " .
(8/508)
أن يكفروا به " ، يعني : أمر هذا
في كتابه ، وأمر هذا في كتابه. وتلا " ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا
" ، وقرأ : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " إلى
" ويسلموا تسليما " .
9894 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال :
زعم حضرميٌّ أن رجلا من اليهود كان قد أسلم ، فكانت بينه وبين رجل من اليهود مدارأة
في حق ، (1) فقال اليهودي له : انطلق إلى نبي الله. فعرف أنه سيقضي عليه. قال :
فأبى ، فانطلقا إلى رجل من الكهان فتحاكما إليه. قال الله : " ألم تر إلى
الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل
__________
(1) المدرأة : المدافعة والخصومة.
(8/509)
من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى
الطاغوت " .
9895 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك "
، الآية ، حتى بلغ " ضلالا بعيدًا " ، ذُكر لنا أن هذه الآية نزلت في رجلين
: رجل من الأنصار يقال له " بشر " ، وفي رجل من اليهود ، في مدارأة كانت
بينهما في حق ، فتدارءا بينهما ، فتنافرا إلى كاهن بالمدينة يحكم بينهما ، وتركا
نبي الله صلى الله عليه وسلم. فعاب الله عز وجل ذلك وذُكر لنا أن اليهودي كان
يدعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما ، وقد علم أن نبيّ الله صلى الله
عليه وسلم لن يجور عليه. فجعل الأنصاري يأبى عليه وهو يزعم أنه مسلم ، ويدعوه إلى
الكاهن ، فأنزل الله تبارك وتعالى ما تسمعون ، فعابَ ذلك على الذي يزعم أنه مسلم ،
وعلى اليهودي الذي هو من أهل الكتاب ، فقال : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم
آمنوا بما أنزل إليك " إلى قوله : " صدودًا " .
9896 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من
قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " ، قال : كان ناس من اليهود قد أسلموا
ونافق بعضهم. وكانت قُرَيظة والنَّضير في الجاهلية ، إذا قُتِل الرجل من بني
النضير قتلته بنو قريظة ، قتلوا به منهم. فإذا قُتِل الرجل من بني قريظة قتلته
النضير ، أعطوْا ديتَه ستين وَسْقًا من تمر. (1) فلما أسلم ناس من بني قريظة
والنضير ، قتل رجلٌ من بني النضير رجلا من بني قريظة ، فتحاكموا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم ، فقال النضيري : يا رسول الله ، إنا كنا نعطيهم في الجاهلية الدية
، فنحن نعطيهم اليوم ذلك. فقالت قريظة : لا ولكنا إخوانكم في النسب والدين ،
ودماؤنا مثل دمائكم ، ولكنكم كنتم تغلبوننا في الجاهلية ، فقد جاء الله بالإسلام!
فأنزل الله يُعَيِّرهم بما فعلوا فقال : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) [سورة المائدة : 54] ، فعيَّرهم ، ثم ذكر قول النضيري :
" كنا نعطيهم في الجاهلية ستين وسقًا ، ونقتل منهم ولا يقتلونا " ،
فقال( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) [سورة المائدة : 50]. وأخذ النضيري
فقتله بصاحبه ، فتفاخرت النضير وقريظة ، فقالت النضير : نحن أكرم منكم! وقالت
قريظة : نحن أكرم منكم! ودخلوا المدينة إلى أبي بُرْدة ، (2) الكاهن الأسلمي ،
فقال المنافق من قريظة والنضير : انطلقوا إلى أبي بردَة ينفِّر بيننا! (3)
__________
(1) " الوسق " مكيلة معلومة في زمانهم ، كانت تبلغ حمل بعير.
(2) في المطبوعة : " أبو برزة الأسلمي " وهو خطأ محض ، والصواب ما كان
في المخطوطة ، فإن أبا برزة الأسلمي - نضلة بن عبيد - فهو صحابي جليل ، و "
برزة " بفتح الباء بعدها راء ساكنة بعدها زاي. وأما " أبو بردة "
فهو بالباء المضمومة بعدها راء ساكنة بعدها دال.
وذكر الثعلبي في تفسيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبا بردة الأسلمي إلى
الإسلام ، فأبى ، ثم كلمه ابناه في ذلك ، فأجاب إليه وأسلم. وقال الحافظ ابن حجر :
" وعند الطبراني بسند جيد عن ابن عباس قال : كان أبو بردة الأسلمي كاهنًا
يقضي بين اليهود ، فذكر القصة في نزول قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزعمون...
" الإصابة في ترجمته. وذكر الهيثمي خبر ابن عباس في مجمع الزوائد 7 : 6 ،
وفيه أيضًا " أبو برزة الأسلمي " ، وهو خطأ ، وقال : " رواه
الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح " . وكذلك رواه ابن كثير في تفسيره 2 : 500
وفيه أيضًا " أبو برزة " وهو خطأ.
(3) في المطبوعة هنا أيضًا " أبو برزة " ، وانظر التعليق السالف. ويقال
: " نفر الحاكم أحد المتخاصمين على صاحبه تنفيرًا " : أي قضى عليه
بالغلبة. وهو من " المنافرة " وذلك أن يتفاخر الرجلان كل واحد منهما على
صاحبه ، ثم يحكما بينهما رجلا ، يغلب أحدهما على الآخر.
(8/510)
وقال المسلمون من قريظة والنضير : لا
بل النبي صلى الله عليه وسلم يُنفِّر بيننا ، فتعالوا إليه! فأبى المنافقون ،
وانطلقوا إلى أبي بردة فسألوه ، (1) فقال : أعظِموا اللُّقمة يقول : أعظِموا
الخَطَر (2) فقالوا : لك عشرة أوساق. قال : لا بل مئة وسْق ، ديتي ، (3) فإني أخاف
أن أنفِّر النضير فتقتلني قريظة ، أو أنفِّر قريظة فتقتلني النضير! فأبوا أن يعطوه
فوق عشرة أوساق ، وأبى أن يحكم بينهم ، فأنزل الله عز وجل : " يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت " وهو أبو بردة (4) " وقد أمروا أن يكفروا به
" إلى قوله : " ويسلموا تسليما " .
* * *
وقال آخرون : " الطاغوت " ، في هذا الموضع ، هو كعب بن الأشرف.
*ذكر من قال ذلك :
9897 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن
يكفروا به " ، و " الطاغوت " رجل من اليهود كان يقال له : كعب بن
الأشرف ، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا ، بل
نحاكمكم إلى كعب! فذلك قوله : " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " ،
الآية.
9798 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما
أنزل من قبلك " ، قال : تنازع رجلٌ من المنافقين ورجلٌ من
__________
(1) في المطبوعة هنا مرة ثالثة : " أبو برزة " .
(2) " الخطر " هو المال الذي يجعل رهنًا بين المتراهنين ، وأراد به
الجعل الذي يدفعه كل واحد من المتنافرين إلى الحكم. وسماه " اللقمة "
مجازًا ، وهذا كله لم تقيده كتب اللغة ، ولم أجده في أخبار المنافرات. فيستفاد من
هذا الخبر. أن الحكم في المنافرة كانوا يجعلون له جعلا يأخذه بعد استماعه للمنافرة
، وبعد الحكم.
(3) " أوساق " جمع " وسق " ومضى تفسيره " الوسق "
فيما سلف ص : 510 ، تعليق : 1.
(4) في المطبوعة هنا مرة رابعة " أبو برزة " .
(8/511)
اليهود ، فقال المنافق : اذهب بنا إلى
كعب بن الأشرف. وقال اليهودي : اذهب بنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال الله
تبارك وتعالى : " ألم تر إلى الذين يزعمون " الآية ، والتي تليها فيهم
أيضًا. (1)
9899 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " ،
فذكر مثله إلا أنه قال : وقال اليهودي : اذهب بنا إلى محمد.
9900 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع بن أنس في قوله : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك
وما أنزل من قبلك " إلى قوله : " ضلالا بعيدًا " ، قال : كان رجلان
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بينهما خصومة ، أحدهم مؤمن والآخر منافق ،
فدعاه المؤمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ،
فأنزل الله : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ) .
9901 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد قوله : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل
من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " ، قال : تنازع رجل من المؤمنين
ورجل من اليهود ، فقال اليهودي : اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف. وقال المؤمن : اذهب
بنا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال الله : " ألم تر إلى الذين يزعمون
أنهم آمنوا بما أنزل إليك " إلى قوله : " صدودًا " قال ابن جريج :
" يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " ، قال : القرآن " وما أنزل من
قبلك " ، قال : التوراة. قال :
__________
(1) في المخطوطة : " الآية التي تليها منهم فيهما أيضًا " ، ولا أدري ما
هو ، وما في المطبوعة أقرب إلى الصواب.
(8/512)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
يكون بين المسلم والمنافق الحق ،
فيدعوه المسلم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليحاكمه إليه ، فيأبى المنافق ويدعوه
إلى الطاغوت قال ابن جريج : قال مجاهد : " الطاغوت " ، كعب بن الأشرف.
9902 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " ،
هو كعب بن الأشرف.
* * *
وقد بينا معنى : " الطاغوت " في غير هذا الموضع ، فكرهنا إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا
(61) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ألم تر ، يا محمد ، إلى الذين يزعمون أنهم
آمنوا بما أنزل إليك من المنافقين ، وإلى الذي يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك
من أهل الكتاب ، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " وإذا قيل لهم تعالوا إلى
ما أنزل الله " ، يعني بذلك : " وإذا قيل لهم تعالوا " ، هلُمُّوا
إلى حكم الله الذي أنزله في كتابه ، وإلى الرسول ليحكم بيننا (2) " رأيت
المنافقين يصدون عنك " ، يعني بذلك : يمتنعون من المصير إليك لتحكم بينهم ،
ويمنعون من المصير إليك كذلك غيرهم " صدودًا " . (3)
* * *
وقال ابن جريج في ذلك بما : -
__________
(1) انظر ما سلف : 507 والتعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " تعالوا " فيما سلف 6 : 474 ، 483 ، 485.
(3) انظر تفسير " الصد " فيما سلف 4 : 300 / 7 : 53 / 8 : 482.
(8/513)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
9903 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل
الله وإلى الرسول " ، قال : دعا المسلمُ المنافقَ إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم ليحكم ، قال : " رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا " .
* * *
وأما على تأويل قول من جعل الدَّاعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديّ ،
والمدعوَّ إليه المنافق ، على ما ذكرت من أقوال من قال ذلك في تأويل قوله : "
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " فإنه على ما بيَّنت قبل.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا
وَتَوْفِيقًا (62) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فكيف بهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى
الطاغوت ، وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " إذا
أصابتهم مصيبة " ، يعني : إذا نزلت بهم نقمة من الله " بما قدمت أيديهم
" ، يعني : بذنوبهم التي سلفت منهم ، (1) " ثم جاؤوك يحلفون بالله
" ، يقول : ثم جاؤوك يحلفون بالله كذبًا وزورًا " إن أردنا إلا إحسانًا
وتوفيقًا " . وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أنهم لا
يردعهم عن النفاق العِبر والنِّقم ، وأنهم إن تأتهم عقوبة من الله على تحاكمهم إلى
الطاغوت لم ينيبوا ولم يتوبوا ، (2) ولكنهم يحلفون بالله كذبًا وجرأة على الله :
ما أردنا باحتكامنا إليه إلا الإحسان من بعضنا إلى بعض ، والصوابَ فيما احتكمنا
فيه إليه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " قدمت أيديهم " فيما سلف 2 : 368 / 7 : 447.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وأنهم وإن تأتهم " ، والأجود حذف الواو.
(8/514)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
القول في تأويل قوله : { أُولَئِكَ
الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ
وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا (63) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " أولئك " ، هؤلاء المنافقون
الذين وصفت لك ، يا محمد ، صفتهم " يعلم الله ما في قلوبهم " في
احتكامهم إلى الطاغوت ، وتركهم الاحتكام إليك ، وصدودهم عنك من النفاق والزيغ ،
(1) وإن حلفوا بالله : ما أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا " فأعرض عنهم وعظهم
" ، يقول : فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم ، ولكن عظهم بتخويفك إياهم
بأسَ الله أن يحلّ بهم ، وعقوبته أن تنزل بدارهم ، وحذِّرهم من مكروهِ ما هم عليه
من الشك في أمر الله وأمر رسوله ، " وقل لهم في أنفسهم قولا بليغًا " ،
يقول : مرهم باتقاء الله والتصديق به وبرسوله ووعده ووعيده.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ
اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولم نرسل ، يا محمد ، رسولا إلا فرضت طاعته
على من أرسلته إليه. يقول تعالى ذكره : فأنت ، يا محمد ، من الرسل الذين فرضت
طاعتهم على من أرسلتُه إليه.
وإنما هذا من الله توبيخ للمحتكمين من المنافقين الذين كانوا يزعمون أنهم
__________
(1) السياق : " يعلم الله ما في قلوبهم... من النفاق والزيغ " .
(8/515)
يؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فيما اختصموا فيه إلى الطاغوت ، صدودًا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم. يقول لهم تعالى ذكره : ما أرسلتُ رسولا إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه ،
فمحمد صلى الله عليه وسلم من أولئك الرسل ، فمن ترك طاعته والرِّضى بحكمه واحتكم
إلى الطاغوت ، فقد خالف أمري ، وضيَّع فرضي.
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه : أن من أطاع رسله ، فإنما يطيعهم بإذنه يعني : بتقديره ذلك
وقضائه السابق في علمه ومشيئته ، (1) كما : -
9904 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : " إلا ليطاع بإذن الله " ، واجب لهم أن يطيعهم من
شاء الله ، ولا يطيعهم أحد إلا بإذن الله.
9905 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
9906 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شبل ،
عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر : إنما هذا تعريض من الله تعالى ذكره لهؤلاء المنافقين ، بأن تركهم
طاعة الله وطاعة رسوله والرضى بحكمه ، إنما هو للسابق لهم من خِذْلانه وغلبة
الشقاء عليهم ، ولولا ذلك لكانوا ممن أذن له في الرضى بحكمه ، والمسارعة إلى
طاعته.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف 8 : 192 تعليق : 2 والمراجع هناك.
(8/516)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولو أن هؤلاء المنافقين الذين وصف صفتهم في
هاتين الآيتين ، الذين إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله صدّوا صدودًا ، " إذ
ظلموا أنفسهم " ، باكتسابهم إياها العظيم من الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت ،
وصدودهم عن كتاب الله وسنة رسوله إذا دعوا إليها " جاؤوك " ، يا محمد ،
حين فعلو ما فعلوا من مصيرهم إلى الطاغوت راضين بحكمه دون حكمك ، جاؤوك تائبين
منيبين ، فسألوا الله أن يصفح لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم ، وسأل لهم اللهَ
رسولهُ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. وذلك هو معنى قوله : " فاستغفروا الله
واستغفر لهم الرسول " .
* * *
وأما قوله : " لوجدوا الله توابًا رحيمًا " ، فإنه يقول : لو كانوا
فعلوا ذلك فتابوا من ذنبهم " لوجدوا الله توابًا " ، يقول : راجعًا لهم
مما يكرهون إلى ما يحبون (1) " رحيمًا " بهم ، في تركه عقوبتهم على
ذنبهم الذي تابوا منه.
* * *
وقال مجاهد : عُنِي بذلك اليهوديُّ والمسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.
9907 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : " ظلموا أنفسهم " إلى قوله : " ويسلموا تسليما
" ، قال : إن هذا في الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذين تحاكما إلى كعب بن
الأشرف.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الاستغفار " و " التوبة " فيما سلف من فهارس
اللغة.
(8/517)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
القول في تأويل قوله : { فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
}
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فلا " فليس الأمر كما يزعمون :
أنهم يؤمنون بما أنزل إليك ، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ويصدّون عنك إذا دعوا
إليك يا محمد واستأنف القسم جل ذكره فقال : " وربك " ، يا محمد "
لا يؤمنون " ، أي : لا يصدقون بي وبك وبما أنزل إليك " حتى يحكموك فيما
شجر بينهم " ، يقول : حتى يجعلوك حكمًا بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم ،
فالتبس عليهم حكمه. يقال : " شجَر يشجُر شُجورًا وشَجْرًا " ، و "
تشاجر القوم " ، إذا اختلفوا في الكلام والأمر ، " مشاجرة وشِجارًا
" .
* * *
" ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت " ، يقول : لا يجدوا في أنفسهم
ضيقًا مما قضيت. وإنما معناه : ثم لا تحرَج أنفسهم مما قضيت أي : لا تأثم بإنكارها
ما قضيتَ ، وشكّها في طاعتك ، وأن الذي قضيت به بينهم حقٌّ لا يجوز لهم خلافه ،
كما : -
9908 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " حرجًا مما قضيت " ، قال : شكًّا.
9909 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن
القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : " حرجًا مما قضيت " ، يقول :
شكًّا.
(8/518)
9910 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا
أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
9911 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
في قوله : " ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت " ، قال : إثمًا
" ويسلموا تسليما " ، يقول : ويسلّموا لقضائك وحكمك ، إذعانًا منهم
بالطاعة ، وإقرارًا لك بالنبوة تسليمًا.
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية ، وفيمن نزلت ؟
فقال بعضهم : نزلت في الزبير بن العَوَّام وخصم له من الأنصار ، اختصما إلى النبي
صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور.
ذكر الرواية بذلك :
9912 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس والليث
بن سعد ، عن ابن شهاب ، أن عروة بن الزبير حدَّثه : أن عبد الله بن الزبير حدثه ،
عن الزبير بن العوام : أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرًا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم في شِرَاج من الحرّة كانا يسقيان به كَلأهما النخل ، (1) فقال
الأنصاري : سَرِّح الماء يمرّ! (2) فأبى عليه ، فقال يا رسول الله صلى الله عليه
وسلم : اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله
، أنْ كان ابن عمتك ؟ (3) فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
__________
(1) " الشراج " (بكسر الشين) جمع " شرج " (بفتح فسكون) ، وهو
مسيل الماء من الحرة إلى السهل. و " الحرة " موضع معروف بالمدينة ، وهي
أرض ذات حجارة سود نخرة ، كأنما أحرقت بالنار. و " الكلأ " هو العشب
ترعاه الأنعام. وكان في المطبوعة : " كلاهما " بغير همز ، وهو خطأ يوهم.
(2) قوله : " سرح الماء " ، أي أطلقه ، لأن الماء كان يمر على أرض
الزبير قبل أرض الأنصاري ، فكان يحبسه حتى يسقي أرضه.
(3) قوله : " أن كان... " ، " أن " (بفتح الألف وسكون النون)
، التعليل ، يقول أمن أجل أنه ابن عمتك ؟ وأم الزبير هي : صفية بنت عبد المطلب ،
عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(8/519)
ثم قال : اسق يا زبير ، ثم احبس الماء
حتى يرجع إلى الجدْر ، (1) ثم أرسل الماء إلى جارك. واستوعَى رسول الله صلى الله
عليه وسلم للزبير حقه قال أبو جعفر : والصواب : " استوعب " (2) وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه الشفقة له
وللأنصاري. فلما أحفظَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الأنصاريُّ ، (3) استوعب
للزبير حقه في صريح الحكم قال فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك :
" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " ، الآية. (4)
9913 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن
الزهري عن عروة ، قال : خاصم الزبير رجل من الأنصار في شَرْج من شِراج الحَرَّة ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا زبير ، أَشْرِب ، ثم خلِّ سبيل الماء.
فقال الذي من الأنصار من بني أمية : (5) اعدل يا نبيَّ الله ، وإن كان ابن عمتك!
قال : فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُرف
__________
(1) " الجدر " (بفتح الجيم وسكون الدال) ، وهي الحواجز التي تحبس الماء.
(2) الظاهر أن قول أبي جعفر : " والصواب : استوعب " ، إنما عنى به صواب
الرواية في هذا الخبر بهذا الإسناد ، ولا أظن أبا جعفر ينكر " استوعى "
أن تكون صحيحة ، فإن " استوعى " بمعنى : استوعب الحق واستوفاه ، عربي
صحيح لا شك فيه.
(3) " أحفظه " أغضبه.
(4) الحديث : 9912 - سياق هذا الإسناد ظاهره أنه من حديث " الزبير بن العوام
" - لقوله " أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام " .
ويحتمل أن يكون من حديث " عبد الله بن الزبير " حكاية عن القصة. وقد جاء
الحديث بسياقات أخر ، بعضها ظاهره أنه من حديث عروة بن الزبير - يحكي القصة ،
فيكون ظاهره الإرسال. وبعضها ظاهره أنه من رواية عروة عن أبيه الزبير ، كما سيأتي
:
فرواه ابن أبي حاتم - فيما نقل عنه ابن كثير 2 : 503 - بإسناد الطبري هذا : عن
يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، به.
وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى ، ص : 453 ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم
، عن ابن وهب.
وكذلك رواه الإسماعيلي ، فيما نقله عند الحافظ في الفتح 5 : 26.
ورواه النسائي 2 : 308 - 309 ، كرواية الطبري هذه. ولكن عن شيخين : يونس بن عبد
الأعلى والحارث بن مسكين - كلاهما عن ابن وهب ، بهذا الإسناد - وعند هؤلاء جميعًا
- كما هنا : " أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام " .
ورواه أحمد في المسند : 16185 (ج4 ص4 - 5 حلبي) ، في مسند عبد الله بن الزبير - عن
هاشم بن القاسم ، عن الليث ، عن ابن شهاب ، " عن عروة بن الزبير ، عن عبد
الله بن الزبير ، قال : خاصم رجل من الأنصار الزبير " ، إلخ.
وبنحو ذلك رواه البخاري 5 : 26 - 28 ، ومسلم 2 : 221 ، وأبو داود : 3637 ،
والترمذي 2 : 289 - 290 ، وابن ماجه : 2480 ، وابن حبان في صحيحه : 23 (بتحقيقنا)
- كلهم من طريق الليث بن سعد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عبد الله بن الزبير ،
حكاية للقصة. وفي بعض ألفاظهم : " عن عروة : أن عبد الله بن الزبير حدثه
" . وظاهر هذه الأسانيد أنه من حديث " عبد الله بن الزبير " - حكاية
للقصة ، ليس فيها التصريح بروايته عن أبيه الزبير بن العوام.
وقال البخاري عقب هذه الرواية : " ليس أحد يذكر : عروة عن عبد الله - إلا
الليث فقط " .
وقد تعقبه الحافظ ابن حجر برواية " النسائي وغيره " - المطابقة لرواية
الطبري هنا وابن الجارود وابن أبي حاتم - أن يونس بن يزيد الأيلي ذكر فيه "
عن عبد الله بن الزبير " ، كما ذكره الليث. بل زاد ابن وهب في روايته هذه عن
يونس والليث : أنه " عن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه الزبير بن العوام
" .
ورواه أحمد في المسند : 1419 ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري ، قال ،
" أخبرني عروة بن الزبير : أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار
" - إلخ.
وكذلك رواه البخاري 5 : 227 (فتح) ، عن أبي اليمان ، بهذا الإسناد ، كرواية أحمد.
فهذه الرواية ظاهرها أن عروة يروي الحديث فيها عن أبيه الزبير بن العوام مباشرة.
وقد نقل ابن كثير 2 : 502 - 503 هذه الرواية عن المسند. ثم قال : " هكذا رواه
الإمام أحمد ، وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير ، فإنه لم يسمع منه. والذي
يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله " .
وقد تعقبته في شرح المسند : 1419 فقلت : إن الحديث حديث الزبير ، ولا يبعد أن يكون
سمعه منه أبناه عبد الله وعروة ، وأن يكون عروة سمعه أيضًا من أخيه عبد الله ، أو
ثبته عبد الله فيه. وأما ادعاء أن عروة لم يسمع من أبيه فالأدلة تنقضه ، فإنه كان
مراهقًا أو بالغًا عند مقتل أبيه ، كانت سنه 13 سنة. وفي التهذيب 7 : 185 : "
قال مسلم بن الحجاج في كتاب التمييز : حج عروة مع عثمان ، وحفظ عن أبيه فمن دونهما
من الصحابة " .
وأزيد هنا أن البخاري صرح في ترجمة " عروة " في التاريخ الكبير 4 / 1 /
31 بسماعه من أبيه ، فقال : " سمع أباه وعائشة وعبد الله بن عمر " . وأن
الإمام أحمد روى حديثًا آخر قبله : 1418 ، من طريق هشام بن عروة ، " عن عروة
، قال : أخبرني أبي الزبير " - وإسناده صحيح ، وفيه التصريح بسماع عروة من
أبيه ، وأن الحافظ في الفتح 5 : 26 قال : " وإنما صححه البخاري - مع هذا
الاختلاف - اعتمادًا على صحة سماع عروة من أبيه " .
ورواه عروة أيضًا من عند نفسه ، حكاية للقصة ، دون أن يذكر أنه عن اخيه أو عن أبيه
- فيكون ظاهره أنه حديث مرسل ، كما في الرواية الآتية عقب هذه ، وسيأتي باقي
الكلام هناك.
(5) في المطبوعة : حذف قوله : " من بني أمية " ، كأنه ظن أن " بني
أمية " هنا هم القرشيون!! و " بنو أمية " هنا : هم بنو أمية بن زيد
بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس.
(8/520)
أن قد ساءه ما قال ، ثم قال : يا زبير
، احبس الماء إلى الجدْرِ أو : إلى الكعبين ثم خل سبيل الماء. قال : ونزلت :
" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " . (1)
9914 - حدثني عبد الله بن عمير الرازي قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير قال ، حدثنا
سفيان قال ، حدثنا عمرو بن دينار ، عن سلمة رجلٍ من ولد أم سلمة ، عن أم سلمة : أن
الزبير خاصم رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم
للزبير ، فقال الرجل لما قضى للزبير : أن كان ابن عمتك! فأنزل الله : " فلا
وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم
__________
(1) الحديث : 9913 - إسماعيل بن إبراهيم : هو ابن علية.
عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن كنانة : ثقة ، وثقه ابن معين
والبخاري وغيرهما. وأخرج له مسلم في صحيحه. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 /
2 / 212 - 213.
وهذا الحديث صورته صورة الإرسال ، كما أشرنا في الحديث قبله. لأن عروة بن الزبير -
وهو تابعي - يحكي القصة ، دون أن يذكر روايته إياها عن أبيه أو عن أخيه.
وكذلك رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج ، رقم : 337 (بتحقيقنا) ، عن ابن علية ،
كرواية الطبري هذه.
وبهذه الصورة - صورة الإرسال - رواه البخاري 5 : 29 (فتح) ، من طريق معمر ، عن
الزهري ، عن عروة ، قال : " خاصم الزبير رجلا " . - إلخ. وكذلك رواه مرة
أخرى 8 : 191 ، من طريق معمر.
وكذلك رواه 5 : 30 ، من طريق ابن جريج ، عن الزهري - على صوره الإرسال.
وأشار الحافظ في الفتح 5 : 26 إلى روايات أخر عن الزهري توافق روايتي معمر وابن
جريج على روايته بصورة الحديث المرسل.
والراجح عندي أن عروة سمع الحديث من أبيه مع أخيه عبد الله ، ولعله لم يتثبت من
حفظه تمامًا لصغر سنه ، فسمعه مرة أخرى من أخيه. فحدث به على تارات : يذكر أنه عن
أخيه عن أبيه. أو يذكر أنه عن أبيه مباشرة. أو يرسل القصة إرسالا دون ذكر واحد
منهما لثقته بسماعها واطمئنانه.
ولذلك أخرج البخاري في صحيحه الرواية التي صورتها صورة الإرسال في موضعين ،
توثيقًا منه لثبوته موصولا. وأريد الحافظ في الفتح 5 : 26 صنيع البخاري هذا بقوله
: " ثم الحديث ورد في شيء يتعلق بالزبير ، فداعية ولده متوفرة على ضبطه
" .
والحديث - في أصله - ذكره السيوطي 2 : 180 ، وزاد نسبته لعبد الرزاق ، وعبد بن
حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي.
(8/522)
لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت
ويسلموا تسليمًا " . (1)
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في المنافق واليهوديّ اللذين وصف الله صفتهما في
قوله : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " .
*ذكر من قال ذلك :
9915 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا
في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما " ، قال : هذا الرجل اليهوديُّ
والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.
__________
(1) الحديث : 9914 - عبد الله بن عمير الرازي - شيخ الطبري : لم أجد له ترجمة ولا
ذكرًا في شيء من المراجع.
عبد الله بن الزبير بن عيسى الأسدي : هو الحميدي الإمام الثقة المشهور ، من شيوخ
البخاري. قال أبو حاتم : " هو أثبت الناس في ابن عيينة ، وهو رئيس أصحابه ،
وهو ثقة إمام " . مات سنة 219.
سفيان : هو ابن عيينة.
" سلمة رجل من ولد أم سلمة " : هو " سلمة بن عبد الله بن عمر بن
أبي سلمة " . مضت ترجمته في : 8368 ، 8369.
وهذا الحديث فيه القصة السابقة التي رواها عروة بن الزبير.
وقد أشار إليه الحافظ في الفتح 5 : 26 ، قال : " وقد جاءت هذه القصة من وجه
آخر ، أخرجها الطبري والطبراني ، من حديث أم سلمة " .
وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7 ص4) بنحوه. وقال : " رواه الطبراني ،
وفيه يعقوب بن حميد ، وثقه ابن حبان ، وضعفه غيره " .
وليس " يعقوب بن حميد " في هذا الإسناد - إسناد الطبري - فهو وجه آخر.
وقد ذكره ابن كثير 2 : 503 - 504 من كتاب ابن مردويه ، من طريق الفضل بن دكين ، عن
ابن عيينة ، بهذا الإسناد. ولكن فيه : " عن رجل من آل أبي سلمة ، قال : خاصم
الزبير رجلا " - إلخ. فلم يذكر فيه " عن أم سلمة " .
وذكره السيوطي 2 : 180 ، وزاد نسبته للحميدي - وهو الوجه الذي في الطبري هنا -
وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر.
(8/523)
9916 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو
حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
9917 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي ، بنحوه إلا أنه
قال : إلى الكاهن. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول أعني قول من قال : عني به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان
وصف الله شأنهما في قوله : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل
إليك وما أنزل من قبلك " أولى بالصواب ، لأن قوله : " فلا وربك لا
يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " في سياق قصة الذين ابتدأ الله الخبر عنهم
بقوله : (2) " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك " ،
ولا دلالة تدل على انقطاع قصتهم ، فإلحاق بعض ذلك ببعض ما " لم تأت دلالة على
انقطاعه أولى.
* * *
فإن ظن ظانٌّ أن في الذي روي عن الزبير وابن الزبير من قصته وقصة الأنصاري في
شِراج الحرة ، وقولِ من قال في خبرهما : " فنزلت فلا وربك لا يؤمنون حتى
يحكموك فيما شجر بينهم " ما ينبئ عن انقطاع حكم هذه الآية وقصتها من قصة
الآيات قبلها ، فإنه غير مستحيل أن تكون الآية نزلت في قصة المحتكمين إلى الطاغوت
، (3) ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاري ، إذ كانت الآية دلالة
دالة (4) وإذ كان ذلك غير مستحيل ، كان إلحاق معنى
__________
(1) وهناك قول آخر ذكر الطبري فيما سلف ، دليله في الأثر رقم : 5819 ، أن الآية
نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين ، كان له ابنان فتنصرا. وقد بينت آنفًا
في 5 : 410 ، تعليق : 4 ، أن هذا من الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره هذا.
(2) في المطبوعة : " الذين أسدى الله الخبر عنهم " ، وهو كلام خلو من كل
معنى ، أوقعه فيه أنه لم يحسن قراءة المخطوطة ، ولم يعرف قط قاعدة ناسخها ، فإنه
يكتب " ابتدأ " هكذا : " ابتدى " غير منقوطة.
(3) في المطبوعة : " في حصة المحتكمين " ، وهو خطأ في الطباعة.
(4) في المطبوعة : " إذ كانت الآية دالة على ذلك " ، وأثبت ما في
المخطوطة وهو صواب.
(8/524)
بعض ذلك ببعضٍ ، أولى ، ما دام الكلام
متسقة معانيه على سياق واحد ، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض ،
فيُعْدَل به عن معنى ما قبله.
* * *
وأما قوله : " ويسلموا " ، فإنه منصوب عطفًا ، على قوله : " ثم لا
يجدوا في أنفسهم " وقوله : " ثم لا يجدوا في أنفسهم " ، نصبٌ عطفًا
على قوله : " حتى يحكموك فيما شجر بينهم " .
* * *
(8/525)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ أَنَّا
كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ
دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا
أنفسكم " ، ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ،
المحتكمين إلى الطاغوت ، أن يقتلوا أنفسهم وأمرناهم بذلك أو أن يخرجوا من ديارهم
مهاجرين منها إلى دار أخرى سواها (1) " ما فعلوه " ، يقول : ما قتلوا
أنفسهم بأيديهم ، ولا هاجروا من ديارهم فيخرجوا عنها إلى الله ورسوله ، طاعة لله
ولرسوله " إلا قليل منهم " .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9918 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا
__________
(1) انظر تفسير " كتب " فيما سلف ص : 8 : 170 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(8/525)
أنفسكم " ، يهود يعني أو كلمة
تشبهها والعربَ ، (1) كما أمر أصحاب موسى عليه السلام.
9919 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم "
، كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضًا بالخناجر ، لم يفعلوا إلا قليل منهم.
9920 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما
فعلوه إلا قليل منهم " ، افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من يهود ، فقال
اليهودي : والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم ، فقتلنا أنفسنا! فقال ثابت
: والله لو كُتب علينا أن اقتلوا أنفسكم ، لقتلنا أنفسنا! أنزل الله في هذا :
" ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا " .
9921 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو زهير ، عن إسماعيل ، عن
أبي إسحاق السبيعي قال : لما نزلت : " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم
أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم " ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ،
والحمد لله الذي عافانا! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ من أمتي
لَرِجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرَّواسي.
* * *
واختلف أهل العربية في وجه الرفع في قوله : " إلا قليل منهم " .
فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنه رفع " قليل " ، لأنه جعل بدلا من
الأسماء
__________
(1) في المطبوعة : " هم يهود يعني والعرب " . ومثلها في الدر المنثور 2
: 181 ، وهو تصرف من السيوطي ، وتبعه الناشر الأول. وذلك أنه شك في معنى " أو
كلمة تشبهها " فحذفها ، وزاد في أول الكلام " هم " . ولكن قوله :
" أو كلمة تشبهها " أي : تشبه " يعني " في معناها ، كقولك
" يريد " أو " أراد " .
(8/526)
المضمرة في قوله : " ما فعلوه
" ، لأن الفعل لهم.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة : إنما رفع على نية التكرير ، كأن معناه : ما فعلوه ، ما
فعله إلا قليل منهم ، كما قال عمرو بن معد يكرب : (1)
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ، ... لَعمْرُ أَبِيك إلا الفَرْقَدَانِ (2)
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : رفع " القليل
" بالمعنى الذي دلَّ عليه قوله : " ما فعلوه إلا قليل منهم " .
وذلك أن معنى الكلام : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم
ما فعله إلا قليل منهم فقيل : " ما فعلوه " على الخبر عن الذين مضى
ذكرهم في قوله : " ألم تر إلى الذين
__________
(1) وأصح ، نسبته إلى حضرمي بن عامر الأسدي ، وينسب إلى سوار بن المضرب ، وهو خطأ.
(2) سيبويه 1 : 371 / مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 131 / البيان والتبيين 1 : 228 /
حماسة البحتري : 151 / الكامل 2 : 298 / المؤتلف والمختلف : 85 / الخزانة 2 : 52 4
: 79 / شرح شواهد المغني : 78. هذا ولم أجد أبيات عمرو بن معد يكرب ، وأما شعر
حضرمي ، فقبل البيت ، وهو شعر جيد : وَذِي فَجْعٍ عَزَفتُ النَّفْسَ عَنْهُ ...
حِذَارَ الشَّامتين ، وَقَدْ شَجَانِي
أَخِي ثِقَةٍ ، إذَا مَا اللَّيْلُ أَفْضَى ... إلَيَّ بِمُؤْيِدٍ حُبْلَى
كَفَانِي
قَطَعْتُ قَرِينَتِي عَنْهُ فأغْنَى ... غناهُ ، فَلَنْ أَراهُ وَلَنْ يَرَانِي
وكُلُّ قَرِينَةٍ قُرِنَتْ بِأُخْرى ، ... وَلَوْ ضَنَّتْ بِهَا ، سَتَفَرَّقَانِ
وكُلُّ أَخٍ...................... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَكُلُّ إِجَابَتي إِيَّاهُ أَنِّي ... عَطَفْتُ عَلَيْهِ خَوَّار الْعِنَانِ
وقوله : " وذي فجع " ، أي : صديق يورث فراقه الفجيعة ، ويروى " وذى
لطف " ، ويروي " وذي فخم " ، يعني : ذي كبرياء واستعلاء. و "
عزف نفسه عن الشيء " : صرفها. و " شجاني " : أحزنني. و "
المؤيد " الداهية العظيمة. " حبلى " تلد شرًا بعد شر. و "
القرينة " النفس التي تقارن صاحبها لا تفارقه ، حتى يموت. و " خوار
العنان " صفة الفرس إذا كان سهل المعطف لينه كثير الجري ، يعني ، أنه ينصره
في الحرب حين يستغيث به.
(8/527)
يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما
أنزل من قبلك " ، ثم استثنى " القليل " ، فرفع بالمعنى الذي ذكرنا
، إذ كان الفعل منفيًّا عنه.
* * *
وهي في مصاحف أهل الشام : ( مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ ). وإذا قرئ كذلك
، فلا مرْزِئَةَ على قارئه في إعرابه ، (1) لأنه المعروف في كلام العرب ، إذ كان
الفعل مشغولا بما فيه كنايةُ مَنْ قد جرى ذكره ، (2) ثم استثني منهم القليل.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ
خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم
آمنوا بما أنزل إليك ، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ويصدُّون عنك صدودًا "
فعلوا ما يوعظون به " ، يعني : ما يذكّرون به من طاعة الله والانتهاء إلى
أمره (3) " لكان خيرًا لهم " ، في عاجل دنياهم ، وآجل معادهم "
وأشد تثبيتًا " ، وأثبت لهم في أمورهم ، وأقوم لهم عليها. (4) وذلك أن
المنافق يعمل على شك ، فعمله يذهب باطلا وعناؤه يضمحلّ فيصير هباء ، وهو بشكه يعمل
على وناءٍ وضعف. (5)
__________
(1) " المرزئة " (بفتح الميم ، وسكون الراء ، وكسر الزاي) ، مثل الرزء ،
والرزيئة : وهو المصيبة والعناء والضرر والنقص ، وكل ما يثقل عليك ، عافاك الله.
وكان في المطبوعة والمخطوطة : " فلا مرد به على قارئه " ، وهو شيء لا
يفهم ولا يقال!!
(2) " الكناية " الضمير ، كما سلف مرارًا كثيرة. ثم انظر مقالة أبي
عبيدة في مجاز القرآن 1 : 131.
(3) انظر تفسير " الوعظ " ، فيما سلف ص : 299 ، تعليق : 4 ، والمراجع
هناك.
(4) انظر تفسير " التثبيت " فيما سلف 5 : 354 ، 531 / 7 : 272 ، 273.
ولو قال : " وأقوى لهم عليها " ، لكان ذلك أرجح عندي ، وكلتاهما صواب.
(5) " الونا " و " الوناء " : الفترة والكلال والإعياء
والضعف.
(8/528)
وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
ولو عمل على بصيرة ، لاكتسب بعمله
أجرًا ، ولكان له عند الله ذخرًا ، وكان على عمله الذي يعمل أقوى ، ولنفسه أشدَّ
تثبيتًا ، لإيمانه بوعد الله على طاعته ، وعمله الذي يعمله. ولذلك قال من قال :
معنى قوله : " وأشد تثبيتًا " ، تصديقًا ، كما : -
9922 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا " ، قال : تصديقًا.
* * *
لأنه إذا كان مصدّقًا ، كان لنفسه أشد تثبيتًا ، ولعزمه فيه أشدّ تصحيحًا. وهو
نظير قوله جل ثناؤه : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) [سورة البقرة : 265].
وقد أتينا على بيان ذلك في موضعه ، بما فيه كفاية من إعادته ، (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا
(67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم
، لإيتائنا إياهم على فعلهم ما وعِظُوا به من طاعتنا والانتهاء إلى أمرنا "
أجرًا " يعني : جزاء وثوابًا عظيمًا (2) وأشد تثبيتًا لعزائمهم وآرائهم ،
وأقوى لهم على أعمالهم ، لهدايتنا إياهم صراطًا مستقيمًا يعني : طريقًا لا اعوجاج
فيه ، وهو دين الله القويم الذي اختاره لعباده وشرعه لهم ، وذلك الإسلام. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير الآية فيما سلف 5 : 530 - 534.
(2) انظر تفسيره " الأجر " فيما سلف ص : 365 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " الصراط المستقيم " فيما سلف 1 : 170 - 177 / 3 : 140 ،
141 / 6 : 441.
(8/529)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
ومعنى قوله : " ولهديناهم "
، ولوفَّقناهم للصراط المستقيم. (1)
ثم ذكر جل ثناؤه ما وعد أهل طاعته وطاعة رسوله عليه السلام ، من الكرامة الدائمة
لديه ، والمنازل الرفيعة عنده. فقال : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ) الآية.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ
الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ومن يطع الله والرسول " بالتسليم
لأمرهما ، وإخلاص الرضى بحكمهما ، والانتهاء إلى أمرهما ، والانزجار عما نهيا عنه
من معصية الله ، فهو مع الذين أنعم الله عليهم بهدايته والتوفيق لطاعته في الدنيا
من أنبيائه ، وفي الآخرة إذا دخل الجنة " والصديقين " وهم جمع "
صِدِّيق " .
* * *
واختلف في معنى : " الصديقين " .
فقال بعضهم : " الصديقون " ، تُبَّاع الأنبياء الذين صدّقوهم واتبعوا
منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم. فكأن " الصدِّيق " ، " فِعِّيل
" ، على مذهب قائلي هذه المقالة ، من " الصدق " ، كما يقال :
" رجل سِكّير " من " السُّكر " ، إذا كان مدمنًا على ذلك ، و
" شِرِّيبٌ " ، و " خِمِّير " .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الهدي " فيما سلف من فهارس اللغة.
(8/530)
وقال آخرون : بل هو " فِعِّيل
" من " الصَّدَقة " ، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بنحو تأويل من قال ذلك ، وهو ما : -
9923 - حدثنا به سفيان بن وكيع قال ، حدثنا خالد بن مخلد ، عن موسى بن يعقوب قال ،
أخبرتني عمتي قريبة بنت عبد الله بن وهب بن زمعة ، عن أمها كريمة ابنة المقداد ،
(1) عن ضباعة بنت الزبير ، (2) وكانت تحت المقداد ، عن المقداد قال : قلت للنبي
صلى الله عليه وسلم : شيء سمعته منك شككت فيه! قال : إذا شكّ أحدكم في الأمر
فليسألني عنه. قال قلت : قولك في أزواجك : " إنيّ لأرجو لهن من بعدِيَ
الصدِّيقين " قال : من تَعُدُّون الصديقين ؟ (3) قلت : أولادنا الذين يهلكون
صغارًا. قال : لا ولكن الصدِّيقين هم المصَّدِّقون. (4)
* * *
وهذا خبر ، لو كان إسناده صحيحًا ، لم نستجز أن نعدوه إلى غيره ، ولو كان في
إسناده بعض ما فيه.
__________
(1) في المخطوطة " كريمة ابنة المقدام " ، وهو خطأ ، والصواب ما في
المطبوعة.
(2) في المخطوطة : " متاعة بنت الزبير " ، خطأ ، صوابه في المطبوعة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " من تعنون الصديقين " ، وهو خطأ لا معنى
له. والصواب ما أثبت من مختصر هذا الأثر في منتخب كنز العمال (هامش المسند) 5 :
113.
(4) الحديث : 9923 - سفيان بن وكيع بن الجراح - شيخ الطبري : ضعيف ، كما فصلنا في
: 142 ، 143.
موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود ، الزمعي - بسكون الميم -
المدني : ثقة ، وثقه ابن معين وابن القطان وغيرهما. وضعفه ابن المديني وغيره.
مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 4 / 1 / 298 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 167 -
ولم يذكرا فيه جرحًا. بل اقتصر ابن أبي حاتم على توثيق ابن معين إياه.
قريبة - بالتصغير - بنت عبد الله بن وهب بن زمعة ، عمة موسى بن يعقوب : مترجمة في
التهذيب ، دون جرحها بشيء.
أمها : " كريمة بنت المقداد بن الأسود " : تابعية ثقة. ذكرها ابن حبان
في الثقات.
ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم : صحابية
معروفة. كانت زوجًا للمقداد بن الأسود. ولها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
وعن زوجها المقداد.
وهذا الحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور 2 : 183 ، مختصرًا ، ولم ينسبه لغير ابن
جرير.
ولكنه ذكره في الجامع الكبير ، المسمى " جمع الجوامع " ، كما يدل عليه
ذكره في كتاب " منتخب كنز العمال " للمتقي الهندي ، المطبوع بهامش مسند
أحمد - طبعة الحلبي - ذكره فيه مختصرًا (ج5 ص113) ، ونسبه للطبراني في الكبير.
وقد أعجزني أن أجده في مجمع الزوائد ، لأنه على شرطه. ولست أعرف إذا كانت روايته
عند الطبراني من طريق سفيان بن وكيع ، أو من طريق راو آخر ، فإن يكن من طريق راو
غيره ، كان الإسناد جيدًا ، لأن جرح سفيان بن وكيع لم يكن من قبل صدقه ، كما بينا
في ترجمته.
(8/531)
فإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بـ
" الصديق " ، أن يكون معناه : المصدِّق قوله بفعله. إذ كان "
الفعِّيل " في كلام العرب ، إنما يأتي ، إذا كان مأخوذًا من الفعل ، بمعنى
المبالغة ، إما في المدح ، وإما في الذم ، ومنه قوله جل ثناؤه في صفة مريم : (
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ) [سورة المائدة : 75].
وإذا كان معنى ذلك ما وصفنا ، كان داخلا من كان موصوفًا بما قلنا في صفة المتصدقين
والمصدقين.
" والشهداء " ، وهم جمع " شهيد " ، وهو المقتول في سبيل الله
، سمي بذلك لقيامه بشهادة الحق في جَنب الله حتى قتل. (1)
* * *
" والصالحين " ، وهم جمع " صالح " ، وهو كل من صلحت سريرته
وعلانيته. (2)
وأما قوله جل ثناؤه : " وحَسُن أولئك رفيقًا " ، فإنه يعني : وحسن ،
هؤلاء الذين نعتهم ووصفهم ، (3) رفقاء في الجنة.
* * *
و " الرفيق " في لفظ واحدٍ بمعنى الجميع ، (4) كما قال الشاعر : (5)
__________
(1) انظر تفسير " الشهداء " فيما سلف : 368 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " الصالح " فيما سلف : 293 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(3) انظر ما كتبته في " حسن " 4 : 458 ، تعليق : 2.
(4) في المطبوعة : " بلفظ الواحد " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) هو جرير.
(8/532)
دَعَوْنَ الهَوَى ، ثُمَّ ارْتَمَيْنَ
قُلُوَبنَا... بِأَسْهُمِ أَعْدَاءِ ، وَهُنَّ صَدِيقُ (1)
بمعنى : وهن صدائق.
* * *
وأما نصب " الرفيق " ، فإن أهل العربية مختلفون فيه.
فكان بعض نحويي البصرة يرى أنه منصوب على الحال ، ويقول : هو كقول الرجل : "
كَرُم زيد رجلا " ، ويعدل به عن معنى : " نعم الرجل " ، ويقول : إن
" نعم " لا تقع إلا على اسم فيه " ألف ولام " ، أو على نكرة.
* * *
وكان بعض نحويي الكوفة يرى أنه منصوب على التفسير ، (2) وينكر أن يكون حالا
ويستشهد على ذلك بأن العرب تقول : " كرم زيدٌ من رجل " و " حسن
أولئك من رفقاء " ، وأن دخول " مِنْ " دلالة على أن " الرفيق
" مفسره. قال : وقد حكي عن العرب : " نَعِمتم رجالا " ، فدل على أن
ذلك نظير قوله : " وحسنتم رفقاء " .
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول أولى بالصواب ، للعلة التي ذكرنا لقائليه.
* * *
__________
(1) ديوانه : 398 ، وطبقات فحول الشعراء : 351 ، واللسان (صدق) ، وغيرها كثير. من
أبيات ذكر فيهن الحجاج ، قبله أبيات حسان ، تحفظ : وَبِتُّ أُرَائِي صَاحِبَيَّ
تَجَلُّدًا ... وَقَدْ عَلِقَتْنِي مِنْ هَوَاكِ عَلُوقُ
فَكَيْفَ بِهَا? لا الدَّارُ جَامِعَةُ الْهَوَى ... وَلا أنْتَ عَصْرًا عَنْ
صِبَاكَ مُفِيقُ
أَتجْمَعُ قَلْبًا بِالْعِرَاقِ فَرِيُقهُ ، ... ومِنْهُ بِأَظْلالٍ الأََرَاكِ
فَرِيقُ?
كأنْ لَمْ تَرُقْني الرَّائِحَاتُ عَشِيَّةً ... وَلَمْ يُمْسِ فِي أَهْل
الْعِرَاقِ وَمِيقُ
أُعَالِجُ بَرْحًا مِنْ هَوَاكِ ، وَشَفَّني ... فُؤَادٌ إذَا مَا تُذْكَرِينَ
خَفُوقُ
أَوَانِسُ ، أَمَّا مَنْ أَرَدْنَ عَنَاءَهُ ... فَعَانِ ، وَمَنْ أَطْلَقْنَ
فَهُوَ طَلِيقُ
دَعَوْنَ الْهَوَى............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي المطبوعة : " نصبن الهوى " ، وهي رواية أخرى ، غير التي في المخطوطة
والديوان.
(2) " التفسير " . التمييز و " المفسر " : المميز. كما سلف
مرارًا. انظر فهرس المصطلحات.
(8/533)
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت ، (1) لأن
قومًا حزنوا على فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرًا أن لا يروه في الآخرة.
ذكر الرواية بذلك :
9924 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن
سعيد بن جبير قال : جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون ،
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا فلان ، مالي أراك محزونًا ؟ قال : يا نبي
الله ، شيء فكرت فيه! فقال : ما هو ؟ قال : نحن نغدو عليك ونروح ، ننظر في وجهك
ونجالسك ، غدًا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك! فلم يردّ النبي صلى الله عليه وسلم
شيئًا. فأتاه جبريل عليه السلام بهذه الآية : " ومن يطع الله والرسول فأولئك
مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك
رفيقًا " . قال : فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم فبشره.
9925 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال
: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، ما ينبغي لنا أن
نفارقك في الدنيا ، فإنك لو قَدْ مِتَّ رُفِعت فوقنا فلم نرك! فأنزل الله : "
ومن يطع الله والرسول " ، الآية.
9926 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين " ،
ذكر لنا أن رجالا قالوا : هذا نبي الله نراه في الدنيا ، فأما في الآخرة فيرفع فلا
نراه! فأنزل الله : " ومن يطع الله والرسول " إلى قوله : " رفيقًا
" .
9927 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم "
الآية ، قال : قال ناس من الأنصار : يا رسول الله ، إذا أدخلك الله الجنة فكنت
__________
(1) في المخطوطة : " وقد ذكرنا أن... " ، والصواب ما في المطبوعة.
(8/534)
في أعلاها ، ونحن نشتاق إليك ، فكيف
نصنع ؟ فأنزل الله " ومن يطع الله والرسول " .
9928 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع قوله : " ومن يطع الله والرسول " ، الآية ، قال : إن أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم قالوا : قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضله على من
آمن به في درجات الجنة ، (1) ممن اتبعه وصدقه ، فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى
بعضهم بعضًا ؟ فأنزل الله في ذلك. يقال : (2) إن الأعلَين ينحدرون إلى من هم أسفل
منهم فيجتمعون في رياضها ، فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه ، وينزل لهم
أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به ، فهم في رَوْضه يحبرون
ويتنعَّمون فيه. (3) .
* * *
وأما قوله : " ذلك الفضل من الله " ، فإنه يقول : كون من أطاع الله
والرسول مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين "
الفضل من الله " ، يقول : ذلك عطاء الله إياهم وفضله عليهم ، لا باستيجابهم
ذلك لسابقة سبقت لهم. (4)
* * *
فإن قال قائل : أو ليس بالطاعة وصلوا إلى ما وصلوا إليه من فضله ؟
قيل له : إنهم لم يطيعوه في الدنيا إلا بفضله الذي تفضل به عليهم ، فهداهم به
لطاعته ، فكل ذلك فضل منه تعالى ذكره.
* * *
وقوله : " وكفى بالله عليما " ، يقول : وحسب العباد بالله الذي خلقهم
" عليما "
__________
(1) في المطبوعة : " له فضل على من آمن " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " فقال " ، والصواب ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " في روضة " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) انظر تفسير " الفضل " فيما سلف 2 : 344 / 5 : 164 ، 571 / 6 : 518 /
7 : 299 ، 414 / 8 : 268.
(8/535)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
بطاعة المطيع منهم ومعصية العاصي ،
فإنه لا يخفى عليه شيء من ذلك ، ولكنه يحصيه عليهم ويحفظه ، حتى يجازي جميعهم ،
جزاء المحسنين منهم بالإحسان ، والمسيئين منهم بالإساءة ، (1) ويعفو عمن شاء من
أهل التوحيد.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ
فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : (2) " يا أيها الذين آمنوا " ،
صدَّقوا الله ورسوله " خذوا حذركم " ، خذوا جُنَّتكم وأسلحتكم التي
تتقون بها من عدوكم لغزوهم وحربهم " فانفروا إليهم ثُبات " .
* * *
وهي جمع " ثبة " ، و " الثبة " ، العصبة.
ومعنى الكلام : فانفروا إلى عدوكم جماعة بعد جماعة متسلحين.
ومن " الثبة " قول زهير :
وَقَدْ أَغْدُوا عَلَى ثُبَةٍ كِرَامٍ... نَشَاوَى وَاجِدِينَ لِمَا نَشَاء (3)
__________
(1) في المطبوعة : " فيجزي المحسن منهم بالإحسان ، والمسيء منهم بالإساءة
" وفي المخطوطة : " جزاء المحسنين منهم بالإحسان ، والمسيء منهم
بالإساءة " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وأثبت صواب السياق على ما يقتضيه صدر
الكلام.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " يعني بذلك... " والسياق يقتضي ما أثبت.
(3) ديوانه : 72 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 132 ، واللساق (ثبا) و (نشا) ،
وغيرها. من أبيات وصف فيها الشرب ، قد بلغت منهم النشوة ، وهم في ترف من يومهم ،
لا يفتقدون شيئًا ثم يقول : لَهُمْ رَاحٌ ، وَرَاوُوقٌ ، ومِسْكٌ ... تُعَلُّ بِهِ
جُلُودُهُمُ ، ومَاءُ
أُمَشِّي بَيْنَ قَتْلَى قَدْ أُصِيَبتْ ... نُفُوسُهُمُ ، ولَمْ تَقْطُرَ دماءُ
يَجُرُّونَ الْبُرُودَ وَقَدْ تَمَشَّتْ ... حُمَيَّا الْكَأْسِ فِيهِمْ
والغِنَاءُ
(8/536)
وقد تجمع " الثبة " على
" ثُبِين " . (1) .
* * *
" أو انفروا جميعًا " ، يقول : أو انفروا جميعًا مع نبيكم صلى الله عليه
وسلم لقتالهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9929 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " خذوا حذركم فانفروا ثبات " ، يقول :
عصبًا ، يعني سَرايَا متفرقين " أو انفروا جميعًا " ، يعني : كلكم.
9930 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : " فانفروا ثبات " ، قال : فرقًا ، قليلا قليلا.
9931 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" فانفروا ثبات " ، قال : " الثبات " الفرق.
9932 - حدثنا الحسين بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة
مثله.
9933 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فانفروا ثبات " ، فهي العصبة ، وهي الثبة " أو انفروا
جميعًا " ، مع النبي صلى الله عليه وسلم.
9934 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " فانفروا ثبات " ، يعني : عصبًا
متفرِّقين.
* * *
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 132.
(8/537)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
القول في تأويل قوله : { وَإِنَّ
مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) }
قال أبو جعفر : وهذا نعت من الله تعالى ذكره للمنافقين ، نعتهم لنبيه صلى الله
عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بصفتهم فقال : " وإن منكم " ، أيها المؤمنون ،
يعني : من عِدَادكم وقومكم ، ومن يتشَّبه بكم ، ويظهر أنه من أهل دعوتكم ومِلَّتكم
، وهو منافق يبطِّئ من أطاعه منكم عن جهاد عدوكم وقتالهم إذا أنتم نفرتم إليهم
" فإن أصابتكم مصيبة " ، (1) يقول : فإن أصابتكم هزيمة ، أو نالكم قتل
أو جراح من عدوكم " قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا " ،
فيصيبني جراح أو ألم أو قتل ، وسَرَّه تخلّفه عنكم ، شماتة بكم ، لأنه من أهل الشك
في وعد الله الذي وعد المؤمنين على ما نالهم في سبيله من الأجر والثواب ، وفي
وعيده. فهو غيرُ راج ثوابًا ، ولا خائف عقابًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9935 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : " وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة " إلى قوله :
" فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا " ، ما بين ذلك في المنافقين.
__________
(1) انظر تفسير " إصابة المصيبة " فيما سلف : 514.
(8/538)
9936 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو
حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
9937 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
وإن منكم لمن ليبطئن " عن الجهاد والغزو في سبيل الله " فإن أصابتكم
مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا " ، قال : هذا قول
مكذِّب.
9938 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج قال ، قال ابن جريج :
المنافق يبطِّئ المسلمين عن الجهاد في سبيل الله ، قال الله : " فإن أصابتكم
مصيبة " ، قال : بقتل العدو من المسلمين " قال قد أنعم الله عليّ إذ لم
أكن معهم شهيدًا " ، قال : هذا قول الشامت.
9939 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فإن
أصابتكم مصيبة " ، قال : هزيمةٌ.
* * *
ودخلت " اللام " في قوله : " لمن " ، وفتحت ، لأنها "
اللام " التي تدخل توكيدًا للخبر مع " إنَّ " ، كقول القائل :
" إنّ في الدار لَمَن يكرمك " . وأما " اللام " الثانية التي
في " ليبطئن " ، فدخلت لجواب القسم ، كأن معنى الكلام : وإن منكم أيها
القوم لمن والله ليبطئن. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1 : 275 ، 276.
(8/539)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
القول في تأويل قوله : { وَلَئِنْ
أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا
(73) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : " ولئن أصابكم فضل من الله " ، ولئن
أظفركم الله بعدوكم فأصبتم منهم غنيمة ، ليقولن هذا المبطِّئُ المسلمين عن الجهاد
معكم في سبيل الله ، المنافقُ " كأن لم يكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت
معهم فأفوز " ، بما أصيب معهم من الغنيمة " فوزًا عظيمًا " .
* * *
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين : أنّ شهودهم الحرب مع المسلمين
إن شهدوها ، لطلب الغنيمة وإن تخلَّفوا عنها ، فللشك الذي في قلوبهم ، وأنهم لا
يرجون لحضورها ثوابًا ، ولا يخافون بالتخلف عنها من الله عقابًا.
* * *
وكان قتادة وابن جريج يقولان : إنما قال من قال من المنافقين إذا كان الظفر
للمسلمين : " يا ليتني كنت معهم " ، حسدًا منهم لهم.
9940 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت
معهم فأفوز فوزًا عظيمًا " ، قال : قول حاسد.
9941 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله :
" ولئن أصابكم فضل من الله " ، قال : ظهور المسلمين على عدوهم فأصابوا
الغنيمة ، ليقولن : " يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا " ، قال :
قول الحاسد.
* * *
(8/540)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
القول في تأويل قوله : { فَلْيُقَاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ
وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ
نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) }
قال أبو جعفر : وهذا حضٌّ من الله المؤمنين على جهاد عدوه من أهل الكفر به على
أحايينهم غالبين كانوا أو مغلوبين ، والتهاونِ بأقوال المنافقين في جهاد من جاهدوا
من المشركين ، (1) [وأن لهم في] جهادهم إياهم - مغلوبين كانوا أو غالبين - منزلة
من الله رفيعة. (2)
* * *
يقول الله لهم جل ثناؤه : " فليقاتل في سبيل الله " ، يعني : في دين
الله والدعاء إليه ، والدخول فيما أمر به أهل الكفر به " الذين يشرون الحياة
الدنيا بالآخرة " ، يعني : الذين يبيعون حياتهم الدنيا بثواب الآخرة وما وعد
الله أهل طاعته فيها. وبيعُهم إياها بها : إنفاقهم أموالهم في طلب رضى الله ،
لجهاد من أمر بجهاده من أعدائه وأعداء دينه ، (3) وبَذْلهم مُهَجهم له في ذلك.
* * *
أخبر جل ثناؤه بما لهم في ذلك إذا فعلوه فقال : " ومن يقاتل في سبيل الله
فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا " ، يقول : ومن يقاتل - في طلب إقامة
دين الله وإعلاء كلمة الله - أعداءَ الله " فيقتل " ، يقول : فيقتله
أعداء الله ، أو يغلبهم
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة " والتهاون بأحوال المشركين " ، والذي يدل
عليه سياق التفسير ، هو ما أثبت. ويعني بذلك ما يقوله المنافق عند هزيمة المسلمين
: " قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدًا " ، وقوله إذا كانت الدولة
والظفر للمسلمين : " يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا " .
وقوله : " والتهاون " عطف على قوله : " وهذا حض من الله المؤمنين
على جهاد عدوه " .
(2) كان مكان ما بين القوسين في المخطوطة والمطبوعة : " وقع " وهو كلام
لا يستقيم البتة ، فاستظهرت أن يكون صواب سياقه ما أثبت ، أو ما يشبهه من القول.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " كجهاد من أمر بجهاده " ، وصواب السياق
" لجهاد........ " كما أثبتها.
(8/541)
فيظفر بهم " فسوف نؤتيه أجرًا
عظيمًا " ، يقول : فسوف نعطيه في الآخرة ثوابًا وأجرًا عظيمًا. وليس لما سمى
جل ثناؤه " عظيمًا " ، مقدار يعرِف مبلغَه عبادُ الله. (1)
* * *
وقد دللنا على أن الأغلب على معنى : " شريت " ، في كلام العرب : "
بعت " ، بما أغنى [عن إعادته] ، (2)
وقد : -
9942 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة " ،
يقول : يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة.
9943 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " يشرون الحياة
الدنيا بالآخرة " ، فـ " يشري " : يبيع ، و " يشري " :
يأخذ وإن الحمقى باعوا الآخرة بالدنيا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف : 529 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " شرى " و " اشترى " فيما سلف 1 : 312 - 315 /
2 : 340 - 342 ، 455 / 3 : 328 / 4 : 246 / 6 : 527 / 7 : 420 ، 459 / 8 : 428
وزدت ما بين القوسين ، جريًا على نهج عبارته في مئات من المواضع السالفة ، والظاهر
أن الناسخ نسى أن يكتبها ، لأن " بما أغنى " وقعت في آخر الصفحة ، ثم
قلب الورقة إلى الصفحة التالية ، وكتب " وقد " .
(8/542)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
القول في تأويل قوله : { وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) }
(8/542)
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه :
" وما لكم " أيها المؤمنون " لا تقاتلون في سبيل الله " ، وفي
" المستضعفين " ، يقول : عن المستضعفين منكم " من الرجال والنساء
والولدان " ، فأما من " الرجال " ، فإنهم كانوا قد أسلموا بمكة ،
فغلبتهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم ، وآذوهم ، ونالوهم بالعذاب والمكاره في
أبدانهم ليفتنوهم عن دينهم ، فحضَّ الله المؤمنين على استنقاذهم من أيدي من قد
غلبهم على أنفسهم من الكفار ، فقال لهم : وما شأنكم لا تقاتلون في سبيل الله ، وعن
مستضعفي أهل دينكم وملتكم الذين قد استضعفهم الكفار فاستذلوهم ابتغاء فتنتهم
وصدِّهم عن دينهم ؟ " من الرجال والنساء والولدان " جمع " ولد
" : وهم الصبيان " الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها
" ، يعني بذلك أن هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، يقولون في
دعائهم ربَّهم بأن ينجييهم من فتنة من قد استضعفهم من المشركين : " يا ربنا
أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها " .
* * *
والعرب تسمي كل مدينة " قرية " يعني : التي قد ظلمتنا وأنفسَها أهلُها
وهي في هذا الموضع ، فيما فسر أهل التأويل ، " مكة " .
* * *
وخفض " الظالم " لأنه من صفة " الأهل " ، وقد عادت "
الهاء والألف " اللتان فيه على " القرية " ، وكذلك تفعل العرب إذا
تقدمت صفة الاسم الذي معه عائد لاسم قبلها ، (1) أتبعت إعرابها إعرابَ الاسم الذي
قبلها ، كأنها صفة له ، فتقول : " مررت بالرجلِ الكريمِ أبوه " .
* * *
" واجعل لنا من لدنك وليًّا " ، يعني : أنهم يقولون أيضًا في دعائهم :
يا ربنا ، واجعل لنا من عندك وليًّا ، يلي أمرنا بالكفاية مما نحن فيه من فتنة أهل
الكفر بك
__________
(1) في المخطوطة : " الذي معه عادر لاسم قبلها " ، وهو سهو من الناسخ ،
صوابه ما في المطبوعة.
(8/543)
" واجعل لنا من لدنك نصيرًا
" ، يقولون : (1) واجعل لنا من عندك من ينصرنا على من ظلمنا من أهل هذه
القرية الظالم أهلها ، (2) بصدِّهم إيانا عن سبيلك ، حتى تظفرنا بهم ، وتعلي دينك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9944 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : " من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا
من هذه القرية الظالم أهلها " ، قال : أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفي
المؤمنين ، كانوا بمكة.
9945 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان " الصبيان "
الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها " ، مكة أمر المؤمنين
أن يقاتلوا عن مستضعفين مؤمنين كانوا بمكة.
9946 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء
والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها " ، يقول :
وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي المستضعفين وأما " القرية " ،
فمكة.
9947 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن عثمان
بن عطاء ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " وما لكم لا تقاتلون في سبيل
الله والمستضعفين " ، قال : وفي المستضعفين.
__________
(1) انظر تفسير " الولي " ، و " النصير " ، فيما سلف من فهارس
اللغة.
(2) في المطبوعة " من ظلمنا من أهل القرية " ، والصواب من المخطوطة.
(8/544)
9948 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني عبد الله بن كثير : أنه سمع
محمد بن مسلم بن شهاب يقول ، " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين
من الرجال والنساء والولدان " ، قال : في سبيل الله وسبيل المستضعفين.
9949 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الحسن
وقتادة في قوله : " أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها " ، قالا خرج رجل
من القرية الظالمة إلى القرية الصالحة ، فأدركه الموت في الطريق ، فنأى بصدره إلى
القرية الصالحة ، (1) فما تلافاه إلا ذلك (2) فاحتجَّت فيه ملائكة الرحمة وملائكة
العذاب ، (3) فأمروا أن يقدُروا أقرب القريتين إليه ، فوجدوه أقرب إلى القرية
الصالحة بشبْرٍ وقال بعضهم : قرّب الله إليه القرية الصالحة ، فتوفَّته ملائكة
الرحمة.
9950 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان "
، هم أناس مسلمون كانوا بمكة ، لا يستطيعون أن يخرجوا منها ليهاجروا ، فعذرهم الله
، فهم أولئك (4) وقوله : " ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها " ،
فهي مكة.
9950م - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله :
__________
(1) قوله : " نأى بصدره " أي تباعد به. يعني : تحامل وهو هالك حتى وجه
صدره إلى القرية الصالحة ، ابتعادًا وإعراضًا عن القرية الظالمة. ومثله : "
نأى بجانبه " .
(2) قوله : " فما تلافاه إلا ذلك " ، أي : فما تداركه وأنقذه من سوء
المصير ، إلا هذه الإعراضة التي أعرضها عن القرية الظالمة. وكانت هذه الجملة غير
منقوطة في المخطوطة. فآثر ناشر المطبوعة حذفها ، لما لم يحسن قراءتها وفهمها.
(3) قوله : " احتجت فيه " ، أي : اختصمت فيه الملائكة ، وألقى كل خصم
بحجته ، ولم يرد هذا الوزن بهذا المعنى في كتب اللغة ، وهو صحيح عريق ، وإنما
قالوا : " احتج بالشيء " اتخذه حجة ، أما التخاصم والتنازع فقالوا فيه :
" تحاج القوم " . فهذا من الزيادات الصحيحة على قيد اللغة.
(4) في المطبوعة : " وفيهم قوله " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب
محض.
(8/545)
الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
" وما لكم لا تقاتلون في سبيل
الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه
القرية الظالم أهلها " ، قال : وما لكم لا تفعلون ؟ تقاتلون لهؤلاء الضعفاء
المساكين الذين يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها ، فهم ليس لهم
قوة ، فما لكم لا تقاتلون حتى يسلم الله هؤلاء ودينهم ؟ (1) قال : و " القرية
الظالم أهلها " ، مكة.
* * *
القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا
أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : الذين صدقوا الله ورسوله ، وأيقنوا بموعود الله
لأهل الإيمان به " يقاتلون في سبيل الله " ، يقول : في طاعة الله ومنهاج
دينه وشريعته التي شرعها لعباده (2) " والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت
" ، يقول : والذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم
" يقاتلون في سبيل الطاغوت " ، (3) يعني : في طاعة الشيطان وطريقه
ومنهاجه الذي شرعه لأوليائه من أهل الكفر بالله. يقول الله ، مقوِّيًا عزم
المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومحرِّضهم على أعدائه وأعداء
دينه من أهل الشرك به : " فقاتلوا " أيها المؤمنون ، " أولياء
الشيطان " ، يعني بذلك : الذين يتولَّونه ويطيعون أمره ، في خلاف طاعة الله ،
والتكذيب به ، وينصرونه (4) " إن كيد الشيطان
__________
(1) في المطبوعة : " حتى يسلم لله " ، وأثبت ما في المخطوطة فهو الصواب.
(2) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة ، مادة (سبل).
(3) انظر تفسير " الطاغوت " فيما سلف 3 : 416 - 420 / 8 : 461 - 465 ،
507 - 513.
(4) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة.
(8/546)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
كان ضعيفًا " ، يعني بكيده : ما
كاد به المؤمنين ، (1) من تحزيبه أولياءه من الكفار بالله على رسوله وأوليائه أهل
الإيمان به. يقول : فلا تهابوا أولياء الشيطان ، فإنما هم حزبه وأنصاره ، وحزب
الشيطان أهل وَهَن وضعف.
* * *
وإنما وصفهم جل ثناؤه بالضعف ، لأنهم لا يقاتلون رجاء ثواب ، ولا يتركون القتال
خوف عقاب ، وإنما يقاتلون حميّة أو حسدًا للمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله.
والمؤمنون يقاتل مَن قاتل منهم رجاء العظيم من ثواب الله ، ويترك القتال إن تركه
على خوف من وعيد الله في تركه ، فهو يقاتل على بصيرة بما له عند الله إن قتل ،
وبما لَه من الغنيمة والظفر إن سلم. والكافر يقاتل على حذر من القتل ، وإياس من
معاد ، فهو ذو ضعف وخوف.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا
أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ
اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا
الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ }
قال أبو جعفر : ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد ، وقد فرض عليهم الصلاة
والزكاة ، وكانوا يسألون الله أن يُفرض عليهم القتال ، فلما فرض عليهم القتال شقّ
عليهم ذلك ، وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتابه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الكيد " فيما سلف 7 : 156.
(8/547)
فتأويل قوله : " ألم تر إلى الذين
قيل لهم كفوا أيديكم " ، ألم تر بقلبك ، يا محمد ، فتعلم (1) " إلى
الذين قيل لهم " ، من أصحابك حين سألوك أن تسأل ربك أن يفرض عليهم القتال
" كفوا أيديكم " ، فأمسكوها عن قتال المشركين وحربهم " وأقيموا
الصلاة " ، يقول : وأدُّوا الصلاة التي فرضها الله عليكم بحدودها (2) "
وآتوا الزكاة " ، يقول : وأعطوا الزكاة أهلها الذين جعلها الله لهم من
أموالكم ، تطهيرًا لأبدانكم وأموالكم (3) كرهوا ما أمروا به من كف الأيدي عن قتال
المشركين وشق ذلك عليهم " فلما كتب عليهم القتال " ، يقول : فلما فرض
عليهم القتال الذي كانوا سألوا أن يفرض عليهم (4) " إذا فريق منهم " ،
يعني : جماعة منهم (5) " يخشون الناس " ، يقول : يخافون الناس أن
يقاتلوهم " كخشية الله أو أشد خشية " ، أو أشد خوفًا (6) وقالوا جزعًا
من القنال الذي فرض الله عليهم : " لم كتبت علينا القتال " ، لم فرضت
علينا القتال ؟ ركونًا منهم إلى الدنيا ، وإيثارًا للدعة فيها والخفض ، (7) على
مكروه لقاء العدوّ ومشقة حربهم وقتالهم " لولا أخرتنا " ، يخبر عنهم ،
قالوا : هلا أخرتنا " إلى أجل قريب " ، يعني : إلى أن يموتوا على
فُرُشهم وفي منازلهم. (8) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير : " ألم تر " فيما سلف : 426 ، تعليق : 5 ، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير : " إقامة الصلاة " فيما سلف من فهارس اللغة (قوم).
(3) انظر تفسير " إيتاء الزكاة " فيما سلف من فهارس اللغة " أتى
" " زكا " .
(4) انظر تفسير " كتب " فيما سلف 525 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير " فريق " سلف 2 : 244 ، 245 ، 402 / 3 : 549 / 6 : 535.
(6) انظر تفسير " الخشية " فيما سلف 1 : 599 ، 560 / 2 : 239 ، 243.
(7) في المطبوعة : " وإيثارًا للدعة فيها والحفظ عن مكروه " ، وفي
المخطوطة : " والحفظ على مكروه " ، وكلاهما خطأ فاسد ، والصواب : "
والخفض " وهو لين العيش ، وأما قوله : " على مكروه لقاء العدو "
فهو متعلق بقوله : " وإيثار للدعة ... على مكروه ... " .
(8) انظر تفسير " الأجل " فيما سلف 5 : 7 / 6 : 43 ، 76.
(8/548)
وبنحو الذي قلنا إنّ هذه الآية نزلت
فيه ، قال أهل التأويل.
ذكر الآثار بذلك ، والرواية عمن قاله.
9951 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال ، سمعت أبي قال ، أخبرنا الحسين بن
واقد ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن عبد الرحمن بن عوف
وأصحابًا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، كنا في عِزّ
ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذِلة! فقال : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا. فلما
حوَّله الله إلى المدينة ، أمر بالقتال فكفوا ، فأنزل الله تبارك وتعالى : "
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم " ، الآية (1) .
9952 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن
عكرمة : " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم " ، عن الناس "
فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم " ، نزلت في أناس من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : ابن جريج وقوله : " وقالوا ربنا لم كتبت علينا
القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب " ، قال : إلى أن نموت موتًا ، هو "
الأجل القريب " .
9953 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة " ، فقرأ حتى
بلغ : " إلى أجل قريب " ، قال : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وهو يومئذ بمكة قبل الهجرة ، تسرَّعوا إلى القتال ، فقالوا لنبي الله
صلى
__________
(1) الأثر : 9951 - " محمد بن علي بن الحسن بن شقيق " مضى برقم : 1591 ،
2575 ، 2594.
وأبوه : " علي بن الحسن بن شقيق بن دينار " مضى برقم : 1909.
وكان في المطبوعة : " ... بن الحسين بن شقيق " ، وهو خطأ.
وهذا الخبر ، رواه الحاكم في المستدرك 2 : 307 مع اختلاف في لفظه ، وقال : "
هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي
في السنن 9 : 11 ، ورواه ابن كثير في تفسيره 2 : 514 ، من طريق ابن أبي حاتم ،
وخرجه في الدر المنثور 2 : 184 ، ونسبه إلى هؤلاء وزاد نسبته إلى النسائي.
(8/549)
الله عليه وسلم : ذَرْنا نتَّخذ
مَعَاول فنقاتل بها المشركين بمكة! فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ،
قال : لم أؤمر بذلك. فلما كانت الهجرة ، وأُمر بالقتال ، كره القوم ذلك ، فصنعوا
فيه ما تسمعون ، فقال الله تبارك وتعالى : ( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ
وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا ) .
9954 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
" ، قال : هم قوم أسلموا قبل أن يُفرض عليهم القتال ، ولم يكن عليهم إلا
الصلاة والزكاة ، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال " فلما كتب عليهم القتال
إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية " الآية ، إلى " إلى
أجل قريبٍ " (1) وهو الموت ، قال الله : ( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ
وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى ) .
* * *
وقال آخرون : نزلت هذه وآيات بعدها ، في اليهود.
*ذكر من قال ذلك :
9955 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة "
إلى قوله : " لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " ، ما بين ذلك في اليهود.
9956 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم " إلى قوله
: " لم كتبت علينا القتال " ، نهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن
يصنعوا صنيعهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " الآية إلى أجل قريب " ، والسياق يقتضي
" إلى " الثانية.
(8/550)
القول في تأويل قوله : { قُلْ مَتَاعُ
الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا
(77) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " قل متاع الدنيا قليل " ، قل ،
يا محمد ، لهؤلاء القوم الذين قالوا : " ربنا لم كتبت علينا القتال لولا
أخرتنا إلى أجل قريب " : عيشكم في الدنيا وتمتعكم بها قليل ، لأنها فانية وما
فيها فانٍ (1) " والآخرة خير " ، يعني : ونعيم الآخرة خير ، لأنها باقية
ونعيمها باق دائم. وإنما قيل : " والآخرة خير " ، ومعنى الكلام ما وصفت
، من أنه معنيٌّ به نعيمها - لدلالة ذكر " الآخرة " بالذي ذكرت به ، على
المعنى المراد منه " لمن اتقى " ، يعني : لمن اتقى الله بأداء فرائضه
واجتناب معاصيه ، فأطاعه في كل ذلك " ولا تظلمون فتيلا " ، يعني : ولا
ينقصكم الله من أجور أعمالكم فتيلا.
* * *
وقد بينا معنى : " الفتيل " ، فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته ههنا. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ
كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : حيثما تكونوا يَنَلكم الموت فتموتوا "
ولو كنتم في بروج مشيَّدة " ، يقول : لا تجزعوا من الموت ، ولا تهربوا من
القتال ، وتضعفوا عن لقاء عدوكم ، حذرًا على أنفسكم من القتل والموت ، فإن الموت
__________
(1) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف 1 : 539 ، 540 / 3 : 55 / 5 : 262 /
6 : 258.
(2) انظر ما سلف : 456 - 460.
(8/551)
بإزائكم أين كنتم ، وواصلٌ إلى أنفسكم
حيث كنتم ، ولو تحصَّنتم منه بالحصون المنيعة.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : " ولو كنتم في بروج مشيدة " .
فقال بعضهم : يعنى به : قصور مُحصنة.
*ذكر من قال ذلك :
9957 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
ولو كنتم في بروج مشيدة " ، يقول : في قصور محصنة.
9958 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا أبو همام قال ،
حدثنا كثير أبو الفضل ، عن مجاهد قال : كان فيمن كان قبلكم امرأة ، وكان لها أجيرٌ
، فولدت جارية. فقالت لأجيرها : اقتبس لنا نارًا ، فخرج فوجد بالباب رجلا فقال له
الرجل : ما ولدت هذه المرأة ؟ قال : جارية. قال : أما إنّ هذه الجارية لا تموت حتى
تبغي بمئة ، ويتزوجها أجيرها ، (1) ويكون موتها بالعنكبوت. قال : فقال الأجير في
نفسه : فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمئة!! فأخذ شفرة فدخل فشق بطن الصبية. وعولجت
فبرِئت ، فشبَّت ، وكانت تبغي ، فأتت ساحلا من سواحل البحر ، فأقامت عليه تبغي.
ولبث الرجل ما شاء الله ، ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال كثير ، فقال لامرأة من أهل
الساحل : ابغيني امرأة من أجمل امرأة في القرية أتزوجها! فقالت : ههنا امرأة من
أجمل الناس ، ولكنها تبغي. قال : ائتيني بها. فأتتها فقالت : قد قدم رجل له مال
كثير ، وقد قال لي : كذا. فقلت له : كذا. فقالت : إني قد تركت البغاء ، ولكن إن
أراد تزوَّجته! قال : فتزوجها ، فوقعت منه موقعًا. فبينا هو يومًا عندها إذ أخبرها
بأمره ، فقالت : أنا تلك الجارية! وأرته الشق في بطنها وقد كنت
__________
(1) " تبغي " من " البغاء " ، " بغت المرأة " :
فجرت وزنت.
(8/552)
أبغي ، فما أدري بمئة أو أقل أو أكثر!
قال : فإنّه قال لي : يكون موتها بعنكبوت. (1) قال : فبنى لها برجًا بالصحراء
وشيده. فبينما هما يومًا في ذلك البرج ، إذا عنكبوت في السقف ، فقالت : هذا يقتلني
؟ لا يقتله أحد غيري! فحركته فسقط ، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدَخَتْه ،
وساحَ سمه بين ظفرها واللحم ، فاسودت رجلها فماتت. فنزلت هذه الآية : " أينما
تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " . (2)
9959 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "
ولو كنتم في بروج مشيدة " ، قال : قصور مشيدة.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : قصورٌ بأعيانها في السماء.
*ذكر من قال ذلك :
9960 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " ، وهي
قصور بيض في سماء الدنيا ، مبنية.
9961 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال ، أخبرنا
أبو جعفر ، عن الربيع في قوله : " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في
بروج مشيدة " ، يقول : ولو كنتم في قصور في السماء. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بالعنكبوت " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر : 9958 - " كثير أبو الفضل " ، هو : كثير بن يسار الطفاوي ،
أبو الفضل البصري. روى عن الحسن البصري ، وثابت البناني وغيرهما. مترجم في
التهذيب.
وهذا الأثر أخرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 515 ، من تفسير ابن أبي حاتم ، وذكره
السيوطي في الدر المنثور 2 : 184 ، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم ، وأبي نعيم في
الحلية.
(3) الأثر : 9961 - " عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ " ، مضى
برقم : 2929 ، وهذا الإسناد نفسه مضى أيضًا قبله برقم 2919 ، وكان في المخطوطة
والمطبوعة هنا " عبد الرحمن بن سعيد " ، كما كان في رقم : 2929 ، ولكنه
سيأتي على الصواب في المخطوطة والمطبوعة بعد قليل رقم : 9962 ، 9972.
(8/553)
واختلف أهل العربية في معنى "
المشيدة " .
فقال بعض أهل البصرة منهم : " المشيدة " ، الطويلة. قال : وأما "
المشِيدُ " ، بالتخفيف ، فإنه المزيَّن. (1)
* * *
وقال آخر منهم نحو ذلك القول ، (2) غير أنه قال : " المَشِيد " بالتخفيف
المعمول بالشِّيد ، و " الشيد " الجِصُّ.
* * *
وقال بعض أهل الكوفة : " المَشيد " و " المُشَيَّد " ، أصلهما
واحد ، غير أن ما شدِّد منه ، فإنما يشدد لنفسه ، والفعل فيه في جمع ، (3) مثل
قولهم : " هذه ثياب مصبَّغة " ، و " غنم مذبَّحة " ، فشدد ؛
لأنها جمع يفرَّق فيها الفعل. وكذلك مثله ، " قصور مشيدة " ، لأن القصور
كثيرة تردد فيها التشييد ، ولذلك قيل : " بروج مشيدة " ، ومنه قوله :
" وغَلَّقت الأبواب " ، وكما يقال : " كسَّرت العودَ " ، إذا
جعلته قطعًا ، أي : قطعة بعد قطعة. وقد يجوز في ذلك التخفيف ، فإذا أفرد من ذلك
الواحد ، فكان الفعل يتردد فيه ويكثر تردده في جمع منه ، جاز التشديد عندهم
والتخفيف ، فيقال منه : " هذا ثوب مخرَّق " و " جلد مقطع " ،
لتردد الفعل فيه وكثرته بالقطع والخرق. وإن كان الفعل لا يكثر فيه ولا يتردد ، ولم
يجيزوه إلا بالتخفيف ، وذلك نحو قولهم : " رأيت كبشًا مذبوحًا " ولا
يجيزون فيه : " مذَّبحًا " ، لأن الذبح لا يتردد فيه تردد التخرُّق في
الثوب.
* * *
وقالوا : فلهذا قيل : " قصر مَشِيد " ، لأنه واحد ، فجعل بمنزلة قولهم :
__________
(1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 132.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وقال آخرون منهم " ، والسياق يقتضي ما
أثبت.
(3) في المطبوعة : " فإنما يشدد لتردد الفعل فيه ... " غير ما في
المخطوطة ، وهو ما أثبته وهو صواب المعنى المطابق للسياق.
(8/554)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
" كبش مذبوح " . وقالوا :
جائز في القصر أن يقال : " قصر مشيَّد " بالتشديد ، لتردد البناء فيه
والتشييد ، ولا يجوز ذلك في " كبش مذبوح " ، لما ذكرنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ }
قل أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند
الله " ، وإن ينلهم رخاء وظفر وفتح ويصيبوا غنيمة (2) " يقولوا هذه من
عند الله " ، يعني : من قبل الله ومن تقديره (3) " وإن تصبهم سيئة
" ، يقول : وإن تنلهم شدة من عيش وهزيمة من عدو وجراح وألم ، (4) يقولوا لك
يا محمد : " هذه من عندك " ، بخطئك التدبير.
وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن الذين قال فيهم لنبيه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ) .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9962 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي
جعفر قالا حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله :
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 277.
(2) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف : 514 ، 538
وانظر تفسير " الحسنة " فيما سلف 4 : 203 - 206.
(3) انظر تفسير " عند " فيما سلف : 2 : 500 / 7 : 490 ، 495.
(4) انظر تفسير " سيئة " فيما سلف : 2 : 281 ، 282 ، / 7 : 482 ، 490 /
8 : 254.
(8/555)
" وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من
عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك " ، قال : هذه في السراء
والضراء. (1)
9963 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن
الربيع ، عن أبي العالية مثله.
9964 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وإن
تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك " فقرأ
حتى بلغ : " وأرسلناك للناس رسولا " ، قال : إن هذه الآيات نزلت في شأن
الحرب. فقرأ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا
ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ) فقرأ حتى بلغ : " وإن تصبهم سيئة " ،
يقولوا : " هذه من عند محمد عليه السلام ، أساء التدبير وأساء النظر! ما أحسن
التدبير ولا النظر " .
* * *
القول في تأويل قوله : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " قل كل من عند الله " ، قل ، يا
محمد ، لهؤلاء القائلين إذا أصابتهم حسنة : " هذه من عند الله " ، وإذا
أصابتهم سيئة : " هذه من عندك " : كل ذلك من عند الله ، دوني ودون غيري
، من عنده الرخاء والشدة ، ومنه النصر والظفر ، ومن عنده الفَلُّ والهزيمة ، (2)
كما : -
9965 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن
__________
(1) الأثر : 9962 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم : 9961.
(2) في المطبوعة : " القتل والهزيمة " ، وفي المخطوطة : " العال
والهزيمة " غير منقوطة ، ورجحت أن صوابها " الفل " ، من قولهم :
" فل القوم يفلهم فلا. " : هزمهم وكسرهم.
(8/556)
قتادة : " قل كل من عند الله
" ، النعم والمصائب.
9966 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " كل من
عند الله " ، النصر والهزيمة.
9967 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " قل كل من عند الله فمال هؤلاء
القوم لا يكادون يفقهون حديثًا " ، يقول : الحسنة والسيئة من عند الله ، أما
الحسنة فأنعم بها عليك ، وأما السيئة فابتلاك بها.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ
حَدِيثًا (78) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فمال هؤلاء القوم " ، (1) فما
شأن هؤلاء القوم الذين إن تصبهم حسنة يقولوا : " هذه من عند الله " ،
وإن تصبهم سيئة يقولوا : " هذه من عندك " " لا يكادون يفقهون
حديثًا " ، يقول : لا يكادون يعلمون حقيقة ما تخبرهم به ، من أن كل ما أصابهم
من خير أو شر ، أو ضرّ وشدة ورخاء ، فمن عند الله ، لا يقدر على ذلك غيره ، ولا
يصيب أحدًا سيئة إلا بتقديره ، ولا ينال رخاءً ونعمة إلا بمشيئته.
وهذا إعلام من الله عبادَه أن مفاتح الأشياء كلها بيده ، لا يملك شيئًا منها أحد
غيره.
* * *
__________
(1) قال الفراء في معاني القرآن 1 : 278 : " (فمال) ، كثرت في الكلام حتى
توهموا أن اللام متصلة ب " ما " ، وأنها حرف في بعضه " .
(8/557)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
القول في تأويل قوله : { مَا أَصَابَكَ
مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك
من سيئة فمن نفسك " ، ما يصيبك ، يا محمد ، من رخاء ونعمة وعافية وسلامة ،
فمن فضل الله عليك ، يتفضل به عليك إحسانًا منه إليك وأما قوله : " وما أصابك
من سيئة فمن نفسك " ، يعني : وما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه " فمن
نفسك " ، يعني : بذنب استوجبتها به ، اكتسبته نفسك ، (1) كما : -
9968 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " ،
أما " من نفسك " ، فيقول : من ذنبك.
9969 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " ، عقوبة ، يا ابن
آدم بذنبك. قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : لا يصيب
رجلا خَدْش عود ، ولا عَثرة قدم ، ولا اختلاج عِرْق إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه
أكثر.
9970 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة
فمن نفسك " ، يقول : " الحسنة " ، ما فتح الله عليه يوم بدر ، وما
أصابه من الغنيمة والفتح و " السيئة " ، ما أصابه يوم أُحُد ، أنْ شُجَّ
في وجهه وكسرت رَبَاعيته.
__________
(1) انظر تفسير " الحسنة " فيما سلف : 555 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
وانظر تفسير " السيئة " فيما سلف : 555 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك.
(8/558)
9971 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق
قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : " ما أصابك من حسنة
فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " ، يقول : بذنبك ثم قال : كل من عند
الله ، النعم والمصيبات.
9972 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، وابن أبي
جعفر قالا حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قوله : " ما أصابك من
حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " ، قال : هذه في الحسنات
والسيئات. (1)
9973 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن
الربيع ، عن أبي العالية مثله.
9974 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "
وما أصابك من سيئة فمن نفسك " ، قال : عقوبةً بذنبك.
9975 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ما
أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " ، بذنبك ، كما قال لأهل
أُحد : ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا
قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ) [سورة آل عمران :
165] ، بذنوبكم.
9976 - حدثني يونس قال ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في
قوله : " وما أصابك من سيئة فمن نفسك " ، قال : بذنبك ، وأنا قدّرتها
عليك.
9977 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد
، عن أبي صالح في قوله : " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن
نفسك " ، وأنا الذي قدّرتها عليك.
__________
(1) انظر التعليق على الأثرين السالفين : 9961 ، 9962.
(8/559)
9978 - حدثني موسى بن عبد الرحمن
المسروقي قال ، حدثنا محمد بن بشر قال ، حدثنيه إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح
بمثله.
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وما وجه دخول " مِن " في قوله : "
ما أصابك من حسنة " و " من سيئة " ؟
* * *
قيل : اختلف في ذلك أهل العربية.
فقال بعض نحويي البصرة : أدخلت " من " لأن " من " تحسن مع
النفي ، مثل : " ما جاءني من أحد " . (1) قال : ودخول الخبر بالفاء ،
لأن " ما " بمنزلة " مَن " . (2)
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة : أدخلت " مِن " مع " ما " ، كما تدخل
على " إن " في الجزاء ، لأنهما حرفا جزاء. وكذلك ، تدخل مع " مَن
" ، إذا كانت جزاء ، فتقول العرب : " مَن يزرك مِن أحد فتكرمه " ،
كما تقول : " إن يَزُرك من أحد فتكرمه " . قال : وأدخلوها مع " ما
" و " مَنْ " ، ليعلم بدخولها معهما أنهما جزاء. قالوا : وإذا دخلت
معهما لم تحذف ، لأنها إذا حذفت صار الفعل رافعًا شيئين ، وذلك أن " ما
" في قوله : " ما أصابك من سيئة " رفع بقوله : " أصابك "
، (3) فلو حذفت " مِن " ، رفع قوله : " أصابك " "
السيئةَ " ، لأن معناه : إن تصبك سيئة فلم يجز حذف " مِن " لذلك ،
لأن الفعل الذي هو على " فعل " أو " يفعل " ، لا يرفع شيئين.
(4) وجاز ذلك مع " مَن " ، لأنها تشتبه بالصفات ، (5) وهي في موضع اسم.
فأما " إن " فإن " مِن " تدخل معها وتخرج ، ولا تخرج مع
" أيٍّ " ، لأنها تعرب فيبين فيها الإعراب ، ودخلت مع " ما "
، لأن الإعراب لا يظهر فيها.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 126 ، 127 ، 442 ، 470 / 5 : 586 / 6 : 551.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ودخول الخبر بالفاء لازما بمنزلة من " ،
وهو كلام لا معنى له البتة ، صواب قراءته ما أثبت ، ويعني بدخول الفاء في الخبر
قوله : " فمن الله " و " فمن نفسك " .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " ما أصابك من حسنة " ، والسياق يقتضي ذكر
الأخرى كما أثبتها.
(4) " فعل " أو " يفعل " ، يعني الماضي والمضارع.
(5) " الصفات " ، حروف الجر ، كما سلف مرارًا ، فراجعه في فهارس
المصطلحات.
(8/560)
القول في تأويل قوله : { وَأَرْسَلْنَاكَ
لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " وأرسلناك للناس رسولا " ، إنما
جعلناك ، يا محمد ، رسولا بيننا وبين الخلق ، تبلّغهم ما أرسلناك به من رسالة ،
وليس عليك غير البلاغ وأداء الرسالة إلى من أرسلت ، فإن قبلوا ما أرسلت به
فلأنفسهم ، وإن ردُّوا فعليها " وكفى بالله " عليك وعليهم " شهيدًا
" ، يقول : حسبك الله تعالى ذكره ، شاهدًا عليك في بلاغك ما أمرتك ببلاغه من
رسالته ووحيه ، (1) وعلى من أرسلت إليه في قبولهم منك ما أرسلت به إليهم ، فإنه لا
يخفى عليه أمرك وأمرهم ، وهو مجازيك ببلاغك ما وعدَك ، ومجازيهم ما عملوا من خير
وشر ، جزاء المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الشهيد " فيما سلف من فهارس اللغة.
(8/561)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
القول في تأويل قوله : { مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) }
قال أبو جعفر : وهذا إعذارٌ من الله إلى خلقه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ،
يقول الله تعالى ذكره لهم : من يطع منكم ، أيها الناس ، محمدًا فقد أطاعني بطاعته
إياه ، فاسمعوا قوله وأطيعوا أمرَه ، فإنه مهما يأمركم به من شيء فمن أمري يأمركم
، وما نهاكم عنه من شيء فمن نهيي ، فلا يقولنَّ أحدكم : " إنما محمد بشر
مثلنا يريد أن يتفضَّل علينا " !
* * *
(8/561)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
ثم قال جل ثناؤه لنبيه : ومن تولى عن
طاعتك ، يا محمد ، فأعرض عنك ، (1) فإنا لم نرسلك عليهم " حفيظًا " ،
يعني : حافظًا لما يعملون محاسبًا ، بل إنما أرسلناك لتبين لهم ما نزل إليهم ،
وكفى بنا حافظين لأعمالهم ولهم عليها محاسبين.
* * *
ونزلت هذه الآية ، فيما ذكر ، قبل أن يؤمر بالجهاد ، كما : -
9979 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سألت ابن زيد عن قول الله : "
فما أرسلناك عليهم حفيظًا " قال : هذا أول ما بعثه ، قال : ( إِنْ عَلَيْكَ
إِلا الْبَلاغُ ) [سورة الشورى : 48]. قال : ثم جاء بعد هذا بأمره بجهادهم والغلظة
عليهم حتى يسلموا.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ
بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا
يُبَيِّتُونَ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه بقوله : " ويقولون طاعة " ، يعني :
الفريق الذي أخبر الله عنهم أنهم لما كتب عليهم القتال خَشُوا الناس كخشية الله أو
أشد خشية ، يقولون لنبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر : أمرك طاعة ، ولك
منا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه " وإذا برزوا من عندك " ، يقول :
فإذا خرجوا من عندك ، (2) يا محمد " بيّت طائفة منهم غير الذي تقول " ،
يعني بذلك جل ثناؤه : غيَّر جماعة منهم ليلا الذي تقول لهم.
وكل عمل عُمِل ليلا فقد " بُيِّت " ، ومن ذلك " بيَّت " العدو
، وهو الوقوع
__________
(1) انظر تفسير " تولى " فيما سلف 7 : 326 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " برز " فيما سلف 5 : 354 / 7 : 324.
(8/562)
بهم ليلا ومنه قول عبيدة بن همام : (1)
أَتَوْنِي فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا ، ... وَكَانُوا أَتَوْنِي بِشَيْءٍ نُكُرْ
(2)
لأنْكِحَ أَيِّمَهُمْ مُنْذِرًا ، ... وَهَلْ يُنْكِحَ الْعَبْدَ حُرٌّ لِحُرْ?!
(3)
يعني بقوله : " فلم أرض ما بيتوا " ، ليلا أي : ما أبرموه ليلا وعزموا
عليه ،
ومنه قول النمر بن تولب العُكْليّ :
هَبَّتْ لِتَعْذُلَنِي مِنَ اللَّيْل اسْمَعِ!... سَفَهًا تُبَيِّتُكِ المَلامَةُ
فَاهْجَعِي (4)
__________
(1) عبيدة بن همام ، أخو بني العدوية ، من بني مالك بن حنظلة ، من بني تميم ، وظنه
ناشر مجاز القرآن لأبي عبيدة " عبيدة بن همام التغلبي " ، وكلا ، فهذا
إسلامي ، وذلك جاهلي! واستظهرت من نسب " يعلى بن أمية " في جمهرة
الأنساب : 217 ، وغيرها أنه " عبيدة بن همام بن الحارث بن بكر بن زيد بن مالك
بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. وخبر هذا الشعر دال على أنه جاهلي ، فقد
ذكر الجاحظ في الحيوان 4 : 376 خبر هذه الأبيات ، في خبر للنعمان بن المنذر
ومثالبه ، وذلك أن أخاه المنذر بن المنذر خطب إلى عبيدة بن همام ، فرده أقبح الرد
، وذكر الأبيات.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 133 ، الحيوان 4 : 376 ، الكامل 2 : 35 ، 106 ،
الأزمنة والأمكنة للمرزوقي 1 : 263 ، ديوان الأسود بن يعفر لنهشلي ، أعشى بني نهشل
، في ديوان الأعشين : 298 ، اللسان (نكر). وروى : " فقد طرقوني بشيء " .
" طرقوني " : أتوني ليلا. و " نكر " بضمتين ، مثل " نكر
" بضم فسكون : الأمر المنكر الذي تنكره. والبيت يتممه الذي بعده.
(3) " الأيم " من النساء ، التي لا زوج لها ، بكرًا كانت أو ثيبًا. و
" رجل أيم " ، لا زوجة له. و " منذر " يعني : المنذر بن
المنذر ، أخا النعمان بن المنذر. وقوله : " هل ينكح العبد حر لحر " أي :
هل ينكح الحر الذي ولدته الأحرار ، عبدًا من العبيد ، وذلك تعريض منه بالمنذر
وأخيه النعمان ، الذي جعل امرأته ظئرًا لبعض ولد كسرى ، وسماه كسرى " عبدًا
" . وقوله : " حر لحر " ، أي : حر قد ولدته الأحرار ، كما تقول :
" هو كريم لكرام ، وحر لأحرار " ، اللام فيه للنسب ، كأنه قال : كريم
ينسب إلى آباء كرام ، وحر ينسب إلى آباه أحرار. وهذا الذي قلته لا تجده في كتاب ،
فاحفظه.
وكان في المخطوطة : " لأنكح إليهم منذرًا " ، وهو فاسد جدًا كما ترى ،
وفيها أيضًا : " حر بحر " ، والصواب ما أثبت.
(4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 133 ، والخزانة 1 : 153 ، والعيني (بهامش الخزانة)
2 : 536 ، وشرح شواهد المغني : 161 ، وغيرها. وكان في المطبوعة : " بليل اسمع
" ، وهو خطأ ، ومثله في المخطوطة : " بليل اسمع " ، ولكني أثبت
رواية أبي عبيدة فهي أجود الروايات.
وقوله : " اسمع " ، هذا قول امرأته أو أمه التي كانت تلومه على الكرم
والسخاء. ويعني بذلك أنها كانت تكثر من مقالة " اسمع ، واسمع مني " .
وقوله : " سفها " ، أي باطلا وخفة عقل. وقوله " تبيتك الملامة
" ليس من معنى ما أراد الطبري ، وإن كان الشراح قد فسروه كذلك. وهو عندي من
قولهم : " بات الرجل " إذا سهر ، ومنه : " بت أراعي النجوم "
، أي سهرت أنظر إليها ، فقوله : " تبيتك الملامة " ، أي تسهرك ملامتي
وعتابي ، يقول : سهرك المضني هذا من السفه ، فنامى واهجعي ، فهو أروح لك!
فاستشهاد أبي عبيدة ، والطبري على أثره ، بهذا البيت ، ليس في تمام موضعه ، وإن
كان الأمر قريب بعضه من بعض.
(8/563)
يقول الله جل ثناؤه : " والله
يكتب ما يبيتون " ، يعني بذلك جل ثناؤه : والله يكتب ما يغيِّرون من قولك
ليلا في كُتب أعمالهم التي تكتبها حَفَظته.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9980 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيَّت طائفة منهم غير الذي تقول " ،
قال : يغيِّرون ما عهد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم :
9981 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا يوسف بن خالد قال ، حدثنا نافع
بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " بيّت طائفة منهم غير الذي تقول
" ، قال : غيَّر أولئك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
9982 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول
" ، قال : غيّر أولئك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
9983 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله
يكتب ما يبيتون) ، قال : هؤلاء المنافقون الذين يقولون إذا حضروا النبي صلى الله
عليه وسلم فأمرهم بأمر قالوا : " طاعة " ، فإذا
(8/564)
خرجوا من عنده ، غيّرت طائفة منهم ما
يقول النبي صلى الله عليه وسلم " والله يكتب ما يبيتون " ، يقول : ما
يقولون.
9984 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال
ابن عباس قوله : " ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي
تقول " ، قال : يغيرون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
9985 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم
غير الذي تقول " ، وهم ناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" آمنا بالله ورسوله " ، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم. وإذا برزوا من
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، (1) خالفوا إلى غير ما قالوا عنده ، فعابهم
الله ، فقال : " بيت طائفة منهم غير الذي تقول " ، يقول : يغيرون ما قال
النبي صلى الله عليه وسلم.
9986 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " بيت طائفة منهم غير الذي تقول " ،
هم أهل النفاق.
* * *
وأما رفع " طاعة " ، فإنه بالمتروك الذي دلّ عليه الظاهر من القول وهو :
أمرُك طاعة ، أو : منا طاعة. (2) وأما قوله : " بيت طائفة " ، فإن
" التاء " من " بيّت " تحرِّكها بالفتح عامة قرأة المدينة
والعراق وسائر القرأة ، لأنها لام " فَعَّل " .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فإذا برزوا " بالفاء ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 378.
(8/565)
وكان بعض قرأة العراق يسكّنها ، ثم
يدغمها في " الطاء " ، لمقاربتها في المخرج (1) .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك ترك الإدغام ، لأنها أعني " التاء
" و " الطاء " من حرفين مختلفين. وإذا كان كذلك ، كان ترك الإدغام
أفصح اللغتين عند العرب ، واللغة الأخرى جائزةٌ أعني الإدغام في ذلك محكيّةٌ.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلا (81) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : " فأعرض " ،
يا محمد ، عن هؤلاء المنافقين الذين يقولون لك فيما تأمرهم : " أمرك طاعة
" ، (2) فإذا برزوا من عندك خالفوا ما أمرتهم به ، وغيَّروه إلى ما نهيتهم
عنه ، وخلّهم وما هم عليه من الضلالة ، وارض لهم بي منتقمًا منهم " وتوكل
" أنت يا محمد " على الله " ، يقول : وفوِّض أنت أمرك إلى الله ،
وثق به في أمورك ، وولِّها إياه (3) " وكفى بالله وكيلا " ، يقول :
وكفاك بالله أي : وحسبك بالله " وكيلا " ، أي : فيما يأمرك ، ووليًّا
لها ، ودافعًا عنك وناصرًا. (4)
* * *
__________
(1) انظر معني القرآن للفراء 1 : 379.
(2) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف 2 : 298 ، 299 / 6 : 291 / 8 : 88.
(3) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف : 7 : 346.
(4) انظر تفسير " الوكيل " فيما سلف 7 : 405.
(8/566)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
القول في تأويل قوله : { أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا
فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (82) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " أفلا يتدبرون القرآن " ، أفلا
يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم ، يا محمد كتاب الله ، فيعلموا حجّة الله عليهم
في طاعتك واتباع أمرك ، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم ، لاتِّساق
معانيه ، وائتلاف أحكامه ، وتأييد بعضه بعضًا بالتصديق ، وشهادة بعضه لبعض
بالتحقيق ، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه ، وتناقضت معانيه ،
وأبان بعضه عن فساد بعض ، كما : -
9987 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا
" أي : قول الله لا يختلف ، وهو حق ليس فيه باطل ، وإنّ قول الناس يختلف.
9988 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : إن القرآن لا يكذّب
بعضه بعضًا ، ولا ينقض بعضه بعضًا ، ما جهل الناس من أمرٍ ، (1) فإنما هو من تقصير
عقولهم وجهالتهم! وقرأ : " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا
كثيرًا " . قال : فحقٌّ على المؤمن أن يقول : " كل من عند الله " ،
ويؤمن بالمتشابه ، ولا يضرب بعضه ببعض وإذا جهل أمرًا ولم يعرف أن يقول : (2) "
الذي قال الله حق " ، ويعرف أن الله تعالى لم يقل قولا وينقضه ، (3) ينبغي
__________
(1) في المطبوعة : " من أمره " ، وهو خطأ محض ، والصواب ما أثبت من
المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " إذا جهل أمرًا " بإسقاط الواو ، وهو لا
يستقيم. وهو معطوف على قوله : " فحق على المؤمن أن يقول... " .
(3) في المطبوعة : " وينقض " والصواب من المخطوطة.
(8/567)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
أن يؤمن بحقيقة ما جاء من الله. (1)
9989 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
قوله : " أفلا يتدبرون القرآن " ، قال : " يتدبرون " ، النظر
فيه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
أَذَاعُوا بِهِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف
أذاعوا به " ، وإذا جاء هذه الطائفة المبيّتة غير الذي يقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم " أمرٌ من الأمن " ، فالهاء والميم في قوله : "
وإذا جاءهم " ، من ذكر الطائفة المبيتة يقول جل ثناؤه : وإذا جاءهم خبرٌ عن
سريةٍ للمسلمين غازية بأنهم قد أمِنوا من عدوهم بغلبتهم إياهم " أو الخوف
" ، يقول : أو تخوّفهم من عدوهم بإصابة عدوهم منهم " أذاعوا به " ،
يقول : أفشوه وبثّوه في الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقبل مأتَى
سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) و " الهاء " في قوله : "
أذاعوا به " ، من ذكر " الأمر " . وتأويله أذاعوا بالأمر من الأمن
أو الخوف الذي جاءهم.
* * *
يقال منه : " أذاع فلان بهذا الخبر ، وأذاعه " ، ومنه قول أبي الأسود :
أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ... بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ
بِثَقُوبِ (3)
__________
(1) في المطبوعة : " بحقية ما جاء من الله " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " وقبل أمراء سرايا رسول الله " وفي المخطوطة :
" وقبل أمانا " وجر مع الميم شبه الراء ، فاختلطت الكلمة ، ورجحت صواب
قراءتها ما أثبت.
(3) ديوانه (في نفائس المخطوطات : 2) : 44 ، والأغاني 12 : 305 ، مجاز القرآن لأبي
عبيدة 1 : 133 ، اللسان (ذيع) ، من أبيات قالها أبو الأسود الدؤلي لما خطب امرأة
من عبد القيس يقال لها أسماء بنت زياد ، فأسر أمرها إلى صديق له ، فحدث الصديق ابن
عم لها كان يخطبها ، فمشى ابن عمها إلى أهلها وسألهم أن يمنعوها من نكاحه ، ففعلوا
، وضاروها حتى تزوجت ابن عمها ، فقال أبو الأسود : أَمِنْتُ امْرءَا فِي السَّرِّ
لَمْ يَكُ حَازِمًا ... ولكِنَّهُ فِي النُّصْحِ غَيْرُ مُرِيبِ
أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ ، حَتَّى كأنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ
بِثُقوبِ
وَكُنْتَ مَتَى لَمْ تَرْعَ سِرَّكَ تَلْتَبِسْ ... قَوَارِعُهُ مِنْ مُخْطِئٍ
وَمُصِيبِ
فَمَا كُلُّ ذِي نُصْحٍ بِمُؤْتِيكَ نُصْحَهُ ... وَمَا كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ
بِلَبِيبِ
وَلكِنْ إِذَا مَا اسْتُجْمِعَا عِنْدَ وَاحِدٍ ، ... فَحُقَّ لهُ مِنْ طَاعَةٍ
بِنَصِيبِ
وهي أبيات حسان كما ترى ، و " الثقوب " : ما أثقبت به النار ، أي
أوقدتها.
(8/568)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
9990 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
قوله : " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به " ، يقول : سارعوا
به وأفشوه.
9991 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به " ، يقول : إذا
جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوهم ، أو أنهم خائفون منهم ، أذاعوا بالحديث حتى
يبلغ عدوَّهم أمرُهم.
9992 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به
" ، يقول : أفشوه وسعَوْا به. (1)
__________
(1) في المطبوعة : " وشنعوا به " ، والصواب من المخطوطة. " سعى
بفلان إلى الوالي " ، وشى به إليه ، وهذا من مجازه : أي : مشى بالخبر حتى يبلغ
العدو ، فكأنه وشى بالسرايا إلى عدوهم. وانظر التعليق التالي رقم : 4.
(8/569)
9993 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف
أذاعوا به " ، قال هذا في الأخبار ، إذا غزت سريّة من المسلمين تخبَّر الناس
بينهم فقالوا (1) " أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا " ، " وأصاب
العدو من المسلمين كذا وكذا " ، فأفشوه بينهم ، من غير أن يكون النبي صلى
الله عليه وسلم هو الذي أخبرهم (2) قال ابن جريج : قال ابن عباس قوله : "
أذاعوا به " ، قال : أعلنوه وأفشوه.
9994 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
أذاعوا به " ، قال : نشروه. قال : والذين أذاعوا به ، قوم : إمّا منافقون ،
وإما آخرون ضعفوا. (3)
9995 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : أفشوه وسَعَوْا به ،
(4) وهم أهل النفاق.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ
مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ولو ردوه " ، الأمر الذي نالهم
من عدوهم [والمسلمين] ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي أمرهم (5)
يعني :
__________
(1) في المطبوعة : إذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها " غير ما في
المخطوطة إذ لم يفهمه! وقوله : " تخبر الناس بينهم " ، أي تساءلوا عن
أخبارهم بينهم : يقال : " تخبر الخبر واستخبر " ، إذا سأل عن الأخبار
ليعرفها.
(2) في المطبوعة : " هو الذي يخبرهم به " ، لا أدري لم غير ما في
المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " وإما آخرون ضعفاء " وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة : " وشنعوا به " كما سلف في ص569 تعليق : 1.
(5) قوله : " والمسلمين " هكذا في المخطوطة والمطبوعة ، ولم أدر ما هو ،
فتركته على حاله ، ووضعته بين القوسين ، وأخشى أن يكون سقط من الكلام شيء. وبحذف
ما بين القوسين يستقيم الكلام على وجهه.
(8/570)
وإلى أمرائهم وسكتوا فلم يذيعوا ما
جاءهم من الخبر ، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ذو وأمرهم ، هم
الذين يتولّون الخبر عن ذلك ، (1) بعد أن ثبتت عندهم صحته أو بطوله ، (2) فيصححوه
إن كان صحيحًا ، أو يبطلوه إن كان باطلا " لعلمه الذين يستنبطونه منهم "
، يقول : لعلم حقيقة ذلك الخبر الذي جاءهم به ، الذين يبحثون عنه ويستخرجونه
" منهم " ، يعني : أولي الأمر " والهاء " " والميم
" في قوله : " منهم " ، من ذكر أولي الأمر يقول : لعلم ذلك من أولي
الأمر من يستنبطه.
* * *
وكل مستخرج شيئًا كان مستترًا عن أبصار العيون أو عن معارف القلوب ، فهو له :
" مستنبط " ، يقال : " استنبطت الركية " ، (3) إذا استخرجت
ماءها ، " ونَبَطتها أنبطها " ، و " النَّبَط " ، الماء
المستنبط من الأرض ، ومنه قول الشاعر : (4)
قَرِيبٌ ثَرَاهُ ، ما يَنَالُ عَدُوُّه... لَهُ نَبَطًا ، آبِي الهَوَانِ قَطُوبُ
(5)
يعني : ب " النبط " ، الماء المستنبط.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " هم الذين يقولون الخبر عن ذلك " وهو كلام
مريض ، صوابه ما أثبت ، وهو تصحيف ناسخ.
(2) في المطبوعة : " ثبتت عندهم " أساء قراءة المخطوطة ، لأنها غير
منقوطة. و " البطول " مصدر " بطل الشيء " ومثله "
البطلان " .
(3) " الركية " : البئر تحفر.
(4) هو كعب بن سعد الغنوي ، أو : غريقة بن مسافع العبسي ، وانظر تفصيل ذلك في
التعليق على الأصمعيات ، وتخريج الشعر هناك.
(5) الأصمعيات : 103 ، وتخريجه هناك. وقوله : " قريب الثرى " ، يريدون
كرمه وخيره. و " الثرى " : التراب الندي ، كأنه خصيب الجناب. وقوله :
" ما ينال عدوه له نبطًا " ، أي لا يرد ماءه عدو ، من عزه ومنعته ، /
إذا حمى أرضًا رهب عدوه بأسه. " آبى الهوان " لا يقيم على ذل. و "
قطوب " : عبوس عند الشر
(8/571)
9996 - حدثني محمد بن الحسين قال ،
حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولو ردوه إلى الرسول
وإلى أولي الأمر منهم " ، يقول : ولو سكتوا وردوا الحديث إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وإلى أولي أمرهم حتى يتكلم هو به " لعلمه الذين يستنبطونه " ،
يعني : عن الأخبار ، وهم الذين يُنَقِّرون عن الأخبار.
9997 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم " ، يقول : إلى علمائهم (لعلمه
الذين يستنبطونه منهم) ، لعلمه الذين يفحصون عنه ويهمّهم ذلك. (1)
9998 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "
ولو ردوه إلى الرسول " ، حتى يكون هو الذي يخبرهم " وإلى أولي الأمر
منهم " ، الفقه في الدين والعقل. (2)
9999 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن
الربيع ، عن أبي العالية : " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم
" ، العلم (3) " الذين يستنبطونه منهم " ، يتتبعونه ويتحسسونه.
10000 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا ليث ، عن مجاهد :
" لعلمه الذين يستنبطونه منهم " ، قال : الذين يسألون عنه ويتحسسونه.
10001 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ،
__________
(1) في المخطوطة : " يفصحون عنه " ، وهو تصحيف ، قدم وأخر.
(2) في المطبوعة : " أولى الفقه " زاد " أولى " ، والذي في
المخطوطة صواب أيضًا ، على طريقة قدماء المفسرين في الاختصار ، كما سلف آلافًا من
المرات.
(3) في المطبوعة : " لعلمه " مكان " العلم " ، والذي في
المخطوطة صواب ، كما سلف في التعليق السابق ، وهو طريقتهم في الاختصار ، ويعني
" أولي العلم " .
(8/572)
عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله :
" يستنبطونه " ، قال : قولهم : " ما كان " ؟ " ماذا
سمعتم " ؟
10002 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
10003 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي
العالية : " الذين يستنبطونه " ، قال : يتحسسونه.
10004 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " ، يقول : لعلمه
الذين يتحسسونه منهم.
10005 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن
سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " يستنبطونه منهم " ، قال ،
يتتبعونه.
10006 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وإذا
جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به " حتى بلغ " وإلى أولي الأمر
منهم " ، قال : الولاة الذين يَلُون في الحرب عليهم ، (1) الذين يتفكرون
فينظرون لما جاءهم من الخبر : أصدق ، أم كذب ؟ أباطل فيبطلونه ، أو حق فيحقونه ؟
قال : وهذا في الحرب ، وقرأ : " أذاعوا به " ، ولو فعلوا غير هذا :
وردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، الآية.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " الذين يكونون في الحرب عليهم " ، لم يحسن قراءة
المخطوطة ، فغير وبدل.
(8/573)
القول في تأويل قوله : { وَلَوْلا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا
(83) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولولا إنعام الله عليكم ، أيها المؤمنون ،
بفضله وتوفيقه ورحمته ، (1) فأنقذكم مما ابتلى به هؤلاء المنافقين الذين يقولون لرسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر : " طاعة " ، فإذا برزوا من
عنده بيت طائفة منهم غير الذي يقول لكنتم مثلهم ، فاتبعتم الشيطان إلا قليلا كما
اتبعه هؤلاء الذين وصف صفتهم.
* * *
وخاطب بقوله تعالى ذكره : " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان "
، الذين خاطبهم بقوله جل ثناؤه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا
حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ) [سورة النساء : 71].
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في " القليل " ، الذين استثناهم في هذه الآية : من
هم ؟ ومن أيّ شيء من الصفات استثناهم ؟
فقال بعضهم : هم المستنبطون من أولي الأمر ، استثناهم من قوله : " لعلمه
الذين يستنبطونه منهم " ، ونفى عنهم أن يعلموا بالاستنباط ما يعلم به غيرهم
من المستنبطين من الخبر الوارد عليهم من الأمن أو الخوف. (2)
*ذكر من قال ذلك :
10007 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ،
__________
(1) انظر تفسير " الفضل " فيما سلف : 535 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 279 ، ويعني أن الاستثناء من " الاستنباط
" لا من " الإذاعة " .
(8/574)
عن قتادة قال : إنما هو : " لعلمه
الذين يستنبطونه منهم " إلا قليلا منهم " ولولا فضل الله عليكم ورحمته
لاتبعتم الشيطان " .
10008 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا
" ، يقول : لاتبعتم الشيطان كلّكم وأما قوله : " إلا قليلا " ، فهو
كقوله : " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " ، إلا قليلا.
10009 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك قراءة ،
عن سعيد ، عن قتادة : " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا
قليلا " ، قال يقول : لاتبعتم الشيطان كلكم. وأما " إلا قليلا " ،
فهو كقوله : لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا.
10010 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج نحوه
يعني نحو قول قتادة وقال : لعلموه إلا قليلا.
وقال آخرون : بل هم الطائفة الذين وصفهم الله أنهم يقولون لرسول الله صلى الله
عليه وسلم : " طاعة " ، فإذا برزوا من عنده بيتوا غير الذي قالوا. ومعنى
الكلام : وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا منهم.
*ذكر من قال ذلك :
10011 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم
الشيطان إلا قليلا " ، فهو في أول الآية لخبر المنافقين ، قال : " وإذا
جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به " ، يعني بـ " القليل " ،
المؤمنين ، [كقوله تعالى : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ
الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ
(8/575)
عِوَجَا قَيِّمًا ) [سورة الكهف : 221]
يقول الحمد لله الذي أنزل الكتاب عدلا قيّما ، ولم يجعل له عوجًا. (1)
10012 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : هذه الآية مقدَّمة
ومؤخرة ، إنما هي : أذاعوا به إلا قليلا منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم
ينج قليل ولا كثير.
* * *
وقال آخرون : بل ذلك استثناء من قوله : " لاتبعتم الشيطان " . وقالوا :
الذين استثنوا هم قوم لم يكونوا همّوا بما كان الآخرون همّوا به من اتباع الشيطان.
فعرَّف الله الذين أنقذهم من ذلك موقع نعمته منهم ، واستثنى الآخرين الذين لم يكن
منهم في ذلك ما كان من الآخرين.
*ذكر من قال ذلك :
10013 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن
سليمان قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول : في قوله : " ولولا فضل الله عليكم
ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " ، قال : هم أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم ، كانوا حدّثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان ، إلا طائفة منهم.
* * *
وقال آخرون معنى ذلك : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعًا.
__________
(1) الأثر : 10011 - نص هذا الأثر في المطبوعة : " ولولا فضل الله عليكم
ورحمته لاتبعتم الشيطان - فانقطع الكلام ، وقوله : " إلا قليلا " ، فهو
في أول الآية يخبر عن المنافقين ، قال : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا
به - إلا قليلا. يعني بالقليل المؤمنين كقول الحمد لله... " إلى آخر الأثر.
وهو منقول من الدر المنثور 2 : 187. أما في المخطوطة ، فهو كمثل الذي أثبته ، إلا
أنه قال في آخره : " يقول الحمد لله الذي أنزل الكتاب عدلا قيما... "
إلى آخر الكلام.
وقد رجحت أن الذي في المخطوطة من صدر الكلام هو الصواب ، وأن آخر الخبر قد سقط منه
ذكر نص الآية من سورة الكهف ، فأثبتها بين الكلامين.
وقوله : " فهو في أول الآية لخبر المنافقين " ، يعني أنه مردود إلى أول
الآية في خبرهم. ثم عقب على ذلك بذكر آية سورة الكهف ، وبين ما فيها من التقديم
والتأخير. وكأن الذي رجحت هو الصواب.
(8/576)
قالوا : وقوله : " إلا قليلا
" ، خرج مخرج الاستثناء في اللفظ ، وهو دليل على الجميع والإحاطة ، وأنه لولا
فضل الله عليهم ورحمته لم ينج أحدٌ من الضلالة ، فجعل قوله : " إلا قليلا
" ، دليلا على الإحاطة ، (1) واستشهدوا على ذلك بقول الطرِمّاح بن حكيم ، في
مدح يزيد بن المهلب :
أَشَمُّ كَثِيرُ يُدِيِّ النَّوَالِ ، ... قَلِيلُ المَثَالِبِ وَالقَادِحَةْ (2)
قالوا : فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب ، ومعلوم أن معناه
أنه لا مثالب فيه ولا معايب. لأن من وصف رجلا بأنّ فيه معايب ، وإن وصف الذي فيه
من المعايب بالقلة ، فإنما ذمَّه ولم يمدحه. ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع
المعايب عنه. قالوا : فكذلك قوله : " لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " ،
إنما معناه : لاتبعتم جميعكم الشيطان.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي ، قولُ من قال : عنى
باستثناء " القليل " من " الإذاعة " ، وقال : معنى الكلام :
وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا ولو ردوه إلى الرسول.
* * *
وإنما قلنا إن ذلك أولى بالصواب ، لأنه لا يخلو القولُ في ذلك من أحد الأقوال التي
ذكرنا ، وغير جائز أن يكون من قوله : " لاتبعتم الشيطان " ، لأن من تفضل
الله عليه بفضله ورحمته ، فغير جائز أن يكون من تُبَّاع الشيطان.
* * *
__________
(1) انظر ما قاله في معنى " القليل " فيما سلف 2 : 331 / 8 : 439 ، وما
كتبته في الجزء الأول : 554 ، تعليق : 1.
(2) ديوانه : 139. " الأشم " : السيد ذو الأنفة والكبرياء ، من "
الشمم " وهو ارتفاع في قصبة الأنف ، مع استواء أعلاه ، وإشراف الأرنبة قليلا.
وهو من صفات الكرم والعتق. وقوله " يدي " (بضم الياء وكسر الدال ،
والياء المشددة) أو (بفتح الياء وكسر الدال وتشديد الياء) ، جمع " يد "
الأول جمعها على وزن " فعول " ، مثل فلس وفلوس ، والثاني جمعها على وزن
" فعيل " مثل عبد وعبيد. كأنه قال : كثير أيدي النوال. وفي ديوانه :
" يدي " بفتح الياء والدال وهو خطأ. وفي المخطوطة : " برى النوادي
" ، وهو خطأ لا معنى له. و " المثالب " جمع " مثلبة " ،
وهي العيوب الجارحة. و " القادحة " يعني بها : العيوب التي تقدح في أصله
وخلائقه ، سماها بالقادحة ، وهي الدودة التي تأكل الأسنان ، أو الأشجار ، ووضعها
اسما للجمع.
(8/577)
وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على
غير الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب ، ولنا إلى حمل ذلك على
الأغلب من كلام العرب ، سبيل ، فنوجِّهه إلى المعنى الذي وجهه إليه القائلون (1)
" معنى ذلك : لاتبعتم الشيطان جميعًا " ، ثم زعم أن قوله : " إلا
قليلا " ، دليل على الإحاطة بالجميع. هذا مع خروجه من تأويل أهل التأويل. (2)
* * *
وكذلك لا وجه لتوجيه ذلك إلى الاستثناء من قوله : " لعلمه الذين يستنبطونه
منهم " ، لأن علم ذلك إذا رُدَّ إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، فبيَّنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولو الأمر منهم بعد وضوحه لهم ، استوى في علم ذلك
كلّ مستنبطٍ حقيقتَه ، (3) فلا وجه لاستثناء بعض المستنبطين منهم ، وخصوص بعضهم
بعلمه ، مع استواء جميعهم في علمه.
وإذْ كان لا قول في ذلك إلا ما قلنا ، ودخَل هذه الأقوال الثلاثة ما بيّنا من
الخلل ، (4) فبيِّنٌ أن الصحيح من القول في ذلك هو الرابع ، وهو القول الذي قضينا
له بالصواب من الاستثناء من " الإذاعة " . (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فتوجيهه إلى المعنى " ، كأنه ابتداء كلام ، وهو
فساد في القول ، والصواب ما في المخطوطة. ومن أجل هذا الخطأ في قراءة المخطوطة ،
زاد الناشر : " لا وجه له " كما سترى في التعليق التالي. وهو عمل غير
حسن.
(2) في المطبوعة : " ... من تأويل أهل التأويل ، لا وجه له " ، فحذفت
هذه الكلمة التي زادها الناشر ، ليستقيم له قراءة الكلام. وانظر التعليق السالف.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " كل مستنبط حقيقة " ، والسياق يقتضي ما
أثبت.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " فدخل " ، ولا معنى للفاء هنا ، والصواب
ما أثبته.
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 279 ، 280.
(8/578)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
القول في تأويل قوله : { فَقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا
وَأَشَدُّ تَنْكِيلا (84) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : (1) " فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا
نفسك " ، فجاهد ، يا محمد ، أعداء الله من أهل الشرك به " في سبيل الله
" ، يعني : في دينه الذي شرعه لك ، وهو الإسلام ، وقاتلهم فيه بنفسك. (2)
* * *
فأما قوله : " لا تكلف إلا نفسك " فإنه يعني : لا يكلفك الله فيما فرض
عليك من جهاد عدوه وعدوك ، إلا ما حمَّلك من ذلك دون ما حمَّل غيرك منه ، أي : أنك
إنما تُتَّبع بما اكتسبته دون ما اكتسبه غيرك ، وإنما عليك ما كُلِّفته دون ما
كُلِّفه غيرك. (3)
* * *
ثم قال له : " وحرض المؤمنين " ، يعني : وحضهم على قتال من أمرتك
بقتالهم معك " عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا " ، يقول : لعل الله أن
يكف قتال من كفر بالله وجحد وحدانيته وأنكر رسالتك ، عنك وعنهم ، ونكايتهم. (4)
* * *
وقد بينا فيما مضى أن " عسى " من الله واجبة ، بما أغنى عن إعادته في
هذا الموضع. (5)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " يعني بذلك جل ثناؤه " ، والسياق ما أثبت.
(2) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف 8 : 3470 ، 546 ، تعليق : 1 ،
والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " التكليف " فيما سلف 5 : 45.
(4) سياق الكلام " أن يكف... عنك وعنهم " ثم عطف " ونكايتهم "
على قوله : " قتال من كفر بالله " .
(5) لم أجد هذا الموضع الذي أشار الطبري ، وأخشى أن لا يكون مضى شيء من ذلك ، وأنه
قد وهم.
(8/579)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
" والله أشد بأسًا وأشد تنكيلا
" ، يقول : والله أشد نكاية في عدوه ، من أهل الكفر به منهم فيك يا محمد وفي
أصحابك ، فلا تنكُلَنَّ عن قتالهم ، (1) فإني راصِدُهم بالبأس والنكاية والتنكيل
والعقوبة ، لأوهن كيدهم ، وأضعف بأسهم ، وأعلي الحق عليهم.
و " التنكيل " مصدر من قول القائل : " نكلت بفلان " ، فأنا
أنكّل به تنكيلا " ، إذا أوجعته عقوبة ، (2) كما : -
10014 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
، قوله : " وأشد تنكيلا " ، أي عقوبة.
* * *
القول في تأويل قوله : { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ
مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها
" ، من يَصِرْ ، يا محمد ، شفعًا لوتر أصحابك ، فيشفعهم في جهاد عدوهم
وقتالهم في سبيل الله ، وهو " الشفاعة الحسنة " (3) " يكن له نصيب
منها " ، يقول : يكن له من شفاعته تلك نصيب - وهو الحظ (4) - من ثواب الله
وجزيل كرامته " ومن يشفع شفاعة سيئة ، يقول : ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله
على
__________
(1) " نكل عن الشيء " : أحجم وارتد عنه من الفرق. والمعنى : أشد نكاية
في عدوه... من نكاية عدوه فيك يا محمد.
(2) انظر تفسير " النكال " و " التنكيل " فيما سلف 2 : 176 ،
177.
(3) انظر تفسير " الشفاعة " فيما سلف 2 : 31 ، 32 / 5 : 382 - 384 ،
395.
(4) انظر تفسير " النصيب " فيما سلف : 472 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(8/580)
المؤمنين به ، فيقاتلهم معهم ، وذلك هو
" الشفاعة السيئة " " يكن له كِفل منها " .
يعني : بـ " الكفل " ، النصيب والحظ من الوزر والإثم. وهو مأخوذ من
" كِفل البعير والمركب " ، وهو الكساء أو الشيء يهيأ عليه شبيه بالسرج
على الدابة. يقال منه : " جاء فلان مكتَفِلا " ، إذا جاء على مركب قد
وطِّئَ له - على ما بيّنا - لركوبه. (1)
* * *
وقد قيل إنه عنى بقوله : " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها " الآية
، شفاعة الناس بعضهم لبعض. وغير مستنكر أن تكون الآية نزلت فيما ذكرنا ، ثم عُمَّ
بذلك كل شافع بخير أو شر.
* * *
وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك ، لأنه في سياق الآية التي أمر الله نبيه
صلى الله عليه وسلم فيها بحضّ المؤمنين على القتال ، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، والوعيد لمن أبى إجابته ، أشبه منه من الحثّ على
شفاعة الناس بعضهم لبعض ، التي لم يجر لها ذكر قبل ، ولا لها ذكرٌ بعد.
ذكر من قال ذلك في شفاعة الناس بعضهم لبعض.
10015 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قوله : " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة
سيئة " ، قال : شفاعة بعض الناس لبعض.
10016 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
10017 - حدثت عن ابن مهدي ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن قال : من
يُشَفَّع شفاعة حسنة كان له فيها أجران ، ولأن الله يقول :
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 135.
(8/581)
" من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب
منها " ، ولم يقل " يشفَّع " . (1)
10018 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن قال :
" من يشفع شفاعة حسنة " ، كتب له أجرها ما جَرَت منفعتها.
10019 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سئل ابن زيد عن قول الله : "
من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها " ، قال : الشفاعة الصالحة التي يشفع
فيها وعمل بها ، هي بينك وبينه ، هما فيها شريكان " ومن يشفع شفاعة سيئة يكن
له كفل منها " ، قال : هما شريكان فيها ، كما كان أهلها شريكين.
ذكر من قال : " الكفل " : النصيب.
10020 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها " ، أي حظ منها " ومن يشفع
شفاعة سيئة يكن له كفل منها " ، و " الكفل " هو الإثم.
10021 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " يكن له كفل منها " ، أما " الكفل " ، فالحظ.
10022 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن
أبيه ، عن الربيع : " يكن له كفل منها " ، قال : حظ منها ، فبئس الحظ.
10023 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد :
__________
(1) الأثر : 10016 - كان في المطبوعة : " كان له أجرها وإن لم يشفع ، لأن
الله يقول : .. " وهو نص ما في الدر المنثور 2 : 187. وأثبت ما في المخطوطة.
والظاهر أنه تصرف من السيوطي ، وتبعه ناشر المطبوعة الأولى. والصواب ما في
المخطوطة ، إلا أنه ينبغي أن تقرأ " يشفع " الأولى في قول الحسن مشددة
الفاء بالبناء للمجهول. ويعني الحسن : أن الشافع لأخيه إذا استجيبت شفاعته كان له
أجران ، أجر عن الخير الذي ساقه إلى أخيه ، وأجر آخر هو مثل أجر المشفوع إليه في
فعله ما فعل من الخير.
(8/582)
" الكفل " و " النصيب
" واحد. وقرأ : ( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ) [سورة الحديد :
8].
* * *
القول في تأويل قوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " وكان الله على كل شيء
مقيتًا " .
فقال بعضهم تأويله : وكان الله على كل شيء حفيظًا وشهيدًا.
*ذكر من قال ذلك :
10024 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس : " وكان الله على كل شيء مقيتًا " يقول : حفيظًا.
10025 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " مقيتًا " شهيدًا.
10026 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل اسمه مجاهد ، عن
مجاهد مثله.
10027 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد : " مقيتًا " قال : شهيدًا ، حسيبًا ، حفيظًا.
10028 - حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم قال ، حدثنا عبد الرحمن بن شريك قال ، حدثنا
أبي ، عن خصيف ، عن مجاهد أبي الحجاج : " وكان الله على كل شيء مقيتًا "
، قال : " المقيت " ، الحسيب.
* * *
(8/583)
وقال آخرون : معنى ذلك : القائم على كل
شيء بالتدبير.
*ذكر من قال ذلك :
10029 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ،
قال عبد الله بن كثير : " وكان الله على كل شيء مقيتًا " ، قال : "
المقيت " ، الواصب. (1)
وقال آخرون : هو القدير.
*ذكر من قال ذلك :
10030 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وكان الله على كل شيء مقيتًا " ، أما " المقيت " ،
فالقدير.
10031 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وكان
الله على كل شيء مقيتًا " قال : على كل شيء قديرًا ، " المقيت "
القدير.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من هذه الأقوال ، قولُ من قال : معنى " المقيت "
، القدير. وذلك أن ذلك فيما يُذكر ، كذلك بلغة قريش ، وينشد للزبير بن عبد المطلب
عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم : (2)
وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ... وَكُنْتُ عَلَى مَسَاءتِهِ مُقِيتَا
(3)
أي : قادرًا. وقد قيل إن منه قول النبي صلى الله عليه وسلم : -
__________
(1) يقال : " وصب الرجل على ماله يصب " (مثل : وعد يعد) : إذا لزمه
وأحسن القيام عليه.
(2) لم أجده للزبير ، بل وجدته لأبي قيس بن رفاعة ، مرفوع القافية في طبقات فحول
الشعراء لابن سلام : 243 ، ومراجعه هناك. ونسبه في الدر المنثور 2 : 187 ، 188 إلى
أحيحة ابن الجلاح الأنصاري.
(3) اللسان (قوت) ، وانظر طبقات فحول الشعراء : 242 ، 243 والتعليق عليه هناك.
(8/584)
10032 - " كفى بالمرء إثما أن
يُضِيعَ من يُقيت " . (1)
في رواية من رواها : " يُقيت " ، يعني : من هو تحت يديه وفي سلطانه من
أهله وعياله ، فيقدّر له قوته. يقال منه. " أقات فلان الشيء يقتيه إقاتة
" و " قاته يقوته قياتةً وقُوتًا " ، و " القوت " الاسم.
وأما " المقيت " في بيت اليهوديّ الذي يقول فيه : (2)
لَيْتَ شِعْرِي ، وَأَشْعُرَنَّ إِذَا مَا... قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ
(3) ! أَلِيَ الْفَضْلُ أَمْ عَلَيَّ إذا حُوسِبْتُ?... إِنِّي عَلَى الْحِسَابِ
مُقِيتُ (4)
فإن معناه : فإنّي على الحساب موقوف ، وهو من غير هذا المعنى. (5)
* * *
__________
(1) الحديث : 10032 - رواه أحمد في مسنده ، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رقم
: 6495 ، 6819 ، 6828 ، 6842 ، والحاكم في المستدرك 1 : 415 ، وهو حديث صحيح ،
وروايته " يقوت " .
(2) هو السموأل بن عادياء اليهودي.
(3) ديوانه : 13 ، 14 ، والأصمعيات : 85 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 135 ،
وطبقات فحول الشعراء للجمحي : 236 ، 237 ، اللسان (قوت) وغيرها. وقوله : "
ليت شعري " : أي ليتني أعلم ما يكون. وقوله : " وأشعرن " استفهام ،
أي : وهل أشعرن. وقوله : " قربوها منشورة " يعني : صحف أعماله يوم يقوم
الناس لرب العالمين. وفي البيت روايات أخر.
(4) يعني بالفضل : الخير والجزاء الحسن والإنعام من الله. " أم على " :
أم على الإثم المستحق للعقوبة.
(5) هذا المعنى الذي قاله أبو جعفر ، هو قول أبي عبيدة ، وهو أحسن ما قيل في معنى
" المقيت " في هذا البيت. وانظر اعتراض المعترضين على البيت ، واختلافهم
في تفسيره في مادة (قوت) من لسان العرب.
(8/585)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا
حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإذا حييتم بتحية " ، إذا دعي
لكم بطول الحياة والبقاء والسلامة. (1) " فحيوا بأحسن منها أو ردُّوها "
، يقول : فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم " أو ردوها " يقول
: أو ردّوا التحية.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة " التحية " التي هي أحسن مما حُيِّيَ به
المُحَّيي ، والتي هي مثلها.
فقال بعضهم : التي هي أحسن منها : أن يقول المسلَّم عليه إذا قيل : " السلام
عليكم " ، : " وعليكم السلام ورحمة الله " ، ويزيد على دعاء الداعي
له. والرد أن يقول : " السلام عليكم " مثلها. كما قيل له ، (2) أو يقول
: " وعليكم السلام " ، فيدعو للداعي له مثل الذي دعا له. (3)
*ذكر من قال ذلك :
10033 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " ، يقول : إذا
سلم عليك أحد فقل أنت : " وعليك السلام ورحمة الله " ، أو تقطع إلى
" السلام عليك " ، كما قال لك.
10034 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ،
__________
(1) وذلك لأن معنى " التحية " : البقاء والسلامة من الآفات.
(2) في المخطوطة ، مكان قوله : " كما قيل له " " قال قيل له "
، ولا أدري ما هو ، وتصرف الطابع الأول لا بأس به.
(3) في المطبوعة : " فيدعو الداعي له " ، والصواب من المخطوطة ، ولكن
أوقعه في الخطأ ، أن الناسخ كتب : " فيدعوا " بالألف بعد الواو.
(8/586)
عن ابن جريج ، عن عطاء قوله : "
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " ، قال : في أهل الإسلام.
10035 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج فيما
قرئ عليه ، عن عطاء قال : في أهل الإسلام.
10036 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن شريح أنه
كان يرد : " السلام عليكم " ، كما يسلم عليه.
10037 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن ابن عون وإسماعيل بن أبي خالد ، عن
إبراهيم أنه كان يرد : " السلام عليكم ورحمة الله " .
10038 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عطية ، عن ابن عمر : أنه
كان يرد : " وعليكم " .
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فحيوا بأحسن منها أهلَ الإسلام ، أو ردوها على أهل
الكفر.
*ذكر من قال ذلك :
10039 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن
، عن الحسن بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : من سلَّم عليك من
خلق الله ، فاردُدْ عليه وإن كان مجوسيًّا ، فإن الله يقول : " وإذا حييتم
بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " .
10040 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا سالم بن نوح قال ، حدثنا سعيد بن أبي
عروبة ، عن قتادة في قوله : " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها " ،
للمسلمين " أو ردوها " ، على أهل الكتاب.
10041 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ،
(8/587)
عن قتادة في قوله : " وإذا حييتم
بتحية فحيوا بأحسن منها " ، للمسلمين " أو ردوها " ، على أهل
الكتاب.
10042 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها " ، يقول : حيوا أحسن منها ، أي :
على المسلمين " أو ردوها " ، أي : على أهل الكتاب.
10043 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، ابن زيد في قوله : " وإذا
حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " ، قال : قال أبي : حق على كل مسلم
حيِّي بتحية أن يحيِّي بأحسن منها ، وإذا حياه غير أهل الإسلام ، أن يرد عليه مثل
ما قال.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بتأويل الآية ، قولُ من قال : ذلك في أهل الإسلام
، ووجّه معناه إلى أنه يرد السلام على المسلم إذا حياه تحية أحسن من تحيته أو
مثلها. وذلك أن الصِّحاح من الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه واجب على
كل مسلم ردُّ تحية كل كافر بأخَسَّ من تحيته. وقد أمر الله بردِّ الأحسن والمثل في
هذه الآية ، من غير تمييز منه بين المستوجب ردَّ الأحسن من تحيته عليه ، والمردودِ
عليه مثلها ، بدلالة يعلم بها صحة قولُ من قال : " عنى برد الأحسن : المسلم ،
وبرد المثل : أهل الكفر " .
والصواب إذْ لم يكن في الآية دلالة على صحة ذلك ، ولا صحة أثر لازم عن الرسول صلى
الله عليه وسلم (1) أن يكون الخيار في ذلك إلى المسلَّم عليه : بين رد الأحسن ، أو
المثل ، إلا في الموضع الذي خصَّ شيئًا من ذلك سنة من رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فيكون مسلَّمًا لها. وقد خَصّت السنة أهل الكفر بالنهي عن رد الأحسن
__________
(1) في المطبوعة : " ولا بصحته أثر لازم " ، وفي المخطوطة : " ولا
بصحة أثر لازم " ، وكلتاهما غير مستقيمة ، فرجحت أن يكون ما أثبت أقرب إلى حق
السياق.
(8/588)
من تحيتهم عليهم أو مثلها ، إلا بأن
يقال : " وعليكم " ، فلا ينبغي لأحد أن يتعدَّى ما حدَّ في ذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم. فأما أهل الإسلام ، فإن لمن سلَّم عليه منهم في الردّ من
الخيار ، ما جعل الله له من ذلك.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل ذلك بنحو الذي قلنا ، خَبَرٌ.
وذلك ما : -
10044 - حدثني موسى بن سهل الرملي قال ، حدثنا عبد الله بن السري الأنطاكي قال ،
حدثنا هشام بن لاحق ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي
قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله.
فقال : وعليك ورحمة الله. ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله.
فقال له رسول الله : وعليك ورحمة الله وبركاته. ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا
رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال له : وعليك. فقال له الرجل : يا نبي الله ،
بأبي أنت وأمي ، أتاك فلان وفلان فسلَّما عليك ، فرددتَ عليهما أكثر مما رددت
عليّ! فقال : إنك لم تدع لنا شيئًا ، قال الله : " وإذا حييتم بتحية فحيوا
بأحسن منها أو ردوها " ، فرددناها عليك. (1)
* * *
__________
(1) الحديث : 10044 - عبد الله بن السري المدائني الأنطاكي : ضعيف ، وكان رجلا
صالحًا ، كما قالوا. وقال أبو نعيم : " يروى المناكير ، لا شيء " . وقال
ابن حبان في كتاب الضعفاء : " روى عن أبي عمران العجائب التي لا يشك أنها
موضوعة " . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 78. ولكنه لم ينفرد
برواية هذا الحديث عن هشام بن لاحق ، كما سيأتي.
هشام بن لاحق ، أبو عثمان المدائني : مختلف فيه ، قال أحمد : " يحدث عن عاصم
الأحول ، وكتبنا عنه أحاديث ، لم يكن به بأس ، ورفع عن عاصم أحاديث لم ترفع ،
أسندها هو إلى سلمان " . وأنكر عليه شبابة حديثًا. وهذا خلاصة ما في ترجمته
عند البخاري في الكبير 4 / 2 / 200 - 201 ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 69 - 70. وفي
لسان الميزان أن النسائي قواه ، وأن ابن حبان ذكره في الثقات وفي الضعفاء. وقال
ابن عدي : " أحاديثه حسان ، وأرجو أنه لا بأس به " . فيبدو من كل هذا أن
الكلام فيه ليس مرجعه الشك في صدقه ، بل إلى وهم أو خطأ منه - فالظاهر أنه حسن
الحديث.
والحديث ذكره ابن كثير 2 : 526 - 527 ، عن هذا الموضع من الطبري. ثم نقل عن ابن
أبي حاتم أنه رواه معلقًا من طريق عبد الله بن السري الأنطاكي ، بهذا الإسناد ،
مثله.
ثم قال ابن كثير : " ورواه أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن قانع ، حدثنا
عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان - فذكر
مثله. ولم أره في المسند " .
وهو كما قال ابن كثير ، ليس في المسند.
ولكن السيوطي ذكره في الدر المنثور 2 : 188 ، وأنه رواه أحمد " في الزهد
" . وزاد نسبته أيضًا لابن المنذر ، والطبراني ، وأنه " بسند حسن "
.
وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8 : 33 ، وقال : " رواه الطبراني. وفيه
هشام بن لاحق ، قواه النسائي ، وترك أحمد حديثه ، وبقية رجاله رجال الصحيح "
.
وإطلاقه أن أحمد ترك حديث هشام - ليس بجيد ، فإن النص الثابت عن أحمد عند البخاري
وابن أبي حاتم ، لا يدل على ذلك.
(8/589)
فإن قال قائل : أفواجب رد التحية على
ما أمر الله به في كتابه ؟
قيل : نعم ، وبه كان يقول جماعة من المتقدمين.
*ذكر من قال ذلك :
10045 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج
قال ، أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : ما رأيته إلا يوجبه ،
قوله : " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " . (1)
10046 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن
سفيان ، عن رجل ، عن الحسن قال : السلام : تطوُّع ، والرد فريضة.
* * *
__________
(1) أي : يوجب رد السلام.
(8/590)
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الله كان على كل شيء مما تعملون ، أيها
الناس ، من الأعمال ، من طاعة ومعصية ، حفيظًا عليكم ، حتى يجازيكم بها جزاءه ،
كما : -
10047 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " حسيبًا " ، قال : حفيظًا.
10048 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
* * *
وأصل " الحسيب " في هذا الموضع عندي ، " فعيل " من "
الحساب " الذي هو في معنى الإحصاء ، (1) يقال منه : " حاسبت فلانًا على
كذا وكذا " ، و " فلان حاسِبُه على كذا " ، و " هو حسيبه
" ، وذلك إذا كان صاحبَ حِسابه.
* * *
وقد زعم بعض أهل البصرة من أهل اللغة : أن معنى " الحسيب " في هذا
الموضع ، الكافي. يقال منه : " أحسبني الشيء يُحسبني إحسابًا " ، بمعنى
كفاني ، من قولهم : " حسبي كذا وكذا " . (2)
وهذا غلط من القول وخطأ. وذلك أنه لا يقال في " أحسبني الشيء " ، (3)
__________
(1) انظر تفسير " الحسيب " فيما سلف 7 : 596 ، 597. وتفسير "
الحساب " فيما سلف 4 : 207 ، 274 ، 275 / 6 : 279.
(2) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 135 ، وانظر ما سلف 7 : 596 ، 597.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " أحسبت " ، والصواب " أحسبني "
كما دل عليه السياق.
(8/591)
" أحسبَ على الشيء ، فهو حسيب
عليه " ، (1) وإنما يقال : " هو حَسْبه وحسيبه " والله يقول :
" إن الله كان على كل شيء حسيبًا " .
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " أحسبت على الشيء " ، والصواب ما أثبت.
(8/592)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
القول في تأويل قوله : { اللَّهُ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " الله لا إله إلا هو ليجمعنكم "
، المعبود الذي لا تنبغي العبودة إلا له ، (1) هو الذي له عبادة كل شيء وطاعة كل
طائع. (2)
* * *
وقوله : " ليجمعنكم إلى يوم القيامة " ، يقول : ليبعثنَّكم من بعد
مماتكم ، وليحشرنكم جميعًا إلى موقف الحساب الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم ، ويقضي
فيه بين أهل طاعته ومعصيته ، وأهل الإيمان به والكفر (3) " لا ريب فيه "
، (4) يقول : لا شك في حقيقة ما أقول لكم من ذلك وأخبركم من خبري : أنّي جامعكم
إلى يوم القيامة بعد مماتكم (5) " ومن أصدق من الله حديثًا " ، يعني
بذلك : فاعلموا حقيقة ما أخبركم من الخبر ، فإني جامعكم إلى يوم القيامة للجزاء
والعرض والحساب والثواب والعقاب يقينًا ، فلا تشكوا في صحته ولا تمتروا في حقيقته
، (6)
__________
(1) انظر ما كتب عن " العبودة " فيما سلف 6 : 271 ، تعليق : 1 404 ،
تعليق 2 / 549 ، تعليق : 2 / 565 ، تعليق : 2.
(2) انظر تفسير " لا إله إلا هو " فيما سلف 6 : 149.
(3) انظر تفسير " القيامة " فيما سلف 2 : 518.
(4) انظر تفسير " لا ريب فيه " 1 : 228 ، 378 / 6 : 221 ، 294 ، 295.
(5) في المطبوعة : " أي جامعكم " ، أساء قراءة المخطوطة.
(6) في المطبوعة : " في حقيته " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(8/592)
فإن قولي الصدق الذي لا كذب فيه ،
ووعدي الصدق الذي لا خُلْف له - " ومن أصدق من الله حديثًا " ، يقول :
وأي ناطق أصدق من الله حديثًا ؟ وذلك أن الكاذب إنما يكذب ليجتلب بكذبه إلى نفسه
نفعًا ، أو يدفع به عنها ضرًّا. والله تعالى ذكره خالق الضر والنفع ، فغير جائز أن
يكون منه كذب ، لأنه لا يدعوه إلى اجتلاب نفع إلى نفسه أو دفع ضر عنها [داعٍ. وما
من أحدٍ لا يدعوه داعٍ إلى اجتلاب نفع إلى نفسه ، أو دفع ضر عنها] ، سواه تعالى
ذكره ، (1) فيجوز أن يكون له في استحالة الكذب منه نظيرًا ، [فقال] : " ومن
أصدق من الله حديثًا " ، وخبرًا.
* * *
__________
(1) زدت ما بين القوسين على ما جاء في المطبوعة ، لأنه حق الكلام. فإن أبا جعفر
قدم الحجة الأولى في الجملة السابقة ، للبيان عن استحالة الكذب على الله سبحانه
وتعالى. ثم أتبع ذلك بالبيان عن معنى استعمال التفضيل في قوله تعالى : " ومن
أصدق من الله حديثًا " ، وبين أنه ليس لله سبحانه وتعالى نظير في ذلك.
وكان في المطبوعة ، كما أثبته ، خلا ما بين القوسين وهو كلام غير مستقيم. أما
المخطوطة ، فقد كان فيها ما نصه : " لأنه لا يدعوه إلى اجتلاب نفع ولا دفع ضر
عن نفسه أو دفع ضر عنها ؛ سواه تعالى ذكره ، فيجوز أن يكون... " وهو كلام
مختلط دال على إسقاط الناسخ من كلام أبي جعفر. فاجتهدت في وضع هذه الزيادة التي
أثبتها ، ليستقيم الكلام على وجه يصح. وزدت أيضًا " فقال " بين قوسين ،
لحاجة الكلام إليها.
(8/593)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
القول في تأويل قوله : { فَمَا لَكُمْ
فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فما لكم في المنافقين فئتين " ،
فما شأنكم ، أيها المؤمنون ، في أهل النفاق فئتين مختلفتين (1) " والله
أركسَهم بما كسبوا " ، يعني بذلك : والله رَدّهم إلى أحكام أهل الشرك ، في
إباحة دمائهم وسَبْي ذراريهم.
* * *
و " الإركاس " ، الردُّ ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
فَأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النَّارِ ، إِنَّهُمُ... كَانُوا عُصَاةً وَقَالُوا
الإفْكَ وَالزُّورَا (2)
يقال منه : " أرْكَسهم " و " رَكَسَهم " .
* * *
وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله وأبي : ( وَاللَّهُ رَكَسَهُمْ ) ، بغير "
ألف " . (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " فئة " فيما سلف 5 : 352 ، 353 / 6 : 230.
(2) ديوانه : 36 ، وليس هذا البيت بنصه هذا في الديوان ، بل جاء في شعر من بحر آخر
، هو : أُرْكِسُوا فِي جَهَنَّمٍ ، أَنَّهُمْ كَانُوا ... عُتَاةً تَقُولُ إفْكًا
وَزُورَا
ولم أجده برواية أبي جعفر في مكان آخر.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 281 ثم انظر تفسير " أركسهم " فيما
يلي ص : 15 ، 16
(8/7)
واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم
هذه الآية.
فقال بعضهم : نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين
تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وانصرفوا إلى المدينة ، وقالوا
لرسول الله عليه السلام ولأصحابه : ( لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ )
[سورة آل عمران : 167].
*ذكر من قال ذلك :
10049 - حدثني الفضل بن زياد الواسطي قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، عن عدي بن
ثابت قال : سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري يحدّث ، عن زيد بن ثابت : أن النبي صلى
الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد ، رجعت طائفة ممن كان معه ، فكان أصحاب النبيّ صلى
الله عليه وسلم فيهم فرقتين ، فرقة تقول : " نقتلهم " ، وفرقة تقول :
" لا " . فنزلت هذه الآية : " فما لكم في المنافقين فئتين والله
أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا " الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المدينة : إنها طَيْبَة ، وإنها تَنْفي خَبَثها كما تنفي النار خبثَ
الفِضَّة. (1)
10050 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا شعبة ، عن عدي بن ثابت
، عن عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فذكر نحوه. (2)
10051 - حدثني زريق بن السخت قال ، حدثنا شبابة ، عن عدي بن ثابت ، عن عبد الله بن
يزيد ، عن زيد بن ثابت قال : ذكروا المنافقين عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال
فريق : " نقتلهم " ، وقال فريق : " لا نقتلهم " . فأنزل
__________
(1) الحديث : 10049 - الفضل بن زياد الواسطي : لا أدري من هو ؟ والترجمة الوحيدة
التي وجدتها بهذا الاسم هي " الفضل بن زياد الطساس البغدادي " . وهو من
هذه الطبقة. فلعله هو. مترجم في الجرح 3 / 2 / 62. وتاريخ بغداد 12 : 360. وله
ترجمة غير محررة ، في لسان الميزان 4 : 441.
أبو داود : هو الطيالسي.
وقد روى الطبري هذا الحديث بثلاثة أسانيد ، سيأتي تخريجه في آخرها ، إن شاء الله.
(2) الحديث : 10050 - أبو أسامة : هو حماد بن أسامة.
(8/8)
الله تبارك وتعالى : " فما لكم في
المنافقين فئتين " إلى آخر الآية (1)
وقال آخرون : بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في
قوم كانوا قدموا المدينة من مكة ، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون ، ثم رجعوا إلى
مكة وأظهروا لهم الشرك.
*ذكر من قال ذلك :
10052 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " فما لكم في المنافقين فئتين " ، قال : قوم خرجوا من مكة
حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ، ثم ارتدوا بعد ذلك ، فاستأذنوا
__________
(1) الحديث : 10051 - زريق - بتقديم الزاي - بن السخت ، شيخ الطبري : لم أجد له
ترجمة ولا ذكرا ، إلا في المشتبه للذهبي ، ص : 222 ، قال : " زريق بن السخت ،
عن إسحاق الأزرق. وهو الصحيح ، ويقال بتقديم الراء " .
شبابة : هو ابن سوار. مضت ترجمته في : 37.
ويجب أن يكون هنا سقط في الإسناد ، بين شبابة وعدي بن ثابت ، لأن شبابة بن سوار
مات سنة 204 أو 205 ، أو 206 ، وهو الذي جزم به البخاري في الصغير ، ص : 228. وعدي
بن ثابت مات سنة 116 ، فبينهما 90 سنة. والظاهر أنه سقط من الإسناد هنا [عن شعبة].
عدي بن ثابت الأنصاري : ثقة معروف. أخرج له الجماعة. وهو ابن بنت عبد الله بن يزيد
- شيخه في هذا الإسناد.
عبد الله بن يزيد الخطمي - بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء المهملة : صحابي معروف
، شهد الحديبية صغيرا.
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند 5 : 184 ، عن بهز ، عن شعبة ، كالرواية الأولى
هنا المطولة : 10049.
وكذلك رواه البخاري 4 : 83 ، و7 : 275 ، و 8 : 193 - من طريق شعبة ، به. ورواه
مسلم 1 : 389 - 390 ، من طريق شعبة أيضا ، ولكنه روى آخره : " إنها طيبة...
" فقط.
وذكره ابن كثير 2 : 529 ، من رواية المسند. ثم قال : " أخرجاه في الصحيحين من
طريق شعبة " .
وذكره السيوطي 2 : 189 - 190 ، وزاد نسبته للطيالسي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن
حميد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي
في الدلائل.
وليس في مسند الطيالسي المطبوع ، لأنه ناقص كما هو معروف.
(8/9)
النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة
ليأتوا ببضائع لهم يتّجرون فيها. فاختلف فيهم المؤمنون ، فقائل يقول : " هم
منافقون " ، وقائل يقول : " هم مؤمنون " . فبين الله نفاقهم فأمر
بقتالهم ، فجاؤوا ببضائعهم يريدون المدينة ، فلقيهم علي بن عويمر ، أو : هلال بن
عويمر الأسلمي ، (1) وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم حلف وهو الذي حَصِر صدره
أن يقاتل المؤمنين أو يُقاتل قومه ، فدفع عنهم بأنهم يَؤُمُّون هلالا (2) وبينه
وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد.
10053 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله بنحوه غير أنه قال : فبيّن الله نفاقهم ، وأمر بقتالهم ، فلم
يقاتلوا يومئذ ، فجاؤوا ببضائعهم يريدون هلالَ بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين رسول
الله صلى الله عليه وسلم حِلْف. (3)
* * *
وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة ،
وكانوا يعينون المشركين على المسلمين.
*ذكر من قال ذلك :
10054 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " فما لكم في المنافقين فئتين " ، وذلك أن
قوما كانوا بمكة قد تكلّموا بالإسلام ، وكانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة
يطلبون حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحابَ محمد " عليه السلام " ،
فليس علينا منهم بأس! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من
__________
(1) أسقط المطبوعة : " علي بن عويمر ، أو : " وساق الخبر " فلقيهم
هلال.. " وأثبته من المخطوطة. والأثر التالي من رواية أبي جعفر ، هو الذي فيه
إسقاط علي بن عويمر " من الخبر.
(2) في المطبوعة : " يؤمنون هلالا " ، والصواب من المخطوطة والدر
المنثور 2 : 190
(3) الأثران : 10052 ، 10053 - انظر الأثر التالي : 10071.
(8/10)
المؤمنين : اركبوا إلى الخبثاء
فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم! وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله
أو كما قالوا ، أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلَّمتم به ؟ أمن أجل أنهم لم
يهاجروا ويتركوا ديارَهم ، تستحلّ دماؤهم وأموالهم لذلك! فكانوا كذلك فئتين ،
والرسول عليه السلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء ، فنزلت : " فما
لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله
" ، الآية.
10055 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" فما لكم في المنافقين فئتين " الآية ، ، ذكر لنا أنهما كانا رجلين من
قريش كانا مع المشركين بمكة ، وكانا قد تكلّما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى
الله عليه وسلم ، فلقيهما ناس من أصحاب نبي الله وهما مقبلان إلى مكة ، فقال بعضهم
: إن دماءهما وأموالهما حلال! وقال بعضهم : لا يحلُّ لكم! فتشاجروا فيهما ، فأنزل
الله في ذلك : " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا "
حتى بلغ " ولو شاء الله لسلَّطهم عليكم فلقاتلوكم " .
10056 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر بن راشد قال : بلغني أنّ
ناسًا من أهل مكة كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا ، وكان ذلك
منهم كذبا ، فلقوهم ، فاختلف فيهم المسلمون ، فقالت طائفة : دماؤهم حلال! وقالت
طائفة : دماؤهم حرام! فأنزل الله : " فما لكم في المنافقين فئتين والله
أركسهم بما كسبوا " .
* * *
10057 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن
سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " فما لكم في المنافقين فئتين
" ، هم ناس تخلّفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وأقاموا بمكة وأعلنوا
الإيمان ولم يهاجروا ، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتولاهم
ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ من وَلايتهم آخرون ،
(8/11)
وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولم يهاجروا! فسماهم الله منافقين ، وبرّأ المؤمنين من وَلايتهم ،
وأمرهم أن لا يتولَّوهم حتى يهاجروا.
* * *
وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة ، أرادوا الخروج عنها نفاقًا.
* ذكر من قال ذلك :
10058 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا " ، قال :
كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة ، فقالوا للمؤمنين : إنّا قد
أصابنا أوجاعٌ في المدينة واتَّخَمْناها ، (1) فلعلنا أن نخرج إلى الظَّهر حتى
نتماثل ثم نرجع ، (2) فإنا كنا أصحاب برّيّة. فانطلقوا ، واختلف فيهم أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقالت طائفة : أعداءٌ لله منافقون! (3) وددنا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم! وقالت طائفة : لا بل إخواننا غَمَّتهم
المدينة فاتّخموها ، (4)
__________
(1) " اتخمناها " ، " افتعل " من " الوخم " ، يقال
: " أرض وخمة ووخيمة " ، وبيئة ، لا يوافق المرء سكنها فيجتويها. و
" استوخم القوم المدينة " : استثقلوها ، ولم يوافق هواؤها أبدانهم.
والذي ذكرته كتب اللغة بناء " استوخم " " استفعل " متعديا من
" الوخم " ، ولم يذكروا " اتخم " " افتعل " ، وهو صحيح
في قياس العربية. وهذا شاهده.
(2) " الظهر " : ما غلظ وارتفع من الأرض ، و " البطن " : ما
لان منها وسهل ورق واطمأن. ومثله " ظاهر الأرض " ، فسموا ما بعد عن
القرية وارتفع في البرية : " ظهر البلدة وظاهرها " .
(3) في المطبوعة : " أعداء الله المنافقون " ، وفي المخطوطة : أعداء
الله منافقون " ، والصواب ما أثبت.
(4) في المطبوعة والدر المنثور 2 : 191 : " تخمتهم المدينة فاتخموها " ،
وليس صوابا. وفي المخطوطة : " عمهم المدينة " غير منقوطة ، وهذا صواب
قراءتها ، من " الغم " : وهو الكرب وكل ما يكرهه الإنسان فيورثه الضيق
والهم. والدليل على صحة هذه القراءة ما جاء في معاني القرآن 1 : 280 " ضجروا
منها واستوخموها " وانظر ما سلف تعليق : 1 ، في تفسير " اتخم " .
(8/12)
فخرجوا إلى الظهر يتنزهون ، (1) فإذا
بَرَؤوا رجعوا. فقال الله : " فما لكم في المنافقين فئتين " ، يقول : ما
لكم تكونون فيهم فئتين " والله أركسهم بما كسبوا " .
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أمر أهل الإفك.
*ذكر من قال ذلك :
10059 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " فما
لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا " ، حتى بلغ " فلا
تتّخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله " ، قال : هذا في شأن ابن
أُبيّ حين تكلم في عائشة بما تكلم.
10060 - وحدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : إن هذه الآية حين
أنزلت : " فما لكم في المنافقين فئتين " ، فقرأ حتى بلغ " فلا
تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله " ، فقال سعد بن معاذ : فإنّي
أبرأ إلى الله وإلى رسوله من فئته! يريد عبد الله بن أبيّ ابن سلول. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك ، قول من قال : نزلت هذه الآية
في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدُّوا عن الإسلام
بعد إسلامهم من أهل مكة.
__________
(1) " يتنزهون " أي : يتباعدون عن الأرض التي استوخموها ، حتى يبرأوا. و
" التنزه " التباعد عن الأرياف والمياه ، حيث لا يكون ماء ولا ندى ولا
جمع ناس ، وذلك شق البادية ، وهو أصح للأبدان.
(2) الأثر : 10059 ، 10060 - في المطبوعة ، ساق هذين الأثرين ، أثرا واحدا ، فجعله
هكذا : " حين تكلم في عائشة بما تكلم ، فقال سعد بن معاذ.. " وأسقط صدر
الأثر : 10060 ، فرددته إلى الصواب من المخطوطة. والذي أوقع الناشر في هذا ، سوء
صنيع السيوطي في نقله عن ابن جرير ، وذلك في الدر المنثور 2 : 191 .
(8/13)
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأنّ
اختلاف أهل التأويل في ذلك إنما هو على قولين : أحدهما : أنهم قوم كانوا من أهل
مكة ، على ما قد ذكرنا الرواية عنهم.
والآخر : أنهم قوم كانوا من أهل المدينة.
وفي قول الله تعالى ذكره : " فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا " ،
أوضح الدّليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة. لأنّ الهجرة كانت على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر. فأما من كان
بالمدينة في دار الهجرة مقيمًا من المنافقين وأهل الشرك ، فلم يكن عليه فرضُ هجرة
، لأنه في دار الهجرة كان وطنُه ومُقامه.
* * *
واختلف أهل العربية في نصب قوله : " فئتين " .
فقال بعضهم : هو منصوب على الحال ، كما تقول : " ما لَك قائما " ، يعني
: ما لك في حال القيام. وهذا قول بعض البصريين.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفيين : هو منصوب على فعل " ما لك " ، قال : ولا
تُبالِ أكان المنصوب في " ما لك " معرفة أو نكرة. (1) . قال : ويجوز في
الكلام أن تقول : " ما لك السائرَ معنا " ، لأنه كالفعل الذي ينصب بـ
" كان " و " أظن " وما أشبههما. قال : وكل موضع صلحت فيه
" فعل " و " يفعل " من المنصوب ، جاز نصب المعرفة منه والنكرة
، كما تنصب " كان " و " أظن " ، لأنهن نواقصُ في المعنى ، وإن
ظننت أنهنّ تَامّاتٍ. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " ولا تبالي كان المنصوب.. " وفي المخطوطة : "
ولا تبال كان المنصوب " ورجحت قراءتها كما أثبتها ، استظهارًا من نص الفراء
في معاني القرآن.
(2) هذا مختصر نص الفراء في معاني القرآن 1 : 281.
(8/14)
وهذا القول أولى بالصواب في ذلك ، لأن
المطلوب في قول القائل : " ما لك قائمًا " ، " القيام " ، فهو
في مذهب " كان " وأخواتها ، و " أظن " وصواحباتها. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل : { وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " والله أركسهم " .
فقال بعضهم : معناه : ردَّهم ، كما قلنا.
*ذكر من قال ذلك :
10061 - حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن
ابن عباس : " والله أركسهم بما كسبوا " ، ردَّهم.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : والله أوْقَعهم.
*ذكر من قال ذلك :
10062 - حدثني المثنى قال ، حدثني عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس : " والله أركسهم بما كسبوا " ، يقول : أوقعهم.
وقال آخرون : معنى ذلك : أضلهم وأهلكهم.
*ذكر من قال ذلك :
10063 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن
قتادة : " والله أركسهم " ، قال : أهلكهم.
10064 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن
قتادة : " والله أركسهم بما كسبوا " ، أهلَكَهم بما عملوا.
__________
(1) في المخطوطة : " والظن وصواحباتها " ، والصواب ما في المطبوعة.
(8/15)
10065 - حدثنا محمد بن الحسين قال ،
حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " والله أركسهم بما كسبوا
" ، أهلكهم.
* * *
وقد أتينا على البيان عن معنى ذلك قبل ، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (88) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله " أتريدون أن تهدوا من أضل الله " ،
أتريدون ، أيها المؤمنون ، أن تهدوا إلى الإسلام فتوفقوا للإقرار به والدخول فيه ،
من أضله الله عنه يعني بذلك : من خَذَله الله عنه ، فلم يوفقه للإقرار به ؟ (2)
وإنما هذا خطاب من الله تعالى ذكره للفئة التي دافعت عن هؤلاء المنافقين الذين وصف
الله صفتهم في هذه الآية. يقول لهم جل ثناؤه : أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلَّهم
الله فخذلهم عن الحق واتباع الإسلام ، بمدافعتكم عن قتالهم من أراد قتالَهم من
المؤمنين ؟ " ومن يُضلل الله فلن تجد له سبيلا " ، يقول : ومَن خذله عن
دينه واتباع ما أمره به ، من الإقرار به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء
به من عنده ، فأضلَّه عنه " فلن تجد له " ، يا محمد ، " سبيلا
" ، يقول : فلن تجد له طريقًا تهديه فيها إلى إدراك ما خذله الله [عنه] ، (3)
ولا منهجًا يصل منه إلى الأمر الذي قد حرمه الوصول إليه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف ص : 7
(2) انظر معنى " هدى " ، ومعنى " الضلال " فيما سلف من فهارس
اللغة.
(3) هذه الزيادة بين القوسين ، يقتضيها السياق اقتضاء. وانظر تفسير " السبيل
" فيما سلف. من فهارس اللغة.
(8/16)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
القول في تأويل قوله : { وَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ
أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ودوا لو تكفرون كما كفروا " ،
تمنَّى هؤلاء المنافقون (1) الذين أنتم ، أيها المؤمنون ، فيهم فئتان أن تكفروا
فتجحدوا وحدانية ربكم ، وتصديقَ نبيِّكم محمد صلى الله عليه وسلم " كما كفروا
" ، يقول : كما جحدوا هم ذلك " فتكونون سواء " ، يقول : فتكونون
كفّارًا مثلهم ، وتستوون أنتم وهم في الشرك بالله (2) " فلا تتخذوا منهم
أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله " ، يقول (3) حتى يخرجوا من دار الشرك
ويفارقوا أهلها الذين هم بالله مشركون ، إلى دار الإسلام وأهلها " في سبيل
الله " ، يعني : في ابتغاء دين الله ، وهو سبيله ، (4) فيصيروا عند ذلك مثلكم
، ويكون لهم حينئذ حكمكم ، كما : -
10066 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا
منهم أولياء حتى يهاجروا " ، يقول : حتى يصنعوا كما صنعتم يعني الهجرةَ في
سبيل الله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " ود " فيما سلف 2 : 470 / 5 : 542 / 8 : 371 .
(2) انظر تفسير " سواء " فيما سلف 1 : 256 / 2 : 495 - 497 / 6 : 483 ،
486 ، 487 / 7 : 118
(3) انظر تفسير " ولي " و " أولياء " فيما سلف : 8 : 430 ،
تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف : 8 : 579 ، تعليق : 2 ،
والمراجع هناك.
(8/17)
القول في تأويل قوله : { فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا
مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (89) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن أدبر هؤلاء المنافقون عن الإقرار بالله
ورسوله ، وتولوا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام ومن الكفر إلى الإسلام
(1) " فخذوهم " أيها المؤمنون " واقتلوهم حيث وجدتموهم " ، من
بلادهم وغير بلادهم ، أين أصبْتموهم من أرض الله " ولا تتخذوا منهم وليَّا
" ، يقول : ولا تتخذوا منهم خليلا يواليكم على أموركم ، ولا ناصرًا ينصركم
على أعدائكم ، (2) فإنهم كفار لا يألونكم خبالا وَدُّوا ما عنتُّم.
* * *
وهذا الخبر من الله جل ثناؤه ، إبانةٌ عن صحة نِفاق الذين اختلف المؤمنون في أمرهم
، وتحذيرٌ لمن دفع عنهم عن المدافعة عنهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10067 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم " ، فإن تولوا عن
الهجرة " فخذوهم واقتلوهم " .
10068 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم " ، يقول : إذا
أظهروا كُفرهم ، فاقتلوهم حيث وجدتموهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " تولى " فيما سلف 8 : 562 تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " ولي " فيما سلف ص 17 ، تعليق : 3 و " نصير "
فيما سلف 8 : 472 تعليق 1 ، والمراجع هناك.
(8/18)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
القول في تأويل قوله : { إِلا
الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم
وبينهم ميثاق " ، فإن تولىَّ هؤلاء المنافقون الذين اختلفتم فيهم عن الإيمان
بالله ورسوله ، وأبوا الهجرة فلم يهاجروا في سبيل الله ، فخذوهم واقتلوهم حيث
وجدتموهم ، سوى من وَصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم مُوادعة وعهد وميثاق ، (1)
فدخلوا فيهم ، وصاروا منهم ، ورضوا بحكمهم ، فإن لمن وصل إليهم فدخل فيهم من أهل
الشرك راضيًا بحكمهم في حقن دمائهم بدخوله فيهم : أن لا تسبى نساؤهم وذراريهم ،
ولا تغنم أموالهم ، كما : -
10069 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق " ، يقول : إذا
أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم ، فإن أحدٌ منهم دخل في قوم بينكم وبينهم
ميثاق ، فأجروا عليه مثل ما تجرُون على أهل الذمة.
10070 - حدثني يونس ، عن ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " إلا الذين
يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق " ، يصلون إلى هؤلاء الذين بينكم وبينهم
ميثاق من القوم ، لهم من الأمان مثل ما لهؤلاء.
10071 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج عن ابن جريج ، عن عكرمة
قوله : " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق " ، قال نزلت في
هلال بن عويمر الأسلمي ، وسراقة بن مالك بن جعشم ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف.
(2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الميثاق " فيما سلف : 8 : 127 تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(2) الأثر : 10071 - انظر الأثرين السالفين : 10052 ، 10053.
(8/19)
وقد زعم بعض أهل العربية ، (1) أن معنى
قوله : " إلا الذين يصلون إلى قوم " ، إلا الذين يتَّصلون في أنسابهم
لقوم بينكم وبينهم ميثاق ، من قولهم : " اتّصل الرجل " ، بمعنى : انتمى
وانتسب ، كما قال الأعشى في صفة امرأة انتسبت إلى قوم :
إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ : أَبَكْرَ بنَ وَائِلٍ!... وَبَكْرٌ سَبَتْهَا
وَالأنُوفُ رَوَاغِمُ! (2)
يعني بقوله : " اتصلت " ، انتسبت.
* * *
قال أبو جعفر : ولا وجه لهذا التأويل في هذا الموضع ، لأن الانتساب إلى قوم من أهل
الموادعة أو العهد ، لو كان يوجب للمنتسبين إليهم ما لهم ، إذا لم يكن لهم من
العهد والأمان ما لهم ، لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيقاتل قريشًا وهم
أنسباءُ السابقين الأوَّلين. ولأهل الإيمان من الحق بإيمانهم ، أكثر مما لأهل
العهد بعهدهم. وفي قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي قريش بتركها الدخول
فيما دخل فيه أهل الإيمان منهم ، مع قرب أنسابهم من أنساب المؤمنين منهم - الدليلُ
الواضح أنّ انتساب من لا عهد له إلى ذي العهد منهم ، لم يكن موجبا له من العهد ما
لذي العهد من انتسابه.
فإن ظن ذو غفلة أن قتال النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل من أنسباء المؤمنين من
مشركي قريش ، إنما كان بعد ما نُسخ قوله : " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم
وبينهم ميثاق " ، فإن أهل التأويل أجمعوا على أن ناسخ ذلك " براءة
" ، و " براءة " نزلت بعد فتح مكة ودخول قريش في الإسلام. (3)
* * *
__________
(1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1 : 136 ، وفي المطبوع من مجاز القرآن تأخير
وتقديم لم يمسسه بالتحرير ناشر الكتاب ، فليحرر مكانه.
(2) ديوانه : 59 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 136 والناسخ والمنسوخ : 109
واللسان (وصل) ، وغيرهما. وفي اللسان " لبكر بن وائل " ، وفسرها "
اتصلت " : انتسبت. وفسرها شارح شعر الأعشى : إذا دعت ، يعني دعت بدعوى
الجاهلية ، وهو الاعتزاء. وهذا البيت آخر بيت في قصيدة الأعشى تلك. يقول : تدعى
إليهم وتنتسب ، وهي من إمائهم اللواتي سبين وقد رغمت أنوفهن وأنوف رجالهن الذي
كانوا يدافعون عنهن ، ثم انهزموا عنهن وتركوهن للسباء.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " فإن أهل التأويل أجمعوا على أن ذلك نسخ قراءة
نزلت بعد فتح مكة ودخول قريش في الإسلام " ، وهو خطأ لا معنى له ، وخلط فاحش.
واستظهرت أن ما كتبته هو الصواب وأنه عنى " سورة براءة " ، من الناسخ
والمنسوخ : 109 ، ومن تفسير أبي حيان 3 : 315 ، وتفسير القرطبي 5 : 308 ، وقد
نسبوه جميعًا إلى الطبري أيضا.
(8/20)
القول في تأويل قوله : { أَوْ
جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ
}
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " أو جاءوكم حَصِرَت صدورهم أن
يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم " ، " فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث
وجدتموهم " " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق " أو :
إلا الذين جاءوكم منهم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا
فيكم.
ويعني بقوله : " حصرت صدورهم " ، ضاقت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو أن
يقاتلوا قومهم.
والعرب تقول لكل من ضاقت نفسه عن شيء من فعل أو كلام : " قد حَصِرَ " ،
ومنه " الحَصَرُ " في القراءة. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10072 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي
: " أو جاءوكم حصرت صدورهم " ، يقول : رجعوا فدخلوا فيكم " حصرت
صدورهم " ، يقول : ضاقت صدورهم " أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم " .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الحصر " فيما سلف 6 : 376 ، 377 وانظر مجاز القرآن
لأبي عبيدة 1 : 136 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 282.
(8/21)
وفي قوله : " أو جاءوكم حصرت
صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم " ، متروكٌ ، ترك ذكره لدلالة الكلام
عليه. وذلك أن معناه : أو جاءوكم قد حصرت صدورهم ، فترك ذكر " قد " ،
لأن من شأن العرب فعل مثل ذلك : تقول : " أتاني فلان ذَهَب عقله " ،
بمعنى : قد ذهب عقله. ومسموع منهم : " أصبحت نظرتُ إلى ذات التَّنانير "
، بمعنى : قد نظرت. (1) ولإضمار " قد " مع الماضي ، جاز وضع الماضي من
الأفعال في موضع الحال ، لأن " قد " إذا دخلت معه أدْنته من الحال ،
وأشبهت الأسماء. (2)
* * *
وعلى هذه القراءة أعني " حَصِرَت " ، قراءة القرأة في جميع الأمصار ،
وبها يقرأ لإجماع الحجة عليها.
* * *
وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك : ( أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً
صُدُورُهُمْ ) ، نصبًا ، (3) وهي صحيحة في العربية فصيحة ، غير أنه غير جائزة
القراءة بها عندي ، لشذوذها وخروجها عن قراءة قرأة الإسلام.
* * *
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 282 . و " ذات التنانير " :
أرض بين الكوفة وبلاد غطفان ، وقال ياقوت في معجمه : " عقبة بحذاء زبالة
" .
(2) في المطبوعة : " وأشبه الأسماء " ، وما في المخطوطة صواب ، يعني
وأشبهت الأفعال الماضية الأسماء.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 282.
(8/22)
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ
عَلَيْهِمْ سَبِيلا (90) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : " ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم
" ، ولو شاء الله لسلّط هؤلاء الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق
فيدخلون في جوارهم وذمتهم ، والذين يجيئونكم قد حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم
عليكم ، (1) أيها المؤمنون ، فقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين ، ولكن الله تعالى
ذكره كفَّهم عنكم. يقول جل ثناؤه : فأطيعوا الذي أنعم عليكم بكفِّهم عنكم مع سائر
ما أنعم به عليكم ، فيما أمركم به من الكفِّ عنهم إذا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم
ميثاق ، أو جاؤوكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم. ثم قال جل ثناؤه : "
فإن اعتزلوكم " ، يقول : فإن اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عن قتالهم من
المنافقين ، بدخولهم في أهل عهدكم ، أو مصيرهم إليكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال
قومهم " فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلَم " ، يقول : وصالحوكم.
* * *
و " السَّلَم " ، هو الاستسلام. (2) وإنما هذا مثلٌ ، كما يقول الرجل
للرجل : " أعطيتك قِيادي " ، و " ألقيت إليك خِطَامي " ، إذا
استسلم له وانقاد لأمره. فكذلك قوله : " وألقوا إليكم السلم " ، إنما هو
: ألقوا إليكم قيادَهم واستسلموا لكم ، صلحًا منهم لكم وسَلَمًا. ومن "
السَّلم " قول الطرمَّاح :
وَذَاكَ أَنَّ تَمِيمًا غَادَرَتْ سَلَمًا... لِلأسْدِ كُلَّ حَصَانٍ وَعْثَةِ
اللِّبَدِ (3)
__________
(1) السياق : ولو شاء الله لسلط هؤلاء ... عليكم " .
(2) انظر تفسير " الإسلام " أيضًا فيما سلف من فهارس اللغة " سلم
" .
(3) ديوانه : 145 ، من قصيدته التي هجا بها الفرزدق وبيوت بني دارم وبني سعد فقال
قبله : وَدَارِمٌ قد قَذَفْنَا مِنْهُمُ مِئَةً ... فِي جَاحِمِ النَّارِ ، إِذْ
يُلْقَوْنَ فِي الخُدَدِ
يَنْزُونَ بالْمُشْتَوَى مِنْهَا ، ويُوقِدُهَا ... عَمْرٌو ، وَلَوْلا لُحُومُ
الْقَوْمِ لَمْ تَقِدِ
وَذَاكَ أنَّ تَمِيمًا ............ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فزعم أن عمرو بن المنذر اللخمي ، أحرق بني دارم رهط الفرزدق ، قال أبو عبيدة : ولم
يكن للطرماح بهذا الحديث علم. يعني حديث يوم أوارة ، وهو يوم غزا عمرو بن المنذر
بني دارم ، فقتل منهم تسعة وتسعين رجلا.
و " الأسد " يعني عمرو بن المنذر ومن معه. و " الحصان "
المرأة العفيفة. وكان في المطبوعة والمخطوطة : " كل مصان وعثه اللبد "
وهو خطأ لا معنى له. وامرأة " وعثة " : كثيرة اللحم ، كأن الأصابع تسوخ
فيها من كثرة لحمها ولينها. " وامرأة وعثه الأرداف " ، كذلك. و "
اللبد " جمع لبدة (بكسر فسكون) : وهي كساء ملبس يفرش للجلوس عليه. وعنى بذلك
أنها وعثة الأرداف ، حيث تجلس على اللبد. فسمي الأرداف لبدًا.
يقول : أسلمت تميم نساءها لنا ولجيش عمرو بن المنذر ، وفروا عن أعراضهم ، لم
يلفتهم إليهن ضعفهن عن الدفع عن أنفسهن ، وأنساهم الروع كرائم نسائهم ومترفاتهن.
(8/23)
يعني بقوله : " سلمًا " ،
استسلامًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10073 - حدثني المثنى قال ، حدثنا ابن أبي جعفر : عن أبيه ، عن الربيع : "
فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم " ، قال : الصلح.
* * *
وأما قوله : " فما جعل الله لكم عليهم سبيلا " ، فإنه يقول : إذا استسلم
لكم هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم ، صلحًا منهم لكم " فما جعل الله لكم
عليهم سبيلا " ، أي : فلم يجعل الله لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم
ونسائهم طريقًا إلى قتل أو سباء أو غنيمة ، بإباحةٍ منه ذلك لكم ولا إذْنٍ ، فلا
تعرَّضوا لهم في ذلك إلا سبيل خير
* * *
ثم نسخ الله جميع حكم هذه الآية والتي بعدها بقوله تعالى ذكره :
(8/24)
( فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ
الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) إلى قوله : (
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [سورة التوبة : 5].
ذكر من قال في ذلك مثل الذي قلنا :
10074 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن
عكرمة والحسن قالا قال : ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا إِلا الَّذِينَ
يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ) إلى قوله : (
وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ) وقال في "
الممتحنة " : ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) ، وقال فيها : (
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ) إلى( فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [سورة
الممتحنة : 8 ، 9]. فنسخ هؤلاء الآيات الأربعة في شأن المشركين فقال : ( بَرَاءَةٌ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ
مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ) [سورة التوبة : 1 ،
2]. فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض ، وأبطل ما كان قبل ذلك. وقال في التي
تليها : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ
مَرْصَدٍ ) ، ثم نسخ واستثنى فقال : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ ) إلى قوله : ( ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) [سورة التوبة :
5 ، 6].
10075 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " فإن اعتزلوكم " ، قال : نسختها : ( فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) .
(8/25)
سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
10076 - حدثني المثنى قال ، حدثنا
الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا همام بن يحيى قال ، سمعت قتادة : يقول في قوله :
" إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق " إلى قوله : " فما
جعل الله لكم عليهم سبيلا " ، ثم نسخ ذلك بعد في براءة ، وأمر نبيَّه صلى
الله عليه وسلم أن يقاتل المشركين بقوله : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ).
10077 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ، قال ابن زيد في قوله :
" إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق " ، الآية ، قال : نسخ
هذا كله أجمع ، نسخه الجهاد ، ضرب لهم أجل أربعة أشهر : إما أن يسلموا ، وإما أن
يكون الجهاد.
* * *
القول في تأويل قوله : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ
وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا }
قال أبو جعفر : وهؤلاء فريق آخر من المنافقين ، كانوا يظهرون الإسلام لرسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليأمنوا به عندهم من القتل والسباء وأخذ الأموال وهم
كفار ، يعلم ذلك منهم قومهم ، إذا لقوهم كانوا معهم وعبدوا ما يعبدونه من دون الله
، ليأمنوهم على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم. يقول الله : " كلما ردوا
إلى الفتنة أركسوا فيها " ، يعني : كلما دعاهم [قومهم] إلى الشرك بالله ، (1)
ارتدُّوا فصاروا مشركين مثلهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية.
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام.
(8/26)
فقال بعضهم : هم ناس كانوا من أهل مكة
أسلموا - على ما وصفهم الله به من التقيَّة - وهم كفار ، ليأمنوا على أنفسهم
وأموالهم وذراريهم ونسائهم. يقول الله : " كلما ردُّوا إلى الفتنة أركسوا
فيها " ، يعني كلما دعاهم [قومهم] إلى الشرك بالله ، (1) ارتدوا فصاروا
مشركين مثلهم ، ليأمنوا عند هؤلاء وهؤلاء.
*ذكر من قال ذلك :
10078 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم " ، قال : ناس كانوا
يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في
الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا. فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا
ويُصلحوا.
10079 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
10080 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما
ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها " ، يقول : كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة
أركسوا فيها. وذلك أن الرجل كان يوجد قد تكلم بالإسلام ، فيقرَّب إلى العُود
والحجَر وإلى العقرب والخنفساء ، فيقول المشركون لذلك المتكلِّم بالإسلام : "
قل : هذا ربي " ، للخنفساء والعقرب.
* * *
وقال آخرون : بل هم قوم من أهل الشرك كانوا طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند المشركين.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام.
(8/27)
10081 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا
يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم
ويأمنوا قومهم " ، قال : حيٌّ كانوا بتهامة ، قالوا : " يا نبيّ الله ،
لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا " ، وأرادوا أن يأمنوا نبيَّ الله ويأمنوا قومهم ،
فأبى الله ذلك عليهم ، فقال : " كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها " ، يقول
: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه.
* * *
وقال آخرون : نزلت هذه الآية في نعيم بن مسعود الأشجعي.
*ذكر من قال ذلك :
10082 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : ثم ذكر نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمن في المسلمين والمشركين ، ينقل
الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين ، فقال : " ستجدون آخرين
يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة " ، يقول : إلى الشرك.
* * *
وأما تأويل قوله : " كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها " ، فإنه كما : -
10083 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع ، عن أبي العالية في قوله : " كلما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها
" ، قال : كلما ابتلُوا بها ، عَمُوا فيها.
10084 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : كلما
عرَض لهم بلاء ، هلكوا فيه.
* * *
والقول في ذلك ما قد بينت قبلُ ، وذلك أن " الفتنة " في كلام العرب ،
الاختبار ، و " الإركاس " الرجوع. (1) .
* * *
فتأويل الكلام : كلما ردوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر والشرك ، رجعوا إليه.
* * *
__________
(1) انظر " تفسير الفتنة " فيما سلف 2 : 444 / 3 : 565 ، 566 ، 570 ،
571 / 4 : 301 / 6 : 196 ، 197 وانظر تفسير " الإركاس " فيما سلف ص : 7
، 15 ، 16.
(8/28)
القول في تأويل قوله : { فَإِنْ لَمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ
فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا
لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن لم يعتزلكم ، (1) أيها المؤمنون ، هؤلاء
الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ، وهم كلما دعوا إلى الشرك أجابوا إليه
" ويلقوا إليكم السلم " ، ولم يستسلموا إليكم فيعطوكم المقادَ ويصالحوكم
، (2) . كما : -
10085 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع : " فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم " ، قال : الصلح.
* * *
" ويكفوا أيديهم " ، يقول : ويكفوا أيديهم عن قتالكم ، (3) "
فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم " ، يقول جل ثناؤه : إن لم يفعلوا ، فخذوهم أين
أصبتموهم من الأرض ولقيتموهم فيها ، (4) فاقتلوهم ، فإن دماءهم لكم حينئذ حلال
" وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانًا مبينًا " ، يقول جل ثناؤه : وهؤلاء
الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ، وهم على ما هم عليه من الكفران ، ولم
يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم ، (5) جعلنا لكم حجة في قتلهم أينما
لقيتموهم ، بمقامهم على كفرهم ، وتركهم هجرة دار الشرك " مبينًا " يعني
: أنها تبين عن استحقاقهم ذلك منكم ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فإن لم يعتزلوكم " ، والسياق يقتضي ما
أثبت.
(2) انظر تفسير " ألقوا السلم " فيما سلف ص23 ، 24.
(3) انظر تفسير " الكف " فيما سلف 8 : 548.
(4) انظر تفسير " ثقف " فيما سلف 3 : 564.
(5) في المطبوعة والمخطوطة : " لم يعتزلوكم " ، بإسقاط الواو ، والأصح
إثباتها.
(8/29)
وإصابتكم الحق في قتلهم. وذلك قوله :
" سلطانًا مبينًا " ، و " السلطان " هو الحجة ، (1) . كما : -
10086 - حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة قال ، حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن عكرمة
قال : ما كان في القرآن من " سلطان " ، فهو : حجّة.
10087 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " سلطانًا مبينًا " أما " السلطان المبين " ،
فهو الحجة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف 7 : 279 وتفسير " المبين
" فيما سلف 8 : 124 تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(8/30)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
القول في تأويل قوله : { وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ
يَصَّدَّقُوا }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا
خطأ " ، وما أذن الله لمؤمن ولا أباح له أن يقتل مؤمنًا. يقول : ما كان ذلك
له فيما جعل له ربه وأذن له فيه من الأشياء البتة ، كما : -
10088 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ " ، يقول : ما كان له ذلك فيما
أتاه من ربه ، من عهد الله الذي عهد إليه.
* * *
وأما قوله : " إلا خطأ " ، فإنه يقول : إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن
خطأ ،
(9/30)
وليس له مما جعل له ربه فأباحه له.
وهذا من الاستثناء الذي يُسميه أهل العربية " الاستثناء المنقطع " ، كما
قال جرير بن عطية :
مِنَ البِيضِ ، لَمْ تَظْعَنْ بَعِيدًا ، وَلَمْ تَطَأْ... عَلَى الأرْضِ إِلا
رَيْطَ بُرْدٍ مُرَحَّلِ (1)
يعني : ولم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد ، وليس ذيل البُرْد من الأرض. (2)
ثم أخبر جل ثناؤه عباده بحكم من قُتل من المؤمنين خطأ ، فقال : " ومن قتل
مؤمنًا خطأ فتحرير " ، يقول : فعليه تحرير " رقبة مؤمنة " ، في
ماله " ودية مسلمة " ، تؤديها عاقلته (3) " إلى أهله إلا أن يصدقوا
" ، يقول : إلا أن يصدق أهل القتيل خطأ على من لزمته دية قتيلهم ، فيعفوا عنه
ويتجاوزوا عن ذنبه ، فيسقط عنه.
* * *
وموضع " أن " من قوله : " إلا أن يصدقوا " ، نصب ، لأن معناه
: فعليه ذلك ، إلا أن يصدّقوا.
* * *
__________
(1) ديوانه : 457 ، والنقائض : 706 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 137 ، من قصيدته
التي هجا فيها الفرزدق وآل الزبرقان بن بدر ، وهو من أول القصيدة ، وقبله : أَمِنْ
عَهْدِ ذِي عَهْدٍ تَفِيضُ مَدَامِعِي ... كَأَنَّ قَذَى الْعَيْنَيْنِ مِنْ حَبِّ
فُلْفُلِ?
فَإنْ يَرَ سَلْمَى الجِنُّ يَسْتَأْنِسُوا بِهَا ، ... وَإِنْ يَرَ سَلْمَى
رَاهِبُ الطُّورِ يَنْزِلِ
ورواية الديوان وأبي عبيدة في النقائض : " إِلاَّ نِيرَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ
"
و " النير " (بكسر النون) : علم الثوب. و " المرط " : إزار خز
له علم ، ويكون من صوف أيضا. وأما " الريط " فهو جمع " ريطة "
: وهي الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ، ولم تكن لفقين ، وتكون ثوبًا دقيقًا لينًا. و
" المرحل " : الموشى ، وهو ضرب من البرود ، وشيه معين كتعيين جديات
الرحل. وكان في المخطوطة والمطبوعة : " مرجل " بالجيم ، وهو خطأ.
(2) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 136 - 138.
(3) " العاقلة " ، : هم العصبة ، وهم القرابة من قبل الأب ، الذين يعطون
دية قتل الخطأ. من " العقل " ، وهي الدية.
(9/31)
وذكر أن هذه الآية نزلت في عيّاش بن
أبي ربيعة المخزومي ، وكان قد قتل رجلا مسلمًا بعد إسلامه ، وهو لا يعلم بإسلامه.
ذكر الآثار بذلك :
10089 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قول الله : " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ " ، قال
: عياش بن أبي ربيعة ، قتل رجلا مؤمنًا كان يعذِّبه مع أبي جهل وهو أخوه لأمه
فاتّبَع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحسب أن ذلك الرجل كان كما هو. وكان عيّاش
هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا ، فجاءه أبو جهل وهو أخوه لأمه فقال :
إنّ أمك تناشدك رَحِمها وحقَّها أن ترجع إليها وهي أسماء ابنة مخرِّبة ، (1) فأقبل
معه ، فربطه أبو جهل حتى قدم مكة. فلما رآه الكفار زادهم ذلك كفرًا وافتتانًا ،
وقالوا : إنّ أبا جهل ليقدِرُ من محمدٍ على ما يشاء ويأخذ أصحابه.
10090 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد بنحوه إلا أنه قال في حديثه : فاتبع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل
، وعيّاش حَسبه أنه كافر كما هو. (2) وكان عياش هاجر إلى المدينة مؤمنًا ، فجاءه
أبو جهل وهو أخوه لأمه - فقال : إن أمك تنشُدك برحمها وحقها إلا رجعت إليها. وقال
أيضًا : ويأخذ أصحابه فيربطهم. (3)
10091 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " بنت مخرمة " ، والصواب من المخطوطة : " مخربة
" بالراء المشددة المكسورة ، وبالباء. وأسماء من بني نهشل بن دارم ، تميمية.
(2) في المطبوعة : " وعياش يحسبه " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " فيأخذ " بالفاء ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/32)
ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه قال ابن جريج
، عن عكرمة قال : كان الحارث ابن يزيد بن أنيسة ، (1) من بني عامر بن لؤي يعذِّبُ
عياشَ بن أبي ربيعة مع أبي جهل. ثم خرج الحارث بن يزيد مهاجرًا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم ، فلقيه عياش بالحرّة ، فعلاه بالسيف حتى سكت ، (2) وهو يحسب أنه كافر.
ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، ونزلت : " وما كان لمؤمن أن
يقتل مؤمنًا إلا خطأ " ، الآية فقرأها عليه ، ثم قال له : قم فحِّررْ.
10092 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ " ، قال : نزلت في عياش
بن أبي ربيعة المخزومي وكان أخًا لأبي جهل بن هشام ، لأمه (3) وإنه أسلم وهاجر في
المهاجرين الأولين قبل قُدُوم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فطلبه أبو جهل
والحارث بن هشام ، ومعهما رجل من بني عامر بن لؤي. فأتوه بالمدينة ، وكان عياش
أحبَّ إخوته إلى أمه ، فكلَّموه وقالوا : " إنّ أمك قد حلفت أن لا يُظِلَّها
بيت حتى تراك ، وهي مضطجعة في الشمس ، فأتها لتنظر إليك ثم ارجع " ! وأعطوه
موثقًا من الله لا يَهِيجونه حتى يرجع إلى المدينة ، (4) فأعطاه بعض أصحابه بعيرًا
له نجيبًا وقال : إن خفت منهم شيئًا ، فاقعد على النجيب. فلما أخرجوه من المدينة ،
أخذوه فأوثقوه ، وجَلَده العامريّ ، فحلف ليقتلنَّ العامري. فلم يزل محبوسًا بمكة
حتى خرج يوم الفتح ، فاستقبله العامريّ وقد أسلم ، ولا يعلم عيّاش بإسلامه ، فضربه
فقتله. فأنزل الله : " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ " ، يقول :
وهو لا يعلم أنه مؤمن " ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبه مؤمنة وديةٌ مسلمة
إلى أهله إلا أن يصدّقوا " ، فيتركوا الدّية.
* * *
وقال آخرون : نزلت هذه الآية في أبي الدرداء.
*ذكر من قال ذلك :
10093 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وما
كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ " ، الآية ، قال : نزل هذا في رجل قتله أبو
الدرداء ، نزل هذا كله فيه. (5) كانوا في سرية ، فعدَل أبو الدرداء إلى شِعْبٍ
يريد حاجة له ، فوجد رجلا من القوم في غنم له ، فحمل عليه بالسيف فقال : لا إله إلا
الله! قال : فضربه ، ثم جاء بغنمه إلى القوم. ثم وجد في نفسه شيئًا ، فأتى النبي
صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا
شققتَ عن قلبه! فقال : ما عَسَيْتُ أجِدُ! (6) هل هو يا رسول الله إلا دمٌ أو ماء
؟ قال : فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه ؟ قال : كيف بي يا رسول الله ؟ قال : فكيف بلا
إله إلا الله ؟ قال : فكيف بي يا رسول الله ؟ قال : فكيف بلا إله إلا الله ؟ حتى
تمنَّيتُ أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي. قال : ونزل القرآن : " وما كان لمؤمن أن
يقتل مؤمنًا إلا خطأ " حتى بلغ " إلا أن يصدّقوا " ، قال : إلا أن
يَضَعوها.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عرَّف عبادَه بهذه
الآية مَا على مَن قتل مؤمنًا خطأ من كفَّارة ودية. وجائز أن تكون الآية نزلت في
عياش بن أبي ربيعة وقتيله ، وفي أبي الدرداء وصاحبه. وأيّ ذلك كان ، فالذي
__________
(1) في المطبوعة : " بن نبيشة " ، وفي المخطوطة بهذا الرسم ، بغير ألف
في أوله ، غير منقوطة. والصواب من الإصابة وأسد الغابة وغيرهما.
(2) " سكت " سكن ، وانقطعت حركته. وهو مما يزاد من المجاز على نصوص
المعاجم.
(3) في المطبوعة : " فكان أخا " أساء قراءة المخطوطة.
(4) في المطبوعة : " لا يحجزونه " ، وهو خطأ وتغيير لما في المخطوطة.
" هاجه يهيجه " : أزعجه ونفره ، يريد : لا يؤذونه بما يزعجه أو ينفره.
(5) حذفت المطبوعة قوله : " نزل هذا كله فيه " ، ولا أدري لم فعل ذلك!!
(6) قوله : " ما عسيت أجد " ، من " عسى " ، كأنه قال : ماذا
أجد بقتلي إياه وهو مشرك.
(9/33)
عَنَى الله تعالى بالآية : تعريفَ
عباده ما ذكرنا ، وقد عرف ذلك من عَقَل عنه من عباده تنزيلَه ، (1) وغير ضائرهم
جهلهم بمن نزلت فيه.
* * *
وأما " الرقبة المؤمنة " ، فإن أهل العلم مختلفون في صفتها.
فقال بعضهم : لا تكون الرقبة مؤمنة حتى تكون قد اختارت الإيمان بعد بلوغها ،
وصلَّت وصامت ، ولا يستحقّ الطفل هذه الصفة.
*ذكر من قال ذلك :
10094 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي حيان قال : سألت
الشعبي عن قوله : " فتحرير رقبة مؤمنة " ، قال : قد صلَّت وعرفت
الإيمان.
10095 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فتحرير رقبه مؤمنة " ، يعني بالمؤمنة ، مَن
عقل الإيمان وصام وصلّى.
10096 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : ما كان
في القرآن من " رقبة مؤمنة " ، فلا يجزئ إلا من صام وصلَّى. وما كان في
القرآن من " رقبة " ليست " مؤمنة " ، فالصبيّ يجزئ.
10097 - حدثت عن يزيد بن هارون ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن قال : كل شيء في كتاب
الله : " فتحرير رقبة مؤمنة " ، فمن صام وصلى وعَقل. وإذا قال : "
فتحرير رقبة " ، فما شاء.
10098 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن
الأعمش ، عن إبراهيم قال : كل شيء في القرآن : " فتحرير رقبه
__________
(1) في المخطوطة : " من عقل عنه عباده وتنزيله " ، وهو غير مستقيم ،
والذي في المطبوعة جيد صحيح.
(9/35)
مؤمنة " ، فالذي قد صلى. وما لم
يكن " مؤمنة " ، فتحرير من لم يصلّ.
10099 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
فتحرير رقبة مؤمنة " ، " والرقبة المؤمنة " عند قتادة من قد صلَّى.
وكان يكره أن يعتق في هذا الطفل الذي لم يصلِّ ولم يبلغ ذلك.
10100 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال ، حدثنا فضيل بن عياض ، عن مغيرة ، عن
إبراهيم في قوله : " فتحرير رقبه مؤمنة " ، قال : إذا عقل دينه.
10101 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة
قال في : " فتحرير رقبة مؤمنة " ، لا يجزئ فيها صبيٌّ.
10102 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فتحرير رقبة مؤمنة " ، يعني بالمؤمنة :
من قد عقل الإيمان وصام وصلى. فإن لم يجد رقبة ، فصيام شهرين متتابعين ، وعليه دية
مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا بها عليه.
* * *
وقال آخرون : إذا كان مولودًا بين أبوين مسلمين فهو مؤمن ، وإن كان طفلا.
*ذكر من قال ذلك :
10103 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال
: كلّ رقبة ولدت في الإسلام ، فهي تجزئ.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب في ذلك ، قال من قال : لا يجزئ في قتل الخطأ
من الرقاب إلا من قد آمن وهو يعقل الإيمان من بالغي الرجال والنساء ، (1) إذا كان
ممن كان أبواه على مِلّة من الملل سوى الإسلام ، وولد بينهما
__________
(1) في المطبوعة ، حذف قوله : " بالغي " وجعلها " من الرجال
والنساء " ، وكانت في المخطوطة : " تابعي " ، وهو خطأ صواب قراءته
ما أثبت.
(9/36)
وهما كذلك ، (1) ثم لم يسلما ولا واحدٌ
منهما حتى أعتِق في كفارة الخطأ. وأما من ولد بين أبوين مسلمين ، فقد أجمع الجميع
من أهل العلم أنه وإن لم يبلغ حدّ الاختيار والتمييز ، ولم يدرك الحُلُم ، فمحكوم
له بحكم أهل الإيمان في الموارثة ، والصلاة عليه إن مات ، وما يجب عليه إن جَنَى ،
ويجب له إن جُنِيَ عليه ، وفي المناكحة. فإذْ كان ذلك من جميعهم إجماعًا ، فواجب
أن يكون له من الحكم فيما يجزئ فيه من كفارة الخطأ إن أعتق فيها من حكم أهل
الإيمان ، مثلُ الذي له من حكم الإيمان في سائر المعاني التي ذكرناها وغيرها. ومن
أبَى ذلك ، عُكِس عليه الأمر فيه ، ثم سئل الفرق بين ذلك من أصلٍ أو قياس. فلن
يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في غيره مثله.
وأما " الدية المسلمة " إلى أهل القتيل ، فهي المدفوعة إليهم ، على ما
وجب لهم ، موفَّرة غير منتقصةٍ حقوقُ أهلها منها. (2)
* * *
وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول : هي الموفرة.
10104 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ،
قال ابن عباس قوله : " وديه مسلمة إلى أهله " ، قال : موفَّرة.
* * *
وأما قوله : " إلا أن يصَّدقوا " ، فإنه يعني به : إلا أن يتَصدقوا
بالدية على القاتل ، أو على عاقِلته ، فأدغمت " التاء " من قوله :
" يتصدقوا " في " الصاد " فصارتا " صادًا " .
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ولد يتيما وهو كذلك " ، والمخطوطة غير
منقوطة ، وهو كلام لا خير فيه ولا معنى له ، وصواب قراءته ما أثبت.
(2) انظر تفسير " مسلمة " فيما سلف 2 : 184 ، 213 - 215.
(9/37)
وقد ذكر أن ذلك في قراءه أبي ، ( إِلا
أَنْ يَتَصَدَّقُوا ).
10105 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا بكر بن الشرود حرف أُبيّ : (
إِلا أَنْ يَتَصَدَّقُوا ). (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن
" ، فإن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ ، " من قوم عدو لكم "
، يعني : من عِدَاد قوم أعداء لكم في الدين مشركين قد نابَذُوكم الحربَ على خلافكم
على الإسلام (2) " وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " ، يقول : فإذا قتل
المسلم خطأ رجلا من عِداد المشركين ، والمقتول مؤمن ، والقاتل يحسب أنه على كفره ،
فعليه تحرير رقبة مؤمنة.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم : معناه : وإن كان المقتول من قوم هم عدو لكم وهو مؤمن أي : بين أظهرهم
لم يهاجر فقتله مؤمن ، فلا دية عليه ، وعليه تحرير رقبة مؤمنة.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر : 10105 - " إسحاق " هو " إسحاق بن إبراهيم بن الضيف
" أو " إسحاق بن الضيف " و " بكر بن الشرود " ، مضيا
برقم : 8562.
(2) في المطبوعة : " لم يأمنوكم الحرب " وفي المخطوطة : " قد
يأمنوكم الحرب " وصواب المعنى يقتضي أن تكون " قد نابذوكم الحرب "
كما أثبتها.
(9/38)
10106 - حدثنا محمد بن بشار قال ،
حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن سماك ، عن عكرمة والمغيرة ، عن إبراهيم في
قوله : " وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن " ، قال : هو الرجل يُسْلم في
دار الحرب فيقتل. قال : ليس فيه دية ، وفيه الكفَّارة.
10107 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة في
قوله : " وإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن " ، قال : يعني المقتول يكون
مؤمنًا وقومه كفار. قال : فليس له دية ، ولكن تحرير رقبة مؤمنة.
10108 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو غسان قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن " ،
قال : يكون الرجل مؤمنًا وقومه كفار ، فلا دية له ، ولكن تحرير رقبة مؤمنة.
10109 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن " في دار الكفر ، يقول :
" فتحرير رقبة مؤمنة " ، وليس له دية.
10110 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " ، ولا دية لأهله ، من
أجْل أنهم كفار ، وليس بينهم وبين الله عهدٌ ولا ذِمَّة.
10111 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد قال ، أخبرنا عطاء بن
السائب ، عن ابن عباس أنه قال في قول الله : " وإن كان من قوم عدوّ لكم وهو
مؤمن " إلى آخر الآية ، قال : كان الرجل يسلم ثم يأتي قومه فيقيم فيهم وهم
مشركون ، فيمرّ بهم الجيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقتل فيمن يقتل ،
فيعتق قاتله رقبة ، ولا دية له.
(9/39)
10112 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا
جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " فإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن فتحرير
رقبة " ، قال : هذا إذا كان الرجل المسلم من قوم عدوّ لكم أي : ليس لهم عهد -
يقتل خطأ ، فإن على من قتله تحريرُ رقبة مؤمنة.
10113 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس : " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن " ، فإن كان في أهل الحرب وهو
مؤمن ، فقتله خطأ ، فعلى قاتله أن يكفّر بتحرير رقبة مؤمنة ، أو صيام شهرين
متتابعين ، ولا دية عليه.
10114 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وإن
كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن " ، القتيل مسلم وقومه كفّار ، فتحرير رقبه
مؤمنة ، ولا يؤدِّي إليهم الدية فيتقوّون بها عليكم.
* * *
وقال آخرون : بل عنى به الرجلُ من أهل الحرب يقدَم دار الإسلام فيسلم ، ثم يرجع
إلى دار الحرب ، فإذا مرَّ بهم الجيش من أهل الإسلام هَرَب قومه ، وأقام ذلك
المسلم منهم فيها ، فقتله المسلمون وهم يحسبونه كافرًا.
*ذكر من قال ذلك :
10115 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة
" ، فهو المؤمن يكون في العدوّ من المشركين ، يسمعون بالسريَّة من أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم ، فيفرّون ويثبتُ المؤمن ، فيقتل ، ففيه تحرير رقبة مؤمنةٍ.
* * *
(9/40)
القول في تأويل قوله : { وَإِنْ كَانَ
مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق
" ، وإن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ " من قوم بينكم " أيها
المؤمنون " وبينهم ميثاق " ، أي : عهدٌ وذمة ، وليسوا أهلَ حرب لكم
" فدية مسلّمة إلى أهله " ، يقول : فعلى قاتله دية مسلمة إلى أهله ،
يتحملها عاقلته " وتحرير رقبه مؤمنة " ، كفارة لقتله.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق ، أهو
مؤمن أو كافر ؟ (1)
فقال بعضهم : هو كافر ، إلا أنه لزمت قاتلَه ديته ، لأن له ولقومه عهدًا ، فواجب
أداءُ دِيته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين ، وأنها مال من أموالهم ،
ولا يحلّ للمؤمنين شيء من أموالهم بغير طِيب أنفسهم.
*ذكر من قال ذلك :
10116 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس : " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق " ، يقول : إذا كان
كافرًا في ذمتكم فقتل ، فعلى قاتله الدية مسلمةً إلى أهله ، وتحرير رقبة مؤمنة ،
أو صيام شهرين متتابعين.
10117 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب قال ، سمعت الزهري
يقول : دية الذميّ دية المسلم. قال : وكان يتأول : " وإن
__________
(1) انظر تفسير " الميثاق " فيما سلف ص : 19 ، تعليق1 ، والمراجع هناك.
(9/41)
كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية
مسلمة إلى أهله " .
10118 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن عيسى
بن أبي المغيرة ، عن الشعبي في قوله : " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق
فدية مسلمة إلى أهله " ، قال : من أهل العهد ، وليس بمؤمن.
10119 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن مهدي ، عن هشيم ، عن
مغيرة ، عن إبراهيم : " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق " ، وليس
بمؤمن.
10120 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة "
، بقَتْله ، أي : بالذي أصاب من أهل ذمته وعَهدِه " فمن لم يجد فصيام شهرين
متتابعين توبة من الله " ، الآية .
10121 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وإن
كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله " ، يقول : فأدوا إليهم
الدية بالميثاق. قال : وأهل الذمة يدخلون في هذا " وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم
يجد فصيام شهرين متتابعين " .
* * *
وقال آخرون : بل هو مؤمن ، فعلى قاتله دية يؤدِّيها إلى قومه من المشركين ، لأنهم
أهل ذمة.
*ذكر من قال ذلك :
10122 - حدثني ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " وإن
كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة " ،
قال : هذا الرجل المسلم وقومه مشركون لهم عقدٌ ، فتكون ديته لقومه ، وميراثه
للمسلمين ، ويَعْقِل عنه قومه ، ولهم دِيَته.
(9/42)
10123 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد
قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن جابر بن زيد في
قوله : " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق " ، قال : وهو مؤمن.
10124 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن مهدي ، عن حماد بن سلمة ،
عن يونس ، عن الحسن في قوله : " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق " ،
قال : كلهم مؤمن. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية ، قولُ من قال : عنى بذلك
المقتولَ من أهل العهد. لأن الله أبهم ذلك فقال : " وإن كان من قوم بينكم
وبينهم " ، ولم يقل : " وهو مؤمن " ، كما قال في القتيل من
المؤمنين وأهل الحرب وعنى المقتولَ منهم وهو مؤمن. (2) فكان في تركه وصفه بالإيمان
الذي وصفَ به القتيلين الماضي ذكرهما قبل ، الدليل الواضح على صحة ما قلنا في ذلك.
* * *
فإن ظن ظان أنّ في قوله تبارك وتعالى : " فدية مسلمة إلى أهله " ، دليلا
على أنه من أهل الإيمان ، لأن الدية عنده لا تكون إلا لمؤمن فقد ظن خطأ. وذلك أن
دية الذميّ وأهل الإسلام سواء ، لإجماع جميعهم على أن ديات عبيدهم الكفار وعبيدِ
المؤمنين من أهل الإيمان سواء. فكذلك حكم ديات أحرارهم سواءٌ ، مع أن دياتهم لو
كانت على ما قال من خالفنا في ذلك ، فجعلها على النِّصف من ديات أهل الإيمان أو
على الثلث ، لم يكن في ذلك دليلٌ على أن المعنيّ بقوله : " وإن كان من قوم
بينكم وبينهم ميثاق " ، من أهل الإيمان ، لأن دية المؤمنة لا خلافَ
__________
(1) في المطبوعة : " قال : هو كافر " ، مكان " كلهم مؤمن " ،
والذي في المطبوعة مناقض للترجمة ، والذي أثبته من المخطوطة مخالف أيضا للترجمة
لقوله : " كلهم مؤمن " أي : أنه هو وقومه مؤمنون. إلا أن يكون أراد
بقوله : " كلهم " كل قتيل مر ذكره في الآيات السالفة ، وهذا هو الأرجح
عندي ، ولم يعن بقوله : " كلهم " قوم القتيل.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " أو عن المؤمن منهم وهو مؤمن " ، ولا معنى
له ، والصواب ما أثبت.
(9/43)
بين الجميع إلا من لا يُعدُّ خلافًا
أنها على النصف من دية المؤمن ، وذلك غير مخرجها من أن تكون دية. فكذلك حكم ديات
أهل الذمة ، لو كانت مقصِّرة عن ديات أهل الإيمان ، لم يخرجها ذلك من أن تكون
ديات. فكيف والأمر في ذلك بخلافه ، ودياتهم وديات المؤمنين سواء ؟
* * *
وأما " الميثاق " فإنه العهد والذمة. وقد بينا في غير هذا الموضع أن ذلك
كذلك ، والأصل الذي منه أخذ ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
*ذكر من قال ذلك :
10125 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي في قوله : " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق " ، يقول : عهد.
10126 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
الزهري في قوله : " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق " ، قال : هو
المعاهدة.
10127 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو غسان قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس : " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق " ، عهد.
10128 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة مثله.
* * *
فإن قال قائل : وما صفة الخطأ ، الذي إذا قتل المؤمن المؤمنَ أو المعاهِدَ لزمته
ديتُه والكفارة ؟
__________
(1) انظر تفسير " الميثاق " فيما سلف : ص : 19 ، والتعليق : 1 ، وص : 41
، والتعليق : 1 . والمراجع هناك.
(9/44)
قيل : هو ما قال النَّخَعيّ في ذلك ،
وذلك ما : -
10129 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن
المغيرة ، عن إبراهيم قال : " الخطأ " ، أن يريد الشيء فيصيبَ غيره.
10130 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن
إبراهيم قال : " الخطأ " ، أن يرمي الشيء فيصيب إنسانًا وهو لا يريده ،
فهو خطأ ، وهو على العاقِلة. (1)
* * *
فإن قال : فما الدية الواجبة في ذلك ؟
قيل : أما في قتل المؤمن ، فمائة من الإبل ، إن كان من أهل الإبل ، على عاقلة
قاتله. لا خلاف بين الجميع في ذلك ، وإن كان في مبلغ أسنانها اختلافٌ بين أهل
العلم. فمنهم من يقول : هي أرباع : خمس وعشرون منها حِقّة ، وخمس وعشرون جَذعَةَ ،
وخمس وعشرون بَنات مَخَاض ، وخمس وعشرون بنات لَبُون. (2)
ذكر من قال ذلك.
10131 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن
إبراهيم ، عن علي رضي الله عنه في الخطأ شبه العمد : ثلاثٌ وثلاثون حِقّة ، وثلاث
وثلاثون جَذَعة ، وأربع وثلاثون ثَنِيَّة إلى بازِل عامها. (3) وفي الخطأ : خمس
وعشرون حِقّة ، وخمس وعشرون جَذَعة ، وخمس وعشرون بنات مخاض ، وخمس وعشر بناتِ
لبون.
__________
(1) مضى كثيرًا تفسير " العاقلة " ، وهم العصبة الذين يؤدون الدية عن
القاتل منهم ، من " العقل " ، وهو الدية.
(2) البعير إذا استكمل السنة الثالثة ودخل في الرابعة ، فهو حينئذ " حق
" (بكسر الحاء) ، والأنثى " حقة " . فإذا استوفى السنة الرابعة
ودخل في الخامسة ، فهو حينئذ " جذع " (بفتحتين) والأنثى " جذعة
" . ثم قبل ذلك يكون البعير فصيلا. فإذا استكمل الفصيل الحول ودخل في الثانية
فهو حينئذ " ابن مخاض " ، والأنثى " ابنة مخاض " فإذا استكمل
السنة الثانية وطعن في الثالثة ، فهو حينئذ " ابن لبون " ، والأنثى
" ابنة لبون "
(3) البعير إذا استكمل السنة الخامسة وطعن في السادسة ، فهو حينئذ " ثني
" ، والأنثى " ثنية " . فإذا استكمل السنة الثامنة وطعن في التاسعة
وفطر نابه ، فهو حينئذ " بازل " والأنثى " بازل " بغير هاء.
قال ابن الأعرابي : " ليس قبل الثني اسم يسمى ، ولا بعد البازل اسم "
يسمى " يعني أنه ليس للبعير إذا دخل في السابعة وطعن في الثامنة اسم يسمى به.
وكأن ذلك لأن البازل ربما بزل في السنة الثامنة. وأما " البازل " فهو
أقصى أسنان البعير. ثم يقولون بعد " بازل عام " و " بازل عامين
" ، وكذلك ما زاد.
(9/45)
10132 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا
عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن فراسٍ والشيباني ، عن الشعبي ، عن علي بن أبي
طالب بمثله.
10133 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق
، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي رضي الله عنه بنحوه.
10134 - حدثني واصل بن عبد الأعلى قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث بن سوار ، عن
الشعبي ، عن علي رضي الله عنه أنه قال في قتل الخطأ : الدية مائة أرباعًا ، ثم ذكر
مثله.
* * *
وقال آخرون : هي أخماس : عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بني
لبون ، وعشرون بنات مخاض.
*ذكر من قال ذلك :
10135 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن
أبي مجلز ، عن أبي عبيدة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال : في الخطأ عشرون
حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بني لبون ، وعشرون بنات مخاض. (1)
10136 - حدثني واصل بن عبد الأعلى قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن عامر ، عن
عبد الله بن مسعود في قتل الخطأ : مائة من الإبل أخماسًا :
__________
(1) أنكر اللغويون أن يقال " بنو لبون " جمع " ابن لبون " ،
وقالوا هي : " بنات لبون " للذكر والأنثى ، وهذه الآثار الصحاح دالة على
أنه صحيح في اللغة العربية.
(9/46)
خُمْس جَذَاع ، وخُمْس حِقَاق ، (1)
وخُمْس بنات لبون ، وخمس بنات مَخَاض ، وخمس بنو مخاض.
10137 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا سليمان التيمي ، عن
أبي مجلز ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : الدية أخماس : دية الخطأ : خمس بنات
مخاض ، وخُمْس بنات لبون ، وخُمْس حقِاق ، وخُمْس جِذاع ، وخُمْس بنو مخاض. (2)
* * *
واعتل قائلو هذه المقالة بحديث
10138 - حدثنا به أبو هشام الرفاعي ، (3) قال ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة وأبو خالد
الأحمر ، عن حجاج ، عن زيد بن جبير ، عن الخشف بن مالك ، عن عبد الله بن مسعود :
أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الدية في الخطأ أخماسًا قال : أبو هشام ، قال
ابن أبي زائدة : عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون ابنة لبون ، وعشرون ابنة مخاض ،
وعشرون بني مخاض. (4)
__________
(1) " الحقاق " ، و " الجذاع " جمع " حقة " و
" جذعة " وقد سلف شرحها في التعليقات قريبًا.
(2) وقوله : " بنو مخاض " مما أنكره اللغويون ، لا يقال عندهم في الجمع
إلا " بنات مخاض " ، و " بنات لبون " ومثله " بنات آوى
" ، وهذا الأثر وما بعده دال على صحة قولهم : " بنو مخاض " .
(3) في المطبوعة : " أبو هشام الرباعي " ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة
، وقد مضت ترجمته مرارًا في الأجزاء السالفة.
(4) الأثر : 10138 - " الخشف بن مالك الطائي " ، روى عن أبيه ، وعمر ،
وابن مسعود. روى عنه " زيد بن جبير الجشمي " . قال النسائي : " ثقة
" ، وقال الدارقطني في السنن : " مجهول " . وقال الأزدي : "
ليس بذاك " . مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8 : 75 - 76) من طريقين : طريق سعدان
بن نصر ، عن أبي معاوية محمد بن خازم عن الحجاج ، عن زيد بن جبير ، عن خشف بن مالك
، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية في الخطأ
أخماسا. ولم يزد على هذا.
ثم رواه من طريق أبي داود ، عن مسدد ، عن عبد الواحد ، عن الحجاج ، عن زيد بن جبير
، عن خشف بن مالك ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: في دية الخطأ عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون ابنة مخاض ، وعشرون ابنة لبون ،
وعشرون ابن مخاض ذكر قال أبو داود : هو قول عبد الله - يعني : إنما روي من قول عبد
الله موقوفا غير مرفوع.
ثم نقل البيهقي تعليل هذا الحديث عن أبي الحسن الدارقطني فقال : " لا نعلم
رواه إلا خشف بن مالك ، وهو رجل مجهول ، لم يرو عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل
الجشمي. ولا نعلم أحدًا رواه عن زيد بن جبير إلا حجاج بن أرطاة. والحجاج رجل مشهور
بالتدليس ، وبأنه يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه. قال : ورواه جماعة من الثقات عن
حجاج فاختلفوا عليه فيه " ثم ساق الروايات عن الحجاج ، وأنه جعل في بعضها بني
اللبون مكان الحقاق. ثم ذكر أنهم لم يرووا فيه تفسير الأخماس ، ثم قال : "
فيشبه أن يكون الحجاج ربما كان يفسر الأخماس برأيه بعد فراغه من الحديث ، فيتوهم
السامع أن ذلك في الحديث ، وليس كذلك " .
قال البيهقي : " وكيف ما كان ، فالحجاج بن أرطاة غير محتج به ، وخشف بن مالك
مجهول ، والصحيح أنه موقوف على عبد الله بن مسعود. والصحيح عن عبد الله أنه جعل
أحد أخماسها بني المخاض في الأسانيد التي تقدم ذكرها ، لا كما توهم شيخنا أبو
الحسن الدارقطني رحمنا الله وإياه. وقد اعتذر من رغب عن قول عبد الله رضي الله عنه
في هذا بشيئين : أحدهما ضعف رواية خشف بن مالك عن ابن مسعود بما ذكرنا ، وانقطاع
رواية من رواه عنه موقوفًا " ثم ساق وجوهها وبين انقطاعها.
(9/47)
10139 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا
يحيى ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق ، عن علقمة ، عن عبد الله : أنه قضى بذلك.
* * *
وقال آخرون : هي أرباع ، غير أنها ثلاثون حقة ، وثلاثون بنات لبون ، وعشرون بنت
مخاض ، وعشرون بنو لبون ذكور.
*ذكر من قال ذلك :
10140 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثني محمد بن بكر قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن
عبد ربه ، عن أبي عياض ، عن عثمان وزيد بن ثابت قالا في الخطأ شبه العمد : أربعون
جذعة خَلِفة ، (1) وثلاثون حقة ، وثلاثون بنات مخاض وفي الخطأ ثلاثون حقة ،
وثلاثون جذعة ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرون بنو لبون ذكور.
10141 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن
__________
(1) " الخلفة " (بفتح الخاء وكسر اللام وفتح الفاء) : الناقة الحامل ،
وجمع " خلفة " " مخاض " ، كما قالوا : " امرأة " و
" نسوة " . أما من لفظها فيقال : " خلفات وخلائف " ، وفي
الحديث : " ثلاث آيات يقرؤها أحدكم ، خير له من ثلاث خلفات سمان عظام "
، وفي حديث هدم الكعبة : " لما هدموها ظهر فيها مثل خلائف الإبل " أي :
صخور عظام في أساسها كالنوق الحوامل.
(9/48)
قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن
ثابت : في دية الخطأ : ثلاثون حقة ، وثلاثون بنات لبون ، وعشرون بنات مخاض ،
وعشرون بنو لبون ذكور.
10142 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عثمة قال ، حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة
، عن عبد ربه ، عن أبي عياض ، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال وحدثنا سعيد ، عن
قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت ، مثله. (1)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك : أن الجميع مجمعون أن في الخطأ المحض على
أهل الإبل : مائة من الإبل.
ثم اختلفوا في مبالغ أسنانها ، وأجمعوا على أنه لا يقصَّر بها في الذي وجبت له
الأسنان عن أقل ما ذكرنا من أسنانها التي حدَّها الذين ذكرنا اختلافهم فيها ، وأنه
لا يجاوز بها في الذي وَجبت له عن أعلاها. (2) وإذْ كان ذلك من جميعهم إجماعًا ،
فالواجب أن يكون مجزيًا من لزمته دية قتل خطأ ، أيَّ هذه الأسنان التي
__________
(1) الأثر : 10142 - " أبو عثمة " ، هو " محمد بن خالد بن عثمة
" ، وهو معروف بابن عثمة. وقد سلف مثل ذلك في رقم : 5314 ، ومضت ترجمته في
رقم : 90 ، 91 ، 5483 ، ورقم : 9587. وكان في المطبوعة هنا " ابن عثمة "
وأثبت ما في المخطوطة ، لما مضى في رقم : 5314 ، وانظر التعليق عليه هناك.
و " عبد ربه " هو : عبد ربه بن أبي يزيد. قال علي بن المديني : "
عبد ربه الذي روى عنه قتادة ، مجهول ، لم يرو عنه غير قتادة " . وقال البخاري
في التاريخ : " نسبه همام " . وقال علي : " عرفه ابن عيينة ، قال :
كان يبيع الثياب " . مترجم في التهذيب.
" أبو عياض " هو المدني ، مختلف في اسمه وفي روايته. انظر ترجمته في
التهذيب. وهو يروي عن عبد الله بن مسعود ، ويروي عنه قتادة. ودل هذا الأثر على أنه
يروي أيضًا عن عثمان بن عفان.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وأنه لا يجاوز بها الذي وجب عن أعلاها "
، وهو لا يستقيم ، وجعلتها على سياقة التي قبلها فزدت " في " و "
له " .
(9/49)
اختلف المختلفون فيها ، (1) أدَّاها
إلى من وجبت له. (2) لأن الله تعالى لم يحدَّ ذلك بحدّ لا يجاوز به ولا يقصَّر عنه
ولا رسولُه ، إلا ما ذكرت من إجماعهم فيما أجمعوا عليه ، فإنه ليس للإمام مجاوزة
ذلك في الحكم بتقصير ولا زيادة ، وله التخيير فيما بين ذلك بما رأى الصلاح فيه
للفريقين.
* * *
وإن كانت عاقلة القاتل من أهل الذهب ، فإن لورثة القتيل عليهم عندنا ألف دينار.
وعليه علماء الأمصار.
* * *
وقال بعضهم : ذلك تقويم من عمر رحمة الله عليه ، للإبل على أهل الذهب في عصره.
والواجب أن يقَّوم في كل زمان قيمتها ، إذا عدم الإبلَ عاقلةُ القاتل ، واعتلوا
بما : -
10143 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أيوب بن
موسى ، عن مكحول قال : كانت الدية ترتفع وتنخفض ، فتوفّي رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهي ثمانمئة دينار ، فخشي عمر من بعد ، فجعلها اثني عشر ألف درهم ، وألفَ
دينار. (3)
* * *
وأما الذين أوجبوها في كل زمان على أهل الذهب ذهبًا ألف دينار ، فقالوا : ذلك
فريضة فرضها الله على لسان رسوله ، كما فرض الإبل على أهل الإبل. قالوا : وفي
إجماع علماء الأمصار في كل عصر وزمان ، إلا من شذ عنهم ، على أنها لا تزاد على ألف
دينار ولا تنقص عنها أوضحُ الدليل على أنها الواجبة على أهل الذهب ، وجوبَ الإبل
على أهل الإبل ، لأنها لو كانت قيمة لمائة من الإبل ، لاختلف ذلك بالزيادة
والنقصان لتغير أسعار الإبل.
__________
(1) في المطبوعة : " دية قتل خطأ " وفي المخطوطة : " ديته قتيل خطأ
" ورجحت المخطوطة بعد تصحيح " ديته " إلى " دية " .
(2) السياق : " أي هذه الأسنان أداها إلى من وجبت له " .
(3) انظر السنن الكبرى للبيهقي 8 : 76 - 80.
(9/50)
وهذا القول هو الحق في ذلك ، لما ذكرنا
من إجماع الحجة عليه.
* * *
وأما من الوَرِق على أهل الوَرِق عندنا ، فاثنا عشر ألف درهم ، (1) وقد بينا
العِلل في ذلك في كتابنا(كتابِ لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام).
* * *
وقال آخرون : إنما على أهل الورق من الورِق عشرة آلاف درهم.
وأما دية المعاهد الذي بيننا وبين قومه ميثاقٌ ، فإن أهل العلم اختلفوا في مبلغها.
فقال بعضهم : ديته ودية الحر المسلم سواءٌ.
*ذكر من قال ذلك :
10144 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا بشر بن السري ، عن إبراهيم بن
سعد ، عن الزهري : أن أبا بكر وعثمان رضوان الله عليهما ، كانا يجعلان دية اليهوديّ
والنصرانيّ ، إذا كانا معاهدين ، كدية المسلم.
10145 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا بشر بن السري ، عن الدستوائي
، عن يحيى بن أبي كثير ، عن الحكم بن عيينة : أن ابن مسعود كان يجعل ديةَ أهل
الكتاب ، إذا كانوا أهل ذمّة ، كدية المسلمين.
10146 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن
حماد قال : سألني عبد الحميد عن دية أهل الكتاب ، فأخبرته أنّ إبراهيم قال : إن
ديتهم وديتنا سواء.
10147 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا حماد ، عن إبراهيم
وداود ، عن الشعبي أنهما قالا دية اليهوديّ والنصرانيّ والمجوسيّ مثل دية الحرّ
المسلم.
__________
(1) الورق (بفتح فكسر) و " الورق " (بفتح أو كسر ثم سكون) و "
الرقة " (بكسر ففتح) : هي الدراهم المضروبة.
(9/51)
10148 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ،
حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : كان يقال : دية اليهودي والنصراني
والمجوسيّ كدية المسلم ، إذا كانت له ذمة.
10149 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
وعطاء أنهما قالا دية المعاهِد دية المسلم.
10150 - حدثنا سوار بن عبد الله قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا المسعودي ،
عن حماد ، عن إبراهيم أنه قال : دية المسلم والمعاهد سواء.
10151 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب قال : سمعت الزهري يقول : دية
الذميّ دية المسلم.
10152 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن أشعث ، عن عامر قال : دية
الذمي مثل دية المسلم.
10153 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن
أبي معشر ، عن إبراهيم مثله.
10154 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم مثله.
(1)
10155 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن
عامر : وبلغه أن الحسن كان يقول : " دية المجوسي ثمانمئة ، ودية اليهودي
والنصراني أربعة آلاف " ، فقال : ديتهم واحدة.
10156 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ،
__________
(1) الأثر : 10154 - كان هذا الإسناد في المطبوعة والمخطوطة متصلا بالذي بعده هكذا
: " عن إبراهيم قال حدثنا عبد الحميد بن بيان " ، وهو خطأ ، "
إبراهيم " هو النخعي ، الذي سلف في الآثار السالفة. و " عبد الحميد بن
بيان " هو السكري القناد ، شيخ أبي جعفر. فرجح عندي أن الناسخ جعل مكان
" مثله " ، " قال " فرددتها إلى ما يجب.
(9/52)
عن قيس بن مسلم ، عن الشعبي قال : دية
المعاهد والمسلم في كفّارتهما سواء.
10157 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن
إبراهيم قال : دية المعاهد والمسلم سواء.
* * *
وقال آخرون : بل ديته على النصف من دية المسلم.
*ذكر من قال ذلك :
10158 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عمرو بن
شعيب في دية اليهودي والنصرانيّ ، قال : جعلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصف دية
المسلم ، ودية المجوسي ثمانمئة. فقلت لعمرو بن شعيب : إن الحسن يقول : "
أربعة آلاف " ! قال : كان ذلك قبل الغِلْمة (1) وقال : إنما جعل دية المجوسي
بمنزلة العبد.
10159 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الله الأشجعي ، عن سفيان ، عن أبي الزناد
، عن عمر بن عبد العزيز قال : دية المعاهد على النصف من دية المسلم.
* * *
وقال آخرون : بل ديته على الثلث من دية المسلم.
*ذكر من قال ذلك :
10160 - حدثني واصل بن عبد الأعلى قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن أبي عثمان
قال : وكان قاضيًا لأهل مَرْو قال : جعل عمر رضي الله عنه دية اليهودي والنصراني
أربعة آلافٍ ، أربعة آلافٍ.
10161 - حدثنا عمار بن خالد الواسطي قال ، حدثنا يحيى بن سعيد
__________
(1) كان في المطبوعة : " لعله كان ذلك قبل " حذف " الغلمة " ،
وزاد في أول الكلام " لعله " ، وهو صنيع سيئ. فأثبت ما في المخطوطة كما
هو ، ولم أعرف ما أراد ، فتركته لمن يعلمه.
(9/53)
، عن الأعمش ، عن ثابت ، عن سعيد بن
المسيب قال ، قال عمر : دية النصراني أربعةُ آلاف ، والمجوسي ثمانمئة.
10162 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الصمد قال ، حدثنا شعبة عن ثابت قال
: سمعت سعيد بن المسيب يقول : قال عمر : دية أهل الكتاب أربعة آلاف ، ودية المجوسي
ثمانمئة.
10163 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ثابت ، عن
سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ، فذكر مثله.
10164 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي
المليح : أن رجلا من قومه رمى يهوديًّا أو نصرانيًّا بسهمٍ فقتله ، فرفع ذلك إلى
عمر بن الخطاب ، فأغرمه ديته ، أربعةَ آلاف.
10165 - وبه عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال ، قال عمر : دية اليهوديّ
والنصرانيّ أربعة آلاف ، أربعة آلاف.
10166 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا بعض أصحابنا ، عن
سعيد بن المسيب ، عن عمر مثله.
10167 - قال حدثنا هشيم ، عن ابن أبي ليلى ، عن عطاء ، عن عمر مثله.
10168 - قال حدثنا هشيم قال ، أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار أنه قال :
دية اليهوديّ والنصرانيّ أربعة آلاف ، والمجوسي ثمانمئة.
10169 - حدثنا سوار بن عبد الله قال ، حدثنا خالد بن الحارث قال ، حدثنا عبد الملك
، عن عطاء مثله.
10170 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد قال ، سمعت
الضحاك في قوله : " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " ، الصيام لمن لا
يجد رقبة ، وأما الدية فواجبةٌ لا يبطلها شيء.
* * *
(9/54)
القول في تأويل قوله : { فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ
اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين
" ، فمن لم يجد رقبةً مؤمنة يحرّرها كفارة لخطئه في قتله من قتل من مؤمن أو
معاهد ، لعُسْرته بثمنها " فصيام شهرين متتابعين " ، يقول : فعليه صيام
شهرين متتابعين.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم فيه بنحو ما قلنا.
*ذكر من قال ذلك :
10171 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قول الله : " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " ، قال : من
لم يجد عِتْقًا أو عتاقة ، شك أبو عاصم (1) في قتل مؤمن خطأ ، قال : وأنزلت في
عيّاش بن أبي ربيعة ، قتل مؤمنًا خطأ.
* * *
وقال آخرون : صوم الشهرين عن الدية والرقبة. قالوا : وتأويل الآية : فمن لم يجد
رقبة مؤمنة ، ولا دِية يسلمها إلى أهلها ، فعليه صوم شهرين متتابعين.
*ذكر من قال ذلك :
10172 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن زكريا
، عن الشعبي ، عن مسروق : أنه سئل عن الآية التي في " سورة النساء " :
" فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " : صيام الشهرين عن
__________
(1) " العتاقة " (بفتح العين) مصدر : " عتق العبد يعتق عتقًا
وعتاقًا وعتاقة " . وانظر " العتاقة " ، في التعليق على الأثر
السالف رقم : 9265.
(9/55)
الرقبة وحدَها ، أو عن الدية والرقبة ؟
فقال : من لم يجد ، فهو عن الدية والرقبة.
10173 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن زكريا ، عن عامر ، عن مسروق بنحوه.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، أن الصوم عن الرقبة دون الدية ، لأن دية
الخطأ على عاقلة القاتل ، والكفارة على القاتل ، بإجماع الحجّة على ذلك نقلا عن
نبيها صلى الله عليه وسلم ، (1) فلا يقضي صومُ صائم عما لزم غيرَه في ماله.
* * *
و " المتابعة " صوم الشهرين ، وأن لا يقطعه بإفطار بعض أيامه لغير علة
حائلة بينه وبين صومه. (2)
* * *
ثم قال جل ثناؤه : " توبةً من الله وكان الله عليمًا حكيما " ، يعني :
تجاوزًا من الله لكم إلى التيسير عليكم ، بتخفيفه عنكم ما خفف عنكم من فرض تحرير
الرقبة المؤمنة إذا أعسرتم بها ، بإيجابه عليكم صوم شهرين متتابعين " وكان
الله عليمًا حكيمًا " ، يقول : ولم يزل الله " عليمًا " ، بما يصلح
عباده فيما يكلفهم من فرائضه وغير ذلك " حكيمًا " ، بما يقضي فيهم
ويريد. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " عن نبينا " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " ولا يقطعه " وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر تفسير " التوبة " ، و " كان " ، و " عليم
" و " حكيم " في موادها من فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.
(9/56)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
القول في تأويل قوله تعالى{ وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ومن يقتل مؤمنًا عامدًا قتله ، مريدًا إتلاف
نفسه " فجزاؤه جهنم " ، يقول : فثوابه من قتله إياه (1) " جهنم
" ، يعني : عذاب جهنم " خالدًا فيها " ، يعني : باقيًا فيها (2) و
" الهاء " و " الألف " في قوله : " فيها " من ذكر
" جهنم " " وغضب الله عليه " ، يقول : وغضب الله عليه بقتله
إياه متعمدًا (3) " ولعنه " يقول : وأبعده من رحمته وأخزاه (4) "
وأعد له عذابًا عظيمًا " ، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى ذكره.
* * *
واختلف أهل التأويل في صفة القتل الذي يستحق صاحبُه أن يسمى متعمِّدًا ، بعد إجماع
جميعهم على أنه إذا ضرب رجلٌ رجلا بحدِّ حديد يجرح بحدِّه ، أو يَبْضَع ويقطع ،
(5) فلم يقلع عنه ضربًا به حتى أتلف نفسه ، وهو في حال ضربه إياه به قاصدٌ ضربَه :
أنه عامدٌ قتلَه. ثم اختلفوا فيما عدا ذلك. فقال بعضهم : لا عمدَ إلا ما كان كذلك
على الصفة التي وصفنا.
*ذكر من قال ذلك :
10174 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال :
قال عطاء : " العَمد " ، السلاح أو قال : الحديد قال : وقال سعيد بن
المسيب : هو السلاح.
__________
(1) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف 2 : 27 ، 28 ، 314 / 6 : 576.
(2) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف 6 : 577 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " غضب الله " فيما سلف 1 : 188 ، 189 / 2 : 138 ، 347 /
7 : 116.
(4) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف 2 : 328 ، 329 / 3 : 254 ، 261 / 6
: 577 / 8 : 439 ، 471.
(5) " بضع اللحم يبضعه " : قطعه.
(9/57)
10175 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم
قالا حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : العمد ما كان بحديدة ، وما كان
بدون حديدة ، فهو شبه العمد ، لا قَوَد فيه.
10176 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن المغيرة ،
عن إبراهيم قال : العمد ما كان بحديدة ، وشبه العمد ما كان بَخَشبة. وشبه العمد لا
يكون إلا في النفس. (1)
10178 - حدثني أحمد بن حماد الدولابي قال ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس قال :
من قتل في عصبيّة ، في رمي يكون منهم بحجارة ، أو جلد بالسياط ، أو ضرب بالعصى ،
فهو خطأ ، ديته دية الخطأ. ومن قتل عمدًا فهو قَوَد يَدِه. (2)
10179 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، ومغيرة ، عن الحارث وأصحابه ، في الرجل
يضرب الرجل فيكون مريضًا حتى يموت ، قال : أسأل الشهودَ أنه ضربه ، فلم يزل مريضًا
من ضربته حتى ماتَ ، فإن كان بسلاح فهو قَوَد ، وإن كان بغير ذلك فهو شِبْه العمد.
* * *
وقال آخرون : كلّ ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد ، إذا كان الذي ضرب به
الأغلب منه أنه يقتل. (3)
*ذكر من قال ذلك :
10180 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى
، عن حبان بن أبي جبلة ، عن عبيد بن عمير أنه قال : وأي
__________
(1) سقط من الترقيم رقم : 10177.
(2) في المطبوعة : " قود يديه " ، وأثبت ما في المخطوطة. وقوله : "
قود يده " ، أي قود بما جنت يده.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " إذا كان الذي ضرب الأغلب " ، والسياق
يقتضي إثبات " به " حيث أثبتها.
(9/58)
عمد هو أعمد من أن يضرب رجلا بعصا ، ثم
لا يقلع عنه حتى يموت ؟. (1)
10181 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ،
عن إبراهيم قال : إذا خنقه بحبل حتى يموت ، أو ضربه بخشبة حتى يموت ، فهو القَوَد.
* * *
وعلة من قال : " كل ما عدا الحديد خطأ " ، ما : -
10182 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي عازب ، عن
النعمان بن بشير قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : كل شيء خطأ إلا السيف ،
ولكل خطأ أرْش ؟ (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 10180 - " حبان بن أبي جبلة القرشي ، مولاهم ، المصري. روى عن
عمرو بن العاص ، والعبادلة إلا ابن الزبير ، مضت ترجمته برقم : 2195.
أما " عبد الرحمن بن يحيى " ، فلم أعرف من هو ، وأخشى أن يكون "
صوابه " عبد الرحمن بن أنعم ، وهو : " عبد الرحمن بن زياد بن أنعم بن
ذري بن يحمد الإفريقي " ، وسلفت ترجمته برقم 2195 ، وروايته أيضًا عن "
حبان بن أبي جبلة " .
(2) الحديث : 10182 - سفيان : هو الثوري.
جابر : هو ابن يزيد الجعفي. وهو ضعيف جدًا ، رمي بالكذب ، كما بينا في : 2340. أبو
عازب : رجل كوفي غير معروف. قيل : اسمه " مسلم بن عمرو " ، وقيل :
" مسلم بن أراك " . لم يرو عنه غير جابر الجعفي - هذا - و " الحارث
بن زياد " .
و " الحارث بن زياد " - هذا - : لا يعرف أحدًا ، فإنه هو مجهول. ترجمه
ابن أبي حاتم 1 / 2 / 75. وروى عن أبيه أنه قال : " هو مجهول " . ولم
يترجم له البخاري.
وأما أبو عازب : فقد ترجم له البخاري في الكبير 4 / 1 / 268 ، وابن أبي حاتم 4 / 1
/ 190 - كلاهما في اسم " مسلم بن عمرو " .
وهو - على الرغم من هذا - لا يزال مجهولا ، إذ لم يرو عنه ثقة معروف.
والحديث رواه أحمد في المسند 4 : 272 (حلبي) ، عن وكيع ، بهذا الإسناد. ولكن بلفظ
" لكل شيء خطأ " بزيادة اللام في " كل " .
ثم رواه 4 : 275 (حلبي) ، عن أحمد بن عبد الملك ، عن زهير ، عن جابر - وهو الجعفي
- به ، بلفظ " كل شيء خطأ إلا السيف ، وفي كل خطأ أرش " .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 8 : 42 ، بثلاثة أسانيد ، من طريق جابر الجعفي ثم
رواه بإسناد آخر ، من طريق قيس بن الربيع ، عن أبي حصين ، عن إبراهيم بن بنت
النعمان بن بشير ، عن النعمان. ثم قال : " مدار هذا الحديث على جابر الجعفي ،
وقيس بن الربيع ، ولا يحتج بهما " .
وذكره الزيلعي في نصب الراية 4 : 333 ، من رواية المسند. وأعله بما قاله صاحب
التنقيح : " وعلى كل حال فأبو عازب ليس بمعروف " . ثم نقل تعليله عن
البيهقي في المعرفة بمثل ما أعله به في السنن الكبرى. ولم يعقب عليهما.
(9/59)
وعلة من قال : " حكم كلّ ما قتل
المضروب به من شيء ، حكم السيف ، في أنّ من قتل به قتيلُ عمد " ، ما : -
10183 - حدثنا به ابن بشار قال ، حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا همام ، عن قتادة ،
عن أنس بن مالك : أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاحٍ لها بين حجرين ، فأتى به النبي
صلى الله عليه وسلم فقتله بين حجرين. (1)
* * *
قالوا : فأقاد النبي صلى الله عليه وسلم من قاتل بحجر ، وذلك غير حديدٍ. قالوا :
وكذلك حكم كل من قتل رجلا بشيء الأغلب منه أنه يقتل مثلَ المقتول به ، نظيرُ حكم
اليهوديِّ القاتلِ الجارية بين الحجرين.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، قولُ من قال : كل من ضرب إنسانًا
بشيء الأغلب منه أنه يتلفه ، فلم يقلع عنه حتى أتلف نفسَه به : أنه قاتل عمدٍ ، ما
كان المضروب به من شيء (2) للذي ذكرنا من الخبر عن
__________
(1) الحديث : 10183 - هذا مختصر من حديث صحيح متفق عليه.
رواه البخاري 12 : 174 - 175 ، 187 - 188 ، ومسلم 2 : 27 - كلاهما من طريق همام ،
عن قتادة ، عن أنس.
ورواه البخاري أيضًا 12 : 176 ، 180 ، ومسلم 2 : 26 - 27 ، من أوجه أخر عن أنس.
وذكره المجد بن تيمية في المنتقى : 3915 ، وقال : " رواه الجماعة " -
يعني الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة.
" الأوضاح " جمع وضح (بفتحتين) ، وهو الدرهم الصحيح. ثم اتخذ حلي من
الدراهم الصحاح من الفضة ، فقيل لها " أوضاح " .
(2) قوله : " ما كان المضروب به من شيء " يعني : أي شيء كان المضروب به.
(9/60)
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأما قوله : " فجزاؤه جهنم خالدًا فيها " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في
معناه. فقال بعضهم معناه : فجزاؤه جهنم إن جازاه.
*ذكر من قال ذلك :
10184 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي
مجلز في قوله : " ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم " ، قال : هو
جزاؤه ، وإن شاء تجاوز عنه.
10185 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله قال ، حدثنا
شعبة ، عن يسار ، عن أبي صالح : " ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم
" ، قال : جزاؤه جهنم إن جازاه.
* * *
وقال آخرون : عُنِي بذلك رجل بعينه ، كان أسلم فارتدّ عن إسلامه ، وقتل رجلا
مؤمنًا. قالوا : فمعنى الآية : ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا مستحلا قتلَه ، فجزاؤه
جهنم خالدًا فيها.
*ذكر من قال ذلك :
10186 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
عكرمة : أن رجلا من الأنصار قتل أخا مقيس بن صُبَابة ، فأعطاه النبي صلى الله عليه
وسلم الديةَ فقبلها ، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله قال ابن جريج : وقال غيره : ضرب
النبيّ صلى الله عليه وسلم ديتَه على بني النجار ، ثم بعث مقيسًا ، وبعث معه رجلا
من بني فهر في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم ، فاحتمل مقيسٌ الفِهريَّ (1) وكان
أيِّدًا (2) فضرب به الأرض ،
__________
(1) " مقيس الفهري " ، والأشهر " السهمي " ، وهو واحد ، لأنه
من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر.
(2) " الأيد " على وزن " سيد " الشديد القوي ، من "
الأيد " (بفتح فسكون) وهو القوة.
(9/61)
ورَضخَ رأسه بين حجرين ، ثم ألفى يتغنى
:
ثَأَرْتُ بِهِ فِهْرًا ، وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ... سَرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ
أَرْبَابِ فَارِعِ (1)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أظنّه قد أحدث حدثًا! أما والله لئن كان فعل ، لا
أومِنه في حِلّ ولا حَرَم ولا سلم ولا حرب! فقتل يوم الفتح قال ابن جريج : وفيه
نزلت هذه الآية : " ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا " ، الآية .
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إلا من تاب.
*ذكر من قال ذلك :
10187 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور قال ، حدثني سعيد بن جبير أو
: حدثني الحكم ، عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قوله : " ومن يقتل
مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم " ، قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع
الإسلام ، ثم قتل مؤمنًا متعمدًا ، فجزاؤه جهنم ، ولا توبة
__________
(1) سيرة ابن هشام 3 : 305 ، 306 ، تاريخ الطبري 3 : 66 ، معجم البلدان (فارع) ،
وهو آخر أبيات أربعة هي : شَفَى النَّفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا ...
تُضَرِّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الأَخَادِعِ
وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ ... تُلِمُّ فَتَحْمِينِي
وِطَاءَ الْمَضَاجِعِ
حَلَلْتُ بِهِ وِترِي ، وَأَدْرَكْتُ ثُؤْرَتِي ... وَكُنْتُ إِلَى الأَوْثَانِ
أَوَّلَ راجِعِ
ثَأَرْتُ بِهِ فِهْرًا............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكان في المخطوطة والمطبوعة : " قتلت به فهرًا " ، وليس صوابًا ، إنما
قتل قاتل أخيه هشام بن صبابة ، قالوا : اسمه " أوس " ، لا " فهر
" . أما " فهر " في قوله : " ثأرت به فهرًا " فإنه يعني
أبناء فهر ، وهم رهطه ، أدرك ثأرهم بقتله الأنصاري. وفي مطبوعة تاريخ الطبري
" قهرًا " بالقاف ، والصواب بالفاء. و " فارع " أطم بالمدينة
لبني النجار ، كان لحسان بن ثابت رحمه الله ، ذكره في شعره.
(9/62)
له فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إلا من
نَدم.
* * *
وقال آخرون : ذلك إيجاب من الله الوعيدَ لقاتل المؤمن متعمّدًا ، كائنًا من كان
القاتل ، على ما وصفه في كتابه ، ولم يجعل له توبة من فعله. قالوا : فكل قاتل مؤمن
عمدًا ، فله ما أوعده الله من العذاب والخلود في النار ، ولا توبة له. وقالوا :
نزلت هذه الآية بعد التي في " سورة الفرقان " .
*ذكر من قال ذلك :
10188 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن يحيى الجابر ، عن سالم بن
أبي الجعد قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كُفَّ بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا عبد
الله بن عباس ، ما ترى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا ؟ فقال : " جزاؤه جهنم
خالدًا فيها وغضبَ الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابًا عظيمًا " . قال : أفرأيت
إن تاب وآمن وعمِل صالحًا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلتْه أمه! وأنَّى له التوبة
والهدى ؟ فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيَّكم صلى الله عليه وسلم يقول : ثكلته أمه!
رجل قتل رجلا متعمدًا جاء يوم القيامة آخذًا بيمينه أو بشماله ، تَشْخَبُ أوداجه
دمًا ، في قُبُل عرش الرحمن ، يَلزم قاتلَه بيده الأخرى يقول : سلْ هذا فيم قتلني
؟ ووالذي نفس عبد الله بيده ، لقد أنزلت هذه الآية ، فما نسختها من آية حتى قُبض
نبيّكم صلى الله عليه وسلم ، وما نزل بعدها من برهان. (1)
__________
(1) الأثر : 10188 - " يحيى الجابر " هو " يحيى بن المجبر " ،
وهو : يحيى بن عبد الله بن الحارث المجبر التيمي وثقه أخي السيد أحمد في المسند.
ورواه أحمد في المسند رقم : 2142 بطوله ، وهو حديث صحيح ، من طريق محمد بن جعفر عن
شعبة ، عن يحيى بن المجبر التيمي. ثم رواه برقم : 2683 ، ورواه مختصرًا برقم :
1941 ، 3445 وانظر ابن كثير 2 : 537 - 539.
وقوله : " تشخب أوداجه دما " ، أي تسيل دمًا له صوت في خروجه ، و "
الشخب " ، ما يخرج من تحت يد الحالب عند كل غمزة وعصرة لضرع الشاة ، ويكون
لمخرجه صوت عند الحلب. و " الأوداج " جمع " ودج " (بفتحتين) ،
وهي العروق التي تكتنف الحلقوم ، وما أحاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح.
وقوله : " في قبل عرش الرحمن " ، " قبل " (بضم فسكون) ، أو
(بفتحتين) أو (بضمتين) كل ذلك جائز ، وهو الوجه ، أو ما يستقبلك من شيء ، ويعني به
ما بين يدي العرش حيث يستقبله الناظر.
(9/63)
10189 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبو خالد : عن عمرو بن قيس ، عن يحيى بن الحارث التيمي ، عن سالم بن أبي الجعد ،
عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا
فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا " ،
فقيل له : وإن تاب وآمن وعمل صالحًا! فقال : وأنَّى له التوبة! (1)
10190 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا موسى بن داود قال ، حدثنا همام ، عن يحيى ، عن
رجل ، عن سالم قال : كنت جالسًا مع ابن عباس ، فسأله رجل فقال : أرأيت رجلا قتل
مؤمنًا متعمدًا ، أين منزله ؟ قال : " جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه
وأعدّ له عذابًا عظيمًا " . قال : أفرأيت إن هو تاب وآمن وعمل صالحًا ثم
اهتدى ؟ قال : وأنَّى له الهدى ، ثكلته أمه ؟ والذي نفسي بيده لسمعته يقول يعني
النبيّ صلى الله عليه وسلم يجيء يوم القيامة مُعَلِّقًا رأسه بإحدى يديه ، إما
بيمينه أو بشماله ، آخذًا صاحبه بيده الأخرى ، تشخَبُ أوداجه حِيَال عرش الرحمن ،
يقول : يا رب ، سلْ عبدك هذا عَلام قتلني ؟ فما جاء نبيّ بعد نبيِّكم ، ولا نزل
كتابٌ بعد كتابكم. (2)
__________
(1) الأثر : 10189 - " أبو خالد " الأحمر ، هو سليمان بن حيان الأزدي ،
مضى برقم : 3956 ، ورواية سفيان بن وكيع عنه برقم : 2472.
و " عمرو بن قيس الملائي " ، مضى مرارًا ، وانظر رقم : 3956.
و " يحيى بن الحارث التيمي " هو " يحيى الجابر " ، و "
يحيى بن عبد الله بن الحارث " نسب إلى جده ، ومضى في الأثر السالف.
وهذا الأثر مختصر الذي قبله.
(2) الأثر : 10190 - " موسى بن داود الضبي الطرسوسي " ، من شيوخ أحمد
وعلي بن المديني. ثقة صاحب حديث ، ولي قضاء طرسوس إلى أن مات بها.
و " همام " هو ابن يحيى بن دينار الأزدي ، روى عن عطاء وقتادة وابن
سيرين. روى عن الثوري ، وهو من أقرانه. ثقة.
وهذا الأثر طريق آخر للأثر السالف بمعناه ، وجعل بين يحيى الجابر ، وسالم بن أبي
الجعد " رجلا " ، ويحيى قد سمع سالمًا ، فلا يضر أن يكون سمعه أيضًا من
رجل عن سالم.
(9/64)
10191 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا
قبيصة قال ، حدثنا عمار بن رُزيق ، عن عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن
ابن عباس : بنحوه إلا أنه قال في حديثه : فوالله لقد أنزلت على نبيكم ، ثم ما
نسخها شيء ، ولقد سمعته يقول : ويل لقاتل المؤمن ، يجيء يوم القيامة آخذًا رأسه
بيده ثم ذكر الحديث نحوه. (1)
10192 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد
بن جبير قال : قال لي عبد الرحمن بن أبزى : سئل ابن عباس عن قوله : " ومن
يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم " ، فقال : لم ينسخها شيء. وقال في هذه
الآية : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ) [سورة الفرقان : 68]. قال : نزلت في أهل الشرك.
10193 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن
منصور ، عن سعيد بن جبير قال : أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس عن
هاتين الآيتين ، فذكر نحوه. (2)
10194 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن منصور قال ،
حدثني سعيد بن جبير أو : حُدّثت عن سعيد بن جبير : أن عبد الرحمن بن أبزى أمَره أن
يسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين التي في " النساء " :
__________
(1) الأثر : 10191 - " عمار بن رزيق الضبي " ، أبو الأحوص. روى عن أبي
إسحاق السبيعي والأعمش وعطاء بن السائب ، وغيرهم. قال ابن معين : ثقة. مترجم في
التهذيب. وكان في المطبوعة : " عمان بن زريق " بالنون في " عمار
" وبتقديم الزاي على الراء ، وهو خطأ.
(2) الأثر : 10192 ، 10193 - رواه مسلم (18 : 158) والبخاري (فتح 8 : 380) من طريق
محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، كالإسناد الثاني.
(9/65)
" ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه
جهنم " إلى آخر الآية والتي في " الفرقان " : ( وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ) إلى( وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) ، قال ابن عباس : إذا
دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره ، ثم قتل مؤمنًا متعمدًا ، فلا توبة له.
وأما التي في " الفرقان " ، فإنها لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة :
فقد عدَلنا بالله ، وقتلنا النفس التي حرم الله بغير الحق ، وأتينا الفواحش ، فما
ينفعنا الإسلام! قال فنزلت : ( إِلا مَنْ تَابَ ) الآية (1)
10195 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن المغيرة بن
النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " ومن يقتل مؤمنًا
متعمدًا فجزاؤه جهنم " ، قال : ما نسخها شيء.
10196 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شعبة ، عن المغيرة ،
عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : هي من آخر ما نزلت ، ما نسخها شيء.
10197 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن المغيرة
بن النعمان ، عن سعيد بن جبير قال : اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن ، فدخلت إلى
ابن عباس فسألته فقال : لقد نزلت في آخر ما أنزل من القرآن ، وما نسخها شيء. (2)
10198 - حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم العسقلاني قال : حدثنا شعبة قال ، حدثنا أبو
إياس معاوية بن قرّة قال ، أخبرني شهر بن حوشب قال ،
__________
(1) الأثر : 10194 - رواه البخاري (فتح 8 : 379) ومسلم (18 : 159). رواه البخاري
من طريق سعد بن حفص ، عن شيبان ، عن منصور. ورواه مسلم من طريق هارون بن عبد الله
، عن أبي النضر هاشم بن القاسم الليثي ، عن أبي معاوية شيبان.
وأسقطت المخطوطة : " وأتينا الفواحش " . وليس فيها كلمة " الآية
" في آخر الأثر.
(2) الآثار 10195 - 10197 - هذه الآثار ، رواها البخاري في صحيحه (فتح 8 / 379)
ومسلم (18 : 158). وقد استقصى الحافظ ابن حجر الكلام فيها في الفتح. وكان في
المطبوعة : " لقد نزلت في آخر ما نزل " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/66)
سمعت ابن عباس يقول : نزلت هذه الآية :
" ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم " بعد قوله : ( إِلا مَنْ تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ) ، بسنةٍ.
10199 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا سلم بن قتيبة قال ، حدثنا شعبة ، عن معاوية
بن قرة ، عن ابن عباس قال : " ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم " ،
قال : نزلت بعد( إِلا مَنْ تَابَ ) ، بسنة.
10200 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا شعبة قال
، حدثنا أبو إياس قال ، حدثني من سمع ابن عباس يقول في قاتل المؤمن : نزلت بعد ذلك
بسنة. فقلت لأبي إياس : من أخبرك ؟ فقال : شهر بن حَوْشب.
10201 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن
أبي حصين ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : " ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا
" ، قال : ليس لقاتل توبة ، إلا أن يستغفر الله.
10202 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا " الآية ، قال
عطية : وسئل عنها ابن عباس ، فزعم أنها نزلت بعد الآية التي في " سورة
الفرقان " بثمان سنين ، وهو قوله : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ ) إلى قوله : ( غَفُورًا رَحِيمًا ).
10203 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مطرف عن أبي السفر ، عن
ناجية ، عن ابن عباس قال : هما المبهمتان : الشرك والقتل. (1)
10204 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : أكبر الكبائر الإشراك
__________
(1) يعني بقوله : " المبهمتان " ، يعني : الآيتان اللتان لا مخرج منهما
، كأنها باب مبهم مصمت ، أي : مستغلق لا يفتح ، ولا مأتى له. وذلك أن الشرك والقتل
، جزاؤه التخليد في نار جهنم ، أعاذنا الله منها. ومثله في الحديث : " أربع
مبهمات : النذر والنكاح والطلاق والعتاق " ، وفسرته رواية أخرى : " أربع
مقفلات " ، أي : لا مخرج منها ، كأنها أبواب مبهمة عليها أقفال. وقد مضى
تفسير " المبهم " فيما سلف 8 : 143 ، تعليق : 2 ، بغير هذا المعنى ،
فانظره.
(9/67)
بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ،
لأن الله سبحانه يقول : " فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه
وأعدَّ له عذابًا عظيمًا " .
10205 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن بعض أشياخه
الكوفيين ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن ابن مسعود في قوله : " ومن يقتل مؤمنًا
متعمدًا فجزاؤه جهنم " ، قال : إنها لمحكمة ، وما تزداد إلا شدة.
10206 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثمان بن سعيد قال ، حدثني هياج بن بسطام ، عن
محمد بن عمرو ، عن موسى بن عقبة ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، عن زيد بن
ثابت قال : نزلت " سورة النساء " بعد " سورة الفرقان " بستة
أشهر. (1)
10207 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع بن يزيد قال
، حدثني أبو صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جبير قال ، قال ابن عباس :
يأتي المقتول يوم القيامة آخذًا رأسه بيمينه وأوداجه تشخَب دمًا ، يقول : يا ربِّ
، دمي عند فلان! فيؤخذان فيسندان إلى العرش ، فما أدري ما يقضى بينهما. ثم نزع
بهذه الآية : " ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها "
الآية ، قال ابن عباس : والذي نفسي بيده ، ما نسخها الله جل وعز منذ أنزلها على
نبيَّكم عليه السلام. (2)
10208 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن ابن عيينة ،
__________
(1) الأثر : 10206 - " هياج بن بسطام الهروي " ، مضت ترجمته برقم :
9603.
(2) الأثر : 10207 - " ابن البرقي " ، هو " أحمد بن عبد الله بن
عبد الرحيم البرقي " سلف برقم : 22 وكان في المطبوعة " ابن الرقي "
وهو خطأ.
و " ابن أبي مريم " ، هو " سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم الجمحي
" ، مضى برقم : 22 ، وغيره من المواضع.
وهذا الأثر ساقط من المخطوطة.
(9/68)
عن أبي الزناد قال : سمعت رجلا يحدّث
خارجة بن زيد بن ثابت ، عن زيد بن ثابت قال ، سمعت أباك يقول : نزلت الشديدةُ بعد
الهيِّنة بستة أشهر ، قوله : " ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا " ، إلى آخر
الآية ، بعد قوله : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ) إلى
آخر الآية ، [سورة الفرقان ، 68].
10209 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن
أبي الزناد قال : سمعت رجلا يحدّث خارجة بن زيد قال : سمعت أباك في هذا المكان
بمنَى يقول : نزلت الشديدة بعد الهينة قال : أراه : بستة أشهر ، يعني : " ومن
يقتل مؤمنًا متعمدًا " بعد : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
) [سورة النساء : 48 ، 116].
10210 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم
قال : ما نسخها شيء منذ نزلت ، وليس له توبة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، (1) قول من قال : معناه : ومن يقتل
مؤمنًا متعمدًا ، فجزاؤه إن جزاه جهنم خالدًا فيها ، ولكنه يعفو ويتفضَّل على أهل
الإيمان به وبرسوله ، (2) فلا يجازيهم بالخلود فيها ، ولكنه عز ذكره إما أن يعفو
بفضله فلا يدخله النار ، وإما أن يدخله إيّاها ثم يخرجه منها بفضل رحمته ، لما سلف
من وعده عباده المؤمنين بقوله : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا ) [سورة الزمر : 53].
* * *
فإن ظن ظان أن القاتل إن وجب أن يكون داخلا في هذه الآية ، فقد يجب أن يكون المشرك
داخلا فيه ، لأن الشرك من الذنوب ، فإن الله عز ذكرُه قد أخبر
__________
(1) في المطبوعة : " وأولى القول في ذلك " ، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " يعفو أو يتفضل " ، والصواب من المخطوطة.
(9/69)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
أنه غير غافرٍ الشركَ لأحدٍ بقوله : (
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
يَشَاءُ ) [سورة النساء : 48 ، 116] ، والقتل دون الشرك. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ
السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ
اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يا أيها الذين آمنوا " ، يا
أيها الذين صدَّقوا الله وصدَّقوا رسوله فيما جاءهم به من عند ربهم " إذا
ضربتم في سبيل الله " ، يقول : إذا سرتم مسيرًا لله في جهاد أعدائكم (2)
" فتبينوا " ، يقول : فتأنَّوا في قتل من أشكل عليكم أمره ، فلم تعلموا
حقيقة إسلامه ولا كفره ، (3) ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره ، ولا
تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينًا حرْبًا لكم ولله ولرسوله
" ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السَّلَم " ، (4) يقول : ولا تقولوا لمن
استسلم لكم فلم يقاتلكم ، مظهرًا لكم أنه من أهل ملتكم ودَعوتكم (5) " لست
__________
(1) في المخطوطة : " ولا نقبل دون الشرك " ، وهو خطأ محض ، والصواب ما
في المطبوعة.
(2) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف ص : 17 ، تعليق : 4 ، والمراجع
هناك.
(3) في المخطوطة : " فلما تعلموا " ، وهو خطأ.
(4) كان في المطبوعة هنا ، " السلام " ، كقراءتنا اليوم في مصحفنا ،
والسلام التحية ، وهي إحدى القراءتين ، ولكن تفسير أبي جعفر بعد ، هو تفسير "
السلم " ، وهو الاستسلام والانقياد ، وهي القراءة الأخرى التي اختارها.
فكتابتها هنا " السلام " خطأ. لا يصح به المعنى من تفسيره.
(5) انظر تفسير " السلم " فيما سلف ص : 23 ، 24 ، 29 ومادة " سلم
" من فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.
(9/70)
مؤمنًا " ، فتقتلوه ابتغاء "
عرض الحياة الدنيا " ، يقول : طلبَ متاعِ الحياة الدنيا ، (1) فإن " عند
الله مغانم كثيرة " ، من رزقه وفواضل نِعَمه ، فهي خير لكم إن أطعتم الله
فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فأثابكم بها على طاعتكم إياه ، فالتمسوا ذلك من عنده
" كذلك كنتم من قبل " ، يقول ، كما كان هذا الذي ألقى إليكم السلم فقلتم
له (2) " لست مؤمنًا " فقتلتموه ، كذلك كنتم أنتم من قبل ، يعني : من
قبل إعزاز الله دينه بتُبَّاعه وأنصاره ، تستخفُون بدينكم ، كما استخفى هذا الذي
قتلتموه وأخذتم ماله ، بدينه من قومه أن يُظهره لهم ، حذرًا على نفسه منهم. وقد
قيل إن معنى قوله : " كذلك كنتم من قبل " كنتم كفارًا مثلهم "
فمنَّ الله عليكم " ، يقول : فتفضل الله عليكم بإعزاز دينه بأنصاره وكثرة
تُبَّاعه. وقد قيل ، فمنَّ الله عليكم بالتوبة من قتلكم هذا الذي قتلتموه وأخذتم
ماله بعد ما ألقى إليكم السلم (3) " فتبينوا " ، يقول : فلا تعجلوا بقتل
من أردتم قتلَه ممن التبس عليكم أمرُ إسلامه ، فلعلَّ الله أن يكون قد مَنَّ عليه
من الإسلام بمثل الذي منَّ به عليكم ، وهداه لمثل الذي هداكم له من الإيمان. (4)
" إن الله كان بما تعملون خبيرًا " ، يقول : إن الله كان بقتلكم من
تقتلون ، وكَفِّكم عمن تكفُّون عن قتله من أعداء الله وأعدائكم ، وغير ذلك من
أموركم وأمور غيركم " خبيرًا " ، يعني : ذا خبرة وعلم به ، (5) يحفظه
عليكم وعليهم ، حتى يجازى جميعكم به يوم القيامة جزاءه ، المحسن بإحسانه ،
والمسيءَ بإساءته. (6)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الابتغاء " فيما سلف 8 : 316 تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(2) في المطبوعة : " ألقى إليكم السلام " ، وانظر التعليق السالف ص : 70
، رقم : 4.
(3) في المطبوعة : " ألقى إليكم السلام " ، وانظر التعليق السالف ص : 70
، رقم : 4.
(4) انظر تفسير " من " فيما سلف 7 : 369.
(5) انظر تفسير " خبير " فيما سلف من فهارس اللغة.
(6) في المطبوعة : " جزاء المحسن بإحسانه.. " ، وهو غير مستقيم ،
والصواب من المخطوطة.
(9/71)
وذكر أن هذه الآية نزلت في سبب قتيل
قتلته سريّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما قال : " إنيّ مسلم "
أو بعد ما شهد شهادة الحق أو بعد ما سلَّم عليهم لغنيمة كانت معه ، أو غير ذلك من
ملكه ، فأخذوه منه.
ذكر الرواية والآثار في ذلك : (1)
10211 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن
عمر قال (2) بعث النبي صلى الله عليه وسلم محلِّم بن جثَّامة مَبْعثًا ، فلقيهم
عامر بن الأضبط ، فحياهم بتحية الإسلام ، وكانت بينهم حِنَةٌ في الجاهلية ، (3)
فرماه محلم بسهم ، فقتله. فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فيه
عيينة والأقرع ، فقال الأقرع : يا رسول الله ، سُنَّ اليوم وغيِّر غدًا! (4) فقال
عيينة : لا والله ، حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي (5) فجاء محلِّم في
بُرْدين ، (6) فجلس بين يديْ رسول الله ليستغفر له ، فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم : لا غفر الله لك! فقام وهو يتلقى دموعه ببُرْديه ، فما مضت به سابعة حتى مات
، ودفنوه فلفظته الأرض. فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في المطبوعة : " والآثار بذلك " ، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " عن نافع أن ابن عمر " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " إحنة في الجاهلية " ، وهو صواب ، و " الإحنة
" : الحقد في الصدر. من " أحن " وأما " حنة " كما أثبتها
من المخطوطة ، فهي من " وحن " ، وهي أيضًا الحقد. وقد سلف التعليق على
هذه اللفظة ، حيث وردت في الأثر رقم 2195 ، في الجزء الثالث : 152 ، 153 ، تعليق :
2. وقد ذكرت هناك إنكار الأصمعي " حنة " ، وزعم الأزهري أنها ليست من
كلام العرب. وهذا دليل آخر على صواب هذه الكلمة ، وأن الذي قاله الأزهري ليس بشيء.
(4) في ابن كثير 2 : 546 : " سر اليوم وغر غدا " وهو خطأ محض.
(5) في المخطوطة : " حتى تذوق بكاؤه " وهو تحريف من الناسخ ، والصواب من
السياق ومن تفسير ابن كثير.
(6) في المخطوطة : " في برد " ، والصواب من ابن كثير ، وكما صححه في
المطبوعة من سياق الخبر.
(9/72)
فذكروا ذلك له ، فقال : إن الأرض تقبل
من هو شرٌّ من صاحبكم! ولكن الله جل وعز أراد أن يَعِظكم. ثم طرحوه بين صَدفَيْ
جبل ، (1) وألقوا عليه من الحجارة ، ونزلت : " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم
في سبيل الله فتبينوا " ، الآية (2)
10212 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد ابن عبد
الله بن قسيط ، (3) عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ، عن أبيه عبد
الله بن أبي حدرد قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضَمٍ ، (4) فخرجت
في نَفَرٍ من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن رِبْعيّ ، ومحلِّم بن جَثَّامة بن
قيس الليثي. فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضَم ، مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على
قَعود له ، معه مُتَيِّعٌ له ، ووَطْبٌ من لبن. (5) فلما مر بنا سلَّم علينا بتحية
الإسلام ، فأمسكنا عنه ، وحمل عليه محلِّم بن جثَّامة الليثي لشيء كان بينه وبينه
فقتله ، وأخذ بعيره ومتَيِّعَه. فلما قدِمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فأخبرناه الخبر ، (6) نزل فينا القرآن : " يا أيها الذين آمنوا إذا ضَرِبتم
في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمنًا " ،
الآية (7)
__________
(1) " الصدف " (بفتحتين) : جانب الجبل الذي يقابلك منه. والصدف : كل شيء
مرتفع عظيم كالحائط والجبل.
(2) الأثر : 10211 - في تفسير ابن كثير 2 : 546 ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2
: 200 مختصرًا.
(3) في المطبوعة : " عن يزيد عن عبد الله بن قسيط " ، وهو خطأ ، صوابه
من المخطوطة وسائر المراجع.
(4) " إضم " : واد يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر ، من عند المدينة ، وهو
واد لأشجع وجهينة.
(5) " القعود " : هو البكر من الإبل ، حين يمكن ظهره من الركوب ، وذلك
منذ تكون له سنتان حتى يدخل في السادسة. و " متيع " تصغير " متاع
" : وهو السلعة ، وأثاث البيت ، وما يستمتع به الإنسان من حوائجه أو ماله. و
" الوطب " : سقاء اللبن.
(6) في المطبوعة : " وأخبرناه " بالواو ، وأثبت ما في المخطوطة.
(7) الأثر : 10212 - هذا الأثر رواه ابن إسحاق في سيرته ، سيرة ابن هشام 4 : 275 ،
ورواه أحمد في مسنده 6 : 11 ، وابن سعد في الطبقات 4 / 2 / 22 و2 / 1 / 96 (بغير
إسناد) ، والطبري في تاريخه 3 : 106 ، وابن عبد البر في الاستيعاب : 285 ، وابن
الأثير في أسد الغابة 3 : 77 ، وابن كثير في تفسيره 2 : 545 ، والحافظ ابن حجر في
ترجمة " عبد الله بن أبي حدرد " ، والسيوطي في الدر المنثور 2 : 199 ،
وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، والطبراني ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي نعيم
والبيهقي ، وكلاهما في الدلائل.
وفي إسناد هذا الأثر اضطراب شديد أرجو أن أبلغ في بيانه بعض ما أريد في هذا
المكان.
1 - وإسناد محمد بن إسحاق في سيرة ابن هشام : " حدثني يزيد بن عبد الله بن
قسيط ، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد ، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد "
.
2 - وإسناد أحمد في مسنده : " حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق
(وفي المطبوعة : عن إسحاق ، خطأ صوابه من تفسير ابن كثير) ، حدثني يزيد بن عبد
الله بن قسيط ، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد ، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد
" .
3 - وإسناد الطبري في تاريخه : " حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن
إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد
وقال بعضهم : عن ابن القعقاع عن أبيه ، عن عبد الله بن أبي حدرد " .
4 - وإسناد ابن سعد في الطبقات : " أخبرنا محمد بن عمر قال ، حدثنا عبد الله
بن يزيد بن قسيط ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ، عن
أبيه " .
والأسانيد الثلاثة الأولى ، وإسناد الطبري في التفسير ، جميعها من طريق محمد بن
إسحاق ، وقد اتفق إسناد أحمد وإسناد ابن إسحاق في سيرة ابن هشام.
وأما إسنادا الطبري فقد خالف ما اتفق عليه أحمد وابن هشام في السيرة ، فجاء في
التفسير هنا " عن أبي القعقاع " لا " عن القعقاع " ، ثم زاد
الطبري الأمر إشكالا في التاريخ فقال " عن أبي القعقاع.. عن أبيه ، عن عبد
الله بن أبي حدرد " ، فزاد " عن أبيه " ، ولا ذكر لها في تفسيره ،
ولا في سائر الأسانيد ، والظاهر أنه خطأ ، وأن صوابه كما في التفسير " عن
أبيه عبد الله بن أبي حدرد " .
وأما إسناد ابن سعد ، فقد خالف هذا كله فجعل مكان " القعقاع " ، أو
" أبي القعقاع " ، " عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي حدرد " ،
ولم أجد لعبد الرحمن هذا ذكرًا في كتب تراجم الرجال. وجاء ابن عبد البر في
الاستيعاب 2 : 452 ، بما هو أغرب من هذا ، فسماه " عبد ربه بن أبي حدرد
الأسلمي " ، وليس له ذكر في كتاب. ولكني وجدت في الجرح والتعديل لابن أبي
حاتم 2 / 2 / 228 " عبد الرحمن بن أبي حدرد الأسلمي " ، سمع أبا هريرة.
روى عنه أبو مودود عبد العزيز بن أبي سليمان المديني. ولا أظنه هذا الذي في إسناد
ابن سعد. (انظر أيضًا تهذيب التهذيب 6 : 160).
وأما " القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد " فقد ترجم البخاري في الكبير 4
/ 1 / 187 ، لصحابي هو " القعقاع بن أبي حدرد الأسلمي " وامرأته "
بقيرة " ، وهو كما ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة ، أخو " عبد الله بن
أبي حدرد " ثم عقب البخاري على هذه الترجمة بقوله : " ويقال : القعقاع
بن عبد الله بن أبي حدرد ، ولا يصح " ، يعني أنه هذا الأخير لا تصح له صحبة ،
وأنه غير الأول. وكذلك فعل ابن أبي حاتم 3 / 2 / 136 ، كمثل ما في التاريخ الكبير.
أما الحافظ في تعجيل المنفعة : 344 ، فقد ترجم للقعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد
الأسلمي ووهم في نقله عن البخاري ، فظن البخاري قد ترجم له ، فذكر في ترجمته ما
قال البخاري في ترجمة " القعقاع بن أبي حدرد " ، مع أنه صحح ذلك في
ترجمة " القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد " في القسم الثالث من الإصابة.
أما ما ذكره الطبري من أنه " أبو القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد " أو
" ابن القعقاع " ، فلم أجده في مكان آخر ، ولكني تركت ما كان في نص
إسناده في التفسير " أبو القعقاع " ، مع أنه لا ذكر له في الكتب ولا
ترجمة ، لأنه وافق ما في التاريخ ، ولأن ما رواه من قوله : " ويقال : ابن
القعقاع " ، يستبعد معه كل تحريف أو زيادة من ناسخ أو غيره.
هذا ، وقد جاء في إسناد آخر في التاريخ 3 : 125 عن ابن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة
بن المغيرة بن الأخنس بن شريق ، عن ابن شهاب الزهري ، عن ابن عبد الله بن أبي حدرد
الأسلمي ، " عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد " . فلم يذكر اسمه ، كما ذكر
في الإسناد السالف ، كما سيأتي في الإسناد التالي أيضًا : " عن ابن أبي حدرد
، عن أبيه " .
وهذا اضطراب غريب في إسناده ، أردت أن أجمعه في هذا المكان ، لأني لم أجد أحدًا
استوفى ما فيه ، وعسى أن يتوجه لباحث فيه رأي ، وكتبه محمود محمد شاكر .
(9/73)
10213 - حدثني هارون بن إدريس الأصم قال ، حدثنا المحاربي عبد الرحمن
(9/74)
بن محمد ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد
بن عبد الله بن قسيط ، عن ابن أبي حدرد الأسلمي ، عن أبيه بنحوه. (1)
10214 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس
قال : لحق ناسٌ من المسلمين رجلا في غُنَيْمة له ، فقال : السلام عليكم! فقتلوه
وأخذوا تلك الغُنَيْمة ، فنزلت هذه الآية : " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم
السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا " ، تلك الغُنَيْمة. (2)
10215 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن
عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس بنحوه.
10216 - حدثني سعيد بن الربيع قال ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن
__________
(1) الأثر : 10213 - انظر التعليق على الأثر السالف. " هارون بن إدريس الأصم
" شيخ الطبري ، مضى برقم : 1455.
و " المحاربي " " عبد الرحمن بن محمد بن زياد " مضى برقم :
221 ، 875 ، 1455.
(2) " الغنيمة " تصغير " غنم " ، وهو قطيع من الغنم. وإنما
أدخلت التاء في " غنيمة " ، لأنه أريد بها القطعة من الغنم. وانظر ما
قاله أبو جعفر في دخول هذه التاء فيما سلف 6 : 412 ، 413.
(9/75)
عطاء ، عن ابن عباس قال : لحق المسلمون
رجلا ثم ذكر مثله. (1)
10217 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن إسرائيل ، عن سماك
، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : مرّ رجل من بني سُلَيم على نفرٍ من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلّم وهو في غنم له ، فسلم عليهم ، فقالوا : ما سلّم عليكم
إلا ليتعوذَ منكم! فَعَمَدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه ، فأتوا بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل
الله فتبينوا " إلى آخر الآية .
10218 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة
، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. (2)
10219 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قال : كان الرجل يتكلم بالإسلام ، ويؤمن بالله والرسول ، ويكون
في قومه ، فإذا جاءت سريَّة محمدٍ صلى الله عليه
__________
(1) الأثر : 10216 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.
و " سعيد بن الربيع الرازي " مضى برقم : 3791 ، 5312.
(2) الأثران : 10217 ، 10218 - رواه أحمد في مسنده من طريق يحيى بن أبي بكير ،
وحسين بن محمد ، وخلف بن الوليد ، ويحيى بن آدم ، جميعًا عن إسرائيل. وأرقامه في
المسند : 2023 ، 2462 ، 2988 ، وإسناده صحيح. وقال ابن كثير في تفسيره 2 : 544 :
" ورواه ابن جرير من حديث عبيد الله بن موسى ، وعبد الرحيم بن سليمان كلاهما
عن إسرائيل به. وقال في بعض كتبه غير التفسير : وقد رواه من طريق عبد الرحمن فقط
(هكذا في الأصل). وهذا خبر عندنا صحيح سنده ، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين
سقيما ، لعلل ، منها : أنه لا يعرف له مخرج عن سماك إلا عن هذا الوجه ومنها : أن
عكرمة في روايته عندهم نظر ومنها : أن الذي نزلت فيه هذه الآية عندهم مختلف فيه ،
فقال بعضهم : نزلت في محلم بن جثامة. وقال بعضهم : أسامة بن زيد. وقيل غير ذلك.
قلت [القائل ابن كثير] : وهذا كلام غريب ، وهو مردود من وجوه ، أحدها : أنه ثابت
عن سماك ، حدث به غير واحد من الأئمة الكبار. الثاني : أن عكرمة محتج به في
الصحيح. الثالث : أنه مروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس.. "
وهذا الذي نقله ابن كثير من بعض كتب أبي جعفر ، أرجح ، بل أقطع ، أنه في كتابه
تهذيب الآثار ، وبيانه هذا الذي نقله ابن كثير ، مطابق لنهجه في تهذيب الآثار ،
ونقلت هذا هنا للفائدة ، ولأنه أول نقل رأيته في تفسير ابن كثير عن تهذيب الآثار
فيما أرجح.
(9/76)
وسلم أخبر بها حيّه يعني قومه ففرّوا ،
وأقام الرجل لا يخافُ المؤمنين من أجل أنه على دينهم ، حتى يلقاهم فيلقي إليهم
السلام ، فيقولُ المؤمنون : " لست مؤمنًا " ، وقد ألقى السلام فيقتلونه
، فقال الله تبارك وتعالى : " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله
فتبينوا " ، إلى " تبتغون عرض الحياة الدنيا " ، يعني : تقتلونه
إرادةَ أن يحلَّ لكم ماله الذي وجدتم معه - وذلك عرضُ الحياة الدنيا - فإن عندي
مغانم كثيرة ، فالتمسوا من فضل الله. وهو رجل اسمه " مِرْداس " ، جَلا
قومه هاربين من خيلٍ بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عليها رجل من بني لَيْث
اسمه " قُليب " ، (1) ولم يجلُ معهم ، (2) وإذْ لقيهم مرداس فسلم عليهم
قتلوه ، (3) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله بديته ، ورد إليهم ماله ،
ونهى المؤمنين عن مثل ذلك.
10220 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا " ، الآية ، قال
: وهذا الحديث في شأن مرداس ، رجل من غطفان ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه
وسلم بعث جيشًا عليهم غالب اللَّيثي إلى أهل فَدَك ، وبه ناس من غطفان ، وكان
مرداس منهم ، ففرّ أصحابه ، فقال مرداس : " إني مؤمن وإنيّ غيرُ مُتّبعكم ،
فصبَّحته الخيلُ غُدْوة ، (4) فلما لقوه سلم عليهم مرداس ، فرماه
__________
(1) انظر الاختلاف في اسمه " قليب " بالقاف والباء ، أو فليت "
بالفاء والتاء ، في الإصابة في موضعه.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ولم يجامعهم " وظاهر أنه تحريف من الناسخ
، صوابه ما أثبت.
(3) في المطبوعة : " إذا لقيهم مرداس فسلم عليهم فقتلوه " وأثبت ما في
المخطوطة إلا أني جعلت " وإذا " " وإذ " ، لأن السياق
يقتضيها.
(4) " صبحتهم الخيل (بفتحتين) وصبحتهم (بتشديد الباء) " : أتتهم صباحًا
، وكانت أكثر غاراتهم في الصباح. و " الغدوة " (بضم فسكون) : البكرة ، ما
بين صلاة الغداة (الفجر) وطلوع الشمس.
(9/77)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقتلوه ، (1) وأخذوا ما كان معه من متاع ، فأنزل الله جل وعز في شأنه : " ولا
تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا " ، لأن تحية المسلمين السلام ، بها
يتعارفون ، وبها يُحَيِّي بعضهم بعضًا. (2)
10221 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا
لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة
كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم فتبينوا " ، (3) بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضَمْرة ، فلقوا رجلا منهم يدعى مِرداس
بن نهيك ، معه غُنَيْمة له وجمل أحمر. فلما رآهم أوى إلى كهف جبل ، واتّبعه أسامة.
فلما بلغ مرداسٌ الكهفَ ، وضع فيه غنمه ، ثم أقبل إليهم فقال : " السلام
عليكم ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله " . فشدّ عليه أسامة
فقتله ، من أجل جمله وغُنَيْمته. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة
أحبَّ أن يُثْنَى عليه خيرٌ ، ويسأل عنه أصحابَه. فلما رجعوا لم يسألهم عنه ، فجعل
القوم يحدِّثون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : يا رسول الله ، لو رأيت أسامة
ولقيه رجل ، فقال الرجل : " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " ، فشد
عليه فقتله! وهو معرض عنهم. فلما أكثروا عليه ، رفع رأسه إلى أسامة فقال : كيفَ
أنت ولا إله إلا الله ؟ قال : يا رسول الله ، إنما قالها متعوذًا ، تعوَّذ بها!.
فقال
__________
(1) في المخطوطة : " فدعاه " وهو تحريف ، صواب ما أثبت. وفي المطبوعة :
" فتلقوه " ، وهو رديء ، خير منه ما في الدر المنثور : " فتلقاه
" .
(2) الأثر : 10220 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 200 ، وزاد نسبته إلى عبد
بن حميد.
(3) كان في المطبوعة : " ... عرض الحياة الدنيا ، الآية ، قال : بعث...
" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وإن كان الناسخ قد غفل فأسقط من الآية في كتابته
: " كذلك كنتم من قبل " .
(9/78)
له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هَلا
شققت عن قلبه فنظرت إليه ؟ قال : يا رسول الله ، إنما قلبه بَضْعة من جسده! (1)
فأنزل الله عز وجل خبر هذا ، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه ، فذلك حين يقول
: " تبتغون عرض الحياة الدنيا " ، فلما بلغ : " فمنَّ الله عليكم
" ، يقول : فتاب الله عليكم ، فحلف أسامةُ أن لا يقاتل رجلا يقول : " لا
إله إلا الله " ، بعد ذلك الرجل ، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيه.
10222 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا " ، قال
: بلغني أن رجلا من المسلمين أغار على رجل من المشركين فَحَمَل عليه ، فقال له
المشرك : " إنّي مسلم ، أشهد أن لا إله إلا الله " ، فقتله المسلم بعد
أن قالها. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال للذي قتله : أقتلته ، وقد قال
لا إله إلا الله ؟ فقال ، وهو يعتذر : يا نبي الله ، إنما قالها متعوذًا ، وليس
كذلك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فهلا شققت عن قلبه ؟ ثم ماتَ قاتلُ الرجل
فقُبر ، فلفظته الأرض. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يقبروه ، ثم
لفظته الأرض ، حتى فُعل به ذلك ثلاث مرات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن
الأرض أبتْ أن تقبَله ، فألقوه في غارٍ من الغيران قال معمر : وقال بعضهم : إن
الأرض تَقْبَل من هو شرٌّ منه ، ولكن الله جعله لكم عِبْرَة.
10223 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ،
عن أبي الضحى ، عن مسروق : أن قومًا من المسلمين لقوا رجلا من المشركين في
غُنَيْمة له ، فقال : " السلام عليكم ، إنِّي مؤمن " ، فظنوا أنه يتعوّذ
بذلك ، فقتلوه وأخذوا غُنَيْمته. قال : فأنزل الله جل وعز : " ولا تقولوا لمن
__________
(1) " البضعة " (بفتح فسكون) : القطعة من اللحم.
(9/79)
ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون
عرض الحياة الدنيا " ، تلك الغُنَيْمة " كذلك كنتم من قبل فمن الله
عليكم فتبينوا " .
10224 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن
سعيد بن جبير قوله : " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا
" ، قال : خرج المقداد بن الأسود في سريّة ، بعثه رسول الله صلى الله عليه
وسلم. قال : فمُّروا برجل في غُنَيْمة له ، فقال : " إنّي مسلم " ،
فقتله المقداد. (1) فلما قدموا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية
: " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا
" ، قال : الغنيمة. (2)
10225 - حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : نزل ذلك في رجل قتله
أبو الدرداء
فذكر من قصة أبي الدرداء ، نحو القصة التي ذكرت عن أسامة بن زيد ، وقد ذكرت في
تأويل قوله : " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ " ، (3) ثم قال في
الخبر :
ونزل الفرقان : " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ " ، فقرأ حتى
بلغ : " لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا " ، غنمه التي كانت ، عرض
الحياة الدنيا " فعند الله مغانم كثيرة " ، خير من تلك الغنم ، إلى قوله
: " إن الله كان بما تعملون خبيرًا " .
__________
(1) في المخطوطة : " فقتله الأسود " ، والصواب ما في المطبوعة ، أو أن
تكون : " فقتله ابن الأسود " .
(2) الأثر : 10224 - " حبيب بن أبي عمرة " القصاب ، بياع القصب ، ويقال
" اللحام " ، أبو عبد الله الحماني. روى عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأم
الدرداء. روى عنه الثوري وجماعة. قال ابن سعد : " ثقة قليل الحديث " .
مترجم في التهذيب.
(3) انظر ما سلف رقم : 10221.
(9/80)
10226 - حدثني محمد بن عمرو قال ،
حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولا
تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا " ، قال : راعي غنم ، لقيه نفر من
المؤمنين فقتلوه ، (1) وأخذوا ما معه ، ولم يقبلوا منه : " السلام عليكم ،
فإني مؤمن " .
10227 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا
" ، قال : حرم الله على المؤمنين أن يقولوا لمن شهد أن لا إله إلا الله :
" لست مؤمنًا " ، كما حرم عليهم الميْتَة ، فهو آمن على ماله ودمه ، لا
تردّوا عليه قوله.
* * *
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : " فَتَبَيَّنُوا " .
فقرأ ذلك عامة قرأة المكيين والمدنيين وبعضُ الكوفيين والبصريين : ( فَتَبَيَّنُوا
) بالياء والنون ، من " التبين " بمعنى ، التأني والنظر والكشف عنه حتى
يتَّضح. (2)
وقرأ ذلك عُظْم قرأة الكوفيين : ( فَتَثَبَّتُوا ) ، بمعنى التثبُّت ، الذي هو
خلاف العَجَلة.
قال أبو جعفر : والقولُ عندنا في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة
المسلمين بمعنى واحد ، وإن اختلفت بهما الألفاظ. لأن " المتثبت " متبيّن
، و " المتبيِّن " متثبِّت ، فبأي القراءتين قرأ القارئ ، فمصيبٌ صوابَ
القراءة في ذلك.
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم " .
(3)
__________
(1) في المخطوطة : " بعثه نفر من المؤمنين " ، وهو خطأ ، صوابه ما في
المطبوعة.
(2) انظر تفسير " التبين " فيما سلف ص : 70.
(3) في المطبوعة : " ... السلام " بالألف ، والصواب إثباتها كرسم المصحف
هنا ، حتى يظهر سياق اختلاف القراءة.
(9/81)
فقرأ ذلك عامة قرأة المكيين والمدنيين
والكوفيين : ( السَّلَمَ ) بغير ألف ، بمعنى الاستسلام.
* * *
وقرأ بعض الكوفيين والبصريين : ( السَّلامَ ) بألف ، بمعنى التحية.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : ( لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ
السَّلَمَ ) ، بمعنى : من استسلم لكم ، مذعنًا لله بالتوحيد ، مقرًّا لكم
بملَّتكم.
وإنما اخترنا ذلك ، لاختلاف الرواية في ذلك : فمن راوٍ رَوى أنه استسلم بأن شهد
شهادة الحق وقال : " إنّي مسلم " ومن راوٍ رَوى أنه قال : " السلام
عليكم " ، فحياهم تحية الإسلام ومن راوٍ رَوى أنه كان مسلمًا بإسلامٍ قد تقدم
منه قبل قتلهم إياه وكل هذه المعاني يجمعه " السَّلَم " ، لأن المسلم
مستسلم ، والمحيي بتحية الإسلام مستسلم ، والمتشهد شهادة الحق مستسلم لأهل الإسلام
، فمعنى " السَّلم " جامع جميع المعاني التي رُويت في أمر المقتول الذي
نزلت في شأنه هذه الآية وليس ذلك في " السلام " ، (1) لأن " السلام
" لا وجه له في هذا الموضع إلا التحية. فلذلك وصفنا " السلم " ،
بالصواب.
* * *
قال أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " كذلك كنتم من قبل
" .
فقال بعضهم : معناه : كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السَّلَم ،
مستخفيًا في قومه بدينه خوفًا على نفسه منهم ، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من
قومكم حذرًا على أنفسكم منهم ، فمنَّ الله عليكم.
*ذكر من قال ذلك :
10228 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن
__________
(1) في المطبوعة : " وليس كذلك في الإسلام " ، والصواب الجيد من
المخطوطة.
(9/82)
جريج قال ، أخبرني عبد الله بن كثير ،
عن سعيد بن جبير في قوله : " كذلك كنتم من قبل " ، تستخفون بإيمانكم ،
(1) كما استخفى هذا الراعي بإيمانه.
10229 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن
سعيد بن جبير : " كذلك كنتم من قبل " ، تكتمون إيمانكم في المشركين.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : كما كان هذا الذي قتلتموه ، بعد ما ألقى إليكم السلم ،
(2) كافرًا ، كنتم كفارًا ، فهداه كما هداكم.
*ذكر من قال ذلك :
10230 - حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " كذلك
كنتم من قبل فمن الله عليكم " ، كفارًا مثله " فتبينوا " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذين القولين بتأويل الآية ، القول الأول ، وهو قول من قال :
كذلك كنتم تخفون إيمانكم في قومكم من المشركين وأنتم مقيمون بين أظهرهم ، كما كان
هذا الذي قتلتموه مقيمًا بين أظهر قومه من المشركين مستخفيًا بدينه منهم.
وإنما قلنا : " هذا التأويل أولى بالصواب " ، لأن الله عز ذكره إنما عاتب
الذين قتلوه من أهل الإيمان بعد إلقائه إليهم السلم ولم يُقَدْ به قاتلوه ، (3)
للبْس الذي كان دخل في أمره على قاتليه بمقامه بين أظهر قومه من المشركين ،
وظنِّهم أنه ألقى
__________
(1) في المخطوطة : " مستخفون بإيمانكم " ، وما في المطبوعة أجود.
(2) قوله " كافرًا " ليس في المخطوطة ، والسياق يقتضيها كما في المطبوعة
، وانظر اعتراض أبي جعفر بعد ، فهو يوجب إثبات هذه الكلمة في هذا الموضع.
(3) في المطبوعة في هذا الموضع وما يليه " السلام " مكان " السلم
" ، ولكني أثبت ما في المخطوطة ، لأن تفسير أبي جعفر جار على " السلم
" لا على " السلام " . وقوله : " لم يقد " بالبناء
للمجهول من " القود " (بفتح القاف والواو) وهو القصاص ، وقتل القاتل بدل
القتيل ، يقال منه " أقدته به أقيده إقادة " .
(9/83)
السلم إلى المؤمنين تعوّذًا منهم ، ولم
يعاتبهم على قتلهم إياه مشركًا فيقال : " كما كان كافرًا كنتم كفارًا "
، بل لا وجه لذلك ، لأن الله جل ثناؤه لم يعاتب أحدًا من خلقه على قتل محارِبٍ لله
ولرسوله من أهل الشرك ، بعد إذنه له بقتلِه.
واختلف أيضًا أهل التأويل في تأويل قوله : " فمنّ الله عليكم " .
فقال بعضهم : معنى ذلك : فمنّ الله عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله ، حتى أظهروا
الإسلام بعد ما كانوا يكتتمون به من أهل الشرك. (1)
*ذكر من قال ذلك :
10231 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن
سعيد بن جبير : " فمن الله عليكم " ، فأظهر الإسلام.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن الله عليكم أيها القاتلون الذي ألقى إليكم السلم (2)
طلبَ عرض الحياة الدنيا بالتوبة من قتلكم إياه.
*ذكر من قال ذلك :
10232 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فمن الله عليكم " ، يقول : تاب الله عليكم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، التأويل الذي ذكرته عن سعيد بن
جبير ، لما ذكرنا من الدِّلالة على أن معنى قوله : " كذلك كنتم من قبل "
، ما وصفنا قبل. فالواجب أن يكون عَقِيب ذلك : " فمن الله عليكم " ،
__________
(1) في المطبوعة : " بعد ما كانوا يكتمونه " ، والجيد ما في المخطوطة.
" يكتتمون به " ، يستخفون به.
(2) في المخطوطة : " أيها القاتلو الذي ألقي إليكم السلم " ، وهو لا بأس
به.
(9/84)
فرفع ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم
عنكم ، بإظهار دينه وإعزاز أهله ، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به من توحيده
وعبادته ، حِذَارًا من أهل الشرك. (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " حذرًا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهما سواء.
(9/85)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
القول في تأويل قوله : { لا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير
أولي الضرر والمجاهدون " ، لا يعتدل المتخلِّفون عن الجهاد في سبيل الله من
أهل الإيمان بالله وبرسوله ، المؤثرون الدعةَ والخَفْض وَالقُعودَ في منازلهم على
مُقاساة حُزُونة الأسفار والسير في الأرض ، ومشقة ملاقاة أعداء الله بجهادهم في
ذات الله ، وقتالهم في طاعة الله ، إلا أهل العذر منهم بذَهَاب أبصارهم ، وغير ذلك
من العِلل التي لا سبيل لأهلها - للضَّرَر الذي بهم - إلى قتالهم وجهادهم في سبيل
الله " والمجاهدون في سبيل الله " ، ومنهاج دينه ، (1) لتكون كلمة الله
هي العليا ، المستفرغون طاقَتهم في قتال أعداءِ الله وأعداءِ دينهم بأموالهم ،
إنفاقًا لها فيما أوهَن كيد أعداء أهل الإيمان بالله - وبأنفسهم ، مباشرة بها
قتالهم ، بما تكون به كلمة الله العالية ، وكلمة الذين كفروا السافلة.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " غير أولي الضرر " .
* * *
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة ومكة والشأم( غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ ) ، نصبًا ،
بمعنى : إلا أولي الضرر.
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة والبصرة : (2) ( غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ) برفع
" غير " ،
__________
(1) انظر تفسير " في سبيل الله " فيما سلف ... ، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة : " قرأة أهل العراق والكوفة والبصرة " ، وأثبت ما في
المخطوطة.
(9/85)
على مذهب النّعت " للقاعدين
" .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : ( غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ )
بنصب " غير " ، لأن الأخبار متظاهرة بأن قوله : " غير أولي الضرر
" ، نزل بعد قوله : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل
الله بأموالهم وأنفسهم " ، استثناءً من قوله : " لا يستوي القاعدون من
المؤمنين والمجاهدون " .
* * *
ذكر بعض الأخبار الواردة بذلك :
10233 - حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ، عن أبي
إسحاق ، عن البراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ائتوني بالكتف
والَّلوح ، فكتب (1) " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون " ،
وعمرو بن أم مكتوم خلف ظَهره ، فقال : هل لي من رُخصة يا رسول الله ؟ فنزلت :
" غير أولي الضرر " . (2)
10234 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي
__________
(1) في المطبوعة " فكتب " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الحديث : 10233 - هذا حديث البراء بن عازب ، في شأن نزول قوله تعالى (غير أولي
الضرر) - وقد رواه الطبري هنا بسبعة أسانيد. خمسة منها في نسق : 10233 - 10237 ،
ثم : 10248 ، 10249.
وأبو إسحاق - فيها كلها - : هو أبو إسحاق السبيعي.
فهذا الحديث أولها ، " عن نصر بن علي الجهضمي " - رواه الترمذي 3 : 19 ،
عن نصر بن علي ، بهذا الإسناد.
وكذلك رواه النسائي 2 : 54 ، عن نصر بن علي.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه ، رقم : 40 - بتحقيقنا - عن محمد بن عمر بن يوسف ،
عن نصر بن علي.
وقوله : " فكتب : لا يستوي " - إلخ : يعني أمر بالكتابة. وهذا هو الثابت
في المطبوعة " فكتب " بالفاء. وهو الموافق لما في الترمذي ، والنسائي ،
وابن حبان ، وفي المخطوطة " وكتب " بالواو. فأثبتنا الموافق دون المخالف
، وإن كان المعنى واحدًا.
(9/86)
إسحاق ، عن البراء قال : لما نزلت :
" لا يستوي القاعدون من المؤمنين " ، جاء ابن أم مكتوم وكان أعمى ، فقال
: يا رسول الله ، كيف وأنا أعمى ؟ فما برح حتى نزلت : " غير أولي الضرر
" . (1)
10235 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن
عازب في قوله : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر " ، قال
: لما نزلت ، جاء عمرو ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ضريرَ
البصر ، فقال : يا رسول الله ، ما تأمرني ، فإني ضرير البصر ؟ فأنزل الله هذه
الآية ، فقال : ائتوني بالكتف والدواة ، أو : اللوح والدواة. (2)
10236 - حدثني إسماعيل بن إسرائيل الدلال الرَّملي قال ، حدثنا عبد الله بن محمد
بن المغيرة قال ، حدثنا مسعر ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : أنه لما نزلت : "
لا يستوي القاعدون من المؤمنين " ، كلمه ابن أم مكتوم ، فأنزلت : " غير
أولي الضرر " . (3)
__________
(1) الحديث : 10234 - هو تكرار للحديث قبله ، على ما في سفيان بن وكيع من ضعف.
ولكنه سمع من أبي بكر بن عياش ، أبو بكر سمع من أبي إسحاق السبيعي.
والحديث في ذاته صحيح من هذا الوجه :
فقد رواه النسائي 2 : 54 ، عن محمد بن عبيد ، عن أبي بكر بن عياش ، به.
(2) الحديث : 10235 - سفيان بن وكيع لم ينفرد بروايته عن أبيه عن سفيان الثوري :
فقد رواه أحمد في المسند 4 : 290 ، 299 (حلبي) ، عن وكيع ، عن الثوري - بهذا
الإسناد. وكذلك رواه الترمذي 4 : 90 - 91 ، عن محمود بن غيلان ، عن وكيع ، به. وقال
: " هذا حديث حسن صحيح. ويقال : عمرو بن أم مكتوم. ويقال : عبد الله بن أم
مكتوم. وهو عبد الله بن زائدة. وأم مكتوم : أمه " .
(3) الحديث : 10236 - إسماعيل بن إسرائيل الدلال الرملي ، أبو محمد : ثقة من شيوخ
ابن أبي حاتم ، ترجمه في 1 / 1 / 158 ، وقال : " كتبنا عنه ، وهو صدوق "
. ولكن عنده " السلال " بدل " الدلال " - ولم نجد مرجحًا ،
فأثبتنا ما ثبت هنا في المخطوطة والمطبوعة. ولكن فيه خطأ في المطبوعة : "
محمد بن إسماعيل " بزياة " محمد بن " وليست في المخطوطة ، فحذفناها.
ويؤيد ذلك أن الطبري نفسه روى عنه في التاريخ 2 : 273 ، بهذا الإسناد ، عن البراء
في عدة أصحاب طالوت ، وسماه هناك " إسماعيل بن إسرائيل الرملي " . وحديث
البراء في عدة أصحاب طالوت ، مضى بأسانيد : 5724 - 5729 ، ولكن ليس فيها هذا
الإسناد الذي في التاريخ.
عبد الله بن محمد بن المغيرة الكوفي ، سكن مصر : ترجمه ابن أبي حاتم 2 / 2 / 158 ،
وروى عن أبيه ، قال : " ليس بالقوي " . ولم يذكر أنه يروي عن مسعر ،
ولكن روايته عنه ثابتة في تهذيب الكمال للحافظ المزي ، ص : 1322 (مخطوط مصور) ، في
ترجمة مسعر ، في الرواة عنه ، وكذلك ثبت في ترجمته هو في لسان الميزان 3 : 332 -
333 أنه يروي عن مسعر. وفي ترجمته هذه ما يدل على جرحه جرحًا شديدًا ، يسقط
روايته.
والحديث من رواية مسعر - ثابت صحيح ، من غير رواية عبد الله بن محمد بن المغيرة
هذا. فرواه مسلم 2 : 101 ، عن أبي كريب ، عن ابن بشر ، وهو محمد بن بشر بن
الفرافصة العبدي الحافظ ، عن مسعر ، به.
(9/87)
10237 - حدثنا محمد بن المثنى قال ،
حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، أنه سمع البراء يقول في هذه
الآية : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " ،
قال : فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا فجاء بكتف فكتبها. قال : فشكا إليه
ابن أم مكتوم ضَرَارته ، فنزلت : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي
الضرر " .
قال شعبة ، وأخبرني سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن رجل ، عن زيد في هذه الآية :
" لا يستوي القاعدون " ، مثل حديث البراء. (1)
__________
(1) الحديث : 10237 - إبو إسحاق : هو السبيعي ، كما قلنا آنفًا. ووقع في المطبوعة
" عن ابن إسحاق " ، وهو خطأ يقينًا. وثبت على الصواب في المخطوطة.
والحديث رواه أحمد في المسند 4 : 282 (حلبي) ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، به.
ورواه مسلم 2 : 100 - 101 ، عن محمد بن المثنى (شيخ الطبري هنا) ، وعن محمد بن
بشار - كلاهما عن محمد بن جعفر ، به.
ورواه أبو داود الطيالسي : 705 ، عن شعبة ، به.
ورواه أحمد أيضا 4 : 284 ، عن عفان و299 - 300 ، عن عبد الرحمن (وهو ابن مهدي) -
كلاهما عن شعبة.
ورواه البخاري 6 : 34 (فتح) ، والدارمي 2 : 209 - كلاهما عن أبي الوليد الطيالسي ،
عن شعبة.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه ، رقم : 41 (بتحقيقنا) ، عن أبي خليفة ، عن أبي
الوليد الطيالسي ، به.
ورواه البخاري أيضًا 8 : 196 (فتح) ، عن حفص بن عمر ، عن شعبة.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 9 : 23 ، بإسنادين ، من طريق حفص بن عمر. وهذا
كله عن أصل الحديث ، حديث البراء. وأما الإسناد الآخر الملحق به هنا : " شعبة
، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن رجل ، عن زيد " - وهو ابن ثابت : فإنه في
الحقيقة حديث آخر بإسناد آخر ، فيه رجل مبهم. فيكون إسناده ضعيفًا. وحديث زيد بن
ثابت - في نفسه - صحيح ، وسيأتي : 10239 ، 10240.
وأما من هذا الوجه الضعيف ، فقد رواه مسلم أيضًا ، تبعًا لحديث البراء هذا ، كمثل
صنيع الطبري هنا. وبالضرورة ليس هذا الإسناد على شرط الصحيح عند مسلم. وإنما ساقه
تمامًا للرواية عن شعبة ، كما سمعه.
ومن العجب أن لم يتحدث عنه النووي في شرحه 13 : 42 ، ولم يذكر علته.
ومن عجب أيضًا أن لم يذكره الحافظ المزي في باب (المبهمات) من تهذيب الكمال ، ولا
ذكره أحد من فروعه - مع أنه في صحيح مسلم بروايتين : " عن سعد بن إبراهيم ،
عن رجل ، عن زيد " ، و " عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن رجل ، عن زيد
" .
ثم لما نعرف هذا الرجل المبهم.
وسعد : هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. وأبوه : من كبار التابعين ، فمن
المحتمل جدًا أن يكون شيخه الرجل المبهم هنا صحابيًا. ولكنا لا نستطيع ترجيح ذلك.
(9/88)
10238 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا
إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان الشيباني ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن أرقم قال :
لما نزلت : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله "
، جاء ابن أم مكتوم فقال : يا رسول الله ، ما لي رخصة ؟ قال : لا! قال ابن أم
مكتوم : اللهم إني ضرير فرخِّص! فأنزل الله : " غير أولي الضرر " ، وأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتبها يعني : الكاتب. (1)
__________
(1) الحديث : 10238 - إسحاق بن سليمان الرازي العبدي : مضى توثيقه في : 6456 . أبو
سنان الشيباني : هو الأصغر الكوفي ، واسمه " سعيد بن سنان البرجمي " .
وهو ثقة ، تكلم فيه من أجل بعض خطئه. وقد مضت ترجمته في : 175.
وقد وهم الحافظ في الفتح 8 : 196 وهمًا شديدًا ، حين أشار إلى هذا الحديث من رواية
الطبراني - كما سيأتي - فزعم أنه " ضرار بن مرة " ! وهو أبو سنان
الشيباني الأكبر. والذي يروي عن أبي إسحاق السبيعي ويروي عنه إسحاق بن سليمان
الرازي - هو " أبو سنان الشيباني الأصغر ، سعيد بن سنان " ، كما هو بين
من تهذيب الكمال وفروعه. فلم يذكر الحافظ المزي في ترجمتيهما إلا ما قلنا.
وأبو إسحاق : هو السبيعي ، كما ذكرنا آنفًا. ووقع في المطبوعة " عن ابن إسحاق
" . وهو خطأ ، صوابه ما أثبتنا عن المخطوطة. وهو الثابت في الرواية.
والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج7 ص9 ، وقال : " رواه الطبراني ،
ورجاله ثقات " .
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8 : 196 - كما قلنا آنفًا. وذكر أنه عند الطبراني ،
وعلله بأن " المحفوظ : عن أبي إسحاق عن البراء. كذا اتفق الشيخان عليه من
طريق شعبة ... " ، ثم أشار إلى كثير من الروايات التي ذكرها الطبري هنا وفيما
يأتي.
ولسنا نرى هذا علة لذاك ، ولا ذاك علة لهذا ، فالقصة مشهورة وقد رواها أيضًا زيد
بن ثابت ، كما سيأتي : 10239 ، 10240.
ورواها أيضًا الفلتان بن عاصم الجرمي الصحابي ، مطولة. ذكرها الهيثمي في مجمع
الزوائد ج7 ص9. وقال : " رواه أبو يعلى ، والبزار بنحوه ، والطبراني بنحوه...
ورجال أبي يعلى ثقات " .
وذكره الحافظ في الإصابة 5 : 213 في ترجمة الفلتان ، من رواية الحسن بن سفيان في
مسنده ، ثم ذكر أنه رواه ابن أبي شيبة ، وأبو يعلى ، وابن حبان في صحيحه.
وذكره السيوطي 2 : 203 - 204 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد.
ورواها ابن عباس ، كما سيأتي : 10242.
(9/89)
10239 - حدثني محمد بن عبد الله بن
بزيع ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا بشر بن المفضل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن
الزهري ، عن سهل بن سعد قال : رأيت مروان بن الحكم جالسًا ، فجئت حتى جلست إليه ،
فحدَّثنا عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه : " لا
يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " ، قال : فجاء ابن أم
مكتوم وهو يمليها عليّ ، فقال : يا رسول الله ، لو أستطيع الجهاد لجاهدتُ! قال :
فأنزل عليه وفخذُه على فخذي ، فثقلت ، فظننتُ أن تُرَضَّ فخذي ، ثم سُرِّي عنه ،
فقال : " غير أولي الضرر " . (1)
__________
(1) الحديث : 10239 - رواه النسائي 2 : 54 ، عن محمد بن عبد الله بن بزيع ، أحد
شيخي الطبري هنا - بهذا الإسناد.
ورواه أحمد في المسند 5 : 184 (حلبي) ، عن يعقوب بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن صالح ،
عن الزهري ، به ، ولم يذكر لفظه كاملا ، أحاله على رواية قبيصة بن ذؤيب قبله. وهي
الرواية التي ستأتي هنا عقب هذا.
ورواه البخاري 8 : 195 - 196 (فتح) ، من طريق إبراهيم بن سعد ، عن صالح ، به.
ورواه الترمذي 4 : 92 ، والنسائي 2 : 54 ، وابن الجارود ، ص : 460 - كلهم من طريق
يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه.
ورواه البيهقي 9 : 23 ، من طريق إبراهيم بن سعد.
وذكره السيوطي 2 : 202 - 203 ، وزاد نسبته لابن سعد ، وعبد بن حميد ، وأبي داود ،
وابن المنذر ، وأبي نعيم في الدلائل.
" رض الشيء يرضه رضا " : كسره. و " سُري عنه " (بالبناء
للمجهول) : أي كشف عنه وتجلى ما كان يأخذه من الكرب عند نزول الوحي.
(9/90)
10240 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ،
أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن قبيصة بن ذؤيب ، عن زيد بن
ثابت قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : اكتب : " لا
يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " ، فجاء عبد الله بن أم
مكتوم فقال : يا رسول الله ، إني أحبُّ الجهاد في سبيل الله ، ولكن بي من
الزَّمَانة ما قد ترى ، قد ذهب بصري! قال زيد : فثقلت فخِذ رسول الله صلى الله
عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن يَرُضَّها ، ثم قال : اكتب : " لا يستوي
القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله " . (1)
10241 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن جريج قال ،
أخبرني عبد الكريم : أن مقسمًا مولى عبد الله بن الحارث أخبره : أن ابن عباس أخبره
قال : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين " ، عن بدر ، والخارجون إلى بدر.
(2)
__________
(1) الحديث : 10240 - هو في معنى الحديث السابق عن زيد بن ثابت ، ولكنه من رواية
قبيصة بن ذؤيب عنه.
وقبيصة بن ذؤيب بن حلحلة : تابعي كبير ثقة ، كما مضى في : 5471 وهو مترجم في
التهذيب وغيره ، وفي الإصابة 5 : 271 - 272.
والحديث في تفسير عبد الرزاق ، ص : 48 (مخطوط مصور).
ورواه أحمد في المسند 5 : 184 (حلبي) ، عن عبد الرزاق.
وذكره ابن كثير 2 : 549 ، من تفسير عبد الرزاق ، ثم قال : " رواه ابن أبي
حاتم ، وابن جرير.
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8 : 195 ، ونسبه لأحمد فقط.
(2) الحديث : 10241 - هذا الحديث ليس في تفسير عبد الرزاق ، فلعله في المصنف. ولم
يروه أحمد في المسند ، فيما وصل إليه تتبعي.
وقد رواه البخاري 8 : 196 - 197 ، هكذا مختصرًا ، من طريق هشام ، عن ابن جريج ،
ومن طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج.
وذكره ابن كثير 2 : 549 ، وقال : " انفرد به البخاري دون مسلم " .
وذكره السيوطي 2 : 203 ، وزاد نسبته لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.
وسيأتي عقيب هذا ، بأطول منه.
(9/91)
10242 - حدثنا القاسم قال : حدثنا
الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، أخبرني عبد الكريم : أنه سمع مقسمًا يحدث عن ابن
عباس ، أنه سمعه يقول : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين " عن بدر ،
والخارجون إلى بدر ، لما نزل غزو بدر. (1) قال عبد الله ابن أم مكتوم وأبو أحمد بن
جحش بن قيس الأسدي : يا رسول الله ، إنا أعميان ، فهل لنا رخصة ؟ فنزلت : "
لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم
وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة " . (2)
10243 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل
الله بأموالهم وأنفسهم " ، فسمع بذلك عبد الله بن أم مكتوم الأعمى ، فأتى
رسول
__________
(1) في المطبوعة : " لما نزلت غزوة بدر " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الحديث : 10242 - هذا هو السياق المطول للحديث السابق ، وفيه قصة ابن أم مكتوم
، التي مضت مرارًا من حديث البراء بن عازب ، ومن حديث زيد بن أرقم ، ومن حديث زيد
بن ثابت - مع بعض زيادات أخر في القصة.
والحديث - من هذا الوجه - رواه الترمذي 4 : 91 ، وقال : " هذا حديث حسن غريب
من هذا الوجه من حديث ابن عباس " .
وقد نقله الحافظ في الفتح 8 : 197 ، من رواية الترمذي ، وأشار إلى رواية الطبري
هنا ، كما سيأتي.
ونقله ابن كثير أيضا 2 : 549 - 550 ، عن رواية الترمذي.
ونقله السيوطي 2 : 203 ، وزاد نسبته للنسائي ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه.
ووقع في رواية الترمذي ومن نقل عنه : " وعبد الله بن جحش " . بدل "
وأبو أحمد بن جحش " . وجزم الحافظ في الفتح بأن الصواب ما في رواية الطبري
" وأبو أحمد بن جحش " ، قال : " فإن عبد الله أخوه. وأما هو فاسمه
: " عبد " ، بغير إضافة. وهو مشهور بكنيته " .
و " عبد الله بن جحش " لم يكن أعمى. وقد قتل شهيدًا في غزوة أحد.
وأخوه " أبو أحمد " : مترجم في الإصابة 7 : 3 - 4 ، وابن سعد 7 / 1 / 76
- 77. وجزم الحافظ في الإصابة بأن اسمه " عبد " بدون إضافة ، كما قال في
الفتح. وفي ابن سعد أن اسمه " عبد الله " . وأخشى أن يكون خطأ طابع أو
ناسخ.
وقال الحافظ في الإصابة : " وكان أبو أحمد ضريرًا ، يطوف بمكة أعلاها وأسفلها
بغير قائد ، وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب ، وشهد بدرًا والمشاهد
" .
(9/92)
الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا
رسول الله ، قد أنزل الله في الجهاد ما قد علمت ، وأنا رجل ضرير البصر لا أستطيع
الجهاد ، فهل لي من رخصة عند الله إن قعدت ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ما أمرت في شأنك بشيء ، وما أدري هل يكون لك ولأصحابك من رخصة! فقال ابن أم
مكتوم : اللهم إني أنشدك بصري! فأنزل الله بعد ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم
فقال : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل
الله " إلى قوله : " على القاعدين درجة " .
10244 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد قال :
نزلت : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " ،
فقال رجل أعمى : يا نبي الله ، فأنا أحب الجهادَ ولا أستطيع أن أجاهد! فنزلت :
" غير أولي الضرر " .
10245 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن عبد الله
بن شداد قال : لما نزلت هذه الآية في الجهاد : " لا يستوي القاعدون من
المؤمنين " ، قال عبد الله ابن أم مكتوم : يا رسول الله ، إنّي ضرير كما ترى!
فنزلت : " غير أولي الضرر " . (1)
10246 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر " ، عذرَ الله أهل
العذر من الناس فقال : " غير أولي الضرر " ، كان منهم ابن أم مكتوم
" والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم " .
__________
(1) الحديث : 10245 - حصين : هو ابن عبد الرحمن السلمي.
وهذا الحديث مرسل ، لأن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي : تابعي من كبار
التابعين وثقاتهم. ولكنه لم يذكر عمن رواه. وإن كان أصل الحديث في ذاته صحيحًا ،
بما ثبت في الروايات السابقة. والحديث ذكره السيوطي 2 : 204 - هكذا مرسلا. ونسبه
أيضًا لسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد.
(9/93)
10247 - حدثنا محمد بن الحسين قال ،
حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا يستوي القاعدون من
المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله " إلى قوله : " وكلاًّ
وعد الله الحسنى " ، لما ذكر فضلَ الجهاد ، قال ابن أم مكتوم : يا رسول الله
، إنّي أعمى ولا أطيق الجهاد! فأنزل الله فيه : " غير أولي الضرر " .
10248 - حدثني المثنى قال ، حدثنا محمد بن عبد الله النفيلي قال ، حدثنا زهير بن
معاوية قال ، حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال : ادع لي زيدًا ، وقل له يأتي أو : يجيء بالكتف والدواة أو : اللوح
والدواة الشك من زهير اكتب : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في
سبيل الله " ، فقال ابن أم مكتوم : يا رسول الله ، إن بعيني ضررًا! فنزلت قبل
أن يبرَح : " غير أولي الضرر " . (1)
10249 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال ، حدثنا إسرائيل ،
عن أبي إسحاق ، عن البَرَاء بنحوه إلا أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ادع لي زيدًا ، وليجئني معه بكتف ودواة أو : لوح ودواة. (2)
__________
(1) الحديث : 10248 - هو والذي بعده من روايات حديث البراء ، الذي مضى بالأسانيد :
10233 - 10237 ، كما أشرنا إليهما هناك.
وهو من هذا الوجه - رواه أحمد في المسند 4 : 301 (حلبي) ، عن هاشم بن القاسم ، عن
زهير ، وهو ابن معاوية ، بهذا الإسناد.
(2) الحديث : 10249 - إسرائيل : هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، راوية جده أبي
إسحاق.
والحديث رواه البخاري 8 : 196 ، عن محمد بن يوسف ، عن إسرائيل.
ورواه البخاري أيضًا 9 : 19 (فتح) ، عن عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه ، رقم : 39 (بتحقيقنا) ، من طريق محمد بن عثمان
العجلي ، عن عبيد الله بن موسى.
(9/94)
10250 - حدثني المثنى قال ، حدثنا
إسحاق قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل ، عن زياد بن فياض ، عن أبي عبد
الرحمن قال : لما نزلت : " لا يستوي القاعدون " ، قال عمرو ابن أم مكتوم
: يا رب ، ابتليتني فكيف أصنع ؟ قال : فنزلت : " غير أولي الضرر " . (1)
وكان ابن عباس يقول في معنى : " غير أولي الضرر " نحوًا مما قلنا.
10251 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " غير أولي الضرر " ، قال : أهل الضرر.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم
على القاعدين درجة " ، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، على القاعدين
من أولي الضرر ، درجة واحدة يعني : فضيلة واحدة (2) وذلك بفضل جهاده بنفسه ، فأما
فيما سوى ذلك ، فهما مستويان ، كما : -
__________
(1) الحديث : 10250 - زياد بن فياض الخزاعي الكوفي : مضت ترجمته وتوثيقه في :
1382.
وشيخه " أبو عبد الرحمن " : لم أعرف من هو ، ولم أجد قرينة تعين شيخًا
بعينه ؟ و " أبو عبد الرحمن " : كنيته واسعة فيها كثرة كثيرة.
وأيا ما كان فهو - على الأكثر - من التابعين ، لأن زياد بن فياض لا يرتفع في
روايته فوق التابعين. فيكون الحديث مرسلا غير موصول.
وهكذا ذكره السيوطي 2 : 204 ، على هذا الوجه من الإرسال ، ونسبه لابن سعد ، وعبد
بن حميد ، والطبري.
(2) انظر تفسير " الدرجة " فيما سلف 4 : 533 - 536 / 7 : 368 .
(9/95)
10252 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد
قال ، أخبرنا ابن المبارك : أنه سمع ابن جريج يقول في : " فضَّل الله
المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة " ، قال : على أهل الضرر.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : " وكلاًّ وعد الله الحسنى " ، وعد الله
الكلَّ من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، (1) والقاعدين من أهل الضرر " الحسنى
" ، ويعني جل ثناؤه : بـ " الحسنى " ، الجنة ، كما : -
10253 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
وكلاًّ وعد الله الحسنى " ، وهي الجنة ، والله يؤتي كل ذي فضل فضلَه.
10254 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : " الحسنى " ، الجنة.
وأما قوله : " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا " ، فإنه
يعني : وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر ،
أجرًا عظيمًا ، كما : -
10255 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ،
__________
(1) انظر ما قاله في " كل " فيما سلف 3 : 195 / 5 : 509 / 6 : 210.
(9/96)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
عن أبي جريج : " وفضل الله
المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا درجات منه ومغفرة " ، قال : على
القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر.
* * *
القول في تأويل قوله : { دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : " درجات منه " ، فضائل منه ومنازل من
منازل الكرامة. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " الدرجات " التي قال جل ثناؤه : "
درجات منه " .
فقال بعضهم بما : -
10256 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
درجات منه ومغفرة ورحمة " ، كان يقال : الإسلام درجة ، والهجرة في الإسلام
درجة ، والجهاد في الهجرة درجة ، والقتل في الجهاد دَرَجة.
* * *
وقال آخرون بما : -
10257 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سألت ابن زيد عن قول الله تعالى :
" وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا درجات منه " ، "
الدرجات " هي السبع التي ذكرها في " سورة براءة " : ( مَا كَانَ
لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ ) فقرأ حتى بلغ :
__________
(1) انظر تفسير " الدرجة " فيما سلف 4 : 533 ، 536 / 7 : 368 ، وما مضى
ص : 95 ، تعليق : 2
(9/97)
( أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
[سورة التوبة : 120 - 121]. قال : هذه السبع الدرجات. قال : وكان أول شيء ، فكانت
درجة الجهاد مُجْملة ، فكان الذي جاهد بماله له اسمٌ في هذه ، فلما جاءت هذه
الدرجات بالتفصيل أخرج منها ، فلم يكن له منها إلا النفقة ، فقرأ : ( لا
يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ ) ، وقال : ليس هذا لصاحب النفقة. ثم قرأ : ( وَلا
يُنْفِقُونَ نَفَقَةً ) ، قال : وهذه نفقة القاعد.
* * *
وقال آخرون : عنى بذلك درجات الجنة.
ذكر من قال ذلك.
10258 - حدثنا علي بن الحسن الأزدي قال ، حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن هشام بن
حسان ، عن جبلة بن سحيم. عن ابن محيريز في قوله : " فضل الله المجاهدين على
القاعدين " ، إلى قوله : " درجات " ، قال : الدرجات سبعون درجة ،
ما بين الدرجتين حُضْرُ الفرس الجواد المُضَمَّر سبعين سنة. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بتأويل قوله : " درجات منه " ، أن يكون
معنيًّا به درجات الجنة ، كما قال ابن محيريز. لأن قوله تعالى ذكره : " درجات
منه " : ترجمة وبيان عن قوله : " أجرًا عظيمًا " ، ومعلوم أن
" الأجر " ، إنما هو الثواب والجزاء. (2)
__________
(1) الأثر : 10258 - " علي بن الحسين الأزدي " ، شيخ الطبري ، لم أجد له
ترجمة ، وقد روى عنه في تاريخه في مواضع منها 1 : 44 ، 49 / 6 : 73 ، 143.
و " الأشجعي " ، هو : " عبيد الله بن عبيد الرحمن الأشجعي "
مضت ترجمته برقم : 8622 . و " سفيان " ، هو الثوري.
و " هشام بن حسان القردوسي " مضى برقم 2827 ، 7287.
و " جبلة بن سحيم " مضى برقم : 3003 .
و " ابن محيريز " ، هو عبد الله بن محيريز ، مضى برقم : 8720.
و " حضر الفرس " ارتفاعه في عدوه ، " أحضر الفرس يحضر إحضارًا
" ، عدا عدوًا شديدًا.
و " الفرس المضمر " ، وهو الذي أعد إعدادًا للسباق والركض.
(2) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف 8 : 542 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(9/98)
وإذْ كان ذلك كذلك ، وكانت "
الدرجات " و " المغفرة " و " الرحمة " ترجمة عنه ، كان
معلومًا أن لا وجه لقول من وجَّه معنى قوله : " درجات منه " ، إلى
الأعمال وزيادتها على أعمال القاعدين عن الجهاد ، كما قال قتادة وابن زيد : وإذ
كان ذلك كذلك ، وكان الصحيح من تأويل ذلك ما ذكرنا ، فبيِّنٌ أن معنى الكلام :
وفضل الله المجاهدين في سبيل الله على القاعدين من غير أولي الضرر ، أجرًا عظيمًا
، وثوابًا جزيلا وهو درجات أعطاهموها في الآخرة من درجات الجنة ، رفعهم بها على
القاعدين بما أبلوا في ذات الله.
* * *
" ومغفرة " يقول : وصفح لهم عن ذنوبهم ، فتفضل عليهم بترك عقوبتهم عليها
" ورحمة " ، يقول : ورأفة بهم " وكان الله غفورًا رحيمًا " ،
يقول : ولم يزل الله غفورًا لذنوب عباده المؤمنين ، يصفح لهم عن العقوبة عليها (1)
" رحيما " بهم ، يتفضل عليهم بنعمه ، مع خلافهم أمره ونهيه ، وركوبهم
معاصيه. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فيصفح " بزيادة الفاء ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو
الجيد.
(2) انظر تفسير " المغفرة " ، و " الرحمة " ، و " غفور
" و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/99)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
القول في تأويل قوله : { إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ
كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ
أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا (98)
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا
غَفُورًا (99) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " إن الذين توفَّاهم الملائكة " ،
إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة (1) " ظالمي أنفسهم " ، يعني : مكسبي
أنفسهم غضبَ الله وسخطه.
* * *
وقد بينا معنى " الظلم " فيما مضى قبل. (2)
* * *
" قالوا فيم كنتم " ، يقول : قالت الملائكة لهم : " فيم كنتم
" ، في أيِّ شيء كنتم من دينكم " قالوا كنا مستضعفين في الأرض " ،
يعني : قال الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم : " كنا مستضعفين في الأرض
" ، يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم ،
فيمنعونا من الإيمان بالله ، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، معذرةٌ ضعيفةٌ
وحُجَّة واهية " قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " ، يقول :
فتخرجوا من أرضكم ودوركم ، (3) وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع
رسوله صلى الله عليه وسلم ، إلى الأرض التي
__________
(1) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف 6 : 455 / 8 : 73.
(2) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.
(3) انظر تفسير " الهجرة " فيما سلف 4 : 317 ، 318 / 7 : 490.
(9/100)
يمنعكم أهلها من سلطان أهل الشرك بالله
، فتوحِّدوا الله فيها وتعبدوه ، وتتبعوا نبيَّه ؟ يقول الله جل ثناؤه : "
فأولئك مأواهم جهنم " ، أي : فهؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم الذين توفاهم
الملائكة ظالمي أنفسهم " مأواهم جهنم " ، يقول : مصيرهم في الآخرة جهنم
، وهي مسكنهم (1) " وساءت مصيرًا " ، يعني : وساءت جهنم لأهلها الذين
صاروا إليها (2) " مصيرًا " ومسكنًا ومأوى. (3)
ثم استثنى جل ثناؤه المستضعفين الذين استضعفهم المشركون " من الرجال والنساء
والولدان " ، وهم العجزة عن الهجرة بالعُسْرة ، وقلّة الحيلة ، وسوء البصر
والمعرفة بالطريق من أرضهم أرضِ الشرك إلى أرض الإسلام ، من القوم الذين أخبر جل
ثناؤه أن مأواهم جهنم : أن تكون جهنم مأواهم ، للعذر الذي هم فيه ، على ما بينه
تعالى ذكره. (4)
* * *
ونصب " المستضعفين " على الاستثناء من " الهاء " و "
الميم " اللتين في قوله : " فأولئك مأواهم جهنم " . (5)
* * *
يقول الله جل ثناؤه : " فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم " ، يعني : هؤلاء
المستضعفين ، يقول : لعل الله أن يعفو عنهم ، للعذر الذي هم فيه وهم مؤمنون ،
فيفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة ، (6) إذ لم يتركوها اختيارًا ولا
إيثارًا
__________
(1) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف 7 : 279 ، 494.
(2) انظر تفسير " ساء " فيما سلف 8 : 138 ، 358.
(3) انظر تفسير " المصير " فيما سلف 3 : 56 / 6 : 128 ، 317 / 7 : 366.
(4) سياق هذه الجملة : " ثم استثنى الله المستضعفين ... وهم العجزة عن الهجرة
... من أرضهم ... ، من القوم ... أن تكون جهنم مأواهم " ، كثر فيها تعلق حروف
الجر بما سلف ، فخشيت أن يتعب القارئ!!
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 284. هذا ، وقد خالف أبو جعفر نهجه هذا ، وأخر
الكلام في قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة " إلى آخر تفسير الآية ص :
...
(6) في المطبوعة : " فيتفضل " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/101)
منهم لدار الكفر على دار الإسلام ،
ولكن للعجز الذي هم فيه عن النّقلة عنها (1) " وكان الله عفوًّا غفورًا
" يقول : ولم يزل الله " عفوًّا " يعني : ذا صفح بفضله عن ذنوب
عباده ، بتركه العقوبة عليها " غفورًا " ، ساترًا عليهم ذنوبهم بعفوه
لهم عنها. (2)
* * *
وذكر أن هاتين الآيتين والتي بعدهما ، نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا
وآمنوا بالله وبرسوله ، وتخلَّفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
هاجر ، وعُرِض بعضهم على الفتنة فافْتُتِن ، (3) وشهد مع المشركين حرب المسلمين ،
فأبى الله قبول معذرتهم التي اعتذروا بها ، التي بينها في قوله خبرًا عنهم :
" قالوا كنا مستضعفين في الأرض " .
* * *
ذكر الأخبار الواردة بصحة ما ذكرنا : من نزول الآية في الذين ذكرنا أنها نزلت
فيهم.
10259 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا أشعث ، عن عكرمة
: " إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " ، قال : كان ناس من أهل
مكة أسلموا ، فمن مات منهم بها هلك ، قال الله : " فأولئك مأواهم جهنم وساءت
مصيرًا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان " إلى قوله : "
عفوًّا غفورًا قال ابن عباس : فأنا منهم : وأمّي منهم قال عكرمة : وكان العباس
منهم.
10260 - حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا
محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل
مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم
__________
(1) في المخطوطة : " ولكن العجز " ، والذي في المطبوعة أجود.
(2) انظر تفسير " عفو " و " غفور " في فهارس اللغة من الأجزاء
السالفة.
(3) " الفتنة " ، التعذيب الشديد الذي ابتلي به المؤمنون.
(9/102)
المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ،
فقال المسلمون : " كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ، وأكرهوا " ! فاستغفروا
لهم ، فنزلت : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم
" الآية ، قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية ، لا عذر لهم.
(1) قال : فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة ، فنزلت فيهم : ( وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ ) [سورة
العنكبوت : 10] ، إلى آخر الآية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فحزنوا وأيسوا من كل
خير ، ثم نزلت فيهم : ( إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا
ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) ،
[سورة النحل : 110] ، فكتبوا إليهم بذلك : " إن الله قد جعل لكم مخرجًا
" ، فخرجوا فأدركهم المشركون ، فقاتلوهم حتى نجا من نجا ، وقُتِل من قتل. (2)
10261 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني حيوة أو :
ابن لهيعة ، الشك من يونس ، عن أبي الأسود : أنه سمع مولَى لابن عباس يقول عن ابن
عباس : إن ناسًا مسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سَوَاد المشركين على النبي صلى
الله عليه وسلم ، فيأتي السهم يرمى به ، فيصيب أحدَهم
__________
(1) في المطبوعة : " وأنه لا عذر لهم " ، بزيادة " وأنه " ،
وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مطابق لما في تفسير ابن كثير.
(2) الأثر : 10260 - " أحمد بن منصور بن سيار بن المعارك الرمادي " ،
شيخ الطبري ، ثقة. مترجم في التهذيب.
و " أبو أحمد الزبيري " سلف مرارًا عديدة.
و " محمد بن شريك المكي " أبو عمارة قال أحمد وابن معين : " ثقة
" . مترجم في التهذيب. وهذا الأثر خرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 552 من تفسير
ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن منصور الرمادي ، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 205
، وزاد نسبته لابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه. وهو في السنن الكبرى
9 : 14 ، من طريق سعدان بن نصر ، عن سفيان ، عن عمرو ، عن عكرمة ، بغير هذا اللفظ.
وقوله : " فأعطوهم الفتنة " هكذا جاء في جميع المراجع ، إلا تفسير ابن
كثير ، فإن فيه : " فأعطوهم التقية " ، وهو خطأ ، والصواب ما في التفسير
والمراجع. ومعناها : كفروا بعد إسلامهم. وانظر التعليق على الأثر الآتي رقم :
10266.
(9/103)
فيقتله ، أو يُضرب فيقتل ، فأنزل الله
فيهم : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " حتى بلغ "
فتهاجروا فيها " .
10262 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ
قال ، أخبرنا حيوة قال ، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي قال : قُطع على
أهل المدينة بَعْث إلى اليمن ، فاكتُتِبْتُ فيه ، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس.
فنهاني عن ذلك أشدَّ النهي ، ثم قال : أخبرني ابن عباس أن ناسًا مسلمين كانوا مع
المشركين ثم ذكر مثل حديث يونس ، عن ابن وهب. (1)
10263 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي
__________
(1) الأثران : 10261 ، 10262 - رواه البخاري (الفتح 8 : 197 ، 198) بالإسناد
الثاني : 10262 ، " عن عبد الله بن يزيد المقرئ ، عن حيوة وغيره ، قالا حدثنا
محمد بن عبد الرحمن ، أبو الأسود " . ورواه البيهقي في السنن 9 : 12 من طريق
" محمد بن مسلمة الواسطي ، عن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا حيوة ورجل
قالا ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي " وقال : " رواه
البخاري في الصحيح " .
والظاهر أن الرجل المبهم في إسناد البخاري والبيهقي هو " ابن لهيعة "
كما جاء في الإسناد الأول. هذا وقد نقل الحافظ في الفتح (8 : 198) أن الطبراني قال
: " لم يروه عن أبي الأسود إلا الليث واين لهيعة " ، فقال الحافظ ابن
حجر : " ورواية البخاري من طريق حيوة ، ترد عليه. ورواية ابن لهيعة أخرجها
ابن أبي حاتم أيضًا " .
" أبو عبد الرحمن المقرئ " هو " عبد الله بن يزيد العدوي "
مضى برقم : 318 ، 5451 ، 6743.
و " أبو الأسود " هو : " محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي "
وهو : " يتيم عروة " ، مضى برقم : 2891.
قوله : " قطع على أهل المدينة بعث " ، قال الحافظ ابن حجر : " أي :
جيش ، والمعنى : أنهم ألزموا بإخراج جيش لقتال أهل الشام. وكان ذلك في خلافة عبد
الله بن الزبير على مكة " وأما " اكتتبت " فهي بالبناء للمجهول.
هذا ، وقد كان في المطبوعة بحذف " إلى اليمن " ، وهي ثابتة في المخطوطة
لا شك فيها ، ولكنها غير موجودة في سائر روايات الخبر. وهي دالة على أن الحافظ قد
أخطأ في اجتهاده ، إذ زعم أن الجيش خرج لقتال أهل الشأم. وكأنه استخرج ذلك
استنباطًا ليبرئ عكرمة مما نسب إليه من رأي الخوارج. قال في الفتح (8 : 198) :
" وفي هذه القصة دلالة على براءة عكرمة مما ينسب إليه من رأي الخوارج ، لأنه
بالغ في النهي عن قتال المسلمين وتكفير سواد من يقاتلهم " . وهذا موضع يحتاج
إلى فضل تحقيق. كتبه محمود محمد شاكر.
(9/104)
قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن
عباس قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " ، هم قوم
تخلَّفوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتركوا أن يخرجوا معه ، فمن مات منهم قبل
أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ضربت الملائكة وجهه ودُبُره.
10264 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
عكرمة قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم "
، إلى قوله : " وساءت مصيرًا " ، قال : نزلت في قيس بن الفاكه بن
المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبي العاص بن
مُنبّه بن الحجاج وعلي بن أمية بن خلف. (1) قال : لما خرج المشركون من قريش
وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعِيرِ قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه ، وأنْ يطلبوا ما نِيل منهم يوم نَخْلة ، (2) خرجوا معهم شباب كارهين ،
(3)
__________
(1) هكذا جاءت أسماؤهم في المخطوطة والمطبوعة ، والدر المنثور 2 : 295 ، واتفاقهم
جميعًا جعلني أتحرج في إثبات ما أعرفه صوابًا. وهؤلاء الذين قتلوا ببدر معروفة
أسماؤهم في السير ، وهذا صوابها من سيرة ابن هشام 2 : 295 ، وإمتاع الأسماع 1 :
20.
" أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة "
" أبو قيس بن الوليد بن المغيرة "
" العاص بن منبِّه بن الحجاج "
وأكبر ظني أن هذا خطأ من النساخ ، لا خطأ في الرواية ، وانظر الأثر الآتي رقم
10266.
(2) " يوم نخلة " ، يعني سرية عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي إلى بطن
نخلة بين مكة والطائف ، سار إليها عبد الله وأصحابه حتى نزل نخلة ، فمرت به عير
لقريش ، فيها عمرو بن الحضرمي ، فقتلوا عمرًا ، واستأسر من استأسر من المشركين.
فأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين ، حتى قدموا على رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة. فلما قدموا عليه قال : " ما أمرتكم بقتال في الشهر
الحرام " . انظر سيرة ابن هشام 2 : 252 - 256 ، وإمتاع الأسماع 1 : 55 - 58.
(3) في المطبوعة ، والدر المنثور 2 : 205 ، 206 : " بشبان كارهين " ،
وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض.
(9/105)
كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير
موعد ، فقتلوا ببدر كفارًا ، ورجعوا عن الإسلام ، وهم هؤلاء الذين سميناهم قال ابن
جريج ، وقال مجاهد : نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم بدر من الضعفاء من كفار قريش قال
ابن جريج ، وقال عكرمة : لما نزل القرآن في هؤلاء النفر إلى قوله : " وساءت
مصيرًا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان " ، قال : يعني الشيخَ
الكبيرَ والعجوزَ والجواري الصغار والغلمان.
10265 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " إلى قوله : "
وساءت مصيرًا " ، قال : لما أسر العباس وعقيل ونَوْفل ، (1) قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم للعباس : افد نفسك وابني أخيك. (2) قال : يا رسول الله ، ألم
نصَلِّ قبلتك ونشهد شهادتك ؟ قال : يا عباس ، إنكم خاصمتم فَخُصِمتم! (3) ثم تلا
هذه الآية : " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم
وساءت مصيرًا " ، فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر ، فهو كافر حتى
يهاجر ، إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا حيلةً في المال ،
و " السبيل " الطريق. قال ابن عباس : كنت أنا منهم ، من الوِلدان.
10266 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن
عمرو بن دينار قال : سمعت عكرمة يقول : كان ناس بمكة قد شهدوا أن لا إله إلا الله
، فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم معهم ، فقتلوا ، فنزلت فيهم : " إن
الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " إلى قوله : " أولئك عسى الله أن
يعفو عنهم وكان الله عفوًّا غفورًا " ، فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة
__________
(1) يعني : العباس بن عبد المطلب ، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابني أخويه
: عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب ، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب.
(2) كان في المطبوعة والمخطوطة : " وابن أخيك " بالإفراد ، وكأن الصواب
بالتثنية كما أثبتها ، وإفراد " أخيك " مع أنهما ابني أخويه أبي طالب
والحارث ، صواب أيضًا.
(3) " خصم " بالبناء للمجهول : أي غلب في الخصام ، وهو الجدال
والاحتجاج.
(9/106)
إلى المسلمين الذين بمكة. قال : فخرج
ناسٌ من المسلمين ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق طلبهم المشركون ، فأدركوهم ، فمنهم
من أعطى الفتنة ، (1) فأنزل الله فيهم : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ
اللَّهِ ) [سورة العنكبوت : 10] ، فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين
بمكة ، وأنزل الله في أولئك الذين أعطوا الفتنة : ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا ) إلى( غَفُورٌ
رَحِيمٌ ) [سورة النحل : 110] (2)
قال ابن عيينة : أخبرني محمد بن إسحاق في قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة
" ، قال : هم خمسة فتية من قريش : علي بن أمية ، وأبو قيس بن الفاكه ، وزمعة
ابن الأسود ، وأبو العاص بن منبه ، ونسيت الخامس. (3)
10267 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " الآية ، حُدِّثنا أن هذه
الآية أنزلت في أناس تكلّموا بالإسلام من أهل مكة ، فخرجوا مع عدوِّ الله أبي جهل
، فقتلوا يوم بدر ، فاعتذروا بغير عذر ، فأبى الله أن يقبلَ منهم. وقوله : "
إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا
" ، أناسٌ من أهل مكة عذَرهم الله فاستثناهم ، فقال : " أولئك عسى الله
أن يعفو عنهم وكان الله عفوًّا غفورًا " قال : وكان ابن عباس يقول : كنتُ أنا
وأمي من الذين
__________
(1) " أعطوا الفتنة " ، أي : كفروا بعد إسلامهم. وانظر التعليق على
الأثر السالف رقم : 10260.
(2) انظر الأثر السالف رقم : 10260.
(3) انظر الأثر السالف رقم : 10264 ، وجاء هنا " أبو قيس بن الفاكه " ،
على الصواب ، وانظر التعليق على الأثر السالف. ولكن جاء أيضًا هنا : " أبو
العاص بن منبه " ، والصواب : " العاص بن منبه " كما أسلفت في
التعليق على الأثر السالف. وأما خامسهم في رواية ابن إسحاق ، فهو أبو قيس بن
الوليد كما سلف. وخبر ابن إسحاق هو في سيرة ابن هشام 2 : 294 ، 295.
(9/107)
لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
10268 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم
" الآية ، قال : هم أناس من المنافقين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فلم يخرجوا معه إلى المدينة ، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر ، فأصيبوا
يومئذ فيمن أصيب ، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
10269 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سألته يعني ابن زيد عن قول الله :
" إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " فقرأ حتى بلغ : " إلا
المستضعفين من الرجال والنساء والولدان " ، فقال : لما بعث النبي صلى الله
عليه وسلم وظَهر ، ونَبَعَ الإيمان ، نَبَع النّفاق معه. (1) فأتَى إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم رجال فقالوا : يا رسول الله ، لولا أنّا نخاف هؤلاء القوم
يُعَذبوننا ، ويفعلون ويفعلون ، لأسلمنا ، ولكنّا نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك
رسول الله. فكانوا يقولون ذلك له. فلما كان يوم بدر ، قام المشركون فقالوا : لا
يتخلَّفُ عنا أحد إلا هَدَمنا داره واستبحنا ماله! فخرج أولئك الذين كانوا يقولون
ذلك القول للنبيّ صلى الله عليه وسلم معهم ، فقتلت طائفة منهم وأُسرت طائفة. قال :
فأما الذين قتلوا ، فهم الذين قال الله فيهم : " إن الذين توفاهم الملائكة
ظالمي أنفسهم " ، الآية كلها " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها
" ، وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم " أولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا
" . قال : ثم عذَر الله أهلَ الصدق فقال : " إلا المستضعفين من الرجال
والنساء والولدانِ لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلا " ، يتوجَّهون له ، لو
خرجوا لهلكوا " فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم " ، إقامَتهم بين ظَهْري
المشركين. وقال الذين أسروا : يا رسول الله ، إنك
__________
(1) " نبع " ، من قوله : " نبع الماء " ، إذا جرى وتفجر من
بطن الأرض.
(9/108)
تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله
إلا الله وأنك رسول الله ، وأن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفًا! فقال الله : ( يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إِنْ يَعْلَمِ
اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) ، صنيعكم الذي صنعتم بخروجكم مع المشركين على النبي صلى الله عليه
وسلم( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ ) خرجوا
مع المشركين( فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [سورة الأنفال : 70
، 71].
10270 - حدثني محمد بن خالد بن خداش قال ، حدثني أبي ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ،
عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن ابن عباس أنه قال : كنت أنا وأمي ممن عَذَر الله :
" إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون
سبيلا " . (1)
10271 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن عطاء بن السائب ،
عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " إلا المستضعفين من الرجال والنساء
والولدان " ، قال ابن عباس : أنا من المستضعفين.
10272 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم " ، قال : من
قتل من ضُعفاء كفار قريش يوم بدر.
__________
(1) الأثر : 10270 - " محمد بن خالد بن خداش بن عجلان المهلبي " . روى
عن أبيه ، قالوا : " وربما أغرب عن أبيه " ، ذكره ابن حبان في الثقات.
مترجم في التهذيب. وقد مضى ذكره في رقم : 2378.
وأبوه : " خالد بن خداش بن عجلان المهلبي " . روى عن حماد بن زيد. وهو
صدوق. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 8 : 192) من طريق سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد
، ثم من طريق أبي النعمان ، عن حماد بن زيد (الفتح 8 : 198) ، والبيهقي في السنن 9
: 13.
(9/109)
10273 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو
حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه.
10274 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن
عبيد الله بن أبي يزيد قال : سمعت ابن عباس يقول : كنت أنا وأمي من المستضعفين من
النساء والولدان. (1)
10275 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد ، عن عبد
الله - أو : إبراهيم بن عبد الله القرشي - عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر : " اللهم خَلّص الوليد ، وسلمة بن
هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين ، الذين لا يستطيعون
حيلة ولا يهتدون سبيلا " . (2)
10276 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قوله : " لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " ، قال :
مؤمنون مستضعفون بمكة ، فقال فيهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) الأثر : 10274 - " عبيد الله بن أبي يزيد المكي " ، سلف برقم : 20 ،
3778 وكان في المطبوعة والمخطوطة " عبد الله " ، وهو خطأ لا شك فيه.
والأثر رواه البخاري (الفتح 8 : 192) من طريق عبد الله بن محمد عن سفيان بن عيينة ،
عن عبيد الله بن أبي يزيد. والبيهقي في السنن 9 : 13.
(2) الأثر : 10275 - " علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة التيمي " .
روى عن أنس وسعيد بن المسيب وغيرهم. روى عنه الحمادان والسفيانان وغيرهم. كان كثير
الحديث ، وفيه ضعف ، ولا يحتج به. وقال أحمد : " ليس بشيء " . مترجم في
التهذيب.
و " عبد الله " هو " عبد الله بن إبراهيم بن قارظ الكناني "
حليف بني زهرة ، ويقال هو " إبراهيم بن عبد الله بن قارظ " ، يروي عن
أبي هريرة ، مترجم في التهذيب. وذكر الاختلاف في اسمه. وكان في المطبوعة والمخطوطة
: " عبيد الله " وهو خطأ. وفي تفسير ابن كثير " عبد الله القرشي
" ، ولم يذكر الاختلاف ، مع أنه رواه عن ابن جرير.
وهذا الحديث ضعيف ، ولكن قال ابن كثير في تفسيره 2 : 554 : " ولهذا الحديث
شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه " ، يعني ما رواه البخاري (الفتح 8 : 198).
(9/110)
هم بمنزلة هؤلاء الذين قتلوا ببدر
ضعفاء مع كفار قريش. فأنزل الله فيهم : " لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا
" ، الآية.
10277 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد نحوه.
* * *
وأما قوله : " لا يستطيعون حيلة " ، فإن معناه كما : -
10278 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن
عمرو ، عن عكرمة في قوله : " لا يستطيعون حيلة " ، قال : نهوضًا إلى
المدينة " ولا يهتدون سبيلا " ، طريقًا إلى المدينة.
10279 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " ولا يهتدون سبيلا " ، طريقًا إلى المدينة.
10280 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
10281 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " الحيلة " ، المال و " السبيل " ، الطريق إلى
المدينة. (1)
* * *
وأما قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة " ، ففيه وجهان : (2)
أحدهما : أن يكون " توفاهم " في موضع نصب ، بمعنى المضيِّ ، لأن "
فعل " منصوبة في كل حال. (3)
__________
(1) انظر تفسير " السبيل " فيما سلف 1 : 497 ، وسائر فهارس اللغة في
الأجزاء السابقة ، مادة (سبل).
(2) أخر الطبري على غير عادته هذا الفصل من كلامه عن موضعه ، كما أسلفت في موضع
آخر.
(3) يعني بقوله " النصب " ، الفتح. أي : أنه مبني على الفتح لأنه فعل
ماض. وقوله : " فعل " أي الفعل الماضي.
(9/111)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
والآخر : أن يكون في موضع رفع بمعنى
الاستقبال ، يراد به : إن الذين تتوفاهم الملائكة ، فتكون إحدى " التاءين
" من " توفاهم " محذوفةً وهي مرادة في الكلمة ، لأن العرب تفعل ذلك
، إذا اجتمعت تاءان في أول الكلمة ، ربما حذفت إحداهما وأثبتت الأخرى ، وربما أثبتتهما
جميعًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ
مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ومن يهاجر في سبيل الله " ، ومن
يُفارق أرضَ الشرك وأهلَها هربًا بدينه منها ومنهم ، إلى أرض الإسلام وأهلها
المؤمنين (2) " في سبيل الله " ، يعني : في منهاج دين الله وطريقه الذي
شرعه لخلقه ، وذلك الدين القَيِّم (3) " يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا "
، يقول : يجد هذا المهاجر في سبيل الله " مراغمًا كثيرًا " ، وهو
المضطرب في البلاد والمذْهب.
* * *
يقال منه : " راغم فلانٌ قومه مراغمًا ومُرَاغمة " ، مصدرًا ، ومنه قول
نابغة بني جعدة :
كَطَوْدٍ يُلاذُ بِأَرْكَانِهِ... عَزِيزِ المُراغَمِ وَالمَهْرَبِ (4)
__________
(1) انظر هذا كله في معاني القرآن للفراء 1 : 284.
(2) انظر تفسير " الهجرة " فيما سلف ص : 100 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " سبيل الله " في مراجع اللغة.
(4) ديوانه 22 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 138 ، اللسان (رغم). والبيت من قصيدته
التي في الديوان ، ولكنه أفرد منها فلم يعرف مكانه. و " الطود " : الجبل
العظيم المنيف. ولست أدري على أي شيء تقع كاف التشبيه.
(9/112)
وقوله : " وسعة " ، فإنه
يحتمل السِّعة في أمر دينهم بمكة ، (1) وذلك منعُهم إياهم - كان - من إظهار دينهم
وعبادة ربهم علانية. (2)
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه عمن خرج مهاجرًا من أرض الشرك فارًّا بدينه إلى الله وإلى رسوله
، إن أدركته منيَّته قبل بلوغه أرضَ الإسلام ودارَ الهجرة فقال : من كان كذلك
" فقد وقع أجرُه على الله " ، وذلك ثوابُ عمله وجزاءُ هجرته وفراق وطنه
وعشيرته إلى دار الإسلام وأهل دينه. (3) يقول جل ثناؤه : ومن يخرج مهاجرًا من داره
إلى الله وإلى رسوله ، فقد استوجب ثواب هجرته إن لم يبلغ دارَ هجرته باخترام
المنية إيّاه قبل بلوغه إياها (4) على ربه " وكان الله غفورًا رحيمًا "
، يقول : ولم يزل الله تعالى ذكره " غفورًا " يعني : ساترًا ذنوب عبادهِ
المؤمنين بالعفو لهم عن العقوبة عليها " رحيمًا " ، بهم رفيقًا. (5)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت بسبب بعض من كان مقيمًا بمكة وهو مسلم ،
__________
(1) هكذا جاءت هذه العبارة في المطبوعة والمخطوطة ، وهي غير مستقيمة. وظني أنه سقط
من الناسخ شيء من كلام أبي جعفر ، ولعله يكون هكذا :
" وقوله : " وسعة " ، فإنه يحتمل السَّعةَ في الرِّزق ، ويحتمل
السعة في أمر دينهم ، من ضيعتهم في أرض أهل الشرك بمكة ، وذلك منعهم.... "
فقوله : " وذلك منعهم " ، تفسير " الضيق " ، كما هو ظاهر من
تأويل أبي جعفر. وانظر ما سيأتي في تأويل معنى " السعة " ص : 122.
(2) في المطبوعة. أسقط قوله : " كان " الموضوعة هنا بين الخطين ، لظن
الناشر أنها خطأ وزيادة. وهو كلام عربي محكم ، يضعون " كان " هذا الموضع
للدلالة على الماضي ، فكأنه قال : " وهو ما كان من منعهم إياهم " ، ولكن
الناشر أخطأ معرفة معناه ، فحذف " كان " ، فأساء.
(3) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف ص : 98 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(4) " اخترمته المنية " : أخذته من بين أصحابه وقطعته منهم. من "
الخرم " وهو الشق والفصم ، يقال : " ما خرمت منه شيئا " أي : ما
نقصت وما قطعت.
(5) انظر تفسير " كان " ، و " غفور " ، و " رحيم "
في مواضعها من فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.
(9/113)
فخرج لما بلغه أن الله أنزل الآيتين
قبلها ، وذلك قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " إلى
قوله : " وكان الله عفوًّا غفورًا " ، فمات في طريقه قبلَ بلوغه
المدينة.
ذكر الأخبار الواردة بذلك :
10282 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير
في قوله : " ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله " ، قال : كان
رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص - أو : العيص بن ضمرة بن زنباع - قال : فلما
أمروا بالهجرة كان مريضًا ، فأمر أهله أن يفرُشوا له على سريره ويحملوه إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم. قال : ففعلوا ، فأتاه الموتُ وهو بالتَّنعيِم ، فنزلت
هذه الآية. (1)
10283 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي
بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قال : نزلت هذه الآية : " ومن يخرج من بيته
مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ، في ضمرة بن العيص
بن الزنباع أو فلان بن ضمرة بن العيص بن الزنباع حين بلغ التنعيم ماتَ ، فنزلت
فيه.
10284 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن العَوَّام
التيمي ، بنحو حديث يعقوب ، عن هشيم ، قال : وكان رجلا من خُزاعة. (2)
__________
(1) الأثر : 10282 - أخرجه البيهقي في السنن 9 : 14 ، 15 ، وهذه القصة قصة رجل
واحد اختلف في اسمه واسم أبيه على أكثر من عشرة أوجه ، هكذا قال الحافظ ابن حجر في
الإصابة. وقد ساق أبو جعفر هنا من 10282 - 10295 أكثر وجوه هذا الاختلاف في اسمه
واسم أبيه. فتركت لذلك الإشارة إلى هذا الاختلاف في مواضعه من الآثار التالية.
و " التنعيم " موضع في الحل ، بين مر وسرف ، بينه وبين مكة فرسخان. ومن
التنعيم يحرم من أراد العمرة من أهل مكة.
(2) الأثر : 10284 - " العوام التيمي " ، لم أجد له ذكرًا في كتب
التراجم ، وأخشى أن يكون الصواب " العوام ، عن التيمي " ، يعني : "
العوام بن حوشب الشيباني " ، وهو يروي عن " إبراهيم التيمي " . و
" هشيم " يروي عن " العوام بن حوشب " .
(9/114)
10285 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا
يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض
مراغَمًا كثيرًا وسعة " ، الآية ، قال : لما أنزل الله هؤلاء الآيات ، ورجل
من المؤمنين يقال له : " ضمرة " بمكة ، قال : " والله إنّ لي من
المال ما يُبَلِّغني المدينة وأبعدَ منها ، وإنِّي لأهتدي! أخرجوني " ، وهو
مريض حينئذ ، فلما جاوز الحرَم قبضَه الله فمات ، فأنزل الله تبارك وتعالى : "
ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله " ، الآية.
10286 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة قال : لما نزلت : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " ،
قال رجل من المسلمين يومئذٍ وهو مريض : " والله ما لي من عُذْر ، إني لدليلٌ
بالطريق ، وإنّي لموسِر ، فاحملوني " ، (1) فحملوه ، فأدركه الموت بالطريق ،
فنزل فيه (2) " ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله " .
10287 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن
عمرو بن دينار قال : سمعت عكرمة يقول : لما أنزل الله : " إن الذين توفاهم
الملائكة ظالمي أنفسهم " الآيتين ، قال رجل من بني ضَمْرة ، وكان مريضًا :
" أخرجوني إلى الرَّوْح " ، (3) فأخرجوه ، حتى إذا كان بالحَصْحاص
__________
(1) قوله : " لدليل بالطريق " ، أي عارف به ، يقال : " دللت بهذا
الطريق دلالة " ، أي : عرفته ، فهو " دليل بين الدلالة " .
(2) في المطبوعة : " فنزلت فيه " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) قوله : " أخرجوني إلى الروح " (بفتح الراء وسكون الواو) : أي : إلى
السعة والراحة وبرد النسيم. هذا تفسيره ، وسيأتي في رقم : 10290 " لعلي أن
أخرج فيصببني روح " ، أي : برد النسيم ، وكان يجد الحر في مكة حتى غمه ، كما
سيأتي في الأثر : 10294.
وأما " الحصحاص " ، فهو موضع بالحجاز ، وقال ياقوت " جبل مشرف على
ذي طوى " ، يعني : بناحية مكة. ويقال فيه : " ذو الحصحاص " ، قال
شاعر حجازي : ألا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَغَيَّرَ بَعْدَنَا ... ظِبَاءٌ بِذِي
الَحصْحَاصِ نُجْلٌ عُيُونُهَا
وَلِي كَبِدٌ مَقْرُوحَةٌ قَدْ بَدَا بِهَا ... صُدُوعُ الهَوَى ، لَوْ كَانَ
قَيْنٌ يَقِينُهَا!
(9/115)
مات ، فنزل فيه : " ومن يخرج من
بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله " ، الآية.
10288 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن المنذر بن ثعلبة ، عن علباء بن أحمر
اليشكري قوله : " ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت
فقد وقع أجره على الله " ، قال : نزلت في رجل من خزاعة. (1)
10289 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا قرة ، عن الضحاك في
قول الله جل وعز : " ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه
الموت فقد وقع أجره على الله " ، قال : لما سمع رجل من أهل مكة أن بني كنانة
قد ضربتْ وجوهَهم وأدبارَهم الملائكةُ ، قال لأهله : " أخرجوني " ، وقد
أدنفَ للموت. (2) قال : فاحتمل حتى انتهى إلى عَقَبة قد سماها ، (3) فتوفَّي ،
فأنزل الله : " ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله " ، الآية.
(4)
10290 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : لما سمع هذه (5) يعني : بقوله : " إن الذين توفاهم الملائكة
ظالمي أنفسهم " إلى قوله : " وكان الله عفوًّا غفورًا " ضمرةُ بن
جندب
__________
(1) الأثر : 10288 - " ثعلبة بن المنذر بن حرب الطائي " . و "
علباء بن أحمر اليشكري " ، مضيا برقم : 7190.
(2) يقال : " دنفت الشمس للمغيب " (على وزن : فرح) و " أدنفت
" ، إذا دنت للمغيب واصفرت ، وكذلك يقال المريض : " دنف المريض وأدنف
" ، أي ثقل ودنا للموت. و " الدنف " (بفتحتين) المرض اللازم
المخامر.
(3) " العقبة " (بفتحات) : طريق في الجبل وعر أو : هو الجبل الطويل يعرض
للطريق فيأخذ فيه.
(4) الأثر : 10289 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.
(5) في المطبوعة : " لما سمع بهذه " ، غير ما في المخطوطة ، لقوله بعد :
" يعني : بقوله.. " ولا بأس بهذا التغيير ، وإن كان ما في المخطوطة
صوابا أيضًا.
(9/116)
الضمري ، قال لأهله ، وكان وجعًا :
" أرحلوا راحلتي ، فإن الأخشبين قد غَمَّاني! " يعني : جَبَلىْ مكة
" لعلي أن أخرج فيصيبني رَوْح " ! (1) فقعد على راحلته ، ثم توجه نحو
المدينة ، فمات بالطريق ، فأنزل الله : " ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله
ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " . وأما حين توجه إلى المدينة
فإنه قال : " اللهم إني مهاجر إليك وإلى رسولك " .
10291 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
عكرمة قال : لما نزلت هذه الآية يعني قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة
" ، قال جندب بن ضمرة الجُنْدَعي. " اللهم أبلغتَ في المعذرة والحجّة ،
ولا معذرة لي ولا حُجَّة " ! قال : ثم خرج وهو شيخ كبير ، فمات ببعض الطريق ،
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مات قبل أن يهاجر ، فلا ندري أعلى
ولايةٍ أم لا! فنزلت : " ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه
الموت فقد وقع أجره على الله " .
10292 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول : لما أنزل الله في الذين قتلوا مع مشركي قريش ببدر :
" إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " الآية ، سمع بما أنزل الله
فيهم رجل من بني لَيْثٍ كان على دين النبي صلى الله عليه وسلم مقيمًا بمكة ، وكان
ممن عَذَر الله ، كان شيخًا كبيرًا وَصِبًا ، (2) فقال لأهله : " ما أنا
ببائت الليلة بمكة! " ، فخُرِج به ، (3) حتى إذا بلغ التَّنعيم من طريق
المدينة أدركه
__________
(1) انظر التعليق السالف قريبًا : ص : 115 ، تعليق : 3.
(2) في المطبوعة : " وضيئًا " ، وليس له معنى يقبل في هذا الموضع. وفي
المخطوطة : " وصيا " بالياء ، وهو تصحيف ما أثبته.
و " رجل وصب " ، دام عليه المرض ولزمه وثبت عليه. و " الوصب "
(بفتحتين) المرض الموجع الدائم.
(3) في المطبوعة : " فخرجوا به مريضًا " ، وكأنه تصرف من النساخ أو
الناشر الأول. وفي الدر المنثور 2 : 208 : " فخرجوا به " ليس فيه "
مريضًا " . وأثبت ما في المخطوطة : " فخرج به " بالبناء للمجهول.
(9/117)
الموت ، فنزل فيه " ومن يخرج من
بيته مهاجرًا إلى الله " الآية.
10293 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ومن
يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغَمًا كثيرًا وسعة " ، قال : وهاجر رجل
من بني كنانة يريد النبي صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق ، فسخِر به قومه
واستهزؤوا به وقالوا : لا هو بلغ الذي يريد ، ولا هو أقام في أهله يقومون عليه
ويدفن! قال : فنزل القرآن : " ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم
يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " .
10294 - حدثنا أحمد بن منصور الرماديّ قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا
شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : "
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " ، فكان بمكة رجل يقال له "
ضمرة " ، (1) من بني بكر ، وكان مريضًا ، فقال لأهله : " أخرجوني من مكة
، فإني أجد الحرّ " . فقالوا : أين نخرجك ؟ فأشار بيده نحو المدينة ، فنزلت
هذه الآية : " ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله " إلى آخر
الآية.
10295 - حدثني الحارث بن أبي أسامة قال ، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال ، حدثنا
قيس ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت هذه الآية : " لا
يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر " ، قال : رَخَّص فيها قوم من
المسلمين ممن بمكة من أهل الضرر ، (2) حتى نزلت فضيلة المجاهدين على القاعدين ،
فقالوا : قد بين الله فضيلةَ المجاهدين على القاعدين ، ورخَّص لأهل الضرر! حتى
نزلت : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " إلى قوله : "
وساءت مصيرًا " ، قالوا : هذه موجبة! حتى نزلت : " إلا المستضعفين من
الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " ، فقال ضَمْرة
بن العِيص
__________
(1) في المطبوعة : " وكان بمكة " بالواو ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " ممن كان بمكة " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب
محض.
(9/118)
الزُّرَقي ، أحد بني ليثٍ ، وكان مُصَاب
البصر : " إنيّ لذو حيلة ، لي مال ، ولي رقيق ، فاحملوني " . فخرج وهو
مريض ، فأدركه الموت عند التنعيم ، فدفن عند مسجد التنعيم ، فنزلت فيه هذه الآية :
" ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت " الآية.
(1)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل " المراغم " . (2)
فقال بعضهم : هو التحول من أرض إلى أرض.
*ذكر من قال ذلك :
10296 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس قوله : " مراغَمًا كثيرًا " ، قال : المراغَم ،
التحوّل من الأرض إلى الأرض.
10297 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " مراغمًا كثيرًا " ، يقول :
متحوَّلا.
10298 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي
__________
(1) الأثر : 10295 - " الحارث بن أبي أسامة " منسوب إلى جده ، وهو :
" الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي " ، ولد في شوال سنة 186 ، ومات
يوم عرفة ضحوة النهار سنة 282 ، عن ست وتسعين سنة. وهو ثقة مترجم في تاريخ بغداد 8
: 218 ، 219. يروي عنه أبو جعفر الطبري في التفسير ، وفي التاريخ 11 : 57 ، 58.
و " عبد العزيز بن أبان الأموي " من ولد " سعيد بن العاص " .
مترجم في التهذيب ، وقال ابن معين : " كذاب خبيث يضع الأحاديث " .
و " قيس " ، هو " قيس بن الربيع " ، مضى برقم : 159 ، 4842 ،
وغيرها. * * *
هذا ، وقد رأيت كيف اختلفوا في اسم الرجل الذي خرج مهاجرًا إلى الله ورسوله ، وقد
تركت التنبيه على ذلك ، كما أسلفت ، فإن تحقيق شيء من اسمه واسم أبيه يكاد يكون
مستحيلا.
(2) في المخطوطة : " في تأويل الآية " ، والصواب ما في المطبوعة ، سها
الناسخ.
(9/119)
جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله :
" يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا " ، قال : متحوَّلا.
10299 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، حدثنا أبو سفيان
، عن معمر ، عن الحسن أو قتادة : " مراغمًا كثيرًا " ، قال : متحوَّلا.
10300 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله عز وجل : " يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا " ، قال :
مندوحةً عما يكره.
* * *
10301 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد قال : " مراغمًا كثيرًا " ، قال : مزحزحًا عما يكره.
10302 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد : " مراغمًا كثيرًا " ، قال : متزحزحًا عما يكره.
وقال آخرون : مبتغَى معيشةٍ.
*ذكر من قال ذلك :
10303 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا " ، يقول : مبتغىً للمعيشة.
* * *
وقال آخرون : " المراغَمُ " ، المهاجر.
*ذكر من قال ذلك :
10304 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في
(9/120)
قوله : " مراغمًا " ،
المراغَم ، المهاجَر.
* * *
قال أبو جعفر : وقد بينا أوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى قبل. (1)
* * *
واختلفوا أيضًا في معنى : " السعة " التي ذكرها الله في هذا الموضع ،
فقال : " وسعة " . فقال بعضهم : هي : السعة في الرزق.
*ذكر من قال ذلك :
10305 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " مراغمًا كثيرًا وسعة " ، قال : السعة في
الرزق.
10306 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن
أبيه ، عن الربيع في قوله : " مراغمًا كثيرًا وسعة " ، قال : السعة في
الرزق.
10307 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن
سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وسعة " ، يقول : سعة في
الرزق.
* * *
وقال آخرون في ذلك ما : -
10308 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة " ، أي والله ، من الضلالة إلى الهدى ، ومن
العَيْلة إلى الغِنى. (2)
__________
(1) انظر ما سلف ص : 112 ، 113.
(2) " العيلة " : الفقر.
(9/121)
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك
بالصواب أن يقال : إن الله أخبرَ أن من هاجر في سبيله يجد في الأرض مضطرَبًا ومتَّسعًا.
وقد يدخل في " السعة " ، السعة في الرزق ، والغنى من الفقر ، ويدخل فيه
السعة من ضيق الهمِّ والكرب الذي كان فيه أهل الإيمان بالله من المشركين بمكة ،
وغير ذلك من معاني " السعة " ، التي هي بمعنى الرَّوْح والفرَج من
مكروهِ ما كره الله للمؤمنين بمقامهم بين ظَهْري المشركين وفي سلطانهم. ولم يضع
الله دِلالة على أنه عنى بقوله : " وسعة " ، بعض معاني " السعة
" التي وصفنا. فكل معاني " السعة " التي هي بمعنى الرَّوح والفرج
مما كانوا فيه من ضيق العيش ، وغم جِوار أهل الشرك ، وضيق الصدر بتعذّر إظهار
الإيمان بالله وإخلاص توحيده وفراق الأنداد والآلهة ، داخلٌ في ذلك.
وقد تأول قوم من أهل العلم هذه الآية أعني قوله : " ومن يخرُج من بيته
مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " أنها في حكم
الغازي يخرج للغزو ، فيدركه الموت بعد ما يخرج من منزله فاصلا فيموت ، أنّ له
سَهْمه من المغنَم ، وإن لم يكن شهد الوقعة ، كما : -
10309 - حدثني المثنى قال ، حدثنا يوسف بن عديّ قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن
لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب : أن أهل المدينة يقولون : " من خرج فاصلا وجب
سهمه " ، وتأوّلوا قوله تبارك وتعالى : " ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى
الله ورسوله " . (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 10309 - " يوسف بن عدي بن زريق التيمي " ، كوفي ، نزل مصر ،
ومات بها سنة 232. ثقة. مترجم في التهذيب.
و " يزيد بن أبي حبيب المصري " سلف برقم : 4348 ، 5493.
(9/122)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ
الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإذا ضربتم في الأرض " ، وإذا
سرتم أيها المؤمنون في الأرض ، (1) " فليس عليكم جناح " ، يقول : فليس
عليكم حرج ولا إثم (2) " أن تقصروا من الصلاة " ، يعني : أن تقصروا من
عددها ، فتصلوا ما كان لكم عدده منها في الحضر وأنتم مقيمون أربعًا ، اثنتين ، في
قول بعضهم.
وقيل : معناه : لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقلِّ عددها في حال ضربكم
في الأرض أشار إلى واحدة ، في قولِ آخرين.
وقال آخرون : معنى ذلك : لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة. " إن خفتم
أن يفتنكم الذين كفروا " ، يعني : إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم.
(3) وفتنتهم إياهم فيها : حملهم عليهم وهم فيها ساجدون حتى يقتلوهم أو يأسروهم ،
فيمنعوهم من إقامتها وأدائها ، ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له.
(4)
ثم أخبرهم جل ثناؤه عما عليه أهل الكفر لهم فقال : " إن الكافرين كانوا لكم
عدوًّا مبينًا " ، يعني : الجاحدين وحدانية الله (5) " كانوا لكم عدوَّا
مبينًا " ،
__________
(1) انظر تفسير " الضرب في الأرض " فيما سلف 5 : 593 / 7 : 332.
(2) انظر تفسير " الجناح " فيما سلف 8 : 180 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " الخوف " فيما سلف 8 : 298 ، 318 ، تعليق : 3 ،
والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف 9 : 28 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(5) في المطبوعة : " يعني : الجاحدون " بالرفع ، والذي أثبت من المخطوطة
، صواب محض ، وهو الذي جرى عليه أبو جعفر في مثله من التفسير
(9/123)
يقول : عدوًّا قد أبانوا لكم عداوتهم
بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله ، وترككم عبادة ما يعبدون من
الأوثان والأصنام ، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة.
واختلف أهل التأويل في معنى : " القصر " الذي وضع الله الجُناح فيه عن
فاعله. فقال بعضهم : في السفر ، من الصلاة التي كان واجبًا إتمامها في الحضر أربعَ
ركعات ، (1) وأذِن في قصرها في السفر إلى اثنتين.
*ذكر من قال ذلك :
10310 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهبَّاري قال ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ابن
جريج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابيه ، عن يعلى بن منية قال : قلت لعمر
بن الخطاب رضي الله عنه : " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم
" ، وقد أمن الناس! فقال : عجبتُ مما عجبتَ منه ، حتى سألت النبي صلى الله
عليه وسلم عن ذلك فقال : صدقة تصدَّق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدَقته. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " تمامها " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر : 10310 - " عبيد بن إسماعيل الهباري " ، وهو " عبيد
الله بن إسماعيل الهباري " ، مضى برقم : 2890 ، 3185 ، 3325 ، 4888.
و " ابن إدريس " ، هو " عبد الله بن إدريس الأودي " ، مضى
برقم : 438 ، 2030 ، 2890 ، وغيرها.
و " ابن أبي عمار " ، هو : عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار القرشي ،
هو " القس " صاحب " سلامة " ، التي يقال لها " سلامة
القس " . وهو ثقة.
و " عبد الله بن بابيه " ثقة. (وهو بباء ، بعدها ألف ، بعدها باء مفتوحة
، بعدها ياء ساكنة). ويقال " عبد الله بن باباه " .
و " يعلى بن منية " ، هو " يعلى بن أمية المكي " ، و "
منية " جدته ، نسب إليها. صحابي ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكان في
المطبوعة في هذا الأثر والذي يليه جميعًا " يعلى بن أمية " ، ولكن
المخطوطة في هذا الأثر وحده ، كان فيها ما أثبته.
وهذا الأثر رواه الإمام أحمد في مسنده رقم : 174 ، 244 ، 245 ، ورواه مسلم في
صحيحه 5 : 195 ، 196 بإسنادين. والبيهقي في السنن 3 : 134 ، 140 ، 141 ، وأبو داود
في سننه 2 : 4 ، رقم : 1199 ، ورواه ابن ماجه رقم : 1065 ، وخرجه ابن كثير في
تفسيره 2 : 557 ، 558.
وسيأتي بإسنادين آخرين بعد ، وهو حديث صحيح. وقال علي بن المديني : " هذا
حديث حسن صحيح من حديث عمر ، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ، ورجاله معروفون " .
(9/124)
10311 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا
ابن إدريس ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابيه ، عن يعلى بن
أمية ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
10312 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن ابن جريج قال
، سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار يحدث ، عن عبد الله بن بابيه يحدِّث ،
عن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب : أعجبُ من قصر الناس الصلاة وقد أمنوا
، وقد قال الله تبارك وتعالى : " أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم
الذين كفروا " ! فقال عمر : عجبتُ مما عجبتَ منه ، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال : صدقة تصدَّق الله بها عليكم ، فاقبلوا صَدقته. (1)
10313 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا هشام بن عبد الملك قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن
قتادة ، عن أبي العالية قال : سافرت إلى مكة ، فكنت أصلّي ركعتين ، فلقيني قُرَّاء
من أهل هذه الناحية ، فقالوا : كيف تصلي ؟ قلت ركعتين. قالوا : أسنة أو قرآن ؟ قلت
: كلٌّ ، سنة وقرآن ، (2) [فقد] صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. (3)
قالوا : إنه كان في حرب! قلت : قال الله : ( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ
الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ
__________
(1) الأثران : 10311 ، 10312 - صحيحا الإسناد ، وهما مكرر الذي قبله.
(2) في المطبوعة : " كل ذلك سنة وقرآن " ، وأثبت ما في المخطوطة ، والدر
المنثور ، وهو الصواب. والزيادة من الناسخ أو الناشر.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " قلت صلى رسول الله ... " ، وقوله "
قلت " ليست في الدر المنثور ، فاستظهرت قراءتها كما أثبتها بين القوسين.
(9/125)
رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا
تَخَافُونَ ) [سورة الفتح : 27] ، وقال : " وإذا ضربتم في الأرض فليس عيكم
جناح أن تقصروا من الصلاة " ، فقرأ حتى بلغ : " فإذا اطمأننتم " .
(1)
10314 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن هاشم قال ،
أخبرنا سيف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي قال : سأل قومٌ من التجار رسولَ
الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي ؟
فأنزل الله : " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة
" ، ثم انقطع الوحي. فلما كان بعد ذلك بِحَوْلٍ ، غزا النبي صلى الله عليه
وسلم فصلى الظُّهر ، فقال المشركون : لقد أمْكَنكم محمد وأصحابه من ظهورهم ، هلا
شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إنّ لهم أخرى مثلها في إِثرها! فأنزل الله تبارك
وتعالى بين الصلاتين : " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إنّ الكافرين كانوا
لكم عدوًّا مبينًا وإذا كنت فيهم فأقمتَ لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك "
إلى قوله : " إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا " ، فنزلت صلاة الخوف.
(2)
__________
(1) الأثر : 10212 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 209 ، وقصر نسبته إلى ابن
جرير وحده.
(2) الأثر : 10314 - هذا الأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 209 ، وابن كثير
في تفسيره 2 : 565 ، ولم ينسباه لغير ابن جرير.
وفي ابن كثير : " قال ابن جرير ، حدثني ابن المثنى ، حدثنا إسحاق... " ،
مخالفا ما في المطبوعة والمخطوطة فجعله " ابن المثنى " يعني " محمد
بن المثنى " ، والطبري يروي عنهما جميعًا ، عن " المثنى بن إبراهيم
" ، وعن " محمد بن المثنى " ، ولكني أرجح أن الصواب ما في المطبوعة
، لكثرة رواية المثنى عن إسحاق بن الحجاج الطاحوني ، كما سلف مئات من المرات.
وكان في المخطوطة والمطبوعة : " يوسف ، عن أبي روق " ، والصواب "
سيف " كما في تفسير ابن كثير. ومما سيأتي في كلام أبي جعفر. وهو سيف بن عمر
التميمي ، وهو متروك الحديث.
أما " عبد الله بن هاشم " ، فلم أجد له ترجمة ولا ذكرًا.
وقد قال ابن كثير بعد أن ساق هذا الأثر : " وهذا سياق غريب جدًا ، ولكن لبعضه
شاهد من رواية أبي عياش الزرقي ، واسمه زيد بن الصامت " ، ثم ساق الأثر الآتي
برقم : 10323 ، من رواية أحمد وأبي داود ، كما سيأتي.
ورد أبي جعفر الآتي بعد ، دال على تضعيفه هذا الحديث.
(9/126)
قال أبو جعفر : وهذا تأويل للآية حسن ،
لو لم يكن في الكلام " إذا " ، و " إذا " تؤذن بانقطاع ما
بعدها عن معنى ما قبلها. (1) ولو لم يكن في الكلام " إذا " ، كان معنى
الكلام - على هذا التأويل الذي رواه سيف عن أبي روق : إن خفتم ، أيها المؤمنون ،
أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم ، وكنت فيهم ، يا محمد ، فأقمت لهم الصلاة ،
" فلتقم طائفة منهم معك " الآية.
* * *
وبعد ، فإن ذلك فيما ذُكر في قراءة أبيّ بن كعب : (2) ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي
الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) .
10315 - حدثني بذلك الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا الثوري ، عن واصل
بن حيان ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن أبيّ بن كعب ، أنه
كان يقرأ : ( أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا ) ، ولا يقرأ : " إن خفتم " . (3)
10316 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا بكر بن شرود عن الثوري ، عن
واصل الأحدب ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبيّ بن كعب أنه قرأ : (
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أَنْ يَفْتِنَكُم ) ، قال بكر : وهي في "
الإمام " مصحف عثمان رحمة الله عليه : " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا
" . (4)
__________
(1) يعني بذلك " إذا " في قوله تعالى : " وإذا كنت فيهم ... "
(2) في المخطوطة : " وبعدد فإن " ، وهو من غريب سهو الناسخ في كتابته.
(3) الأثر : 10315 - " الحارث " هو " الحارث بن أبي أسامة "
وهو " الحارث بن محمد بن أبي أسامة " سلف قريبًا برقم : 10295.
و " عبد العزيز " هو " عبد العزيز بن أبان الأموي " سلف برقم
: 10295 .
و " واصل بن حيان الأحدب " مضى برقم : 10.
(4) الأثر : 10316 - " بكر بن شرود " مضى برقم : 8562.
(9/127)
وهذه القراءة تنبئ على أن قوله :
" إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " ، مواصلٌ قوله : " فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة " (1) ، وأن معنى الكلام : وإذا ضربتم في الأرض ،
فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة وأن قوله :
" وإذا كنت فيهم " ، قصة مبتدأة غير قصة هذه الآية.
وذلك أن تأويل قراءة أبيٍّ هذه التي ذكرناها عنه : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة أن لا يفتنكم الذين كفروا ، فحذفت " لا "
لدلالة الكلام عليها ، كما قال جل ثناؤه : ( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ
تَضِلُّوا ) ، [سورة النساء : 176] ، بمعنى : أن لا تضلوا.
ففيما وصفنا دلالة بينة على فساد التأويل الذي رواه سيف ، عن أبي روق.
* * *
وقال آخرون : بل هو القصر في السفر ، غير أنه إنما أذن جل ثناؤه به للمسافر في حال
خوفه من عدوٍّ يخشى أن يفتِنَه في صلاته.
*ذكر من قال ذلك :
10317 - حدثني أبو عاصم عمران بن محمد الأنصاري قال ، حدثنا عبد الكبير بن عبد
المجيد قال ، حدثني محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال
: سمعت أبي يقول : سمعت عائشة تقول في السفر : أتموا صلاتكم. فقالوا : إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصلّي في السفر ركعتين ؟
__________
(1) في المخطوطة : " وهي في الإمام مصحف عثمان رحمة الله عليه : " إن
خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " من أصل قوله : " فليس عليكم جناح "
... وأن معنى الكلام.... " ، وهي عبارة فاسدة مضطربة ، كأن ناسخًا غير ناسخنا
، أو كأن الناشر ، زاد أحدهما " وهذه القراءة.. " إلخ ، حتى اتصل الكلام
واستقام ، فتركت ما في المطبوعة على حاله ، إلا أنه كتب " تنبئ على أن قوله
" ، فجعلتها " تنبئ عن أن قوله... " . وتصحيحه " من أصل
" فجعلها " مواصل " هو الصواب إن شاء الله.
(9/128)
فقالت : إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان في حرب ، وكان يخاف ، هل تخافون أنتم ؟ . (1)
10318 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا ابن أبي فديك قال ،
حدثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد : أنه قال
لعبد الله بن عمر : إنا نجد في كتاب الله قصْرَ صلاة الخوف ، (2) ولا نجد قصر صلاة
المسافر ؟ فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا
به. (3)
10319 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن هشام بن
عروة ، عن أبيه : أن عائشة كانت تصلي في السفر ركعتين.
10320 - حدثنا سعيد بن يحيى قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا ابن جريج قال : قلت لعطاء
: أيُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتم الصلاة في السفر ؟ قال : عائشة
وسعد بن أبي وقاص.
* * *
__________
(1) الأثر : 10317 - " أبو عاصم عمران بن محمد الأنصاري " ، شيخ الطبري
، لم أجد له ترجمة. و " عبد الكبير بن عبد المجيد ، أبو بكر الحنفي "
مضى برقم : 6822.
وأما " محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق " فهو
ثقة. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور 2 : 210 ،
" عمر " مكان " محمد " ، وهو خطأ ، والناسخ كثيرًا ما يكتب
" محمد " " عمر " كما مر في مواضع كثيرة.
وأبوه : " عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق " ،
المعروف بابن أبي عتيق. روى عن عمة أبيه عائشة ، وروى عنه ابناه ، عبد الرحمن
ومحمد (المذكور قبل).
وهذا الأثر لم أجده في شيء من دواوين السنة التي بين يدي ، وخرجه السيوطي في الدر
المنثور ، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(2) في المطبوعة : " قصر الصلاة في الخوف " ، وفي المخطوطة : " قصر
الصلاة الخوف " ، وصوابها من تفسير ابن كثير.
(3) الأثر : 10318 - خرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 561 ، والدر المنثور 2 : 210 ،
ولم ينسباه لغير ابن جرير. وأخرجه البيهقي في سننه 3 : 136 من طريق ابن وهب ، عن
يونس ، عن ابن شهاب. وقال البيهقي : " ورواه الليث ، عن ابن شهاب ، عن عبد
الله بن أبي بكر ، وأسنده جماعة عن ابن شهاب فلم يقيموا إسناده " .
(9/129)
وقال آخرون : بل عنى بهذه الآية قصر
صلاة الخوف ، في غير حال المُسَايفة. قالوا : وفيها نزل.
*ذكر من قال ذلك :
10321 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " ،
قال : يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسْفان ، والمشركون بضَجْنَان ،
فتواقفوا ، (1) فصلّى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين أو :
أربعًا ، شك أبو عاصم ركوعهم وسجودهم وقيامهم معًا جميعًا ، فهمَّ بهم المشركون أن
يغيروا على أمْتعتهم وأثقالهم ، فأنزل الله عليه : " فلتقم طائفة منهم معك
" ، فصلَّى العصر ، فصفَّ أصحابه صَفَّين ، ثم كبَّر بهم جميعًا ، ثم سجد
الأولون سجدة ، والآخرون قيام ،
__________
(1) " تواقف الفريقان في القتال " ، كفا ساعة عن القتال. وفي المطبوعة :
" توافقوا " بتقديم الفاء على القاف ، وهو خطأ.
(9/130)
ثم سجد الآخرون حين قام النبي صلى الله
عليه وسلم ، ثم كبر بهم وركعوا جميعًا ، فتقدم الصف الآخر واستأخر الأوَّل ،
فتعاقبوا السجود كما فعلوا أول مرة ، وقصَرَ العصرَ إلى ركعتين.
10322 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " ، قال : كان النبي
صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسْفان والمشركون بضَجْنَان ، فتواقفوا ، (1) فصلى
النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين ، ركوعهم وسجودهم وقيامهم
جميعًا ، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم ، فأنزل الله تبارك
وتعالى : " فلتقم طائفة منهم معك " ، فصلَّى بهم صلاة العصر ، فصفّ
أصحابه صفّين ، ثم كبر بهم جميعًا ، ثم سجد الأولون لسجوده ، (2) والآخرون قيام لم
يسجدوا ، حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كبَّر بهم وركعوا جميعًا ، فتقدم
الصفُّ الآخر واستأخر الصف المقدم ، فتعاقبوا السجود كما دخلوا أوّل مرة ، وقصرت
صلاة العصر إلى ركعتين.
10323 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش
الزُّرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان ، وعلى المشركين
خالد بن الوليد. قال : فصلَّينا الظهر ، فقال المشركون : لقد كانوا على حالٍ ، لو
أردنا لأصبنا غِرَّة ، لأصبنا غفلة. (3) فأنزلت آية القَصر بين الظهر والعصر ،
فأخذ الناس السلاحَ وصفّوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلي القبلة
والمشركون مُسْتَقْبَلهم ، (4) فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبَّروا جميعًا
، ثم ركع وركعوا جميعًا ، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعًا ، ثم سجد وسجد الصفُّ الذي
يليه ، وقام الآخرون يحرسونهم. فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء ، ثم نكصَ
الصفّ الذي يليه وتقدم الآخرون ، فقاموا في مقامهم ، فركع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فركعوا جميعًا ، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعًا ، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه ،
وقام الآخرون يحرسونهم. فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء الآخرون ، ثم استووْا
معه ، فقعدوا جميعًا ، ثم سلم عليهم جميعًا ، فصلاها بعُسْفان ، وصلاها يوم بني
سُلَيْم. (5)
10324 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن شيبان النحوي ، عن
منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي وعن إسرائيل ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن
أبي عياش ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسفان ، ثم ذكر نحوه. (6)
__________
(1) " تواقف الفريقان في القتال " ، كفا ساعة عن القتال. وفي المطبوعة :
" توافقوا " بتقديم الفاء على القاف ، وهو خطأ.
(2) في المطبوعة : " بسجوده " بالباء وأثبت ما في المخطوطة ، وهو جيد.
(3) في المطبوعة : " كانوا على حال " ، أسقط " لقد " ، لأن
ناسخ المخطوطة كتبها " لو كانوا... " ، والصواب ما أثبت.
(4) في المطبوعة والمخطوطة " مستقبلهم " (وقراءتها بضم الميم وسكون
السين وفتح الباء) ، يعني : أمامهم. وكان المشركون يومئذ بينهم وبين القبلة.
(5) الأثر : 10323 ، 10324 - ساق أبو جعفر هذا الأثر من ثلاث طرق ، وسيأتي بإسناد
آخر رقم : 10387 وهو حديث صحيح ، رواه أحمد في مسنده 4 : 59 ، 60 من طريقين. من
طريق عبد الرازق ، عن الثوري عن منصور ومن طريق غندر ، عن شعبة عن منصور.
ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده : 191 ، 192 من طريق ورقاء عن منصور.
ورواه النسائي في السنن 3 : 176 ، 177 ، من طريق شعبة عن منصور ومن طريق عبد
العزيز بن عبد الصمد عن منصور.
ورواه أبو داود في سننه 2 : 16 رقم : 1236 ، من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور
، كإسناد أبي جعفر الأول.
ورواه الحاكم في المستدرك 1 : 337 وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين
ولم يخرجاه " . وقال الذهبي : على شرطهما.
ورواه البيهقي في السنن في موضعين 3 : 254 من طريق ورقاء عن منصور. ثم 3 : 256 ،
من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور.
قال البيهقي : " وهذا إسناد صحيح ، وقد رواه قتيبة بن سعيد ، عن جرير ، فذكر
فيه سماع مجاهد من أبي عياش زيد بن الصامت الزرقي " . وقال ابن كثير في
تفسيره 2 : 566 ، 567 : " هذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة " .
(6) الأثر : 10323 ، 10324 - ساق أبو جعفر هذا الأثر من ثلاث طرق ، وسيأتي بإسناد
آخر رقم : 10387 وهو حديث صحيح ، رواه أحمد في مسنده 4 : 59 ، 60 من طريقين. من
طريق عبد الرازق ، عن الثوري عن منصور ومن طريق غندر ، عن شعبة عن منصور.
ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده : 191 ، 192 من طريق ورقاء عن منصور.
ورواه النسائي في السنن 3 : 176 ، 177 ، من طريق شعبة عن منصور ومن طريق عبد
العزيز بن عبد الصمد عن منصور.
ورواه أبو داود في سننه 2 : 16 رقم : 1236 ، من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور
، كإسناد أبي جعفر الأول.
ورواه الحاكم في المستدرك 1 : 337 وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين
ولم يخرجاه " . وقال الذهبي : على شرطهما.
ورواه البيهقي في السنن في موضعين 3 : 254 من طريق ورقاء عن منصور. ثم 3 : 256 ،
من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور.
قال البيهقي : " وهذا إسناد صحيح ، وقد رواه قتيبة بن سعيد ، عن جرير ، فذكر
فيه سماع مجاهد من أبي عياش زيد بن الصامت الزرقي " . وقال ابن كثير في
تفسيره 2 : 566 ، 567 : " هذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة " .
(9/131)
10325 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا
معاذ بن هشام قال ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن سليمان اليشكري : أنه سأل جابر بن
عبد الله عن إقصار الصلاة : أي يوم أنزل ؟ أو : أيَّ يوم هو ؟ فقال جابر : انطلقنا
نتلقى عِير قريش آتية من الشأم ، حتى إذا كنا بنخل ، جاء رجلٌ من القوم إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد! قال : نعم. قال : هل تخافني ؟ قال : لا!
قال : فمن يمنعك مني ؟ قال : الله يمنعني منك! قال : فسلَّ السيف ، ثم هَدَّده
وأوعده ، ثم نادى بالرَّحيل وأخْذِ السلاح ، ثم نودي بالصلاة ، فصلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى يحرسونهم ، فصلى بالذين يلونه ركعتين
، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصَافِّ أصحابهم ، ثم جاء الآخرون
فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم ، ثم سلم. فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم
أربعُ ركعات ، وللقوم ركعتين ركعتين ، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر
المؤمنين بأخْذِ السلاح. (1)
* * *
وقال آخرون : بل عنى بها قصر صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف ،
__________
(1) الأثر : 10325 - " سليمان اليشكري " هو : سليمان بن قيس اليشكري.
روى عن جابر ، وأبي سعيد الخدري. وروى عنه قتادة ، وعمرو بن دينار ، وأبو بشر جعفر
بن أبي وحشية. قال البخاري : " يقال إنه مات في حياة جابر بن عبد الله ، ولم
يسمع منه قتادة ، ولا أبو بشر ، ولا نعرف لأحد منهم سماعًا ، إلا أن يكون عمرو بن
دينار ، سمع منه في حياة جابر " . وقال أبو حاتم : " جالس جابرًا فسمع
منه وكتب عنه صحيفة ، فتوفى وبقيت الصحيفة عند امرأته. فروى أبو الزبير وأبو سفيان
والشعبي عن جابر ، وهم قد سمعوا من جابر ، وأكثره من الصحيفة ، وكذلك قتادة "
، مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2 / 2 / 32 ، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 136.
وهذا الخبر ، رواه أحمد في مسنده 3 : 364 ، 390 ، من طريق أبي عوانة عن أبي بشر ،
عن سليمان بن قيس ، بغير هذا اللفظ ، وبمعناه.
وأشار إلى خبر سليمان بن قيس ، أبو داود في سننه 2 : 24 ، والبيهقي في السنن 3 :
259 ، ومعاني الآثار للطحاوي 1 : 187 .
وقال ابن كثير في تفسيره 2 : 568 ، وذكر حديث أحمد في المسند ، وقال : " تفرد
به من هذا الوجه " .
(9/132)
إلا أنه عنى به القصر في صلاة السفر لا
في صلاة الإقامة. (1) قالوا : وذلك أن صلاة السفر في غير حال الخوف ركعتان ، تمامٌ
غير قصرٍ ، كما أن صلاة الإقامة أربعُ ركعات في حال الإقامة. قالوا : فقصرت في
السفر في حال الأمن غير الخوف عن صلاة المقيم ، فجعلت على النصف ، وهي تمامٌ في
السفر. ثم قصرت في حال الخوف في السفر عن صلاة الأمن فيه ، فجعلت على النصف ،
ركعة.
*ذكر من قال ذلك :
10326 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا " ، إلى قوله
: " عدوًّا مبينًا " ، إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهو تمام.
(2) والتقصير لا يحلّ ، إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة. والتقصير
ركعة : يقوم الإمام ويقوم جنده جندين ، طائفة خلفه ، وطائفة يوازون العدوّ ،
فيصلّي بمن معه ركعة ، ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم ،
وتلك المشية القَهْقرى. ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام ركعة أخرى ، ثم
يجلس الإمام فيسلم ، فيقومون فيصلّون لأنفسهم ركعة ، ثم يرجعون إلى صفهم ، ويقوم
الآخرون فيضيفون إلى ركعتهم ركعة. والناس يقولون : لا بل
__________
(1) في المطبوعة : " القصر في صلاة السفر ، لا في صلاة الإقامة " وأثبت
ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " فهي تمام " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب
أيضًا.
(9/133)
هي ركعة واحدة ، لا يصلي أحد منهم إلى
ركعته شيئًا ، تجزئه ركعة الإمام. فيكون للإمام ركعتان ، ولهم ركعة. فذلك قول الله
: " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " إلى قوله : " وخذوا حذركم
" .
10327 - حدثني أحمد بن الوليد القرشي قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ،
عن سماك الحنفي قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان تمام غير قصر ،
إنما القصر صلاة المخافة. فقلت : وما صلاة المخافة ؟ قال : يصلي الإمام بطائفة
ركعة ، ثم يجيء هؤلاء مكان هؤلاء ، ويجيء هؤلاء مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ،
فيكون للإمام ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة. (1)
10328 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى قال ، حدثنا سفيان ، عن سالم الأفطس ، عن
سعيد بن جبير قال : كيف تكون قصرًا وهم يصلون ركعتين ؟ إنما هي ركعة.
10329 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ، حدثنا بقية قال ، حدثنا المسعودي قال ،
حدثني يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله قال : صلاة الخوف ركعة. (2)
10330 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال ، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال ، أخبرني
عمرو بن الحارث قال ، حدثني بكر بن سوادة : أن زياد بن نافع حدثه عن كعب وكان من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قُطعت يده يوم اليَمامة : أن صلاة الخوف لكل
طائفة ، ركعة وسجدتان. (3)
__________
(1) الأثر : 10327 - رواه البيهقي في السنن 3 : 263 ، وخرجه السيوطي في الدر
المنثور 2 : 210 ، وزاد نسبه إلى عبد بن حميد. وأشار إليه أبو داود في السنن 2 :
23.
(2) الأثر : 10329 - " يزيد الفقير " هو " يزيد بن صهيب " ،
وهذا الأثر بهذا الإسناد ، مضى برقم : 5563.
(3) الأثر : 10330 - " أحمد بن عبد الرحمن بن وهب المصري " و " عبد
الله بن وهب " ، مضيا ، برقم : 2747.
و " عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري " مضى برقم : 1387 ، 6889.
و " بكر بن سوادة بن ثمامة الجذامي المصري " . تابعي ثقة ، مترجم في
التهذيب.
و " زيادة بن نافع التجيبي المصري " ، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم
في التهذيب.
و " كعب " الأقطع ، مترجم في الإصابة ، والكبير للبخاري 4 / 1 / 222 .
وهذا الأثر ساقه الحافظ ابن حجر في ترجمة " كعب الأقطع " ، وقال :
" أظن في إسناده انقطاعًا ، فقد علقه البخاري من طريق زياد بن نافع ، عن أبي
موسى الغافقي ، عن جابر بن عبد الله. وقال البخاري في التاريخ ، كعب قطعت يده يوم
اليمامة ، له صحبة. روى عنه زياد بن نافع " .
(9/134)
واعتل قائلو هذه المقالة من الآثار بما
: -
10331 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سفيان قال ،
حدثني أشعث بن أبي الشعثاء ، عن الأسود بن هلال ، عن ثعلبة بن زَهدم اليربوعي قال
: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال : أيكم يحفظ صلاةَ رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا. فأقامنا خلفه صفًّا ، وصفًّا موازيَ العدو ،
(1) فصلى بالذين يلونه ركعة ، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافِّ أولئك ، وجاء أولئك فصلى
بهم ركعة. (2)
10332 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " وصف موازي العدو " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو
الموافق لما في روايات الحديث.
(2) الأثر : 10331 - وسيأتي بإسناد آخر رقم : 10333.
" أشعث بن أبي الشعثاء " هو : أشعث بن سليم بن أسود المحاربي ، من ثقات
شيوخ الكوفيين ، مترجم في التهذيب.
و " الأسود بن هلال المحاربي " ، كان جاهليًا ، أدرك الإسلام. روى عن
معاذ بن جبل ، وعمر ، وابن مسعود. مترجم في التهذيب.
و " ثعلبة بن زهدم الحنظلي " ، مختلف في صحبته ، روى عن حذيفة وأبي
مسعود ، وعامة روايته عن الصحابة. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر رواه أحمد في مسنده 5 : 385 ، 399 ، 404 ، وأبو داود في السنن 2 : 23
رقم : 1246 ، والنسائي في السنن 3 : 167 ، 168 والبيهقي ، في سننه 3 : 261 ،
والحاكم في المستدرك 1 : 335 وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه
" ، ووافقه الذهبي. والطحاوي في معاني الآثار 1 : 183.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 212 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد
، وابن حبان.
(9/135)
سفيان ، عن الرُّكين بن الربيع ، عن
القاسم بن حسان قال : سألت زيد بن ثابت عنه فحدثني ، بنحوه. (1)
10333 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن الأشعث ،
عن الأسود بن هلال ، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي ، عن حذيفة بنحوه. (2)
10334 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثني يحيى قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثني أبو بكر
بن أبي الجهم ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم صلى بذي قَرَد ، فصفّ الناس خلفه صفين ، صفًّا خلفه ، وصفًّا موازي
العدو ، فصلى بالذين خلفه ركعة ، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، وجاء أولئك ،
فصلى بهم ركعة. ولم يَقْضوا. (3)
__________
(1) الأثر : 10332 - " ركين بن الربيع بن عميلة الفزاري " . ثقة كوفي.
و " القاسم بن حسان العامري " . ذكره ابن حبان في الثقات ، قال الحافظ
ابن حجر : في أتباع التابعين ، ومقتضاه أنه لم يسمع من زيد بن ثابت ، ثم وجدته قد
ذكره (يعني ابن حبان) في التابعين أيضًا " .
وقد ساق الخبر ، البيهقي في سننه 3 : 262 ، وفيه تصريح بسماعه عن زيد بن ثابت ،
قال : " عن القاسم بن حسان قال : أتيت فلان بن وديعة فسألته عن صلاة الخوف
فقال : إيت زيد بن ثابت فاسأله ، فأتيت زيدًا فسألته... " وساق الخبر. وانظر
معاني الآثار للطحاوي 1 : 183.
(2) الأثر : 10333 - انظر التعليق على الأثر : 10331.
(3) الأثر : 10334 - " أبو بكر بن أبي الجهم " ، هو : " أبو بكر بن
عبد الله بن أبي الجهم العدوي " نسب إلى جده. كما في التهذيب ، وفي الكنى
للبخاري : 13 " أبو بكر ابن أبي الجهم بن صخير " ، وفي ابن أبي حاتم 4 /
2 / 338 : " أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم بن صخير " ، وقال الحافظ
ابن حجر في التهذيب : " واسم أبي الجهم ، صخير " ، كان فقيهًا ، ثقة ،
قال ابن سعد : " كان قليل الحديث " . مترجم في التهذيب. وانظر ما كتبه
أخي السيد أحمد في شرح مسند أحمد.
و " عبيد الله بن عبد الله " هو ابن عتبة بن مسعود الهذلي ، تابعي ، كان
عالمًا ثقة كثير الحديث والعلم ، تقيًا ، شاعرًا محسنًا ، وكان أحد فقهاء المدينة
، وهو معلم عمر بن عبد العزيز.
وهذا الأثر رواه أحمد في مسنده : 2063 ، 3364 ، وإسناده صحيح. وانظر شرح أخي السيد
أحمد هناك. وانظر معاني الآثار للطحاوي 1 : 182.
(9/136)
10335 - حدثنا تميم بن المنتصر قال ،
أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن أبي بكر بن صخير ، عن عبيد الله بن عبد الله ،
عن ابن عباس مثله. (1)
10336 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد
، عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم عليه السلام في الحضر أربعًا
، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعةً.
10337 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن بكير
بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس مثله. (2)
10338 - حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزديّ قال ، حدثنا المحاربي ، عن أيوب بن عائذ
الطائي ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس مثله. (3)
10339 - حدثنا يعقوب بن ماهان قال : حدثنا القاسم بن مالك ، عن أيوب بن عائذ
الطائي ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس مثله. (4)
__________
(1) الأثر : 10335 - " أبو بكر بن صخير " ، هو " أبو بكر بن أبي
الجهم " ، في الإسناد السابق ، وكان في المطبوعة والمخطوطة : " ابن صحير
" بالحاء المهملة ، وهو خطأ.
(2) الأثران : 10336 ، 10337 - " أبو عوانة " هو : " الوضاح بن عبد
الله اليشكري " ، مضى برقم : 4498.
و " بكير بن الأخنس " كوفي ثقة
وهذا الأثر رواه أحمد في المسند رقم : 2124 ، 2293 ، وانظر شرح أخي السيد أحمد
هناك. ورواه مسلم أيضًا 5 : 196.
(3) الأثران : 10338 ، 10339 - " نصر بن عبد الرحمن الأزدي " سبق برقم :
423 ، 875 ، 2859 ، وقد بين أخي السيد أحمد أن صحة نسبته " الأزدي " لا
" الأودي " بالواو. وكان في المطبوعة هنا أيضًا " الأودي " .
وهذا التكرار يوجب على أن أشك في أمر هذه النسبة ، وأخشى أن يكون دخل على أخي بعض
اللبس فيها ، ولكني لم أستطع تحقيق هذا الموضع من المراجع التي هي تحت يدي الآن.
ومع ذلك فقد تابعته في تصحيح " الأودي " إلى " الأزدي " .
و " المحاربي " هو " عبد الرحمن بن محمد المحاربي " مضى برقم
: 221 ، 875. و " أيوب بن عائذ بن مدلج الطائي " ثقة ، مترجم في الكبير
1 / 1 / 420.
وهذا الأثر بهذا الإسناد رواه أحمد في المسند رقم : 2177 من طريق القاسم بن مالك
الآتي ، وهو إسناد صحيح ، انظر شرح أخي السيد أحمد هناك. ورواه مسلم 5 : 197.
وأما الأثر : 10339 ، ففيه " يعقوب بن ماهان " وقد مضى برقم : 4901.
وأما " القاسم بن مالك المزني " ، من شيوخ أحمد ، ثقة. مترجم في
التهذيب.
(4) الأثران : 10338 ، 10339 - " نصر بن عبد الرحمن الأزدي " سبق برقم :
423 ، 875 ، 2859 ، وقد بين أخي السيد أحمد أن صحة نسبته " الأزدي " لا
" الأودي " بالواو. وكان في المطبوعة هنا أيضًا " الأودي " .
وهذا التكرار يوجب على أن أشك في أمر هذه النسبة ، وأخشى أن يكون دخل على أخي بعض
اللبس فيها ، ولكني لم أستطع تحقيق هذا الموضع من المراجع التي هي تحت يدي الآن.
ومع ذلك فقد تابعته في تصحيح " الأودي " إلى " الأزدي " .
و " المحاربي " هو " عبد الرحمن بن محمد المحاربي " مضى برقم
: 221 ، 875. و " أيوب بن عائذ بن مدلج الطائي " ثقة ، مترجم في الكبير
1 / 1 / 420.
وهذا الأثر بهذا الإسناد رواه أحمد في المسند رقم : 2177 من طريق القاسم بن مالك الآتي
، وهو إسناد صحيح ، انظر شرح أخي السيد أحمد هناك. ورواه مسلم 5 : 197.
وأما الأثر : 10339 ، ففيه " يعقوب بن ماهان " وقد مضى برقم : 4901.
وأما " القاسم بن مالك المزني " ، من شيوخ أحمد ، ثقة. مترجم في
التهذيب.
(9/137)
10340 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا
محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله
: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف ، فقام صفٌّ بين يديه وصف
خلفه ، فصلى بالذين خلفه ركعةً وسجدتين ، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقام أصحابهم ،
وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة
وسجدتين ، ثم سلم ، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ، ولهم ركعة. (1)
10341 - حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال ، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال ،
أخبرني عمرو بن الحارث : أن بكر بن سوادة حدثه ، عن زياد بن نافع حدثه ، عن أبي
موسى : أن جابر بن عبد الله حدثهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة
الخوف يوم محارب وثعلبة ، لكل طائفة ركعة وسجدتين. (2)
10342 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال ، حدثنا عبد الصمد قال ، حدثنا سعيد بن
عبيد الهنائي قال ، حدثنا عبد الله بن شقيق قال ، حدثنا أبو هريرة : أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم نزل بين ضَجْنان وعُسْفان ، فقال المشركون : إن لهؤلاء صلاة هي
أحبَّ إليهم من أبنائهم وأبْكارهم ، وهي العصر ، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلةً
واحدة. وإن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأمرَه أن يقسم
__________
(1) الأثر : 10340 - " يزيد الفقير " ، هو : يزيد بن صهيب ، مضى برقم :
10329 . وهذا الأثر ، رواه النسائي في السنن 3 : 174 ، ورواه النسائي أيضًا من
طريق المسعودي ، عن يزيد الفقير 3 : 175 ، والبيهقي في السنن 3 : 263 ، وانظر كلام
البيهقي فيه ، وقد أشار إلى طريق الحكم بن عتيبة ، عن يزيد الفقير. وتفسير ابن
كثير 2 : 569.
(2) الأثر : 10341 - " أبو موسى " هو : " علي بن رباح " ، قال
الحافظ ابن حجر في الفتح 7 : 324 ، و " هو تابعي معروف أخرج له مسلم " ،
وقال أيضًا إن أبا موسى في هذا الأثر : " يقال هو الغافقي : مالك بن عبادة ،
وهو صحابي معروف أيضًا " . وقد مضى ذكر " علي بن رباح " رقم :
4747.
وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 7 : 324).
(9/138)
أصحابه شَطْرين ، فيصلي ببعضهم ، وتقوم
طائفة أخرى وراءهم فيأخذوا حِذْرهم وأسلحتهم ، ثم يأمر الأخرى فيصلوا معه ، ويأخذ
هؤلاء حذرهم وأسلحتهم ، فتكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. (1)
* * *
وقال آخرون : عنى به القصر في السفر ، إلا أنه عنى به القصر في شدَّة الحرب وعند
المسايفة ، فأبيح عند التحام الحرب للمصلي أن يركع ركعة إيماءً برأسه حيث توجَّه
بوجهه. قالوا : فذلك معنى قوله : " ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن
خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " .
*ذكر من قال ذلك :
10343 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " وإذا ضربتم في الأرض " ، الآية ، قصرُ الصلاة ،
إن لقيت العدوَّ وقد حانت الصلاة : أن تكبر الله ، وتخفض رأسك إيماء ، راكبًا كنت
أو ماشيًا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية ، قول من قال :
" عنى بالقصر فيها ، القصرَ من حدودها. وذلك ترك إتمام ركوعها وسجودها ،
وإباحة أدائها كيف أمكن أداؤها ، مستقبلَ القبلة فيها ومستدبرَها ، وراكبًا
وماشيًا ،
__________
(1) الأثر : 10342 - " سعيد بن عبيد الهنائي " ، قال أبو حاتم : "
شيخ " ، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و " عبد الله بن شقيق العقيلي " مضى برقم : 196 - 199.
وهذا الأثر رواه النسائي في السنن 3 : 174 ، والترمذي في السنن ، في كتاب التفسير.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 211 ، واقتصر على نسبته لابن جرير والترمذي.
وقال الترمذي : " هذا حديث صحيح غريب من حديث عبد الله بن شقيق ، عن أبي
هريرة " .
(9/139)
وذلك في حال السَّلَّة والمسايفة
والتحام الحرب وتزاحف الصفوف ، (1) وهي الحالة التي قال الله تبارك وتعالى : (
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا ) ، [سورة البقرة : 239] ، وأذِن
بالصلاة المكتوبة فيها راكبًا ، إيماءً بالركوع والسجود ، على نحو ما روي عن ابن
عباس من تأويله ذلك.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بقوله : " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " ، لدلالة قول الله
تعالى : " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " ، على أن ذلك كذلك. لأن
إقامتها : إتمامُ حدودها من الركوع والسجود وسائر فروضها ، دون الزيادة في عددها
التي لم تكن واجبًة في حال الخوف.
فإن ظن ظان أن ذلك أمرٌ من الله بإتمام عددها الواجب عليه في حال الأمن بعد زوال
الخوف ، فقد يجب أن يكون المسافر في حال قصره صلاته عن صلاة المقيم ، غيرَ مقيم
صلاته ، لنقص عدد صلاته من الأربع اللازمة كانت له في حال إقامته إلى الركعتين.
وذلك قولٌ إن قاله قائل ، (2) مخالف لما عليه الأمة مجمعة : من أن المسافر لا
يستحق أن يقال له إذا أتى بصلاته بكمال حدودها المفروضة عليه فيها ، وقصر عددها عن
أربع إلى اثنتين : " إنه غير مقيم صلاته " . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان
الله تعالى قد أمر الذي أباح له أن يقصر صلاته خوفًا من عدوه أن يفتنه ، أن يقيم
صلاتَه إذا اطمأن وزال الخوف ، كان معلومًا أن الذي فرض عليه من إقامة ذلك في حال
الطمأنينة ، عين الذي كان أسقط عنه في حال الخوف. وإذْ كان الذي فرض عليه في حال
الطمأنينة : إقامة
__________
(1) في المطبوعة : " في حال الشبكة والمسايفة " ، وهو خطأ فارغ ، صوابه
من المخطوطة ، ولم يحسن قراءتها. و " السلة " : استلال السيوف ، يقال :
" أتيناهم عند السلة " ، أي عند استلال السيوف في المعركة ، إذا تدانى
أهل القتال.
(2) في المطبوعة : " فذلك قول " والصواب من المخطوطة.
(9/140)
صلاته ، فالذي أسقط عنه في غير حال
الطمأنينة : ترك إقامتها. وقد دللنا على أن ترك إقامتها ، إنما هو ترك حدودها ،
على ما بيّنّا.
* * *
(9/141)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا
كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ
وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ
أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإذا كنت في الضاربين في الأرض من أصحابك ،
يا محمد ، الخائفين عدوهم أن يفتنهم " فأقمت لهم الصلاة " ، يقول :
فأقمت لهم الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها ، ولم تقصرها القصر الذي أبحت لهم أن
يقصروها في حال تلاقيهم وعدوَّهم وتزاحف بعضهم على بعض ، من ترك إقامة حدودها
وركوعها وسجودها وسائر فروضها " فلتقم طائفة منهم معك " ، يعني : فلتقم
فرقة من أصحابك الذين تكون أنت فيهم معك في صلاتك (1) وليكن سائرهم في وجوه العدو.
وترك ذِكر ما ينبغي لسائر الطوائف غير المصلِّية مع النبي صلى الله عليه وسلم أن
يفعله ، لدلالة الكلام المذكور على المراد به ، والاستغناءِ بما ذكر عما ترك ذكره
" وليأخذوا أسلحتهم " .
__________
(1) انظر تفسير " طائفة " فيما سلف 6 : 500 ، 506.
(9/141)
واختلف أهل التأويل في الطائفة
المأمورة بأخذ السلاح.
فقال بعضهم : هي الطائفة التي كانت تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم. (1) قال :
ومعنى الكلام : " وليأخذوا " ، يقول : ولتأخذ الطائفة المصلَية معك من
طوائفهم " أسلحتهم " ، والسلاح الذي أمروا بأخذه عندهم في صلاتهم ،
كالسيف يتقلَّده أحدهم ، والسكين ، والخنجر يشدُّه إلى درعه وثيابه التي هي عليه ،
ونحو ذلك من سلاحه.
* * *
وقال آخرون : بل الطائفة المأمورة بأخذ السلاح منهم : الطائفةُ التي كانت بإزاء
العدوِّ ، دون المصلية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك قول ابن عباس.
10344 - حدثني بذلك المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن
أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فإذا سجدوا " ، يقول : فإذا سجدت الطائفة
التي قامت معك في صلاتك تصلِّي بصلاتك ففرغت من سجودها " فليكونوا من ورائكم
" ، يقول : فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم خلفكم مُصَافيِّ العدوِّ في المكان
الذي فيه سائر الطوائف التي لم تصلِّ معك ، ولم تدخل معك في صلاتك.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم
" .
فقال بعضهم : تأويله : فإذا صلَّوْا ففرغوا من صلاتهم ، فليكونوا من ورائكم.
* * *
ثم اختلف أهل هذه المقالة.
فقال بعضهم : إذا صلت هذه الطائفة مع الإمام ركعة ، سلمت وانصرفت
__________
(1) في المطبوعة : " مع رسول الله " وأثبت ما في المخطوطة.
(9/142)
من صلاتها ، حتى تأتي مقامَ أصحابها
بإزاء العدوّ ، ولا قضاء عليها. وقالوا : هم الذين عنى الله بقوله : (1) "
فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " ، أن تجعلوها - إذا خفتم الذين كفروا
أن يفتنوكم - ركعة (2) ورووا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلى بطائفةٍ صلاة
الخوف ركعة ، ولم يقضوا ، وبطائفة أخرى ركعة ولم يقضوا.
وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى ، وفيما ذكرنا كفاية عن استيعاب ذكر جميع ما فيه.
* * *
وقال آخرون منهم : بل الواجب كان على هذه الطائفة التي أمرَها الله بالقيام مع
نبيِّها إذا أراد إقامة الصلاة بهم في حال خوف العدو ، وإذا فرغت من ركعتها التي
أمرها الله أن تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم على ما أمرها به في كتابه (3) أن
تقوم في مقامها الذي صلّت فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتصلي لأنفسها
بقية صلاتها وتسلّم ، وتأتي مصافّ أصحابها ، وكان على النبي صلى الله عليه وسلم أن
يثبُت قائمًا في مقامه حتى تفرغ الطائفة التي صلّت معه الركعة الأولى من بقية
صلاتها ، إذا كانت صلاتها التي صلّت معه مما يجوز قصرُ عددها عن الواجب الذي على
المقيمين في أمن ، وتذهب إلى مصاف أصحابها ، وتأتي الطائفة الأخرى التي كانت
مصافَّةً عدوَّها ، فيصلي بها ركعة أخرى من صلاتها.
* * *
ثم هم في حكم هذه الطائفة الثانية مختلفون.
فقالت فرقة من أهل هذه المقالة : كان على النبي صلى الله عليه وسلم إذا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وهم الذين قالوا عنى الله بقوله " ، أخر
" قالوا " عن مكانها ، وكأنه من فعل الناسخ ، فرددتها إلى سياق الكلام ،
في أوله.
(2) السياق : " أن تجعلوها ... ركعة " ، تفسيرًا لقوله " أن تقصروا
من الصلاة " .
(3) السياق " بل الواجب كان على هذه الطائفة ... أن تقوم في مقامها " .
(9/143)
فرغ من ركعتيه ورَفع رأسه من سجوده من
ركعته الثانية ، أن يقعد للتشهد ، وعلى الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية ولم
تدرك معه الركعة الأولى لاشتغالها بعدوّها ، أن تقوم فتقضي ركعتها الفائتة مع
النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى النبي صلى الله عليه وسلم انتظارها قاعدًا في
تشهُّده حتى تفرغ هذه الطائفة من ركعتها الفائتة وتتشهد ، ثم يسلم بهم.
* * *
وقالت فرقة أخرى منهم : بل كان الواجب على الطائفة التي لم تدرك معه الركعة الأولى
إذا قعدَ النبي صلى الله عليه وسلم للتشهد ، أن تقعد معه للتشهد فتتشهد بتشهده.
فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من تشهده سلم. (1) ثم قامت الطائفة التي صلت
معه الركعة الثانية حينئذ فقضت ركعتها الفائتة. وكل قائلٍ من الذين ذكرنا قولهم ،
روَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبارًا بأنه كما قال فَعَل.
* * *
ذكر من قال : انتظر النبي صلى الله عليه وسلم الطائفتين حتى قضت [كل طائفة] صلاتها
، ولم يخرج من صلاته إلا بعد فراغ الطائفتين من صلاتهما. (2)
10345 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني مالك ، عن
يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوّات ، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة
الخوف يوم ذاتِ الرِّقاع : أن طائفة صفّت معه ، (3) وطائفة وجاه العدو. (4) فصلى
بالذين معه ركعة ، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم. ثم جاءت
__________
(1) في المخطوطة : " بل كان الواجب على الطائفة التي لم تدرك معه الركعة
الأولى إذا قعد النبي صلى الله عليه وسلم من تشهده سلم ، ثم قامت الطائفة التي صلت
معه الركعة الثانية... " ، سقط من الناسخ ما هو ثابت في المطبوعة ، وهو
الصواب إن شاء الله.
(2) في المخطوطة : " حتى قضت صلاتها " ، وفي المطبوعة : " حتى قضت
صلاتهما " بالتثنية ، أراد أن يصحح سياق المخطوطة فأساء ، ووضعت ما بين
القوسين اجتهادًا حتى يستقيم الكلام.
(3) في المطبوعة : " أن طائفة صفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " ،
وأثبت ما في المخطوطة.
(4) " وجاه " (بكسر الواو وضمها) و " تجاه " (بكسر التاء
وضمها) : أي حذاء العدو من تلقاء وجهه. وبجميع هذه الوجوه ، روي هذا الخبر.
(9/144)
الطائفة الأخرى فصلى بهم ، ثم ثبت
جالسًا فأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم. (1)
10346 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثني عبيد الله بن معاذ قال ، حدثنا أبي قال
، حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن
أبي حثمة قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في خوف ، فجعلهم خلفه صفين ،
فصلى بالذين يلونه ركعة ثم قام ، فلم يزل قائمًا حتى صلى الذين خلفه ركعة ، ثم
تقدموا وتخلّف الذين كانوا قُدَّامهم ، فصلى بهم ركعة ، ثم جلس حتى صلى الذين
تخلفوا ركعة ، ثم سلم. (2)
10347 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا روح قال ، حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن
القاسم ، عن أبيه ، عن صالح بن خوّات ، عن سهل بن أبي حثمة ، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال في صلاة الخوف : تقوم طائفة بين يدي الإمام وطائفة خلفه ،
فيصلي بالذين خلفه ركعة وسجدتين ، ثم يقعد مكانه حتى يقضوا ركعة وسجدتين ، ثم
يتحولون إلى مكان أصحابهم. ثم يتحول أولئك إلى مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة
وسجدتين ، ثم يقعد مكانه حتى يصلوا ركعة وسجدتين ، ثم يسلم. (3)
* * *
ذكر من قال : " كانت الطائفة الثانية تقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى
يفرغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته ، ثم تقضي ما بقي عليه وسلم عليها بعدُ
" .
10348 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، سمعت يحيى بن سعيد قال سمعت
القاسم قال : حدثني صالح بن خوّات بن جبير : أن سهل
__________
(1) الأثر : 10345 - " يزيد بن رومان الأسدي " أبو روح المدني ، من شيوخ
مالك ، كان عالمًا كثير الحديث ثقة.
و " صالح بن خوات بن جبير بن النعمان الأنصاري " ، روى عن أبيه وخاله
سهل بن أبي حثمة ، وهو تابعي ثقة قليل الحديث. روى له الجماعة حديث صلاة الخوف.
مترجم في الكبير 2 / 2 / 277.
و " سهل بن أبي حثمة الأنصاري " ، له صحبة ، مات رسول الله وهو ابن ثمان
سنين ، وقد حفظ عنه. قال الحافظ في التهذيب : " قال ابن أبي حاتم. عن أبيه ،
بايع تحت الشجرة ، وشهد المشاهد كلها إلا بدرًا ، وكان دليل النبي صلى الله عليه
وسلم ليلة أحد. قال ابن أبي حاتم : سمعت رجلا من ولده سأله أبي عن ذلك وأخبره به
" .
قلت : ولم أجد في الجرح والتعديل ترجمة " سهل " ، ولا قول ابن أبي حاتم.
ثم قال الحافظ : " وقال ابن القطان : قول أبي حاتم لا يصح عندهم البتة ،
والغلط الذي فيه من هذا الرجل الذي لا يدرى من هو. وإنما الذي بعثه النبي صلى الله
عليه وسلم خارصًا ، أبوه أبو حثمة ، وهو الذي كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم
إلى أحد ، كذا ذكره ابن جرير وغيره " .
و " سهل بن أبي حثمة " ، مترجم في التهذيب ، وفي الكبير 2 / 2 / 98 ،
وقد مضى ذكره برقم : 9179.
وهذا حديث صحيح ، رواه مالك في الموطأ : 183 ، والشافعي في الرسالة رقم : 509 ،
677 ، وفي الأم 1 : 186 ، والبخاري (الفتح 7 : 325) ، والبخاري في التاريخ الكبير
2 / 2 / 277 ، ومسلم 6 : 128 ، وأبو داود في سننه 2 : 18 ، رقم : 1238 ، والنسائي
3 : 171 ، والترمذي 2 : 456 (شرح أخي السيد أحمد) ، والطحاوي في معاني الآثار 1 :
184 ، والبيهقي في سننه 3 : 252 ، وانظر ما كتبه أخي السيد أحمد في شرح الترمذي ،
وشرح رسالة الشافعي. والجصاص في أحكام القرآن 2 : 259 ، 260.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 7 : 326 : " قوله : عمن شهد مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف قيل : إن اسم هذا المبهم ، سهل بن أبي
حثمة ، لأن القاسم بن محمد ، روى حديث صلاة الخوف عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي
حثمة. وهذا هو الظاهر من رواية البخاري ، ولكن الراجح أنه أبوه " خوات بن
جبير " ، لأن أبا أويس روى هذا الحديث عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه ، فقال
: عن صالح بن خوات ، عن أبيه أخرجه ابن مندة في معرفة الصحابة من طريقه. وكذلك
أخرجه البيهقي (3 : 253) من طريق عبيد الله بن عمر ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح
بن خوات ، عن أبيه. وجزم النووي في تهذيبه بأنه خوات بن جبير ، وقال : إنه محقق من
رواية مسلم وغيره " .
وقد أجاد الحافظ في بيان هذا بعد ذلك في الفتح (7 : 329) ، ودل على أن سهل بن أبي
حثمة كان صغيرًا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن رسول الله قبض وهو ابن
ثمان سنين ، فأيد بذلك أن المراد بقوله : " عمن صلى مع النبي صلى الله عليه
وسلم " هو خوات بن جبير ، لا سهل بن أبي حثمة.
(2) الأثر : 10346 - حديث سهل بن أبي حثمة ، من طريق شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم
، هذا والذي يليه ، رواه أحمد في المسند 4 : 448 ، والبخاري في الفتح (7 : 329)
ومسلم 6 : 128 ، والبيهقي في السنن 3 : 253 ، 254. وانظر التعليق على الأثر السالف
، والأثر التالي رقم : 10351.
(3) الأثر : 10347 - مكرر الذي قبله. رواه أحمد في المسند 4 : 448 ، والبخاري في
التاريخ الكبير 2 / 2 / 277. وهذا هو الحديث المرفوع الذي سيشير إليه في رقم :
10351.
(9/145)
بن أبي حثمة حدّثه : أن صلاة الخوف :
أن يقوم الإمام إلى القبلة يصلّي ومعه طائفة من أصحابه ، وطائفة أخرى مواجهة العدو
، فيصلي. فيركع الإمام بالذين معه ويسجد ، ثم يقوم ، فإذا استوى قائمًا ركع الذين
وراءه لأنفسهم ركعة وسجدتين ، ثم سلموا فانصرفوا ، والإمام قائم ، فقاموا إزاء
العدوّ ، وأقبل الآخرون فكبروا مكان الإمام ، فركع بهم الإمام وسجد ثم سلم ،
فقاموا فركعوا لأنفسهم ركعة وسجدتين ، ثم سلموا. (1)
10349 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن
القاسم بن محمد : أن صالح بن خوّات أخبره ، عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف ، ثم
ذكر نحوه. (2)
10350 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد وسأله قال ، حدثنا يحيى بن سعيد
الأنصاري ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح ، عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف قال :
يقوم الإمام مستقبل القبلة ، وتقوم طائفة منهم معه ، وطائفة من قبل العدو وجوههم
إلى العدو ، فيركع بهم ركعة ، ثم يركعون لأنفسهم ويسجدون سجدتين في مكانهم ،
ويذهبون إلى مقام أولئك ، ويجيء أولئك فيركع بهم ركعة ويسجد سجدتين ، فهي له
ركعتان ولهم واحدة. ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين. (3)
10351 - قال بندار : سألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث ، فحدثني عن شعبة ، عن عبد
الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن صالح بن خوّات ، عن سهل بن أبي حثمة ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يحيى بن سعيد ،
__________
(1) الأثران : 10348 ، 10349 - رواه مالك في الموطأ : 183 ، والبخاري (الفتح 7 :
328) ، وأبو داود في سننه 2 : 18 رقم : 1239.
(2) الأثران : 10348 ، 10349 - رواه مالك في الموطأ : 183 ، والبخاري (الفتح 7 :
328) ، وأبو داود في سننه 2 : 18 رقم : 1239.
(3) الأثر : 10350 - " يحيى بن سعيد " هو القطان.
وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 7 : 328) ، والترمذي 2 : 455 (شرح أخي السيد أحمد)
، والبيهقي في سننه 3 : 253 ، والنسائي في سننه 3 : 178.
(9/147)
وقال لي : اكتبه إلى جنبه ، فلست أحفظه
، ولكنه مثل حديث يحيى بن سعيد. (1)
10352 - حدثنا نصر بن علي قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا عبيد الله ، عن
القاسم بن محمد بن أبي بكر ، عن صالح بن خوات : أن الإمام يقوم فيصفّ صفين ، طائفة
مواجهة العدو ، وطائفة خلف الإمام. فيصلي الإمام بالذين خلفه ركعة ، ثم يقومون
فيصلون لأنفسهم ركعة ، ثم يسلمون ، ثم ينطلقون فيصفُّون. ويجيء الآخرون فيصلي بهم
ركعة ثم يسلم ، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة. (2)
10353 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا معتمر بن سليمان قال ، سمعت عبيد
الله ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوّات ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال : صلاة الخوف : أن تقوم طائفة من خلف الإمام وطائفة يلون العدو
، فيصلّي الإمام بالذين خلفه ركعة ويقوم قائمًا ، فيصلي القوم إليها ركعة أخرى ،
ثم يسلمون فينطلقون إلى أصحابهم ، ويجيء أصحابهم والإمام قائم ، فيصلي بهم ركعة ،
فيسلم. ثم يقومون فيصلون إليها ركعة أخرى ، ثم ينصرفون قال عبيد الله : فما سمعت
فيما نذكره في صلاة الخوف بشيء هو أحسن عندي من هذا. (3)
10354 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ،
__________
(1) الأثر : 10351 - هذا الأثر إشارة ، إلى الأثر السالف رقم : 10347 ، مرفوعًا.
ورواه الترمذي 2 : 456 ، والبيهقي في السنن 3 : 253. وقال الترمذي : " لم
يرفعه يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد ، وهكذا روى أصحاب يحيى بن سعيد
الأنصاري موقوفًا. ورفعه شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد " .
(2) الأثر : 10352 ، 10353 - لم أجد لهذين الخبرين مرجعًا. وحديث عبيد الله ، (وهو
عبيد الله بن عمر) عن القاسم ، رواه البيهقي في السنن 3 : 253 من حديث عبد الله بن
عمر ، عن أخيه عبيد الله بن عمر ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات ، عن أبيه
قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ... " ، فصرح فيه بأنه رواه
عن أبيه ، ولم يقل " عن رجل من أصحاب النبي " ، وهو مخالف له في لفظه كل
المخالفة. وانظر التعليق على الأثر رقم : 10346.
وكان في المطبوعة هنا : " فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف شيئًا هو أحسن
عندي من هذا " بنصب " شيئًا " وفي المخطوطة " شيء " ،
فرأيت أن أقرأها " بشيء " .
(3) الأثر : 10352 ، 10353 - لم أجد لهذين الخبرين مرجعًا. وحديث عبيد الله ، (وهو
عبيد الله بن عمر) عن القاسم ، رواه البيهقي في السنن 3 : 253 من حديث عبد الله بن
عمر ، عن أخيه عبيد الله بن عمر ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات ، عن أبيه
قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ... " ، فصرح فيه بأنه رواه
عن أبيه ، ولم يقل " عن رجل من أصحاب النبي " ، وهو مخالف له في لفظه كل
المخالفة. وانظر التعليق على الأثر رقم : 10346.
وكان في المطبوعة هنا : " فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف شيئًا هو أحسن
عندي من هذا " بنصب " شيئًا " وفي المخطوطة " شيء " ،
فرأيت أن أقرأها " بشيء " .
(9/148)
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله
: " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك " ، فهذا عند
الصلاة في الخوف ، يقوم الإمام وتقوم معه طائفة منهم ، وطائفة يأخذون أسلحتهم
ويقفون بإزاء العدو. فيصلي الإمام بمن معه ركعة ، ثم يجلس على هيئته ، فيقوم القوم
فيصلون لأنفسهم الركعة الثانيةَ والإمام جالس ، ثم ينصرفون حتى يأتوا أصحابهم ،
فيقفون موقفهم. ثم يقبل الآخرون فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ، ثم يسلم ،
فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية. فهكذا صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم بطن نخلة.
* * *
وقال آخرون : بل تأويل قوله : " فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم " ، فإذا
سجدت الطائفة التي قامت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل في صلاته فدخلت معه
في صلاته ، السجدةَ الثانية من ركعتها الأولى (1) " فليكونوا من ورائكم
" ، يعني : من ورائك ، يا محمد ، ووراء أصحابك الذين لم يصلوا بإزاء العدو.
قالوا : وكانت هذه الطائفة لا تسلِّم من ركعتها إذا هي فرغت من سجدتي ركعتها التي
صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنها تمضي إلى موقف أصحابها بإزاء العدوّ ،
عليها بقية صلاتها. (2) قالوا : وكانت تأتي الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدوّ
حتى تدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقية صلاته ، فيصلي بهم النبي صلى الله
عليه وسلم الركعة التي كانت قد بقيت عليه. قالوا : وذلك معنى قول الله عز ذكره :
" ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم " .
* * *
ثم اختلف أهل هذه المقالة في صفة قضاء ما كان تبقَّى على كل طائفة من هاتين
الطائفتين من صلاتها ، بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته وسلامه من
صلاته ، على قول قائلي هذه المقالة ومتأوِّلي هذا التأويل.
__________
(1) السياق : " فإذا سجدت الطائفة ... السجدة الثانية " .
(2) في المطبوعة : " وعليها بقية صلاتها " بزيادة واو.
(9/149)
فقال بعضهم : كانت الطائفة الثانية
التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية من صلاتها ، إذا سلم النبي
صلى الله عليه وسلم من صلاته قامت فقضت ما فاتها من صلاتها مع النبي صلى الله عليه
وسلم في مقامها ، بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته ، والطائفة التي صلت
مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى بإزاء العدو بعدُ لم تتم. (1) فإذا هي
فرغت من بقية صلاتها التي فاتتها مع النبي صلى الله عليه وسلم ، مضت إلى مصاف
أصحابها بإزاء العدو ، وجاءت الطائفة الأولى التي صلت مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم الركعة الأولى إلى مقامها التي كانت صلت فيه خلف رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، فقضت بقية صلاتها.
ذكر الرواية بذلك :
10355 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد
قال ، حدثنا خصيف قال ، حدثنا أبو عبيدة بن عبد الله قال ، قال عبد الله : صلى بنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فقامت طائفة منا خلفه ، وطائفة بإزاء
أو مستقبلي العدو ، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالذين خلفه ركعة ، ثم نكصوا
فذهبوا إلى مقام أصحابهم. وجاء الآخرون فقاموا خلف النبي صلى الله عليه وسلم ،
فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة ، ثم سلم رسول الله ، ثم قام هؤلاء
فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم ذهبوا فقاموا مقامَ أصحابهم مستقبلي العدوّ ، ورجع
الآخرون إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " لم تتم صلاتها " ، زاد " صلاتها " ،
وأثبت ما في المخطوطة فهو صواب جيد.
(2) الأثر : 10355 - " عبد الواحد بن زياد العبدي " ، أحد الأعلام
الثقات ، مضى برقم : 2616.
و " خصيف " هو : خصيف بن عبد الرحمن الجزري مضى برقم : 8136 ، تكلموا
فيه ، قال ابن حبان : " تركه جماعة من أئمتنا ، واحتج به آخرون وكان شيخًا
صالحًا فقيهًا عابدًا ، إلا أنه كان يخطئ كثيرًا فيما يروي ، ويتفرد عن المشاهير
بما لا يتابع عليه ، وهو صدوق في روايته ، إلا أن الإنصاف فيه ، قبول ما وافق
الثقات في الروايات ، وترك ما لم يتابع عليه ، وهو من أستخير الله تعالى فيه
" .
و " أبو عبيدة " ، هو : أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، مضى برقم :
4570 ، 4694. و " عبد الله " هو عبد الله بن مسعود.
وهذا الأثر رواه أبو داود 2 : 22 رقم : 1224. والبيهقي في السنن 3 : 261 ، من طريق
عبد السلام بن حرب عن خصيف ، ومن طريق الثوري عن خصيف ، ومن طريق شريك عن خصيف.
وهذا الأخير هو رقم : 10357. ولفظه مخالف للفظ حديث عبد الواحد بن زياد عن خصيف ،
قال البيهقي : " وهذا الحديث مرسل ، أبو عبيدة لم يدرك أباه ، وخصيف الجزري
ليس بالقوي " .
(9/150)
10356 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا
ابن فضيل قال ، حدثنا خصيف ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : صلى بنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فذكر نحوه. (1)
10357 - حدثنا تميم بن المنتصر قال ، أخبرنا إسحاق قال ، أخبرنا شريك ، عن خصيف ،
عن أبي عبيدة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (2)
وقال آخرون : بل كانت الطائفة الثانية التي صلَّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
الركعة الثانية لا تقضي بقية صلاتها بعد ما يُسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من
صلاته ، ولكنها كانت تمضي قبل أن تقضي بقية صلاتها ، فتقف موقفَ أصحابها الذين
صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى ، وتجيء الطائفة الأولى إلى
موقفها الذي صلت فيه ركعتها الأولى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتقضي
ركعتها التي كانت بقيت عليها من صلاتها فقال بعضهم : كانت تقضي تلك الركعة بغير
قراءة. وقال آخرون : بل كانت تقضي بقراءة فإذا قضت ركعتها الباقية عليها هناك
وسلمت ، مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدو ، وأقبلت الطائفة التي صلَّت مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية إلى مقامها الذي صلَّت فيه مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية من
__________
(1) الأثران : 10356 ، 10357 - مكرر الذي قبله. وانظر رواية أبي داود في السنن 2 :
22 ، رقم 1224.
(2) الأثران : 10356 ، 10357 - مكرر الذي قبله. وانظر رواية أبي داود في السنن 2 :
22 ، رقم 1224 .
(9/151)
صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فقضت الركعة الثانية صلاتها بقراءة ، فإذا فرغت وسلمت ، انصرفت إلى أصحابها.
*ذكر من قال ذلك :
10358 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن
إبراهيم في صلاة الخوف ، قال : يصف صفًّا خلفه ، وصفًّا بإزاء العدو في غير مصلاه
، فيصلي بالصف الذي خلفه ركعة ، ثم يذهبون إلى مصاف أولئك ، وجاء أولئك الذين
بإزاء العدو ، فصلى بهم ركعة ، ثم سلم عليهم ، (1) وقد صلى هو ركعتين ، وصلى كلّ
صف ركعة. ثم قام هؤلاء الذين سلم عليهم إلى مصاف أولئك الذين بإزاء العدو ، فقاموا
مقامهم ، وجاؤوا فقضوا الركعة ، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك الذين بإزاء العدو ،
وجاء أولئك فصلوا ركعة (2) قال سفيان : فتكون لكل إنسان ركعتين ركعتين. (3)
10359 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران وحدثني علي قال ، حدثنا زيد جميعًا ، عن
سفيان قال : كان إبراهيم يقول في صلاة الخوف ، فذكر نحوه.
10360 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن
عمر بن الخطاب رحمة الله عليه مثل ذلك. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وجاء أولئك الذين بإزاء العدو ، فيصلي بهم ركعة ثم يسلم
عليهم " " يصلي " و " يسلم " مضارعًا ، والصواب الجيد ما
أثبته من المخطوطة.
(2) الأثر : 10358 - " الحارث " ، هو : " الحارث بن محمد بن أبي
سامة " و " عبد العزيز " هو : " عبد العزيز بن أبان الأموي
" ، مضيا برقم : 10295 ، 10315 ، وغيرهما ، وسيأتي برقم : 10360.
(3) في المطبوعة : " فيكون لكل إنسان ركعتان ركعتان " ، والذي أثبته من
المخطوطة ، وهو صواب حسن جدًا.
(4) الأثر : 10360 - " الحارث بن محمد بن أبي أسامة " ، و " عبد
العزيز بن أبان الأموي " ، انظر التعليق على الأثر : 10358. وزدت : "
رحمة الله عليه " من المخطوطة.
(9/152)
وقال آخرون : بل كل طائفة من الطائفتين
تقضي صلاتها على ما أمكنها ، من غير تضييع منهم بعضها.
*ذكر من قال ذلك :
10361 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن
الحسن : أن أبا موسى الأشعري صلى بأصحابه صلاة الخوف بأصبهان إذ غزاها. قال : فصلى
بطائفة من القوم ركعة ، وطائفة تحرس. فنكص هؤلاء الذين صلى بهم ركعة ، وخَلَفهم
الآخرون فقاموا مقامهم ، فصلى بهم ركعة ثم سلم ، فقامت كل طائفة فصلت ركعًة.
10362 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث قال ، حدثنا يونس ، عن
الحسن ، عن أبي موسى ، بنحوه.
10363 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثنا أبي ، عن قتادة
، عن أبي العالية ويونس بن جبير قالا صلى أبو موسى الأشعري بأصحابه بالدير من
أصبهان ، (1) وما بهم يومئذ خوف ، (2) ولكنه أحب أن يعلمهم صلاتهم. فصفَّهم
بصفَّين : (3) صفًّا خلفه ، وصفًّا مواجهة العدوّ مقبلين على عدوهم. فصلى بالذين
يلونه ركعة ، ثم ذهبوا إلى مصافّ أصحابهم. وجاء أولئك ، فصفّهم خلفه ، فصلى بهم
ركعة ثم سلم. فقضى هؤلاء ركعة ، وهؤلاء ركعة ، ثم سلم بعضهم على بعض. فكانت للإمام
ركعتان في جماعة ، (4) ولهم ركعة ركعة. (5)
__________
(1) في المطبوعة : " صلى أبو موسى بأصحابه بأصبهان " ، غير ما في
المخطوطة ، وفي الدر المنثور " بالدار من أصبهان " ، ولم أهتد إلى موضع
يقال له " الدير " أو " الدار " من بلاد أصبهان. ومع ذلك
فكثير من بلدان هذه الجهات ، قد أغفلت معاجم البلدان ذكرها ، وقلما تظفر بها إلا
في ثنايا الأخبار المنثورة في كتب التاريخ والفتوح.
(2) في الدر المنثور : " وما بهم يومئذ كبير خوف " .
(3) في المطبوعة " فصفهم صفين " ، وهو صواب في المعنى ، ولكني أثبت ما
في المخطوطة.
(4) في المطبوعة : " ركعتين " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) الأثر : 10363 ، 10364 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 213 ، ونسبه لابن
أبي شيبة وجده ، بغير هذا اللفظ. وأشار إليه البيهقي في السنن 3 : 252.
(9/153)
10364 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا
ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي العالية ، عن أبي موسى ، بمثله.
10365 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن نافع ، عن
ابن عمر : أنه قال في صلاة الخوف : يصلي بطائفة من القوم ركعة ، (1) وطائفة تحرس.
ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم ، ثم يجيء أولئك فيصلي
بهم ركعة ، ثم يسلم. فتقوم كل طائفة فتصلي ركعة. (2)
10366 - حدثنا نصر بن علي قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع
، عن ابن عمر ، بنحوه.
10367 - حدثني عمران بن بكَّار الكلاعي قال ، حدثنا يحيى بن صالح قال ، حدثنا ابن
عياش قال ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم : أنه صلى صلاة الخوف ، فذكر نحوه. (3)
10368 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا ابن جريج قال ،
أخبرني الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر : أنه كان يحدِّث أنه صلى مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه. (4)
10369 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري ، عن
سالم ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه. (5)
10370 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن عبد الله بن نافع ،
__________
(1) في المطبوعة : " يصلي طائفة " ، والصواب من المخطوطة.
(2) الأثر : 10365 - والآثار التي تليه : 10366 ، 10367 ، ثم 10370 ، 10371 ، خمسة
أسانيد لحديث نافع ، عن ابن عمر. حديث صحيح رواه أحمد في مسنده برقم : 6159 ، وهو
إسناد الطبري رقم : 10371 ، ثم رواه برقم : 6431 ، من طريق موسى بن عقبة ، عن نافع
، عن ابن عمر. وانظر شرح أخي السيد أحمد في المسند على الأثر : 6159.
(3) الأثر : 10367 - " عمران بن بكار الكلاعي " مضى برقم : 2071.
(4) الأثران : 10368 ، 10369 - خبر سالم عن ابن عمر حديث صحيح ، رواه أحمد في
مسنده : 6351 ، وانظر شرح أخي السيد أحمد هناك.
(5) الأثران : 10368 ، 10369 - خبر سالم عن ابن عمر حديث صحيح ، رواه أحمد في
مسنده : 6351 ، وانظر شرح أخي السيد أحمد هناك.
(9/154)
عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال النبي
صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف : يقوم الأمير وطائفة من الناس فيسجدون سجدة
واحدة ، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو ، ثم ذكر نحوه. (1)
10371 - حدثنا محمد بن هارون الحربي قال ، حدثنا أبو المغيرة الحمصي قال ، حدثنا
الأوزاعي ، عن أيوب بن موسى ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم
صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة ، ثم ذكر نحوه. (2)
10372 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " إلى قوله
: " فليصلوا معك " ، فإنه كانت تأخذ طائفة منهم السلاح ، فيقبلون على
العدو ، والطائفة الأخرى يصلون مع الإمام ركعة ، ثم يأخذون أسلحتهم فيستقبلون
العدو ، ويرجع أصحابهم فيصلون مع الإمام ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ، ولسائر
الناس ركعة واحدة ، ثم يقضون ركعة أخرى. وهذا تمام الصلاة.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في صلاة الخوف والعدو يومئذ في ظهر القبلة بين
المسلمين وبين القبلة ، فكانت الصلاة التي صلى بهم يومئذ النبي صلى الله عليه وسلم
صلاة الخوف ، إذ كان العدو بين الإمام والقبلة.
__________
(1) الأثران : 10370 ، 10371 - انظر التعليق على رقم : 10365.
" محمد بن هارون الحربي " ، المعروف بأبي نشيط ، بغدادي ، ونسبته في
التهذيب " الربعي " ، وهي نسبة إلى القبيلة ، أما " الحربي "
فنسبة إلى " الحربية " ، وهي محلة كبيرة ببغداد عند " باب حرب
" مقبرة بشر الحافي وأحمد بن حنبل ، تنسب إلى أحد قواد أبي جعفر المنصور ،
وكان يتولى شرطة بغداد ، وهو " حرب بن عبد الله البلخي " ، نسب إليها
طائفة كبيرة من أهل العلم ببغداد. ولم أجد هذه النسبة - نسبة محمد بن هارون - إلا
في التفسير.
و " أبو المغيرة الحمصي " هو : " عبد القدوس بن الحجاج الخولاني
" ، ثقة ، من شيوخ أحمد ، روى عنه البخاري ، وروى له هو والباقون بواسطة
إسحاق بن الكوسج وأحمد بن حنبل وغيرهم. مات سنة 212 ، وصلى عليه أحمد بن حنبل.
(2) الأثران : 10370 ، 10371 - انظر التعليق على رقم : 10365.
" محمد بن هارون الحربي " ، المعروف بأبي نشيط ، بغدادي ، ونسبته في
التهذيب " الربعي " ، وهي نسبة إلى القبيلة ، أما " الحربي "
فنسبة إلى " الحربية " ، وهي محلة كبيرة ببغداد عند " باب حرب
" مقبرة بشر الحافي وأحمد بن حنبل ، تنسب إلى أحد قواد أبي جعفر المنصور ،
وكان يتولى شرطة بغداد ، وهو " حرب بن عبد الله البلخي " ، نسب إليها
طائفة كبيرة من أهل العلم ببغداد. ولم أجد هذه النسبة - نسبة محمد بن هارون - إلا
في التفسير.
و " أبو المغيرة الحمصي " هو : " عبد القدوس بن الحجاج الخولاني
" ، ثقة ، من شيوخ أحمد ، روى عنه البخاري ، وروى له هو والباقون بواسطة
إسحاق بن الكوسج وأحمد بن حنبل وغيرهم. مات سنة 212 ، وصلى عليه أحمد بن حنبل.
(9/155)
ذكر الأخبار المنقولة بذلك :
10373 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثني يونس بن بكير ، عن النضر أبي عمر ، عن عكرمة ،
عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ ، فلقي المشركين
بعسفان ، فلما صلى الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه ، قال بعضهم لبعض يومئذ :
كان فرصة لكم ، لو أغرتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم! قال قائل منهم : فإنّ
لهم صلاة أخرى هي أحبَّ إليهم من أهلهم وأموالهم ، فاستعدوا حتى تغيروا عليهم
فيها. فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم : " وإذا كنت فيهم فأقمت
لهم الصلاة " إلى آخر الآية ، وأعلمه ما ائتمر به المشركون. فلما صلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم العصر وكانوا قبالته في القبلة ، فجعل المسلمين خلفه صفين
، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا جميعًا ، ثم ركع وركعوا معه جميعًا.
فلما سجد سجد معه الصف الذين يلونه ، وقام الصف الذين خلفهم مقبلين على العدو ،
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سجوده وقام ، سجد الصف الثاني ثم قاموا
، وتأخر الذين يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم الآخرون ، فكانوا يلون
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما ركع ركعوا معه جميعًا ، ثم رفع فرفعوا معه ،
ثم سجد فسجد معه الذين يلونه ، وقام الصف الثاني مقبلين على العدو ، فلما فرغ رسول
الله صلى الله عليه وسلم من سجوده وقعد الذين يلونه ، سجد الصفّ المؤخر ، ثم قعدوا
فتشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا ، فلما سلم رسول الله صلى الله
عليه وسلم سلّم عليهم جميعًا. فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعض ينظر
إليهم ، قالوا : لقد أخبروا بما أردنا! (1)
__________
(1) الأثر : 10373 - " النضر أبو عمر " هو : " نضر بن عبد الرحمن
الخزاز " ، مضى برقم : 718 ، وهو ضعيف الحديث ، سئل عنه أبو نعيم فقال :
" لا يسوى هذا ورفع شيئًا من الأرض كان يجيء فيجلس عند الحماني ، وكل شيء
يسأل عنه يقول : عكرمة عن ابن عباس " .
وهذا الأثر رواه الحاكم في المستدرك 3 : 30 ، وقال : " هذا حديث صحيح على شرط
البخاري ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي. وهذا عجب ، فإن البخاري قال في
ترجمة " النضر " : " منكر الحديث " !! فكيف يكون هذا الخبر
على شرطه!! ومن أجل مثل هذا لم يبال العلماء بتصحيح الحاكم غفر الله له. وخرجه
السيوطي في الدر المنثور 1 : 213 ، وزاد نسبته للبزار.
(9/156)
10374 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا
الحكم بن بشير قال ، حدثنا عمر بن ذر قال ، حدثني مجاهد قال : كان النبي صلى الله
عليه وسلم بعسفان والمشركون بضجنان بالماء الذي يلي مكة ، فلما صلى النبيّ صلى
الله عليه وسلم الظهرَ فرأوه سجدَ وسجد الناس ، قالوا : إذا صلى صلاة بعد هذه
أغرنا عليه! فحذره الله ذلك. فقام النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فكبّر وكبر
الناس معه ، فذكر نحوه.
10375 - حدثني عمران بن بكار قال ، حدثنا يحيى بن صالح قال ، حدثنا ابن عياش قال ،
أخبرني عبيد الله بن عمرو ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : كنت مع
النبّي صلى الله عليه وسلم ، فلقينا المشركين بنخل ، فكانوا بيننا وبين القبلة.
فلما حضرت صلاة الظهر ، (1) صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جميع. فلما
فرغنا ، تذَامر المشركون ، (2) فقالوا : لو كنا حملنا عليهم وهم يصلون! فقال بعضهم
: فإن لهم صلاة ينتظرونها تأتي الآن ، هي أحبّ إليهم من أبنائهم ، فإذا صلوا
فميلوا عليهم. قال : فجاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليهما بالخبر ، (3)
وعلّمه كيف يصلي. فلما حضرت العصر ، قام نبي الله صلى الله عليه وسلم مما يلي
العدوّ ، وقمنا خلفه صفين ، فكبر نبي الله وكبرنا معه جميعًا ، ثم ذكر نحوه. (4)
__________
(1) في المطبوعة : " فلما حضرت الظهر " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) قوله : " تذامر المشركون " أي : تلاوموا على ترك الفرصة ، وقال
بعضهم : " قد تكون بمعنى تحاضوا على القتال " . ولكن الأجود ، هو المعنى
الأول ، فإن " التذامر " - فيما أرى - يحمل معنى التلاوم والحض على
انتهاز الفرصة من العدو. وفي الدر المنثور : " تآمر المشركون " ،
والصواب ما في المخطوطة والمطبوعة. وقد ذكره ابن الأثير بهذا اللفظ ، ونقله صاحب
اللسان " تذامر المشركون " في حديث صلاة الخوف ، يعني هذا الحديث بلا
شك.
(3) في المطبوعة : " ... إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، وأثبت ما
في المخطوطة. " عليهما " ، يعني رسول الله وجبريل.
(4) الأثر : 10375 - " عمران بن بكار الكلاعي " ، مضى قريبًا رقم :
10367.
" يحيى بن صالح الوحاظي " ثقة من أهل الشام. مات سنة 222 ، روى عن عبيد
الله بن عمرو الرقي ، وإسماعيل بن عياش وغيرهما.
و " ابن عياش " هو : إسماعيل بن عياش بن سلم العنسي. ثقة حافظ ، وقد
تكلموا فيه. مترجم في التهذيب.
و " عبيد الله بن عمرو الرقي الجزري " أبو وهب. مضى برقم : 1566 ، 4964
، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا " عبيد الله بن عمر " ، وهو خطأ لا شك
فيه ، فإنه هو الذي يروي عن أبي الزبير.
و " أبو الزبير " هو : محمد بن مسلم بن تدرس. مضى برقم : 2029 ، 8025.
وهذا الأثر رواه ابن جرير بثلاثة أسانيد ، هذا والإسنادان التاليان. وحديث أبي
الزبير عن جابر ، رواه مسلم 5 : 127 من طريق أحمد بن عبد الله بن يونس ، عن زهير ،
عن أبي الزبير. ورواه النسائي في السنن 3 : 176 من طريق عمرو بن علي ، عن عبد
الرحمن ، عن سفيان ، عن أبي الزبير. وأشار إليه البخاري (الفتح 7 : 326). وأفاض
الحافظ ابن حجر في مواضع في بيان حديث أبي الزبير عن جابر ، ورواه البخاري من طريق
هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ، وهما إسنادا أبي جعفر رقم : 10377 ، 10378 ،
وأبو داود الطيالسي في مسنده : 240 ، من طريق هشام أيضًا. وأخرجه البيهقي في السنن
3 : 258 ، وكلهم اختصره.
وقصر السيوطي في الدر المنثور 2 : 214 ، فاقتصر على نسبته لابن أبي شيبة وابن
جرير. ورواية ابن جرير مطولة.
(9/157)
10376 - حدثني محمد بن معمر قال ،
حدثنا حماد بن مسعدة ، عن هشام بن أبي عبد الله ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه.
10377 - حدثنا مؤمل بن هشام قال ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن هشام ، عن أبي
الزبير ، عن جابر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه.
10378 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد ، عن منصور
، عن مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعسفان ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الظهر ، وعلى المشركين خالد
بن الوليد. فقال المشركون : لقد أصبنا منهم غرة ، ولقد أصبنا منهم غفلة!! فأنزل
الله صلاة الخوف بين الظهر والعصر ، فصلى
(9/158)
بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة
العصر ، [ففرّقنا] يعني فرقتين (1) فرقة تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وفرقة
تصلي خلفهم يحرسونهم. ثم كبر فكبروا جميعًا ، وركعوا جميعًا ، ثم سجد الذين يلون
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قام فتقدم الآخرون فسجدوا ، ثم قام فركع بهم
جميعًا ، ثم سجد بالذين يلونه ، حتى تأخر هؤلاء فقاموا في مصافِّ أصحابهم ، ثم تقدم
الآخرون فسجدوا ، ثم سلم عليهم. فكانت لكلهم ركعتين مع إمامهم. وصلى مرة أخرى في
أرض بني سليم. (2)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية ، على قول هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ورووا هذه
الرواية : وإذا كنت يا محمد ، فيهم يعني : في أصحابك خائفا " فأقمت لهم الصلاة
فلتقم طائفة منهم معك " ، يعني : ممن دخل معك في صلاتك " فإذا سجدوا
" يقول : فإذا سجدت هذه الطائفة بسجودك ، ورفعت رءوسها من سجودها "
فليكونوا من ورائكم " ، يقول : فليَصِرْ مَنْ خلفك خلف الطائفة التي حرستك
وإياهم إذا سجدت بهم وسجدوا معك (3) " ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا " ،
يعني الطائفةَ الحارسة التي صلت معه ، غير أنها لم تسجد بسجوده. فمعنى قوله :
" لم يصلوا " - على مذهب هؤلاء - : لم يسجدوا بسجودك " فليصلوا معك
" ،
__________
(1) في المطبوعة : " صلاة العصر يعني فرقتين " ، وهو لا يكاد يستقيم ،
فزدت ما بين القوسين من النسائي ، ونصه هناك " ففرقنا فرقتين " ليس فيه
(يعني).
(2) الأثر : 10378 - " عمرو بن عبد الحميد الآملي " شيخ الطبري ، مضى
برقم : 3759 ، وقد قال أخي هناك : " لم أعرف من هو ؟ ولم أجد له ترجمة ،
ولعله محرف عن شيء لا أعرفه " . والذي قاله لا يصح ، فقد جاء هنا أيضًا
" عمرو بن عبد الحميد " ، وروى عنه أبو جعفر في التاريخ في موضع واحد 1
: 184 ، قال : " حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي قال ، حدثنا أبو أسامة
" ، فثبت أنه غير محرف.
وخبر " أبي عياش الزرقي " ، مضى من طريق منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش
بثلاثة أسانيد ، 10323 ، 10324 ، وطريق عبد العزيز بن عبد الصمد ، هو الذي رواه
النسائي في السنن 3 : 177 وهذا الأثر غير موجود في المخطوطة.
(3) في المخطوطة : " وليصر من خلفك وخلف الطائفة ... " بالواو في "
ليصر " ، وبالواو قبل " خلف الطائفة " ، وصححها في المطبوعة :
" فليصر من خلفك خلف " فجعل الأول فاء ، وحذف الثانية ، وهو الصواب إن
شاء الله.
(9/159)
يقول : فليسجدوا بسجودك إذا سجدت ،
ويحرُسك وإياهم الذين سجدوا بسجودك في الركعة الأولى وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم
" ، يعني الحارسة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية ، قول من قال : معنى ذلك
: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتها " فليكونوا من ورائكم " ،
يعني : من خلفك وخلف من يدخل في صلاتك ممن لم يصلِّ معك الركعة الأولى بإزاء العدو
، وبعد فراغها من بقية صلاتها (1) " ولتأت طائفة أخرى " ، وهي الطائفة
التي كانت بإزاء العدو " لم يصلوا " ، يقول : لم يصلوا معك الركعة
الأولى " فليصلوا معك " ، يقول : فليصلوا معك الركعة التي بقيت عليك
" وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم " ، لقتال عدوهم ، بعد ما يفرغون من صلاتهم.
وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه فعله يوم ذات
الرقاع ، والخبر الذي روى سهل بن أبي حثمة. (2)
وإنما قلنا : ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الله عز ذكره قال : " وإذا كنت
فيهم فأقمت لهم الصلاة " ، وقد دللنا على أن " إقامتها " ، إتمامها
بركوعها وسجودها ، ودَللنا مع ذلك على أن قوله : " فليس عليكم جناح أن تقصروا
من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " ، إنما هو إذنٌ بالقصر من ركوعها
وسجودها في حال شدة الخوف.
فإذْ صح ذلك ، كان بيِّنًا أنْ لا وجه لتأويل من تأول ذلك : أن الطائفة الأولى إذا
سجدت مع الإمام فقد انقضت صلاتها ، لقوله : " فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم
" ،
__________
(1) في المطبوعة : " ... بإزاء العدو بعد فراغها ... " بحذف الواو من
" وبعد " ، والصواب ما في المخطوطة.
(2) يعني الخبر رقم : 10345 ، ثم خبر سهل بن أبي حثمة من : 10346 - 10353.
(9/160)
لاحتمال ذلك من المعاني ما ذكرتُ قبل
ولأنه لا دلالة في الآية على أن القصر الذي ذكر في الآية قبلَها ، عُنِي به القصر
من عدد الركعات.
وإذ كان لا وجه لذلك ، فقول من قال : " أريد بذلك التقدم والتأخر في الصلاة ،
على نحو صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان " ، أبعد. (1) وذلك أنّ الله
جل ثناؤه يقول : " ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك " ، وكلتا
الطائفتين قد كانت صلَّت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعته الأولى في صلاته
بعسفان. ومحالٌ أن تكون التي صلَّت مع النبي صلى الله عليه وسلم هي التي لم تصلِّ
معه.
فإن ظن ظان أنه أريد بقوله : " لم يصلوا " ، لم يسجدوا فإن ذلك غير
الظاهر المفهوم من معاني " الصلاة " ، وإنما توجه معاني كلام الله جل
ثناؤه إلى الأظهر والأشهر من وجوهها ، ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له.
وإذْ كان ذلك كذلك ولم يكن في الآية أمر من الله تعالى ذكرهُ للطائفة الأولى
بتأخير قضاء ما بقي عليها من صلاتها إلى فراغ الإمام من بقية صلاته ، (2) ولا على
المسلمين الذين بإزاء العدوّ في اشتغالها بقضاء ذلك ضرر (3) لم يكن لأمرها بتأخير
ذلك ، وانصرافها قبل قضاء باقي صلاتها عن موضعها ، معنًى.
غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإنا نرى أن من صلاها من الأئمة فوافقت صلاته بعض
الوجوه التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلاها ، فصلاته مجزئة
عنه تامة ، لصحّة الأخبار بكل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) قوله : " أبعد " خبر قوله : " فقول من قال " ، والسياق :
فقول من قال ... أبعد.
(2) في المطبوعة : " ولم يكن في الآية أمر من الله عز ذكره للطائفة الأولى
" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) قوله : " ولا على المسلمين ... " معطوف على قوله : " ولم يكن
في الآية أمر ... " والمعنى : ولم يكن على المسلمين الذين بإزاء العدو ...
ضرر ... في اشتغالها بقضاء ذلك.
وسياق الجملة التالية : " وإذ كان ذلك كذلك ... لم يكن لأمرها بتأخير ذلك ...
معنى " .
(9/161)
وسلم ، وأنه من الأمور التي علَّم رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمته ، ثم أباح لهم العمل بأيِّ ذلك شاءوا.
* * *
قال أبو جعفر : وأما قوله : " ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم
وأمتعتكم " ، فإنه يعني : تمنى الذين كفروا بالله (1) " لو تغفلون عن
أسلحتكم وأمتعتكم " : يقول : لو تشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم التي تقاتلونهم
بها ، وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها. (2) " فيميلون
عليكم ميلة واحدة " ، يقول : فيحملون عليكم وأنتم مشاغيل بصلاتكم عن أسلحتكم
وأمتعتكم حملة واحدة ، فيصيبون منكم غِرَّة بذلك ، فيقتلونكم ويستبيحون عسكركم.
يقول جل ذكره : فلا تفعلوا ذلك بعد هذا ، فتشتغلوا جميعكم بصلاتكم إذا حضرتكم
صلاتكم وأنتم مواقفو العدو ، (3) فتمكنوا عدوّكم من أنفسكم وأسلحتكم وأمتعتكم ،
ولكن أقيموا الصلاة على ما بيّنت لكم ، وخذوا من عدوكم حِذْركم وأسلحتكم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " ود " فيما سلف ص : 17 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " غفل " فيما سلف 2 : 244 ، 316 / 3 : 127 ، 184.
(3) في المطبوعة هنا أيضًا : " موافقو العدو " بتقديم الفاء على القاف ،
وهو خطأ ، صوابه ما أثبت ، وقد سلف شرح ذلك في ص : 130 ، تعليق : 1.
(9/162)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى
أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ
لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ولا جناح عليكم " ، ولا حرج
عليكم ولا إثم (1) " إن كان بكم أذى من مطر " ، يقول : إن نالكم [أذى]
من مطر تمطرونه وأنتم مواقفو عدوِّكم (2) " أو كنتم مرضى " ، يقول : أو
كنتم جرحى أو أعِلاء (3) " أن تضعوا أسلحتكم " ، إن ضعفتم عن حملها ،
ولكن إن وضعتم أسلحتكم من أذى مطر أو مرض ، فخذوا من عدوكم " حذركم " ،
يقول : احترسوا منهم أن يميلوا عليكم وأنتم عنهم غافلون غارّون " إن الله أعد
للكافرين عذابًا مهينًا " ، يعني بذلك : أعدّ لهم عذابًا مُذِلا يبقون فيه
أبدًا ، لا يخرجون منه. وذلك هو عذاب جهنم. (4)
* * *
وقد ذكر أن قوله : " أو كنتم مرضى " نزل في عبد الرحمن بن عوف ، وكان
جريحًا.
__________
(1) انظر تفسير " جناح " فيما سلف ص : 123 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق ، وكان في المطبوعة : " موافقو
عدوكم " ، وانظر التعليق السالف ص : 162 تعليق : 3.
(3) " أعلاء " جمع " عليل " . وكان في المطبوعة : " يقول
: جرحى " ، وأثبت الزيادة من المخطوطة.
(4) انظر تفسير " مهين " فيما سلف 8 : 355 تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(9/163)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
*ذكر من قال ذلك :
10379 - حدثنا عباس بن محمد قال ، حدثنا حجاج قال ، قال ابن جريج ، أخبرني يعلى بن
مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " إن كان بكم أذًى من مطر أو كنتم
مرضى " ، عبد الرحمن بن عوف ، كان جريحًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ
قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإذا فرغتم ، أيها المؤمنون ، من صلاتكم
وأنتم مواقفو عدوِّكم التي بيّناها لكم ، (1) فاذكروا الله على كل أحوالكم قيامًا
وقعودًا ومضطجعين على جنوبكم ، بالتعظيم له ، والدعاء لأنفسكم بالظفر على عدوكم ،
لعل الله أن يظفركم وينصركم عليهم. وذلك نظير قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [سورة الأنفال : 45] ، وكما : -
10380 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة
، عن ابن عباس قوله : " واذكروا الله كثيرًا " ، (2) يقول : لا يفرض
الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلومًا ، (3) ثم عذر أهلها في حال عذرٍ ،
غيرَ الذكر ، فإن الله لم يجعل له حدًا ينتهي إليه ، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا
مغلوبًا على عقله ، فقال : " فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم "
، بالليل والنهار ، في البر والبحر ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة
، والسرِّ والعلانية ، وعلى كل حالٍ.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " قضى " فيما سلف 2 : 542 ، 543 / 4 : 195.
وقوله : " التي بينها لكم " ، صفة قوله : " من صلاتكم " .
وكان في المطبوعة هنا أيضًا : " موافقو عدوكم " ، خطأ. انظر التعليق
السالف ص163 ، تعليق : 2.
(2) في المطبوعة : " فاذكروا الله قيامًا " ، مكان قوله تعالى : "
واذكروا الله كثيرًا " ، وهو في ظني تصرف من الناشر ، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " إلا جعل لها جزاء معلومًا " ، وهو خطأ ،
والصواب " حدًا " كما يدل عليه سياق الكلام ، وسياق المعنى.
(9/164)
وأما قوله : " فإذا اطمأننتم
فأقيموا الصلاة " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : معنى قوله : " فإذا اطمأننتم " ، فإذا استقررتم في أوطانكم
وأقمتم في أمصاركم (1) " فأقيموا " ، يعني : فأتموا الصلاة التي أذن لكم
بقصرها في حال خوفكم في سفركم وضربكم في الأرض. (2)
*ذكر من قال ذلك :
10381 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد في قوله :
" فإذا اطمأننتم " ، قال : الخروج من دارِ السفر إلى دار الإقامة.
10382 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر عن قتادة
في قوله : " فإذا اطمأننتم " ، يقول : إذا اطمأننتم في أمصاركم ، فأتموا
الصلاة.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " فإذا استقررتم " " فأقيموا الصلاة
" ، أي : فأتموا حدودَها بركوعها وسجودها.
*ذكر من قال ذلك :
10383 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فإذا اطمأننتم " ، قال : فإذا اطمأننتم بعد الخوف.
10384 - وحدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " ، قال : فإذا اطمأننتم فصلُّوا الصلاة ، لا
تصلِّها راكبًا ولا ماشيًا ولا قاعدًا. (3)
__________
(1) وانظر تفسير " الاطمئنان " فيما سلف 5 : 492.
(2) في المخطوطة : " فأقيمو الصلاة التي أذن ... " ليس فيها " يعني
: فأتموا " .
(3) انظر تفسير " إقامة الصلاة " فيما سلف 1 : 241 ، وفهارس اللغة في
الأجزاء السالفة.
(9/165)
10385 - حدثنا محمد بن عمرو قال ،
حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فإذا
اطمأننتم فأقيموا الصلاة " ، قال : أتموها.
10386 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بتأويل الآية ، تأويل من تأوّله : فإذا زال خوفكم
من عدوكم وأمنتم ، أيها المؤمنون ، واطمأنت أنفسكم بالأمن " فأقيموا الصلاة
" ، فأتموا حدودَها المفروضة عليكم ، (1) غير قاصريها عن شيء من حدودها.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية ، لأن الله تعالى ذكره عرَّف عباده المؤمنين
الواجبَ عليهم من فرض صَلاتهم بهاتين الآيتين في حالين :
إحداهما : حالُ شدة خوف ، أذن لهم فيها بقصر الصلاة ، على ما بيَّنت من قصر حدودها
عن التمام.
والأخرى : حالُ غير شدة الخوف ، أمرهم فيها بإقامة حدودها وإتمامها ، على ما وصفه
لهم جل ثناؤه ، من معاقبة بعضهم بعضًا في الصلاة خلف أئمتهم ، وحراسة بعضهم بعضًا
من عدوهم. وهي حالة لا قصر فيها ، لأنه يقول جل ثناؤه : لنبيه صلى الله عليه وسلم
في هذه الحال : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " . فمعلوم بذلك أن
قوله : " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " ، إنما هو : فإذا اطمأننتم من
الحال التي لم تكونوا مقيمين فيها صلاتكم ، فأقيموها. وتلك حالة شدة الخوف ، لأنه
قد أمرهم بإقامتها في حالٍ غير شدة الخوف بقوله : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم
الصلاة " الآية.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فأتموها بحدودها " ، غير ما في المخطوطة مسيئًا في
تغييره.
(9/166)
القول في تأويل قوله : { إِنَّ
الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معناه : إن الصلاة كانت على المؤمنين فريضة مفروضة. (1)
*ذكر من قال ذلك :
10387 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية
العوفي في قوله : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا " ، قال
: مفروضًا. (2)
10388 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " إن
الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا " ، قال : مفروضًا ، " الموقوت
" ، المفروض. (3)
10389 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : أما " كتابًا موقوتًا " ، فمفروضًا.
10390 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد
: " كتابًا موقوتًا " ، قال : مفروضًا. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " كتاب " فيما سلف 3 : 364 ، 365 ، 409 / 4 : 295 ، 297
/ 5 : 300 ، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة : " كتابًا موقوتًا ، قال : فريضة مفروضة " ، وأثبت ما
في المخطوطة.
(3) الأثر : 10388 - كان إسناد هذا الأثر في المطبوعة : " حدثني المثنى قال ،
حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني علي ، عن ابن عباس : إن الصلاة ... " .
وأثبت الإسناد الذي في المخطوطة.
ومع ذلك فالإسناد الذي في المطبوعة فيه خطأ ، فإنه أسقط بين " حدثنا عبد الله
بن صالح " وبين " قال حدثني علي " ما لا ينبغي إسقاطه وهو : "
قال حدثني معاوية " ، فهذا إسناد دائر في التفسير ، أقربه رقم : 10380.
(4) الأثر : 10390 - هذا الأثر مقدم على الذي قبله في المخطوطة.
(9/167)
وقال آخرون : معنى ذلك : إن الصلاة
كانت على المؤمنين فرضًا واجبًا.
*ذكر من قال ذلك :
10391 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن في
قوله : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا " ، قال : كتابًا
واجبًا.
10392 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قوله : " كتابًا موقوتًا " ، قال : واجبًا.
10393 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
10394 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن معمر بن سام ، عن أبي جعفر في قوله :
" كتابًا موقوتًا " ، قال : مُوجَبًا. (1)
__________
(1) الأثر : 10394 - " معمر بن سام " ، يقال هو منسوب إلى جده وهو
" معمر بن سام بن موسى " أو : " معمر بن يحيى بن سام " ، روى
عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ، وعن أخيه أبان بن يحيى بن سام ، وفاطمة بنت
علي. روى عنه وكيع ، وأبو أسامة ، وأبو نعيم. سئل أبو زرعة عن " معمر بن يحيى
بن سام " فقال : كوفي ثقة. مترجم في التهذيب ، وفي الكبير 4 / 1 / 377 "
معمر بن يحيى بن سام " ، وفي 4 / 1 / 378 " معمر بن موسى بن سام "
، وهما ترجمة واحدة. وفي الجرح والتعديل 4 / 1 / 258 وسيأتي في رقم : 10396 ،
" معمر بن يحيى " .
وكان في المطبوعة : " معمر بن هشام " وهو خطأ محض ، وفي المخطوطة "
معمر بن شام " ، والصواب ما أثبت.
و " أبو جعفر " هو : أبو جعفر الباقر " محمد بن علي بن الحسين بن
علي بن أبي طالب " ، كان ثقة كثير الحديث ، وذكره النسائي في فقهاء أهل
المدينة من التابعين. وقال الزبير بن بكار : " كان يقال لمحمد : باقر العلم
" .
وكان في المخطوطة : " موقوتا قال : موجوبا " وهي غريبة لا يجيزها
الاشتقاق ، وكأن الناسخ سها ، وغلب عليه وزن " موقوتا " ، فكتب "
موجوبا " ، والذي في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله. أو تكون كما يجيء في
الأثر رقم : 10396 " موقوتًا : وجوبها " فكتبها الناسخ " موجوبا
" ، وقرأها كذلك خطأ أو سهوًا.
(9/168)
10395 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني
أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إن
الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا " ، و " الموقوت " ،
الواجب.
10396 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا معمر بن يحيى قال ،
سمعت أبا جعفر يقول : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا " ،
قال : وجوبها. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا ، منجَّمًا
يؤدُّونها في أنجمها. (2)
*ذكر من قال ذلك :
10397 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا " ، قال
: قال ابن مسعود : إن للصلاة وقتًا كوقت الحجِّ.
10398 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
زيد بن أسلم في قوله : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا "
، قال : منجَّمًا ، كلما مضى نجم جاء نَجْم آخر. يقول : كلما مضى وقت جاء وقت آخر.
10399 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) الأثر : 10396 - " معمر بن يحيى " هو " معمر بن سام "
الذي سلف في الأثر : 10394 ، وانظر التعليق السالف.
(2) " النجم " هو الوقت المضروب ، يقال : " جعلت مالي على فلان
نجومًا منجمة ، يؤدي كل نجم في شهر كذا " ، وهو القسط أو الوظيفة يؤديها عند
حلول وقتها مشاهرة أو مساناة. وجمع " نجم " " نجوم " و "
أنجم " ، و " نجم المال والدين ينجمه تنجيمًا " . وانظر تفسير ذلك
في الأثر التالي رقم : 10398.
(9/169)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
أبي جعفر الرازي ، عن زيد بن أسلم ،
بمثله.
* * *
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض. لأن ما كان مفروضًا فواجب ،
وما كان واجبًا أداؤه في وقت بعد وقت فمنجَّم.
غير أن أولى المعاني بتأويل الكلمة ، قول من قال : " إن الصلاة كانت على
المؤمنين فرضًا منجَّمًا " ، لأن " الموقوت " إنما هو " مفعول
" من قول القائل : " وَقَتَ الله عليك فرضه فهو يَقِته " ، ففرضه
عليك " موقوت " ، إذا أخرته ، جعل له وقتًا يجب عليك أداؤه. (1) فكذلك
معنى قوله : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا " ، إنما هو
: كانت على المؤمنين فرضًا وقَّت لهم وقتَ وجوب أدائه ، فبيَّن ذلك لهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ
مَا لا يَرْجُونَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ولا تهنوا " ، ولا تضعفوا.
* * *
من قولهم : " وهَنَ فلان في هذا الأمرَ يهِن وَهْنًا ووُهُونًا " . (2)
* * *
وقوله : " في ابتغاء القوم " ، يعني : في التماس القوم وطلبهم ، (3) و
" القوم "
__________
(1) في المطبوعة : " إذا أخبر أنه جعل له وقتًا... " وهو كلام غسيل من
كل معنى. وفي المخطوطة : " إذا احرانه " غير منقوطة ، وبزيادة ألف بعد
الراء ، وصواب قراءتها ما أثبت ، وهو صواب المعنى أيضًا.
(2) انظر تفسير " وهن " فيما سلف 7 : 234 ، 269 ، و " الوهون
" مصدر لم تنص عليه أكثر كتب اللغة ، ولم يذكره أبو جعفر فيما سلف 7 : 234.
(3) انظر تفسير " الابتغاء " فيما سلف ص : 71 تعليق : 2 ، والمراجع هناك
(9/170)
هم أعداء الله وأعداء المؤمنين من أهل
الشرك بالله " إن تكونوا تألمون " ، يقول : إن تكونوا أيها المؤمنون ،
تَيْجعون مما ينالكم من الجراح منهم في الدنيا ، (1) " فإنهم يألمون كما
تألمون " ، يقول : فإن المشركين يَيْجعون مما ينالهم منكم من الجراح والأذى
مثل ما تَيجعون أنتم من جراحهم وأذاهم فيها " وترجون " ، أنتم أيها
المؤمنون " من الله " من الثواب على ما ينالكم منهم " ما لايرجون
" هم على ما ينالهم منكم. يقول : فأنتم إذ كنتم موقنين من ثواب الله لكم على
ما يصيبكم منهم ، (2) بما هم به مكذّبون أولى وأحرَى أن تصبروا على حربهم وقتالهم
، منهم على قتالكم وحربكم ، وأن تجِدُّوا من طلبهم وابتغائهم ، لقتالهم على ما
يَهنون فيه ولا يَجِدّون ، فكيف على ما جَدُّوا فيه ولم يهنوا ؟ (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10400 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا
تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون " ، يقول :
لا تضعفوا في طلب القوم ، فإنكم إن تكونوا تيجعون ، فإنهم ييجعون كما تيجعون ،
وترجون من الله من الأجر والثواب ما لا يرجون.
__________
(1) يقال : " وجع الرجل يوجع وييجع وياجع وجعا " ، كله صواب جيد.
(2) في المطبوعة : " إن كنتم موقنين " ، وهو خطأ ، صوابه ما في
المخطوطة. وهذه الجملة بين الخطين ، معترضة بين المبتدأ والخبر. والسياق : "
فأنتم.. أولى وأحرى أن تصبروا " .
(3) في المطبوعة : " فإن تجدوا من طلبهم وابتغائهم لقتالهم على ما تهنون هم
فيه ولا تجدون ، فكيف على ما وجدوا فيه ولم يهنوا " ، وهو كلام لا معنى له ،
وضع عليه ناشر الطبعة الأولى رقم (3) دلالة على اضطراب الكلام.
وفي المخطوطة : " وإن تجدوا من طلبهم وابتغائهم لقتالهم على ما تهنون ولا
يحدون ، فكيف على فاحذوا فيه ولم يهنوا " ! وهي أشد اضطرابًا وفسادًا لعدم
نقطها. وصواب قراءتها ما أثبت.
وسياق هذه العبارة كلها : " فأنتم... أولى وأحرى أن تصبروا على حربهم
وقتالهم... وأن تجدوا في طلبهم وابتغائهم ، لقتالهم على ما يهنون... " أي :
لكي يقاتلوهم على الأمر الذي لا يجدون فيه جدًا لا وهن معه.
(9/171)
10401 - حدثنا محمد بن الحسين قال ،
حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تهنوا في ابتغاء
القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون " ، قال يقول : لا تضعفوا في
طلب القوم ، فإن تكونوا تيجعون الجراحات ، (1) فإنهم يَيْجعون كما تيجعون.
* * *
10402 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " ولا تهنوا في ابتغاء القوم " ، لا تضعفوا.
10403 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن
أبيه ، عن الربيع قوله : " ولا تهنوا " ، يقول : لا تضعفوا. (2)
10404 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا
تهنوا في ابتغاء القوم " ، قال يقول : لا تضعفوا عن ابتغائهم " إن
تكونوا تألمون " القتال " فإنهم يألمون كما تألمون " . وهذا قبل أن
تصيبهم الجراح (3) إن كنتم تكرهون القتال فتألمونه " فإنهم يألمون كما تألمون
وترجون من الله ما لا يرجون " ، يقول : فلا تضعفوا في ابتغائهم بمكان القتال.
(4)
10405 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس قوله : " إن تكونوا تألمون " ، توجعون.
10406 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج "
إن تكونوا تألمون " ، قال : توجعون لما يصيبكم منهم ، فإنهم يوجعون
__________
(1) في المطبوعة : " تيجعون من الجراحات " بزيادة " من " ،
والذي في المخطوطة صواب.
(2) هذا الأثر لم يتم في المخطوطة ، فقد انتهت الصحيفة بقوله تعالى " فلا
تهنوا " ، ثم قلب الوجه الآخر وكتب " في ابتغاء القوم ... " ، وساق
بقية الخبر التالي وأسقط إسناده. وتركت ما في المطبوعة على حاله ، وهو الصواب بلا
شك.
(3) في المطبوعة : " قال : وهذا ... " بزيادة " قال " ، وأثبت
ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة : " مكان القتال " ، وفي المخطوطة : " لمكان
القتال " ، وهذا صواب قراءتها ، يعني : جدهم في التماس القوم في المعركة.
(9/172)
كما توجعون ، وترجون أنتم من الثواب
فيما يصيبكم ما لا يرجون.
10407 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا حفص بن عمر قال ، حدثنا الحكم
بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما كان قتال أُحُد ، وأصابَ المسلمين ما
أصاب ، صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم الجبل ، فجاء أبو سفيان فقال : " يا
محمد ، ألا تخرج ؟ ألا تخرج ؟ (1) الحرب سِجَال ، يوم لنا ويوم لكم " . فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : أجيبوه. فقالوا : " لا سواء ، لا
سواء ، (2) قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار " . فقال أبو سفيان : " عُزَّى
لنا ولا عُزَّى لكم " ، (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا له :
" الله مولانا ولا مولى لكم " . قال أبو سفيان : " أُعْلُ هُبَل ،
أُعْل هبل " ! (4) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا له : "
الله أعلى وأجل " ! فقال أبو سفيان : " موعدنا وموعدكم بدر الصغرى
" ، ونام المسلمون وبهم الكلوم (5) وقال عكرمة : وفيها أنزلت : ( إِنْ
يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) [سورة آل عمران : 140] ، وفيهم أنزلت : " إن
تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله
عليمًا حكيمًا " . (6)
10408 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
في قوله : " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون " ،
__________
(1) في المطبوعة : " لا جرح إلا بجرح " ، أساء قراءة المخطوطة إذ كانت
غير منقوطة ، فكتبها كما كتب!! ولا معنى له. وقوله : " الحرب سجال " ،
أي : مرة لهذا ومرة لهذا.
(2) في المطبوعة ، حذف " لا سواء " الثانية ، لأن الناسخ كان قد كتب
شيئًا ثم ضرب عليه ، فاختلط الأمر على الناشر الأول ، فحذف.
(3) " العزى " صنم كان لقريش وبني كنانة.
(4) و " هبل " صنم كان في الكعبة لقريش. وقد مضى تفسير " اعل هبل
" 7 : 310 ، وخطأ من ضبطه " أعل " بهمز الألف وسكون العين وكسر
اللام ، وأن الصواب أنها من " علا يعلو " .
(5) " الكلوم " جمع " كلم " (بفتح وسكون) : الجرح. و "
الكليم " : الجريح.
(6) الأثر : 10407 - مضى برقم : 7098 ، وجاء فيه على الصواب ، ومنه ومن المخطوطة
صححت ما سلف.
(9/173)
قال : ييجعون كما تيجعون.
وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يتأول ، (1) قوله : " وترجون من الله ما لا يرجون
" ، وتخافون من الله ما لا يخافون ، من قول الله : ( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا
يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ) [سورة الجاثية : 14] ،
بمعنى : لا يخافون أيام الله.
وغير معروف صرف " الرجاء " إلى معنى " الخوف " في كلام العرب
، إلا مع جحد سابق له ، كما قال جل ثناؤه : ( مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا
) [سورة نوح : 13] ، بمعنى : لا تخافون لله عظمة ، وكما قال الشاعر : (2)
لا تَرْتَجِي حِينَ تُلاقِي الذَّائِدَا... أَسَبْعَةً لاقَتْ مَعًا أَمْ وَاحِدَا
(3)
وكما قال أبو ذؤيب الهُذَليّ :
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا... وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ
نُوبٍ عَوَامِلِ (4)
__________
(1) في المطبوعة : " وقد ذكرنا عن بعضهم " وهو خطأ لا شك فيه ، صوابه في
المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " الشاعر الهذلي " ، وهو خطأ نقل نسبة أبي ذؤيب في
البيت بعده إلى هذا المكان. ولم أعرف هذا الراجز من يكون ، وإن كنت أخشى أن يكون
الرجز لأبي محمد الفقعسي.
(3) معاني القرآن للفراء 1 : 286 ، والأضداد لابن الأنباري : 9 ، واللسان (رجا).
(4) ديوانه : 143 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 286 ، وسيأتي في التفسير 11 : 62 /
25 : 83 / 29 : 60 (بولاق). يروى : " إذا لسعته الدبر " ، وتأتي روايته
في التفسير " نوب عواسل " أيضًا. وهذا البيت من قصيدة له ، وصف فيها
مشتار العسل من بيوت النحل ، فقال قبل هذا البيت : تَدَلَّى عَلَيْهَا بالحِبَالِ
مُوَثَّقًا ... شَدِيدُ الْوَصَاةِ نابِلٌ وَابْنُ نِابِلِ
فَلَوْ كَانَ حَبْلا مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً ... وَسَبْعِينَ بَاعًا ، نَالَهَا
بالأَنامِلِ
يقول : تدلى على هذه النحل مشتار موثق بالحبال ، شديد الوصاة والحفظ لما ائتمن
عليه ، حاذق وابن حاذق بما مرن عليه وجربه. ثم ذكر أنه لا يخاف لسع النحل ، إذا هو
دخل عليها فهاجت عليه لتلسعه.
وقوله : " فخالفها " ، أي دخل بيتها ليأخذ عسلها ، وقد خرجت إليه حين
سمعت حسه ، فخالفها إلى بيوت عسلها غير هياب للسعها. ويروى " حالفها "
بالحاء ، أي : لازمها ، ولم يخش لسعها. و " النوب " جمع " نائب
" وهو صفة للنحل ، أي : إنها ترعى ثم تنوب إلى بيتها لتضع عسلها ، تجيء
وتذهب. و " العوامل " ، هي التي تعمل العسل. و " العواسل "
النحل التي تصنع العسل ، أو ذوات العسل.
(9/174)
وهي فيما بلغنا - لغةٌ لأهل الحجاز
يقولونها ، بمعنى : ما أبالي ، وما أحْفِلُ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) }
يعني بذلك جل ثناؤه : ولم يزل الله " عليمًا " بمصالح خلقه "
حكيمًا " ، في تدبيره وتقديره. (2) ومن علمه ، أيها المؤمنون ، بمصالحكم
عرّفكم عند حضور صلاتكم وواجب فرض الله عليكم ، وأنتم مواقفو عدوكم (3) ما يكون به
وصولكم إلى أداء فرض الله عليكم ، والسلامة من عدوكم. ومن حكمته بصَّركم ما فيه
تأييدكم وتوهينُ كيد عدوكم. (4)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ
خَصِيمًا (105) }
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 286.
(2) انظر تفسير " كان " و " عليم " و " حكيم " فيما
سلف من فهارس اللغة.
(3) في المطبوعة : " موافقو عدوكم " ، وقد مضى مثل هذا الخطأ مرارًا
فيما سلف ص : 146 ، تعليق : 1.
(4) في المطبوعة : " بصركم بما فيه " بزيادة الباء ، وأثبت ما في
المخطوطة ، وهو صواب.
(9/175)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
القول في تأويل قوله : { وَاسْتَغْفِرِ
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم
بين الناس بما أراك الله " ، " إنا أنزلنا إليك " يا محمد "
الكتاب " ، يعني : القرآن " لتحكم بين الناس " ، لتقضي بين الناس
فتفصل بينهم " بما أراك
(9/175)
الله " ، يعني : بما أنزل الله
إليك من كتابه " ولا تكن للخائنين خصيمًا " ، يقول : ولا تكن لمن خان
مسلمًا أو معاهدًا في نفسه أو ماله " خصيما " تخاصم عنه ، وتدفع عنه من
طالبه بحقِّه الذي خانه فيه " واستغفر الله " ، يا محمد ، وسَلْه أن
يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان مالاً لغيره " إن الله
كان غفورًا رحيمًا " ، يقول : إن الله لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنين ،
بتركه عقوبتهم عليها إذا استغفروه منها " رحيما " بهم. (1)
فافعل ذلك أنت ، يا محمد ، يغفر الله لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن.
* * *
وقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خاصم عن الخائن ، ولكنه هَّم بذلك ،
فأمره الله بالاستغفار مما هَمَّ به من ذلك.
* * *
وذكر أن الخائنين الذين عاتب الله جلَّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم في خصومته
عنهم : بنو أُبَيْرِق.
* * *
واختلف أهل التأويل في خيانته التي كانت منه ، فوصفه الله بها.
فقال بعضهم : كانت سرقًة سرقها.
*ذكر من قال ذلك :
10409 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قول الله : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما
أراك الله " إلى قوله : " ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله " ، فيما
بين ذلك ، في ابن أبيرق ، (2) ودرعه من حديد ، من يهود ، التي سرق ، (3)
__________
(1) انظر تفسير " الاستغفار " ، و " كان " و " غفور
" و " رحيم " فيما سلف في فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة : " طعمة بن أبيرق " ، وسيأتي ذكر " طعمة بن أبيرق
" في رقم : 10412 ، ولكنه في المخطوطة هنا " ابن أبيرق " ، وسترى
الاختلاف في الآثار في بني أبيرق هؤلاء.
(3) قوله " من يهود " أثبتها من المخطوطة.
(9/176)
وقال أصحابه من المؤمنين للنبي :
" اعذره في الناس بلسانك " ، ورموا بالدّرع رجلا من يهود بريئًا.
10410 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد نحوه. (1)
10411 - حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني قال ، حدثنا محمد بن
سلمة قال ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أبيه ، عن جده
قتادة بن النعمان قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق : بشر وبَشِير ،
ومُبَشِّر ، وكان بشير رجلا منافقًا ، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم ينحله إلى بعض العرب ، ثم يقول : " قال فلان كذا
" ، و " قال فلان كذا " ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث! فقال : (2)
أَوَ كُلَّمَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةً... أَضِمُوا وَقَالُوا : ابْنُ
الأبَيْرِقِ قَالَهَا! (3)
قال : وكانوا أهل بيت فاقةٍ وحاجة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس
__________
(1) الأثر : 10410 - هذا الأثر غير ثابت في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " إلا هذا الخبيث " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة : " نحلت وقالوا " ، وتركت ما في المطبوعة على حاله ،
وقد جاء هذا البيت في المستدرك للحاكم خطأ : . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. ... ضموا إلى بان أبيرق قالها
والذي هنا هو صوابه ، وأنشد بعده هناك : مُتَخَمِّطِينَ كأنَّنِي أَخْشَاهُم ...
جَدَعَ الإِلهُ أُنُوفَهُمْ فَأَبَانَهَا
هكذا جاء على الإقواء ، على الخلاف بين القافية في " قالها " و "
أبانها " وهو عيب جاء مثله في الشعر ، لتقارب مخرج اللام والنون ، وأعانه على
ذلك وجود الهاء والألف صلة للقافية.
وقوله : " أضموا " أي : غضبوا عليه وحقدوا. وقوله : " متخمطين
" ، قد غضبوا وهدروا وثاروا وأجلبوا. رجل متخمط : شديد الغضب له ثورة وجلبة.
وفي المستدرك : " متخطمين " بتقدم الطاء على الميم ، وهو خطأ ، صوابه ما
أثبت.
(9/177)
إنما طعامهم بالمدينة التمر والشَّعير
، وكان الرجل إذا كان له يَسَار فقدمت ضَافِطة من الشأم بالدَّرْمك ، (1) ابتاع
الرجل منها فخصَّ به نفسه. (2) فأما العِيال ، فإنما طعامهم التمر والشَّعير.
فقدمت ضافطة من الشأم ، فابتاع عمي رِفاعة بن زيد حملا من الدَّرمك ، فجعله في
مَشْرُبة له ، (3) وفي المشربة سلاح له : دِرْعَان وسيفاهما وما يصلحهما. فعُدِي
عليه من تحت الليل ، (4) فنُقِبَت المشربة ، وأُخِذَ الطعام والسّلاح. فلما أصبح ،
أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، تعلَّم أنه قد عُدي علينا في ليلتنا هذه ،
(5) فنقبت مشرُبتنا ، فذُهِب بسلاحنا وطعامنا! قال : فتحسّسنا في الدار ، (6)
وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما
نراه إلا على بعض طعامكم.
قال : وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار : والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد
بن سهل! رجلا منا له صلاح وإسلام. (7) فلما سمع بذلك لبيد ، اخترط سيفه ثم أتى بني
أبيرق فقال : (8) والله ليخالطنكم هذا السيف ، أو لتُبَيّننَّ هذه
__________
(1) الضافطة : كانوا قومًا من الأنباط يحملون إلى المدينة الدقيق والزيت وغيرهما.
ثم قالوا للذي يجلب الميرة والمتاع إلى المدن ، والمكاري الذي يكري الأحمال "
الضافطة " و " الضفاط " . و " الدرمك " هو الدقيق النقي
الحواري ، الأبيض.
(2) في المطبوعة : " ابتاع الرجل منهم " ، وفي المخطوطة : " منا
" ، وأثبت ما في المراجع.
(3) " المشربة " (بفتح الميم وسكون الشين وفتح الراء أو ضمها) : وهي
الغرفة ، أو العلية ، أو الصفة بين يدي الغرفة. والمشارب : العلالي.
(4) في المراجع الأخرى : " من تحت البيت " ، وكأن الذي في الطبري هو
صواب الرواية.
(5) " تعلم " (بتشديد اللام) ، بمعنى : اعلم.
(6) في المطبوعة والمخطوطة : " فتجسسنا " بالجيم ، وهي صواب ، وأجود
منها بالحاء ، كما في سائر المراجع. " تحسس الخبر " : تطلبه وتبحثه ،
وفي التنزيل : " يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه " .
و " الدار " هنا : المحلة التي تنزلها القبيلة أو البطن منها ، ويعني
بها القبيلة أو البطن ، كما جاء في الحديث : " ألا أنبئكم بخير دور الأنصار ؟
دور بني النجار ، ثم دور بني عبد الأشهل ، وفي كل دور الأنصار خير " . يعني
القبيلة المجتمعة في محلة تسكنها.
(7) في المطبوعة : " رجل " بالرفع ، كأنه استنكر النصب! وهو صواب محض
عال.
(8) " اخترط سيفه " : سله من غمده.
(9/178)
السرقة. قالوا : إليك عنا أيها الرجل ،
فوالله ما أنت بصاحبها! فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ، فقال عمي : يا
ابن أخي ، لو أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له!
قال قتادة : فأتيت رَسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت : يا رسول
الله ، إن أهل بيت منا أهلَ جفاءٍ ، (1) عَمَدُوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشرُبة له
، وأخذوا سلاحه وطعامه ، فليردّوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه.
(2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنظر في ذلك. (3) فلما سمع بذلك بنو
أبيرق ، أتوا رجلا منهم يقال له : " أسير بن عروة " ، فكلموه في ذلك.
واجتمع إليه ناس من أهل الدار ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا
رسول الله ، إن قتادة بن النعمان وعمه عَمَدوا إلى أهل بيت منا أهلَ إسلام وصلاح
يرمونهم بالسرقة من غير بَيِّنةٍ ولا ثَبَت. (4)
قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته ، فقال : عَمدت إلى أهل
بيت ذُكر منهم إسلام وصلاح ، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثَبَت!! قال : فرجعت
ولوِددْتُ أنِّي خرجت من بعض مالي ولم أكلِّم رَسول الله صلى الله عليه وسلم في
ذلك. فأتيت عمي رفاعة ، فقال : يا ابن أخي ، ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان!
فلم نلبث أن نزل القرآن : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما
أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا " ، يعني : بني أبيرق " واستغفر الله
" ، أي : مما قلت لقتادة " إن الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن
الذين يختانون
__________
(1) " الجفاء " غلظ الطبع.
(2) في المخطوطة : " فلا حاجة لنا به " ، وهما سواء.
(3) في المطبوعة : " سأنظر في ذلك " ، وفي الترمذي وابن كثير : "
سآمر في ذلك " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) " الثبت " (بفتحتين) : الحجة والبينة والبرهان.
(9/179)
أنفسهم " ، أي : بني أبيرق "
إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيمًا يستخفون من الناس إلى قوله : " ثم
يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا " ، أي : إنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم
" ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليمًا حكيمًا ومن يكسب
خطيئة أو إثمًا ثم يَرْم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا " ،
قولهم للبيد " ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك " ،
يعني : أسيرًا وأصحابه " وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرُّونك من شيء وأنزل
الله عليك الكتاب والحكمة " إلى قوله : " فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا
" .
فلما نزل القرآن ، أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فردَّه إلى رفاعة.
قال قتادة : فلما أتيتُ عمي بالسلاح ، وكان شيخًا قد عَسَا في الجاهلية ، (1) وكنت
أرى إسلامه مَدْخولا (2) فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي ، هو في سبيل الله.
قال : فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا. فلما نزل القرآن ، لحق بشير بالمشركين ، فنزل
على سلافة ابنة سعد بن شُهَيد ، (3) فأنزل الله فيه : ( وَمَنْ يُشَاقِقِ
__________
(1) " عسا في الجاهلية " أي : كبر وأسن ، من قولهم : " عسا العود
" أي : يبس واشتد وصلب.
(2) " المدخول " ، من " الدخل " (بفتحتين) وهو العيب والفساد
والغش ، يعني أن إيمانه كان فيه نفاق. ورجل مدخول : أي في عقله دخل وفساد.
(3) في المطبوعة : " سلافة بنت سعد بن سهل " ، وفي المخطوطة : "
... بنت سعد بن سهيل " ، وفي الترمذي وابن كثير " بنت سعد بن سمية
" وفي المستدرك : " سلامة بنت سعد بن سهل ، أخت بني عمرو بن عوف ، وكانت
عند طلحة بن أبي طلحة بمكة " .
والصواب الذي لا شك فيه هو ما أثبته ، وقد جاءت على الصواب في الدر المنثور ، ثم
جاءت كذلك في ديوان حسان بن ثابت.
و " سلافة بنت سعد بن شهيد " أنصارية من بني عوف بن عمرو بن مالك بن
الأوس ، استظهرت نسبها : " سلافة بنت سعد بن شهيد بن عمرو بن زيد بن أمية بن
زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس " . وذلك من جمهرة
الأنساب لابن حزم ، ص : 314 ، إذ ذكر " عويمر بن سعد بن شهيد بن عمرو ...
" وقال : " له صحبة ، ولاه عمر فلسطين " . ولم أجد في تراجم
الصحابة وسائر المراجع " عويمر بن سعد بن شهيد " . هذا ، ولكن نقل ابن
حزم صحيح بلا شك. فإن يكن ذلك ، فعويمر هذا أخو سلافة هذه. و " سلافة بنت سعد
بن شهيد الأنصارية " معروفة غير منكورة ، فهي زوج طلحة بن أبي طلحة ، وهي أم
مسافع ، والجلاس ، وكلاب ، بنو طلحة بن أبي طلحة (ابن هشام 3 : 66) ، وقد قتلوا
يوم أحد هم وأبوهم ، قتل مسافعًا والجلاس ، عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، حمى
الدبر ، فنذرت سلافة : لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر! فمنعته الدبر
(النحل) حين أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة (ابن هشام 3 : 180).
فهذا تحقيق اسمها إن شاء الله ، يصحح به ما في الترمذي والمستدرك ومن نقل عنهما.
(9/180)
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) إلى قوله : ( وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا ) . فلما نزل على سلافة ، رماها
حسان بن ثابت بأبيات من شعر ، (1)
فأخذت رحله فوضعته على رأسها ، ثم خرجت فرمتْ به في الأبطح ، (2) ثم قالت : أهديتَ
إليّ شعر حسان! ما كنت تأتيني بخير! (3)
__________
(1) شعر حسان هذا في ديوانه : 271 يقول في أوله يذكر سلافة بالسوء من القول ، قال
: وَمَا سَارِقُ الدِّرْعَيْنِ إنْ كُنْتَ ذاكِرًا ... بذي كَرَمٍ من الرجالِ أُوَادِعُهْ
فَقَدْ أَنْزَلَتْهُ بِنْتُ سَعْدٍ ، فأَصْبَحَتْ ... يُنَازِعُهَا جِلْدَ اسْتِها
وَتُنَازِعُهْ
(2) في المطبوعة : " فرمته بالأبطح " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو
مطابق لما في الترمذي. و " الأبطح " ، هو أبطح مكة ، أو : بطحاء مكة ،
وهو مسيل واديها.
(3) الأثر : 10411 - " الحسن بن أحمد بن أبي شعيب عبد الله بن مسلم الأموي
" أبو مسلم الحراني. من أهل حران ، سكن بغداد. قال الخطيب : " ثقة مأمون
" . وذكره ابن حبان في الثقات وقال : " يغرب " . روى عن محمد بن
سلمة. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 2 ، وتاريخ بغداد 7 : 266.
وهذا الأثر رواه الترمذي في السنن ، في تفسير هذه الآية ، بإسناد الطبري نفسه ،
أعني عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب. ورواه الحاكم في المستدرك 4 : 385 ، وخرجه ابن
كثير في تفسيره 2 : 574 - 576 ، والسيوطي في الدر 2 : 214 ، 215 ، وزاد نسبته لابن
أبي حاتم ، وأبي الشيخ.
وإسناد الحاكم في المستدرك : " حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد
بن عبد الجبار ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثني محمد بن إسحاق ... " ، وساق
إسناده مرفوعًا إلى قتادة بن النعمان ، كما في التفسير والترمذي.
وأشار الخطيب البغدادي إلى هذا الخبر بإسناده : " أخبرنا عثمان بن محمد بن
يوسف العلاف ، أخبر محمد بن عبد الله الشافعي قال ، حدثنا عبد الله بن الحسن بن
أحمد بن أبي شعيب (وهو أبو شعيب) ، حدثنا جدي وأبي جميعًا فقالا ، حدثنا محمد بن
سلمة " وساقه كإسناد أبي جعفر.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في التهذيب أن أبا مسلم الحراني (الحسن بن أحمد) روى عن
أبيه وجده ، وأخشى أن يكون وهم ، وجاءه الوهم من هذا الإسناد لقوله " حدثني
جدي وأبي جميعًا " ، وإنما قائل ذلك هو عبد الله بن الحسن بن أحمد ، لا الحسن
بن أحمد.
ثم قال الخطيب البغدادي : " قال أبو شعيب : " قال أبي (يعني الحسن بن
أحمد) : سمعه مني يحيى بن معين ببغداد في مسجد الجامع ، وأحمد بن حنبل ، وعلي بن
المديني ، وإسحاق بن أبي إسرائيل " . وأما في ابن كثير ، فقائل هذا : "
محمد بن سلمة " ، وهو الصواب.
وقال الحاكم في المستدرك (ولفظه مخالف لفظ الطبري) : " هذا حديث صحيح على شرط
مسلم ، ولم يخرجاه " .
أما الترمذي فقد قال : " هذا حديث غريب ، لا نعلم أحدًا أسنده غير محمد بن
سلمة الحراني. وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم
بن عمر بن قتادة ، مرسلا ، لم يذكروا فيه : عن أبيه عن جده " .
غير أن الحاكم : رواه كما ترى من طريق يونس بن بكير ، مرفوعًا إلى قتادة بن
النعمان.
(9/181)
10412 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا
يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم
بين الناس بما أراك الله " ، يقول : بما أنزل الله عليك وبيَّن لك " ولا
تكن للخائنين خصيمًا " ، فقرأ إلى قوله : " إن الله لا يحب من كان
خوانًا أثيمًا " . ذُكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طُعْمة بن أبيرق ،
وفيما همَّ به نبي الله صلى الله عليه وسلم من عذره ، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق
، ووعظ نبيَّه وحذّره أن يكون للخائنين خصيمًا.
وكان طعمة بن أبيرق رجلا من الأنصار ، ثم أحد بني ظفر ، سرق درعًا لعمّه كانت
وديعة عنده ، ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم ، (1) يقال له : " زيد بن السمين
" . (2) فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يُهْنِف ، (3) فلما
رأى ذلك قومه بنو ظفر ، جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم ،
__________
(1) في المخطوطة والدر المنثور : " فقدمها " والصواب ما في المطبوعة.
(2) في أسباب النزول للواحدي : 134 : " زيد بن السمير " بالراء ، وسائر
الكتب كما هنا في المطبوعة والمخطوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " يهتف " بالتاء ، كأنه أراد يصيح ويدعو
رسول الله ويناشده. ولكني رجحت قراءتها بالنون ، من قولهم : " أهنف الصبي
إهنافًا " ، إذا تهيأ للبكاء وأجهش. ويقال للرجال : " أهنف الرجل "
، إذا بكى بكاء الأطفال من شدة التذلل. وهذا هو الموافق لسياق القصة فيما أرجح.
(9/182)
وكان نبي الله عليه السلام قد همَّ
بعُذْره ، حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل ، فقال : " ولا تجادل عن الذين
يختانون أنفسهم " إلى قوله : " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة
الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة " ، يعني بذلك قومه " ومن يكسب
خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا " ، وكان
طعمة قذَف بها بريئًا. فلما بيَّن الله شأن طعمة ، نافق ولحق بالمشركين بمكة ،
فأنزل الله في شأنه :
( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا ).
10413 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما
أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا " ، وذلك أن نفرًا من الأنصار غزوا مع
النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فسرقت درع لأحدهم ، فأظَنَّ بها رجلا من
الأنصار ، (1) فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ طعمة بن
أبيرق سرق درعي. فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأى السارق ذلك ،
عَمَد إليها فألقاها في بيت رجل بريء ، وقال لنفر من عشيرته : إني قد غيَّبْتُ
الدرعَ وألقيتها في بيت فلان ، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبيّ الله صلى الله عليه
وسلم ليلا (2) فقالوا : يا نبيّ الله ، إن صاحبنا بريء ، وإن سارق الدرع فلان ،
وقد أحطْنا بذلك علمًا ، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه ، فإنه إلا يعصمه
الله بك يهلك! (3) فقام رسول الله صلى الله
__________
(1) " ظننت الرجل ، وأظننته " ، اتهمته. و " الظنة " (بالكسر)
: التهمة.
(2) " ليلا " غير موجودة في المخطوطة ، ولكن سيأتي بعد أسطر ما يدل على
صواب إثباتها.
(3) في المطبوعة : " إن لم يعصمه الله " ، والذي في المخطوطة ، صواب
عريق.
(9/183)
عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس
، فأنزل الله : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك
الله ولا تكن للخائنين خصيمًا " ، يقول : احكم بينهم بما أنزل الله إليك في
الكتاب " واستغفر الله إنّ الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الذين
يختانون أنفسهم " الآية. ثم قال للذين أتوا رسول الله عليه السلام ليلا
" يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله " إلى قوله : " أم من يكون
عليهم وكيلا " ، يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين
يجادلون عن الخائن ثم قال : " ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله
يجد الله غفورًا رحيمًا " ، يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
مستخفين بالكذب (1) ثم قال : " ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد
احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا " ، يعني : السارقَ والذين يجادلون عن السارق.
10414 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " إنا
أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " الآية ، قال : كان
رجل سرق درعًا من حديد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وطرحه على يهودي ، فقال
اليهودي : والله ما سرقتها يا أبا القاسم ، ولكن طرحت عليّ! وكان للرجل الذي سرق
جيرانٌ يبرِّئونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون : يا رسول الله ، إن هذا اليهودي
الخبيث يكفر بالله وبما جئت به! قال : حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض
القول ، فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق
لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا واستغفر الله " بما
قلت لهذا اليهودي " إن الله كان غفورًا رحيمًا " ثم أقبل على جيرانه
فقال : " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا " فقرأ حتى بلغ
" أم من يكون عليهم وكيلا " . قال : ثم عرض التوبة فقال : " ومن
يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم
__________
(1) في المطبوعة ، سقط من الناشر من أول قوله : " يجادلون عن الخائن "
إلى قوله : " بالكذب " ، فأثبتها من المخطوطة.
(9/184)
يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا
ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه " ، فما أدخلكم أنتم أيها الناس ، على
خطيئة هذا تكلَّمون دونه " وكان الله عليمًا حكيمًا ومن يكسب خطيئة أو إثمًا
ثم يرم به بريئًا " ، وإن كان مشركًا " فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا
" ، فقرأ حتى بلغ : " لا خير في كثير من نجواهم " ، (1) فقرأ حتى
بلغ : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى " . قال : أبى أن
يقبل التوبة التي عرَض الله له ، وخرج إلى المشركين بمكة ، فنقب بيتًا يسرقه ، (2)
فهدمه الله عليه فقتله. فذلك قول الله تبارك وتعالى (3) " ومن يشاقق الرسول
من بعد ما تبين له الهدى " ، فقرأ حتى بلغ " وساءت مصيرًا " ويقال
: هو طعمة بن أبيرق ، وكان نازلا في بني ظَفر.
* * *
وقال آخرون : بل الخيانة التي وصف الله بها من وصفه بقوله : " ولا تكن
للخائنين خصيمًا " ، جحودُه وديعة كان أودِعها.
*ذكر من قال ذلك :
10415 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا
تكن للخائنين خصيمًا " ، قال : أما " ما أراك الله " ، فما أوحى
الله إليك. قال : نزلت في طعمة بن أبيرق ، استودعه رجل من اليهود درعًا ، فانطلق
بها إلى داره ، فحفر لها اليهودي ثم دفنها. فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها.
فلما جاء اليهودي يطلب درعه ، كافره عنها ، (4) فانطلق إلى ناس من
__________
(1) سقط من المطبوعة : " فقرأ حتى بلغ : لا خير في كثير من نجواهم " ،
وزاد في التي بعدها : " حتى بلغ إلى قوله " . وأثبت نص المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " ليسرقه " ، والذي في المخطوطة صواب معرق.
(3) في المطبوعة : " فذلك قوله " ، وأثبت نص المخطوطة.
(4) " كافره حقه " : جحده ، و " كافره عنه " ، عربي صريح.
(9/185)
اليهود من عشيرته فقال : انطلقوا معي ،
فإني أعرف موضع الدرع. فلما علم بهم طعمة ، أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مُلَيْلٍ
الأنصاري. فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها ، وقع به طعمة وأناس من قومه
فسبُّوه ، وقال : أتخوِّنونني! فانطلقوا يطلبونها في داره ، فأشرفوا على بيت أبي
مليل ، فإذا هم بالدرع. وقال طعمة : أخذها أبو مليل! وجادلت الأنصار دون طعمة ،
وقال لهم : انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له يَنْضَح عني
ويكذِّب حجة اليهودي ، (1) فإني إن أكذَّب كذب على أهل المدينة اليهودي! فأتاه
أناس من الأنصار فقالوا : يا رسول الله ، جادل عن طعمة وأكذب اليهودي. فهمّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ، فأنزل الله عليه : " ولا تكن للخائنين
خصيمًا واستغفر الله " مما أردت " إن الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل
عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيما " ثم ذكر
الأنصار ومجادلتهم عنه فقال : " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو
معهم إذ يبيِّتون ما لا يرضى من القول " ، يقول : يقولون ما لا يرضى من القول
(2) " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم
القيامة " ثم دعا إلى التوبة فقال : " ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم
يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا " ثم ذكر قوله حين قال : " أخذها
أبو مليل " فقال : " ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه " "
ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا "
ثم ذكر الأنصار وإتيانها إياه : (3) أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه ، فقال : "
لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك
الكتاب والحكمة " ، يقول : النبوة ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذِّبوا
عن طعمة ، فقال : " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو
إصلاح بين الناس " . فلما فضح الله طعمة بالمدينة بالقرآن ، هرب حتى أتى مكة
، فكفر بعد إسلامه ، ونزل على الحجاج بن عِلاط السُّلَمي ، فنقب بيت الحجاج ،
فأراد أن يسرقه ، فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقعةَ جلودٍ كانت عنده ، (4) فنظر
فإذا هو بطعمة فقال : ضيفي وابنَ عمي وأردتَ أن تسرقني!! فأخرجه ، فمات بحرَّة بني
سُلَيم كافرًا ، (5) وأنزل الله فيه : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له
الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تولَّى " إلى " وساءت مصيرًا
" .
10416 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
عكرمة ، قال : استودع رجل من الأنصار طعمةَ بن أبيرق مشرُبة له فيها درع ، (6)
وخرج فغاب. فلما قدم الأنصاري فتح مشربته ، فلم يجد الدرع ، فسأل عنها طعمة بن
أبيرق ، فرمى بها رجلا من اليهود يقال له زيد بن السمين : فتعلَّق صاحب الدرع
بطُعمة في درعه. فلما رأى ذلك قومه ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكلموه ليدْرأ
عنه ، فهمّ بذلك ، فأنزل الله تبارك وتعالى : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق
لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا * واستغفر الله إن الله
كان غفورًا رحيمًا * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " ، يعني : طعمة بن
أبيرق وقومه " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في
__________
(1) " نضح عنه " : أي ذب عنه ودفع بحجة تنفي عنه ما اتهم به.
(2) قوله : " يقول : يقولون ما لا يرضى من القول " ، غير موجودة في
المخطوطة ، وأخشى أن تكون زيادة من ناسخ. وسيأتي معنى " التبيت " على
وجه الدقة فيما يلي ص : 191 ، 192.
(3) في المطبوعة : " وإتيانهم إياه " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) " الخشخشة " : صوت حركة ، تكون من السلاح إذا احتك ، والثوب الجديد
، ويبيس النبات. و " القعقعة " : أشد من الخشخشة ، صوت يكون من الجلد
اليابس ، والسلاح إذا ارتطم بعضه ببعض.
(5) " حرة بني سليم " في عالية نجد. و " الحرة " أرض ذات
حجارة سود نخرة ، كأنها أحرقت بالنار.
(6) المشربة : الغرفة ، كما أسلفت في التعليق.
(9/186)
الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم
القيامة أم من يكون عليهم وكيلا " ، محمد صلى الله عليه وسلم وقوم طعمة
" ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا "
، محمد وطعمة وقومه قال : " ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه " الآية
، طعمة " ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا " ، يعني زيد بن
السمين " فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا " ، طعمة بن أبيرق "
ولولا فضل الله عليك ورحمته " يا محمد " لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما
يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء " ، قوم طعمة بن أبيرق " وأنزل الله
عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا " يا
محمد (1) " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف " ، حتى
تنقضي الآية للناس عامة " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غيرَ
سبيل المؤمنين " الآية. قال : لما نزل القرآن في طعمة بن أبيرق ، لحق بقريش
ورجع في دينه ، ثم عدا على مشرُبة للحجاج بن عِلاط البَهْزِيّ ثم السُّلمي ، (2)
حليفٌ لبني عبد الدار ، فنقبها ، فسقط عليه حجر فلَحِج. (3) فلما أصبح أخرجوه من
مكة. فخرجَ فلقي ركبًا من بَهْرَاء من قضاعة ، فعرض لهم فقال : ابن سبيل
مُنْقَطَعٌ به! فحملوه ، حتى إذا جنَّ عليه الليل عَدَا عليهم فسرقهم ، ثم انطلق.
فرجعوا في طلبه فأدركوه ، فقذفوه بالحجارة حتى مات قال ابن جريج : فهذه الآيات
كلها فيه نزلت إلى قوله : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء " ، أنزلت في طعمة بن أبيرق ويقولون : إنه رمى بالدرع في دار أبي مليل
بن عبد الله الخَزْرجي ، فلما نزل القرآن لحق بقريش ، فكان من أمره ما كان.
10417 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " لتحكم بين الناس بما أراك الله " ،
يقول : بما أنزل عليك وأراكه في كتابه. ونزلت هذه الآية في رجل من الأنصار استُودع
درعًا فجحد صاحبها ، فخوّنه رجال من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فغضب له
قومه ، وأتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : خوَّنوا صاحبنا ، وهو أمين
مسلم ، فاعذره يا نبي الله وازْجُر عنه! فقام نبي الله فعذره وكذَّب عنه ، وهو يرى
أنه بريء ، وأنه مكذوب عليه ، فأنزل الله بيان ذلك فقال : " إنا أنزلنا إليك
الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " إلى قوله : " أم من يكون
عليهم وكيلا " ، فبين الله خيانته ، فلحق بالمشركين من أهل مكة وارتدّ عن
الإسلام ، فنزل فيه : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى " إلى
قوله : " وساءت مصيرًا " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بما دل عليه ظاهر الآية ، قول من قال : كانت
خيانته التي وصفه الله بها في هذه الآية ، جحودَه ما أودع ، لأن ذلك هو المعروف من
معاني " الخيانات " في كلام العرب. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من
معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيل ، أولى من غيره.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " محمد صلى الله عليه وسلم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة " البهري " ، وهو تصحيف. ولا يعجبني هذا ، بل
الصحيح أن يقال : " السلمي ثم البهزي " بالتقديم والتأخير ، فإنه "
بهز بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور " ، فبهز بطن من سليم بن منصور.
(3) " لحج بالمكان " : نشب فيه ولزمه وضاق عليه أن يخرج منه. و "
لحج السيف " : نشب في الغمد فلم يخرج.
(9/188)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
القول في تأويل قوله : { وَلا
تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " ولا تجادل " يا محمد ، فتخاصم
" عن الذين يختانون أنفسهم " ، يعني : يخوّنون أنفسهم ، يجعلونها
خَبوَنة بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه مالَه ، وهم بنو أبيرق. يقول : لا
تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم وما خانوه فيه من أموالهم " إن الله لا يحب من
كان خوّانًا أثيمًا " ، يقول : إنّ الله لا يحب من كان من صفته خِيَانة الناس
في أموالهم ، وركوب الإثم في ذلك وغيره مما حرَّمه الله عليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل : وقد تقدم ذكر الرواية عنهم.
10418 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة : " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " ، قال : اختان رجل عمًّا
له درعًا ، فقذف بها يهوديًا كان يغشاهم ، فجادل عمُّ الرجل قومه ، فكأن النبي صلى
الله عليه وسلم عذره. ثم لحق بأرض الشرك ، فنزلت فيه : " ومن يشاقق الرسول من
بعد ما تبين له الهدى " الآية.
* * *
(9/190)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
القول في تأويل قوله : { يَسْتَخْفُونَ
مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ
مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
}
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يستخفون من الناس " ، يستخفي
هؤلاء الذين يختانون أنفسهم ، ما أتَوْا من الخيانة ، وركبوا من العار والمعصية
(1) " من الناس " ، الذين لا يقدرون لهم على شيء ، إلا ذكرهم بقبيح ما
أتَوْا من فعلهم ، (2) وشنيع ما ركبوا من جُرْمهم إذا اطلعوا عليه ، حياءً منهم
وحذرًا من قبيح الأحدوثة " ولا يستخفون من الله " الذي هو مطلع عليهم ،
لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، وبيده العقاب والنَّكال وتعجيل العذاب ، وهو أحق أن
يُستحى منه من غيره ، وأولى أن يعظَّم بأن لا يراهم حيث يكرهون أن يراهم أحد من
خلقه " وهو معهم " ، يعني : والله شاهدهم " إذ يبيتون ما لا يرضى
من القول " ، يقول : حين يسوُّون ليلا ما لا يرضى من القول ، فيغيِّرونه عن
وجهه ، ويكذبون فيه.
* * *
وقد بينا معنى " التبييت " في غير هذا الموضع ، وأنه كل كلام أو أمرٍ
أصلح ليلا. (3)
وقد حكى عن بعض الطائيين أن " التبييت " في لغتهم : التبديل ، وأنشد
للأسود بن عامر بن جُوَين الطائي في معاتبة رجل : (4)
__________
(1) في المطبوعة في الموضعين : " ما أوتوا " ، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة في الموضعين : " ما أوتوا " ، والصواب من المخطوطة.
(3) انظر ما سلف 8 : 562 ، 563.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " ... بن جرير " ، والصواب ما أثبت ،
والأسود بن عامر بن جوين الطائي ، أبو عامر بن جوين الطائي ، الذي نزل به امرؤ
القيس (الأغاني 8 : 90 ، 95) ، وقد ذكرهما ابن دريد في الاشتقاق : 233 وقال :
" كانا سيدين رئيسين " ، وذكرهما ابن حزم في الجمهرة : 379 ، وقال في
الأسود بن عامر : " شاعر " ، ثم قال : " فولد الأسود هذا : قبيصة
بن الأسود ، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
(9/191)
وَبَيَّتَّ قَوْلِيَ عَبْدَ
الْمَلِيكِ... قاتلَكَ الله عَبْدًا كَنُودًا!! (1)
بمعنى : بدَّلت قولي.
* * *
وروي عن أبي رزين أنه كان يقول في معنى قوله : " يبيتون " ، يؤلّفون.
10419 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش
، عن أبي رزين : " إذ يبيتون ما لا يرضى من القول " ، قال : يؤلِّفون ما
لا يرضى من القول.
10420 - حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال ، حدثنا أبو يحيى الحماني ، عن سفيان ، عن
الأعمش ، عن أبي رزين بنحوه.
10421 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن
الأعمش ، عن أبي رزين ، مثله. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول شبيه المعنى بالذي قلناه. وذلك أن " التأليف
" هو التسوية والتغيير عما هو به ، وتحويلُه عن معناه إلى غيره.
* * *
وقد قيل : عنى بقوله : " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله " ،
الرهطَ الذين مشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة المدافعة عن ابن
أبيرق والجدال عنه ، (3) على ما ذكرنا قبل فيما مضى عن ابن عباس وغيره.
* * *
" وكان الله بما يعملون محيطًا " يعني جل ثناؤه : وكان الله بما يعمل
هؤلاء
__________
(1) لم أجد البيت في مكان ، وكنت أعرفه ولكن غاب عني مكانه ، فأرجو أن أجده وألحق
به بيانه في طبعة أخرى ، أو في كتاب آخر.
(2) الآثار : 10419 - 10421 - " أبو رزين " هو " أبو رزين الأسدي
" : " مسعود بن مالك " ، مضى برقم : 4291 - 4294 ثم : 4791 - 4793.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " بني أبيرق " ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(9/192)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
المستخفون من الناس ، فيما أتَوْا من
جرمهم ، حياءً منهم ، من تبييتهم ما لا يرضى من القول ، وغيره من أفعالهم "
محيطًا " ، محصيًا لا يخفى عليه شيء منه ، حافظًا لذلك عليهم ، حتى يجازيهم
عليه جزاءهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (109) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة
الدنيا " ، ها أنتم الذين جادلتم ، (2) يا معشر من جادل عن بني أبيرق "
في الحياة الدنيا " و " الهاء " و " الميم " في قوله :
" عنهم " من ذكر الخائنين.
" فمن يجادل الله عنهم " ، يقول : فمن ذا يخاصم الله عنهم " يوم
القيامة " ، أي : يوم يقوم الناس من قبورهم لمحشرهم ، (3) فيدافع عنهم ما
الله فاعل بهم ومعاقبهم به. وإنما يعني بذلك : إنكم أيها المدافعون عن هؤلاء
الخائنين أنفسهم ، وإن دافعتم عنهم في عاجل الدنيا ، فإنهم سيصيرون في آجل الآخرة
إلى من لا يدافع عنهم عنده أحد فيما يحلُّ بهم من أليم العذاب ونَكال العقاب.
وأما قوله : " أم من يكون عليهم وكيلا " ، فإنه يعني : ومن ذا الذي يكون
على هؤلاء الخائنين وكيلا يوم القيامة أي : ومن يتوكل لهم في خصومة ربهم عنهم يوم
القيامة.
* * *
وقد بينا معنى : " الوكالة " ، فيما مضى ، وأنها القيام بأمر من توكل
له. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإحاطة " و " محيط " فيما سلف 2 : 284 / 5
: 396 / 7 : 158.
(2) انظر ما قاله : في " ها أنتم أولاء " و " ها أنتم هؤلاء "
فيما سلف 7 : 150 ، 151.
(3) انظر تفسير " يوم القيامة " فيما سلف 2 : 518 / 8 : 592.
(4) انظر تفسير " الوكيل " فيما سلف 7 : 405 / 8 : 566.
(9/193)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ
يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ
اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ومن يعمل ذنبًا ، وهو " السوء "
(1) " أو يظلم نفسه " ، بإكسابه إياها ما يستحق به عقوبة الله " ثم
يستغفر الله " ، يقول : ثم يتوب إلى الله بإنابته مما عمل من السوء وظُلْم
نفسه ، ومراجعته ما يحبه الله من الأعمال الصالحة التي تمحو ذنبَه وتذهب جرمه
" يجد الله غفورًا رحيمًا " ، يقول : يجد ربه ساترًا عليه ذنبه بصفحه له
عن عقوبة جرمه ، رحيمًا به. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم : عنى بها الذين وصفهم الله بالخيانة بقوله : " ولا تجادل عن
الذين يختانون أنفسهم " .
* * *
وقال آخرون : بل عني بها الذين كانوا يجادلون عن الخائنين ، (3) الذين قال الله
لهم : " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا " ، وقد ذكرنا
قائلي القولين كليهما فيما مضى.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا : أنه عنى بها كل من عمل سوءًا أو
ظلم نفسه ، وإن كانت نزلت في أمر الخائنين والمجادلين عنهم الذين ذكر الله أمرَهم
في الآيات قبلها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " السوء " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " استغفر " ، " غفور " ، " رحيم "
فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) في المطبوعة " الذين يجادلون عن الخائنين " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/194)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل
التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10422 - حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن عاصم ، عن
أبي وائل قال ، قال عبد الله : كانت بنو إسرائيل إذا أصابَ أحدهم ذنبًا أصبح قد
كُتِب كفارة ذلك الذنب على بابه. وإذا أصاب البولُ شيئًا منه ، قَرَضه بالمقراض.
(1) فقال رجل : لقد آتى الله بني إسرائيل خيرًا! فقال عبد الله : ما آتاكم الله
خيرٌ مما آتاهم ، جعل الله الماءَ لكم طهورًا وقال : ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ ) [سورة آل عمران : 135] ، وقال : " ومن يعمل سوءًا أو يظلم
نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا " .
10423 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا ابن عون ، عن حبيب بن أبي ثابت
قال : جاءت امرأة إلى عبد الله بن مُغَفّل ، فسألته عن امرأة فَجرت فَحبِلت ، فلما
ولدتْ قتلت ولدها ؟ فقال ابن مغفل : ما لها ؟ لها النار! فانصرفت وهي تبكي ،
فدعاها ثم قال : ما أرى أمرَك إلا أحدَ أمرين : " من يعمل سوءًا أو يظلم نفسه
ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا " ، قال : فَمَسحت عينها ثم مضت. (2)
10424 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس قوله : " ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم
__________
(1) " قرضه " : قصه. و " المقراض " : المقص.
(2) الأثر : 10423 - " حبيب بن أبي ثابت الأسدي " مضى برقم : 9012 ،
9035. و " عبد الله بن مغفل المزني " من مشاهير الصحابة ، وهو أحد
البكائين في غزوة تبوك. وهو أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقه الناس بالبصرة.
وهذا الخبر من محاسن الأخبار الدالة على عقل الفقيه ، وبصره بأمر دينه ، ونصيحته
للناس في أمور دنياهم.
(9/195)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا
" ، قال : أخبر الله عبادَه بحلمه وعفوه وكرمه ، وسعةِ رحمته ومغفرته ، فمن
أذنب ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرًا ، ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا ، ولو
كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى
نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ومن يأت ذنبًا على عَمْدٍ منه له ومعرفة به ،
فإنما يجترح وَبَال ذلك الذنب وضُرَّه وخِزْيه وعاره على نفسه ، دون غيره من سائر
خلق الله. (1) يقول : فلا تجادلوا ، أيها الذين تجادلون ، عن هؤلاء الخونة ، فإنكم
وإن كنتم لهم عشيرةً وقرابةً وجيرانًا ، برآء مما أتوه من الذنب ومن التَّبِعة
التي يُتَّبعون بها ، وإنكم متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم ، (2) كنتم مثلَهم ،
فلا تدافعوا عنهم ولا تخاصموا.
وأما قوله : " وكان الله عليمًا حكيمًا " ، فإنه يعني : وكان الله
عالمًا بما تفعلون ، أيها المجادلون عن الذين يختانون أنفسهم ، في جدالكم عنهم
وغير ذلك من أفعالِكم وأفعال غيركم ، وهو يحصيها عليكم وعليهم ، حتى يجازي جميعكم
بها " حكيمًا " يقول : وهو حكيم بسياستكم وتدبيركم وتدبير جميع خلقه.
(3)
* * *
وقيل : نزلت هذه الآية في بني أبيرق. وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى قبل. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " كسب " فيما سلف 8 : 267 تعليق : 1 ، والمراجع هناك
وتفسير " الإثم " فيما سلف 4 : 328 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " فإنكم متى دافعتم ... " والسياق يقتضي
" وإنكم " .
(3) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) يعني الآثار السالفة من 10409 - 10418.
(9/196)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ
يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ومن يعمل خطيئة ، وهي الذنب " أو إثمًا
" ، وهو ما لا يحلّ من المعصية. (1)
* * *
وإنما فرق بين " الخطيئة " و " الإثم " ، لأن " الخطيئة
" ، قد تكون من قبل العَمْد وغير العمد ، و " الإثم " لا يكون إلا
من العَمْد ، ففصل جل ثناؤه لذلك بينهما فقال : ومن يأت " خطيئة " على
غير عمد منه لها " أو إثمًا " على عمد منه.
* * *
" ثم يرم به بريئًا " ، (2) يعني : ثم يُضيف ماله من خطئه أو إثمه الذي
تعمده (3) " بريئًا " مما أضافه إليه ونحله إياه " فقد احتمل بُهتانًا
وإثمًا مبينًا " ، يقول : (4) فقد تحمّل بفعله ذلك فريَة وكذبًا وإثمًا
عظيمًا يعني ، وجُرْمًا عظيمًا ، على علم منه وعمدٍ لما أتى من معصيته وذنبه.
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله : " بريئًا " ، بعد إجماع
جميعهم على أن الذي رمى البريءَ من الإثم الذي كان أتاه ، ابن أبيرق الذي وصفنا
شأنه قبل.
__________
(1) انظر تفسير " خطيئة " فيما سلف 2 : 110 ، 284 ، 285.
(2) في المطبوعة زيادة حذفتها ، كان الكلام : " ثم يرم به بريئًا ، يعني
بالذي تعمده بريئًا ، يعني ... " وهو فساد في التفسير ، فحذفته لذلك وتابعت
المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " ثم يصف ما أتى من خطئه ... " وأثبت ما في المخطوطة
، وهو الصواب.
(4) انظر تفسير " البهتان " فيما سلف 5 : 432 / 8 : 124.
(9/197)
فقال بعضهم : عنى الله عز وجل بالبريء
، رجلا من المسلمين يقال له : " لبيد بن سهل " . (1)
* * *
وقال آخرون : بل عنى رجلا من اليهود يقال له : " زيد بن السمين " ، وقد
ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى. (2)
* * *
وممن قال : " كان يهوديًّا " ، ابنُ سيرين.
10425 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا غندر ، عن شعبة ، عن خالد الحذاء ، عن ابن
سيرين : " ثم يرم به بريئًا " ، قال : يهوديًّا.
10426 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا بدل بن المحبر قال ، حدثنا شعبة ، عن
خالد ، عن ابن سيرين ، مثله. (3)
* * *
وقيل : " يرم به بريئًا " ، بمعنى : ثم يرم بالإثم الذي أتى هذا الخائن
، من هو بريء مما رماه به فـ " الهاء " في قوله : " به "
عائدة على " الإثم " . ولو جعلت كناية من ذكر " الإثم " و
" الخطيئة " ، كان جائزًا ، لأن الأفعال وإن اختلفت العبارات عنها ،
فراجعة إلى معنى واحد بأنها فعلٌ. (4)
* * *
وأما قوله : " فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا " ، فإن معناه : فقد
تحمل - هذا الذي رمَى بما أتى من المعصية وركب من الإثم الخطيئة ، مَنْ هو بريء
مما رماه به
__________
(1) انظر الأثر رقم : 10411.
(2) انظر رقم : 10412 ، 10416.
(3) الأثر : 10426 - " بدل بن المحبر بن المنبه التميمي اليربوعي " روى
عن شعبة ، والخليل بن أحمد صاحب العروض ، وغيرهما. وروى عنه البخاري ، والأربعة
بواسطة محمد بن بشار. ثقة.
و " بدل " بفتحتين.
(4) هذا مختصر مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 286 ، 287.
(9/198)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
من ذلك " بهتانًا " ، وهو
الفرية والكذب (1) " وإثمًا مبينًا " ، يعني وِزْرًا " مبينًا
" ، يعني : أنه يبين عن أمر متحمِّله وجراءته على ربه ، (2) وتقدّمه على
خلافه فيما نهاه عنه لمن يعرف أمرَه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا
يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا
(113) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ولولا فضل الله عليك ورحمته " ،
ولولا أن الله تفضل عليك ، يا محمد ، (3) فعصمك بتوفيقه وتبيانه لك أمر هذا الخائن
، فكففت لذلك عن الجدال عنه ، ومدافعة أهل الحق عن حقهم قِبَله " لهمت طائفة
منهم " ، يقول : لهمت فرقة منهم ، (4) يعني : من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم
" أن يضلوك " ، يقول : يزلُّوك عن طريق الحق ، (5) وذلك لتلبيسهم أمر
الخائن عليه صلى الله عليه وسلم ، وشهادتهم للخائن عنده بأنه بريء مما ادعى عليه ،
ومسألتهم إياه أن يعذره ويقوم بمعذرته في أصحابه ، فقال الله تبارك وتعالى : وما
يضل هؤلاء الذين هموا بأن يضلوك عن الواجب من الحكم في أمر هذا الخائن درعَ جاره ،
" إلا أنفسهم " .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " البهتان " فيما سلف ص : 197 ، تعليق : 4.
(2) انظر تفسير " مبين " فيما سلف ص : 3 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
وكان في المطبوعة : " يبين عن أمر عمله " ، والصواب من المخطوطة.
(3) انظر تفسير " الفضل " فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير " طائفة " فيما سلف 141 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير " الإضلال " فيما سلف 8 : 507 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(9/199)
فإن قال قائل : ما كان وجه إضلالهم
أنفسَهم ؟
قيل : وجهُ إضلالهم أنفسهم : أخذُهم بها في غير ما أباح الله لهم الأخذَ بها فيه
من سبله. وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان تقدّم إليهم فيما تقدّم في كتابه على لسان
رسوله إلى خلقه ، بالنهي عن أن يتعاونوا على الإثم والعدوان ، والأمر بالتعاون على
الحق. فكان من الواجب لله فيمن سعى في أمر الخائنين الذين وصف الله أمرهم بقوله :
" ولا تكن للخائنين خصيمًا " ، معاونة من ظلموه ، دون من خاصمهم إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب حقه منهم. فكان سعيهم في معونتهم ، دون معونة
من ظلموه ، أخذًا منهم في غير سبيل الله. وذلك هو إضلالهم أنفسهم الذي وصفه الله
فقال : " وما يضلون إلا أنفسهم " .
* * *
" وما يضرونك من شيء " ، وما يضرك هؤلاء الذين هموا لك أن يزلُّوك عن
الحق في أمر هذا الخائن من قومه وعشيرته " من شيء " ، لأن الله مثبِّتك
ومسدِّدك في أمورك ، ومبيِّن لك أمر من سعوا في إضلالك عن الحق في أمره وأمرهم ،
ففاضِحُه وإياهم.
وقوله : " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة " ، يقول : ومن فضل الله عليك
، يا محمد ، مع سائر ما تفضَّل به عليك من نعمه ، أنه أنزل عليك " الكتاب
" ، وهو القرآن الذي فيه بيان كل شيء وهدًى وموعظة " والحكمة " ،
يعني : وأنزل عليك مع الكتاب الحكمة ، وهي ما كان في الكتاب مجملا ذكره ، من حلاله
وحرامه ، وأمره ونهيه ، وأحكامه ، ووعده ووعيده (1) " وعلمك ما لم تكن تعلم
" من خبر الأولين والآخرين ، وما كان وما هو كائن ، فكل ذلك من فضل الله عليك
، يا محمد ، مُذْ خلقك ، (2) فاشكره على ما أولاك من إحسانه إليك ، بالتمسك بطاعته
،
__________
(1) انظر تفسير " الحكمة " فيما سلف 3 : 87 ، 88 ، 211 / 5 : 15 ،
وغيرها من المواضع في فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وما كان وما هو كائن قبل ذلك من فضل الله عليك
" ، وهو غير مستقيم ، والصواب ما أثبت ، " فكل " مكان " قبل
" .
(9/200)
والمسارعة إلى رضاه ومحبته ، ولزوم
العمل بما أنزل إليك في كتابه وحكمته ، ومخالفة من حاول إضلالك عن طريقه ومنهاج
دينه ، فإن الله هو الذي يتولاك بفضله ، ويكفيك غائلة من أرادك بسوء وحاول صدّك عن
سبيله ، كما كفاك أمر الطائفة التي همت أن تضلك عن سبيله في أمر هذا الخائن. ولا
أحد دونه ينقذك من سوء إن أراد بك ، إن أنت خالفته في شيء من أمره ونهيه ، واتبعت
هوى من حاول صدَّك عن سبيله.
* * *
وهذه الآية تنبيهٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم على موضع خطئه ، (1)
وتذكيرٌ منه له الواجبَ عليه من حقه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " موضع حظه " ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ، وهذا
صواب قراءتها موافقا لسياق القصة.
(9/201)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
القول في تأويل قوله : { لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " لا خير في كثير من نجواهم " ،
لا خير في كثير من نجوى الناس جميعًا " إلا من أمر بصدقة أو معروف " ، و
" المعروف " ، هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البر والخير ،
(1) " أو إصلاح بين الناس " ، وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين
، بما أباح الله الإصلاح بينهما ،
__________
(1) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف 3 : 371 / 7 : 105 ، وغيرهما من
المواضع في فهارس اللغة.
(9/201)
ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع
الكلمة ، على ما أذن الله وأمر به.
ثم أخبر جل ثناؤه بما وعد من فعل ذلك فقال : " ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاةِ
الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا " ، يقول : ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر ،
أو يصلح بين الناس " ابتغاء مرضاة الله " ، يعني : طلب رضى الله بفعله
ذلك (1) " فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا " ، يقول : فسوف نعطيه جزاءً لما فعل
من ذلك عظيمًا ، (2) ولا حدَّ لمبلغ ما سمى الله " عظيمًا " يعلمه سواه.
(3)
* * *
واختلف أهل العربية في معنى قوله : " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر
بصدقة " .
فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : لا خير في كثير من نجواهم ، إلا في نجوى من
أمر بصدقة كأنه عطف بـ " مَنْ " على " الهاء والميم " التي في
" نجواهم " . (4) وذلك خطأ عند أهل العربية ، لأن " إلا " لا
تعطف على " الهاء والميم " في مثل هذا الموضع ، من أجل أنه لم ينله
الجحد.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة : قد تكون " مَنْ " في موضع خفض ونصب. أما الخفض
، فعلى قولك : لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة. فتكون " النجوى
" على هذا التأويل ، هم الرجال المناجون ، كما قال جل ثناؤه : ( مَا يَكُونُ
مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ ) [سورة المجادلة : 7] ، وكما قال(
وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ) [سورة الإسراء : 47].
__________
(1) انظر تفسير " الابتغاء " فيما سلف ص : 170 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف ص : 113 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " عظيم " فيما سلف 6 : 518.
(4) في المطبوعة : " كأنه عطف من " بحذف الباء ، وأثبت ما في المخطوطة ،
وهو صواب.
(9/202)
وأما النصب ، فعلى أن تجعل "
النجوى " فعلا (1) فيكون نصبًا ، لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعًا ، لأن
" مَنْ " خلاف " النجوى " ، (2) فيكون ذلك نظير قول الشاعر.
(3)
...... وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ ... إِلا أَوَارِيَّ لأيًا مَا
أُبَيِّنُها...... (4)
وقد يحتمل " مَنْ " على هذا التأويل أن يكون رفعًا ، كما قال الشاعر :
(5) وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أنِيسُ... إلا اليَعَافِيرُ وَإلا العِيسُ (6)
* * *
__________
(1) قوله : " فعلا " أي مصدرًا.
(2) في المطبوعة : " لأنه من خلاف النجوى " ، والصواب المحض من
المخطوطة.
(3) هو النابغة الذبياني.
(4) مضى الشعر وتخريجه وتمامه فيما سلف 1 : 183 ، 523 ، وهو في معاني القرآن
للفراء 1 : 288.
(5) هو جران العود النميري.
(6) ديوانه : 52 ، سيبويه 1 : 133 ، 365 ، معاني القرآن للفراء 1 : 288 ، ومجالس
ثعلب : 316 ، 452 ، الخزانة 4 : 197 ، والعيني (هامش الخزانة) 3 : 107 ، وسيأتي في
التفسير : 12 : 28 / 27 : 39 (بولاق) ، ثم في مئات من كتب النحو والعربية. ورواية
هذا الشعر في ديوانه : قَدْ نَدَعُ المَنْزِلَ يا لَمِيسُ ... يَعْتَسُّ فيه
السَّبُعُ الجَرُوسُ
الذِّئْبُ ، أو ذُو لِبَدٍ هَمُوسُ ... بَسَابِسًا ، لَيْسَ بِهِ أَنِيسُ
إلا اليَعَافِيرُ وَإلا العِيسُ ... وَبَقَرٌ مُلَمَّعٌ كُنُوسُ
كَأَنَّمَا هُنَّ الجَوَارِي المِيسُ
" يعتس " : يطلب ما يأكل ، " الجروس " هنا الشديد الأكل ،
وأخطأ صاحب الخزانة فقال : " من الجرس ، وهو الصوت الخفي " ، وليس ذلك
من صفات الذئب ، وحسبه عواؤه إذا جاع ، نفيًا لوصفه بخفاء الصوت! ، وقد بين في
البيت الثالث أنه يعني " الذئب " . و " ذو لبد " هو الأسد و
" اللبدة " ما بين كتفيه من الوبر. " هموس " من صفة الأسد ،
يقال تارة : هو الذي يمشي مشيًا يخفيه ، فلا يسمع صوت وطئه. ويقال تارة أخرى :
شديد الغمز بضرسه في أكله. وهذا هو المراد هنا ، فإنه أراد ذكر خلاء هذه الديار ،
وما فيها من المخاوف. " بسابس " قفار خلاء. وأما رواية : " وبلدة
" فإن " البلدة " هنا : هي الأرض القفر التي يأوى إليها الحيوان. و
" اليعافير " جمع " يعفور " ، وهو الظبي في لون التراب. و
" العيس " جمع " أعيس " وهو الظبي الأبيض فيه أدمة. "
كنوس " جمع " كانس " ، وهو الظبي أو البقر إذا دخل كناسه ، وهو
بيته في الشجر يستتر فيه. و " الميس " جمع " ميساء " ، وهي
التي تتبختر وتختال كالعروس في مشيتها.
ثم انظر الخزانة ، ومجالس ثعلب. وانظر ما سلف كله في معاني القرآن للفراء 1 : 287
، 288.
(9/203)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال
بالصواب في ذلك ، أن تجعل " من " في موضع خفض ، بالردِّ على "
النجوى " وتكون " النجوى " بمعنى جمع المتناجين ، خرج مخرج "
السكرى " و " الجرحى " و " المرضى " . وذلك أن ذلك أظهر
معانيه.
فيكون تأويل الكلام : لا خير في كثير من المتناجين ، يا محمد ، من الناس ، إلا
فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ، فإن أولئك فيهم الخير.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ومن يشاقق الرسول " ، ومن يباين
الرسولَ محمدًا صلى الله عليه وسلم ، معاديًا له ، فيفارقه على العداوة له (1)
" من بعد ما تبين له الهدى " ، يعني : من بعد ما تبين له أنه رسول الله
، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم " ويتبع غير
سبيل المؤمنين " ، يقول : ويتبع طريقًا غير طريق أهل التصديق ، ويسلك منهاجًا
غير
__________
(1) انظر تفسير " الشقاق " فيما سلف 3 : 115 ، 116 ، 336 / 8 : 319.
(9/204)
منهاجهم ، وذلك هو الكفر بالله ، لأن
الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم " نولّه ما تولّى "
، يقول : نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام ، (1) وهي لا
تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئًا ، ولا تنفعه ، كما : -
10427 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قوله : " نوله ما تولى " ، قال : من آلهة الباطل.
10428 - حدثني ابن المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
" ونصله جهنم " ، يقول : ونجعله صِلاءَ نار جهنم ، (2) يعني : نحرقه
بها.
* * *
وقد بينا معنى " الصلى " فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع. (3)
* * *
" وساءت مصيرًا " ، يقول وساءت جهنم (4) " مصيرًا " ، موضعًا
يصير إليه من صار إليه. (5)
* * *
ونزلت هذه الآية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله : " ولا تكن للخائنين
خصيمًا " ، لما أبى التوبة من أبى منهم ، وهو طعمة بن الأبيرق ، ولحق
بالمشركين من عبدة الأوثان بمكة مرتدًّا ، مفارقًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ودينه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " ولي " فيما سلف ص : 17 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة : " صلى " بتشديد الياء ، والصواب من المخطوطة. و
" الصلاء " (بكسر الصاد) : الشواء ، لأنه يصلى بالنار.
(3) انظر ما سلف في تفسير " الإصلاء " 8 : 27 - 29 ، 231 ، 484.
(4) انظر تفسير " ساء " فيما سلف ص 101 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير " مصير " فيما سلف ص : 101 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(9/205)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ
لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (116) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الله لا يغفر لطعمة إذ أشرك ومات على شركه
بالله ، ولا لغيره من خلقه بشركهم وكفرهم به " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
" ، يقول : ويغفر ما دون الشرك بالله من الذنوب لمن يشاء. يعني بذلك جل ثناؤه
: أن طعمة لولا أنه أشرك بالله ومات على شركه ، لكان في مشيئة الله على ما سلف من
خيانته ومعصيته ، وكان إلى الله أمره في عذابه والعفو عنه وكذلك حكم كل من اجترم
جُرْمًا ، فإلى الله أمره ، إلا أن يكون جرمه شركًا بالله وكفرًا ، فإنه ممن
حَتْمٌ عليه أنه من أهل النار إذا مات على شركه (1) فأما إذا مات على شركه ، فقد
حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار.
* * *
وقال السدي في ذلك بما : -
10429 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ،
يقول : من يجتنب الكبائر من المسلمين.
* * *
وأما قوله : " ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدًا " ، فإنه يعني : ومن
يجعل لله في عبادته شريكًا ، فقد ذهب عن طريق الحق وزال عن قصد السبيل ،
__________
(1) هذه العبارة التي وضعتها بين الخطين ، معترضة في سياق الجملة ، وسياقها : أن
طعمة لولا أنه مات على شركه. لكان في مشيئة الله على ما سلف من خيانته ومعصيته ،
وكان إلى الله أمره في عذابه والعفو عنه ... فإما إذا مات على شركه ... "
ولما أخطأ ناشر المطبوعة الأولى قراءة هذه العبارة ، فقد كتب هكذا : " فإنه
حتم عليه أنه من أهل النار إذا مات على شركه ، فإذا مات على شركه ... " فصار
الكلام كله لغوًا وخلطًا.
(9/206)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
ذهابًا بعيدًا وزوالا شديدًا ، وذلك
أنه بإشراكه بالله في عبادته قد أطاع الشيطان وسلك طريقه ، (1) وترك طاعة الله
ومنهاج دينه. فذاك هو الضلال البعيد والخُسران المبين.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : إن يدعون من دونه إلا اللات والعزى وَمناة ، فسماهن الله
" إناثًا " ، بتسمية المشركين إياهنّ بتسمية الإناث.
*ذكر من قال ذلك :
10430 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال أخبرنا حصين ، عن أبي مالك
في قوله : " إن يدعون من دونه إلا إناثًا " ، قال : اللات والعزى ومناة
، كلها مؤنث.
10431 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن
أبي مالك بنحوه إلا أنه قال : كلهنَّ مؤنث.
10432 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " إن يدعون من دونه إلا إناثًا " ، يقول : يسمونهم " إناثًا
" : لاتٌ ومَنَاة وعُزَّى.
10433 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " إن
يدعون من دونه إلا إناثًا " ، قال : آلهتهم ، اللات والعزى ويَسَاف
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فقد أطاع الشيطان " بزيادة الفاء ، ولا
معنى لها هنا.
(9/207)
ونائلة ، (1) إناث ، يدعونهم من دون
الله. وقرأ : " وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا " .
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إن يدعون من دونه إلا مَواتًا لا رُوح فيه.
*ذكر من قال ذلك :
10434 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن يدعون من دونه إلا إناثًا
" ، يقول : مَيْتًا.
10435 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
إن يدعون من دونه إلا إناثًا " ، أي : إلا ميتًا لا رُوح فيه. (2)
10436 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن :
" إن يدعون من دونه إلا إناثًا " ، قال : و " الإناث " كل شيء
ميت ليس فيه روح : خشبة يابسة أو حجر يابس ، قال الله تعالى : " وإن يدعون
إلا شيطانًا مريدًا " إلى قوله : " فليبتكن آذان الأنعام " .
* * *
وقال آخرون : عنى بذلك أن المشركين كانوا يقولون : " الملائكة بنات الله
" . (3)
*ذكر من قال ذلك :
10437 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا
__________
(1) " إساف " (بكسر الهمزة وفتحها) و " يساف " (بكسر الياء
وفتحها) واحد. زعموا أن إساف بن عمرو ، ونائلة بنت سهل ، من جرهم ، وجدا خلوة في
الكعبة ، ففجرا فيها ، فمسخهما الله حجرين ، عبدتهما قريش بعد. ويقال : صنمان
وضعهما عمرو بن لحي على الصفا والمروة ، وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة.
(2) في المخطوطة : " لا أرواح فيه " بالجمع.
(3) في المطبوعة : " إن الملائكة ... " وأثبت ما في المخطوطة.
(9/208)
جويبر ، عن الضحاك في قوله : " إن
يدعون من دونه إلا إناثًا " ، قال : الملائكة ، يزعمون أنهم بنات الله.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إن أهل الأوثان كانوا يسمون أوثانهم " إناثًا "
، فأنزل الله ذلك كذلك.
ذكر من قال ذلك : (1)
10438 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن نوح بن قيس ، عن أبي
رجاء ، عن الحسن قال : كان لكل حي من أحياء العرب صنم ، يسمونها : " أنثى بني
فلان " ، (2) فأنزل الله " إن يدعون من دونه إلا إناثًا " .
10439 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا نوح بن قيس قال ،
حدثنا محمد بن سيف أبو رجاء الحُدَّاني قال ، سمعت الحسن يقول : كان لكل حي من
العرب ، فذكر نحوه. (3)
* * *
وقال آخرون : " الإناث " في هذا الموضع ، الأوثان.
*ذكر من قال ذلك :
10440 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قوله : " إناثًا " قال : أوثانًا.
__________
(1) من أول الأثر رقم : 10437 ، إلى هذا الموضع ، ساقط من المخطوطة.
(2) في كتاب المحتسب لابن جني ، في المسألة رقم : 143 (وهو مخطوط عندي) عن الحسن :
" وهو اسم صنم لحي من العرب ، كانوا يعبدونها ويسمونها : أنثى بني فلان
" . فأخشى أن يكون سقط من الناسخ هنا [كانوا يعبدونها].
(3) الأثران : 10438 ، 10439 - " أبو رجاء " ، " محمد بن سيف
الحداني " ، أدرك أنسًا ، وروى عن الحسن ، وابن سيرين ، ومطر الوراق ، وعكرمة
، وغيرهم. ثقة. مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة " الحراني " بالراء ، والصواب من المخطوطة ، بضم الحاء
والدال المشددة.
(9/209)
10441 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو
حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
10442 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : كان
في مصحف عائشة : ( إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلا أَوْثَانًا ).
* * *
قال أبو جعفر : روي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : ( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
إلا أُثُنًا ) بمعنى جمع " وثن " فكأنه جمع " وثنًا " "
وُثُنًا " ، (1) ثم قلب الواو همزة مضمومة ، كما قيل : " ما أحسن هذه
الأجُوه " ، بمعنى الوجوه وكما قيل : ( وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ) [سورة
المرسلات : 11] ، بمعنى : وُقِّتت. (2)
* * *
وذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك : ( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلا أُنُثًا )
كأنه أراد جمع " الإناث " فجمعها " أنثا " ، كما تجمع "
الثمار " " ثُمُرًا " . (3)
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا نستجيز القراءة بغيرها ، (4) قراءة من قرأ : (
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا ) ، بمعنى جمع " أنثى " ،
لأنها كذلك في مصاحف المسلمين ، ولإجماع الحجة على قراءة ذلك كذلك.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرت بتأويل ذلك ، إذ كان الصواب عندنا من
القراءة ما وصفت ، تأويل من قال : عنى بذلك الآلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها
من دون الله ويسمونها الإناث من الأسماء ، (5) كاللات والعُزَّى ونائلة ومناة ،
وما أشبه ذلك.
__________
(1) " أثن " (بضم الهمزة والثاء) و " وثن " بجمع " وثنا
" (بضم فسكون) و " ووثنا " (بضمتين) ، و " أوثان " .
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 288.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 289. و " الثمر " بضم الثاء والميم.
(4) في المطبوعة : " لا أستجيز " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة : " ويسمونها بالإناث " ، وما في المخطوطة أجود عربية.
(9/210)
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ،
لأن الأظهر من معاني " الإناث " في كلام العرب ، ما عُرِّف بالتأنيث دون
غيره. فإذ كان ذلك كذلك ، فالواجب توجيه تأويله إلى الأشهر من معانيه.
* * *
وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له
الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولى ونُصْله جهنم وساءت مصيرًا * إن
يدعون من دونه إلا إناثًا " ، يقول : ما يدعو الذين يشاقّون الرسول ويتبعون
غير سبيل المؤمنين شيئًا " من دون الله " ، بعد الله وسواه ، (1) "
إلا إناثًا " ، يعني : إلا ما سموه بأسماء الإناث كاللات والعزى وما أشبه
ذلك. يقول جل ثناؤه : فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله ، وعبدوا ما عبدوا من دونه من
الأوثان والأنداد ، حجّة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل ، أنهم
يعبدون إناثًا ويدعونها آلهة وأربابًا ، والإناث من كل شيء أخسُّه ، فهم يقرون
للخسيس من الأشياء بالعبودة ، على علم منهم بخساسته ، ويمتنعون من إخلاص العبودة
للذي له ملك كل شيء ، وبيده الخلق والأمر . (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا "
، وما يدعو هؤلاء الذين يدعون هذه الأوثان الإناث من دون الله بدعائهم إياها
__________
(1) انظر تفسير " دون " فيما سلف 2 : 489 / 6 : 313.
(2) في المطبوعة : " بالعبودية " و " العبودية " ، في
الموضعين وأثبت ما في المخطوطة. و " العبودة " هي العبادة ، وقد سلف
استعمال الطبري لهذه اللفظة على هذا البناء ، وتغيير الناشر لها في كل مرة. انظر 3
: 347 ، تعليق : 1 / 6 : 271 ، تعليق : 1 ، 404 تعليق : 2 ، 549 : 2 ، 564 ، تعليق
: 3 / 8 : 592 ، تعليق : 2.
(9/211)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
" إلا شيطانًا مريدًا " ،
يعني : متمردًا على الله في خلافه فيما أمره به ، وفيما نهاه عنه ، كما : -
10443 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا " ، تمرَّد على معاصي الله.
* * *
القول في تأويل قوله : { لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ
نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " لعنه الله " ، أخزاه وأقصاه
وأبعده.
* * *
ومعنى الكلام : " وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا " ، قد لعنه الله وأبعده
من كل خير.
* * *
" وقال لأتخذن " ، يعني بذلك : أن الشيطان المريد قال لربه إذ لعنه :
" لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا " .
يعني بـ " المفروض " ، المعلوم ، (1) كما : -
* * *
10444 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن جويبر ، عن
الضحاك : " نصيبًا مفروضًا " ، قال : معلومًا.
* * *
فإن قال قائل : وكيف يتّخذ الشيطانُ من عباد الله نصيبًا مفروضًا.
قيل : يتخذ منهم ذلك النصيب ، بإغوائه إياهم عن قصد السبيل ، ودعائه
__________
(1) انظر تفسير " نصيب " فيما سلف 4 : 206 / ثم 8 : 58 : تعليق : 4 ،
والمراجع هناك وتفسير : " الفرض " فيما سلف 4 : 121 / 5 : 120 / 7 : 597
- 599 / 8 : 50.
(9/212)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)
إياهم إلى طاعته ، وتزيينه لهم الضلالَ
والكفر حتى يزيلهم عن منهج الطريق ، فمن أجاب دعاءَه واتَّبع ما زينه له ، فهو من
نصيبه المعلوم ، وحظّه المقسوم.
* * *
وإنما أخبر جل ثناؤه في هذه الآية بما أخبر به عن الشيطان من قيله : " لأتخذن
من عبادك نصيبًا مفروضًا " ، ليعلم الذين شاقُّوا الرسول من بعد ما تبين لهم
الهدى ، أنهم من نصيبِ الشيطان الذي لعنه الله ، المفروضِ ، (1) وأنهم ممن صدق
عليهم ظنّه. (2)
* * *
وقد دللنا على معنى " اللعنة " فيما مضى ، فكرهنا إعادته. (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : مخبرًا عن قيل الشيطان المريد الذي وصف صفته
في هذه الآية : " ولأضلنهم " ، ولأصدّن النصيب المفروض الذي أتخذه من
عبادك عن محجة الهدى إلى الضلال ، ومن الإسلام إلى الكفر " ولأمنينهم "
، يقول : لأزيغنَّهم - بما أجعل في نفوسهم من الأماني - عن طاعتك وتوحيدك ، إلى
طاعتي والشرك بك ، " ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " ، يقول : ولآمرن
النصيبَ المفروض لي من عبادك ، بعبادة غيرك من الأوثان والأنداد
__________
(1) " المفروض " صفة قوله : " نصيب الشيطان " .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وأنه ممن صدق ... " والسياق يقتضي "
وأنهم " .
(3) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف ص : 57 ، تعليق : 4 ، والمراجع
هناك.
(9/213)
حتى يَنْسُكوا له ، (1) ويحرِّموا
ويحللوا له ، ويشرعوا غيرَ الذي شرعته لهم ، فيتبعوني ويخالفونك.
* * *
و " البتك " ، القطع ، وهو في هذا الموضع : قطع أذن البَحِيرة ليعلم
أنها بَحِيرة. (2)
وإنما أراد بذلك الخبيثُ أنه يدعوهم إلى البحيرة ، فيستجيبون له ، ويعملون بها
طاعةً له.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10445 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " فليبتكن آذان الأنعام " ، قال : البتك في البحيرة
والسَّائبة ، كانوا يبتّكون آذانها لطواغِيتهم.
10446 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : قوله : " ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " ، أما " يبتكن
آذان الأنعام " ، فيشقونها ، فيجعلونها بَحيرة.
10447 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ،
أخبرني القاسم بن أبي بزة ، عن عكرمة : " فليبتكن آذان الأنعام " ، قال
: دينٌ شرعه لهم إبليس ، كهيئة البحائر والسُّيَّب. (3)
* * *
__________
(1) " نسك ينسك " ، إذا ذبح نسيكة ، أي ذبيحة. وانظر تفسير ذلك فيما سلف
3 : 75 - 80 / 4 : 86 ، 195.
(2) " البحيرة " من الأنعام ، من عقائد أهل الجاهلية ، أبطلها الإسلام ،
وذلك الشاة أو الناقة تشق أذنها ، ثم تترك فلا يمسها أحد.
(3) " السائبة " أم " البحيرة " ، وذلك أن الرجل كان ينذر
نذرًا : إذا قدم من سفر بعيد ، أو برئ من علة ، أو نجاه شيء من مشقة أو حرب فيقول
: " ناقتي هذه سائبة " ، أي : تسيب فلا ينتفع بظهرها ، ولا تحلأ عن ماء
، ولا تمنع من كلأ ، ولا تركب. وجمع " سائبة " " سيب " (بضم
السين والياء المشددة المفتوحة) مثل " نائم ونوم " ، و " نائحة
ونوح " .
وهكذا جاءت على الصواب في المخطوطة ، ولكن ناشر المطبوعة جعلها " السوائب
" كأنه استنكر هذا الجمع ، فأساء غاية الإساءة في تبديل الصواب ، وإن كانت
" السوائب " صوابًا أيضًا ، فإن هذه الآثار حجة في اللغة.
(9/214)
القول في تأويل قوله : {
وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى قوله : " فليغيرن خلق الله "
.
فقال بعضهم : معنى ذلك : ولآمرنهم فليغيرن خلق الله من البهائم ، بإخصائهم إياها.
(1)
*ذكر من قال ذلك :
10448 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن
عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس : أنه كره الإخصاء وقال : فيه نزلت : "
ولآمرنهم فليغِّيرُن خلقَ الله " .
10449 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الله بن داود قال : حدثنا أبو جعفر الرازي
، عن الربيع بن أنس ، عن أنس : أنه كره الإخصاء وقال : فيه نزلت : " ولآمرنهم
فليغيرن خلق الله " .
10450 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن
أنس بن مالك قال : هو الإخصاء ، يعني قول الله : " ولآمرنهم فليغيّرن خلق
الله " .
10451 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف قال :
__________
(1) " خصى الفحل يخصيه خصاء " (بكسر الخاء) : سل خصييه. والفقهاء
القدماء يقولون : " الإخصاء " ولم تذكره كتب اللغة ، وقال المطرزي في
المغرب 1 : 159 " خصاء على فعال ، والإخصاء في معناه ، خطأ " . وهذا
موضع إشكال ، فإنك ستراه مستفيضًا في الآثار التالية ، وهي نص صحيح في جواز "
الإخصاء " ، وبمثل هذه الآثار احتج أصحاب معاجم اللغة ، وكيف لا يحتج به ،
وقد جاء في كلام ابن عباس ، كما ترى في الأثر : 10451.
(9/215)
حدثنى رجل ، عن ابن عباس قال : إخصاء
البهائم مُثْلَةٌ! ثم قرأ : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " .
10452 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا أبو جعفر
الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : من تغيير خلق الله ، الإخصاءُ.
10453 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا جعفر بن سليمان
قال ، أخبرني شبيل : أنه سمع شهر بن حوشب قرأ هذه الآية : " فليغيرن خلق الله
" ، قالالخِصَاء ، قال : فأمرت أبا التَّيَّاح فسأل الحسن عن خِصَاء الغنم ،
فقال : لا بأس به. (1)
10454 - حدثنا الحسن قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا عمي وهب بن نافع ، عن
القاسم بن أبي بزة قال : أمرني مجاهد أن أسأل عكرمة عن قوله : " فليغيرن خلق
الله " ، فسألته ، فقال : هو الخصاء.
10455 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن عبد الجبار بن ورد ، عن القاسم بن
أبي بزة قال ، قال لي مجاهد : سل عنها عكرمة : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله
" ، فسألته فقال : الإخصاء قال مجاهد : ما له ، لعنة الله! فوالله لقد علم
أنه غير الإخصاء ثم قال : سله ، فسألته فقال عكرمة : ألم تسمع إلى قول الله تبارك
وتعالى : ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ ) .
__________
(1) الأثر : 10453 - " جعفر بن سليمان الضبعي " مضى برقم : 2905 ، 6461.
و " شبيل " هو " شبيل بن عزرة بن عمير الضبعي " ، يروي عن شهر
بن حوشب وروى عنه جعفر بن سليمان. ثقة. روى له أبو داود حديثًا واحدًا. وكان شبيل
من أئمة العربية ، وهو ختن قتادة. وذكره الجاحظ في البيان 1 : 343 فقال : "
ومن علماء الخوارج شبيل بن عزرة الضبعي ، صاحب الغريب ، وكان راوية خطيبًا ،
وشاعرًا ناسبًا ، وكان سبعين سنة رافضيًا ، ثم انتقل خارجيًا صفريًا " . وقال
البلاذري : " لم يكن خارجيًا ، وإنما كان يقول أشعارًا في ذلك على سبيل
التقية " . مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة : " شبل " وهو خطأ ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، لأنها غير
منقوطة.
و " أبو التياح " ، هو : " يزيد بن حميد الضبعي " ، روى عن
أنس والحسن البصري. وهو ثبت ثقة معروف. مترجم في التهذيب.
(9/216)
[سورة الروم : 30] ؟ قال : لدين الله
فحدَّثت به مجاهدًا فقال : ما له أخزاه الله!. (1)
10456 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص ، عن ليث قال ، قال عكرمة : "
فليغيرن خلق الله " ، قال : الإخصاء.
10457 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا هارون النحوي قال ،
حدثنا مطر الوراق قال : سئل عكرمة عن قوله : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله
" ، قال : هو الإخصاء.
10458 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي
خالد ، عن أبي صالح ، قال : الإخصاء.
10459 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن
الربيع بن أنس قال : سمعت أنس بن مالك يقول في قوله : " ولآمرنهم فليغيرن خلق
الله " ، قال : منه الخصاء.
10460 - حدثنا عمرو قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن
قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، بمثله.
10461 - حدثنا ابن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس ، بمثله. (2)
10462 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ،
__________
(1) الأثر : 10455 - " عبد الجبار بن الورد بن أغر بن الورد المخزومي "
، ثقة ، لا بأس به. مترجم في التهذيب. وقد مضى في الإسناد رقم : 4631 ، ولم يترجم
هناك.
وقول مجاهد في عكرمة : " ماله لعنه الله " ، و " ماله أخزاه الله
" ، أراد مجاهد اضطراب عكرمة في روايته ، وكان مجاهد سيئ الرأي فيه ، كما كان
مالك ابن أنس سيئ الرأي فيه ، يقول : " لا أرى لأحد أن يقبل حديثه " .
وقد قيل إنه كان مضطرب الحديث ، وأنه كان قليل العقل!! روى الحافظ في التهذيب 7 :
269 " قال الأعمش عن إبراهيم : لقيت عكرمة فسألته عن : البطشة الكبرى. قال :
يوم القيامة. فقلت : إلا عبد الله ، كان يقول : يوم بدر. فأخبرني من سأله بعد ذلك
فقال : يوم بدر " . وهذا شبيه بهذا الخبر الذي بين أيدينا. وانظر أيضًا الأثر
التالي رقم : 10469.
وانظر ترجمة عكرمة البربري في التهذيب ، فقد استوفى الحافظ القول في عدالته
وتوثيقه ، ورواية الأئمة عنه.
(2) الأثر : 10461 - هو من تتمة الأثر السالف ، ولكنه جرى مفردًا في الترقيم خطأ.
(9/217)
عن قتادة ، عن عكرمة : أنه كره الإخصاء
، قال : وفيه نزلت : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " .
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ولآمرنهم فليغيرن دينَ الله.
*ذكر من قال ذلك :
10463 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس قوله : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله.
10464 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن وأبو أحمد قالا حدثنا سفيان ، عن
قيس بن مسلم ، عن إبراهيم : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : دين
الله.
10465 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثني
قيس بن مسلم ، عن إبراهيم ، مثله.
10466 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن
إبراهيم ، مثله.
10467 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله.
10468 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا عمي ، عن القاسم
بن أبي بزة قال ، أخبرت مجاهدًا بقول عكرمة في قوله : " فليغيرن خلق الله
" ، قال : دين الله.
10469 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا هارون النحوي قال ،
حدثنا مطر الوراق قال : ذكرت لمجاهد قول عكرمة في قوله :
(9/218)
" فليغيرن خلق الله " ، فقال
: كذب العبْدُ! " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله. (1)
10470 - حدثنا ابن وكيع وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو معاوية ، عن ابن جريج ، عن
القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد وعكرمة قالا دين الله.
10471 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي وحفص ، عن ليث ، عن مجاهد قال : دين
الله. ثم قرأ : ( ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) ، [سورة الروم : 30].
10472 - حدثنا محمد بن عمرو وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن
أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فليغيرن خلق الله " ، قال : الفطرة دين
الله.
10473 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " فليغيرن خلق الله " ، قال : الفطرة ، الدين.
10474 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ،
أخبرني عبد الله بن كثير : أنه سمع مجاهدًا يقول : " ولآمرنهم فليغيرن خلق
الله " ، قال : دين الله.
10475 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، أي : دين الله ، في قول الحسن وقتادة.
10476 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله.
10477 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الملك ، عن
عثمان بن الأسود ، عن القاسم بن أبي بزة في قوله : " فليغيرن خلق الله "
، قال : دين الله.
__________
(1) الأثر : 10469 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم : 10455.
(9/219)
10478 - حدثنا محمد بن الحسين قال ،
حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولآمرنهم فليغيرن خلق
الله " ، قال : أما " خلق الله " ، فدين الله.
10479 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " فليغيرن خلق الله " ، قال : دين
الله ، وهو قول الله : ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) ، [سورة الروم : 30] ، يقول : لدين الله.
10480 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد يقول في قوله :
" ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله. وقرأ : ( لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ ) ، قال : لدين الله.
10481 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سفيان قال ،
حدثنا قيس بن مسلم ، عن إبراهيم : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال
: دين الله.
10482 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا معاذ بن معاذ قال ، حدثنا عمران بن حدير ،
عن عيسى بن هلال قال : كتب كثير مولى ابن سمرة إلى الضحاك بن مزاحم يسأله عن قوله
: " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، فكتب : " إنه دين الله " .
(1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " بالوشم.
*ذكر من قال ذلك :
10483 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ،
__________
(1) الأثر : 10482 - " معاذ بن معاذ بن نصر حسان العنبري " الحافظ. وكان
في المطبوعة : " معاذ " ، وحذف بقية الاسم ، وهو ثابت في المخطوطة.
(9/220)
حدثنا حماد بن سلمة ، عن يونس ، عن
الحسن في قوله : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : الوشْم.
10484 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد ، عن نوح بن قيس ، عن خالد بن قيس ، عن
الحسن : " فليغيرن خلق الله " ، قال : الوشم. (1)
10485 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني هشيم قال ، أخبرنا يونس بن
عبيد أو غيره ، عن الحسن : " فليغيرن خلق الله " ، قال : الوشم.
10486 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا أبو هلال الراسبي
قال : سأل رجل الحسنَ : ما تقول في امرأة قَشَرت وجهها ؟ قال : ما لها ، لعنها
الله! غَيَّرت خلقَ الله! (2)
10487 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال :
قال عبد الله : لعن الله المُتَفَلِّجات والمُتَنَمِّصات والمُسْتَوْشِمَات
المغِّيرات خلق الله.
10488 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور
، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : لعن الله الوَاشِرَات
والمُسْتَوْشِمَات والمُتَنَمِّصات والمُتَفَلِّجات للحسن المغِّيرات خلق الله.
10489 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ،
__________
(1) الأثر : 10484 - " يزيد " ، هو " يزيد بن هارون " مضى
مرارًا.
و " نوح بن قيس بن رباح الأزدي الحداني " ، مضى برقم : 1218.
و " خالد بن قيس بن رباح الأزدي الحداني " ، أخو " نوح بن قيس
" . ثقة. مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة : " حدثنا يزيد بن نوح ، عن قيس ، عن خالد بن قيس "
وهو خطأ محض ، صوابه من المخطوطة.
(2) " قشر الوجه " : دواء قديم بالغمرة تعالج به المرأة وجهها أو وجه
غيرها ، وكأنها تقشر أعلى الجلد. و " الغمرة " (بضم فسكون) ، قالوا : هو
الزعفران ، وقالوا : هو الجص. وقالوا : هو تمر ولبن يطلى به وجه المرأة ويداها ،
حتى ترق بشرتها ويصفو لونها. والظاهر أنه كان يخلط به شيء يقشر أعلى البشرة ، ومن
أجل ذلك نهى عنه ، وفي الحديث : " لعنت القاشرة والمقشورة " .
(9/221)
عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن
عبد الله قال : لعن الله المُتَنَمِّصات والمتَفَلِّجات قال شعبة : وأحسبه قال :
المغِّيرات خلق الله. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، قولُ من قال : معناه :
" ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله. وذلك لدلالة الآية
الأخرى على أن ذلك معناه ، وهي قوله : ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) ، [سورة
الروم : 30].
وإذا كان ذلك معناه ، دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه : من خِصَاءِ ما لا يجوز
خصاؤه ، ووشم ما نهى عن وشمه وَوشْرِه ، وغير ذلك من المعاصي ودخل فيه ترك كلِّ ما
أمر الله به. لأن الشيطان لا شك أنه يدعو إلى جميع معاصي الله وينهى عن جميع
طاعته. فذلك معنى أمره نصيبَه المفروضَ من عباد الله ، بتغيير ما خلق الله من
دينه.
* * *
قال أبو جعفر : فلا معنى لتوجيه من وجَّه قوله : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله
" ، إلى أنه وَعْد الآمر بتغيير بعض ما نهى الله عنه دون بعض ، أو بعض ما
__________
(1) الآثار : 10487 - 10489 - هو حديث صحيح ، رواه البخاري (الفتح 10 : 313 ، 317)
من طريق منصور عن إبراهيم ، ورواه به أحمد في المسند مطولا : 4129 ، 4230 ، 4434.
وفي الإسناد الأول 10487 لم يذكر علقمة ، فقال الحافظ ابن حجر في الفتح : "
ومن أصحاب الأعمش من لم يذكر عنه علقمة في السند " .
وطريق محمد بن جعفر ، عن شعبة (10489) رواه أحمد : 4434 ، ونصه " لعن الله
المتوشمات والمتنمصات ... " ، فأخشى أن يكون سقط من الناسخ " المتوشمات
" .
و " المتفلجة " التي تصنع الفلج بأسنانها إذا كانت متلاصقة ، وذلك بأن
تحك ما بينهما بالمبرد حتى يتسع ما بين أسنانها.
و " المتنمصة " و " النامصة " التي تزيل شعر حاجبها بالمنقاش
حتى ترققه وترفعه وتسويه. و " المستوشمة " و " الواشمة " ، و
" الوشم " أن تغرز إبرة في الجلد حتى يسيل الدم ، ثم يحشى بالنورة أو
غيرها فيخضر. ويقال : " هو أن تجعل خالا في وجهها بالكحل " . ويفعلونه
أيضًا في الشفاه واللثات ، وكل ذلك داخل في الذي نهى الله عنه ، ولعن عليه.
و " الواشرة " التي تحدد أسنانها وترققها بالمنشار ، وهو المبرد.
وكل هذا الذي لعن الله فاعله ، تفعله نساؤنا المسلمات اليوم ، متبرجات به ، موغلات
فيه ، مقلدات لمن كفر بالله ورسوله. فمن أجل عصيانهن واستخفافهن - بل من أجل
عصياننا جميعًا أمر الله - أحل الله بنا العقوبة التي أنذرنا بها رسول الله ، بأبي
هو وأمي ، فجعل الله بأسنا بيننا ، وسلط علينا شرارنا ، وجمع علينا الأمم لتأكلنا.
فاللهم اهد ضالنا ، وخذ بنواصي عصاتنا ، واغفر لنا وارحمنا ، عليك نتوكل ، وبك
نستجير ، وإليك نلجأ.
(9/222)
أمر به دون بعض. فإن كان الذي وجه معنى
ذلك إلى الخصاء والوشم دون غيره ، (1) إنما فعل ذلك لأن معناه كان عنده أنه عنى به
تغيير الأجسام ، (2) فإن في قوله جل ثناؤه إخبارًا عن قيل الشيطان : "
ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " ، ما ينبئ أن معنى ذلك على غير ما ذهب إليه.
لأن تبتيك آذان الأنعام من تغيير خلق الله الذي هو أجسام. وقد مضى الخبر عنه أنه وَعْد
الآمر بتغيير خلق الله من الأجسام مفسَّرًا ، فلا وجه لإعادة الخبر عنه به مجملا
(3) إذ كان الفصيح في كلام العرب أن يُترجم عن المجمل من الكلام بالمفسر ، وبالخاص
عن العام ، دون الترجمة عن المفسر بالمجمل ، وبالعام عن الخاص. وتوجيه كتاب الله
إلى الأفصح من الكلام ، أولى من توجيهه إلى غيره ، ما وجد إليه السبيل.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فإذا كان الذي وجه ... " والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " عنى به " بزيادة " به " ، وهو فساد ،
والصواب من المخطوطة.
(3) سقط سطر من المخطوطة ، فكان فيها : " وقد مضى الخبر عنه مجملا ، إذ كان
الفصيح " ، وهو مضطرب ، والذي في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله. ولا أدري
أهو اجتهاد من ناسخ أو ناشر ، أم هذا كلام أبي جعفر كما كتبه ؟.
(9/223)
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ
يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا
مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا
غُرُورًا (120) }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ثناؤه ، عن حال نصيب الشيطان المفروضِ الذين
شاقوا الله ورسوله من بعد ما تبين لهم الهدى. (1) يقول الله : ومن يتبع الشيطان
فيطيعه في معصية الله وخلاف أمره ، ويواليه فيتخذه وليًّا لنفسه ونصيرًا من دون
الله (2) " فقد خسر خسرانًا مبينًا " ، يقول : فقد هلك هلاكًا ، وبخس
نفسه حظَّها فأوبقها بخسًا " مبينًا " يبين عن عَطَبه وهلاكه ، (3) لأن
الشيطان لا يملك له نصرًا من الله إذا عاقبه على معصيته إياه في خلافه أمرَه ، بل
يخذُله عند حاجته إليه. وإنما حاله معه ما دام حيًّا ممهَلا بالعقوبة ، كما وصفه
الله جل ثناؤه بقوله : " يعدهم ويمنّيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا "
، يعني بذلك جل ثناؤه : يعد الشيطان المَرِيد أولياءه الذين هم نصيبُه المفروض :
أن يكون لهم نصيرًا ممن أرادهم بسوء ، وظهيرًا لهم عليه ، يمنعهم منه ويدافع عنهم
، ويمنيهم الظفر على من حاول مكروههم والفَلَج عليهم. (4)
ثم قال : " وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا " يقول : وما يعد الشيطان
أولياءَه الذين اتخذوه وليًّا من دون الله " إلا غرورًا " يعني : إلا
باطلا. (5)
وإنما جعل عِدَته إياهم جل ثناؤه ما وعدهم " غرورًا " ، لأنهم كانوا
يحسبون
__________
(1) في المطبوعة : " من الذين شاقوا ... " بزيادة " من " ،
والصواب حذفها كما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " ونصيرًا دون الله " بإسقاط " من
" ، وهو سهو من الناسخ في عجلته ، فزدتها لدلالة الآية على مكانها.
(3) انظر تفسير " خسر " فيما سلف 1 : 417 / 2 : 166 ، 572 / 6 : 570 / 7
: 276 وتفسير " مبين " فيما سلف ص : 199 تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(4) " الفلج " (بفتحتين) : الظفر والفوز والعلو على الخصم.
(5) انظر تفسير " الغرور " فيما سلف 7 : 453.
(9/224)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
أنهم في اتخاذهم إياه وليًّا على
حقيقةٍ من عِدَاته الكذب وأمانيه الباطلة ، (1) حتى إذا حصحص الحق ، وصاروا إلى
الحاجة إليه ، قال لهم عدوّ الله : ( إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا
أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ
مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا
أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ ) ، [سورة إبراهيم : 22]. وكما قال للمشركين ببدر ،
وقد زيَّن لهم أعمالهم : ( لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي
جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ ) ، وحصحص الحقّ ، وعاين جِدّ الأمر
ونزول عذاب الله بحزبه (2) : ( نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ
الْعِقَابِ ) ، [سورة الأنفال : 48] ، فصارت عِدَاته ، عدُوَّ الله إياهم عند
حاجتهم إليه غرورًا (3) ( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى
إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ
حِسَابَهُ ) . [سورة النور : 39].
* * *
القول في تأويل قوله : { أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا
مَحِيصًا (121) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " أولئك " ، هؤلاء الذين اتخذوا
الشيطان وليًّا من دون الله " مأواهم جهنم " ، يعني : مصيرهم الذين
يصيرون إليه جهنم ، (4)
__________
(1) في المطبوعة : " على حقيقته " ، والصواب من المخطوطة. وفي المطبوعة
: " عداته الكاذبة " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب محض.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " حد الأمر " بالحاء : أي شدته وبأسه. ولو
قرئ " جد " لكان صوابًا أيضًا ، بل هو الأرجح ، ولذلك أثبته.
(3) قوله : " عدو الله " منصوب على الذم ، وفصل به بين المصدر ومفعوله.
(4) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف 7 : 279 ، 494.
(9/225)
" ولا يجدون عنها محيصًا " ،
يقول : لا يجدون عن جهنم - إذا صيّرهم الله إليها يوم القيامة - مَعْدِلا يعدِلون
إليه.
* * *
يقال منه : " حاص فلان عن هذا الأمر يَحِيص حَيْصًا وحُيُوصًا " ، إذا
عدل عنه.
ومنه خبر ابن عمر أنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرِيّة كنت فيهم ،
فلقينا المشركين فحِصْنا حَيْصة ، (1) وقال بعضهم : " فجاضوا جيضَة " .
و " الحَيص " و " الجَيْض " ، متقاربا المعنى. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بعثنا رسول الله " ، والصواب من المخطوطة. ولم
أستطع أن أقف على بقية خبر ابن عمر ، وإن كنت أظنه مشهورًا.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : أساء نقط " جاض وحاص " ، فرددتها إلى
صوابها.
(9/226)
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
القول في تأويل قوله : { وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللَّهِ قِيلا (122) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " والذين آمنوا وعملوا الصالحات "
، والذين صدّقوا الله ورسوله ، وأقرُّوا له بالوحدانية ، ولرسوله صلى الله عليه
وسلم بالنبوة " وعملوا الصالحات " ، يقول : وأدَّوا فرائض الله التي
فرضها عليهم (1) " سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار " ، يقول : سوف
ندخلهم يوم القيامة إذا صاروا إلى الله ، جزاءً بما عملوا في الدنيا من الصالحات
" جنات " ، يعني :
__________
(1) انظر تفسير " عملوا الصالحات " فيما سلف : 8 : 488.
(9/226)
بساتين (1) " تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها أبدًا " ، يقول : باقين في هذه الجنات التي وصفها (2)
" أبدًا " ، دائمًا.
وقوله : " وعد الله حقًّا " ، يعني : عِدَةٌ من الله لهم ذلك في الدنيا
" حقًّا " ، يعني : يقينًا صادقًا ، (3) لا كعدة الشيطان الكاذبة التي
هي غرور مَنْ وُعِدها من أوليائه ، ولكنها عدة ممن لا يكذب ولا يكون منه الكذب ،
(4) ولا يخلف وعده.
وإنما وصف جل ثناؤه وعده بالصدق والحق في هذه ، لما سبق من خبره جل ثناؤه عن قول
الشيطان الذي قصه في قوله : " وقال لأتّخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا *
ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " ، ثم قال جل ثناؤه :
" يعِدُهم ويمنيهم وما يَعِدهم الشيطان إلا غرورًا " ، ولكن الله يعد
الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنه سيدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
أبدًا ، وعدًا منه حقًّا ، لا كوعد الشيطان الذي وَصَف صفته.
فوصف جل ثناؤه الوعدَين والوَاعِدَيْن ، وأخبر بحكم أهل كل وعد منهما ، تنبيهًا
منه جل ثناؤه خلقَه على ما فيه مصلحتهم وخلاصهم من الهلكة والمعطبة ، (5) لينزجروا
عن معصيته ويعملوا بطاعته ، فيفوزوا بما أعدّ لهم في جنانه من ثوابه.
ثم قال لهم جل ثناؤه : " ومن أصدق من الله قيلا " ، يقول : ومن أصدق ،
أيها الناس ، من الله قيلا أي : لا أحد أصدق منه قيلا! فكيف تتركون العمل بما
وعدكم على العمل به ربكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ، وتكفرون
به وتخالفون أمره ، وأنتم تعلمون أنه لا أحد أصدق منه قيلا وتعملون
__________
(1) انظر تفسير " جنات " في مادة (جنن) فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير " الحق " فيما سلف 7 : 97.
(4) في المطبوعة : " ولكن عدة ... " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة : " والعطب " ، وهي صواب ، وفي المخطوطة : "
والعطبة " ، فآثرت كتابتها كما رجحت قراءتها ، والمعطب والمعطبة ، جمعها
معاطب.
(9/227)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
بما يأمركم به الشيطان رجاءً لإدراك ما
يعدُكم من عداته الكاذبة وأمانيه الباطلة ، وقد علمتم أن عداته غرورٌ لا صحة لها
ولا حقيقة ، وتتخذونه وليًّا من دون الله ، وتتركون أن تطيعوا الله فيما يأمركم به
وينهاكم عنه ، فتكونوا له أولياء ؟
* * *
ومعنى " القيل " و " القول " واحدٌ.
* * *
القول في تأويل قوله : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ
الْكِتَابِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بقوله : " ليس بأمانيكم ولا
أماني أهل الكتاب " .
فقال بعضهم : عُني بقوله : " ليس بأمانيكم " ، أهل الإسلام.
*ذكر من قال ذلك :
10490 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن
منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : تفاخر النصارى وأهلُ الإسلام ، فقال هؤلاء
: نحن أفضل منكم! وقال هؤلاء : نحن أفضل منكم! قال : فأنزل الله : " ليس
بأمانيكم ولا أمانِّي أهل الكتاب " .
10491 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ،
عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : لما نزلت : " ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل
الكتاب " ، قال : أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء! فنزلت هذه الآية : " ومن
يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " .
10492 - حدثني أبو السائب وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية ، عن
(9/228)
الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق في قوله :
" ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، قال : احتجَّ المسلمون وأهل
الكتاب ، فقال المسلمون : نحن أهدى منكم! وقال أهل الكتاب : نحن أهدى منكم! فأنزل
الله : " ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب " ، قال : ففَلَج عليهم
المسلمون بهذه الآية : (1) " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
" ، إلى آخر الآيتين.
10493 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال :
ذُكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا ، فقال أهل الكتاب : نبيّنا قبل نبيكم ،
وكتابنا قبل كتابكم ، ونحن أولى بالله منكم! وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم
، نبيُّنا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله! فأنزل الله :
" ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يُجْزَ بِه " ، إلى
قوله : " ومن أحسنُ دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتَّبع ملَّة إبراهيم
حنيفًا " ، فأفلج الله حُجَّة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان.
10494 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به " ،
قال : التقى ناس من اليهود والنصارى ، فقالت اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ،
ديننا قبل دينكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن على دين إبراهيم
، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودًا! وقالت النصارى مثل ذلك ، فقال المسلمون :
كتابنا بعد كتابكم ، ونبينا بعد نبيكم ، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم ،
فنحن خير منكم ، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ولن يدخل الجنة إلا من كان
على ديننا! فردّ الله عليهم قولهم فقال : " ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل
الكتاب من يعمل سوءًا يجزَ به " ، ثم فضل الله
__________
(1) " الفلج " : الفوز والظفر والعلو على الخصم.
(9/229)
المؤمنين عليهم فقال : " ومن أحسن
دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفًا " .
10495 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن
سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل
الكتاب من يعمل سوءًا يجز به " ، تخاصم أهل الأديان ، فقال أهل التوراة :
كتابنا أول كتاب وخيرُها ، ونبينا خيرُ الأنبياء! وقال أهل الإنجيل نحوًا من ذلك ،
وقال أهل الإسلام : لا دين إلا دين الإسلام ، وكتابنا نَسَخ كل كتاب ، ونبينا خاتم
النبيين ، وأمرنا أن نعمل بكتابنا ونؤمن بكتابكم! فقضى الله بينهم فقال : "
ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به " ، ثم خَّير بين
أهل الأديان ففضل أهل الفضل فقال : " ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو
محسن " إلى قوله : " واتخذ الله إبراهيم خليلا " .
10496 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، إلى
: " ولا نصيرًا " ، تحاكم أهل الأديان ، (1) فقال أهل التوراة : كتابنا
خير الكتب ، (2) أنزل قبل كتابكم ، ونبينا خير الأنبياء! وقال أهل الإنجيل مثل ذلك
، وقال أهل الإسلام : لا دين إلا الإسلام ، كتابنا نسخ كل كتاب ، ونبينا خاتم
النبيين ، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ، ونعمل بكتابنا! فقضى الله بينهم فقال :
" ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به " ، وخيَّر
بين أهل الأديان فقال : " ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع
ملة إبراهيم حنيفًا واتخذ الله إبراهيم خليلا. "
10497 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يَعلى بن عبيد
__________
(1) " التحاكم " و " المحاكمة " : التخاصم والمخاصمة.
(2) في المطبوعة : " خير من الكتب " ، والصواب ما أثبت.
(9/230)
وأبو زهير ، عن إسماعيل بن أبي خالد ،
عن أبي صالح قال : جلس أناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الإيمان ، فقال
هؤلاء : نحن أفضل! وقال هؤلاء : نحن أفضل! فأنزل الله : " ليس بأمانيكم ولا
أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به " . ثم خصّ الله أهل الإيمان فقال :
" ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " .
10498 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح قال :
جلس أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الزبور فتفاخروا (1) فقال هؤلاء : نحن أفضل!
وقال هؤلاء : نحن أفضل! وقال هؤلاء : نحن أفضل! (2) فأنزل الله : " ومن يعمل
من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرًا
" .
10499 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
في قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، قال : افتخر أهل
الأديان ، فقالت اليهود : كتابنا خير الكتب وأكرمها على الله ، ونبينا أكرم
الأنبياء على الله ، موسى كلَّمه الله قَبَلا (3) وخَلا به نجيًّا ، وديننا خير
الأديان! وقالت النصارى : عيسى ابن مريم خاتم الرسل ، وآتاه الله التوراة والإنجيل
، ولو أدركه موسى لاتّبعه ، وديننا خير الأديان! وقالت المجوس وكفار العرب : ديننا
أقدم الأديان وخيرها! وقال المسلمون : محمد نبينا خاتم النبيين
__________
(1) زاد في المطبوعة : " وأهل الإيمان " ، وليست في المخطوطة وحذفتها ،
لأن السياق لا يحتاج إليها كما سترى في التعليق التالي.
(2) في المطبوعة ، حذف " وقال هؤلاء : نحن أفضل " الثالثة ، وهي ثابتة
في المخطوطة ، والفرق التي تفاخرت ثلاث فرق ، كما رأيت قبل.
(3) " قبلا " (بفتحتين) و " قبلا " (بكسر وفتح) و "
قبيلا " ، أي : عيانا ومقابلة لا من وراء حجاب. وقد مضت هذه الكلمة في الآثار
: 711 ، 4039 ، وفسرت هناك. وكان في المطبوعة : " قيلا " بالياء المثناة
التحتية ، وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(9/231)
وسيد الأنبياء ، والفُرقان آخر ما أنزل
من الكتب من عند الله ، وهو أمين على كل كتاب ، والإسلام خير الأديان! فخيَّر الله
بينهم فقال : " ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب " .
وقال آخرون : بل عنى الله بقوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب
" ، أهلَ الشرك به من عَبَدة الأوثان.
*ذكر من قال ذلك :
10500 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، قال : قريش
، قالت : " لن نُبْعث ولن نعذَّب " .
10501 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " ليس بأمانيكم " ، قال : قالت قريش : " لن نبعث ولن
نعذب " ، فأنزل الله : " من يعمل سوءًا يجزَ به " .
10502 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز
به " ، قال : قالت العرب : " لن نبعث ولن نعذَّب " ، وقالت اليهود
والنصارى : ( لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى )
[سورة البقرة : 111] ، أو قالوا : ( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا
مَعْدُودَةً ) ، [سورة البقرة : 80] شك أبو بشر. (1)
10503 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد : " ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب " ، قريشٌ
__________
(1) الأثر : 10502 - " أبو بشر " هو " ابن علية " ، وهو :
" إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي " ، سيد المحدثين ، الثقة المشهور.
سلف مرارًا.
(9/232)
وكعبُ بن الأشرف (1) " من يعمل
سوءًا يجز به " .
10504 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله :
" ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب " إلى آخر الآية ، قال : جاء
حُيَيّ بن أخطب إلى المشركين فقالوا له : يا حُيَيّ ، إنكم أصحاب كتب ، فنحن خير
أم محمد وأصحابه ؟ فقال : نحن وأنتم خير منه! (2) فذلك قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ) إلى قوله : ( وَمَنْ يَلْعَنِ
اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ) [سورة النساء : 51 ، 52]. ثم قال للمشركين
: " ليس بأمانيِّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب " ، فقرأ حتى بلغ : "
ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " ، رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه " فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرًا " ، قال : ووعد
الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم ، ولم يعد أولئك ، وقرأ : ( وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [سورة العنكبوت : 7].
(3)
10505 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن
القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب
من يعمل سوءًا يجز به " ، قال : قالت قريش : " لن نُبعث ولن نعذَّب
" ! (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " قال قريش وكعب بن الأشرف " ، فحذفت " قال
" ، كما في المخطوطة. وفي المخطوطة : " كعب بن الأشرف نحوه " ، ولم
أجد لهذه الزيادة معنى ، ولا وجهًا في التحريف أو التصحيف أهتدي إليه.
(2) في المطبوعة : " أنتم خير منه " ، وفي المخطوطة : " نحن خير
منه " ، وأثبت الصواب من الأثر السالف رقم : 9794.
(3) الأثر : 10504 - مضى مختصرًا برقم : 9794.
(4) الأثر : 10505 - كان في المطبوعة : " حدثنا أبو كريب " ، مكان
" حدثنا ابن حميد " ، والذي في المخطوطة هو الصواب.
(9/233)
وقال آخرون : عُني به أهل الكتاب
خاصَّة.
*ذكر من قال ذلك :
10506 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان قال ، سمعت الضحاك يقول :
" ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " الآية ، قال : نزلت في أهل الكتاب
حين خالفوا النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، ما قال مجاهد : من أنه عُني
بقوله : " ليس بأمانيكم " ، مشركي قريش.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي
قبل قوله : " ليس بأمانيكم " ، وإنما جرى ذكر أمانيِّ نصيب الشيطان
المفروضِ ، وذلك في قوله : " ولأمنينَّهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام
" ، وقوله : " يعدهم ويمنيهم " ، فإلحاق معنى قوله جل ثناؤه :
" ليس بأمانيكم " بما قد جرى ذكره قبل ، أحقُّ وأولى من ادِّعاء تأويلٍ
فيه ، لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ،
ولا إجماع من أهل التأويل.
وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية إذًا : ليس الأمر بأمانيكم ، يا معشر أولياء
الشيطان وحزبه ، التي يمنيكموها وليُّكم عدوّ الله ، من إنقاذكم ممن أرادكم بسوءٍ
، ونصرتكم عليه وإظفاركم به ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارًا بالله
وبحلمه عنهم : ( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ) و( لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ) ، فإن الله مجازي كل
عامل منكم جزاءَ عمله ، مَن يعمل منكم سوءًا ، و من غيركم ، يجز به ، ولا يجدْ له
من دون الله وليًّا ولا نصيرًا ، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فأولئك يدخلون الجنة.
__________
(1) الأثر : 10506 - في المطبوعة : " حدثنا أبي ، عن أبي أسيد " ، ولا
أدري من أين جاء بهذا!! وفي المخطوطة : " حدثنا أبي سفيان " ، والصواب
" عن سفيان " ، وهو الثوري. وهذا إسناد مضى مثله.
(9/234)
ومما يدلّ أيضًا على صحة ما قلنا في
تأويل ذلك ، وأنه عُني بقوله : " ليس بأمانيكم " مشركو العرب ، كما قال
مجاهد : إن الله وصف وعدَ الشيطان ما وعدَ أولياءهُ وأخبَر بحال وعده ، ثم أتبع
ذلك بصفة وعدِه الصادق بقوله : " والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا وعد الله حقًّا " ، وقد ذكر جل
ثناؤه مع وصفه وعد الشيطان أولياءه ، تمنيتَه إياهم الأمانيّ بقوله : (1) "
يعدهم ويمنيهم " ، كما ذكر وعده إياهم. فالذي هو أشبهُ : أن يتبع تمنيتَه
إياهم من الصفة ، بمثل الذي أتبع عِدَته إياهم به من الصفة.
وإذ كان ذلك كذلك ، صحَّ أن قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من
يعمل سوءًا يجز به " الآية ، إنما هو خبر من الله عن أماني أولياء الشيطان ،
وما إليه صائرة أمانيهم مع سيئ أعمالهم من سوء الجزاء ، وما إليه صائرةٌ أعمال
أولياء الله من حسن الجزاء. وإنما ضمَّ جل ثناؤه أهلَ الكتاب إلى المشركين في قوله
: " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، لأن أماني الفريقين من تمنية
الشيطان إياهم التي وعدهم أن يمنِّيهموها بقوله : " ولأضلنهم ولأمنينّهم
ولآمرنهم " .
القول في تأويل قوله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : عنى بـ " السوء " كل معصية لله. وقالوا : معنى الآية : من
يرتكب صغيرةً أو كبيرة من مؤمن أو كافر من معاصي الله ، يجازه الله بها.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " وتمنيته " بالواو ، والصواب حذفها كما في المخطوطة.
وذلك أن معنى الكلام ذكر تمنيتهم مع وصف وعد الشيطان.
(9/235)
10507 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا
يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن الربيع بن زياد سأل أبي بن كعب عن هذه
الآية : " من يعمل سوءًا يجز به " ، فقال : ما كنت أراك إلا أفقه مما
أرى! النكبةَ والعودَ والخدْش. (1)
10508 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا غندر ، عن هشام الدستوائي قال ، حدثنا قتادة ،
عن الربيع بن زياد قال : قلت لأبي بن كعب : قول الله تبارك وتعالى : " من
يعمل سوءًا يجز به " ، والله إن كان كل ما عملنا جُزينا به هلكنا! قال :
والله إن كنتُ لأراك أفقهَ مما أرى! لا يصيب رجلا خدشٌ ولا عثرةٌ إلا بذنب ، وما
يعفو الله عنه أكثر ، حتى اللَّدغة والنَّفْحة. (2)
10509 - حدثنا القاسم بن بشر بن معروف قال ، حدثنا سليمان بن حرب قال ، حدثنا حماد
بن زيد ، عن حجاج الصواف ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب قال : دخلت على
عائشة كي أسألها عن هذه الآية : " ليس
__________
(1) الأثر : 10507 - " الربيع بن زياد بن أنس الحارثي " ، روى عن أبي بن
كعب ، وكعب الأحبار. روى عنه أبو مجلز ، ومطرف بن عبد الله بن الشخير ، وحفصة بنت
سيرين. ولم يذكر ابن أبي حاتم ولا الحافظ ابن حجر رواية قتادة عنه. وذكرها البخاري
فقال : " ربيع بن زياد ، سمع أبي بن كعب (من يعمل سوءًا يجز به). قال معاذ بن
فضالة ، عن هشام ، عن قتادة أن الربيع وقالت حفصة عن الربيع بن زياد : سمع كعبًا
" .
ولم يذكر البخاري فيه جرحًا. وكان الربيع عامل معاوية على خراسان. مترجم في
التهذيب ، والكبير للبخاري 2 / 1 / 245 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 460.
وكان في المطبوعة والمخطوطة ، والدر المنثور : " زياد بن الربيع " ، وهو
خطأ ، سيأتي على الصواب في الأثر التالي ، وتبين ذلك بما رواه البخاري في الكبير
أيضًا. فصححته من أجل ذلك.
وهذا الأثر أشار إليه البخاري كما رأيت ، ونسبه السيوطي في الدر المنثور 2 : 227 ،
وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، والبيهقي.
و " النكبة " هي ما يصيب الرجل إذا ناله حجر اصطدم به. وفي الحديث :
" إنه نكبت إصبعه " ، أي نالتها الحجارة وأصابتها.
(2) الأثر : 10508 - " الربيع بن زياد " ، انظر التعليق على الأثر
السالف. وهذا الخبر هو الذي أشار إليه البخاري في التاريخ الكبير ، كما ذكرت في
التعليق السالف.
و " النفحة " بالحاء المهملة ، كأنه من " نفحت الدابة برجلها
" إذا رمحت بها ، وفي حديث شريح : " إنه أبطل النفح " ، أراد نفح
الدابة برجلها ، وهو الرفس.
(9/236)
بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من
يعمل سوءًا يجز به " ، قالت : ذاك ما يصيبكم في الدنيا. (1)
10510 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال ،
أخبرني خالد : أنه سمع مجاهدًا يقول في قوله : " من يعمل سوءًا يجز به "
، قال : يجز به في الدنيا. قال قلت : وما تبلُغ المصيبات ؟ قال : ما تكره.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : من يعمل سوءًا من أهل الكفر ، يجز به.
*ذكر من قال ذلك :
10511 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ،
عن الحسن : " من يعمل سوءًا يجز به " ، قال : الكافر ، ثم قرأ : (
وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ) [سورة سبأ : 17] ، قال : من الكفار.
__________
(1) الأثر : 10509 - " القاسم بن بشر بن معروف " شيخ للطبري ، وستأتي
روايته عنه برقم : 10531 وروى عنه مرارًا في التاريخ 1 : 12 ، 23 ، 28 ، 29 ، 32 ،
106 / 2 : 19 ، وفي هذا الموضع من التاريخ قال : " حدثني القاسم بن بشر بن
معروف ، عن سليمان بن حرب " .
ولم أجد له ترجمة في غير تاريخ بغداد 12 : 427 " القاسم بن بشر بن أحمد بن
معروف ، أبو محمد البغدادي " ، سمع يحيى بن سليم الطائفي ، وسفيان بن عيينة ،
وأبا داود الطيالسي. روى عنه عبد الله بن أبي سعد الوراق ، ومحمد بن إسحاق بن
خزيمة النيسابوري. ثم لم يذكر رواية أبي جعفر الطبري عنه. وأخشى أن يكون هو شيخ
الطبري ، وأرجو أن يأتي بعد ما يدل على وجه الصواب.
وكان في المطبوعة والمخطوطة ، هنا " القاسم بن بشر بن معرور " ، دل على
صوابه إسناد أبي جعفر في مخطوطة التفسير فيما سيأتي رقم : 10531 ، وفي التاريخ.
و " سليمان بن حرب بن بجيل الأزدي " سكن مكة ، وكان قاضيها. روى عن شعبة
، ومحمد بن طلحة بن مصرف ، والحمادين ، وجرير بن حازم. روى عنه البخاري وأبو داود
، وروى له الباقون بواسطة أبي بكر بن أبي شيبة ، وعلي بن نصر الجهضمي ، وعمرو بن علي
الفلاس ، وغيرهم. مترجم في التهذيب.
و " أبو المهلب " هو " معاوية بن عمرو " أو " عمرو بن
معاوية " ، مختلف في اسمه ، وهو عم أبي قلابة الجرمي ، روى عن عمر وعثمان
وأبي بن كعب ، وغيرهم من الصحابة. مترجم في التهذيب.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 308 من طريق سليمان بن حرب ، ووضع الذهبي علامة (خ
، م) ، أنه على شرط مسلم والبخاري.
(9/237)
10512 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
سهل ، عن حميد ، عن الحسن ، مثله.
10513 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو همام الأهوازي ، عن يونس
بن عبيد ، عن الحسن : أنه كان يقول : " من يعمل سوءًا يجز به " ، و(
وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ) ، [سورة سبأ : 17] ، يعني بذلك الكفار ، لا
يعني بذلك أهلَ الصلاة.
10514 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك ، عن الحسن في
قوله : " من يعمل سوءًا يجز به " ، قال : والله ما جازى الله عبدًا
بالخير والشر إلا عذَّبه. (1) قال : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا
عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) ، [سورة النجم : 31].
قال : أما والله لقد كانت لهم ذنوب ، ولكنه غفرها لهم ولم يجازهم بها ، إن الله لا
يجازي عبده المؤمن بذنب ، إذًا توبقه ذنوبه.
10515 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد يقول في قوله :
" من يعمل سوءًا يجز به " ، قال : وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم
سيئاتهم ، ولم يعد أولئك يعني : المشركين.
10516 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن الحسن : " من
يعمل سوءًا يجز به " ، قال : إنما ذلك لمن أراد الله هَوَانه ، فأما من أراد
كرامته ، فإنه من أهل الجنة : ( وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) ،
[سورة الأحقاف : 16]
10517 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
: " من يعمل سوءًا يجز به " ، يعني بذلك : اليهود والنصارى
__________
(1) هكذا في المطبوعة ، وفي المخطوطة : " إلا عدبه " غير منقوطة. وأنا
في شك منها. ولكن ربما وجه معناها إلى أن الله تعالى لو جازى العبد المؤمن بالخير
، وجازاه بالشر ، لكان جزاء الشر مفضيًا إلى طول عذابه ، فما من امرئ إلا وله ذنوب
، والذنوب توبق أصحابها ، وعسى أن لا يقوم لها ما قدم العبد من الخير.
(9/238)
والمجوس وكفار العرب " ولا يجدون
لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا " .
* * *
وقال آخرون : معنى " السوء " في هذا الموضع : الشرك. قالوا : وتأويل
قوله : " من يعمل سوءًا يجز به " ، من يشرك بالله يجزَ بشركه " ولا
يجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا " .
*ذكر من قال ذلك :
10518 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس قوله : " من يعمل سوءًا يجز به " ، يقول : من يشرك يجز به
وهو " السوء " " ولا يجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا "
، إلا أن يتوب قبل موته ، فيتوب الله عليه.
10519 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أبي ليلى ، عن
المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير : " من يعمل سوءًا يجز به " ، قال :
الشرك.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرناها بتأويل الآية ، التأويلُ الذي ذكرناه
عن أبي بن كعب وعائشة : وهو أن كل من عمل سوءًا صغيرًا أو كبيرًا من مؤمن أو كافر
، جوزي به.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية : لعموم الآية كلَّ عامل سوء ، من غير أن
يُخَصَّ أو يستثني منهم أحد. فهي على عمومها ، إذ لم يكن في الآية دلالة على
خصوصها ، ولا قامت حجة بذلك من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
* * *
فإن قال قائل : وأين ذلك من قول الله : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) . [سورة النساء : 31] ؟
وكيف يجوز أن يجازِي على ما قد وعد تكفيره ؟
(9/239)
قيل : إنه لم يعد بقوله : " نكفر
عنكم سيئاتكم " ، تركَ المجازاة عليها ، وإنما وعدَ التكفير بترك الفضيحة منه
لأهلها في معادهم ، كما فضح أهلَ الشرك والنفاق. فأما إذا جازاهم في الدنيا عليها
بالمصائب ليكفرها عنهم بها ، ليوافوه ولا ذنب لهم يستحقون المجازاة عليه ، فإنما
وفَى لهم بما وعدهم بقوله : " نكفر عنكم سيئاتكم " ، وأنجز لهم ما ضمن
لهم بقوله : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) ، [سورة النساء : 122].
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك : تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الأخبار الواردة بذلك :
10520 - حدثنا أبو كريب وسفيان بن وكيع ونصر بن علي وعبد الله بن أبي زياد
القطواني قالوا ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن محيصن ، عن محمد بن قيس بن مخرمة
، عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية : " من يعمل سوءًا يجز به " ،
شقَّت على المسلمين ، وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ ، فشكوا ذلك إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال : قاربوا وسدِّدوا ، ففي كل ما يصابُ به المسلم كفارةٌ ،
حتى النكبةُ ينْكبها ، أو الشَّوكة يُشاكها. (1)
10521 - حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور الرمادي قالا حدثنا زيد بن
حباب قال ، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي قال ، حدثنا
__________
(1) الأثر : 10520 - " نصر بن علي " هو الجهضمي ، مضى برقم : 2861 ،
2376 و " عبد الله بن أبي زياد القطواني " مضى برقم : 5796.
و " ابن محيصن " هو : عمر بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي القرشي ، من
أهل مكة. وانظر بقية ترجمته ومراجعها في شرح مسند أحمد.
و " محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف " ، تابعي ثقة. وانظر
شرح المسند. وكان في المخطوطة والمطبوعة : " محمد بن قيس عن مخرمة " وهو
خطأ محض.
وهذا الأثر رواه بهذا الإسناد أحمد في مسنده : 7380 ، واستوفى أخي السيد أحمد
التعليق عليه ، وأزيد أن البيهقي خرجه في السنن 3 : 373.
" النكبة " : هي إصابة الحجر الإصبع ، إذا عثر الرجل عثرة ، أو ما كانت.
(9/240)
محمد بن زيد بن قنفذ ، عن عائشة ، عن
أبي بكر قال : لما نزلت : " من يعمل سوءًا يجز به " ، قال أبو بكر : يا
رسول الله ، كل ما نَعْمل نؤاخذ به ؟ فقال : يا أبا بكر ، أليس يُصيبك كذا وكذا ؟
فهو كفارته. (1)
10522 - حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري قال ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن زياد
الجصاص ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد قال ، حدثني عبد الله بن عمر : أنه سمع أبا بكر
يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من يعمل سوءًا يجز به "
في الدنيا. (2)
10523 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن إسماعيل ، عن أبي بكر بن أبي زهير ،
عن أبي بكر الصديق أنه قال : يا نبي الله ، كيف الصلاح بعد
__________
(1) الأثر : 10521 - " عبد الله بن أبي زياد القطواني " سلف في رقم :
10520.
و " أحمد بن منصور الرمادي " ، مضت ترجمته رقم : 10260.
و " زيد بن حباب العكلي " مضى برقم : 2185 ، 5350 ، 8165 ، وكان في
المطبوعة : " يزيد بن حيان " ، وهو خطأ محض ، صوابه من المخطوطة.
و " عبد الملك بن الحسن بن أبي حكيم الحارثي " ، ويقال : " الجاري
" ، " أبو مروان الأحول " . قال أحمد : " لا بأس به " ،
وقال ابن معين : " ثقة " . مترجم في التهذيب. و " محمد بن زيد بن
قنفذ " هو : " محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي الجدعاني القرشي
" رأى ابن عمر رؤية ، وابن عمر مات سنة 73 ، وعائشة أم المؤمنين ماتت سنة 58
، فهو لم يرها بلا شك ، فحديثه عنها منقطع. مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 1 / 84
، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 255.
وهذا الأثر ذكره ابن كثير في التفسير 2 : 587 ، والسيوطي في الدر المنثور 2 : 266
، ولم ينسباه لغير ابن جرير.
(2) الأثر : 10522 - " إبراهيم بن سعيد الجوهري الطبري " ، مضى برقم :
3355 ، 3959.
و " عبد الوهاب بن عطاء الخفاف " مضى برقم : 5429 ، 5432.
و " زياد بن أبي زياد الجصاص " ، ضعيف جدًا ، ليس بشيء.
و " علي بن زيد " هو ابن جدعان. ثقة ، سيئ الحفظ. مضى برقم : 40 ، 4897
، 6495.
وهذا الأثر رواه أحمد في المسند : 23 ، وقال أخي السيد أحمد : " إسناده ضعيف
" . وخرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 587 ، مطولا عن أبي بكر بن مردويه ، عن
محمد بن هشام بن جهيمة ، عن يحيى بن أبي طالب ، عن عبد الوهاب بن عطاء ، ثم قال :
" ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن الفضل بن سهل ، عن عبد الوهاب بن عطاء ،
به مختصرًا " .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 266 ، وزاد نسبته للخطيب في المتفق والمفترق.
(9/241)
هذه الآية ؟ فقال النبي صلى الله عليه
وسلم : أيّة آية ؟ قال يقول الله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من
يعمل سوءًا يجز به " ، فما عملناه جزينا به ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم
: غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض ؟ ألست تحزن ؟ ألست تُصيبك اللأواء ؟ قال :
فهو ما تجزون به! (1)
10524 - حدثنا يونس قال ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد قال : أظنه عن أبي
بكر الثقفي ، عن أبي بكر قال : لما نزلت هذه الآية : " من يعمل سوءًا يجز به
" ، قال أبو بكر : كيف الصلاح ؟ ثم ذكر نحوه ، إلا أنه زاد فيه : ألست تُنْكب
؟ (2)
10525 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد
، عن أبي بكر بن أبي زهير : أن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم : كيف الصلاح
؟ فذكر مثله. (3)
10526 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا أبو مالك الجنبي ، عن إسماعيل بن
أبي خالد ، عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال ، قال أبو بكر : يا رسول الله ،
فذكر نحوه إلا أنه قال : فكل سوء عملناه جُزينا به ؟ وقال أيضًا : ألست تمرض ؟ ألست
تَنْصب ؟ (4) ألست تحزن ؟ أليس تصيبك اللأواء ؟ قال : بلى ، قال : هو ما تجزون به!
10527 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن ابن أبي خالد ، عن
__________
(1) الأثر : 10523 - هذا الأثر وما يليه إلى رقم : 10528 ، ستة أسانيد لخبر واحد ،
وسيأتي الكلام عليها في آخرها.
" اللأواء " : الشدة وضيق المعيشة والمشقة.
(2) الأثر : 10524 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.
و " نكب الرجل ينكب " بالبناء للمجهول ، أصابه حجر فثلم إصبعه أو ظفره.
(3) في المطبوعة : " فذكر نحوه " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) " نصب الرجل ينصب نصبًا " (المصدر بفتحات) : أعيى وتعب
(9/242)
أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال : لما
نزلت هذه الآية : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به
" ، قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، وإنا لنجزى بكل شيء نعمله ؟ قال : يا
أبا بكر ، ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ فهذا مما تجزون به.
10528 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا ابن أبي خالد قال ،
(1) حدثني أبو بكر بن أبي زهير الثقفي ، عن أبي بكر ، (2) فذكر مثله. (3)
10529 - حدثنا أبو السائب وسفيان بن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن
مسلم قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، ما أشد هذه الآية : " من يعمل سوءًا
يجز به " ؟ قال : يا أبا بكر ، إنّ المصيبة في الدنيا جزاء. (4)
__________
(1) في المخطوطة : " قال حدثنا أبي عن خالد " ، وهو خطأ صوابه ما في
المطبوعة.
(2) في المطبوعة : " فذكر مثل ذلك " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الآثار : 10523 - 10528 - خبر واحد ، " أبو بكر بن أبي زهير الثقفي
" ، من صغار التابعين ، وهو مستور ، لم يذكر بجرح ولا تعديل. ولذلك قال أخي
السيد أحمد في المسند رقم : 68 ، " إسناده ضعيف لانقطاعه " ، ثم قال :
" وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وهو عجب منهما ، فإن انقطاع إسناده بين
" .
رواه أحمد في المسند : 68 - 71 ، والبيهقي في السنن 3 : 373 ، والحاكم في المستدرك
3 : 74 ، 75 ، وخرجه ابن كثير في تفسيره : 2 : 587 ، والسيوطي في الدر المنثور 2 :
266 ، وزاد نسبته إلى هناد ، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وأبي يعلى ، وابن
المنذر ، وابن حبان ، وابن السني في عمل اليوم والليلة ، والبيهقي في شعب الإيمان.
(4) الأثر : 10529 - " أبو معاوية " هو " محمد بن خازم التميمي
" أبو معاوية الضرير ، مضى برقم : 2783.
و " الأعمش " هو " سليمان بن مهران " مضى : 2918 ، 3295 ،
8207 ، 8208. و " مسلم " هو : " مسلم بن صبيح الهمداني " مضى
برقم : 5424 ، 7216 ، 8206. وهذا الأثر خرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 588 عن ابن
مردويه : " حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري ، قال حدثنا محمد بن عامر
السعدي ، قال حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا فضيل بن عياض ، عن سليمان بن مهران ، عن
مسلم بن صبيح ، عن مسروق ، قال قال أبو بكر " ، وساق الحديث بأطول مما هنا ،
وبغير هذا اللفظ.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 226 ، 227 بلفظ ابن مردويه ، عن مسروق عن أبي
بكر ، ونسبه لابن جرير ، وأبي نعيم في الحلية ، وهناد ، وسعيد بن منصور.
بيد أن خبر الطبري ليس فيه ذكر " مسروق " ، وهو " مسروق بن الأجدع
الوداعي الهمداني " ، مضى برقم : 242 ، 7216 ، فأخشى أن يكون سقط من النساخ
ذكر " مسروق " في هذا الإسناد.
(9/243)
10530 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
روح بن عبادة قال ، حدثنا أبو عامر الخزاز ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة قالت ،
قلت : إني لأعلم أيُّ آية في كتاب الله أشدُّ ؟ فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم
: أيّ آية ؟ فقلت : " من يعمل سوءًا يجز به " ! قال : " إن المؤمن
ليجازى بأسوإِ عمله في الدنيا " ، ثم ذكر أشياء منهن المرض والنَّصبُ ، فكان
آخره أنه ذكر النكبة ، (1) فقال : " كلُّ ذي يجزى به بعمله ، يا عائشة ، (2)
إنه ليس أحدٌ يحاسب يوم القيامة إلا يعذَّب " . فقلت : أليسَ يقول الله : (
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) ، [سورة الانشقاق : 8] ؟ فقال : ذاك عند
العرض ، إنه من نُوقش الحسابَ عُذِّب (3) وقال بيده على إصبعه ، (4) كأنه
يَنْكُته. (5)
__________
(1) في المطبوعة : " أن ذكر النكبة " ، وأثبت ما في المخطوطة. و "
النكبة " كما أسلفت : إصابة الحجر إصبع المرء أو ظفره.
(2) في المطبوعة : " يجزى بعمله " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) " ناقشه الحساب مناقشة " : استقصى في محاسبته حتى لا يترك منه شيء ،
من قولهم : " نقش الشوكة " : إذا استقصى استخراجها من جسمه.
(4) " قال بيده " : أشار بها وأومأ. و " القول " لفظ مستعمل
في معاني عدة.
وفي المطبوعة : " كأنه ينكت " بغير هاء في آخره ، وأثبت ما في المخطوطة
، وهو موافق لما يأتي في التفسير 30 : 84 (بولاق) حيث روي هذا الأثر مختصرًا.
(5) الأثر : 10530 - " روح بن عبادة القيسي " ، ثقة ، مضت ترجمته برقم :
3015 ، 3355 ، 3912.
" أبو عامر الخزاز " ، هو : " صالح بن رستم المزني " ، مضى
برقم : 5458 ، 6371 ، 6383 ، 6384 ، 6387 ، 6614. و " الخزاز " بمعجمات
، وكان في المطبوعة : " الخراز " ، وفي المخطوطة غير منقوطة.
و " ابن أبي مليكة " هو : " عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن
أبي مليكة " سمع عائشة وغيرها من الصحابة. مضى برقم : 6605 ، 6610.
وهذا الأثر رجاله جميعًا ثقات. وسيأتي برقم : 10532 ، من طريق هشيم عن أبي عامر
الخزاز ، بغير هذا اللفظ مختصرًا.
ورواه البخاري بغير هذا اللفظ من طريق سعيد بن أبي مريم ، عن نافع بن عمر ، عن ابن
أبي مليكة عن عائشة (الفتح 1 : 176).
ثم رواه (الفتح 8 : 535) بغير هذا اللفظ من ثلاث طرق : من طريق يحيى القطان ، عن
عثمان بن الأسود ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة.
ثم من طريق حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة.
ثم من طريق يحيى ، عن أبي يونس حاتم بن أبي صغيرة ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم
بن محمد ، عن عائشة.
ثم عاد فرواه (الفتح 11 : 347 ، 348) من سبع طرق ، واستوفى الحافظ ابن حجر الكلام
فيه في هذه المواضع الثلاثة من صحيح البخاري.
ورواه مسلم في صحيحه (17 : 208) من أربع طرق : من طريق ابن علية ، عن أيوب ، عن
عبد الله بن أبي مليكة ، عن عائشة.
ومن طريق حماد بن زيد ، عن أيوب ، بهذا الإسناد نحوه.
ومن طريق يحيى بن سعيد القطان ، عن أبي يونس القشيري ، عن ابن أبي مليكة ، عن
القاسم ، عن عائشة.
ومن طريق يحيى القطان ، عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، بمثل
حديث أبي يونس.
ثم رواه أبو داود في السنن 3 : 250 رقم : 3093 ، بغير هذا اللفظ من طريق عثمان بن
عمر ، عن أبي عامر الخزاز ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة.
ثم رواه الترمذي مختصرًا في (باب ما جاء في العرض) وفي (تفسير سورة الانشقاق) من
طريق عثمان بن الأسود ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، وقال : " هذا حديث حسن
صحيح " .
وسيأتي في تفسير أبي جعفر ، بعدة طرق في تفسير سورة الانشقاق : 30 : 74 (بولاق)
وسنتكلم في أسانيدها هناك.
وخرجه مختصرًا ابن كثير في تفسيره 2 : 589 ، والسيوطي في الدر المنثور 2 : 227 ،
وقصرا في نسبته ، وزاد السيوطي نسبته لابن أبي حاتم ، والبيهقي.
وقوله : " ينكته " من قولهم : " نكت الأرض بقضيب أو بإصبع " :
أي ضرب بطرفه في الأرض حتى يؤثر فيها. وهو إشارة مناقشة الحساب ، وهو كما أسلفنا
استقصاء الحساب ، كأن المحاسب ينقش عن شوكة استخفت تحت الجلد فهو يستخرجها من باطن
اللحم. يقول صلى الله عليه وسلم : هكذا يفعل بالمرء إذا نوقش واستقصيت ذنوبه.
(9/244)
10531 - حدثني القاسم بن بشر بن معروف
قال ، حدثنا سليمان بن حرب قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أمية
قالت : سألت عائشة عن هذه الآية : ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) ، [سورة البقرة : 284] ، و " ليس
بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به " . قالت : ما سألني
عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها (1)
__________
(1) في مسند أحمد 6 : 218 " عنهما " ، وهي أجود ، ولكن ثبت في المخطوطة
: " عنها " بالإفراد ولا بأس بذلك في العربية.
(9/245)
فقال : يا عائشة ، ذاك مَثَابَةُ الله
للعبد بما يصيبه من الحمَّى والكِبر ، (1) والبِضَاعة يضعها في كمه فيفقدها ،
فيفزع لها فيجدها في كمه ، (2) حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التِّبْر
الأحمر من الكِير. (3)
10532 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو عامر الخزاز
قال ، حدثنا ابن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله ، إني لأعلم أشدَّ
آية في القرآن! فقال : ما هي يا عائشة ؟ قلت : هي هذه الآية يا رسول الله : "
من يعمل سوءًا يجز به " ، فقال : هو ما يصيب العبدَ المؤمن ، حتى النكبة
يُنْكبها. (4)
10533 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن الربيع بن صبيح ، عن
عطاء قال : لما نزلت : " ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب
__________
(1) في المطبوعة : " مثابة الله العبد " بغير لام في " العبد
" وأثبت ما في المخطوطة. وفي المخطوطة : " مثابة " منقوطة ظاهرة.
وقد مضت في الأثر : 6495 " متابعة الله العبد " ، ومثلها في المسند 6 :
218 ، وفي الطيالسي : 221 " معاتبة " .
فإن صح ما في المخطوطة ، وكأنه صواب جيد. فإن " المثابة " من " ثاب
إليه يثوب " ، أي : رجع ، يقول : فذاك رجوع الله العبد بالمغفرة. وذلك معنى
" الثواب " ، وهو الجزاء أيضًا. أي : فهذا جزاء الله عبده.
وقد سلف في رقم : 6495 ، تفسير " المتابعة " و " المعاتبة "
فراجعه.
(2) هكذا هنا " فيجدها في كمه " وفي الأثر : 6495 ، " في ضبنه
" ، وفي الطيالسي : 221 " في جيبه " ، وهي قريب من قريب.
وفي سائر الأثر اختلاف في بعض اللفظ.
(3) الأثر : 10531 - " القاسم بن بشر بن معروف " ، مضى برقم : 10509 ،
وكان هنا في المطبوعة : " بن معرور " بالراء في آخره ، كما كان هناك في
المخطوطة والمطبوعة ، ولكن جاء هنا في المخطوطة على الصواب " بن معروف "
بالفاء.
و " سليمان بن حرب " مضى أيضًا برقم : 10509.
وهذا الأثر رواه الطبري آنفًا برقم 6495 ، من طريق الربيع ، عن أسد بن موسى ، عن
حماد بن سلمة ، بمثله ، مع خلاف يسير في لفظه ، وقد خرجه أخي السيد أحمد هناك
مستوفى ، وشرحت هناك ألفاظه وغريبه.
(4) الأثر : 10532 - سلف تخريج هذا الأثر برقم : 10530. وكان هنا أيضًا في
المطبوعة : " الخراز " ، بالراء ، وصوابه ما أثبت.
(9/246)
من يعمل سوءًا يجز به " ، قال أبو
بكر : يا رسول الله ، ما أشد هذه الآية ؟ قال : يا أبا بكر ، إنك تمرض ، وإنك تحزن
، وإنك يُصيبك أذًى ، فذاك بذاك. (1)
10534 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ،
أخبرني عطاء بن أبي رباح قال : لما نزلت قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر! فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هي المصيبات في الدنيا. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا
نَصِيرًا (123) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولا يجد الذي يعمل سوءًا من معاصي الله وخلاف
ما أمره به " من دون الله " ، يعني : من بعد الله ، وسواه (3) "
وليًّا " يلي أمره ، (4) ويحمي عنه ما ينزل به من عقوبة الله (5) " ولا
نصيرًا " ، يعني : ولا ناصرًا ينصره مما يحلّ به من عقوبة الله وأليم نَكاله.
(6)
* * *
__________
(1) الأثر : 10533 - هذا أثر مرسل ، عطاء بن أبي رباح ، لم يسمع أبا بكر. "
الربيع بن صبيح السعدي " ، مضت ترجمته برقم : 6403 ، 6404 ، 7482 ، 7603 ،
وهو ضعيف. وترجم له البخاري في الكبير 2 / 1 / 254.
وكان في المطبوعة والمخطوطة " بن صبح " ، وهو خطأ محض.
(2) الأثر : 10534 - هذا أثر مرسل. ولم أجده في مكان.
(3) انظر تفسير " من دون " فيما سلف ص : 211 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(4) في المخطوطة : " وليا ، ولي يلي أمره " ، بزيادة " ولي "
.
(5) انظر تفسير : " ولي " فيما سلف ص : 205 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(6) انظر تفسير " نصير " فيما سلف ص : 18 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(9/247)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : الذين قال لهم : " ليس بأمانيكم ولا
أماني أهل الكتاب " ، يقول الله لهم : إنما يدخل الجنة وينعم فيها في الآخرة
، من يعمل من الصالحات من ذكوركم وإناثكم ، وذكور عبادي وإناثهم ، وهو مؤمن بي
وبرسولي محمدٍ ، مصدق بوحدانيتي وبنبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من
عندي لا أنتم أيها المشركون بي ، المكذبون رسولي ، فلا تطمعوا أن تحلّوا ، وأنتم
كفار ، محلَّ المؤمنين بي ، وتدخلوا مداخلهم في القيامة ، وأنتم مكذِّبون برسولي ،
كما : -
10535 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " ، قال :
أبى أن يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح ، وأبَى أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان.
* * *
وأما قوله : " ولا يظلمون نقيرًا " ، فإنه يعني : ولا يظلم الله هؤلاء
الذين يعملون الصالحات من ثوابِ عملهم ، مقدارَ النُّقرة التي تكون في ظهر
النَّواة في القلة ، فكيف بما هو أعظم من ذلك وأكثر ؟ وإنما يخبر بذلك جل ثناؤه
عبادَه أنه لا يبخَسهم من جزاء أعمالهم قليلا ولا كثيرًا ، ولكن يُوفِّيهم ذلك كما
وعدهم. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " النقير " فيما سلف : 8 : 472 - 475.
(9/248)
وبالذي قلنا في معنى " النقير
" ، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10536 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : " ولا
يظلمون نقيرًا " ، قال : النقير ، الذي يكون في ظهر النواة.
10537 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا قرة ، عن عطية قال :
النقير ، الذي في وسط النواة. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل : ما وجه دخول : " مِن " في قوله : " ومن يعمل من
الصالحات " ، ولم يقل : " ومن يعمل الصالحات " ؟
قيل : لدخولها وجهان :
أحدهما : أن يكون الله قد علم أن عبادَه المؤمنين لن يُطيقوا أن يعملوا جميع
الأعمال الصالحات ، فأوجب وَعده لمن عمل ما أطاق منها ، ولم يحرمه من فضله بسبب ما
عجزتْ عن عمله منها قوّته. (2)
والآخر منهما : أن يكون تعالى ذكره أوجب وعدَه لمن اجتنب الكبائر وأدَّى الفرائض ،
وإن قصر في بعض الواجب له عليه ، تفضلا منه على عباده المؤمنين ، إذ كان الفضل به
أولى ، والصفح عن أهل الإيمان به أحرَى.
* * *
وقد تقوّل قوم من أهل العربية ، (3) أنها أدخلت في هذا الموضع بمعنى الحذف ،
__________
(1) من أول قوله : " وبالذي قلنا في معنى النقير " إلى آخر هذا الأثر ،
ساقط من المخطوطة. وهذان الأثران : 10536 ، 10537 ، لم يذكرا هناك (8 : 472 - 475)
في الآثار التي جاء فيها تفسير " النقير " . وهذا أحد ضروب اختصار أبي
جعفر تفسيره.
(2) في المخطوطة : " منها قوله " ، وفوق " قوله " " كذا
" ، دليلا على أنها كانت كذلك في الأصل الذي نقل الناسخ عنه. وصواب قراءتها
ما أثبت. وفي المطبوعة : " قواه " بالجمع ، وهي أيضًا حسنة.
(3) ليس في المخطوطة : " قوم " ، وإثباتها لا بأس به ، وهذا الذي سيسوقه
رأي بعض أهل البصرة ، كما أشار إليه مرارًا فيما سلف.
(9/249)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
ويتأوّله : ومن يعمل الصالحاتِ من ذكر
أو أنثى وهو مؤمن . (1)
وذلك عندي غير جائز ، لأن دخولها لمعنًى ، فغير جائز أن يكون معناها الحذف.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ
لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا }
قال أبو جعفر : وهذا قضاء من الله جل ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل
غيره وأهلِها ، يقول الله : " ومن أحسن دينًا " أيها الناس ، وأصوبُ
طريقًا ، وأهدى سبيلا " ممن أسلم وجهه لله " ، يقول : ممن استسلم وجهه
لله فانقاد له بالطاعة ، مصدقًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من
عند ربه (2) " وهو محسن " ، يعني : وهو عاملٌ بما أمره به ربه ، محرِّم
حرامه ومحلِّل حلاله (3) " واتَّبع ملة إبراهيم حنيفًا " ، يعني بذلك :
واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن ، وأمر به بنيه من بعده وأوصاهم به
(4) " حنيفًا " ، يعني : مستقيمًا على منهاجه وسبيله.
* * *
وقد بينا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في معنى " الحنيف " ، والدليل
على الصحيح من القول في ذلك بما أغنى عن إعادته. (5)
* * *
__________
(1) انظر زيادة " من " في الجحد والإثبات فيما سلف 2 : 126 ، 127 ، 442
، 470 / 5 : 586 / 6 : 551 / 7 : 489.
(2) انظر تفسير " أسلم وجهه " فيما سلف 2 : 510 - 512 / 6 : 280.
(3) انظر تفسير " الإحسان " فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير " ملة " فيما سلف 2 : 563 / 3 : 104.
(5) انظر تفسير " حنيف " فيما سلف 3 : 104 - 108 / 6 : 494.
(9/250)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل
:
وممن قال ذلك أيضًا الضحاك.
10538 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك
قال : فضّل الله الإسلام على كل دين فقال : " ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه
لله وهو محسن " إلى قوله : " واتخذ الله إبراهيم خليلا " ، وليس
يقبل فيه عملٌ غير الإسلام ، وهي الحنيفيّة.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا (125) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : واتخذ الله إبراهيم وليًّا.
* * *
فإن قال قائل : وما معنى " الخُلَّة " التي أعطِيها إبراهيم ؟
قيل : ذلك من إبراهيم عليه السلام : العداوةُ في الله والبغض فيه ، والولاية في
الله والحب فيه ، على ما يعرف من معاني " الخلة " . وأما من الله
لإبراهيم ، فنُصرته على من حاوله بسوءٍ ، كالذي فعل به إذْ أراده نمرود بما أرادَه
به من الإحراق بالنار فأنقذَه منها ، أو على حجته عليه إذ حاجّه وكما فعل بملك مصر
إذ أراده عن أهله (1) وتمكينه مما أحب وتصييره إمامًا لمن بعدَه من عباده ، وقدوةً
لمن خلفه في طاعته وعبادته. فذلك معنى مُخَالَّته إياه.
وقد قيل : سماه الله " خليلا " ، من أجل أنه أصابَ أهلَ ناحيته جدْبٌ ،
فارتحل إلى خليلٍ له من أهل الموصل وقال بعضهم : من أهل مصر في امتيار طعام لأهله
من قِبله ، فلم يصب عنده حاجته. فلما قرَب من أهله مرَّ بمفازة ذات رمل ، فقال :
لو ملأت غرائري من هذا الرمل ، (2) لئلا أغُمَّ أهلي برجوعي إليهم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ملك مصر " بغير باء ، والسياق يقتضي ما
أثبت.
(2) " الغرائر " جمع " غرارة " (بكسر الغين) : وهي الجوالق
الذي يوضع في التبن والقمح وغيرهما.
(9/251)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
بغير مِيرَة ، وليظنوا أنّي قد أتيتهم
بما يحبون! ففعل ذلك ، فتحوَّل ما في غرائره من الرمل دقيقًا ، فلما صار إلى منزله
نام. وقام أهله ، ففتحوا الغرائر ، فوجدوا دقيقًا ، فعجنوا منه وخبزوا. فاستيقظ ،
فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا ، فقالوا : من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك!
فعلم ، فقال : نعم! هو من خليلي الله! قالوا : فسماه الله بذلك " خليلا
" . (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " واتخذ الله إبراهيم خليلا " ،
لطاعته ربَّه ، وإخلاصه العبادة له ، والمسارعةِ إلى رضاه ومحبته ، لا من حاجةٍ به
إليه وإلى خُلَّته. وكيف يحتاج إليه وإلى خلَّته ، وله ما في السموات وما في الأرض
من قليل وكثير مِلْكًا ، والمالك الذي إليه حاجة مُلْكه ، دون حاجته إليه ؟ يقول :
(2) فكذلك حاجة إبراهيم إليه ، لا حاجته إليه فيتخذه من أجل حاجته إليه خليلا
ولكنه اتخذه خليلا لمسارعته إلى رضاه ومحبته. يقول : فكذلك فسارعوا إلى رضايَ
ومحبتي لأتخذكم لي أولياء " وكان الله بكل شيء محيطًا " ، ولم يزل الله
محصيًا لكل ما هو فاعله عبادُه من خير وشرّ ، عالمًا بذلك ، لا يخفى عليه شيء منه
، ولا يعزب عنه منه مثقال ذرَّة. (3)
* * *
__________
(1) هذا دليل آخر على اختصار أبي جعفر تفسيره في مواضع ، كما قيل في ترجمته. فلولا
الاختصار ، لساق أخبار إبراهيم عليه وعلى نبينا صلى الله عليهما السلام. وقد سلفت
أخبار إبراهيم في مواضع متفرقة من التفسير.
(2) قوله : " يقول " ليست في المطبوعة ، وهي ثابتة في المخطوطة.
(3) انظر تفسير " كان " بمعنى : لم يزل ، فيما سلف في فهارس اللغة (كون)
وتفسير " الإحاطة " و " محيط " فيما سلف ص : 193 ، تعليق : 1.
والمراجع هناك.
(9/252)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
القول في تأويل قوله : {
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا
يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا
تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ويستفتونك في النساء " ، ويسألك
، يا محمد ، أصحابك أن تفتيهم في أمر النساء ، والواجب لهن وعليهن فاكتفى بذكر
" النساء " من ذكر " شأنهن " ، لدلالة ما ظهر من الكلام على
المراد منه.
" قل الله يفتيكم فيهن " ، قل لهم : يا محمد ، الله يفتيكم فيهن ، يعني
: في النساء " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن
ما كتب لهن " .
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " وما يتلى عليكم في الكتاب " .
فقال بعضهم : يعني بقوله : " وما يتلى عليكم " ، قل الله يفتيكم فيهن ،
وفيما يتلى عليكم. قالوا : والذي يتلى عليهم ، هو آيات الفرائض التي في أول هذه
السورة.
*ذكر من قال ذلك :
10539 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ،
عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن
وما يتلى عليكم في الكتاب " ، قال : كان أهل الجاهلية لا يورِّثون المولود
حتى يكبر ، ولا يورِّثون المرأة. فلما كان الإسلام ، قال : " ويستفتونك في
النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب " في أول
(9/253)
السورة في الفرائض اللاتي لا تؤتونهن
ما كتب الله لهن. (1)
10540 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة :
" وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون
أن تنكحوهن " ، قالت : هذا في اليتيمة تكون عند الرجل ، لعلها أن تكون
شريكتَه في ماله ، وهو أولى بها من غيره ، فيرغب عنها أن ينكحها ويعضُلها لمالها ،
ولا يُنكحها غيره كراهيةَ أن يشركه أحد في مالها. (2)
10541 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد
بن جبير قال : كانوا لا يورِّثون في الجاهلية النساءَ والفتى حتى يحتلم ، فأنزل
الله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب
في يتامى النساء " ، في أول " سورة النساء " من الفرائض. (3)
10542 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن شعبة قال :
كانوا في الجاهلية لا يورِّثون اليتيمة ، ولا ينكحونها ويَعْضلونها ، فأنزل الله :
" ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن " إلى آخر الآية.
10543 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، أخبرني الحجاج ، عن ابن جريج قال ،
أخبرني عبد الله بن كثير : أنه سمع سعيد بن جبير يقول في قوله : " ويستفتونك
في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في
__________
(1) الأثر : 10539 - " عمرو بن أبي قيس الرازي " الأزرق ، مضى برقم 6887
، وفي الأسانيد : 8611 ، 9346 .
و " عطاء " ، هو " عطاء بن السائب " ، مضى مرارًا.
وسيأتي هذا الأثر من طريق أخرى رقم : 10541 .
(2) الأثر : 10540 - حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، روي من وجوه. رواه
البخاري (الفتح 8 : 179 ، 199) ، ومضى مثله في التفسير رقم : 8457.
(3) الأثر : 10541 - أخرجه الحاكم في المستدرك 2 : 308 ، مرفوعًا إلى ابن عباس
بغير هذا اللفظ ، وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " .
وكان في المطبوعة : " النساء والصبي " ، وأثبت ما في المخطوطة. وسيأتي
في الأثر التالي : " الرجل الصغير " ، وهو الفتى.
(9/254)
يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما
كُتِب لهن وترغبون أن تنكحوهن " ، الآية ، قال : كان لا يرث إلا الرجل الذي
قد بلغ ، لا يرث الرجل الصغير ولا المرأة. فلما نزلت آية المواريث في " سورة
النساء " ، شَقَّ ذلك على الناس وقالوا : يرث الصغير الذي لا يعمل في المال ولا
يقوم فيه ، والمرأة التي هي كذلك ، فيرثان كما يرث الرجل الذي يعمل في المال!
فرجوا أن يأتي في ذلك حَدَثٌ من السماء ، فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حَدَث
قالوا : لئن تمَّ هذا ، إنه لواجبٌ ما منه بدٌّ! ثم قالوا : سَلُوا. فسألوا النبي
صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم
فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب " في أول السورة " في يتامى النساء
اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " . قال سعيد بن جبير :
وكان الوليّ إذا كانت المرأة ذات جمال ومال رغب فيها ونكحها واستأثر بها ، وإذا لم
تكن ذات جمال ومال أنكحها ولم يَنْكِحها. (1)
10544 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم :
" ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في
يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كُتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " ، قال :
كانوا إذا كانت الجارية يتيمةً دميمةً لم يعطوها ميراثَها ، وحبسوها عن التزويج
حتى تموت ، فيرثوها. فأنزل الله هذا.
10545 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم
في قوله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن " ، قال : كان
الرجل منهم تكون له اليتيمة بها الدَّمامة والأمر الذي يرغب عنها فيه ، ولها مال.
قال : فلا يتزوَّجها ولا يزوِّجها ، حتى تموت فيرثها. قال : فنهاهم الله عن ذلك.
10546 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ،
__________
(1) الأثر : 10543 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 231 ، وزاد نسبته لابن
المنذر.
(9/255)
عن السدي ، عن أبي مالك : " وما
يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن
تنكحوهن " ، قال : كانت المرأة إذا كانت عند وليّ يرغب عنها ، حبسها إن لم
يتزوجها ، ولم يدع أحدًا يتزوَّجها.
10547 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قوله : " في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن
" ، قال : كان أهل الجاهلية لا يورِّثون النساء ولا الصبيان شيئًا ، كانوا
يقولون : لا يغزُون ولا يغنَمون خيرًا! ففرض الله لهن الميراث حقًّا واجبًا
ليتنافس أو : لِيَنْفس الرجل في مال يتيمته إن لم تكن حسنة. (1)
10548 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد بنحوه.
10549 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى
عليكم في الكتاب " ، يعني : الفرائض التي افترض في أمر النساء " اللاتي
لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " ، قال : كانت اليتيمة تكون في
حِجْر الرجل فيرغبُ أن ينكحها أو يجامعها ، (2) ولا يعطيها مالها ، رجاءَ أن تموت
فيرثها. وإن ماتَ لها حَمِيمٌ لم تعط من الميراث شيئًا. (3) وكان ذلك في الجاهلية
، فبيَّن الله لهم ذلك.
__________
(1) في المطبوعة : " إن تكن حسنة " ، أسقط " لم " ففسد الكلام
، وهي ثابتة في المخطوطة. قوله : " ليتنافس في مال يتيمته " ، كأنه
استعمل " يتنافس " لازمًا على وجه المفرد. وهو صواب في العربية.
والمنافسة والتنافس : الرغبة في الشيء للانفراد به ، على وجه المغالبة.
وأما " لينفس الرجل في مال يتيمته " فهو من قولهم : " نفس بالشيء
" إذا ضن به واستأثر ، و " نفس فيه " : رغب في الاستئثار به. ويقال
: " هذا أمر منفوس فيه " ، أي : مرغوب فيه.
(2) قوله : " يرغب أن ينكحها " ، هو على حذف " عن " أي : يرغب
عن أن ينكحها. " رغب عن الشيء " ، تركه متعمدًا ، وزهد فيه ، وكرهه ولم
يرده. وحذف حرف الجر ، هنا جائز ، لدلالة الكلام عليه.
(3) " الحميم " : القريب الداني القرابة.
(9/256)
10550 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا
يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ويستفتونك في النساء قل الله
يفتيكم فيهن " حتى بلغ " وترغبون أن تنكحوهن " ، فكان الرجل تكون
في حجره اليتيمة بها دَمَامة ، ولها مال ، فكان يرغب عنها أن يتزوّجها ، ويحبسها
لمالِها ، فأنزل الله فيه ما تسمعون.
10551 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن " ، قال :
كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل فيها دمامة ، فيرغب عنها أن ينكحها ، ولا يُنكحها
رغبةً في مالها.
10552 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن
ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " ، إلى قوله : " بالقسط " ، قال :
كان جابر بن عبد الله الأنصاري ثم السُّلَمي له ابنة عَمّ عمياء ، وكانت دميمة ،
وكانت قد ورثت عن أبيها مالا فكان جابرٌ يرغب عن نكاحها ، ولا يُنكحها رهبة أن
يذهب الزوج بمالها ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وكان ناس في حجورهم
جوارٍ أيضًا مثل ذلك فجعل جابر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم : أترثُ الجارية إذا
كانت قبيحة عمياء ؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : نعم!! فأنزل الله فيهن
هذا. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى
عليكم في الكتاب ، في آخر " سورة النساء " ، وذلك قوله : (
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) إلى آخر السورة [سورة
النساء : 176].
__________
(1) الأثر : 10552 - انظر خبر جابر بن عبد الله وابنة عمه ، على غير هذا الوجه ،
فيما سلف ، الأثر رقم : 4939.
(9/257)
*ذكر من قال ذلك :
10553 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سلام بن سليم ، عن عطاء
بن السائب ، عن سعيد بن جبير قال : كان أهل الجاهلية لا يورِّثون الولدان حتى
يحتلموا ، فأنزل الله : " ويستفتونك في النساء " ، إلى قوله " فإن
الله كان به عليمًا " . قال : ونزلت هذه الآية : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ) ، [سورة النساء : 176] ، الآية كلها. (1)
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى
عليكم في الكتاب يعني : في أول هذه السورة ، وذلك قوله : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) [سورة
النساء : 3]
*ذكر من قال ذلك :
10554 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس بن يزيد
، عن ابن شهاب قال ، أخبرني عروة بن الزبير : أنه سأل عائشة زوج النبي صلى الله
عليه وسلم عن قول الله : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) ، قالت : يا ابن أختي ، هي
اليتيمة تكون في حجر الرجل وَلِيِّها ، (2) تشاركه في ماله ، فيعجبه مالها وجمالها
، فيريد وليُّها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها
غيره. فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهنَّ ، ويبلغوا بهن أعلى سُنَّتهن من
الصداق. وأمروا
__________
(1) الأثر 10553 - " الحارث " هو " الحارث بن محمد بن أبي أسامة
" ، مضى برقم : 10295 ، وما بعده.
و " عبد العزيز " ، هو " عبد العزيز بن أبان الأموي " مضى
أيضًا رقم : 10295 ، وما بعده. وكان في المخطوطة : " كان أهل الجاهلية
الولدان " وفي هامشها (ط) ، دلالة على الخطأ ، وقد أحسن ناشر المطبوعة الأولى
فيما زاد.
(2) في المطبوعة : " في حجر وليها " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وإن كانت
(الرجل) غير موجودة في هذا الأثر حيث رواه أبو جعفر برقم : 8457.
(9/258)
أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.
قال عروة : قالت عائشة : ثم إن الناس استفتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
هذه الآية فيهن ، فأنزل الله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن
وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون
أن تنكحوهن " . قالت : والذي ذكر الله أنه يُتلى في الكتاب : الآية الأولى التي
قال فيها : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا
طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) . (1)
10555 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني يونس ،
عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة مثله. (2)
* * *
قال أبو جعفر : فعلى هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها ، " ما " التي في
قوله : " وما يتلى عليكم " ، في موضع خفض بمعنى العطف على " الهاء
والنون " التي في قوله : " يفتيكم فيهن " . فكأنهم وجَّهوا تأويل
الآية : قل الله يفتيكم ، أيها الناس ، في النساء ، وفيما يتلى عليكم في الكتاب.
(3)
* * *
وقال آخرون : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم من أصحابه ،
سألوه عن أشياء من أمر النساء ، وتركوا المسألة عن أشياء أخر كانوا يفعلونها ،
فأفتاهم الله فيما سألوا عنه ، وفيما تركوا المسألة عنه.
ذكر من قال ذلك :
10556 - حدثنا محمد بن المثنى وسفيان بن وكيع قال سفيان ، حدثنا عبد الأعلى وقال
ابن المثنى ، حدثني عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن
__________
(1) الأثر : 10554 - رواه أبو جعفر مختصرًا فيما سلف برقم : 8457 ، وخرجه أخي
السيد أحمد هناك.
(2) الأثر : 10555 - مضى برقم : 8459 ، إحالة على الأثر السالف.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 290 .
(9/259)
محمد بن أبي موسى في هذه الآية :
" ويستفتونك في النساء " ، قال : استفتوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم
في النساء ، وسكتوا عن شيء كانوا يفعلونه ، فأنزل الله : " ويستفتونك في النساء
قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب " ، ويفتيكم فيما لم تسألوا
عنه. قال : كانوا لا يتزوجون اليتيمة إذا كان بها دمامة ، ولا يدفعون إليها مالها
فتنفق ، فنزلت : " قل الله يفتيكم في النساء وما يتلى عليكم في الكتاب في
يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " ، قال :
" والمستضعفين من الولدان " ، قال : كانوا يورِّثون الأكابر ولا يورثون
الأصاغر. ثم أفتاهم فيما سكتوا عنه فقال : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا
أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خيرٌ " ولفظ الحديث
لابن المثنى. (1)
قال أبو جعفر : فعلى هذا القول : " الذي يتلى علينا في الكتاب " ، الذي
قال الله جل ثناؤه : " قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم " : "
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا " ، الآية. والذي سأل القوم
فأجيبوا عنه في يتامى النساء : اللاتي كانوا لا يؤتونهن ما كتب الله لهن من
الميراث عمَّن ورثته عنه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرناها عنه بالصواب ، وأشبهها
بظاهر التنزيل ، قول من قال : معنى قوله : " وما يتلى عليكم في الكتاب "
، وما يتلى عليكم من آيات الفرائضِ في أول هذه السورة وآخرها.
__________
(1) الأثر : 10556 - " محمد بن أبي موسى " ترجم البخاري في الكبير 1 / 1
/ 236 ، لرجل بهذا الاسم ، ظاهر أنه قد روى عنه داود بن أبي هند. وقال : "
قال لنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، عن أبي سعد ، عن محمد بن أبي موسى ، عن ابن عباس.
وقال في التهذيب " محمد بن أبي موسى ، عن ابن عباس قوله ... وعنه أبو سعيد
البقال " قلت [القائل ابن حجر] : في طبقته : محمد بن أبي موسى ، روى عن زياد
الأنصاري ، عن أبي بن كعب. وعنه داود بن أبي هند " . كأنهما عنده رجلان.
(9/260)
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن
الصَّداق ليس مما كُتب للنساء إلا بالنكاح ، فما لم تنكح فلا صداق لها قِبَل أحد.
وإذا لم يكن ذلك لها قِبَل أحدٍ ، لم يكن مما كتب لها. وإذا لم يكن مما كتب لها ،
لم يكن لقول قائل : (1) عنى بقوله : " وما يتلى عليكم في الكتاب " ،
الإقساطَ في صدقات يتامى النساء (2) وَجْهٌ. لأن الله قال في سياق الآية ،
مبيِّنًا عن الفتيا التي وعدنا أن يفتيناها : " في يتامى النساء اللاتي لا
تؤتونهن ما كتب لهن " ، فأخبر أن بعض الذي يفتينا فيه من أمر النساء ، أمرُ
اليتيمة المَحُولِ بينها وبين ما كتب الله لها. (3) والصداق قبل عقد النكاح ، ليس
مما كتب الله لها على أحد. فكان معلومًا بذلك أن التي عنيت بهذه الآية ، هي التي
قد حيل بينها وبين الذي كتب لها مما يتلى علينا في كتاب الله. فإذا كان ذلك كذلك ،
كان معلومًا أن ذلك هو الميراث الذي يوجبه الله لهن في كتابه.
* * *
فأما الذي ذكر عن محمد بن أبي موسى ، (4) فإنه مع خروجه من قول أهل التأويل ،
بعيدٌ مما يدل عليه ظاهر التنزيل. وذلك أنه زعم أن الذي عنى الله بقوله : "
وما يتلى عليكم في الكتاب " ، هو : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو
إعراضًا " . وإذا وجِّه الكلام إلى المعنى الذي تأوّله ، صار الكلام مبتدأ من
قوله : " في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن " ، ترجمةً بذلك
عن قوله : " فيهن " ، (5) ويصير معنى الكلام : قل الله يفتيكم فيهن ، في
يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ولا دلالة
__________
(1) سقط من المخطوطة ، بين كلامين ، كان فيها : " فما لم تنكح فلا صداق لها
قبل أحد ، وإذا لم يكن ذلك لها لم يكن لقول قائل ... " ، فتركت ما في
المطبوعة على حاله.
(2) سياق الجملة : " لم يكن لقول قائل ... وجه " .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " المحولة بينها " ، والصواب ما أثبت ،
يعني : التي قد حيل بينهما وبين ما كتب الله لها.
(4) يعني الأثر السالف رقم : 10556.
(5) " الترجمة " ، البدل والبيان والتفسير.
(9/261)
في الآية على ما قاله ، ولا أثر عمن
يُعلم بقوله صحةُ ذلك ، وإذ كان ذلك كذلك ، كان وصل معاني الكلام بعضه ببعض أولى ،
ما وُجِد إليه سبيل. فإذ كان الأمر على ما وصفنا ، فقوله : " في يتامى النساء
" ، بأن يكون صلةً لقوله : " وما يتلى عليكم " ، أولى من أن يكون
ترجمة عن قوله : " قل الله يفتيكم فيهن " ، لقربه من قوله : " وما
يتلى عليكم في الكتاب " ، وانقطاعه عن قوله : " يفتيكم فيهن " .
* * *
وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : ويستفتونك في النساء ، قل الله يفتيكم فيهن
وفيما يتلى عليكم في كتاب الله الذي أنزله على نبيه في أمر يتامى النساء اللاتي لا
تعطونهن ما كتب لهن يعني : ما فرض الله لهن من الميراث عمن ورثنه ، (1) كما : -
10557 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " لا تؤتونهن
ما كتب لهن " ، قال : لا تورِّثونهن.
10558 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن
إبراهيم قوله : " لا تؤتونهن ما كتب لهن " ، قال : من الميراث. قال :
كانوا لا يورِّثون النساء " وترغبون أن تنكحوهن " .
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : " وترغبون أن تنكحوهن " .
فقال بعضهم : معنى ذلك : وترغبون عن نكاحهن. وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك ،
وسنذكر قول آخرين لم نذكرهم.
10559 - حدثنا حميد بن مسعدة السَّامي قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا عبيد
الله بن عون ، عن الحسن : " وترغبون أن تنكحوهن " ، قال : ترغبون عنهن.
(2)
__________
(1) انظر تفسير " كتب " فيما سلف 8 : 548 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك.
(2) الأثر : 10559 - " حميد بن مسعدة السامي " ، نسبه إلى " سامة
بن لؤي " بالسين ، مضى برقم : 196 ، 5842. وكان في المطبوعة بالشين "
الشامي " وهو خطأ. وهذه النسبة ليست في المخطوطة.
و " عبد الله بن عون بن أرطبان " مضى برقم : 4003 ، 7776 ، وكان في
المطبوعة : " عبيد الله " ، والصواب من المخطوطة.
(9/262)
10560 - حدثنا يعقوب وابن وكيع قالا
حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن الحسن ، مثله.
10561 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب
، عن عروة قال : قالت عائشة في قول الله : " وترغبون أن تنكحوهن " ،
رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ، فنُهوا أن
ينكحوا من رَغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم
عنهنّ. (1)
10562 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله يعني ابن صالح قال ، حدثني الليث قال ،
حدثني يونس ، عن ابن شهاب قال ، قال عروة ، قالت عائشة ، فذكر مثله. (2)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وترغبون في نكاحهن. وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك قبل ،
ونحن ذاكرو قول من لم نذكر منهم.
10563 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا ابن عون ، عن
محمد ، عن عبيدة : " وترغبون أن تنكحوهن " ، قال : وترغبون فيهن.
__________
(1) الأثر : 10561 - هذا تتمة الأثر السالف : 8457 ، ثم نظيره رقم : 10554 ، وقد
رواه البخاري بعقبه بإسناده (الفتح 8 : 179 ، 180 ).
(2) الأثر : 10562 - هو الأثر السالف : 8459 ، ثم نظيره رقم : 10555.
(9/263)
10564 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن
وكيع قالا حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد قال : قلت لعبيدة : "
وترغبون أن تنكحوهن " ، قال : ترغبون فيهن.
10565 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس في قوله : " في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن
تنكحوهن " ، فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبَه ،
فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوّجها أبدًا. فإن كانت جميلة وهَوِيها ،
تزوّجها وأكل مالها. وإن كانت دميمة منعها الرجل أبدًا حتى تموت ، فإذا ماتت
ورثها. فحرَّم الله ذلك ونهى عنه. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الآية ، قول من قال : معنى ذلك ، "
وترغبون عن أن تنكحوهن " . لأن حبسهم أموالهن عنهن مع عضّلهم إياهن ، إنما
كان ليرثوا أموالهن ، دون زوج إن تزوجن. ولو كان الذين حبسوا عنهن أموالهن ، إنما
حبسوها عنهن رغبة في نكاحهن ، لم يكن للحبس عنهن وجهٌ معروف ، لأنهم كانوا
أولياءهن ، ولم يكن يمنعهم من نكاحهن مانع ، فيكون به حاجة إلى حبس مالها عنها ،
ليتّخذ حبسها عنها سببًا إلى إنكاحها نفسها منه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا
لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن
وفيما يتلى عليكم في الكتاب وفي المستضعفين من الولدان وفي أن تقوموا لليتامى
بالقسط.
وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله من الصحابة والتابعين فيما مضى ، والذين
__________
(1) الأثر : 10565 - انظر خبر ابن عباس فيما سلف ، بمثل هذا الإسناد رقم : 8882.
(9/264)
أفتاهم في أمر المستضعفين من الولدان
أن يؤتوهم حقوقهم من الميراث ، (1) لأنهم كانوا لا يورِّثون الصغار من أولاد الميت
، وأمرهم أن يقسطوا فيهم ، فيعدلوا ويعطوهم فرائضهم على ما قسم الله لهم في كتابه
، كما : -
10566 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " والمستضعفين من الولدان " ، كانوا لا يورّثون جارية ولا
غلامًا صغيرًا ، فأمرهم الله أن يقوموا لليتامى بالقسط. و " القسط " :
أن يعطى كل ذي حق منهم حقه ، ذكرًا كان أو أنثى ، الصغير منهم بمنزلة الكبير.
10567 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى
النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن " ، قال : لا تورّثوهن مالا " وأن
تقوموا لليتامى بالقسط " ، قال : فدخل النساء والصغير والكبير في المواريث ،
ونسخت المواريث ذلك الأول.
10568 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " وأن تقوموا لليتامى بالقسط " ، أمروا لليتامى بالقسط ،
بالعدل.
10569 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد مثله.
10570 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي
مالك : " والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط " ، قال : كانوا
لا يورثون إلا الأكبر فالأكبر.
10571 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " والمستضعفين من الولدان " ، فكانوا في الجاهلية
__________
(1) في المطبوعة : " والذي أفتاهم في أمر المستضعفين " ، والصواب من
المخطوطة.
(9/265)
لا يورّثون الصغار ولا البنات ، فذلك
قوله : " لا تؤتونهن ما كتب لهن " ، فنهى الله عن ذلك ، وبيَّن لكل ذي
سهم سهمه ، فقال : ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) [سورة النساء : 11 ،
176] ، صغيرًا كان أو كبيرًا.
10572 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قال : " والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى
بالقسط " ، وذلك أنهم كانوا لا يورثون الصغير والضعيف شيئًا ، فأمر الله أن
يعطَى نصيبه من الميراث.
10573 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ،
عن إبراهيم : أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه وليُّ اليتيمة ، فإن كانت حسنة غنية
قال له عمر : زوِّجها غيرك ، والتمس لها من هو خير منك. وإذا كانت بها دمامة ولا
مال لها ، قال : تزوجها فأنت أحق بها!
10574 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا يونس بن
عبيد ، عن الحسين بن الفرج قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : يا أمير
المؤمنين ، ما أمري وما أمرُ يتيمتي ؟ قال : في أيّ بالكما ؟ (1) قال : ثم قال علي
: أمتزوّجها أنت غنيةً جميلةً ؟ قال : نعم ، والإله! قال : فتزوّجها دميمة لا مال
لها! ثم قال علي : خِرْ لها (2) فإن كان غيرك خيرًا لها فألحقها بالخير. (3)
__________
(1) " البال " : الشأن والأمر والحال ، ومنه الحديث : " كل أمر ذي
بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر " ، و " أمر ذو بال " أي : ذو
شأن ، شريف يحتفل له ويهتم به.
(2) في المطبوعة : " ثم قال علي : تزوجها إن كنت خيرًا لها " ، لم يفهم
ما في المخطوطة فغيره وبدله ، وبئس ما فعل! وقوله : " خر لها " من قولهم
: " خار له " ، أي اختار له خير الأمرين ، ومنه قولهم : " خار الله
لك " ، أي : أعطاك ما هو خير لك.
(3) الأثر : 10574 - " يونس بن عبيد بن دينار العبدي " ، مضى برقم :
2616 ، 4931 ، 8047.
أما " الحسين بن الفرج " فلم أجد في طبقته من الرواة من يقال له :
" الحسين بن الفرج " ، وكان في المطبوعة مكانه " الحسن " ،
يعني الحسن البصري. وأظنه تصرفًا من ناسخ أو ناشر. ونعم ، يروي يونس بن عبيد عن
الحسن البصري ، ولكن أرجح ذلك عندي أن في اسمه تصحيفًا ، وأخشى أن يكون هو :
" الحصين بن أبي الحر " ، وهو " الحصين بن مالك بن الخشخاش العنبري
" ، روى عنه يونس بن عبيد. مترجم في التهذيب. ونرجو أن يأتي في التفسير ما
يدل على الصواب من ذلك.
(9/266)
قال أبو جعفر : فقيامهم لليتامى بالقسط
، كانَ العدلَ فيما أمرَ الله فيهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ
عَلِيمًا (127) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ومهما يكن منكم ، (1) أيها المؤمنون ، من عدل
في أموال اليتامى ، التي أمركم الله أن تقوموا فيهم بالقسط ، والانتهاء إلى أمر
الله في ذلك وفي غيره وإلى طاعته " فإن الله كان به عليمًا " ، لم يزل
عالمًا بما هو كائن منكم ، وهو محصٍ ذلك كله عليكم ، حافظ له ، حتى يجازيكم به
جزاءكم يوم القيامة. (2)
* * *
__________
(1) انظر " ما " بمعنى " مهما " فيما سلف 6 : 551.
(2) انظر تفسير " كان " و " عليم " فيما سلف في فهارس اللغة.
(9/267)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
القول في تأويل قوله : { وَإِنِ
امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن خافت امرأة من بعلها ، يقول : علمت من
زوجها (1) " نشوزًا " ، يعني : استعلاءً بنفسه عنها إلى غيرها ،
__________
(1) انظر تفسير " الخوف " فيما سلف 4 : 550 / ثم تفسيره بمعنى : العلم
فيما سلف 8 : 298 ، 299.
وانظر تفسير " بعل " فيما سلف 4 : 526.
(9/267)
أثَرةً عليها ، وارتفاعًا بها عنها ،
إِما لبغْضة ، وإما لكراهة منه بعض أسبابها (1) إِما دَمامتها ، وإما سنها وكبرها
، أو غير ذلك من أمورها (2) " أو إعراضًا " ، يعني : انصرافًا عنها
بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه (3) " فلا جناح عليهما أن يصلحا
بينهما صلحًا " ، يقول : فلا حرج عليهما ، يعني : على المرأة الخائفة نشوز
بعلها أو إعراضه عنها (4) " أن يصلحا بينهما صلحًا " ، وهو أن تترك له يومها
، أو تضعَ عنه بعض الواجب لها من حقّ عليه ، تستعطِفه بذلك وتستديم المُقام في
حباله ، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح يقول : " والصلح خير
" ، يعني : والصلح بترك بعض الحقّ استدامةً للحُرْمة ، وتماسكًا بعقد النكاح
، خيرٌ من طلب الفرقة والطلاق.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10575 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة
: أن رجلا أتى عليًّا رضي الله عنه يستفتيه في امرأة خافتْ من بعلها نشوزًا أو
إعراضًا ، فقال : قد تكون المرأة عند الرجل فتنبُو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها
أو سوء خلقها أو فقرها ، فتكره فراقه. فإن وضعت له من
__________
(1) في المطبوعة : " بعض أشياء بها " ، وهو كلام سخيف ، لم يحسن فهم ما
في المخطوطة. و " الأسباب " جمع " سبب " ، وأصله الحبل ، ثم
استعير لكل ما يتوصل به إلى شيء. ثم استعمله أهل القرنين الثاني والثالث وما
بعدهما بمعنى : كل ما يتصل بشيء أو يتعلق به. وقد مضى في مواضع من كلام أبي جعفر
أخشى أن أكون أشرت إليها في التعليق ، ثم غابت عني الآن.
(2) انظر تفسير " النشوز " فيما سلف 3 : 475 ، 476 / 8 : 299.
(3) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف 2 : 298 ، 299 / 6 : 291 / 8 : 88
، 566.
(4) انظر تفسير " الجناح " فيما سلف ص : 163 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(9/268)
مهرها شيئًا حَلَّ له ، وإن جعلت له من
أيامها شيئًا فلا حرج.
10576 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك بن
حرب ، عن خالد بن عرعرة قال : سئل علي رضي الله عنه : " وإن امرأة خافت من
بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا " ، قال :
المرأة الكبيرة ، أو الدميمة ، أو لا يحبها زوجها ، فيصطلحان.
10577 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة وحماد بن سلمة
وأبو الأحوص كلهم ، عن سماك بن حرب ، عن خالد بن عرعرة ، عن علي رضي الله عنه ،
بنحوه.
10578 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن خالد بن
عرعرة : أن رجلا سأل عليًّا رضي الله عنه عن قوله : " فلا جناح عليهما أن
يصلحا بينهما صلحًا " ، قال : تكون المرأة عند الرجل دميمة ، فتنبو عينُه
عنها من دمامتها أو كبرها ، فإن جعلت له من أيامها أو مالها شيئًا فلا جناح عليه.
(1)
10579 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن ابن سيرين قال :
جاء رجل إلى عمر فسأله عن آية ، فكره ذلك وضربه بالدِّرّة ، فسأله آخر عن هذه
الآية : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا " ، فقال : عن مثل
هذا فَسلوا! ثم قال : هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها ، (2) فيتزوج
المرأة الشابَّة يلتمس ولدَها ، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائزٌ.
10580 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عمران بن عيينة قال ، حدثنا عطاء بن السائب
، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " وإن امرأة
__________
(1) في المطبوعة : " فليس عليه جناح " ، وهما سواء ، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) في المخطوطة : " هذه الامرأة " وهو الأصل في إدخال التعريف على
" امرأة " ، ولكنه قل في كلامهم ، وحكاه أبو علي الفارسي ، وهذا شاهده.
ولم أثبته ، وتركت ما في المطبوعة ، لئلا أغرب على القارئ!!
و " خلا من سنها " ، أي : كبرت ومضى معظم عمرها. من قولهم : " خلا
قرن وزمان " أي : مضى.
(9/269)
خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا
" ، قال : هي المرأة تكون عند الرجل حتى تكبر ، فيريد أن يتزوج عليها ،
فيتصالحان بينهما صلحًا ، (1) على أن لها يومًا ، ولهذه يومان أو ثلاثة. (2)
10581 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمران ، عن عطاء ، عن سعيد ، عن ابن عباس ،
بنحوه إلا أنه قال : حتى تلد أو تكبر وقال أيضًا : فلا جناح عليهما أن يَصَّالحا
على ليلة والأخرى ليلتين.
10582 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير
قال : هي المرأة تكون عند الرجل قد طالت صحبتها وكبرت ، فيريد أن يستبدل بها ،
فتكره أن تفارقه ، ويتزوج عليها فيصالحها على أن يجعل لها أيامًا ، (3) وللأخرى
الأيام والشهر.
10583 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن
سعيد ، عن ابن عباس : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا " ،
قال : هي المرأة تكون عند الرجل فيريد أن يفارقها ، فتكره أن يفارقها ، ويريد أن
يتزوج فيقول : " إنّي لا أستطيع أن أقسم لك بمثل ما أقسم لها " ،
فتصالحه على أن يكون لها في الأيام يوم ، فيتراضيان على ذلك ، فيكونان على ما
اصطلحا عليه.
10584 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة :
" وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما
__________
(1) في المطبوعة : " فيتصالحا " ، والصواب من المخطوطة.
(2) الأثر : 10580 - " عمران بن عيينة بن أبي عمران الهلالي " أخو
" سفيان بن عيينة " قال ابن معين وأبو زرعة : " صالح الحديث "
، وذكره ابن حبان في الثقات ، وهو صدوق. وقال أبو حاتم : " لا يحتج بحديثه
لأنه يأتي بالمناكير " . مترجم في التهذيب. وقد مضى في رقم : 4189 ، بمثل هذا
الإسناد.
(3) في المطبوعة : " فيتزوج عليها فيصالحا على أن يجعل ... " ، وأثبت ما
في المخطوطة.
(9/270)
أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خيرٌ
" ، قالت : هذا في المرأة تكون عند الرجل ، فلعله أن يكون يستكبر منها ، ولا
يكون لها ولد ويكون لها صحبة ، (1) فتقول : لا تطلقني ، وأنت في حِلً من شأني. (2)
10585 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن
هشام بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة في قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها
نشوزًا أو إعراضًا " ، قالت : هذا الرجل يكون له امرأتان : إحداهما قد عجزت ،
أو هي دميمة وهو لا يستكثر منها ، فتقول : لا تطلِّقني ، وأنت في حلِّ من شأني.
10586 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن
__________
(1) في المطبوعة : " فلعله لا يكون تستكثر منها ، ولا يكون لها ولد ولها صحبة
" ، غير ما في المخطوطة. وأثبت ما في المخطوطة ، لأنه صواب في معناه ، قوله :
" يستكبر منها " أي : يرى أنها بلغت من السن والكبر مبلغًا ، يحمله على
طلب الشواب. وقوله : " ولا يكون لها ولد يكون لها صحبة " ، أي : ولد
يدعوه إلى صحبتها وترك مفارقتها. والذي دعا الناشر أن يصححه هو أن حديث عائشة في
روايات أخرى ، تقول : " الرجل عنده المرأة ليس بمستكثر منها ، يريد أن
يفارقها " ، وهو لفظ البخاري ، وكما سيأتي في الأثر التالي : 10585. ولكن ذلك
ليس داعية إلى مثل هذا التغيير ، فإن المعنى الذي ذكرته ، قد جاء عن هشام بن عروة
، عن أبيه ، عن عائشة في الأثر : 10585 ، 10588 ، وهو : " في المرأة إذا دخلت
في السن " . فلا معنى لتغيير رواية إلا بعد التحقق من خطأ معناها ، أو صواب
روايتها في مكان آخر. وانظر تخريج هذا الأثر في التعاليق التالية.
(2) الأثر : 10584 - خبر هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رواه أبو جعفر من
ثلاث طرق متتابعة ، ومن طريق مفردة رقم : 10588.
ورواه البخاري بغير هذا اللفظ (الفتح 9 : 266) من طريق ابن سلام ، عن أبي معاوية ،
عن هشام. ثم رواه بلفظ آخر (الفتح 8 : 199).
ورواه البخاري بغير هذا اللفظ (الفتح 8 : 199) من طريق محمد بن مقاتل ، عن عبد
الله بن المبارك ، عن هشام عن عائشة وهو إسناد أبي جعفر رقم : 10586. ثم رواه بلفظ
آخر (الفتح 9 : 266) من طريق ابن سلام ، عن أبي معاوية ، عن هشام.
ورواه مسلم (18 : 157) من طريق أبي كريب ، عن أبي أسامة ، عن هشام ، ولفظه أقرب
إلى اللفظ الذي أقره ناشر المطبوعة الأولى ، وذلك : " نزلت في المرأة تكون
عند الرجل ، فلعله أن لا يستكثر منها ، وتكون لها صحبة وولد ، فتكره أن يفارقها
" الحديث. وأخرجه البيهقي في السنن 7 : 296 بلفظ آخر.
(9/271)
المبارك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ،
عن عائشة بنحوه غير أنه قال : فتقول : أجعلك من شأني في حل! فنزلت هذه الآية في
ذلك. (1)
10587 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا
" ، فتلك المرأة تكون عند الرجل ، لا يرى منها كبير ما يحبُّ ، (2) وله امرأة
غيرها أحبّ إليه منها ، فيؤثرها عليها. فأمره الله إذا كان ذلك ، أن يقول لها :
" يا هذه ، إن شئت أن تقيمي على ما ترين من الأثرة ، فأواسيك وأنفق عليك
فأقيمي ، (3) وإن كرهت خلَّيت سبيلك! " ، فإن هي رضيت أن تقيم بعد أن
يخيِّرها فلا جناح عليه ، وهو قوله : " والصلح خيرٌ " ، وهو التخيير.
10588 - حدثنا الربيع بن سليمان وبحر بن نصر قالا حدثنا ابن وهب قال ، حدثني ابن
أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أنزل الله هذه الآية في
المرأة إذا دخلت في السنّ ، (4) فتجعل يومها لامرأة أخرى. قالت ففي ذلك أنزلت :
" فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا " . (5)
10589 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا هشام ، عن ابن
سيرين ، عن عبيدة قال : سألته عن قول الله : " وإن امرأة خافت من بعلها
نشوزًا أو إعراضًا " ، قال : هي المرأة تكون مع زوجها ، فيريد أن يتزوج
__________
(1) الأثران - 10585 ، 10586 - هما مكرر الأثر السالف من طريقين.
(2) في المطبوعة : " كثير ما يحب " ، وهي في المخطوطة غير منقوطة ،
فرجحت قراءتها كما أثبت.
(3) " المواساة " من " الأسوة " ، أصلها الهمزة ، فقلبت واوا
تخفيفًا. وهي المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق.
(4) قولها : " دخلت في السن " ، أي : كبرت وارتفعت سنها.
(5) الأثر : 10588 - " بحر بن نصر بن سابق الخولاني " المصري ، ثقة
صدوق. روى عن ابن وهب ، والشافعي ، وأسد بن موسى. روى عنه أبو جعفر الطحاوي. مترجم
في التهذيب. هذا ، والإسناد في المخطوطة ، ليس فيه " بحر بن نصر " ، بل
هو مفرد بذكر الربيع. ولم أجد الخبر من هذا الوجه في مكان آخر.
(9/272)
عليها ، فتصالحه من يومها على صلح. قال
: فهما على ما اصطلحا عليه. فإن انتقضت به ، (1) فعليه أن يعدِل عليها ، أو
يفارقها.
10590 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم
: أنه كان يقول ذلك.
10591 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حجاج ، عن مجاهد : أنه كان
يقول ذلك.
10592 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ،
عن عبيدة في قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا " إلى
آخر الآية ، قال : يصالحها على ما رضيت دون حقها ، فله ذلك ما رضيت. فإذا أنكرت ،
أو قالت : " غِرْت " ، فلها أن يعدل عليها ، أو يرضيها ، أو يطلِّقها.
10593 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الوهاب ، عن أيوب ، عن محمد قال : سألت
عبيدة عن قول الله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا " ،
قال : هو الرجل تكون له امرأة قدْ خلا من سنها ، (2) فتصالحه عن حقها على شيء ،
فهو له ما رضيت. فإذا كرهت ، فلها أن يعدل عليها ، أو يرضيها من حقها ، أو يطلقها.
10594 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن هشام ، عن ابن سيرين قال : سألت
عبيدة عن قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا " ، فذكر نحو ذلك إلا
أنه قال : فإن سخطت ، فله أن يرضيها ، أو يوفيها حقَّها كله ، أو يطلقها.
__________
(1) في المطبوعة : " انتقصت به " بالصاد ، وأنا في شك لازم منها ، وهي
في المخطوطة غير منقوطة ، فرجحت قراءتها كما أثبت ، من قولهم : " نقض الأمر
بعد إبرامه ، وانتقض وتناقض " ، واستعمال " به " مع " انتقضت
" عربي جيد ، كأنه يحمل معنى " خاص به " ، أي نقضه.
(2) " خلا من سنها " ، كبرت ومضى أطيب عمرها.
(9/273)
10595 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
جرير ، عن مغيرة قال ، قال إبراهيم : إذا شاءت كانت على حقها ، وإن شاءت أبت فردّت
الصلح ، فذاك بيدها. فإن شاء طلقها ، وإن شاء أمسكها على حقها. (1)
10596 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " وإن
امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما " ، قال قال علي :
تكون المرأة عند الرجل الزّمان الكثير ، فتخاف أن يطلِّقها ، فتصالحه على صلح ما
شاء وشاءت يبيت عندها في كذا وكذا ليلة ، وعند أخرى ، ما تراضيا عليه وأن تكون
نفقتها دون ما كانت. وما صالحته عليه من شيء فهو جائز.
10597 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن عبد الملك ، عن أبيه ، عن الحكم :
" وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا " ، قال : هي المرأة تكون
عند الرجل ، فيريد أن يخلِّي سبيلها. فإذا خافت ذلك منه ، فلا جناح عليهما أن
يصطلحا بينهما صلحًا ، تدع من أيامها إذا تزوج. (2)
10598 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا
" ، إلى قوله : " والصلح خير " ، وهو الرجل تكون تحته المرأة
الكبيرة ، فينكح عليها المرأة الشابة ، فيكره أن يفارق أم ولده ، فيصالحها على
عطيَّةٍ من ماله ونفسه فيطيب له ذلك الصلح.
10599 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن
__________
(1) الأثر : 10595 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.
(2) الأثر : 10597 - " يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية الخزاعي "
أبو زكرياء : ثقة. مترجم في التهذيب.
وأبوه : " عبد الملك بن حميد بن أبي غنية " وهو " ابن أبي غنية
" ، مضى برقم : 8535.
(9/274)
قتادة قوله : " وإن امرأة خافت من
بعلها نشوزًا أو إعراضًا " ، فقرأ حتى بلغ " فإن الله كان بما تعملون
خبيرًا " ، وهذا في الرجل تكون عنده المرأة قد خَلا من سنها ، وهان عليه بعض
أمرها ، فيقول : " إن كنت راضيةً من نفسي ومالي بدون ما كنت ترضَيْنَ به قبل
اليوم! " ، (1) فإن اصطلحا من ذلك على أمر ، فقد أحلَّ الله لهما ذلك ، وإن
أبت ، فإنه لا يصلح له أن يحبسها على الخَسْف. (2)
10600 - حدثت عن الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
الزهري ، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار : أنّ رافع بن خديج كان تحته امرأة قد
خلا من سنها ، فتزوج عليها شابة ، فآثر الشابة عليها. فأبت امرأته الأولى أن تقيم
على ذلك ، فطلقها تطليقة. حتى إذا بقي من أجلها يسير قال : إن شئت راجعتك وصبرتِ
على الأثرة ، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك! قالت : بل راجعني وأصبر على الأثرة!
فراجعها ، ثم آثر عليها ، فلم تصبر على الأثرة ، فطلَّقها أخرى وآثر عليها الشابة.
قال : فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله أنزل فيه : " وإن امرأة خافت من بعلها
نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا " .
قال الحسن قال ، عبد الرزاق قال ، معمر ، وأخبرني أيوب ، عن ابن سيرين عن عبيدة ،
بمثل حديث الزهري وزاد فيه : فإن أضرَّ بها الثالثة ، فإنّ عليه أن يوفِّيها حقها
، أو يطلّقها. (3)
__________
(1) جواب الشرط محذوف ، لدلالة الكلام عليه ، أي : إن كنت راضية بذلك ، فذلك ،
وإلا فارقتك.
(2) " على الخسف " : أي على النقيصة ، وتحميلها ما تكره.
(3) الأثر : 10600 - هذا الأثر رواه الحاكم في المستدرك 2 : 308 بهذا اللفظ من
طريق إسحاق بن إبراهيم ، عن عبد الرزاق ، مرفوعًا إلى رافع بن خديج. وقال الحاكم :
" حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي.
ورواه البيهقي في السنن 7 : 296 من طريق أخرى مطولا ، من طريق أبي اليمان ، عن
شعيب بن أبي جمرة ، عن الزهري.
ورواه مالك في الموطأ : 548 " عن ابن شهاب ، عن رافع بن خديج : أنه تزوج بنت
محمد بن مسلمة الأنصاري " الحديث ، وهو قريب من لفظ معمر ، عن الزهري.
وروى الشافعي خبر رافع بن خديج ، مختصرًا من طريق سفيان بن عيينة ، عن الزهري
(الأم 5 : 171) .
(9/275)
10601 - حدثني محمد بن عمرو قال ،
حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " من بعلها
نشوزًا أو إعراضًا " ، قال : قول الرجل لامرأته : " أنت كبيرة ، وأنا
أريد أن أستبدل امرأة شابَّة وضيئة ، فقَرِّي على ولدك ، فلا أقسم لك من نفسي
شيئًا " . فذلك الصلح بينهما ، وهو أبو السَّنابل بن بَعْكك. (1)
10602 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح :
" من بعلها نشوزًا أو إعراضًا " ، ثم ذكر نحوه قال شبل : فقلت له : فإن
كانت لك امرأة فتقسم لها ولم تقسم لهذه ؟ قال : إذا صالحتْ على ذلك ، (2) فليس
عليه شيء.
10603 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر قال : سألت عامرًا
عن الرجل تكون عنده المرأة يريد أن يطلقها ، فتقول : " لا تطلقني ، واقسم لي
يومًا ، وللتي تَزَّوَّج يومين " ، قال : لا بأس به ، هو صلح.
10604 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن
يصلحا بينهما صلحًا والصلح خير " ، قال : المرأة ترى
__________
(1) الأثر : 10601 - " أبو السنابل بن بعكك بن الحارث بن عميلة بن السباق بن
عبد الدار القرشي " ، هو صحابي من مسلمة الفتح ، أخرج له الترمذي ، والنسائي
وابن ماجه.
و " بعكك " (بفتح فسكون ففتح) على وزن " جعفر " .
(2) في المطبوعة : " إذا صالحته " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/276)
من زوجها بعض الحطّ ، (1) وتكون قد
كبرت ، أو لا تلد ، فيريد زوجها أن ينكح غيرها ، فيأتيها فيقول : " إني أريد
أن أنكح امرأة شابة أشبَّ منك ، (2) لعلها أن تَلِدَ لي وأوثرها في الأيام والنفقة
" ، فإن رضيت بذلك ، وإلا طلقها ، فيصطلحان على ما أحبَّا.
10605 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وإن
امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا " ، قال : نشوزًا عنها ، غَرِضَ بها.
(3) الرجل تكون له المرأتان " أو إعراضًا " ، بتركها " فلا جناح
عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا " ، إما أن يرضيها فتحلله ، وإما أن ترضِيَه
فتعطِفُه على نفسها.
10606 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو
إعراضًا " ، يعني : البغض.
10607 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن
سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا
أو إعراضًا " ، فهو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة ، فيتزوج عليها المرأة
الشابة ، فيميل إليها ، وتكون أعجب إليه من الكبيرة ، فيصالح الكبيرة على أن
يعطيها من ماله ويقسم لها من نفسه نصيبًا معلومًا.
10608 - حدثنا عمرو بن علي وزيد بن أخزم قالا حدثنا أبو داود قال ،
__________
(1) في المطبوعة : " بعض الجفاء " ، غير ما في المخطوطة. و " الحط
" الوضع والإنزال. ويريد : بعض البخس من حقها ، والفتور في مودتها.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " أنسب منك " ، وهو تصحيف ، صواب قراءته ما
أثبت.
(3) " غرض بها " (بالغين المفتوحة وكسر الراء) : ضجر بها وملها. وفي
المخطوطة والمطبوعة بالعين المهملة ، وهو خطأ صوابه ما أثبت. ثم قوله بعد ذلك :
" الرجل تكون له المرأتان " ، يعني : أن ذلك في الرجل تكون له المرأتان.
وهو كلام مبتدأ لا يتعلق بالفعل الذي قبله.
(9/277)
حدثنا سليمان بن معاذ ، عن سماك بن حرب
، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خشيت سَوْدة أن يطلِّقها رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقالت : لا تطلِّقني على نسائك ، ولا تَقسم لي. ففعل ، فنزلت : " وإن
امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا " . (1)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " أن يصلحا بينهما صلحًا " (2)
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة بفتح " الياء " وتشديد
" الصاد " ، بمعنى : أن يتصالحا بينهما صلحًا ، ثم أدغمت " التاء
" في " الصاد " ، فَصُيِّرتا " صادًا " مشددة. (3)
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة : ( أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ) ، بضم
" الياء " وتخفيف " الصاد " ، بمعنى : أصلح الزوج والمرأة
بينهما.
* * *
__________
(1) الأثر : 10608 - " زيد بن أخزم الطائي النبهاني " الحافظ ، روى عن
أبي داود الطيالسي ، ويحيى القطان ، وابن مهدي ، وأبي عامر العقدي. روى عنه
الجماعة ، سوى مسلم. قال النسائي : " ثقة " . ذبحه الزنج في الفتنة سنة
257. مترجم في التهذيب.
و " أخزم " بالخاء المعجمة ، والزاي. وكانا في المطبوعة : " أخرم
" ، وهو خطأ. وهذا الأثر ساقط من المخطوطة.
والأثر في مسند أبي داود : 349 رقم : 2683 ، وفي الترمذي في كتاب التفسير ، والبيهقي
في السنن 3 : 297 ، واتفقت روايتهم جميعًا :
" ... فقالَتْ : لا تُطَلِّقني وأمسكني ، واجعل يومي لعائشة. ففعل ، فنزلت
هذه الآية : وَإن امرأةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أو إعراضًا ، الآية ،
فما اصطلحا عليه من شَيءٍ فهو جائز " .
فلا أدري من أين جاء هذا الاختلاف في لفظ الخبر ؟ وأرجو أن لا يكون تصرفًا من ناسخ
سابق.
وقال الترمذي بعقب روايته : " هذا حديث حسن صحيح غريب " .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " أن يصالحا بينهما " بالألف ، وصواب
كتابتها ما أثبت ، على رسم المصحف ، حتى يحتمل الرسم القراءتين جميعًا.
(3) هكذا رسم هذه القراءة : (أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا).
(9/278)
قال أبو جعفر : وأعجب القراءتين في ذلك
إليَّ قراءة من قرأ : ( أن يصالحا بينهما صلحا ) ، (1) بفتح " الياء "
وتشديد " الصاد " ، بمعنى : يتصالحا. لأن " التصالح " في هذا
الموضع أشهر وأوضح معنى ، وأفصح وأكثرُ على ألسن العرب من " الإصلاح " .
و " الإصلاح " في خلاف " الإفساد " أشهر منه في معنى "
التصالح " .
فإن ظن ظان أن في قوله : " صلحًا " ، دلالة على أن قراءة من قرأ
ذلك(يُصْلِحَا) بضم " الياء " أولى بالصواب ، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما
ظن. وذلك أن " الصلح " اسم وليس بفعل ، فيستدلّ به على أولى القراءتين
بالصواب في قوله : " يصلحا بينهما صلحًا " .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معناه : وأحضرت أنفس النساء الشح على أنصبائهن من أنفس أزواجهن
وأموالهم. (2)
*ذكر من قال ذلك :
10609 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد
بن جبير ، عن ابن عباس : " وأحضرت الأنفس الشح " ، قال : نصيبها منه.
10610 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد وحدثنا ابن وكيع قال ،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة معًا : " إلا أن يصالحا " ، زاد الناسخ
" إلا " سهوًا ، وتابعه الناشر.
(2) في المطبوعة : " وأموالهن " ، والصواب من المخطوطة.
(9/279)
حدثنا ابن يمان قالا جميعًا ، حدثنا
سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : " وأحضرت الأنفس الشح "
، قال : في الأيَّام.
10611 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ،
عن عطاء : " وأحضرت الأنفس الشح " ، قال : في الأيام والنفقة.
10612 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي وابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن جريج
، عن عطاء ، قال : في النفقة.
10613 - حدثنا ابن وكيع.. قال ، حدثنا روح ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : في
النفقة. (1)
10614 - وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء :
" وأحضرت الأنفس الشح " ، قال : في الأيام. (2)
10615 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ،
عن سعيد بن جبير في هذه الآية : " وأحضرت الأنفس الشح " ، قال : نفس
المرأة على نصيبها من زوجها ، من نفسه وماله.
10616 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير
، بمثله.
10617 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك ، قال ،
حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، مثله.
10618 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن رجل ، عن سعيد بن
جبير : في النفقة.
__________
(1) الأثر : 10613 - أخشى أن يكون صواب إسناده " حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبي قال ، حدثنا روح " سقط منه " حدثنا أبي قال " .
(2) الأثر : 10614 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.
(9/280)
10619 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
ابن مهدي ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن بكير بن الأخنس ، عن سعيد بن جبير قال :
في الأيام والنفقة.
10620 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن سعيد
بن جبير قال : في الأيام والنفقة.
10621 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر
، عن سعيد بن جبير في قوله : " وأحضرت الأنفس الشح " ، قال : المرأة
تشحُّ على مال زوجها ونفسه.
10622 - حدثنا المثنى قال ، أخبرنا حبّان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن
شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير قال : جاءت المرأة حين نزلت هذه الآية : "
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا " ، قالت : " إني أريد أن
تقسم لي من نفسك " ! وقد كانت رضيت أن يدَعها فلا يطلِّقها ولا يأتيها ،
فأنزل الله : " وأحضرت الأنفس الشحَّ " .
10623 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وأحضرت الأنفس الشح " ، قال : تطّلع نفسها إلى زوجها وإلى
نفقته. قال : وزعم أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سودة بنت زمعة :
كانت قد كبرت ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلِّقها ، فاصطلحا على أن
يمسكها ، ويجعل يومها لعائشة ، فشحَّت بمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وأحضرت نفسُ كل واحدٍ من الرجل والمرأة ، الشحَّ بحقه
قِبَل صاحبه.
*ذكر من قال ذلك :
10624 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد
(9/281)
يقول في قوله : " وأحضرت الأنفس
الشح " ، قال : لا تطيب نفسُه أن يعطيها شيئًا ، فتحلله ولا تطيب نفسُها أن
تعطيه شيئًا من مالها ، فتعطفه عليها.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : عنى بذلك : أحضرت
أنفس النساء الشحَّ بأنصبائهن من أزواجهن في الأيام والنفقة.
* * *
و " الشح " : الإفراط في الحرص على الشيء ، وهو في هذا الموضع : إفراط
حرصِ المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها.
* * *
فتأويل الكلام : وأحضرت أنفس النساء أهواءَهن ، من فرط الحرص على حقوقهن من
أزواجهن ، والشح بذلك على ضَرائرهن.
* * *
وبنحو ما قلنا في معنى " الشح " ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول :
10625 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " وأحضرت الأنفس الشح " ، والشح ، هواه في الشيء يحرِص
عليه.
* * *
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب ، من قول من قال : " عُني بذلك : وأحضرت
أنفس الرجال والنساء الشح " ، على ما قاله ابن زيد لأن مصالحة الرجل امرأته
بإعطائه إياها من ماله جُعْلا على أن تصفح له عن القسم لها ، غير جائزة. وذلك أنه
غير معتاض عوضًا من جُعْله الذي بذله لها. والجُعل لا يصح إلا على عِوض : إما عين
، وإما منفعة. والرجل متى جعل للمرأة جُعْلا على أن تصفح له عن يومها وليلتها ،
فلم يملك عليها عينًا ولا منفعة. وإذْ كان ذلك كذلك ، كان ذلك من معاني أكل المال
بالباطل. وإذْ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنه لا وجه لقول من قال : " عنى بذلك
الرجل والمرأة " .
(9/282)
فإن ظن ظانّ أن ذلك إذْ كان حقًّا
للمرأة ، ولها المطالبة به ، فللرجل افتداؤه منها بجُعل ، فإن شفعة المستشفع في
حصة من دارٍ اشتراها رجل من شريك له فيها حق ، له المطالبة بها ، فقد يجب أن يكون
للمطلوب افتداءُ ذلك منه بجُعل. وفي إجماع الجميع على أن الصلح في ذلك على عِوض
غيرُ جائز ، إذ كان غير مُعتاض منه المطلوب في الشفعة عينًا ولا نفعًا ما يدل على
بُطول صلح الرجل امرأته على عوض ، على أن تصفح عن مطالبتها إياه بالقسمة لها.
وإذا فسد ذلك ، صَح أن تأويل الآية ما قلنا. وقد أبان الخبر الذي ذكرناه عن سعيد
بن المسيب وسليمان بن يسار (1) أنّ قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا
أو إعراضًا " ، الآية : نزلت في أمر رافع بن خديج وزوجته ، إذ تزوج عليها
شابة ، فآثر الشابَّة عليها ، فأبت الكبيرة أن تَقِرَّ على الأثرة ، فطلقها تطليقة
وتركها. فلما قارب انقضاء عِدَّتها خيَّرها بين الفراق والرجعة والصبر على الأثرة
، فاختارت الرجعة والصبر على الأثرة. فراجعها وآثر عليها ، فلم تصبر ، فطلقها. ففي
ذلك دليل واضحٌ على أن قوله : " وأحضرت الأنفس الشح " ، إنما عُني به :
وأحضرت أنفس النساء الشحَّ بحقوقهن من أزواجهن ، على ما وصفنا.
* * *
قال أبو جعفر : وأما قوله " وإن تحسنوا وتتقوا " ، فإنه يعني : وإن
تحسنوا ، أيها الرجال ، في أفعالكم إلى نسائكم ، (2) إذا كرهتم منهن دَمامة أو
خُلُقًا أو بعضَ ما تكرهون منهن بالصبر عليهن ، وإيفائهن حقوقهن وعشرتهن بالمعروف
" وتتقوا " ، يقول : وتتقوا الله فيهن بترك الجَوْر منكم عليهن فيما يجب
لمن كرهتموه منهن عليكم ، من القسمة له ، والنفقة ، والعشرة بالمعروف (3) "
فإن الله كان
__________
(1) هو الأثر رقم : 10600.
(2) انظر تفسير " الإحسان " فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير " التقوى " فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/283)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
بما تعملون خبيرًا " ، يقول : فإن
الله كان بما تعلمون في أمور نسائكم ، أيها الرجال ، من الإحسان إليهن والعشرة
بالمعروف ، والجور عليهن فيما يلزمكم لهنّ ويجب " خبيرًا " ، يعني :
عالمًا خابرًا ، لا يخفي عليه منه شيء ، بل هو به عالم ، وله محصٍ عليكم ، حتى
يوفِّيكم جزاءَ ذلك : المحسنَ منكم بإحسانه ، والمسيءَ بإساءته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ
وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
}
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء
" ، لن تطيقوا ، أيها الرجال ، أن تسوُّوا بين نسائكم وأزواجكم في حُبِّهن
بقلوبكم حتى تعدِلوا بينهنّ في ذلك ، فلا يكون في قلوبكم لبعضهن من المحبة إلا
مثلُ ما لصواحبها ، لأن ذلك مما لا تملكونه ، وليس إليكم " ولو حرصتم "
، يقول : ولو حرصتم في تسويتكم بينهن في ذلك ، كما : -
10626 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم
" ، قال : واجبٌ ، أن لا تستطيعوا العدل بينهن.
* * *
" فلا تميلوا كلَّ الميل " ، يقول : فلا تميلوا بأهوائكم إلى من لم
تملكوا محبته منهن كلَّ الميل ، حتى يحملكم ذلك على أن تجوروا على صواحبها في ترك
أداء الواجب لهن عليكم من حق : في القسم لهن ، والنفقة عليهن ، والعشرة بالمعروف
(2)
__________
(1) انظر تفسير " خبير " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " الميل " فيما سلف 8 : 212.
(9/284)
" فتذروها كالمعلقة " يقول :
فتذروا التي هي سوى التي ملتم بأهوائكم إليها " كالمعلقة " ، يعني :
كالتي لا هي ذات زوج ، ولا هي أيِّمٌ.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ما قلنا في قوله : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم
" .
10627 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن هشام
بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين
النساء ولو حرصتم " ، قال : بنفسه في الحب والجماع.
10628 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن يونس ،
عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو
حرصتم " ، قال : بنفسه.
10629 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص ، عن أشعث وهشام ، عن ابن سيرين ، عن
عبيدة قال : سألته عن قوله : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم
" ، فقال : في الجماع
10630 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة قال
: في الحب والجماع.
10631 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سهل ، عن عمرو ، عن الحسن : في الحب.
10632 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن
عبيدة قال : في الحب والجماع.
10633 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، قال أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة في قوله : " ولن تستطيعوا أن
(9/285)
تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " ،
قال : في المودة ، كأنه يعني الحبّ.
10634 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " ، يقول
: لا تستطيع أن تعدل بالشهوة فيما بينهن ولو حرصت.
10635 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة وحدثنا ابن بشار
قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن
الخطاب كان يقول : اللهم أمَّا قلبي فلا أملك! وأما سِوَى ذلك ، فأرجو أن أعدل!
10636 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " ، يعني :
في الحب والجماع.
10637 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية وحدثنا ابن بشار قال ، حدثنا
عبد الوهاب قالا جميعًا ، حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : اللهم هذا قَسْمِي فيما أملك ، فلا
تَلُمني فيما تَملك ولا أملك. (1)
__________
(1) الأثر : 10637 - هذا الأثر رواه أبو داود في سننه 2 : 326 رقم : 2134 من طريق
حماد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن يزيد (الخطمي) ، عن عائشة ، وانظر
التعليق على الأثر رقم : 10657.
ورواه من هذه الطريق أيضا مرفوعا ، النسائي في السنن 7 : 63 ، 64.
وبه أيضًا ، ابن ماجه من سننه 1 : 634 ، رقم : 1971.
وبه أيضًا ، الترمذي في سننه (باب ما جاء في التسوية بين الضرائر).
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 7 : 298.
وسيرويه أبو جعفر بإسنادين آخرين ، أحدهما من طريق حماد بن زيد مرسلا ، وهو رقم :
10656 ، مع اختلاف يسير في اللفظ.
والآخر ، من طريق عبد الوهاب ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن يزيد ، عن
عائشة ، مرفوعًا ، كما في السنن الأربعة ، وهو رقم : 10657.
وأشار إليه الحافظ في الفتح (9 : 274) وقال : " وقد روى الأربعة ، وصححه ابن
حبان والحاكم " . وقال الترمذي بعقبه : " حديث عائشة ، هكذا رواه غير
واحد : عن حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن يزيد ، عن
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم ورواه حماد بن زيد وغير واحد ، عن
أيوب ، عن أبي قلابة ، مرسلا : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم وهذا أصح من
حديث حماد بن سلمة " . وزاد الطبري هنا طريقين في روايته مرسلا : ابن علية ،
عن أيوب وعبد الوهاب ، عن أيوب.
ثم قال الترمذي ومعنى قوله : " لا تلمني فيما تملك ولا أملك " إنما يعني
به الحب والمودة ، كذا فسره بعض أهل العلم " .
وقال أبو داود في سننه : " يعني القلب " .
(9/286)
10638 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
حسين بن علي ، عن زائدة ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن ابن أبي مليكة قال : نزلت
هذه الآية في عائشة : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء " .
10639 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : في
الشهوة والجماع.
10640 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : في
الجماع.
10641 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء قال ، قال سفيان في قوله
: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " ، قال : في الحب
والجماع.
10642 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولن
تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " ، قال : ما يكون من بدنه وقلبه ،
فذلك شيء لا يستطيع يَمْلكه. (1)
* * *
ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله : " فلا تميلوا كلَّ الميل " .
10643 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا
__________
(1) حذفت " أن " ، وسياقه " لا تستطيع أن تملكه " . وحذف
" أن " قبل المضارع ، جائز صحيح ، كثير في كلام العرب ، وكثير في كلام
القدماء من العلماء والكتاب.
(9/287)
ابن علية قال ، حدثنا ابن عون ، عن محمد
قال : قلت لعبيدة : " فلا تميلوا كل الميل " ، قال : بنفسه.
10644 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد ، عن عبيدة ،
مثله.
10645 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن
عبيدة : " فلا تميلوا كل الميل " ، قال هشام : أظنه قال : في الحب
والجماع.
10646 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ،
أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة في قوله : " كل الميل " ، قال :
بنفسه.
10647 - حدثنا بحر بن نصر الخولاني قال ، حدثنا بشر بن بكر قال ، أخبرنا الأوزاعي
، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن قول الله : " فلا تميلوا كل الميل "
، قال : بنفسه. (1)
10648 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن : "
فلا تميلوا كل الميل " ، قال : في الغشيان والقَسْم. (2)
10649 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " فلا تميلوا كل الميل " ، لا تعمَّدوا الإساءة.
10650 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
10651 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج
__________
(1) الأثر : 10647 - " بحر بن نصر الخولاني " ، مضى قريبًا برقم :
10588. وهذا الأثر ساقط من المخطوطة.
(2) الأثر : 10648 - " سهل بن يوسف الأنماطي " ، ثقة ، من شيوخ أحمد.
مترجم في التهذيب ، وقد مضى في الأسانيد : 2966 ، 3260 ، 4876 ، 8765.
(9/288)
قال : بلغني عن مجاهد : " فلا
تميلوا كل الميل " ، قال : يتعمد أن يسيء ويظلم. (1)
10652 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
10653 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " فلا تميلوا
كل الميل " ، قال : هذا في العمل في مبيته عندها ، وفيما تصيب من خيره.
10654 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فلا تميلوا كل الميل " ، يقول : يميل عليها ، فلا ينفق عليها
، ولا يقسم لها يومًا.
10655 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ،
قال مجاهد : " فلا تميلوا كل الميل " ، قال : يتعمد الإساءة ، يقول :
" لا تميلوا كل الميل " ، قال : بلغني أنه الجماع.
10656 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي
قلابة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ، ويقول : اللهم
هذه قِسْمتي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك! (2)
10657 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الوهاب ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عبد
الله بن يزيد ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله. (3)
__________
(1) الأثر : 10651 - " محمد بن بكر بن عثمان البرساني " ، ثقة. مضى برقم
: 5438.
(2) الأثر : 10656 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم : 10637.
(3) الأثر : 10657 - " عبد الله بن يزيد " هو : رضيع عائشة. روى عن
عائشة. وعنه أبو قلابة الجرمي. ذكره ابن حبان في الثقات. وكان في المطبوعة
والمخطوطة " عبد الله بن زيد " ، وهو خطأ كما سترى.
هذا وقد جاء في سنن أبي داود وحدها " عبد الله بن يزيد الخطمي " ،
والآخرون لم يقولوا : " الخطمي " ، اقتصروا على اسمه وحده. وهذا هو
الصواب ، فإن " عبد الله بن يزيد بن زيد الخطمي " ، لم يذكر في تراجمه
أنه روى عن عائشة ، ولا أن أبا قلابة الجرمي قد روى عنه.
والذي يروي عن عائشة : عبد الله بن يزيد ، رضيع عائشة. وقد نص الحافظ ابن حجر في
ترجمته في التهذيب (6 : 80) أنه له عند الأربعة : " اللهم هذا قسمي فيما أملك
" ، فثبت على اليقين ، أن الذي في النسخ المطبوعة من سنن أبي داود ، خطأ محض
، وأن الصواب حذف " الخطمي " من إسنادها. والله الموفق للصواب. كتبه
محمود محمد شاكر.
(9/289)
10658 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبي ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نَهيك ، عن أبي
هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كانت له امرأتان يَميل مع إحداهما
على الأخرى ، جاء يوم القيامة أحدُ شِقَّيه ساقط. (1)
* * *
ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله : " فتذروها كالمعلقة " .
10659 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فتذروها كالمعلقة " ، قال : تذروها لا هي
أيّم ، ولا هي ذات زوج. (2)
10660 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر
__________
(1) الأثر : 10658 - هذا الأثر ، رواه أبو داود الطيالسي عن همام ، في مسنده : 322
رقم : 2454 ، باختلاف يسير في لفظه.
ورواه أبو داود في السنن 2 : 326 ، رقم : 2133 ، من طريق أبي الوليد الطيالسي ، عن
همام ، ولفظه : " وشقه مائل " .
ورواه النسائي 7 : 63 ، من طريق عمرو بن علي ، عن عبد الرحمن ، عن همام ، ولفظه :
" أحد شقيه مائل " .
ورواه ابن ماجه في سننه 1 : 633 رقم : 1969 ، من طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، عن
وكيع ، بلفظ الطبري.
ورواه الترمذي في السنن ، في باب (ما جاء في التسوية بين الضرائر) ، من طريق عبد
الرحمن بن مهدي ، عن همام.
ورواه البيهقي 7 : 297 من طرق.
قال الترمذي : " وإنما أسند هذا الحديث همام بن يحيى ، عن قتادة. ورواه هشام
الدستوائي عن قتادة ، قال : " كان يقال " . ولا نعرف هذا الحديث مرفوعًا
إلا من حديث همام " .
(2) في المطبوعة : " ولا ذات روج " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/290)
، عن سعيد بن جبير : " فتذروها
كالمعلقة " ، قال : لا أيِّمًا ولا ذات بعل.
10661 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان ، عن مبارك ، عن الحسن : "
فتذروها كالمعلقة " ، قال : لا مطلقة ولا ذات بعل.
10662 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن ، مثله.
10663 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
فتذروها كالمعلقة " ، أي كالمحبوسة ، أو كالمسجونة.
10664 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " فتذروها كالمعلقة " ، قال : كالمسجونة. (1)
10665 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم ، عن أبي جعفر ، عن الربيع في
قوله : " فتذروها كالمعلقة " ، يقول : لا مطلقة ولا ذات بعل.
10666 - حدثني المثنى قال ، حدثني إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ،
أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس في قوله : " فلا تميلوا كل الميل فتذروها
كالمعلقة " ، لا مطلقة ولا ذات بعل. (2)
10667 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج قال : بلغني عن
مجاهد : " فتذروها كالمعلقة " ، قال : لا أيما ولا ذات بعل.
__________
(1) في المخطوطة ، " كالمسجونة ، كالمحبوسة " ، ووضع فوق الأولى حرف (ط)
وفوق الأخرى (كذا) ، ولا أدري ما الذي أراد باستشكاله هذا. أما المطبوعة ، فقد
حذفت " كالمحبوسة " واقتصرت على واحدة ، وكأنه ظن أنه أراد حذف التي
عليها (ط) ، وإبقاء الأخرى ، ولعله أصاب ، فتركت ما في المطبوعة على حاله.
وأراد بقوله : " المسجونة " و " المحبوسة " ، أن زوجها سجنها
، أو حبسها فلم يرسلها ، ولم يسرحها بالطلاق.
(2) الأثر : 10666 - عبد الرحمن بن سعد : هو : " عبد الرحمن بن عبد الله بن
سعد بن عثمان الرازي " . روى عن أبيه ، وأبي خيثمة ، وعمرو بن أبي قيس الرازي
، وأبي جعفر الرازي. ثقة. مترجم في التهذيب.
(9/291)
10668 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو
حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح : " فتذروها كالمعلقة " ، ليست
بأيم ولا ذات زوج.
10669 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي وأبو خالد وأبو معاوية ، عن جويبر ،
عن الضحاك ، قال : لا تدعها كأنها ليس لها زوج.
10670 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فتذروها كالمعلقة " ، قال : لا أيِّمًا ولا ذات بعل.
10671 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
فتذروها كالمعلقة " ، قال : " المعلقة " ، التي ليست بمُخَلاة
ونفسها فتبتغي لها ، وليست متهيئة كهيئة المرأة من زوجها ، لا هي عند زوجها ، ولا
مفارقة ، فتبتغي لنفسها. فتلك " المعلقة " .
* * *
قال أبو جعفر : وإنما أمر الله جل ثناؤه بقوله : " فلا تميلوا كل الميل
فتذروها كالمعلقة " ، الرجالَ بالعدل بين أزواجهن فيما استطاعوا فيه العدل
بينهن من القسمة بينهن ، والنفقة ، وترك الجور في ذلك بإرسال إحداهن على الأخرى
فيما فرض عليهم العدلَ بينهن فيه ، إذ كان قد صفح لهم عمَا لا يطيقون العدلَ فيه
بينهنّ مما في القلوب من المحبة والهوى.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ
غَفُورًا رَحِيمًا (129) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " وإن تصلحوا " أعمالكم ، أيها
الناس ، فتعدلوا في قسمكم بين أزواجكم ، وما فرض الله لهن عليكم من النفقة والعشرة
بالمعروف ، فلا تجوروا في ذلك " وتتقوا " ، يقول : وتتقوا الله في الميل
الذي نهاكم
(9/292)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
عنه ، بأن تميلوا لإحداهن على الأخرى ،
فتظلموها حقها مما أوجبَه الله لها عليكم " فإن الله كان غفورًا " ،
يقول : فإن الله يستر عليكم ما سلف منكم من ميلكم وجوركم عليهن قبل ذلك ، بتركه
عقوبتكم عليه ، ويغطِّي ذلك عليكم بعفوه عنكم ما مضى منكم في ذلك قبل "
رحيمًا " ، يقول : وكان رحيمًا بكم ، إذ تاب عليكم ، فقبل توبَتكم من الذي
سلف منكم من جوركم في ذلك عليهن ، وفي ترخيصه لكم الصلح بينكم وبينهن ، بصفحهن عن
حقوقهن لكم من القَسْم على أن لا يطلَّقن. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ
وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن أبت المرأة التي قد نشز عليها زوجها إذ
أعرض عنها بالميل منه إلى ضرّتها لجمالها أو شبابها ، أو غير ذلك مما تميل النفوس
له إليها (2) الصلحَ بصفحها لزوجها عن يومها وليلتها ، (3) وطلبت حقَّها منه من
القسم والنفقة ، وما أوجب الله لها عليه وأبى الزوج الأخذَ عليها بالإحسان الذي
ندبه الله إليه بقوله : " وإن تُحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا
" ، وإلحاقَها في القسم لها والنفقة والعشرة بالتي هو إليها مائل ، (4)
فتفرقا
__________
(1) انظر تفسير " التقوى " و " غفور " ، و " رحيم "
فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة : " أو أعرض عنها ... مما تميل النفوس به إليها " ، غير
" إذ " ، و " له " ، وهما نص المخطوطة ، وهو الصواب. ويعني :
مما تميل النفوس من أجله إلى هذه المرأة التي وصف.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " الصلح لصفحها " والصواب ما أثبت ، وقوله
: " الصلح " منصوب ، مفعول به لقوله : " فإن أبت المرأة ... الصلح
" ، هكذا السياق.
(4) قوله : " وإلحاقها " معطوف في السياق على قوله : " وأبى الزوج
الأخذ عليها بالإحسان ... وإلحاقها ... " .
(9/293)
بطلاق الزوج إياها " يُغْنِ الله
كلا من سعته " ، يقول : يغن الله الزوجَ والمرأة المطلقة من سعة فضله. أما
هذه ، فبزوج هو أصلح لها من المطلِّق الأول ، أو برزق أوسع وعصمة. وأما هذا ،
فبرزق واسع وزوجة هي أصلح له من المطلقة ، (1) أو عفة " وكان الله واسعًا
" ، يعني : وكان الله واسعًا لهما ، في رزقه إياهما وغيرهما من خلقه (2)
" حكيمًا " ، فيما قضى بينه وبينها من الفرقة والطلاق ، وسائر المعاني
التي عرفناها من الحكم بينهما في هذه الآيات وغيرها ، وفي غير ذلك من أحكامه
وتدبيره وقضاياه في خلقه. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10672 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قول الله : " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " ، قال :
الطلاق. (4)
10673 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " السعة " فيما سلف ص : 121.
وقوله : " أو عفة " يعني : فبرزق واسع ... أو بعفة.
(2) انظر تفسير " واسع " فيما سلف 2 : 537 / 5 : 516 ، 575 / 6 : 517.
(3) انظر تفسير " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) في المطبوعة : " قال : الطلاق ، يغني الله كلا من سعته " ، وليس ذلك
كله في المخطوطة بل سقط منها بقية الخبر. فاقتصرت على ما جاء في الدر المنثور 2 :
234 ، عن مجاهد وهو : " قال : الطلاق " ، كما أثبته.
(9/294)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
القول في تأويل قوله : { وَلِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ
غَنِيًّا حَمِيدًا (131) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولله جميع مُلْك ما حوته السموات السبع
والأرَضون السبع من الأشياء كلها. وإنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله : " وإن
يتفرَّقا يغن الله كلا من سعته " ، تنبيهًا منه خلقَه على موضع الرغبة عند
فراق أحدهم زوجته ، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوَحْشة بفراق
سَكنه وزوجته وتذكيرًا منه له أنه الذي له الأشياء كلها ، وأن من كان له ملك جميع
الأشياء ، فغير متعذّر عليه أن يغنيَه وكلَّ ذي فاقة وحاجة ، ويؤنس كلَّ ذي وحشة.
* * *
ثم رجع جل ثناؤه إلى عذل من سعى في أمر بني أبيرق وتوبيخهم ، ووعيدِ من فعل ما فعل
المرتدّ منهم ، فقال (1) " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم
" ، يقول : ولقد أمرنا أهل الكتاب ، وهم أهل التوراة والإنجيل " وإياكم
" ، يقول : وأمرناكم وقلنا لكم ولهم : " اتقوا الله " ، يقول :
احذروا الله أن تعصوه وتخالفوا أمره ونهيه (2) " وإن تكفروا " ، يقول :
وإن تجحدوا وصيته إياكم ، أيها المؤمنون ، فتخالفوها " فإنّ لله ما في
السموات وما في الأرض " ، يقول : فإنكم لا تضرُّون بخلافكم وصيته غير أنفسكم
، ولا تَعْدُون في كفركم ذلك أن تكونوا أمثالَ اليهود والنصارى ، في نزول عقوبته
بكم ، وحلول غضبه عليكم ، كما حلَّ بهم إذ بدَّلوا عهده ونقضوا ميثاقه ، فغيَّر
بهم ما كانوا فيه من خَفض
__________
(1) انظر تفسير الآيات السالفة ، من الآية : 105 - 116.
(2) انظر تفسير " وصى " فيما سلف 3 : 93 - 96 : 405 / 8 : 30 ، 68 وانظر
مقالته في " أن " مع " وصى " فيما سلف 3 : 94 ، 95.
(9/295)
العيش وأمن السِّرب ، (1) وجعل منهم
القردة والخنازير. وذلك أن له ملك جميع ما حوته السموات والأرض ، لا يمتنع عليه
شيء أراده بجميعه وبشيء منه ، من إعزاز من أراد إعزازه ، وإذلال من أراد إذلاله ،
وغير ذلك من الأمور كلها ، لأن الخلق خلقه ، بهم إليه الفاقة والحاجة ، وبه قواهم
وبقاؤهم ، وهلاكهم وفناؤهم وهو " الغني " الذي لا حاجة تحلّ به إلى شيء
، ولا فاقة تنزل به تضطرُّه إليكم ، أيها الناس ، ولا إلى غيركم (2) "
والحميدُ " الذي استوجب عليكم أيها الخلق الحمدَ بصنائعه الحميدة إليكم ،
وآلائه الجميلة لديكم. (3) فاستديموا ذلك ، أيها الناس ، باتقائه ، والمسارعة إلى
طاعته فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، كما :
10674 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن هاشم قال ،
أخبرنا سيف ، عن أبي روق ، عن علي رضي الله عنه : " وكان الله غنيًّا حميدًا
" ، قال : غنيًّا عن خلقه " حميدًا " ، قال : مستحمدًا إليهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وأمن الشرب " بالشين المعجمة ، وهو خطأ صرف ، وهو
في المخطوطة على الصواب. و " السرب " (بكسر السين وسكون الراء) : النفس
والمال والأهل والولد. يقال : " أصبح فلان آمنًا في سربه " أي في نفسه
وأهله وماله وولده. وتفتح السين ، فيقال : " أصبح آمنًا في سربه " ، أي
: في مذهبه ووجهه حيث سار وتوجه.
و " خفض العيش " : لينه وخصبه.
(2) انظر تفسير " الغني " فيما سلف 5 : 521 ، 570.
(3) انظر تفسير " حميد " فيما سلف 5 : 570.
(9/296)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
القول في تأويل قوله : { وَلِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (132) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولله ملك جميع ما حوته السموات والأرض ، وهو
القيِّم بجمعيه ، والحافظ لذلك كله ، لا يعزب عنه علم شيء منه ، ولا يؤوده حفظه
وتدبيره ، كما : -
10675 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ،
عن قتادة : " وكفى بالله وكيلا " ، قال : حفيظًا. (1)
* * *
فإن قال قائل : وما وجه تكرار قوله : " ولله ما في السموات وما في الأرض
" في آيتين ، إحداهما في إثر الأخرى ؟
قيل : كرّر ذلك ، لاختلاف معنى الخبرين عما في السموات والأرض في الآيتين. وذلك أن
الخبر عنه في إحدى الآيتين : ذكرُ حاجته إلى بارئه ، وغنى بارئه عنه - وفي الأخرى :
حفظ بارئه إياه ، وعلمه به وتدبيره. (2)
فإن قال : أفلا قيل : " وكان الله غنيًّا حميدًا " ، وكفى بالله وكيلا ؟
قيل : إن الذي في الآية التي قال فيها : " وكان الله غنيًّا حميدًا " ،
مما صلح أن يختم ما ختم به من وصف الله بالغنى وأنه محمود ، ولم يذكر فيها ما يصلح
أن يختم بوصفه معه بالحفظ والتدبير. فلذلك كرّر قوله : " ولله ما في السموات
وما في الأرض " .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الوكيل " فيما سلف 7 : 405 / 8 : 566 / 9 : 193.
(2) في المطبوعة : " حفظ بارئه إياه به ، وعلمه به وتدبيره " ، والصواب
كله من المخطوطة.
(9/297)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
القول في تأويل قوله : { إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ
قَدِيرًا (133) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن يشأ الله ، أيها الناس ، " يذهبكم
" ، أي : يذهبكم بإهلاككم وإفنائكم " ويأت بآخرين " ، يقول : ويأت
بناس آخرين غيركم لمؤازرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ونصرته " وكان الله
على ذلك قديرًا " ، يقول : وكان الله على إهلاككم وإفنائكم واستبدال آخرين
غيركم بكم " قديرًا " ، يعني : ذا قدرة على ذلك. (1)
* * *
وإنما وبخ جل ثناؤه بهذه الآيات ، الخائنين الذين خانوا الدِّرع التي وصفنا شأنها
، الذين ذكرهم الله في قوله : ( وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) [سورة
النساء : 105] وحذر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مثلهم ، وأن يفعلوا
فعل المرتدِّ منهم في ارتداده ولحاقه بالمشركين وعرَّفهم أن من فعل فعله منهم ،
فلن يضر إلا نفسه ، ولن يوبق برِدَّته غير نفسه ، لأنه المحتاج - مع جميع ما في
السموات وما في الأرض - إلى الله ، والله الغني عنهم. ثم توعَّدهم في قوله :
" إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين " ، بالهلاك والاستئصال ، إن هم
فعلوا فعل ابن أبيرق طُعْمة المرتدِّ (2) وباستبدال آخرين غيرهم بهم ، لنصرة نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته ومؤازرته على دينه ، كما قال في الآية الأخرى : (
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا
أَمْثَالَكُمْ ) ، [سورة محمد : 38] .
__________
(1) انظر تفسير " القدير " فيما سلف 1 : 361 / 2 : 484 ، 504.
(2) " طعمة " هو اسم " ابن أبيرق " كما سلف في الأثر رقم :
10416.
(9/298)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنها لما نزلت ، ضرب بيده على ظهر سَلْمان فقال : " هم قوم هذا " ، يعني
عجم الفرس كذلك : -
10676 - حُدِّثت عن عبد العزيز بن محمد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي
هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
وقال قتادة في ذلك بما : -
10677 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله
" إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرًا " ،
قادرٌ واللهِ ربُّنا على ذلك : أن يهلك من يشاء من خلقه ، ويأتي بآخرين من بعدهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ
ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " من كان يريد " ، ممن أظهرَ
الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل النفاق ، (2) الذين يستبطنون الكفر
__________
(1) الأثر : 10676 - " عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد الدراوردي
" . متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
و " سهيل بن أبي صالح " . متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
و " أبوه : " ذكوان السمان " ، " أبو صالح " ، ثقة ثبت
في حديثه عن أبي هريرة. مترجم في التهذيب ، مضى برقم : 304 ، 3226 ، 5387.
وهذا الأثر ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 6 : 67 ، ونسبه لابن جرير ، وسعيد بن
منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه.
وسيأتي بأسانيد أخرى في تفسير " سورة محمد " ، في آخرها 26 : 42 (بولاق)
سنتكلم عنها هناك.
(2) في المطبوعة : " لمحمد صلى الله عليه وسلم " ، والصواب من المخطوطة.
(9/299)
وهم مع ذلك يظهرون الإيمان " ثواب
الدنيا " ، يعني : عَرَض الدنيا ، (1) بإظهارهِ مَا أظهر من الإيمان بلسانه.
(2) " فعند الله ثواب الدنيا " ، يعني : جزاؤه في الدنيا منها وثوابه
فيها ، وهو ما يصيبُ من المغنم إذا شَهِد مع النبي مشهدًا ، (3) وأمنُه على نفسه
وذريته وماله ، وما أشبه ذلك. وأما ثوابه في الآخرة ، فنارُ جهنم.
* * *
فمعنى الآية : من كان من العاملين في الدنيا من المنافقين يريد بعمله ثوابَ الدنيا
وجزاءَها من عمله ، فإن الله مجازيه به جزاءَه في الدنيا من الدنيا ، (4) وجزاءه
في الآخرة من الآخرة من العقاب والنكال. وذلك أن الله قادر على ذلك كله ، وهو مالك
جميعه ، كما قال في الآية الأخرى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا
يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ
وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [سورة هود : 15
- 16] .
* * *
وإنما عنى بذلك جل ثناؤه : الذين تَتَيَّعُوا في أمر بني أبيرق ، (5) والذين وصفهم
في قوله : ( وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا
يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ) [سورة النساء : 107 ، 108] ، ومن كان من نظرائهم في
أفعالهم ونفاقهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " ثواب " فيما سلف 2 : 458 / 7 : 262 ، 304 ، 490.
(2) في المطبوعة : " بإظهار " بغير هاء ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " وثوابه فيها هو ... " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) قوله : " مجازيه به " ، كان في المخطوطة : " مجازيه بها "
، وفي المطبوعة ، حذف " بها " ، والصواب ما أثبت.
(5) في المطبوعة : " الذين سعوا في أمر بني أبيرق " ، وفي المخطوطة ،
كما كتبتها غير منقوطة. يقال : " تتيع فلان في الأمر وتتايع " : إذا
أسرع إليه وتهافت فيه من غير فكر ولا روية. ولا يكون ذلك إلا في الشر ، لا يقال في
الخير. والذي في المطبوعة صواب في المعنى والسياق والخبر ، ولكني تبعت رسم
المخطوطة ، فهو موافق أيضًا لسياق قصتهم.
(9/300)
وقوله : " وكان الله سميعًا
بصيرًا " ، يعني : وكان الله سميعًا لما يقول هؤلاء المنافقون الذين يريدون
ثواب الدنيا بأعمالهم ، وإظهارهم للمؤمنين ما يظهرون لهم إذا لَقُوا المؤمنين ،
وقولهم لهم : " آمنًا " (1) " بصيرًا " ، يعني : وكان ذا بصر
بهم وبما هم عليه منطوون للمؤمنين ، (2) فيما يكتمونه ولا يبدونه لهم من الغش
والغِلّ الذي في صدورهم لهم. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " سميع " فيما سلف 6 : 363 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " بصير " فيما سلف 6 : 283 ، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة ، حذف " لهم " من آخر هذه الجملة.
(9/301)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ
عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا }
وهذا تقدُّم من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله (1) أن يفعلوا فعل
الذين سَعَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بني أبيرقٍ أن يقوم بالعذر
لهم في أصحابه ، وذَبَّهم عنهم ، وتحسينَهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر. يقول الله
لهم : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط " ، يقول : ليكن من
أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط (2) يعني : بالعدل " شهداء لله " .
* * *
و " الشهداء " جمع " شهيد " . (3)
* * *
__________
(1) يقال : " تقدم إليه في كذا " أي أمره بأمر أو نهي ، وأراد هنا معنى
النهي.
(2) انظر تفسير " القسط " فيما سلف 6 : 77 ، 270 / 7 : 541.
(3) انظر تفسير " شهيد " و " شهداء " فيما سلف من فهارس
اللغة.
(9/301)
ونصبت " الشهداء " على القطع
مما في قوله : " قوامين " من ذكر " الذين آمنوا " ، (1)
ومعناه : قوموا بالقسط لله عند شهادتكم أو : حين شهادتكم.
" ولو على أنفسكم " ، يقول : ولو كانت شهادتكم على أنفسكم ، أو على
والدين لكم أو أقربيكم ، (2) فقوموا فيها بالقسط والعدل ، وأقيموها على صحّتها بأن
تقولوا فيها الحق ، ولا تميلوا فيها لغنيٍّ لغناه على فقير ، ولا لفقير لفقره على
غنيّ ، فتجوروا. فإن الله الذي سوَّى بين حكم الغنيّ والفقير فيما ألزمكم ، أيها
الناس ، من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل " أولى بهما " ، وأحق
منكم ، (3) لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم ، فهو أعلم بما فيه مصلحة كلّ واحد
منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم ، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في
الشهادة لهما وعليهما " فلا تتبعوا الهوى أن تَعْدِلوا " ، يقول : فلا
تتبعوا أهواءَ أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها - لغني على فقير ، أو
لفقير على غني - إلا أحد الفريقين ، فتقولوا غير الحق ، ولكن قوموا فيه بالقسط ،
وأدُّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها ، بالعدل لمن شهدتم له وعليه.
* * *
فإن قال قائل : وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهدُ بالقسط ؟ وهل يشهد الشاهد على
نفسه ؟ (4)
قيل : نعم ، وذلك أن يكون عليه حق لغيره فيقرّ له به ، فذلك قيام منه له بالشهادة
على نفسه.
* * *
قال أبو جعفر : وهذه الآية عندي تأديبٌ من الله جل ثناؤه عبادَه المؤمنين أن
يفعلوا ما فعله الذين عذَروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا ، وخيانتهم ما خانوا
__________
(1) " القطع " ، باب من الحال ، انظر ما سلف في فهارس المصطلحات.
(2) في المطبوعة : " أو على والديكم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر تفسير " أولى " فيما سلف 6 : 497.
(4) في المطبوعة : " وهل يشهد الشاهد " ، وفي المخطوطة : " وبما
يشهد " .
وأرجح أن ما في المطبوعة هو الصواب ، لقوله في جوابه " نعم " ، وكدت
أقرؤها : " وبم يشهد الشاهد " ، لولا أن جواب أبي جعفر دل على غير ذلك.
(9/302)
ممن ذكرنا قبل (1) عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وشهادتهم لهم عنده بالصلاح. فقال لهم : إذا قمتم بالشهادة لإنسان
أو عليه ، فقولوا فيها بالعدل ، (2) ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم
وأقربائكم ، ولا يحملنكم غِنَى من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورَحِمُه منكم ، (3)
على الشهادة له بالزور ، ولا على ترك الشهادة عليه بالحق وكتمانها.
* * *
وقد قيل إنها نزلت تأديبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك :
10678 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي في قوله : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله "
، قال : نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم ، واختصم إليه رجلان : غنيٌّ وفقير ،
وكان ضِلَعه مع الفقير ، يرى أن الفقير لا يظلم الغنيَّ ، فأبى الله إلا أن يقوم
بالقسط في الغني والفقير فقال : " إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما
فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " ، الآية.
* * *
وقال آخرون : في ذلك نحو قولنا : إنها نزلت في الشهادة ، أمرًا من الله المؤمنين
أن يسوُّوا - في قيامهم بشهاداتهم - لمن قاموا بها ، (4) بين الغني والفقير.
__________
(1) في المطبوعة : " وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول الله ...
" ، وهو كلام فاسد ، غير ما في المخطوطة ، وهو كما أثبت ، إلا أنه كتب "
من ذكرنا قبل " ووضع فتحة على الميم من " من " ، وهو خطأ في نسخ
الناسخ ونقله ، إنما هذه الفتحة ميم أخرى في " ممن " أساء قراءتها ،
فأساء نقلها. وقد مضى مثل هذا في مثل هذا الحرف ، مرارًا فيما سلف ونبهت إليه.
(2) في المطبوعة : " فقوموا فيها بالعدل " ، والذي في المخطوطة صواب
محض.
(3) في المطبوعة " فلا يحملنكم " ، والجيد ما أثبت من المخطوطة.
(4) في المطبوعة : " لمن قاموا له بها " زاد " له " ، وهي مفسدة
للكلام ، غمض عليه السياق. وإنما سياق الكلام : أمرًا من الله المؤمنين ... لمن
قاموا بها " أي : لمن قام من المؤمنين بالشهادة ، وذكرها معترضة في كلام آخر
، وهو قوله : " في قيامهم بشهاداتهم " .
(9/303)
*ذكر من قال ذلك :
10679 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس قوله : " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو
الوالدين والأقربين " ، قال : أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحقَّ ولو على
أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم ، ولا يحابوا غنيًّا لغناه ، ولا يرحموا مسكينًا
لمسكنته ، وذلك قوله : " إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا
الهوى أن تعدلوا " ، فتذروا الحق ، فتجوروا.
10680 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن يونس
، عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة قال : كان ذلك فيما مضى من
السُّنة في سلف المسلمين ، وكانوا يتأولون في ذلك قول الله : " يا أيها الذين
آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن
غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما " الآية ، فلم يكن يُتَّهَمُ سلفُ المسلمين
الصالحُ في شهادة الوالد لولده ، ولا الولد لوالده ، ولا الأخ لأخيه ، ولا الرجل
لامرأته ، ثم دَخِلَ الناسُ بعد ذلك ، (1) فظهرت منهم أمور حملت الولاةَ على
اتهامهم ، فتركت شهادةُ من يتهم ، إذا كانت من أقربائهم. وصار ذلك من الولد
والوالد ، والأخ والزوج والمرأة ، لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان. (2)
10681 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " يا
أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " إلى آخر الآية ، قال : لا
يحملك فقرُ هذا على أن ترحَمه فلا تقيم عليه الشهادة. قال : يقول هذا للشاهد.
__________
(1) " دخل " على وزن " فرح " ، يقالك : " دخل أمره دخلا
(بفتحتين) " : أي فسد ، و " الدخل " (بفتحتين) : الغش والفساد. و
" فلان مدخول الإسلام " ، إذا كان فيه غش وفساد ، وهو النفاق.
(2) فليت شعري ما كان يقول ابن شهاب لو أدرك زماننا الذي نحن فيه!! نسأل السلامة ،
ونستهديه في القيام بما أمرنا به في كتابه.
(9/304)
10682 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا
يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يا أيها الذين آمنوا كونوا
قوامين بالقسط شهداء لله " الآية ، هذا في الشهادة. فأقم الشهادة ، يا ابن
آدم ، ولو على نفسك ، أو الوالدين ، أو على ذوي قرابتك ، أو شَرَفِ قومك. (1)
فإنما الشهادة لله وليست للناس ، وإن الله رضي العدل لنفسه ، والإقساط والعدل
ميزانُ الله في الأرض ، به يردُّ الله من الشديد على الضعيف ، ومن الكاذب على
الصادق ، ومن المبطل على المحق. وبالعدل يصدِّق الصادقَ ، ويكذِّب الكاذبَ ،
ويردُّ المعتدي ويُرَنِّخُه ، (2) تعالى ربنا وتبارك. وبالعدل يصلح الناس ، يا ابن
آدم " إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما " ، يقول : أولى بغنيكم
وفقيركم. قال : وذكر لنا أن نبيَّ الله موسى عليه السلام قال : " يا ربِّ ،
أي شيء وضعت في الأرض أقلّ ؟ " ، قال : " العدلُ أقلُّ ما وضعت في الأرض
" . فلا يمنعك غِنى غنيّ ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم ، فإن ذلك عليك
من الحق ، وقال جل ثناؤه : " فالله أولى بهما " .
* * *
وقد قيل : " إن يكن غنيًّا أو فقيرًا " ، الآية ، أريد : فالله أولى
بغنى الغني وفقر الفقير. لأن ذلك منه لا من غيره ، فلذلك قال : " بهما "
، ولم يقل " به " .
* * *
وقال آخرون : إنما قيل : " بهما " ، لأنه قال : " إن يكن غنيًّا أو
فقيرًا " ، فلم يقصد فقيرًا بعينه ولا غنيًّا بعينه ، وهو مجهول. وإذا كان
مجهولا جاز الردُّ منه بالتوحيد والتثنية والجمع. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " أو أشراف قومك " ، كأنه ظن " شرفًا " خطأ
، وهو محض صواب ، يجمع " شريف " على " أشراف " و " شرفاء
" و " شرف " (بفتح الشين والراء). كما قالوا : " رجل كريم
" و " قوم كرم " . ولو قيل : وهو وصف بالمصدر مثل " عدل
" لكان صوابًا.
(2) في المطبوعة : " ويوبخه " والتوبيخ لا معنى له هنا. وفي المخطوطة
غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت. يقال : " رنخ الرجل " : ذلَّله. ولو
قرئت " يريخه " بالياء لكان صوابًا ، يقال : " ضربوا فلانًا حتى
ريخوه " ، أي أوهنوه وأذلوه. هذا وقتادة السدوسي ، كان يكثر في كلامه غريب
اللغة.
(3) في المطبوعة : " الرد عليه بالتوحيد ... " ، والذي أثبت من المخطوطة
هو محض الصواب.
(9/305)
وذكر قائلو هذا القول ، أنه في قراءة
أبيّ : ( فالله أولى بهم ) .
* * *
وقال آخرون : " أو " بمعنى " الواو " في هذا الموضع. (1)
* * *
وقال آخرون : جاز تثنية قوله : " بهما " ، لأنهما قد ذكرا ، كما قيل.
( وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) [سورة النساء : 12].
* * *
وقيل : جاز ، لأنه أضمر فيه " مَن " ، كأنه قيل : إن يكن مَن خاصم
غنيًّا أو فقيرًا بمعنى : غنيين أو فقيرين " فالله أولى بهما " .
* * *
وتأويل قوله : " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " ، أي : عن الحق ، فتجوزوا
بترك إقامة الشهادة بالحق. ولو وُجِّه إلى أن معناه : فلا تتَّبعوا أهواء أنفسكم
هربًا من أن تعدلوا عن الحق في إقامة الشهادة بالقسط ، لكان وجهًا. (2)
* * *
وقد قيل : معنى ذلك : فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا كما يقال : " لا تتبع هواك
لترضيَ ربك " ، بمعنى : أنهاك عنه ، كما ترضي ربّك بتركه. (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : عنى : " وإن تلووا " ، أيها الحكام ، في الحكم لأحد
الخصمين
__________
(1) انظر " أو " بمعنى " الواو " فيما سلف 1 : 336 ، 337 / 2
: 237.
(2) في المطبوعة : " كان وجها " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 291.
(9/306)
على الآخر " أو تعرضوا فإن الله
كان بما تعملون خبيرًا " .
ووجهوا معنى الآية إلى أنها نزلت في الحكام ، على نحو القول الذي ذكرنا عن السدِّي
من قوله : إن الآية نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا قبل. (1)
*ذكر من قال ذلك :
10683 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن
أبيه ، عن ابن عباس في قول الله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، قال : هما
الرجلان يجلسان بين يدي القاضي ، فيكون لَيُّ القاضي وإعراضُه لأحدهما على الآخر.
(2)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وإن تلووا ، أيها الشهداء ، في شهاداتكم فتحرِّفوها ولا
تقيموها أو تعرضوا عنها فتتركوها.
*ذكر من قال ذلك :
10684 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، يقول : إن
تلووا بألسنتكم بالشهادة ، أو تعرضوا عنها.
10685 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء
لله " إلى قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، يقول : تلوي
__________
(1) هو الأثر السالف رقم : 10678.
(2) الأثر : 10683 - " قابوس بن أبي ظبيان الجنبي " ، روى عن أبيه
" حصين بن جندب " وآخرين. قال ابن معين : " ثقة ، ضعيف الحديث
" . وقال ابن حبان : " ينفرد عن أبيه بما لا أصل له ، فربما رفع المرسل
، وأسند الموقوف. وأبوه ثقة " . وانظر ما سلف رقم : 9745.
وأبوه : " أبو ظبيان " ، هو : " حصين بن جندب " . روى عن عمر
، وعلي ، وابن مسعود. ثقة ، انظر ما سلف رقم : 9745.
(9/307)
لسانك بغير الحق ، وهي اللَّجلجة ، فلا
تقيم الشهادة على وجهها. و " الإعراض " ، الترك.
10686 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإن تلووا " ، أي تبدّلوا الشهادة "
أو تعرضوا " ، قال : تكتموها.
10687 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " وإن تلووا " ، قال : بتبديل الشهادة ، و " الإعراض
" كتمانها.
10688 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
: " وإن تلووا أو تعرضوا " ، قال : إن تحرفوا أو تتركوا.
10689 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإن
تلووا أو تعرضوا " ، قال : تلجلجوا ، أو تكتموا. وهذا في الشهادة.
10690 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، أما " تلووا " ، فتلوي
للشهادة فتحرفها حتى لا تقيمها وأما " تعرضوا " فتعرض عنها فتكتمها ،
وتقول : ليس عندي شهادة!
10691 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " وإن تلووا
" ، فتكتموا الشهادة ، يلوى ببعض منها (1) أو يُعرض عنها فيكتمها ، فيأبى أن
يَشهد عليه ، يقول : أكتم عنه لأنه مسكين أرحَمُه! فيقول : لا أقيم الشهادة عليه.
ويقول : هذا غنيٌّ أبقّيه وأرجو ما قِبَله ، فلا أشهد عليه! فذلك قوله : " إن
يكن غنيًّا أو فقيرًا " .
__________
(1) في المطبوعة : " تلوى تنقص منها " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو
صواب جيد. من قولهم : " لوى عنه الخبر " ، إذا طواه ، أو أخبره به على
غير وجهه.
وكان سياق الكلام في المطبوعة بالتاء على معنى الخطاب ، " تلوى " "
تعرض " الخ ، فأثبت ما هو في المخطوطة منقوطًا كذلك.
(9/308)
10692 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا
عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن تلووا
" ، تحرّفوا " أو تعرضوا " ، تتركوا. (1)
10693 - حدثنا محمد بن عمارة قال ، حدثنا حسن بن عطية قال ، حدثنا فضيل بن مرزوق ،
عن عطية في قوله : " وإن تلووا " ، قال : إن تلجلجوا في الشهادة
فتفسدوها " أو تعرضوا " ، قال : تتركوها. (2)
10694 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن
الضحاك في قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، قال : إن تلووا في الشهادة
، أن لا تقيمها على وجهها (3) " أو تعرضوا " ، قال : تكتموا الشهادة.
10695 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال ،
حدثنا شيبان ، عن قتادة : أنه كان يقول : " وإن تلووا أو تعرضوا " ،
يعني : تلجلجوا " أو تعرضوا " ، قال : تدعها فلا تشهد.
10696 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، أما "
تلووا " ، فهو أن يلوي الرجل لسانَه بغير الحق. يعني : في الشهادة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، تأويلُ من تأوله ، أنه لَيُّ
الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه ، وذلك تحريفه إياها بلسانه ، (4) وتركه إقامتها
، ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له ، وعمن شهد عليه. (5)
__________
(1) في المخطوطة : " تحرفوا أو تحرفوا " مكررة ، لا أظنه تحريفًا.
(2) في المطبوعة : " فتتركوها " ، والجيد ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " أن لا تقيموها " بالجمع ، والذي في المخطوطة حسن
جيد.
(4) في المطبوعة : " لسانه " بغير باء ، والصواب من المخطوطة.
(5) انظر تفسير " اللي " فيما سلف 6 : 535 - 537 / 8 : 435.
(9/309)
وأما إعراضه عنها ، فإنه تركه أداءَها
والقيام بها ، فلا يشهد بها. (1)
وإنما قلنا : هذا التأويل أولى بالصواب ، لأن الله جل ثناؤه قال : " كونوا
قوامين بالقسط شهداء الله " ، فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء. وأظهر معاني
" الشهداء " ، ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " وإن تلووا " .
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار سوى الكوفة : ( وَإِنْ تَلْوُوا ) بواوين ، من :
" لواني الرجل حقي ، والقوم يلوونني دَيْني " وذلك إذا مطلوه "
ليًّا " .
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة : ( وإن تلوا ) بواو واحدة.
* * *
ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان :
أحدهما : أن يكون قارئها أراد همز " الواو " لانضمامها ، ثم أسقط الهمز
، فصار إعراب الهمز في اللام إذْ أسقطه ، وبقيت واو واحدة. كأنه أراد : "
تَلْؤُوا " ثم حذف الهمز. وإذا عني هذا الوجه ، كان معناه معنى من قرأ :
" وإن تلووا " ، بواوين ، غير أنه خالف المعروف من كلام العرب. وذلك أن
" الواو " الثانية من قوله : " تلووا " واو جمع ، وهي علم
لمعنى ، فلا يصح همزها ، ثم حذفها بعد همزها ، فيبطل علَم المعنى الذي له أدخلت
" الواو " المحذوفة. (2)
والوجه الآخر : أن يكون قارئها كذلك ، أراد : أن " تلوا " من "
الولاية " ، فيكون معناه : وأن تلوا أمور الناس وتتركوا. وهذا معنى إذا وجّه
القارئ قراءته على ما وصفنا ، إليه خارج عن معاني أهل التأويل ، وما وجّه إليه
أصحاب رسول الله صلى
__________
(1) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف ص : 268 ، تعليق : 4 ، والمراجع
هناك.
(2) هذا موضع وهم غريب من مثل أبي جعفر ، فإن الهمز في " تلؤوا " على
واو الفعل ، وهي عين الفعل " لوى " ، والحذف بعد طرح الهمزة ، واقع بواو
الفعل لا بواو الجماعة ، وهي أصل ، لم تدخل لمعنى. فكيف أخطأ أبو جعفر فظنها واو
الجماعة!! وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 291.
(9/310)
الله عليه وسلم والتابعون ، تأويلَ
الآية.
* * *
قال أبو جعفر : فإذْ كان فساد ذلك واضحًا من كلا وجهيه ، فالصواب من القراءة الذي
لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا : ( وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ) ، بمعنى :
" اللي " الذي هو مطل.
* * *
فيكون تأويل الكلام : وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيامُ له
بها ، فتغيروها وتبدلوا ، أو تعرضوا عنها فتتركوا القيام له بها ، كما يلوي الرجل
دينَ الرجل فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلا منه له ، (1) كما قال
الأعشى :
يَلْوِينَني دَيْنِي النَّهارَ ، وأَقْتَضِي... دَيْنِي إذَا وَقَذَ النُّعَاسُ
الرُّقَّدَا (2)
* * *
وأما تأويل قوله : " فإن الله كان بما تعملون خبيرًا " ، فإنه أراد :
" فإن الله كان بما تعملون " ، من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها ،
وإعراضكم عنها
__________
(1) انظر مراجع تفسير " اللي " فيما سلف ص : 309 ، تعليق : 5 وفي
المطبوعة " على ما أوجب عليه " ، والصواب من المخطوطة.
(2) ديوانه : 151 ، واللسان (لوى) و(وقذ) ، من أبيات ، جياد أولها فيما قبله :
وَأَرَى الغَوَانِي حِينَ شِبْتُ هَجَرْنَنِي ... أَنْ لا أَكُونَ لَهُنّ مِثْلِيَ
أَمْرَدَا
إنَّ الغَوَانِي لا يُوَاصِلْنَ امْرَءًا ... فَقَدَ الشَّبَابَ ، وَقَدْ يَصِلْنَ
الأَمْرَدَا
بَلْ لَيْتَ شِعْرِي! هَلْ أَعُودَنْ نَاشِئًا ... مِثْلِي زُمَيْنَ أَحُلُّ
بُرْقَةَ أَنْقَدَا
إذْ لِمَّتِي سَوْدَاءُ أَتْبَعُ ظِلَّهَا ... دَدَنًا قُعُودَ غَوَايَةٍ أَجْرِي
دَدَا
يَلْوِينَنِي دَيْنِي ............... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هذا ، ورواية الديوان : " وأجتزى ديني " ، يقال : " اجتزى دينه
" أي : تقاضاه ، ومثله " تجازى دينه " . و " وقذه " :
ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت. و " وقذه النعاس " مجاز منه ، أي
صاروا كأنهم سكارى قد استرخوا وهمدوا من النعاس.
(9/311)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
بكتمانكموها " خبيرًا " ،
يعني ذا خبرة وعلم به ، يحفظ ذلك منكم عليكم ، حتى يجازيكم به جزاءكم في الآخرة ،
المحسنَ منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته. يقول : فاتقوا ربكم في ذلك. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي
أَنزلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (136) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " يا أيها الذين آمنوا " ، بمن قبل
محمد من الأنبياء والرسل ، وصدَّقوا بما جاؤوهم به من عند الله " آمِنوا
بالله ورسوله " ، يقول : صدّقوا بالله وبمحمد رسوله ، أنه لله رسولٌ ، مرسل
إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم " والكتاب الذي نزل على رسوله " ، يقول :
وصدّقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نزله الله عليه ، وذلك القرآن "
والكتاب الذي أنزل من قبل " ، يقول : وآمنوا بالكتاب الذي أنزل الله من قبل
الكتاب الذي نزله على محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو التوراة والإنجيل.
* * *
فإن قال قائل : وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكتبه ، وقد سماهم
" مؤمنين " ؟
قيل : إنه جل ثناؤه لم يسمِّهم " مؤمنين " ، وإنما وصفهم بأنهم "
آمنوا " ، وذلك وصف لهم بخصوصٍ من التصديق. وذلك أنهم كانوا صنفين : أهل
توراة مصدّقين
__________
(1) انظر تفسير " الخبير " فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/312)
بها وبمن جاء بها ، وهم مكذبون
بالإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما وصنف أهل إنجيل ، وهم مصدّقون به
وبالتوراة وسائر الكتب ، مكذِّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان ، فقال جل
ثناؤه لهم : " يا أيها الذين آمنوا " ، يعني : بما هم به مؤمنون من الكتب
والرسل " آمنوا بالله ورسوله " محمد صلى الله عليه وسلم " والكتاب
الذي نزل على رسوله " ، فإنكم قد علمتم أن محمدًا رسول الله ، تجدون صفته في
كتبكم وبالكتاب الذي أنزل من قبلُ الذي تزعمون أنكم به مؤمنون ، فإنكم لن تكونوا
به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذبون ، لأن كتابكم يأمركم بالتصديق به وبما جاءكم به ،
فآمنوا بكتابكم في اتّباعكم محمدًا ، وإلا فأنتم به كافرون. فهذا وجه أمرهم
بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به ، بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله : " يا أيها
الذين آمنوا " . (1)
* * *
وأما قوله : " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر " ،
فإن معناه : ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوّته فقد ضلَّ ضلالا
بعيدًا.
وإنما قال تعالى ذكره : " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
" ، ومعناه : ومن يكفر بمحمد وبما جاء به من عند الله (2) لأن جحود شيء من
__________
(1) كان ينبغي أن يذكر أبو جعفر هنا ، اختلاف المختلفين في قراءة " أَنْزَلَ
" و " أُنْزِلَ " و " نَزَّلّ " و " نُزِّلَ "
، وظاهر أنه نسي أن يذكرها هنا ، فأخرها إلى موضع الآتي في ص : 323 ، تعليق : 1.
(2) كان في المطبوعة : " ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوته ،
فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، لأن جحود شيء من ذلك ...
" ، أسقط من نص المخطوطة ما أثبت ، لأنه قد وقع في المخطوطة خطأ اضطرب معه
الكلام ، فلم يحسن الناشر تصحيحه ، فحذف حتى يصل بعض الكلام ببعض ، فأساء غاية
الإساءة.
والخطأ الذي كان في المخطوطة هو أنه ساق الجملة كما كتبتها ، إلا أن كتب : "
وإنما قال تعالى ذكره : ومن يكفر بالله فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله
" وبين أن " فهو يكفر " سبق قلم من الناسخ ، والصواب إسقاطها
فيستقيم الكلام كما أثبته.
وسياق الجملة : " وإنما قال تعالى ذكره كذا وكذا ... ومعناه ... كذا وكذا ،
لأن جحود شيء من ذلك بمعنى جحود جميعه " .
(9/313)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
ذلك بمعنى جحود جميعه ، ولأنه لا يصح
إيمان أحدٍ من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به ، (1) والكفر بشيء
منه كفر بجميعه ، فلذلك قال : " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر " ، بعقب خطابه أهل الكتاب وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه
وسلم ، تهديدًا منه لهم ، وهم مقرّون بوحدانية الله والملائكة والكتب والرسل
واليوم الآخر ، سِوى محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الفرقان.
* * *
وأما قوله : " فقد ضل ضلالا بعيدًا " ، فإنه يعني : فقد ذهب عن قصد
السبيل ، وجار عن محجَّة الطريق ، إلى المهالك ذهابًا وجورًا بعيدًا. لأن كفر من
كفر بذلك ، خروجٌ منه عن دين الله الذي شرعه لعباده. والخروج عن دين الله ، الهلاك
الذي فيه البوار ، والضلال عن الهدى هو الضلال. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا
ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا (137) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : تأويله : إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا به ، ثم آمنوا يعني :
النصارى بعيسى ثم كفروا به ، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد " لم يكن الله ليغفر لهم
ولا ليهديهم سبيلا " .
__________
(1) لما أدخل الناشر الأول ذلك الحذف على الكلام ، اضطر في هذا الموضع أن يجعل
العبارة : " وذلك لأنه لا يصح إيمان أحد من الخلق ... " فزاد " ذلك
" في الكلام.
(2) انظر تفسير " الضلال البعيد " فيما سلف ص : 206 ، 207 ومعنى "
الضلال " 1 : 195 / 2 : 495 ، 496 ، وغيرهما في فهارس اللغة.
(9/314)
*ذكر من قال ذلك :
10697 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا " ، وهم
اليهود والنصارى. آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت ، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت.
وكفرهم به : تركهم إياه ثم ازدادوا كفرًا بالفرقان وبمحمد صلى الله عليه وسلم.
فقال الله : " لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " ، يقول : لم
يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريق هدًى ، وقد كفروا بكتاب الله وبرسوله محمد
صلى الله عليه وسلم.
10698 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " إن الذين آمنوا ثم كفروا " ، قال : هؤلاء اليهود ،
آمنوا بالتوراة ثم كفروا. ثم ذكر النصارى ، ثم قال : " ثم آمنوا ثم كفروا ثم
ازدادوا كفرًا " ، يقول : آمنوا بالإنجيل ثم كفروا به ، ثم ازدادوا كفرًا
بمحمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون : بل عنى بذلك أهل النفاق ، أنهم آمنوا ثم ارتدوا ، ثم آمنوا ثم ارتدوا
، ثم ازدادوا كفرًا بموتهم على الكفر. (1)
*ذكر من قال ذلك :
10699 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد قوله : " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا
" ، قال : كنا نحسبهم المنافقين ، ويدخل في ذلك من كان مثلهم " ثم
ازدادوا كفرًا " ، قال : تَمُّوا على كفرهم حتى ماتوا. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " على كفرهم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " نموا على كفرهم " بالنون ، والصواب ما أثبت. و
" تم على الشيء " : أقام عليه ولزمه.
(9/315)
10700 - حدثنا محمد بن بشار قال ،
حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ثم
ازدادوا كفرًا " ، قال : ماتوا. (1)
10701 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح
، عن مجاهد في قوله : " ثم ازدادوا كفرًا " ، قال : حتى ماتوا. (2)
10702 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " إن
الذين آمنوا ثم كفروا " الآية ، قال : هؤلاء المنافقون ، آمنوا مرتين ،
وكفروا مرتين ، ثم ازدادوا كفرًا بعد ذلك. (3)
* * *
وقال آخرون : بل هم أهل الكتابين ، التوراة والإنجيل ، أتوا ذنوبا في كفرهم فتابوا
، فلم تقبل منهم التوبة فيها ، مع إقامتهم على كفرهم.
* * *
*ذكر من قال ذلك :
10703 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي
العالية : " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا
" ، قال : هم اليهود والنصارى ، أذنبوا في شركهم ثم تابوا ، فلم تقبل توبتهم.
ولو تابوا من الشرك لقُبِل منهم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، قول من قال عنى بذلك أهل الكتاب
الذين أقروا بحكم التوراة ، ثم كذبوا بخلافهم إياه ، ثم أقرّ من أقرَّ منهم بعيسى
والإنجيل ، ثم كذب به بخلافه إياه ، ثم كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان
فازداد بتكذيبه به كفرا على كفره.
وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب في تأويل هذه الآية ، لأن الآية قبلها في قصص
__________
(1) يعني بقوله : " ماتوا " ، أي : ماتوا عليه ، وهذا من الاختصار في
الحديث.
(2) في المخطوطة : " حين ماتوا " ، أي : حين ماتوا عليه ، وهي صواب
أيضًا.
(3) انظر تفسير " ثم ازدادوا كفرًا " فيما سلف 6 : 579 - 582.
(9/316)
أهل الكتابين أعني قوله : " يا
أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله " ولا دلالة تدلُّ على أن قوله : "
إن الذين آمنوا ثم كفروا " ، منقطع معناه من معنى ما قبله ، فإلحاقه بما قبله
أولى ، حتى تأتي دلالة دالَّة على انقطاعه منه.
* * *
وأما قوله : " لم يكن الله ليغفر لهم " ، فإنه يعني : لم يكن الله
ليسترَ عليهم كفرهم وذنوبهم ، بعفوه عن العقوبة لهم عليه ، ولكنه يفضحهم على رؤوس
الأشهاد " ولا ليهديهم سبيلا " يقول : ولم يكن ليسدِّدهم لإصابة طريق
الحق فيوفقهم لها ، ولكنه يخذلهم عنها ، عقوبة لهم على عظيم جُرمهم ، وجرأتهم على
ربهم.
* * *
وقد ذهب قوم إلى أن المرتد يُستتاب ثلاثًا ، انتزاعًا منهم بهذه الآية ، (1)
وخالفهم على ذلك آخرون.
ذكر من قال : يستتاب ثلاثًا.
10704 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص ، عن أشعث ، عن الشعبي ، عن علي عليه
السلام قال : إن كنتُ لمستتيبَ المرتدّ ثلاثًا. ثم قرأ هذه الآية : " إن
الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا " .
10705 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، عن علي
رضي الله عنه : يستتاب المرتد ثلاثًا. ثم قرأ : " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم
آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا " ، .
10706 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عبد الكريم ، عن رجل ، عن
ابن عمر قال : يستتاب المرتد ثلاثًا.
* * *
وقال آخرون : يستتابُ كلما ارتدّ.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) يقال : " انتزع معنى آية من كتاب الله " ، إذا استنبطه واستخرجه.
(9/317)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
10707 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبي ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عمن سمع إبراهيم قال : يستتاب المرتدّ كلما
ارتدّ.
* * *
قال أبو جعفر : وفي قيام الحجة بأن المرتد يستتاب المرَّة الأولى ، الدليل الواضح
على أن حكم كلِّ مرة ارتدّ فيها عن الإسلام حكمُ المرة الأولى ، في أن توبته مقبولة
، وأن إسلامه حَقَن له دمه. لأن العلة التي حقنت دمه في المرة الأولى إسلامُه ،
فغير جائز أن توجد العلة التي من أجلها كان دمه مَحْقُونًا في الحالة الأولى ، ثم
يكون دمه مباحًا مع وجودها ، إلا أن يفرِّق بين حكم المرة الأولى وسائر المرات
غيرها ، ما يجب التسليم له من أصل محكمٍ ، فيخرج من حكم القياس حينئذ.
* * *
القول في تأويل قوله : { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا (138) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله (1) جل ثناؤه : " بشر المنافقين " ، أخبر
المنافقين.
* * *
وقد بينَّا معنى " التبشير " فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
" بأن لهم عذابًا أليمًا " ، يعني : بأن لهم يوم القيامة من الله على
نفاقهم " عذابًا أليمًا " ، وهو المُوجع ، وذلك عذاب جهنم (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " يعني بذلك " ، والصواب ما أثبت.
(2) انظر ما سلف 1 : 383 / 2 : 393 / 3 : 221 / 6 : 287 ، 369 ، 370 ، 411.
(3) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/318)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) }
قال أبو جعفر : أما قوله جل ثناؤه : " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون
المؤمنين " ، فمن صفة المنافقين. يقول الله لنبيه : يا محمد ، بشر المنافقين
الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني " أولياء " يعني : أنصارًا
وأخِلاء (1) " من دون المؤمنين " ، يعني : من غير المؤمنين (2) "
أيبتغون عندهم العزة " ، يقول : أيطلبون عندهم المنعة والقوة ، (3) باتخاذهم
إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي ؟ " فإن العزة لله جميعًا " ، يقول
: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاءَ العزة عندهم ، هم الأذلاء
الأقِلاء ، فهلا اتخذوا الأولياء من المؤمنين ، فيلتمسوا العزَّة والمنعة والنصرة من
عند الله الذي له العزة والمنعة ، الذي يُعِزّ من يشاء ويذل من يشاء ، فيعزُّهم
ويمنعهم ؟
* * *
وأصل " العزة " ، الشدة. ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة ، " عَزَاز
" . وقيل : " قد استُعِزَّ على المريض " ، (4) إذا اشتدَّ مرضه
وكاد يُشفى. ويقال : " تعزز اللحمُ " ، إذا اشتد. ومنه قيل : " عزّ
عليّ أن يكون كذا وكذا " ، بمعنى : اشتد عليَّ. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الولي " فيما سلف ص : 247 ، تعليق : 5 ، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " من دون " فيما سلف ص : 247 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " الابتغاء " فيما سلف ص : 202 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(4) " استعز " بالبناء للمجهول ، وفي الحديث : " أنه استعز برسول
الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه " ، أي : اشتد به المرض وغلبه
وأشرف على الموت.
وقوله : " وكاد يشفى " ، أي : يشرف على الهلاك ، أشفى يشفى إشفاء.
(5) انظر تفسير " العزة " و " عزيز " فيما سلف 3 : 88 / 4 :
244 / 6 : 168 ، 271 ، 476. هذا ، ولم يفسر أبو جعفر معنى " العزة "
تفسيرًا مطولا إلا في هذا الموضع ، وهذا دليل آخر على طريقته في اختصار تفسيره
هذا.
(9/319)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
القول في تأويل قوله : { وَقَدْ نزلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا
وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " بشر المنافقين " الذين يتخذون
الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، " وقد نزل عليكم في الكتاب " ، يقول
: أخبر من اتخذ من هؤلاء المنافقين الكفار أنصارًا وأولياءَ بعد ما نزل عليهم من
القرآن ، " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى
يخوضوا في حديث غيره " ، يعني : بعد ما علموا نَهْي الله عن مجالسة الكفار
الذين يكفرون بحجج الله وآيِ كتابه ويستهزئون بها " حتى يخوضوا في حديث غيره
" ، يعني بقوله : " يخوضوا " ، يتحدثوا حديثًا غيره " بأن لهم
عذابًا أليمًا " . (1)
وقوله : " إنكم إذًا مثلهم " ، يعني : وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من
يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون ، فأنتم مثله يعني : فأنتم إن لم تقوموا
عنهم في تلك الحال ، مثلُهم في فعلهم ، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم
تسمعون آياتِ الله يكفر بها ويستهزأ بها ، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله. فقد
أتيتم من معصية الله نحو الذي أتَوْه منها ، فأنتم إذًا مثلهم في ركوبكم معصية
الله ، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه.
* * *
__________
(1) أراد أبو جعفر بهذه الفقرة أن يبين أن قوله في الآية الأولى : " بأن لهم
عذابًا أليمًا " ، مقدم ومعناه التأخير ، فلذلك قال في أول الكلام " بشر
المنافقين " ثم استطرد في ذكر الآيتين بعدها ، ثم ختمها بختام الأولى.
(9/320)
وفي هذه الآية ، الدلالة الواضحة على
النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع ، من المبتدعة والفسَقة ، عند خوضهم في
باطلهم.
* * *
وبنحو ذلك كان جماعة من الأئمة الماضين يقولون ، (1) تأوُّلا منهم هذه الآية أنه
مرادٌ بها النهي عن مشاهدة كل باطل عند خوض أهله فيه.
*ذكر من قال ذلك :
10708 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوام بن
حوشب ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبي وائل ، قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة في
المجلس من الكَذب ليُضحك بها جلساءَه ، فيسخط الله عليهم. قال : فذكرت ذلك
لإبراهيم النخعي ، فقال : صدق أبو وائل ، أو ليس ذلك في كتاب الله : " أن إذا
سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره
إنكم إذًا مثلهم " ؟
10709 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن
العلاء بن المنهال ، عن هشام بن عروة قال : أخذ عمر بن عبد العزيز قومًا على شرابٍ
فضربهم ، وفيهم صائم ، فقالوا : إنّ هذا صائم! فتلا " فلا تقعدوا معهم حتى
يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلُهم " .
10710 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ
بها " ، وقوله : ( وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ ) ، [سورة الأنعام : 153] ، وقوله : ( أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) [سورة الشورى : 13] ، ونحو هذا من القرآن. قال : أمر الله
المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف
__________
(1) في المطبوعة : " كان جماعة من الأمة الماضية " ، والصواب من
المخطوطة.
(9/321)
والفرقة ، وأخبرهم : إنما هلك من كان
قبلكم بالمِراء والخصومات في دين الله.
* * *
وقوله : " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا " ، يقول :
إن الله جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار ، فموفِّق بينهم
في عقابه في جهنم وأليم عذابه ، كما اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين
، وتوَازرُوا على التخذيل عن دين الله وعن الذي ارتضاهُ وأمر به وأهلِه. (1)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " وقد نزل عليكم في الكتاب " .
فقرأ ذلك عامة القرأة بضم " النون " وتثقيل " الزاي "
وتشديدها ، على وجْه ما لم يُسَمَّ فاعله.
* * *
وقرأ بعض الكوفيين بفتح " النون " وتشديد " الزاي " ، على
معنى : وقد نزل الله عليكم.
* * *
وقرأ بعض المكيين : ( وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ ) بفتح " النون " ، وتخفيف
" الزاي " ، بمعنى : وقد جاءكم من الله أن إذا سمعتم.
* * *
قال أبو جعفر : وليس في هذه القراءات الثلاث وجه يبعد معناه مما يحتمله الكلام.
غير أن الذي أختارُ القراءة به ، قراءة من قرأ : ( وَقَدْ نُزِّلَ ) بضم "
النون " وتشديد " الزاي " ، على وجه ما لم يسم فاعله. لأن معنى
الكلام فيه التقديم على ما وصفت قبل ، (2) على معنى : " الذين يتخذون
الكافرين أولياء من دون المؤمنين " " وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا
سمعتم آيات الله يكفر بها " إلى قوله : " حديث غيره " "
أيبتغون عندهم العزة " . فقوله : " فإن العزة لله جميعًا " ، يعني
التأخير ،
__________
(1) قوله : " وأهله " مجرور معطوف على قوله " عن دين الله "
والسياق : " عن دين الله ... وعن أهله " .
(2) انظر ما سلف ص : 320 وتعليق : 1.
(9/322)
فلذلك كان ضم " النون " من
قوله : " نزل " أصوب عندنا في هذا الموضع.
* * *
وكذلك اختلفوا في قراءة قوله (1) " والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي
أنزل من قبل " .
فقرأه بفتح( نزلَ ) و( أَنزلَ ) أكثر القرأة ، بمعنى : والكتاب الذي نزل الله على
رسوله ، والكتاب الذي أنزل من قبل.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة البصرة بضمه في الحرفين كليهما ، (2) بمعنى ما لم يسم فاعله.
* * *
وهما متقاربتا المعنى. غير أن الفتح في ذلك أعجبُ إليَّ من الضم ، لأن ذكر الله قد
جرى قبل ذلك في قوله : " آمنوا بالله ورسوله " .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وكذا اختلفوا " ، وأثبت ما في المخطوطة. وذكر هذه
القراءة ، كان ينبغي أن يكون في موضعه عند آخر تفسير الآية ، كما جرى عليه منهجه
في كل ما سلف. وانظر ص : 313 تعليق : 1.
(2) في المطبوعة : " كلاهما " ، والصواب في المخطوطة.
(9/323)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ
نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلا (141) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " الذين يتربصون بكم " ، الذين
ينتظرون ، أيها المؤمنون ، (1) بكم " فإن كان لكم فتح من الله " ، يعني
: فإن فتح الله
__________
(1) انظر تفسير " التربص " فيما سلف 4 : 456 ، 515 / 5 : 79.
(9/323)
عليكم فتحًا من عدوكم ، فأفاء عليكم
فَيْئًا من المغانم " قالوا " لكم " ألم نكن معكمْ " ، نجاهد
عدوّكم ونغزوهم معكم ، فأعطونا نصيبًا من الغنيمة ، فإنا قد شهدنا القتال معكم
" وإن كان للكافرين نصيب " ، يعني : وإن كان لأعدائكم من الكافرين حظّ
منكم ، بإصابتهم منكم (1) " قالوا " ، (2) يعني : قال هؤلاء المنافقون
للكافرين " ألم نستحوذ عليكم " ، ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين
" ونمنعكم " منهم ، بتخذيلنا إياهم ، حتى امتنعوا منكم فانصرفوا "
فالله يحكم بينكم يوم القيامة " ، يعني : فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين
يوم القيامة ، فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل ، (3) بإدخال أهل الإيمان جنّته ، وأهل
النفاق مع أوليائهم من الكفار ناره " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلا " ، يعني : حجة يوم القيامة. (4)
وذلك وعدٌ من الله المؤمنين أنه لن يدخل المنافقين مدخلَهم من الجنة ، ولا
المؤمنين مدخَل المنافقين ، فيكون بذلك للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم
، إن أدخلوا مدخلهم : ها أنتم كنتم في الدنيا أعداءَنا ، وكان المنافقون أولياءنا
، وقد اجتمعتم في النار ، فجمع بينكم وبين أوليائنا! فأين الذين كنتم تزعمون أنكم
تقاتلوننا من أجله في الدنيا ؟ فذلك هو " السبيل " الذي وعد الله
المؤمنين أن لا يجعلها عليهم للكافرين.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10711 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله :
" فإن كان لكم فتح من الله " . قال : المنافقون يتربَّصون بالمسلمين
" فإن كان لكم فتح " ، قال : إن أصاب المسلمون من عدوهم غنيمة
__________
(1) انظر تفسير " نصيب " فيما سلف ص 212 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة وحدها : " وقالوا ألم نكن معكم " ، وهو سهو من الناشر
الأول.
(3) انظر تفسير " الحكم " فيما سلف ص : 175.
(4) انظر تفسير " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/324)
قال المنافقون : " ألم نكن معكم
" ، قد كنا معكم فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون " وإن كان للكافرين نصيب
" ، يصيبونه من المسلمين ، قال المنافقون للكافرين : " ألم نستحوذ عليكم
ونمنعكم من المؤمنين " ، قد كنا نثبِّطهم عنكم.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " ألم نستحوذ عليكم " .
فقال بعضهم : معناه : ألم نغلب عليكم.
*ذكر من قال ذلك :
10712 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي في قوله : " ألم نستحوذ عليكم " ، قال : نغلب عليكم.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ألم نبيِّن لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه.
*ذكر من قال ذلك :
10713 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "
ألم نستحوذ عليكم " ، ألم نبين لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه.
* * *
قال أبو جعفر : وهذان القولان متقاربا المعنى. وذلك أن من تأوله بمعنى : "
ألم نبين لكم " ، إنما أراد - أن شاء الله - : ألم نغلب عليكم بما كان منا من
البيان لكم أنا معكم.
* * *
وأصل " الاستحواذ " في كلام العرب ، فيما بلغنا ، الغلبة ، ومنه قول
الله جل ثناؤه : ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ
اللَّهِ ) ، [سورة المجادلة : 19] ، بمعنى : غلب عليهم. يقال منه : " حاذ
عليه واستحاذ ، يحيذ ويستحيذ ، وأحاذ (1)
__________
(1) قوله : " أحاذ يحيذ " ، لم أجده في معاجم اللغة ، وهو صحيح في
العربية ، وقالوا مكانه : " أحوذ ثوبه " إذا ضمه ، وجاءوا ببيت لبيد
الآتي شاهدا عليه. وانظر ما سيأتي بعد بيت لبيد.
(9/325)
يحيذ " . ومن لغة من قال : "
حاذ " ، قول العجاج في صفة ثور وكلب :
يَحُوذُهُنَّ وَلَهُ حُوذِيّ (1)
وقد أنشد بعضهم :
يَحُوزُهُنَّ وَلَهُ حُوزِيُّ (2)
وهما متقاربا المعنى. ومن لغة من قال " أحاذ " ، قول لبيد في صفة عَيْرٍ
وأتُنٍ : (3)
إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَحْوَذَ جَانِبَيْهَا... وَأَوْرَدَها عَلَى عُوجٍ طِوَالِ
(4)
يعني بقوله : " وأحوذ جانبيها " ، غلبها وقهرَها حتى حاذ كلا جانبيها ،
فلم يشذّ منها شيء.
وكان القياس في قوله : ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ) أن يأتي : "
استحاذ عليهم " ، لأن " الواو " إذا كانت عين الفعل وكانت متحركة
بالفتح وما قبلها ساكن ، جعلت العرب حركتها في " فاء " الفعل قبلها ،
وحوَّلوها " ألفًا " ، متبعة حركة ما قبلها ، كقولهم : " استحال
هذا الشيء عما كان عليه " ، من " حال يحول " و " استنار
__________
(1) ديوانه : 71 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 141 ، واللسان (حوذ) (حوز) ،
ورواية الديوان : يَحُوذُها وَهْوَ لَهَا حُوذِيُّ ... خَوْفَ الخِلاطِ فَهْوَ
أَجْنَبِيُّ
كَمَا يَحُوذُ الفِئَةَ الكَمِيُّ
وفسروا " يحوذها " : يسوقها سوقًا شديدًا ، ومثله " يحوزها "
في الرواية الآتية.
(2) انظر اللسان (حوذ) و(حوز).
(3) " العير " حمار الوحش ، و " الأتن " جمع " أتان
" ، وهي أنثاه.
(4) ديوانه : القصيدة : 17 ، البيت : 39 ، واللسان (حوذ) ، وقوله : " إذا
اجتمعت " يعني إناث حمار الوحش حين دعاها إلى الماء ، فضمها من جانبيها ،
يأتيها من هذا الجانب مرة ، ومن هذا مرة حتى غلبها ولم شتاتها ، و " العوج
الطوال " قوائمه ، وبعد البيت : رَفَعْنَ سُرَادِقًا في يَوْمِ رِيحٍ ...
يُصَفَّقُ بين مَيْلٍ واعْتِدالِ
يعني غبارها ، ارتفع كأنه سرادق تصفقه الريح وتميله مرة هكذا ومرة هكذا ، فهو يميل
ويعتدل.
(9/326)
فلان بنور الله " ، من "
النور " و " استعاذ بالله " من " عاذ يعوذ " . وربما
تركوا ذلك على أصله كما قال لبيد : " وأحوذ " ، ولم يقل " وأحاذ
" ، وبهذه اللغة جاء القرآن في قوله : ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ
) .
* * *
وأما قوله : " فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلا " ، فلا خلاف بينهم في أن معناه : ولن يجعل الله للكافرين
يومئذ على المؤمنين سبيلا.
ذكر الخبر عمن قال ذلك :
10714 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن ذَرّ ، عن يُسَيْع
الحضرمي قال : كنت عند علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال رجل : يا أمير
المؤمنين ، أرأيت قول الله : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا
" ، وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون ؟ قال له عليّ : ادْنُه ، ادْنُهْ! ثم قال
: " فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا
" ، يوم القيامة.
10715 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن
الأعمش ، عن ذَرّ ، عن يسيع الكندي في قوله : " ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلا " ، قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : كيف هذه الآية
: " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ؟ فقال علي : ادْنُهْ
، " فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله " ، يوم القيامة ،
" للكافرين على المؤمنين سبيلا " .
10716 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ،
عن ذر ، عن يُسيع الحضرمي ، عن علي بنحوه.
10717 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا غندر ، عن شعبة قال : سمعت
(9/327)
سليمان يحدّث ، عن ذر ، عن رجل ، عن
عليّ رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية : " ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلا " ، قال : في الآخرة. (1)
10718 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي
مالك : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، يوم القيامة.
* * *
10719 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا
" ، قال : ذاك يوم القيامة.
وأما " السبيل " ، في هذا الموضع ، فالحجة ، (2) كما : -
10720 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي في قوله : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، قال :
حجةً.
* * *
__________
(1) الآثار : 10714 - 10717 - " ذر " (بفتح الذال) هو : " ذر بن
عبد الله المرهبي " ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم : 2918.
و " يسيع بن معدان الحضرمي ، والكندي " ، تابعي ثقة. مضى برقم : 2918.
وكان في المطبوعة هنا : " نسيع " بالنون ، وهو خطأ صرف.
(2) انظر تفسير " السبيل " فيما سلف قريبًا ص : 324 ، تعليق : 4 ،
والمراجع هناك.
(9/328)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
القول في تأويل قوله : { إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى
الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا
قَلِيلا (142) }
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى قبل على معنى " خداع المنافق ربه " ،
ووجه " خداع الله إياهم " ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، مع
اختلاف المختلفين في ذلك. (1)
* * *
فتأويل ذلك : إنّ المنافقين يخادعون الله ، بإحرازهم بنفاقهم دماءهم وأموالهم ،
والله خادعهم بما حكَم فيهم من منع دِمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان ، مع
علمه بباطن ضمائرهم واعتقادهم الكفرَ ، استدراجًا منه لهم في الدنيا ، حتى يلقوه
في الآخرة ، فيوردهم بما استبطنوا من الكفر نارَ جهنم ، كما : -
10721 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " ، قال : يعطيهم يوم
القيامة نورًا يمشون به مع المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا ، ثم يسلبهم ذلك
النور فيطفئه ، فيقومون في ظلمتهم ، ويُضرب بينهم بالسُّور.
10722 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج :
" إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " ، قال : نزلت في عبد الله بن
أبيّ ، وأبي عامر بن النعمان ، (2) وفي المنافقين " يخادعون الله وهو خادعهم
" ، قال : مثل قوله في " البقرة " : ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 272 - 277 ، ثم : 301 - 306 ، تضمينًا.
(2) " أبو عامر بن النعمان " ، هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة ، وأظنه
قد أسقط الناسخ من اسمه ما أنا مثبته ، فإن المذكور مع عبد الله بن أبي بن سلول في
المنافقين هو : " أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن النعمان ، أحد بني ضبيعة بن
زيد ، وهو الذي يقال له " أبو عامر الراهب " ، وهو أبو " حنظلة
الغسيل " يوم أحد. وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، وكان في
قومه من الأوس شريفًا مطاعًا. فلما جاء الله بالإسلام ، أبى إلا الكفر والفراق
لقومه الأوس ، فخرج مفارقًا للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول
الله : " لا تقولوا : الراهب ، ولكن قولوا : الفاسق " . انظر سيرة ابن
هشام 2 : 234 ، 235.
هذا ، ولم أجد أحدًا غيره في المنافقين أو غيرهم يقال له : " أبو عامر بن
النعمان " ، فثبت عندي أن ما قلته هو الصواب.
(9/329)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ
إِلا أَنْفُسَهُمْ ) [سورة البقرة : 9]. (1) قال : وأما قوله : " وهو خادعهم
" ، فيقول : في النور الذي يعطَى المنافقون مع المؤمنين ، فيعطون النور ،
فإذا بلغوا السور سُلب ، وما ذكر الله من قوله (2) ( انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ ) [سورة الحديد : 13]. قال قوله : " وهو خادعهم " .
10723 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحسن
: أنه كان إذا قرأ : " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " ، قال :
يُلقَى على كل مؤمن ومنافق نورٌ يمشونَ به ، حتى إذا انتهوا إلى الصراط طَفِئ نورُ
المنافقين ، ومضى المؤمنون بنورهم ، فينادونهم : ( انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ ) إلى قوله : ( وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ) [سورة الحديد :
13 ، 14]. قال الحسن : (3) فذلك خديعة الله إياهم. (4)
* * *
وأما قوله : " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس " ، فإنه
يعني : أن المنافقين لا يعملون شيئًا من الأعمال التي فرضها الله على المؤمنين على
وجه التقرُّب بها إلى الله ، لأنهم غير موقنين بمعادٍ ولا ثواب ولا عقاب ، وإنما
يعملون ما عملوا
__________
(1) في المطبوعة : " وما يخادعون إلا أنفسهم " ، وهي إحدى قراءتين ،
وأثبت قراءتنا في مصحفنا ، وهي أيضًا القراءة التي أوجب لها الصحة أبو جعفر فيما
سلف 1 : 277.
(2) في المخطوطة : " وما ذكر منه انظرونا نقتبس من نوركم " ، وهو ناقص ،
والذي في المطبوعة مقارب للصواب.
(3) في المطبوعة : " فتلك خديعة الله " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو
صواب.
(4) الأثر : 10723 - " سفيان بن حسين بن الحسن الواسطي " ، مضى برقم :
3471 ، 3879 ، 6462.
(9/330)
من الأعمال الظاهرة إبقاءً على أنفسهم
، (1) وحذارًا من المؤمنين عليها أن يُقتلوا أو يُسلبوا أموالهم. فهم إذا قاموا
إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة ، قاموا كسالى إليها ، رياءً للمؤمنين
ليحسبوهم منهم وليسوا منهم ، لأنهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم ، فهم في
قيامهم إليها كسالى ، (2) كما : -
10724 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى " ، قال : والله لولا الناسُ ما
صَلَّى المنافق ، ولا يصلِّي إلا رياء وسُمْعة.
10725 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وإذا
قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس " ، قال : هم المنافقون ، لولا
الرياء ما صلُّوا.
* * *
وأما قوله : " ولا يذكرون الله إلا قليلا " ، فلعل قائلا أن يقول : وهل
من ذكر الله شيء قليل ؟.
قيل له : إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت : ولا يذكرون الله إلا ذكر رياء ، (3) ليدفعوا
به عن أنفسهم القتل والسباء وسلبَ الأموال ، لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد الله ، مخلص
له الربوبية. فلذلك سماه الله " قليلا " ، لأنه غير مقصود به الله ، ولا
مبتغًي به التقرّب إلى الله ، ولا مرادٌ به ثواب الله وما عنده. فهو ، وإن كثر ،
من وجه نَصَب عامله وذاكره ، (4) في معنى السراب الذي له ظاهرٌ بغير حقيقة ماء.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بقاء على أنفسهم " ، والصواب ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " الرياء " فيما سلف 5 : 521 ، 522 / 8 : 356.
(3) في المطبوعة : " إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت ، وإنما معناه : ولا
يذكرون الله إلا ذكرًا رياء " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فإنه صواب ، وقوله :
" بخلاف ما ذهبت " اعتراض في الكلام ، وضعته بين خطين.
(4) " النصب " (بفتحتين) : التعب.
(9/331)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10726 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن أبي الأشهب قال : قرأ الحسن :
" ولا يذكرون الله إلا قليلا " ، قال : إنما قلَّ لأنه كان لغير الله.
10727 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
ولا يذكرون الله إلا قليلا " ، قال : إنما قلّ ذكر المنافق ، لأن الله لم
يقبله. وكل ما رَدَّ الله قليل ، وكل ما قبلَ الله كثير.
* * *
القول في تأويل قوله : { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا
إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (143) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " مذبذبين " ، مردّدين.
* * *
وأصل " التذبذب " ، التحرك والاضطراب ، كما قال النابغة :
أَلم تَرَ أَنَّ الله أَعْطَاكَ سُورَةً... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا
يَتَذَبْذَبُ (1)
* * *
وإنما عنى الله بذلك : أن المنافقين متحيِّرون في دينهم ، لا يرجعون إلى اعتقاد
شيء على صحة ، فهم لا مع المؤمنين على بصيرة ، ولا مع المشركين على جهالة ، ولكنهم
حيارَى بين ذلك ، فمثلهم المثلُ الذي ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي
: -
__________
(1) مضى البيت وتخريجه وشرحه ، في 1 : 105.
(9/332)
10728 - حدثنا به محمد بن المثنى قال ،
حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : مَثَلُ المنافق كمثل الشَّاة العائرة بين الغنمين ، تَعِير
إلى هذه مرة ، وإلى هذه مرة ، لا تدري أيَّهُما تَتْبع!
10729 - وحدثنا به محمد بن المثنى مرة أخرى ، عن عبد الوهاب ، فَوقفه على ابن عمر
، ولم يرفعه قال ، حدثنا عبد الوهاب مرتين كذلك. (1)
10730 - حدثني عمران بن بكار قال ، حدثنا أبو روح قال ، حدثنا ابن عياش قال ،
حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
مثله. (2)
* * *
__________
(1) الأثران : 10728 ، 10729 - إسناده صحيح.
" عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي " ثقة. مضى مرارًا كثيرة.
" عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم " ثقة ، مضى مرارًا.
وهذا الأثر رواه مسلم 17 : 128 ، من طريق محمد بن المثنى ، عن عبد الوهاب الثقفي ،
بلفظه ، إلا أنه لم يذكر فيه : " لا تدري أيهما تتبع " .
ورواه أيضًا من طريق محمد بن عبد الله بن نمير ، عن أبيه ، عن عبيد الله.
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، عن أبي أسامة ، عن عبد الله.
ورواه أحمد في المسند : 5079 ، من طريق إسحاق بن يوسف ، عن عبيد الله ، مع اختلاف
يسير في لفظه.
ورواه أيضًا في المسند : 5790 ، من طريق محمد بن عبيد ، عن عبيد الله ، بمثل لفظ
أبي جعفر.
ورواه بمعناه في المسند ، الآثار رقم : 472 ، 5359 ، 5546 ، 5610.
واستوفى تخريجه أخي السيد أحمد في شرح المسند ، وزاد في تخريجه الحافظ ابن كثير في
تفسيره 2 : 611 ، فراجعه هناك.
وكان في المطبوعة : " لا تدري أيتهما تتبع " ، وأثبت ما في المخطوطة ،
وهو مطابق لرواية أحمد في المسند.
" الشاة العائرة " : هي المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع. من
قولهم : " عار الفرس والكلب وغيرهما يعير عيارًا " ، ذهب كأنه منفلت من
صاحبه ، فهو يتردد هنا وهنا.
وقوله : " تعير إلى هذه مرة " ، أي : تذهب في ترددها إلى هذه مرة ، وإلى
هذه مرة.
(2) الأثر : 10730 - مكرر الأثرين السالفين. " عمران بن بكار الكلاعي "
شيخ الطبري ، ثقة ، مضى برقم : 2071 ، وروى عنه الطبري في مواضع كثيرة سالفة.
و " أبو روح " هو : " الربيع بن روح الحمصي " ، أبو روح
الحضرمي ثقة. مضى برقم : 8164.
و " ابن عياش " : هو : " إسماعيل بن عياش الحمصي " ، مضى برقم
5445 ، 8164. وكان في المطبوعة والمخطوطة : " ابن عباس " ، وهو خطأ.
وطريق ابن عياش ، عن عبيد الله ، مرفوعًا ، أشار إليها الحافظ ابن كثير في تفسيره
2 : 611.
(9/333)
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل
التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10731 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " ، يقول : ليسوا
بمشركين فيظهروا الشرك ، وليسوا بمؤمنين.
10732 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " مذبذبين
بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " ، يقول : ليسوا بمؤمنين مخلصين ، ولا
مشركين مصرِّحين بالشرك. قال : وذُكر لنا أن نبيّ الله عليه السلام كان يضرب
مَثَلا للمؤمن والمنافق والكافر ، كمثل رَهْط ثلاثة دَفعوا إلى نهر ، فوقع المؤمن
فقَطع ، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر : أن هلم إليَّ ،
فإنيّ أخشى عليك! وناداه المؤمن : أن هلم إليّ ، فإن عندي وعندي! يحصي له ما عنده.
فما زال المنافق يتردَّد بينهما حتى أتى عليه آذيٌّ فغرَّقه. (1) وإن المنافق لم
يزل في شك وشبهة ، حتى أتى عليه الموت وهو كذلك. قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى
الله عليه وسلم كان يقول : مثل المنافق كمثل ثاغِيَة بين غنمين ، (2) رأت غَنمًا
على نَشَزٍ
__________
(1) في المطبوعة : " حتى أتى عليه الماء فغرقه " ، وفي المخطوطة :
" حتى أتى عليه أذى يغرقه " ، وصواب ذلك كله ما أثبت.
" الآذى " : الموج الشديد. وقال ابن شميل : " آذى الماء " ،
الأطباق التي تراها ترفعها من متنه الريح ، دون الموج.
(2) " الثاغية " : الشاة. " ثغت الشاة تثغو ثغاء " : صاحت.
(9/334)
فأتتها فلم تعرف ، (1) ثم رأت غنمًا
على نَشَزٍ فأتتها وشامَّتها فلم تعرف. (2)
10733 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قوله : " مذبذبين " ، قال : المنافقون.
10734 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " ، يقول : لا
إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا إلى هؤلاء اليهود.
10735 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قوله :
" مذبذبين بين ذلك " ، قال : لم يخلصوا الإيمان فيكونوا مع المؤمنين ،
وليسوا مع أهل الشرك.
10736 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
مذبذبين بين ذلك " ، بين الإسلام والكفر " لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء
" .
* * *
وأما قوله : " ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا " ، فإنه يعني : من
يخذُله الله عن طريق الرشاد ، وذلك هو الإسلام الذي دعا الله إليه عباده. يقول :
من يخذله الله عنه فلم يوفقه له " فلن تجد له " ، يا محمد " سبيلا
" ، يعني : طريقًا يسلُكه إلى الحق غيره. وأيّ سبيل يكون له إلى الحق غير
الإسلام ؟ وقد أخبر الله جل ثناؤه : أنه من يبتغ غيره دينًا فلن يُقبل منه ، ومن
أضله الله عنه فقد غَوَى فلا هادي له غيره. (3)
* * *
__________
(1) " النشز " : المتن المرتفع من الأرض أو الوادي ، كأنه رابية.
(2) " شامتها " : دنت إليها وشمتها لتعرف أهي أخواتها أم غيرها. ومنه
قيل " شاممت فلانًا " إذا قاربته ، ابتغاء أن تعرف ما عنده بالاختبار
والكشف. وهو " مفاعلة " من " الشم " .
(3) انظر تفسير : " الضلال " ، و " السبيل " فيما سلف من
فهارس اللغة.
(9/335)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا
مُبِينًا (144) }
قال أبو جعفر : وهذا نهي من الله عبادَه المؤمنين أن يتخلَّقوا بأخلاق المنافقين ،
الذين يتخذون الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين ، فيكونوا مثلهم في ركوب ما نهاهم
عنه من موالاة أعدائه.
يقول لهم جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، لا توالوا الكفَّار
فتؤازروهم من دون أهل ملَّتكم ودينكم من المؤمنين ، فتكونوا كمن أوجبت له النار من
المنافقين. ثم قال جل ثناؤه : متوعدًا من اتخذ منهم الكافرين أولياء من دون
المؤمنين ، إن هو لم يرتدع عن موالاته ، وينزجر عن مُخَالَّته (1) أن يلحقه بأهل
ولايتهم من المنافقين الذين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتبشيرهم بأن لهم عذابًا
أليمًا : " أتريدون " ، أيها المتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين
ممن قد آمن بي وبرسولي " أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا " ، يقول :
حجة ، (2) باتخاذكم الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، فتستوجبوا منه ما استوجبه
أهلُ النفاق الذين وصف لكم صفتهم ، وأخبركم بمحلّهم عنده " مبينًا " ،
(3) يعني : يبين عن صحتها وحقيقتها. (4) يقول : لا تعرَّضوا لغضب الله ، بإيجابكم
الحجة على أنفسكم في تقدمكم على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهلِ الكفر به.
* * *
__________
(1) السياق : " ثم قال جل ثناؤه متوعدًا ... أن يلحقه ... "
(2) انظر تفسير " سلطان " فيما سلف 7 : 279.
(3) انظر تفسير " مبين " فيما سلف ص224 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(4) في المطبوعة : " عن صحتها وحقيتها " ، والصواب من المخطوطة. وكأن
الناشر كان يستنكر أن تكون " الحقيقة " بمعنى أنها حق!! ولكنها صواب بلا
شك ، ومن أجل هذا كان الناشر يضع مكان " حقيقتها " " حقيتها "
في كثير من المواضع ، أشرت إليها فيما سلف من التعليقات. وانظر ما سيأتي ص : 360 ،
تعليق : 4.
(9/336)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10737 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا
لله عليكم سلطانًا مبينًا " ، قال : إن لله السلطان على خلقه ، ولكنه يقول :
عذرًا مبينًا.
10738 - حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة قال ، حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن
عكرمة قال : ما كان في القرآن من " سلطان " ، فهو حجّة.
10739 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قوله : " سلطانًا مبينًا " ، قال : حُجَّة.
10740 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ
النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " إن المنافقين في الدرك الأسفل من
النار " ، إن المنافقين في الطَّبَق الأسفل من أطباق جهنم.
* * *
__________
(1) هذه الآثار في بيان معنى " السلطان " ، هنا ، دالة على أن أبا جعفر
كان يختصر تفسيره ، فإن تفسير " سلطان " بمعنى " حجة " قد سلف
7 : 279 ، فلم يأت كعادته بالأخبار الدالة على تفسيره كذلك هناك.
(9/337)
وكل طبَق من أطباق جهنم : " درك
" . وفيه لغتان ، " دَرَك " ، بفتح " الراء " و "
دَرْك " بتسكينها. فمن فتح " الراء " ، جمعه في القلة "
أدْرَاك " ، وإن شاء جمعه في الكثرة " الدروك " . ومن سكن "
الراء " قال : " ثلاثة أدرُك " ، وللكثير " الدروك " .
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك :
فقرأته عامة قرأة المدينة والبصرة( فِي الدَّرَكِ ) بفتح " الراء " .
* * *
وقرأته عامة قرأة الكوفة بتسكين " الراء " .
قال أبو جعفر : وهما قراءتان معروفتان ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، لاتفاق معنى
ذلك ، واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في قرأة الإسلام. غير أني رأيت أهل العلم
بالعربيّة يذكرون أن فتح " الراء " منه في العرب ، أشهر من تسكينها.
وحكوا سماعًا منهم : " أعطني دَرَكًا أصل به حبلي " ، (1) وذلك إذا سأل
ما يصل به حَبْله الذي قد عجز عن بلوغ الركيَّة. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10741 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن خيثمة
، عن عبد الله : " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " ، قال : في
توابيت من حديد مُبْهَمة عليهم. (3)
10742 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ،
__________
(1) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 142. وعجيب من أبي جعفر أن يستدل بهذا
، ويجعله أشهر في كلام العرب. فإن " الدرك " هنا بمعنى : الحبل ، لأنه
يدرك به قعر البئر ، وهو عن معنى " الدرك " ، وهو الطبق ، بمعزل!!
(2) " الركية " : البئر.
(3) " مبهمة " : مصمتة مغلقة ، لا يهتدي لمكان فتحها ، أو إلى مخرج
منها.
(9/338)
عن سلمة ، عن خيثمة ، عن عبد الله قال
: إن المنافقين في توابيتَ من حديد مقفلةٍ عليهم في النار.
10743 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن ذكوان
، عن أبي هريرة : " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " ، قال : في
توابيت تُرْتَجُ عليهم. (1)
10744 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثنا معاوية بن
صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن المنافقين في الدرك
الأسفل من النار " ، يعني : في أسفل النار.
10745 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ،
قال لي عبد الله بن كثير قوله : " في الدرك الأسفل من النار " ، قال :
سمعنا أن جهنم أدْراك ، منازل. (2)
10746 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن سلمة بن
كهيل ، عن خيثمة ، عن عبد الله : " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار
" ، قال ، توابيت من نار تُطْبَقُ عليهم.
* * *
وأما قوله : " ولن تجد لهم نصيرًا " ، فإنه يعني : ولن تجد لهؤلاء
المنافقين ، يا محمد ، من الله إذا جعلهم في الدرك الأسفل من النار ناصرًا ينصرهم
منه ، فينقذهم من عذابه ، ويدفع عنهم أليمَ عقابه. (3)
* * *
__________
(1) " أرتج الباب يرتجه " : أغلقه إغلاقًا وثيقًا.
(2) قوله : " منازل " تفسير " أدراك " جمع " درك "
.
(3) انظر تفسير " نصير " فيما سلف ص : 247 ، تعليق : 6 ، والمراجع هناك.
(9/339)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
القول في تأويل قوله : { إِلا
الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ
لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْرًا عَظِيمًا (146) }
قال أبو جعفر : وهذا استثناء من الله جل ثناؤه ، استثنى التائبين من نفاقهم إذا
أصلحوا ، وأخلصوا الدين لله وحده ، وتبرءوا من الآلهة والأنداد ، وصدَّقوا رسوله ،
أن يكونوا مع المصرِّين على نِفاقهم حتى تُوافيهم مناياهم - في الآخرة ، (1) وأن
يدخلوا مدَاخلهم من جهنم. بل وعدهم جل ثناؤه أن يُحلَّهم مع المؤمنين محلَّ
الكرامة ، ويسكنهم معهم مساكنهم في الجنة. (2) ووعدهم من الجزاء على توبتهم
الجزيلَ من العطاء فقال : " وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا " .
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية : " إلا الذين تابوا " ، أي : راجعوا الحق
، (3) وآبوا إلا الإقرار بوحدانية الله وتصديق رسوله وما جاء به من عند ربه من
نفاقهم (4) " وأصلحوا " ، يعني : وأصلحوا أعمالهم ، فعملوا بما أمرهم
الله به ، وأدَّوا فرائضه ، وانتهوا عما نهاهم عنه ، وانزجروا عن معاصيه (5)
" واعتصموا بالله " ، يقول : وتمسَّكوا بعهد الله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " حتى يوفيهم مناياهم " ، وهو كلام بلا
معنى. " وافته منيته " : أتته وأدركته وبلغته ، وسياق هذه الجملة :
" أن يكونوا مع المصرين ... في الآخرة " .
(2) في المطبوعة : " يسكنهم " بغير واو ، وهو سهو من ناسخ أو طابع.
(3) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف 1 : 547 / 2 : 72 ، 73 ، وغيرها من
المواضع في فهارس اللغة.
(4) في المطبوعة : " وأبو إلا الإقرار " ، وهو لا شيء ، وإنما الصواب ما
أثبت من المخطوطة. " آبوا " : رجعوا.
(5) انظر تفسير " الإصلاح " فيما سلف 8 : 88 ، وما سلف من فهارس اللغة.
(9/340)
وقد دللنا فيما مضى قبل على أن "
الاعتصام " التمسك والتعلق. (1) فالاعتصام بالله : التمسك بعهده وميثاقه الذي
عهد في كتابه إلى خلقه ، من طاعته وترك معصيته.
* * *
" وأخلصوا دينهم لله " ، يقول : وأخلصوا طاعتَهم وأعمالهم التي يعملونها
لله ، فأرادوه بها ، ولم يعملوها رئاءَ الناس ، ولا على شك منهم في دينهم ،
وامتراءٍ منهم في أن الله محصٍ عليهم ما عملوا ، فمجازي المحسن بإحسانه ، (2)
والمسيء بإساءته ولكنهم عملوها على يقين منهم في ثواب المحسن على إحسانه ، وجزاء
المسيء على إساءته ، أو يتفضَّل عليه ربه فيعفو متقرِّبين بها إلى الله ، مريدين
بها وجه الله. فذلك معنى : " إخلاصهم لله دينهم " .
ثم قال جل ثناؤه : " فأولئك مع المؤمنين " ، يقول : فهؤلاء الذين وصف
صفتَهم من المنافقين بعد توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله وإخلاصهم دينهم أي : مع
المؤمنين في الجنة ، (3) لا مع المنافقين الذين ماتوا على نفاقهم ، الذين أوعدهم
الدَرَك الأسفل من النار.
ثم قال : " وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا " ، يقول : وسوف يُعطي
الله هؤلاء الذين هذه صفتهم ، (4) على توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله وإخلاصهم
دينهم له ، وعلى إيمانهم ، (5) ثوابًا عظيمًا (6) وذلك : درجات في الجنة ، كما
أعطى الذين ماتوا على النِّفاق منازل في النار ، وهي السفلى منها. لأن الله جل
ثناؤه وعد عباده المؤمنين أن يؤتيهم على إيمانهم ذلك ، كما أوعد المنافقين على
نفاقهم
__________
(1) انظر تفسير " الاعتصام " فيما سلف 8 : 62 ، 63 ، 70.
(2) في المطبوعة : " فيجازي " وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " وإخلاصهم له مع المؤمنين.. " ، وأثبت الصواب من
المخطوطة ، ولا معنى لتبديله.
(4) انظر تفسير " آتى " فيما سلف من فهارس اللغة.
(5) في المطبوعة والمخطوطة : " على إيمانهم " بغير واو ، والصواب
إثباتها.
(6) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف ص : 202 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(9/341)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
ما ذكر في كتابه.
* * *
وهذا القول هو معنى قول حذيفة بن اليمان ، الذي : -
10747 - حدثنا به ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال
، قال حذيفة : ليدخلن الجنة قوم كانوا منافقين! فقال عبد الله : وما علمك بذلك ؟
فغضب حذيفة ، ثم قام فتنحَّى. فلما تفرّقوا ، مرَّ به علقمة فدعاه فقال : أمَا إنّ
صاحبك يعلم الذي قلت! ثم قرأ : " إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله
وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا
" .
* * *
القول في تأويل قوله : { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ
وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم
وآمنتم " ، ما يصنع الله ، أيها المنافقون ، بعذابكم ، إن أنتم تُبتم إلى
الله ورجعتم إلى الحق الواجب لله عليكم ، فشكرتموه على ما أنعم عليكم من نعمه في
أنفسكم وأهاليكم وأولادِكم ، بالإنابة إلى توحيده ، والاعتصام به ، وإخلاصكم
أعمالَكم لوجهه ، وترك رياء الناس بها ، وآمنتم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم
فصدَّقتموه ، وأقررتم بما جاءكم به من عنده فعملتم به ؟
يقول : لا حاجة بالله أن يجعلكم في الدَّرك الأسفل من النار ، إن أنتم أنبتم إلى
طاعته ، وراجعتم العمل بما أمركم به ، وترك ما نهاكم عنه. لأنه لا يجتلب بعذابكم
إلى نفسه نفعًا ، ولا يدفع عنها ضُرًّا ، وإنما عقوبته من عاقب من خلقه ، جزاءٌ
منه له على جرَاءته عليه ، وعلى خلافه أمره ونهيه ، وكفرانِه شكر نعمه عليه. فإن
(9/342)
أنتم شكرتم له على نعمه ، وأطعتموه في
أمره ونهيه ، فلا حاجة به إلى تعذيبكم ، بل يشكر لكم ما يكون منكم من طاعةٍ له
وشكر ، بمجازاتكم على ذلك بما تقصر عنه أمانيكم ، ولم تبلغه آمالكم (1) "
وكان الله شاكرا " لكم ولعباده على طاعتهم إياه ، بإجزاله لهم الثوابَ عليها
، وإعظامه لهم العِوَض منها " عليمًا " بما تعملون ، أيها المنافقون ،
وغيركم من خير وشر ، وصالِح وطالح ، محصٍ ذلك كله عليكم ، محيط بجميعه ، حتى
يجازيكم جزاءَكم يوم القيامة ، المحسنَ بإحسانه ، والمسيءَ بإساءته. وقد : -
10748 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا عليمًا " ، قال : إن
الله جل ثناؤه لا يعذِّب شاكرًا ولا مؤمنًا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فلم تبلغه " بالفاء ، والصواب ما في المخطوطة.
(9/343)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
القول في تأويل قوله : { لا يُحِبُّ
اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ
سَمِيعًا عَلِيمًا (148) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الأمصار بضم " الظاء " .
* * *
وقرأه بعضهم : ( إِلا مَنْ ظَلَمَ ) ، بفتح " الظاء " .
* * *
ثم اختلف الذين قرءوا ذلك بضم " الظاء " في تأويله.
فقال بعضهم : معنى ذلك : لا يحب الله تعالى ذكره أن يجْهر أحدُنا بالدعاء على أحد
، وذلك عندهم هو " الجهر بالسوء إلا من ظلم " ، يقول : إلا من ظلم فيدعو
على ظالمه ، فإن الله جل ثناؤه لا يكره له ذلك ، لأنه قد رخص له في ذلك.
(9/343)
*ذكر من قال ذلك :
10749 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " لا يحب الله الجهر بالسوء من
القول " ، يقول : لا يحب الله أن يدعوَ أحدٌ على أحد ، إلا أن يكون مظلومًا ،
فإنه قد أرخَص له أن يدعو على من ظلمه ، وذلك قوله : " إلا من ظلم " ،
وإن صبر فهو خير له.
10750 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " ، فإنه
يحب الجهر بالسوء من القول.
10751 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعًا عليمًا
" ، عذر الله المظلوم كما تسمعون : أن يدْعو.
10752 - حدثني الحارث قال ، حدثنا أبو عبيد قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن
قال : هو الرجل يظلم الرجل فلا يدْعُ عليه ، ولكن ليقل : " اللهم أعنِّي عليه
، اللهم استخرج لي حقي ، اللهم حُلْ بينه وبين ما يريد " ، (1) ونحوه من
الدعاء.
* * *
فـ " مَنْ " ، على قول ابن عباس هذا ، في موضع رفع. لأنه وجَّهه إلى أن
الجهر بالسوء في معنى الدعاء ، واستثنى المظلوم منه. فكان معنى الكلام على قوله :
لا يحب الله أن يُجْهر بالسوء من القول ، إلا المظلوم ، فلا حرج عليه في الجهر به.
وهذا مذهب يراه أهل العربية خطأ في العربية. وذلك أن " مَن " لا يجوز
__________
(1) في المخطوطة : " اللهم حل بيني وبين ما يريد " ، وما في المطبوعة
أشبه بالصواب.
(9/344)
أن يكون رفعًا عندهم بـ " الجهر
" ، لأنها في صلة " أنْ " ولم ينله الجحد ، فلا يجوز العطف عليه.
(1) من خطأٍ عندهم أن يقال : (2) " لا يعجبني أن يقوم إلا زيد " .
وقد يحتمل أن تكون " من " نصبًا ، على تأويل قول ابن عباس ، ويكون قوله
: " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول " ، كلامًا تامًّا ، ثم قيل :
" إلا من ظلم فلا حرج عليه " ، فيكون من استثناء من الفعل ، وإن لم يكن
قبل الاستثناء شيء ظاهر يستثنى منه ، كما قال جل ثناؤه : ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُسَيْطِرٍ * إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ) ، [سورة الغاشية : 22 - 23] ،
وكقولهم : " إني لأكره الخصومة والمِراء ، اللهم إلا رجلا يريد الله بذلك
" ، ولم يذكر قبله شيء من الأسماء. (3)
* * *
و " مَن " ، على قول الحسن هذا ، نصبٌ ، على أنه مستثنى من معنى الكلام
، لا من الاسم ، كما ذكرنا قبل في تأويل قول ابن عباس ، إذا وُجِّه " مَن
" ، إلى النصب ، وكقول القائل : " كان من الأمر كذا وكذا ، اللهم إلا أن
فلانًا جزاه الله خيرًا فَعَل كذا وكذا " .
* * *
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يحب الله الجهرَ بالسوء من القول ، إلا من ظُلم
فيخبر بما نِيلَ منه.
*ذكر من قال ذلك :
10753 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد قال : هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته ، فيخرج من عنده
فيقول : أساءَ ضيافتي ولم يُحسن!
10754 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " لأنها في صلة " أن " ، و " أن " لم
ينله الجحد " ، بزيادة " أن " ، وما في المخطوطة صواب محض.
(2) في المطبوعة : " من الخطأ عندهم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 293 ، 294.
(9/345)
ابن جريج ، عن مجاهد : " إلا من
ظلم " ، قال : إلا من أثَر ما قيل له. (1)
10755 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن محمد
بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد : " لا يحب الله الجهر بالسوء
من القول إلا من ظلم " ، قال : هو الضيف المحوَّل رحلُه ، فإنه يجهر لصاحبه
بالسوء من القول.
* * *
وقال آخرون : عنى بذلك ، الرجلَ ينزل بالرجل فلا يقريه ، فينالُ من الذي لم يقرِه.
*ذكر من قال ذلك :
10756 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إلا من ظلم " ، قال : إلا من ظلم فانتصر ،
يجهر بالسوء.
10757 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
مثله.
10758 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن
إبراهيم بن أبي بكر ، عن مجاهد وعن حميد الأعرج ، عن مجاهد : " لا يحب الله
الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " ، قال : هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن
إليه ، فقد رخص الله له أن يقول فيه . (2)
__________
(1) في المطبوعة : " آثر " بمد الهمزة ، وهو خطأ. " أثر الحديث
يأثره " : حكاه ورواه وتحدث به. ومنه : " قول مأثور " ، أي : يخبر
الناس به بعضهم بعضًا ، وينقله خلف عن سلف.
(2) الأثر : 10758 - " إبراهيم بن أبي بكر المكي الأخنسي " ، سمع طاوسا
ومجاهدًا. وروى عنه ابن أبي نجيح وابن جريج مترجم في التهذيب.
وكان في المخطوطة : " إبراهيم عن أبي بكير " ، وفي الإسناد الذي يليه :
10759 : " إبراهيم ابن أبي بكير " . وهذا اختلاف مشكل.
ففي الإسناد الأول كما في المخطوطة ، لم أعرف من يكون " إبراهيم " .
أما " أبو بكير " ، ففيهم " أبو بكير مرزوق التيمي الكوفي " ،
يروي عن مجاهد ، مضى برقم : 4305 ، وليس هذا فيما أرجح.
وأما " إبراهيم بن أبي بكير " في الإسناد الثاني ، فمنهم : "
إبراهيم بن أبي بكير " ذكره البخاري في الكبير 1 / 1 / 277 في ترجمة "
إبراهيم أبو بكير " ، وكأنه خطأ من ناسخ حذف " بن " و "
إبراهيم بن أبي بكير بن إبراهيم " مترجم في ابن أبي حاتم 1 / 1 / 90 ،
وكلاهما لم يذكر لأحد منها رواية عن مجاهد.
فمن أجل هذا صح عندي أنه الذي في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله ؛ لرواية "
إبراهيم بن أبي بكر " عن مجاهد ، ورواية ابن نجيح عنه.
(9/346)
10759 - وحدثني أحمد بن حماد الدولابي
قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن إبراهيم بن أبي بكر ، عن مجاهد ، "
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " ، قال : هو في الضيافة ،
يأتي الرجل القوم ، فينزل عليهم ، فلا يضيفونه. رخَّص الله له أن يقول فيهم. (1)
10760 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا المثنى بن
الصباح ، عن مجاهد في قوله : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول "
الآية ، قال : ضاف رجل رجلا فلم يؤدِّ إليه حق ضيافته ، فلما خرج أخبر الناس ،
فقال : " ضفتُ فلانًا فلم يؤدّ حق ضيافتي " ! فذلك جهرٌ بالسوء إلا من
ظلم ، حين لم يؤدِّ إليه ضيافته.
10761 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ،
قال مجاهد : إلا من ظلم فانتصر ، يجهر بسوء. قال مجاهد : نزلت في رجل ضاف رجلا
بفلاةٍ من الأرض فلم يضفه ، فنزلت : " إلا من ظلم " ، ذكر أنه لم يضفه ،
لا يزيد على ذلك.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إلا من ظلم فانتصر من ظالمه ، فإن الله قد أذن له في ذلك.
__________
(1) الأثر : 10759 - كان في المخطوطة : " إبراهيم بن أبي بكير " . وانظر
التعليق على الأثر السالف.
(9/347)
*ذكر من قال ذلك :
10762 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " ، يقول : إن
الله لا يحب الجهر بالسوء من أحدٍ من الخلق ، ولكن من ظلم فانتصر بمثل ما ظُلم ،
فليس عليه جناح.
فـ " مَن " ، على هذه الأقوال التي ذكرناها ، سوى قول ابن عباس ، في
موضع نصب على انقطاعه من الأول. والعرب من شأنها أن تنصب ما بعد " إلا "
في الاستثناء المنقطع.
* * *
فكان معنى الكلام على هذه الأقوال ، سوى قول ابن عباس : لا يحب الله الجهر بالسوء
من القول ، ولكن من ظلم فلا حرج عليه أن يخبر بما نٍيل منه ، أو ينتصر ممن ظلمه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون بفتح " الظاء " : ( إِلا مَنْ ظَلَمَ ) ، وتأولوه : لا
يحب الله الجهرَ بالسوء من القول ، إلا من ظلم فلا بأس أن يُجْهر له بالسوء من
القول.
*ذكر من قال ذلك :
10763 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : كان أبي يقرأ : ( لا
يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظَلَمَ ) ، قال
ابن زيد : يقول : إلا من أقام على ذلك النفاق ، فيُجهر له بالسوء حتى ينزع. قال :
وهذه مثل : ( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ ) ، أن
تسميه بالفسق( بَعْدَ الإيمَانِ ) ، بعد إذ كان مؤمنًا( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ ) ، من
ذلك العمل الذي قيل له( فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ، [سورة الحجرات : 11] ،
قال : هو شرٌّ ممن قال ذلك. (1)
__________
(1) في المطبوعة : " هو أشر ممن قال ذلك له " ، والذي في المخطوطة صواب
محض.
(9/348)
10764 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن
وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من
ظَلم " ، فقرأ : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ
النَّارِ ) حتى بلغ( وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) .
ثم قال بعد ما قال : هم في الدرك الأسفل من النار( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ
بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) ،
( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظَلَمَ ) ،
قال : لا يحب الله أن يقول لهذا : " ألست نافقت ؟ ألست المنافق الذي ظلمتَ
وفعلت وفعلت ؟ " ، من بعد ما تاب " إلا من ظلم " ، إلا من أقام على
النفاق. قال : وكأن أبي يقول ذلك له ، ويقرأها : ( إِلا مَنْ ظَلَمَ ) .
* * *
فـ " مَنْ " على هذا التأويل نَصْبٌ لتعلقه بـ " الجهر " .
* * *
وتأويل الكلام ، على قول قائل هذا القول : لا يحب الله أن يجهر أحد لأحد من
المنافقين بالسوء من القول ، إلا من ظلم منهم فأقام على نفاقه ، فإنه لا بأس
بالجهر له بالسوء من القول.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : ( إِلا مَنْ ظُلِمَ
) بضم " الظاء " ، لإجماع الحجة من القرأة وأهل التأويل على صحتها ،
وشذوذ قراءة من قرأ ذلك بالفتح.
* * *
فإذ كان ذلك أولى القراءتين بالصواب ، فالصواب في تأويل ذلك : لا يحب الله ، أيها
الناس ، أن يجهر أحدٌ لأحد بالسوء من القول " إلا من ظلم " ، بمعنى :
إلا من ظلم ، فلا حرج عليه أن يخبر بما أسيء عليه. (1)
وإذا كان ذلك معناه ، دخل فيه إخبار من لم يُقْرَ ، أو أسيء قراه ، أو نيل بظلم
__________
(1) في المطبوعة : " أسيء إليه " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب
لأنه أراد أن يضمن " يسيء " ، معنى " يبغي عليه " ، فألحق بها
حرف الثانية ، كأنه قال : بما أسيء إليه بغيًا عليه.
(9/349)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
في نفسه أو ماله غيرَه من سائر الناس.
(1) وكذلك دعاؤه على من ناله بظلم : أن ينصره الله عليه ، لأن في دعائه عليه
إعلامًا منه لمن سمع دعاءه عليه بالسوء له.
* * *
وإذْ كان ذلك كذلك ، فـ " مَن " في موضع نصب ، لأنه منقطع عما قبله ،
وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها ، فهو نظير قوله : ( لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُسَيْطِرٍ * إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ) [سورة الغاشية : 22 - 23] .
* * *
وأما قوله : " وكان الله سميعًا عليمًا " ، فإنه يعني : " وكان
الله سميعًا " ، لما تجهرون به من سوء القول لمن تجهرون له به ، وغير ذلك من
أصواتكم وكلامكم " عليمًا " ، بما تخفون من سوء قولكم وكلامكم لمن تخفون
له به فلا تجهرون له به ، محص كل ذلك عليكم ، حتى يجازيكم على ذلك كله جزاءَكم ،
المسيء بإساءته ، والمحسن بإحسانه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ
سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه (3) " إن تبدوا " أيها الناس "
خيرًا " ، يقول : إن تقولوا جميلا من القول لمن أحسن إليكم ، فتظهروا ذلك
شكرًا منكم له على ما كان منه من حسن إليكم (4) ، " أو تخفوه " ، يقول :
أو تتركوا إظهار ذلك
__________
(1) في المطبوعة : " عنوة من سائر الناس " ، وهو لا معنى له. والصواب ما
في المخطوطة. وقوله : " غيره " منصوب مفعول به للمصدر " إخبار
" ، وسياق الكلام : دخل فيه إخبار من لم يقر ... غيره من سائر الناس " ،
أي يخبر غيره من سائر الناس بما أصابه ونيل منه.
(2) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " يعني بذلك " ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(4) انظر تفسير " الإبداء " فيما سلف 5 : 582.
(9/350)
فلا تبدوه (1) " أو تعفوا عن سوء
" ، يقول : أو تصفحوا لمن أساءَ إليكم عن إساءته ، فلا تجهروا له بالسوء من
القول الذي قد أذنت لكم أن تجهروا له به " فإن الله كان عفوًّا " ، يقول
: لم يزل ذا عفوٍ عن خلقه ، يصفح عمن عصَاه وخالف أمره (2) " قديرًا " ،
يقول : ذا قدرة على الانتقام منهم. (3)
وإنما يعني بذلك : أن الله لم يزل ذا عفو عن عباده ، مع قدرته على عقابهم على
معصيتهم إيّاه.
يقول : فاعفوا ، أنتم أيضًا ، أيها الناس ، عمن أتى إليكم ظلمًا ، ولا تجهروا له
بالسوء من القول ، وإن قدرتم على الإساءة إليه ، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته على
عقابكم ، وأنتم تعصونه وتخالفون أمره.
* * *
وفي قوله جل ثناؤه : " إن تبدوا خيرًا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان
عفوًا قديرًا " ، الدلالةُ الواضحةُ على أن تأويل قوله : " لا يحب الله
الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " ، بخلاف التأويل الذي تأوله زيد بن أسلم
، (4) في زعمه أن معناه : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لأهل النفاق ، إلا من
أقام على نفاقه ، فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول. وذلك أنه جل ثناؤه قال
عَقِيب ذلك : " إن تبدوا خيرًا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء " ، ومعقولٌ أن
الله جل ثناؤه لم يأمر المؤمنين بالعفو عن المنافقين على نفاقهم ، ولا نهاهم أن
يسمُّوا من كان منهم معلنَ النفاق " منافقًا " . بل العفو عن ذلك ، مما
لا وجه له معقول. لأن " العفو " المفهوم ،
__________
(1) انظر تفسير " الإخفاء " فيما سلف 5 : 582.
(2) انظر تفسير " عفا " و " عفو " فيما سلف 2 : 503 / 3 : 371
/ 7 : 215 ، 327 / 8 : 426 / 9 : 102. وفي المطبوعة والمخطوطة : " يصفح لهم
عمن عصاه " ، والصواب حذف " لهم " ، إذ لا مكان لها.
(3) انظر تفسير " قدير " فيما سلف ص : 298 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(4) انظر الأثران رقم : 10763 ، 10764.
(9/351)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
إنما هو صفح المرء عما له قبل غيره من
حق. وتسمية المنافق باسمه ليس بحق لأحد قِبَله ، فيؤمر بعفوه عنه ، وإنما هو اسم
له. وغير مفهوم الأمرُ بالعفو عن تسمية الشيء بما هو اسمه.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ
بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
عَذَابًا مُهِينًا (151) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " إن الذين يكفرون بالله ورسله "
، من اليهود والنصارى " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله " ، بأن
يكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه بوحيه ، ويزعموا أنهم افتروا على ربهم. (1)
وذلك هو معنى إرادتهم التفريقَ بين الله ورسله ، بنِحْلتهم إياهم الكذب والفريةَ
على الله ، وادِّعائهم عليهم الأباطيل " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض "
، يعني (2) أنهم يقولون : " نصدِّق بهذا ونكذِّب بهذا " ، كما فعلت
اليهود من تكذيبهم عيسى ومحمدًا صلى الله عليهما وسلم ، وتصديقهم بموسى وسائر
الأنبياء قبله بزعمهم. وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم ،
وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم " ويريدون أن يتخذوا بين ذلك
سبيلا " ، يقول : ويريد المفرِّقون بين الله ورسله ، الزاعمون أنهم يؤمنون
ببعض ويكفرون ببعض ، أن يتخذوا بين أضعاف
__________
(1) في المطبوعة : " ويزعمون أنهم ... " والصواب من المخطوطة.
(2) " ونكفر ببعض " تمام الآية ، لم يكن في المخطوطة ولا المطبوعة ،
ولكن سياقه يقتضي إثباتها.
(9/352)
قولهم : " نؤمن ببعض الأنبياء
ونكفر ببعض " " سبيلا " ، يعني : طريقًا إلى الضلالة التي أحدثوها
، والبدعة التي ابتدعوها ، يدعون أهل الجهل من الناس إليه. (1)
فقال جل ثناؤه لعباده ، منبهًا لهم على ضلالتهم وكفرهم : " أولئك هم الكافرون
حقًّا " ، يقول : أيها الناس ، هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم ، هم أهل الكفر بي
، المستحقون عذابي والخلود في ناري حقًّا. فاستيقنوا ذلك ، ولا يشككنَّكم في أمرهم
انتحالهم الكذب ، ودعواهم أنهم يقرُّون بما زعموا أنهم به مقرُّون من الكتب والرسل
، فإنهم في دعواهم ما ادعوا من ذلك كَذَبَةٌ. وذلك أن المؤمن بالكتب والرسل ، هو
المصدّق بجميع ما في الكتاب الذي يزعم أنه به مصدق ، وبما جاء به الرسول الذي يزعم
أنه به مؤمن. فأما من صدّق ببعض ذلك وكذَّب ببعض ، فهو لنبوة من كذب ببعض ما جاء
به جاحد ، ومن جحد نبوة نبي فهو به مكذب. وهؤلاء الذين جحدوا نبوة بعض الأنبياء ،
وزعموا أنهم مصدقون ببعض ، مكذبون من زعموا أنهم به مؤمنون ، لتكذيبهم ببعض ما
جاءهم به من عند ربهم ، فهم بالله وبرسله الذين يزعمون أنهم بهم مصدقون ، والذين
يزعمون أنهم بهم مكذبون كافرون ، (2) فهم الجاحدون وحدانية الله ونبوّة أنبيائه حق
الجحود ، المكذبون بذلك حق التكذيب. فاحذروا أن تغتروا بهم وببدعتهم ، فإنا قد
أعتدنا لهم عذابًا مهينًا.
* * *
وأما قوله : " وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا " ، فإنه يعني : "
وأعتدنا " لمن جحد بالله ورسوله جحودَ هؤلاء الذين وصفت لكم ، أيها الناس ،
أمرَهم من أهل الكتاب ، ولغيرهم من سائر أجناس الكفار (3) " عذابًا " ،
في الآخرة " مهينًا " ،
__________
(1) انظر تفسير " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) سياق هذه الجملة : " فهم بالله وبرسله ... كافرون " ، وما بينها فصل
في صفة هؤلاء الرسل.
(3) انظر تفسير " أعتد " فيما سلف 8 : 103 ، 355.
(9/353)
يعني : يهين من عُذِّب به بخلوده فيه.
(1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10765 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرِّقوا بين الله ورسله ويقولون
نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقًّا
وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا " ، أولئك أعداء الله اليهود والنصارى. آمنت
اليهود بالتوراة وموسى ، وكفروا بالإنجيل وعيسى. وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى ،
وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم. فاتخذوا اليهودية والنصرانية ، وهما
بدعتان ليستا من الله ، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رُسله.
10766 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله
" ، يقولون : محمد ليس برسولٍ لله! وتقول اليهود : عيسى ليس برسولٍ لله! (2)
فقد فرَّقوا بين الله وبين رسله " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض " ،
فهؤلاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
10767 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج
قوله : " إن الذين يكفرون بالله ورسله " إلى قوله : " بين ذلك
سبيلا " ، قال : اليهود والنصارى. آمنت اليهود بعُزَير وكفرت بعيسى ، وآمنت
النصارى بعيسى وكفرت بعزَير. وكانوا يؤمنون بالنبيّ ويكفرون بالآخر " ويريدون
أن يتخذوا بين ذلك سبيلا " ، قال : دينًا يدينون به الله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " مهين " فيما سلف : ص163 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك.
(2) في الموضعين ، في المخطوطة والمطبوعة : " برسول الله " ، والسياق
يقتضي ما أثبت.
(9/354)
وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
القول في تأويل قوله : { وَالَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
(152) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : والذين صدقوا بوحدانية الله ، وأقرّوا بنبوة
رسله أجمعين ، وصدّقوهم فيما جاءوهم به من عند الله من شرائع دينه " ولم
يفرقوا بين أحد منهم " ، يقول : ولم يكذّبوا بعضهم ويصدقوا بعضهم ، ولكنهم
أقرُّوا أن كل ما جاءوا به من عند ربهم حق " أولئك " ، يقول : هؤلاء
الذين هذه صفتهم من المؤمنين بالله ورسله " سوف يؤتيهم " ، يقول : سوف
يعطيهم (1) " أجورهم " ، يعني : جزاءهم وثوابهم على تصديقهم الرسل في
توحيد الله وشرائع دينه ، وما جاءت به من عند الله (2) " وكان الله غفورًا
" ، يقول : ويغفر لمن فعل ذلك من خلقه ما سلف له من آثامه ، فيستر عليه بعفوه
له عنه ، وتركه العقوبة عليه ، فإنه لم يزل لذنوب المنيبين إليه من خلقه غفورًا
" رحيمًا " ، يعني ولم يزل بهم رحيمًا ، بتفضله عليهم بالهداية إلى سبيل
الحق ، وتوفيقه إياهم لما فيه خلاص رِقابهم من النار. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإيتاء " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف ص : 341 ، تعليق : 6 ، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/355)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
القول في تأويل قوله : { يَسْأَلُكَ
أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ
سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى
سُلْطَانًا مُبِينًا (153) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " يسألك " يا محمد " أهل
الكتاب " ، يعني بذلك : أهل التوراة من اليهود " أن تنزل عليهم كتابًا
من السماء " .
* * *
واختلف أهل التأويل في " الكتاب " الذي سألَ اليهودُ محمدًا صلى الله
عليه وسلم أن ينزل عليهم من السماء.
فقال بعضهم : سألوه أن ينزل عليهم كتابًا من السماء مكتوبًا ، كما جاء موسى بني
إسرائيل بالتوراة مكتوبةً من عند الله.
*ذكر من قال ذلك :
10768 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء " ، قالت
اليهود : إن كنت صادقًا أنك رسول الله ، فآتنا كتابًا مكتوبًا من السماء ، كما جاء
به موسى.
10769 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن
كعب القرظي قال : جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا :
إن موسى جاء بالألواحِ من عند الله ، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدّقك!
فأنزل الله : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء " ،
إلى قوله : " وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا " .
* * *
(9/356)
وقال آخرون : بل سألوه أن ينزل عليهم
كتابًا ، خاصَّة لهم.
*ذكر من قال ذلك :
10770 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء " ، أي كتابًا ،
خاصةً " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة " .
وقال آخرون : بل سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبًا بالأمر بتصديقه
واتّباعه.
*ذكر من قال ذلك :
10771 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج
قوله : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء " ، وذلك أن
اليهود والنصارى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : " لن نتابعك على ما
تدعونا إليه ، حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان (1) أنك رسول الله ، وإلى
فلان بكتاب أنك رسول الله " ! قال الله جل ثناؤه : " يسألك أهل الكتاب
أن تنزل عليهم كتابًا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة
" .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن أهل التوراة سألوا
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه أن ينزل عليهم كتابًا من السماء ، آيةً
معجزةً جميعَ الخلق عن أن يأتوا بمثلها ، شاهدةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم
بالصدق ، آمرة لهم باتباعه.
وجائز أن يكون الذي سألوه من ذلك كتابًا مكتوبًا ينزل عليهم من السماء إلى جماعتهم
وجائز أن يكون ذلك كتبًا إلى أشخاص بأعينهم. بل الذي هو أولى
__________
(1) في المخطوطة : " من عبد الله ، من الله إلى فلان " ، والذي في
المطبوعة هو الصواب ، إلا أن يكون الناسخ كتب " من عند الله " ثم ،
غيرها " من الله " ، ثم لم يضرب على أولاهما.
(9/357)
بظاهر التلاوة ، أن تكون مسألتهم إياه
ذلك كانت مسألة لتنزيل الكتاب الواحد إلى جماعتهم ، (1) لذكر الله تعالى في خبره
عنهم " الكتاب " بلفظ الواحد بقوله : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل
عليهم كتابًا من السماء " ، (2) ولم يقل " كتبًا " .
* * *
وأما قوله : " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " ، فإنه توبيخ من الله جل
ثناؤه سائلي الكتابَ الذي سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزله عليهم من
السماء ، في مسألتهم إياه ذلك وتقريعٌ منه لهم. يقول الله لنبيه صلى الله عليه
وسلم : يا محمد ، لا يعظُمَنَّ عليك مسألتهم ذلك ، فإنهم من جهلهم بالله وجراءَتهم
عليه واغترارهم بحلمه ، لو أنزلت عليهم الكتاب الذي سألوك أن تنزله عليهم ،
لخالفوا أمر الله كما خالفوه بعد إحياء الله أوائلهم من صعقتهم ، فعبدوا العجل
واتخذوه إلهًا يعبدونه من دون خالقهم وبارئهم الذي أرَاهم من قدرته وعظيم سلطانه
ما أراهم ، لأنهم لن يعدُوا أن يكونوا كأوائلهم وأسلافهم.
* * *
ثم قصّ الله من قصتهم وقصة موسى ما قصَّ ، يقول الله : " فقد سألوا موسى
أكبرَ من ذلك " ، يعني : فقد سأل أسلافُ هؤلاء اليهود وأوائلهم موسى عليه
السلام ، أعظم مما سألوك من تنزيل كتاب عليهم من السماء ، فقالوا له : " أرنا
الله جهرة " ، أي : عِيانًا نعاينه وننظر إليه.
* * *
وقد أتينا على معنى " الجهرة " ، بما في ذلك من الرواية والشواهد على
صحة ما قلنا في معناه فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
وقد ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في ذلك ، بما : -
__________
(1) في المطبوعة : " لينزل الكتاب " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " يقول : يسألك ... " ، والصواب من المخطوطة.
(3) انظر تفسير " جهرة " فيما سلف 2 : 80 - 82.
(9/358)
10772 - حدثني به الحارث قال ، حدثنا
أبو عبيد قال ، حدثنا حجاج ، عن هارون بن موسى ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن عبد
الرحمن بن معاوية ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : إنهم إذا رأوه فقد رأوه ، إنما
قالوا جهرةً : " أرنا الله " . قال : هو مقدّم ومؤخر.
* * *
وكان ابن عباس يتأول ذلك : أن سؤالهم موسى كان جهرة. (1)
* * *
وأما قوله : " فأخذتهم الصاعقة " ، فإنه يقول : " فصُعقوا "
" بظلمهم " أنفسهم. وظلمهم أنفسهم ، كان مسألَتهم موسى أن يريهم ربهم
جهرة ، لأن ذلك مما لم يكن لهم مسألته.
* * *
وقد بينا معنى : " الصاعقة " ، فيما مضى باختلاف المختلفين في تأويلها ،
والدليل على أولى ما قيل فيها بالصواب. (2)
* * *
وأما قوله : " ثم اتخذوا العجل " ، فإنه يعني : ثم اتخذ هؤلاء الذين
سألوا موسى ما سألوه من رؤية ربهم جهرةً ، بعد ما أحياهم الله فبعثهم من صعقتهم
العجلَ الذي كان السامريُّ نبذ فيه ما نبذ من القبْضة التي قبضها من أثر فرس جبريل
عليه السلام إلهًا يعبدونه من دون الله. (3)
* * *
وقد أتينا على ذكر السبب الذي من أجله اتخذوا العجل ، وكيف كان أمرهم وأمره ، فيما
مضى بما فيه الكفاية. (4)
* * *
__________
(1) هذا القول الذي نسب إلى ابن عباس ، لم يمض مثله في تفسير آية سورة البقرة 2 :
80 - 82 ، وهذا أحد الأدلة على اختصار هذا التفسير.
(2) انظر تفسير " الصاعقة " فيما سلف 2 : 82 - 84.
(3) سياق هذه الفقرة : ثم اتخذ هؤلاء ... العجل ... إلها ... " .
(4) انظر ما سلف 2 : 63 - 68.
(9/359)
وقوله : " من بعد ما جاءتهم
البينات " ، يعني : من بعد ما جاءت هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوا ،
البينات من الله ، والدلالاتُ الواضحات بأنهم لن يروا الله عيانًا جهارًا.
وإنما عنى بـ " البينات " : أنها آيات تبين عن أنهم لن يروا الله في
أيام حياتهم في الدنيا جهرة. (1) وكانت تلك الآيات البينات لهم على أن ذلك كذلك :
إصعاقُ الله إياهم عند مسألتهم موسى أن يريهم ربه جهرة ، ثم إحياءه إياهم بعد
مماتهم ، مع سائر الآيات التي أراهم الله دلالةً على ذلك.
* * *
يقول الله ، مقبِّحًا إليهم فعلهم ذلك ، وموضحًا لعباده جهلهم ونقصَ عقولهم
وأحلامهم : ثم أقرُّوا للعجل بأنه لهم إله ، وهم يرونه عيانًا ، وينظرون إليه
جِهَارًا ، بعد ما أراهم ربهم من الآيات البينات ما أراهم : أنهم لا يرون ربهم
جهرة وعِيانًا في حياتهم الدنيا ، فعكفوا على عبادته مصدِّقين بألوهته!!
* * *
وقوله : " فعفونا عن ذلك " ، يقول : فعفونا لعبدة العجل عن عبادتهم إياه
، (2) وللمصدقين منهم بأنه إلههم بعد الذي أراهم الله أنهم لا يرون ربهم في حياتهم
من الآيات ما أراهم عن تصديقهم بذلك ، (3) بالتوبة التي تابوها إلى ربّهم بقتلهم
أنفسهم ، وصبرهم في ذلك على أمر ربهم " وآتينا موسى سلطانًا مبينًا " ،
يقول : وآتينا موسى حجة تبين عن صدقه ، وحقيقة نبوّته ، (4) وتلك الحجة هي :
الآيات البينات التي آتاه الله إياها. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " البينات " فيما سلف 7 : 450 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " العفو " فيما سلف ص : 351 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(3) السياق : " فعفونا لعبدة العجل ... عن تصديقهم بذلك " .
(4) في المطبوعة : " وحقية نبوته " ، غير ما في المخطوطة عن وجهه ، ظنًا
منه أنه خطأ ، وقد أشرنا إلى مثل ذلك من فعله فيما سلف ص : 336 ، تعليق : 4 ، وما
سيأتي بعد قليل ص : 363 ، تعليق 2.
(5) انظر تفسير " الإيتاء " فيما سلف من فهارس اللغة.
وتفسير " السلطان " فيما سلف 7 : 279 / 9 : 336 ، 337.
وتفسير " مبين " فيما سلف ص : 336 تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(9/360)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
القول في تأويل قوله : { وَرَفَعْنَا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا
وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا
غَلِيظًا (154) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ورفعنا فوقهم الطور " ، يعني :
الجبل ، (1) وذلك لما امتنعوا من العمل بما في التوراة وقبول ما جاءهم به موسى
فيها " بميثاقهم " ، يعني : بما أعطوا الله الميثاق والعهد : لنعملن بما
في التوراة (2) " وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدًا " ، يعني " باب
حِطّة " ، حين أمروا أن يدخلوا منه سجودًا ، فدخلوا يزحفون على أستاههم (3)
" وقلنا هم لا تعدوا في السبت " ، يعني بقوله : " لا تعدوا في
السبت " ، لا تتجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم إلى ما لم يبح لكم ، (4) كما
:
10773 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدًا " ، قال : كنا نحدّث أنه باب من أبواب
بيت المقدس. (5)
* * *
" وقلنا لهم لا تعدوا في السبت " ، أمر القوم أن لا يأكلوا الحِيتان يوم
السبت ولا يعرضوا لها ، وأحل لهم ما وراء ذلك. (6)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الطور " فيما سلف 2 : 157 - 159.
(2) انظر تفسير " الميثاق " فيما سلف : 41 ، 44 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " ادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة " فيما سلف 2 : 103 -
109.
(4) انظر تفسير " السبت " ، و " اعتداؤهم في السبت " فيما سلف
2 : 166 - 174.
(5) هذا الأثر لم يذكر في تفسير " الباب " فيما سلف 2 : 103 - 109 ، وهو
أحد الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره ، ومنهجه في الاختصار.
(6) انظر تفسير " السبت " ، و " اعتداؤهم في السبت " فيما سلف
2 : 166 - 174.
(9/361)
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أمصار الإسلام : ( لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ) ، بتخفيف "
العين " من قول القائل : " عدوت في الأمر " ، إذا تجاوزت الحق فيه
، " أعدُ وعَدْوًا وعُدُوًّا وعدوانًا وعَدَاءً " . (1)
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة : ( وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُّوا ) بتسكين "
العين " وتشديد " الدال " ، والجمع بين ساكنين ، بمعنى : تعتدوا ،
ثم تدغم " التاء " في " الدال " فتصير " دالا "
مشددة مضمومة ، كما قرأ من قرأ( أَمْ مَنْ لا يَهْدِّي ) [سورة يونس : 35] ،
بتسكين " الهاء " .
* * *
وقوله : " وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا " ، يعني : عهدًا مؤكدًا شديدًا ،
بأنهم يعملون بما أمرهم الله به ، وينتهون عما نهاهم الله عنه ، مما ذكر في هذه
الآية ، ومما في التوراة. (2)
* * *
وقد بينا فيما مضى ، السببَ الذي من أجله كانوا أمروا بدخول الباب سجدًا ، وما كان
من أمرهم في ذلك وخبرهم وقصتهم وقصة السبت ، وما كان اعتداؤهم فيه ، بما أغنى عن
إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عدا " فيما سلف 2 : 142 ، 167 ، 307 / 3 : 573 ، 582 /
7 : 117 ، والمراجع هناك.
وقد أسقط في المطبوعة هنا " وعدوا " (بضم العين والدال مشددة الواو) ،
وهي ثابتة في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " الميثاق " فيما سلف ص361 ، التعليق رقم : 2.
وتفسير " غليظ " فيما سلف 8 : 127.
(3) انظر التعليقين السالفين ص : 361 ، تعليق : 3 ، 4.
(9/362)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
القول في تأويل قوله : { فَبِمَا
نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَاءَ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا
بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (155) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : فبنقض هؤلاء الذين وصفتُ صفتهم من أهل الكتاب
" ميثاقهم " ، يعني : عهودهم التي عاهدوا الله أن يعملوا بما في التوراة
(1) " وكفرهم بآيات الله " ، يقول : وجحودهم " بآيات الله " ،
يعني : بأعلام الله وأدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله (2) وحقيقة
ما جاءوهم به من عنده (3) " وقتلهم الأنبياء بغير حق " ، يقول : وبقتلهم
الأنبياء بعد قيام الحجة عليهم بنبوّتهم " بغير حق " ، يعني : بغير
استحقاق منهم ذلك لكبيرة أتوها ، ولا خطيئة استوجبوا القتل عليها (4) "
وقولهم قلوبنا غلف " ، يعني : وبقولهم " قلوبنا غلف " ، يعني :
يقولون : عليها غِشاوة وأغطِية عما تدعونا إليه ، فلا نفقَه ما تقول ولا نعقله.
* * *
وقد بينا معنى : " الغلف " ، وذكرنا ما في ذلك من الرواية فيما مضى قبل.
(5)
* * *
" بل طبع الله عليها بكفرهم " ، يقول جل ثناؤه : كذبوا في قولهم :
" قلوبنا غلف " ، ما هي بغلف ، ولا عليها أغطية ، ولكن الله جل ثناؤه
جعل عليها طابعًا بكفرهم بالله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الميثاق " آنفًا ص : 362 ، تعليق : 2.
(2) انظر تفسير " الآيات " فيما سلف من فهارس اللغة ، مادة (أيي).
(3) في المطبوعة : " وحقية ما جاؤوهم به " ، بدل ما في المخطوطة. وانظر
التعليق السالف ص : 360 ، تعليق : 2.
(4) انظر تفسير " قتل الأنبياء بغير حق " فيما سلف 7 : 116 ، 117 ، 446.
(5) انظر تفسير " غلف " فيما سلف 2 : 324 - 328.
(9/363)
وقد بينا صفة " الطبع على القلب
" ، فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
" فلا يؤمنون إلا قليلا " ، يقول : فلا يؤمن - هؤلاء الذين وصف الله
صفتهم ، لطبعه على قلوبهم ، فيصدقوا بالله ورسله وما جاءتهم به من عند الله - إلا
إيمانًا قليلا يعني : تصديقًا قليلا وإنما صار " قليلا " ، (2) لأنهم لم
يصدقوا على ما أمرهم الله به ، ولكن صدَّقوا ببعض الأنبياء وببعض الكتب ، وكذبوا
ببعض. فكان تصديقهم بما صدَّقوا به قليلا لأنهم وإن صدقوا به من وجه ، فهم به
مكذبون من وجه آخر ، وذلك من وجه تكذيبهم من كذَّبوا به من الأنبياء وما جاءوا به
من كتب الله ، ورسلُ الله يصدِّق بعضهم بعضًا. وبذلك أمر كل نبي أمته. وكذلك كتب
الله يصدق بعضها بعضًا ، ويحقق بعض بعضًا. فالمكذب ببعضها مكذب بجميعها ، من جهة
جحوده ما صدقه الكتاب الذي يقرّ بصحته. فلذلك صار إيمانهم بما آمنوا من ذلك قليلا.
(3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10774 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله
: " فبما نقضهم ميثاقهم " ، يقول : فبنقضهم ميثاقهم لعنَّاهم "
وقولهم قلوبنا غلف " ، أي لا نفقه ، " بل طبع الله عليها بكفرهم "
، ولعنهم حين فعلوا ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الطبع " فيما سلف 1 : 258. ولم يمض ذكر " الطبع
" بهذا اللفظ في آية قبل هذه الآية ، ولكنه نسي ، إنما الذي مضى ما هو في
معناه وهو " ختم الله على قلوبهم " ، و " الختم " هو "
الطبع " .
(2) انظر تفسير " قليل " فيما سلف 2 : 329 - 331 / 8 : 439 ، 577.
(3) تفسير " قليل " فيما سلف من الآيات التي أشرنا إليها ، فهو أجود مما
هنا.
(9/364)
واختلف في معنى قوله : " فبما
نقضهم " ، الآية ، هل هو مواصلٌ لما قبله من الكلام ، أو هو منفصل منه. (1)
فقال بعضهم : هو منفصل مما قبله ، ومعناه : فبنقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ،
وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وقولهم قلوبنا غلف ، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم. (2)
*ذكر من قال ذلك :
10775 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
فلا يؤمنون إلا قليلا " ، لما ترك القوم أمرَ الله ، وقتلوا رسله ، وكفروا
بآياته ، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم ، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم.
* * *
وقال آخرون : بل هو مواصل لما قبله. قالوا : ومعنى الكلام : فأخذتهم الصاعقة
بظلمهم فبنقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وبقتلهم الأنبياء بغير حق ، وبكذا
وكذا أخذتهم الصاعقة. قالوا : فتبع الكلام بعضه بعضًا ، ومعناه : مردود إلى أوله.
وتفسير " ظلمهم " ، الذي أخذتهم الصاعقة من أجله ، بما فسر به تعالى
ذكره ، من نقضهم الميثاق ، وقتلهم الأنبياء ، وسائر ما بيَّن من أمرهم الذي ظلموا
فيه أنفسهم.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن قوله : " فبما نقضهم ميثاقهم
" وما بعده ، منفصل معناه من معنى ما قبله ، وأن معنى الكلام : فبما نقضهم
ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وبكذا وبكذا ، لعناهم وغضبنا عليهم فترك ذكر "
لعناهم " ،
__________
(1) وانظر زيادة " ما " في قوله " فبما نقضهم ميثاقهم " فيما
سلف 7 : 340. وترك أبي جعفر بيان ذلك هنا ، أحد الأدلة على منهاجه في اختصار هذا
التفسير.
(2) في المطبوعة : " بل طبع الله عليها " كنص الآية ، وهو لا يستقيم ،
والصواب ما في المخطوطة.
(9/365)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
لدلالة قوله : " بل طبع الله
عليها بكفرهم " ، على معنى ذلك. إذ كان من طبع على قلبه ، فقد لُعِن وسُخِط
عليه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الذين أخذتهم الصاعقة ، إنما كانوا على عهد
موسى والذين قتلوا الأنبياء ، والذين رموا مريم بالبهتان العظيم ، وقالوا : "
قتلنا المسيح " ، كانوا بعد موسى بدهر طويل. ولم يدرك الذين رموا مريم
بالبهتان العظيم زمان موسى ، ولا من صُعق من قومه.
وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنّ الذين أخذتهم الصاعقة ، لم تأخذهم عقوبةً لرميهم
مريم بالبهتان العظيم ، ولا لقولهم : " إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم
" . وإذ كان ذلك كذلك ، فبيِّنٌ أن القوم الذين قالوا هذه المقالة ، غير
الذين عوقبوا بالصاعقة. وإذ كان ذلك كذلك ، كان بيِّنًا انفصال معنى قوله : "
فبما نقضهم ميثاقهم " ، من معنى قوله : " فأخذتهم الصاعقة بظلمهم "
.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا
عَظِيمًا (156) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وبكفر هؤلاء الذين وصف صفتهم " وقولهم
على مريم بهتانًا عظيمًا " ، يعني : بفريتهم عليها ، ورميهم إياها بالزنا ،
وهو " البهتان العظيم " ، لأنهم رموها بذلك ، وهي مما رموها به بغير
ثَبَتٍ ولا برهان بريئة ، فبهتوها بالباطل من القول. (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " البهتان " فيما سلف 5 : 432 / 8 : 124 / 9 ، 197.
(9/366)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
10776 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد
الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس :
" وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا " ، يعني : أنهم رموها بالزنا.
10777 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا " ، حين قذفوها بالزنا.
10778 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يعلى بن عُبَيد ، عن جويبر في
قوله : " وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا " ، قال : قالوا : " زنت
" .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ
لَهُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وبقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول
الله. ثم كذبهم الله في قيلهم ، فقال : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم
" ، يعني : وما قتلوا عيسى وما صلبوه ولكن شبه لهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في صفة التشبيه الذي شبه لليهود في أمر عيسى.
فقال بعضهم : لما أحاطت اليهود به وبأصحابه ، أحاطوا بهم وهم لا يثبتون معرفة عيسى
بعينه ، وذلك أنهم جميعًا حُوِّلوا في صورة عيسى ، فأشكل على الذين كانوا يريدون
قتل عيسى ، عيسى من غيره منهم ، وخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى ، فقتلوه
وهم يحسبونه عيسى.
*ذكر من قال ذلك :
(9/367)
10779 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا
يعقوب القمي ، عن هارون بن عنترة ، عن وهب بن منبه قال : أُتِي عيسى ومعه سبعة عشر
من الحواريين في بيت ، وأحاطوا بهم. فلما دخلوا عليهم صوَّرهم الله كلهم على صورة
عيسى ، فقالوا لهم : سحرتمونا! لتبرزنّ لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعًا! فقال عيسى
لأصحابه : من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة ؟ فقال رجل منهم : أنا! فخرج إليهم ،
فقال : أنا عيسى وقد صوّره الله على صورة عيسى ، فأخذوه فقتلوه وصلبوه. فمن ثَمَّ
شُبِّه لهم ، وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى ، ورفع
الله عيسى من يومه ذلك.
* * *
وقد روي عن وهب بن منبه غير هذا القول ، وهو ما : -
10780 - حدثني به المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال
، حدثني عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهبًا يقول : إن عيسى ابن مريم عليه السلام
لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا ، جزع من الموت وشقَّ عليه ، فدعا الحواريِّين
فصنع لهم طعامًا ، (1) فقال : احضروني الليلة ، فإن لي إليكم حاجة. فلما اجتمعوا
إليه من الليل ، عشَّاهم وقام يخدمهم. فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم
ويوضِّئهم بيده ، ويمسح أيديهم بثيابه ، فتعاظموا ذلك وتكارهوه ، فقال : ألا مَن
ردَّ علي شيئًا الليلة مما أصنع ، فليس مني ولا أنا منه! فأقرُّوه ، حتى إذا فرغ
من ذلك قال : أمَّا ما صنعت بكم الليلة ، مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي
، فليكن لكم بي أسوة ، فإنكم ترون أنّي خيركم ، فلا يتعظَّم بعضكم على بعض ،
وليبذل بعضكم لبعض نفسه ، كما بذلت نفسي لكم. وأما حاجتي التي استعنتكم عليها ،
فتدعون لي الله وتجتهدون في الدعاء : أن يؤخِّر أجلي. فلما نَصَبوا أنفسهم للدعاء
وأرادوا أن يجتهدوا ، أخذهم النوم حتى
__________
(1) في المطبوعة : " وصنع " بالواو ، وأثبت ما في المخطوطة ، وتاريخ
الطبري.
(9/368)
لم يستطيعوا دعاءً. فجعل يوقظهم ويقول
: سبحان الله! ما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها! (1) قالوا : والله ما ندري
ما لنا! لقد كنا نسمر فنكثر السَّمَر ، وما نطيق الليلة سمرًا ، وما نريد دعاء إلا
حيل بيننا وبينه! فقال : يُذْهَب بالراعي وتتفرق الغنم! وجعل يأتي بكلام نحو هذا
ينعَى به نفسه. ثم قال : الحقَّ ، ليكفرنَّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات
، وليبيعنِّي أحدكم بدراهم يسيرة ، وليأكلن ثمني! فخرجوا فتفرقوا ، (2) وكانت
اليهود تطلبه ، فأخذوا شمعون أحد الحواريين ، فقالوا : هذا من أصحابه! فجحد وقال :
ما أنا بصاحبه! فتركوه ، ثم أخذه آخرون فجحد كذلك. ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه ،
فلما أصبح أتى أحدُ الحواريين إلى اليهود فقال : ما تجعلون لي إن دللتكم على
المسيح ؟ فجعلوا له ثلاثين درهمًا ، فأخذها ودلَّهم عليه. وكان شبِّه عليهم قبل
ذلك ، فأخذوه فاستوثقوا منه ، وربطوه بالحبل ، فجعلوا يقودونه ويقولون له : أنت
كنت تحيي الموتى ، وتنتهر الشيطان ، وتبرئ المجنون ، أفلا تنجّي نفسك من هذا الحبل
؟! ويبصقون عليه ، ويلقون عليه الشوك ، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه
عليها ، فرفعه الله إليه ، وصلبوا ما شبِّه لهم ، فمكث سبعًا.
ثم إنّ أمَّه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون ، جاءتا
تبكيان حيث المصلوب ، (3) فجاءهما عيسى فقال : علام تبكيان ؟ قالتا : عليك! فقال :
إني قد رفعني الله إليه ، ولم يصبني إلا خير ، وإن هذا شيء شبِّه لهم ،
__________
(1) في المطبوعة : " أما تصبرون " ، وأثبت ما في التاريخ والمخطوطة.
(2) في المطبوعة : " وتفرقوا " بالواو ، وأثبت ما في التاريخ والمخطوطة.
(3) في المطبوعة " حيث كان المصلوب " ، وفي التاريخ : " عند المصلوب
" ، وفي المخطوطة " حيث " غير منقوطة ، وعليها حرف (ط) ، كأن
الناسخ عدها خطأ ، لقلة إضافة " حيث " إلى الاسم المفرد ، لأنها تضاف
إلى الجملة الفعلية والجملة الإسمية ، ولكن لإضافتها إلى المفرد شواهد كثيرة ،
منها قول الشاعر : وَنَحْنُ سَقَيْنَا المَوْتَ بِالسَّيْفِ مَعْقِلا ... وقَدْ
كانَ مِنْهُمْ حَيْثُ ليُّ العَمَائِمِ
(9/369)
فأْمُرَا الحواريين أن يلقوني إلى مكان
كذا وكذا. فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر. وفقَد الذي كان باعه ودلَّ عليه اليهود ،
(1) فسأل عنه أصحابه ، فقالوا : إنه ندم على ما صنع ، فاختنق وقتل نفسه. فقال : لو
تابَ لتابَ الله عليه! ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له : يُحَنَّى (2) فقال : هو
معكم ، فانطلقوا ، فإنه سيصبح كلّ إنسان منكم يحدِّث بلغة قوم ، فلينذِرْهم
وَلْيدعهم. (3)
* * *
وقال آخرون : بل سأل عيسى من كان معه في البيت أن يلقى على بعضهم شَبهه ، فانتدب
لذلك رجل ، فألقي عليه شبهه ، فقتل ذلك الرجل ، ورفع عيسى ابن مريم عليه السلام.
*ذكر من قال ذلك :
10781 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه " إلى
قوله : " وكان الله عزيزًا حكيمًا " ، أولئك أعداء الله اليهود ائتمروا
بقتل عيسى ابن مريم رسول الله ، (4) وزعموا أنهم قتلوه وصلبوه. وذكر لنا أن نبي
الله عيسى ابن مريم قال لأصحابه : أيكم يُقْذف عليه شبهي ، فإنه مقتول ؟ فقال رجل
من أصحابه : أنا ، يا نبي الله! فقتل ذلك الرجل ، ومنع الله نبيه ورفعه إليه.
10782 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " ، قال : ألقي
شبهه على رجل من الحواريين فقتل. وكان عيسى ابن مريم عرض ذلك عليهم ، فقال : أيكم
ألقي شبهي عليه ، وله الجنة ؟ فقال رجل : عليَّ.
__________
(1) " فقده " و " افتقده " : لم يجده ، فسأل عنه.
(2) في التاريخ : " يقال له يحيى " .
(3) الأثر : 10780 - رواه أبو جعفر في التاريخ 2 : 22 ، 23.
(4) في المطبوعة : " اشتهروا بقتل عيسى " ، ولا معنى لها هنا ، وهي في
المخطوطة غير بينة الحروف ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(9/370)
10783 - حدثنا محمد بن الحسين قال ،
حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أن بني إسرائيل حَصروا عيسى
وتسعةَ عشر رجلا من الحواريين في بيت ، فقال عيسى لأصحابه : من يأخذ صورتي فيقتل
وله الجنة ؟ فأخذها رجل منهم ، وصُعِد بعيسى إلى السماء. فلما خرج الحواريون
أبصروهم تسعة عشر ، فأخبروهم أن عيسى عليه السلام قد صُعِد به إلى السماء ، فجعلوا
يعدّون القوم فيجدونهم ينقصون رجلا من العدَة ، ويرون صورة عيسى فيهم ، فشكّوا
فيه. وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى وصلبوه. فذلك قول الله تبارك وتعالى
: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " ، إلى قوله : " وكان الله
عزيزًا حكيمًا " .
10784 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن القاسم بن أبي بزة : أن عيسى ابن مريم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ؟
فقال رجل من أصحابه : أنا ، يا رسول الله! فألقي عليه شبهه فقتلوه. فذلك قوله :
" وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " .
10785 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كان اسم ملك بني
إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله ، رجلا منهم يقال له داود. فلما أجمعوا لذلك منه
، لم يَفْظَعْ عبدٌ من عباد الله بالموت فيما ذكر لي فظَعَه ، (1) ولم يجزع منه
جزعه ، ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءَه ، حتى إنه ليقول ، فيما يزعمون : "
اللهم إن كنت صارفًا هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني! " ، وحتى إن جلده
من كَرْب ذلك ليتفصَّد دمًا. فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه
هو وأصحابه ، وهم ثلاثة عشر بعيسى. فلما أيقن أنهم داخلون عليه ، قال لأصحابه من
الحواريين (2) وكانوا اثني عشر رجلا
__________
(1) " فظع بالأمر يفظع فظعًا (مثل فرح ، يفرح ، فرحا) : كرهه واستبشعه ورآه
فظيعًا.
(2) قول المسيح لأصحابه من الحواريين ، سيأتي في الفقرة التي تلي الفقرة الآتية ،
وذلك قوله : " يا معشر الحواريين ، أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة " .
وما بين الكلامين ، فصل فيه ذكر عدة الحواريين.
(9/371)
فطرس ، (1) ويعقوب بن زبدي ، ويحنس أخو
يعقوب ، وأندراييس ، (2) وفيلبس ، وأبرثلما ، ومتى ، وتوماس ، ويعقوب بن حلفيا ،
(3) وتداوسيس ، وقنانيا ، (4) ويودس زكريا يوطا. (5)
قال ابن حميد ، قال سلمة ، قال ابن إسحاق : وكان فيهم ، فيما ذكر لي ، رجل اسمه
سرجس ، فكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى ، جحدتْه النصارى ، وذلك أنه هو الذي شبِّه
لليهود مكان عيسى. قال : فلا أدري ما هو ؟ من هؤلاء الاثني عشر ، أم كان ثالث عشر
، فجحدوه حين أقرُّوا لليهود بصلب عيسى ، وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه
وسلم من الخبر عنه. فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى
أربعة عشر ، وإن كانوا اثني عشر ، فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى ثلاثة
عشر.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني رجل كان نصرانيًّا
فأسلم : أن عيسى حين جاءَه من الله : " إني رافعك إليَّ " قال : يا معشر
الحواريين ، أيُّكم يحبّ أن يكون رفيقي في الجنة ، على أن يشبه للقوم في صورتي
فيقتلوه مكاني ؟ (6) فقال سرجس : أنا ، يا روح الله! قال : فاجلس في مجلسي.
__________
(1) في المطبوعة : " بطرس " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " أندراوس " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " حلقيا " ، وفي المخطوطة بالفاء.
(4) في المطبوعة : " فتاتيا " ، والمخطوطة أشبه بأن تكون كما نقطتها.
(5) سأذكر هذه الأسماء ، كما هي في كتب القوم ، من الإصحاح العاشر من إنجيل متى ،
على تتابعها هنا ، وهي كما يلي : (بطرس) ، و(يعقوب بن زبدي) ، و(يوحنَّا) أخو
يعقوب ، و(أندارَاوس) - أخو بطرس - ، و(فيلبس) ، و(برثولماوس) ، و(متى) ، و(توما)
، و(يعقوب بن حلفي) و(لباوس) ، الملقب (تدَّاوس) ، و (سمعان القانوي) ، و(يهوذا
الأسخريوطي).
(6) في المطبوعة : " حتى يشبه للقوم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/372)
فجلس فيه ، ورُفع عيسى صلوات الله
عليه. فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه ، فكان هو الذي صلبوه وشُبِّه لهم به. وكانت
عِدّتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة ، قد رأوهم وأحصوا عدّتهم. (1) فلما دخلوا عليه
ليأخذوه ، وجدوا عيسى فيما يُرَوْن وأصحابه ، وفقدوا رجلا من العدة ، فهو الذي
اختلفوا فيه ، وكانوا لا يعرفون عيسى ، حتى جعلوا ليودس زكريا يوطا ثلاثين درهمًا
على أن يدلَّهم عليه ويعرِّفهم إياه ، فقال لهم : إذا دخلتم عليه ، فإني سأقبله ،
وهو الذي أقبِّل ، فخذوه. فلما دخلوا عليه وقد رُفع عيسى ، رأى سرجس في صورة عيسى
، فلم يشكِّك أنه هو عيسى ، (2) فأكبَّ عليه فقبَّله ، فأخذوه فصلبوه. ثم إن يودس
زكريا يوطا ندم على ما صنع ، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه. وهو ملعون في النصارى ،
وقد كان أحد المعدودين من أصحابه. وبعض النصارى يزعم أن يودس زكريا يوطا هو الذي
شبه لهم ، فصلبوه وهو يقول : " إني لست بصاحبكم! أنا الذي دللتكم عليه "
! والله أعلم أيُّ ذلك كان.
10786 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج :
بلغنا أن عيسى ابن مريم قال لأصحابه : أيُّكم ينتدب فيُلقَى عليه شبهي فيقتل ؟
فقال رجل من أصحابه : أنا ، يا نبي الله. فألقي عليه شبهه فقتل ، ورفع الله نبيّه
إليه.
10787 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قوله : " شبه لهم " ، قال : صلبوا رجلا غير عيسى ،
يحسبونه إيّاه.
10788 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " ولكن شبه لهم " ، فذكر نحوه. (3)
__________
(1) في المطبوعة : " فأحصوا " بالفاء ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " فلم يشك " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " فذكر مثله " .
(9/373)
10789 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : صلبوا رجلا شبَّهوه بعيسى
، يحسبونه إياه ، ورفع الله إليه عيسى حيًّا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب ، أحدُ القولين اللذين ذكرناهما عن وهب
بن منبه : (1) من أن شَبَه عيسى ألقي على جميع من كان في البيت مع عيسى حين أحيط
به وبهم ، من غير مسألة عيسى إياهم ذلك. ولكن ليخزي الله بذلك اليهود ، وينقذ به
نبيه عليه السلام من مكروهِ ما أرادوا به من القتل ، ويبتلي به من أراد ابتلاءه من
عباده في قِيله في عيسى ، وصدق الخبر عن أمره. أو : القول الذي رواه عبد الصمد
عنه. (2)
وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب ، لأن الذين شهدوا عيسى من الحواريين ، لو
كانوا في حال ما رُفع عيسى وأُلقي شبهه على من ألقي عليه شَبَهه ، كانوا قد عاينوا
وهو يرفع من بينهم ، (3) وأثبتوا الذي ألقي عليه شبهه ، وعاينوه متحوِّلا في صورته
بعد الذي كان به من صورة نفسه بمحضَرٍ منهم ، لم يخفَ ذلك من أمر عيسى وأمر من
ألقي عليه شبهه عليهم ، مع معاينتهم ذلك كله ، ولم يلتبس ولم يشكل عليهم ، وإن
أشكل على غيرهم من أعدائهم من اليهود أن المقتول والمصلوب كان غير عيسى ، وأن عيسى
رفع من بينهم حيًّا.
وكيف يجوز أن يكون كان أشكل ذلك عليهم ، وقد سمعوا من عيسى مقالته : " من
يلقى عليه شبهي ، ويكون رفيقي في الجنة " ، إن كان قال لهم ذلك ، وسمعوا
__________
(1) هو الأثر رقم : 10779.
(2) هو الأثر رقم : 10780 ، وكان في المخطوطة " الذي رواه عبد العزيز عنه
" ، وليس في الرواة عن ابن منبه فيما سلف " عبد العزيز " بل "
عبد الصمد بن معقل " ، وكأنه سهو من الناسخ ، وعجلة أخذته.
(3) في المطبوعة : " عاينوا عيسى وهو يرفع " بالزيادة ، وأثبت ما في
المخطوطة ، فهو مستقيم.
(9/374)
جواب مُجيبه منهم : " أنا "
، وعاينوا تحوُّل المجيب في صورة عيسى بعقب جوابه ؟ ولكن ذلك كان إن شاء الله على
نحو ما وصف وهب بن منبه : إما أن يكون القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت الذي
رفع منه من حواريه ، حوَّلهم الله جميعًا في صورة عيسى حين أراد الله رفعه ، فلم
يثبتوا عيسى معرفةً بعينه من غيره لتشابه صور جميعهم ، فقتلت اليهود منهم من قتلت
وهم يُرَونه بصورة عيسى ، ويحسبونه إياه ، لأنهم كانوا به عارفين قبل ذلك. وظنّ
الذين كانوا في البيت مع عيسى مثل الذي ظنت اليهود ، لأنهم لم يميِّزوا شخصَ عيسى
من شخص غيره ، لتشابه شخصه وشخص غيره ممن كان معه في البيت. فاتفقوا جميعهم يعني :
اليهود والنصارى (1) من أجل ذلك على أن المقتول كان عيسى ، ولم يكن به ، ولكنه
شُبِّه لهم ، كما قال الله جل ثناؤه : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم
" .
أو يكون الأمر في ذلك كان على نحو ما روى عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه : أن
القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت ، تفرقوا عنه قبل أن يدخل عليه اليهود ، وبقي
عيسى ، وألقي شبهه على بعض أصحابه الذين كانوا معه في البيت بعد ما تفرق القوم
غيرَ عيسى ، وغيرَ الذي ألقي عليه شَبهه. ورفع عيسى ، فقتل الذي تحوّل في صورة
عيسى من أصحابه ، وظن أصحابُه واليهود أن الذي قتل وصلب هو عيسى ، لما رأوا من
شبهه به ، وخفاء أمر عيسى عليهم. لأن رفعه وتحوّل المقتول في صورته ، كان بعد تفرق
أصحابه عنه ، وقد كانوا سمعوا عيسى من الليل ينعَى نفسه ، ويحزن لما قد ظنَّ أنه
نازل به من الموت ، فحكوا ما كان عندهم حقًّا ، والأمر عند الله في الحقيقة بخلاف
ما حكوا. فلم يستحق الذين حكوا ذلك من حواريّيه أن يكونوا كذبة ، إذ حكوا ما كان
حقًّا عندهم في الظاهر ، (2)
__________
(1) في المطبوعة : " أعني " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " أو حكوا " ، وفي المخطوطة : " إذا حكوا "
، والصواب ما أثبت.
(9/375)
وإن كان الأمر كان عند الله في الحقيقة
بخلاف الذي حكوا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا
(157) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإنّ الذين اختلفوا فيه " ،
اليهودَ الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله. وذلك أنهم كانوا قد عرفوا
عدة من في البيت قبل دخولهم ، فيما ذكر. فلما دخلوا عليهم ، فقدوا واحدًا منهم ،
فالتبس أمرُ عيسى عليهم بفقدهم واحدًا من العدَّة التي كانوا قد أحصوها ، وقتلوا
من قتلوا على شك منهم في أمر عيسى.
وهذا التأويل على قول من قال : لم يفارق الحواريون عيسى حتى رفع ودخل عليهم
اليهود.
* * *
وأما تأويله على قول من قال : تفرَّقوا عنه من الليل ، فإنه : " وإن الذين
اختلفوا " ، في عيسى ، هل هو الذي بقي في البيت منهم بعد خروج من خرج منهم من
العدَّة التي كانت فيه ، أم لا ؟ " لفي شك منه " ، يعني : من قتله ،
لأنهم كانوا أحصوا من العدّة حين دخلوا البيت أكثر ممن خرج منه ومن وجد فيه ،
فشكوا في الذي قتلوه : هل هو عيسى أم لا ؟ من أجل فقدهم من فقدوا من العدد الذي
كانوا أحصوه ، ولكنهم قالوا : " قتلنا عيسى " ، لمشابهة المقتول عيسى في
الصورة. يقول الله جل ثناؤه : " ما لهم به من علم " ، يعني : أنهم قتلوا
من قتلوه على شك منهم فيه واختلافٍ ، هل هو عيسى أم هو غيره ؟ من غير أن يكون لهم
__________
(1) في المخطوطة : " وإن كان الأمر عند الله " ، حذف " كان "
الثانية ، وقد أثبتها ناسخ المخطوطة في هامش النسخة.
(9/376)
بمن قتلوه علم ، من هو ؟ هو عيسى أم هو
غيره ؟ " إلا اتباع الظن " ، يعني جل ثناؤه : ما كان لهم بمن قتلوه من
علم ، ولكنهم اتبعوا ظنهم فقتلوه ، ظنًّا منهم أنه عيسى ، وأنه الذي يريدون قتله ،
ولم يكن به " وما قتلوه يقينًا " ، يقول : وما قتلوا - هذا الذي اتبعوه
في المقتول الذي قتلوه وهم يحسبونه عيسى - يقينًا أنه عيسى ولا أنه غيره ، ولكنهم
كانوا منه على ظنّ وشبهةٍ.
* * *
وهذا كقول الرجل للرجل : " ما قتلت هذا الأمر علمًا ، وما قتلته يقينًا
" ، إذا تكلَّم فيه بالظن على غير يقين علم. فـ " الهاء " في قوله
: " وما قتلوه " ، عائدة على " الظن " . (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك.
10790 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وما قتلوه يقينًا " ، قال :
يعني لم يقتلوا ظنَّهم يقينًا.
10791 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يعلى بن عبيد ، عن جويبر في
قوله : " وما قتلوه يقينًا " ، قال : ما قتلوا ظنهم يقينًا.
* * *
وقال السدي في ذلك ما : -
10792 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وما قتلوه يقينًا " ، وما قتلوا أمره يقينًا أن الرجل هو عيسى
، " بل رفعه الله إليه " .
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 294.
(9/377)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
القول في تأويل قوله : { بَلْ رَفَعَهُ
اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) }
قال أبو جعفر : أما قوله جل ثناؤه : " بل رفعه الله إليه " ، فإنه يعني
: بل رفع الله المسيح إليه. يقول : لم يقتلوه ولم يصلبوه ، ولكن الله رفعه إليه
فطهَّره من الذين كفروا.
* * *
وقد بيّنا كيف كان رفع الله إياه إليه فيما مضى ، وذكرنا اختلاف المختلفين في ذلك
، والصحيحَ من القول فيه بالأدلة الشاهدة على صحته ، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وأما قوله : " وكان الله عزيزًا حكيمًا " ، فإنه يعني : ولم يزل الله
منتقمًا من أعدائه ، (2) كانتقامه من الذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم ، وكلعنه الذين
قصّ قصتهم بقوله : " فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله " "
حكيمًا " ، يقول : ذا حكمة في تدبيره وتصريفه خلقَه في قضائه. (3) يقول :
فاحذروا أيها السائلون محمدًا أن ينزل عليكم كتابًا من السماء ، من حلول عقوبتي
بكم ، كما حل بأوائلكم الذين فعلوا فعلكم ، في تكذيبهم رسلي وافترائهم على أوليائي
، وقد : -
10793 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا محمد بن إسحاق بن أبي سارة الرُّؤَاسيّ ، عن
الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " وكان الله
عزيزًا حكيمًا " ، قال : معنى ذلك : أنه كذلك. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 6 : 455 - 460.
(2) انظر تفسير " عزيز " و " عزة " فيما سلف ص : 319 ، تعليق
: 5 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) الأثر : 10793 - " محمد بن إسحاق بن أبي سارة الرؤاسي " ، لم أعرف
له ترجمة ، ولا وجدت له ذكرًا فيما بين يدي من الكتب ، وأخشى أن يكون في اسمه
تحريف أو تصحيف. وقول ابن عباس في تفسير الآية " معنى ذلك أنه كذلك " ،
يريد أن الله كان ولم يزل عزيزًا حكيمًا.
وعند هذا الموضع انتهى الجزء السابع من مخطوطتنا وفي آخرها ما نصه :
" نَجَز الجزء السابع من كتاب البيان ، بحمد الله وعونه وحُسن توفيقه ، وصلى
الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الحمد لله ربّ العالمين
يتلوه في أول الثامن إن شاء الله تعالى ، القول في تأويل قوله :
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)
وكان الفراغ منه في شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبعمائة.
غفر الله لمؤلفه ولصاحبه ، ولكاتبه ، ولمن طالعَ فيه ودعا لهم
بالمغفرة ورضى الله تعالى والجنة ، ولجميع المسلمين.
آمين ، ياربّ العالمين " .
(9/378)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
(1) القول في تأويل قوله : { وَإِنْ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك :
فقال بعضهم : معنى ذلك : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به " ، يعني :
بعيسى " قبل موته " ، يعني : قبل موت عيسى يوجِّه ذلك إلى أنّ جميعهم
يصدِّقون به إذا نزل لقتل الدجّال ، فتصير الملل كلها واحدة ، وهي ملة الإسلام
الحنيفيّة ، دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) هذا بدء الجزء الثامن من المخطوطة ، وأوله :
" بسم الله الرحمن الرحيم "
" رَبِّ يَسِّر برَحْمَتِك يا كَرِيم " .
(9/379)
*ذكر من قال ذلك :
10794 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ،
عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته
" ، قال : قبل موت عيسى ابن مريم.
10795 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ،
قال : قبل موت عيسى.
10796 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن أبي مالك
في قوله : " إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : ذلك عند نزول عيسى ابن
مريم ، لا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به. (1)
10797 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال ، حدثنا حماد بن سلمة ،
عن حميد ، عن الحسن قال : " قبل موته " ، قال : قبل أن يموت عيسى ابن
مريم.
10798 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن في قوله :
" وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : قبل موت عيسى.
والله إنه الآن لحيٌّ عند الله ، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون.
10799 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله
: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، يقول : قبل موت عيسى.
10800 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن
قتادة : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : قبل موت
عيسى. (2)
__________
(1) الأثر : 10796 - في المخطوطة ، هذا الأثر مبتور ، مع جريانه في سياق الكتابة.
(2) الأثر : 10800 - هذا الأثر مكرر الذي يليه مختصرًا ، وليس في المخطوطة ، فأخشى
أن يكون من سهو الناسخ ، كتب ، ثم وقف ، ثم أعاد الكتابة.
(9/380)
10801 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ،
أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : " وإن من أهل الكتاب إلا
ليؤمنن به قبل موته " ، قال : قبل موت عيسى ، إذا نزل آمنت به الأديان كلها.
10802 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس
، عن الحسن قال : قبل موت عيسى.
10803 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن الحسن : " إلا
ليؤمنن به قبل موته " ، قال عيسى ، ولم يمت بعدُ.
10804 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن حصين ، عن أبي مالك قال :
لا يبقى أحدٌ منهم عند نزول عيسى إلا آمن به.
10805 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حصين ، عن أبي مالك قال :
قبل موت عيسى.
10806 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وإن
من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : إذا نزل عيسى ابن مريم فقتل
الدجال ، لم يبق يهوديٌّ في الأرض إلا آمن به. قال : فذلك حين لا ينفعهم الإيمان.
(1)
10807 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته
" ، يعني : أنه سيدرك أناسٌ من أهل الكتاب حين يبعث عيسى ، فيؤمنون به ،
" ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا " .
10808 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن
منصور بن زاذان ، عن الحسن أنه قال في هذه الآية : " وإن من أهل
__________
(1) في المطبوعة : " وذلك حين .. " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/381)
الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته "
قال أبو جعفر : أظنه إنما قال : إذا خرج عيسى آمنت به اليهود.
* * *
وقال آخرون : يعني بذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى ، قبل موت الكتابي.
يوجِّه ذلك إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل ، (1) لأن كل من نزل به الموت لم
تخرج نفسُه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه.
[ذكر من قال ذلك] : (2)
10809 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل
موته " ، قال : لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى.
10810 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : "
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : لا تخرج نفسه حتى يؤمن
بعيسى ، وإن غرق ، أو تردَّى من حائط ، أو أيّ ميتة كانت.
10811 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إلا ليؤمنن به قبل موته " ، كل صاحب كتاب
ليؤمنن به ، بعيسى ، قبل موته ، موتِ صاحب الكتاب. (3)
10812 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " ليؤمنن به " ، كل صاحب كتاب ، يؤمن بعيسى
__________
(1) في المطبوعة : " ذكر من كان يوجه ذلك ... " ، وأثبت ما في المخطوطة
، وانظر التعليق التالي.
(2) زدت هذه الزيادة بين القوسين ، على نهج أبي جعفر في سائر تفسيره.
(3) في المخطوطة : " قبل موته صاحب صاحب كتاب " ، اجتهد الناشر الأول ،
ولو كتب " قبل موت كل صاحب كتاب " ، لكان صوابًا أيضًا.
(9/382)
" قبل موته " ، قبل موت صاحب
الكتاب قال ابن عباس : لو ضُربت عنقه ، لم تخرج نفسُه حتى يؤمن بعيسى.
10813 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن
واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لا يموت اليهودي حتى يشهد
أنّ عيسى عبد الله ورسوله ، ولو عُجِّل عليه بالسِّلاح.
10814 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال ، حدثنا عتاب بن بشير ، عن
خصيف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به
قبل موته " ، قال : هي في قراءة أبيّ : ( قبل موتهم ) ، ليس يهودي يموت أبدًا
حتى يؤمن بعيسى. قيل لابن عباس : أرأيت إن خرّ من فوق بيت ؟ قال : يتكلم به في الهُوِيِّ.
(1) فقيل : أرأيت إن ضربَ عنق أحد منهم ؟ (2) قال : يُلجلج بها لسانُهُ. (3)
10815 - حدثني المثنى قال ، حدثني أبو نعيم الفضل بن دكين قال ، حدثنا سفيان ، عن
خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته
" ، قال : لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ابن مريم. قال : وإن ضُرب بالسيف ،
يتكلم به. قال : وإن هوى ، يتكلم به وهو يَهْوِي. (4)
10816 - وحدثني ابن المثنى قال ، حدثني محمد بن جعفر قال ، حدثنا
__________
(1) " الهوي " (بضم الهاء ، وكسر الواو ، والياء المشددة) ، مصدر "
هوى يهوي " ، إذا سقط من فوق إلى أسفل.
(2) في المطبوعة : " إن ضربت عنقه " ، و " العنق " يذكر ويؤنث
، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) " لجلج " أي تردد بها وأدارها على لسانه. وفي المطبوعة : "
يتلجلج " بزيادة التاء ، وهي بمعناها.
(4) في المطبوعة ، غير ما في المخطوطة وزاد فيها ، وجعل ذلك سؤالا وجوابًا ، وكتب
: " قيل : وإن ضرب بالسيف ؟ قال : يتكلم به. قيل : وإن هوى ؟ قال : يتكلم به
وهو يهوي " ، وأجود ذلك ما في المخطوطة.
(9/383)
شعبة ، عن أبي هارون الغنوي ، عن عكرمة
، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل
موته " ، قال : لو أن يهوديًّا وقع من فوق هذا البيت ، لم يمت حتى يؤمن به
يعني : بعيسى. (1)
10817 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الصمد قال ، حدثنا شعبة ، عن مولى لقريش
قال : سمعت عكرمة يقول : لو وقع يهوديٌّ من فوق القَصر ، لم يبلغ إلى الأرض حتى
يؤمن بعيسى.
10818 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم
الرماني ، عن مجاهد : " ليؤمنن به قبل موته " ، قال : وإن وقع من فوق
البيت ، لا يموت حتى يؤمن به. (2)
10819 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن منصور ، عن
مجاهد : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " . قال : لا يموت
رجل من أهل الكتاب حتى يؤمن به ، وإن غرق ، أو تردَّى ، أو مات بشيء.
10820 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله
: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : لا تخرج نفسه
حتى يؤمن به.
__________
(1) الأثر : 10816 - " أبو هارون الغنوي " ، هو : " إبراهيم بن
العلاء " . روى عن عكرمة ، وأبي مجلز ، وحطان بن العلاء. وروى عنه شعبة ،
وحماد بن سلمة ، ويزيد بن إبراهيم ، ويزيد بن زريع ، وابن المبارك ، مترجم في
الكبير 1 / 1 / 307 ، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 120 ، ولم يذكرا فيه جرحًا. وأشار
إليه الحافظ ابن حجر في باب الكنى من تهذيب التهذيب ، وقال : " تقدم " ،
ولم أجده في الأعلام ، فكأن في التهذيب نقصًا.
(2) الأثر : 10818 - " أبو هاشم الرماني الواسطي " ، قيل اسمه : "
يحيى بن دينار " وقيل : " ابن الأسود " ، وقيل : " ابن أبي
الأسود " ، وقيل : " ابن نافع " . رأى أنسًا ، وروي عن أبي وائل ،
وأبي مجلز ، وأبي العالية ، وعكرمة ، وغيرهم. كان فقيهًا صدوقًا ، ثقة. مترجم في
التهذيب.
(9/384)
10821 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا
أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به
قبل موته " ، قال : لا يموت أحدهم حتى يؤمن به يعني : بعيسى وإن خَرَّ من فوق
بيت ، يؤمن به وهو يهوِي.
10822 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك قال :
ليس أحدٌ من اليهود يخرج من الدنيا حتى يؤمن بعيسى.
10823 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن فرات القزاز ، عن الحسن
في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : لا
يموت أحد منهم حتى يؤمن بعيسى صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت [يعني : اليهود
والنصارى]. (1)
10824 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا إسرائيل ، عن
فرات ، عن الحسن في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته
" ، قال : لا يموت أحدٌ منهم حتى يؤمن بعيسى قبل أن يموت. (2)
10825 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا الحكم بن عطية ، عن
محمد بن سيرين : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال :
موتِ الرجل من أهل الكتاب. (3)
10826 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : قال ابن
عباس : ليس من يهودي [يموت] حتى يؤمن بعيسى ابن مريم. (4)
__________
(1) في المطبوعة : " حتى يؤمن بعيسى ، يعني اليهود والنصارى " ، وأثبت
ما في المخطوطة ، ولكن ليس فيها : " يعني اليهود والنصارى " ، فتركتها
على حالها من المطبوعة ، ووضعتها بين قوسين.
(2) الأثر : 10824 - هذا الأثر غير موجود في المخطوطة.
(3) الأثر : 10825 - " الحكم بن عطية العيشي " . متكلم فيه ، روى عن
عاصم الأحول ، والحسن ، وابن سيرين ، وروى عنه ابن المبارك ، وعبد الرحمن بن مهدي
، وأبو نعيم ، وغيرهم. مترجم في التهذيب.
(4) في المطبوعة : " ليس من يهودي ولا نصراني يموت حتى يؤمن " ، وفي
المخطوطة : " ليس من يهودي ولا نصراني حتى يؤمن " ، وضرب الناسخ على
" ولا نصراني " ، وليس في المخطوطة " يموت " ، فتركتها على
حالها من المطبوعة ، ووضعتها بين قوسين.
(9/385)
فقال له رجل من أصحابه : كيف ، والرجل
يغرق ، أو يحترق ، أو يسقط عليه الجدار ، أو يأكله السَّبُع ؟ فقال : لا تخرج روحه
من جسده حتى يقذف فيه الإيمان بعيسى.
10827 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن
سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به
قبل موته " ، قال : لا يموت أحد من اليهود حتى يشهد أن عيسى رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
10828 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا يعلى ، عن جويبر في قوله :
" ليؤمنن به قبل موته " ، قال : في قراءة أبيّ : ( قبل موتهم ) . (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم ،
قبل موت الكتابي.
*ذكر من قال ذلك :
10829 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن حميد
قال ، قال عكرمة : لا يموت النصراني واليهوديُّ حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم
يعني في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصحة والصواب ، قول من قال : تأويل ذلك : "
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى " .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال ، لأن الله جل ثناؤه حكم لكل مؤمن
بمحمد صلى الله عليه وسلم بحكم أهل الإيمان ، في الموارثة والصلاة عليه ،
__________
(1) الأثر : 10828 - انظر الأثر السالف رقم : 10814.
(9/386)
وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة.
فلو كان كل كتابيّ يؤمن بعيسى قبل موته ، لوجب أن لا يرث الكتابيّ إذا مات على
مِلّته إلا أولاده الصغار ، أو البالغون منهم من أهل الإسلام ، إن كان له ولد صغير
أو بالغ مسلم. وإن لم يكن له ولد صغير ولا بالغٌ مسلم ، كان ميراثه مصروفًا حيث
يصرف مال المسلم يموت ولا وارث له ، وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه
وغَسْله وتقبيره. (1) لأن من مات مؤمنًا بعيسى ، فقد مات مؤمنًا بمحمد وبجميع
الرسل. وذلك أن عيسى صلوات الله عليه ، جاء بتصديق محمد وجميع المرسلين صلوات الله
عليهم ، فالمصدّق بعيسى والمؤمن به ، مصدق بمحمد وبجميع أنبياء الله ورسله. كما أن
المؤمن بمحمد ، مؤمن بعيسى وبجميع أنبياء الله ورسله. فغير جائز أن يكون مؤمنًا
بعيسى من كان بمحمد مكذِّبًا.
* * *
فإن ظن ظانٌّ أنّ معنى إيمان اليهودي بعيسى الذي ذكره الله في قوله : " وإن
من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، إنما هو إقراره بأنه لله نبيٌّ
مبعوث ، دون تصديقه بجميع ما أتى به من عند الله فقد ظن خطأ.
وذلك أنه غير جائز أن يكون منسوبًا إلى الإقرار بنبوّة نبي ، من كان له مكذبًا في
بعض ما جاء به من وحْي الله وتنزيله. بل غير جائز أن يكون منسوبًا إلا الإقرار
بنبوة أحد من أنبياء الله ، لأن الأنبياء جاءت الأمم بتصديق جميع أنبياء الله
ورسله. فالمكذب بعض أنبياء الله فيما أتى به أمّته من عند الله ، مكذِّب جميع
أنبياء الله فيما دعوا إليه من دين الله عبادَ الله. وإذْ كان ذلك كذلك وكان
الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أن كلَّ كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله
__________
(1) قوله : " وتقبيره " أي دفنه حيث يدفن ، وكأنه من ألفاظ الفقهاء على
عهد أبي جعفر ، والذي في اللغة " قبره يقبره " دفنه ، و " أقبره
" جعل له قبرًا. أما " قبر يقبر تقبيرًا " بهذا المعنى ، فلم أجدها
في معاجم اللغة.
(9/387)
عليه وما جاء به من عند الله ، (1)
محكوم له بحكم الملّة التي كان عليها أيام حياته ، (2) غيرُ منقولٍ شيء من أحكامه
في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته ، عما كان عليه في حياته دلَّ الدليل
على أن معنى قول الله : (3) " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته
" ، إنما معناه : إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ، وأن ذلك في خاصٍ من أهل
الكتاب ، ومعنيٌّ به أهل زمان منهم دون أهل كل الأزمنة التي كانت بعد عيسى ، وأن
ذلك كائن عند نزوله ، كالذي : -
10830 - حدثني بشر بن معاذ قال ، حدثني يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبد
الرحمن بن آدم ، عن أبي هريرة : أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال : الأنبياء
إخوة لعَلاتٍ ، أمهاتهم شتى ودينهم واحدٌ. وإنيّ أولى الناس بعيسى ابن مريم ، لأنه
لم يكن بيني وبينه نبيٌّ. وإنه نازلٌ ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، فإنه رجل مربُوع الخَلق
، إلى الحمرة والبياض ، سَبْط الشعر ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بَلل ، بين
ممصَّرتين ، فيدُقّ الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، ويقاتل
الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلَّها غير الإسلام ، ويهلك الله
في زمانه مسيحَ الضلالة الكذابَ الدجال ، وتقع الأمَنَة في الأرض في زمانه ، حتى
ترتع الأسود مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، وتلعب الغِلمان أو
: الصبيان بالحيات ، لا يضرُّ بعضهم بعضًا. ثم يلبث في الأرض ما شاء الله وربما
قال : أربعين سنة ثم يتوفَّى ،
__________
(1) في المطبوعة : " وإذ كان ذلك كذلك كان في إجماع الجميع من أهل الإسلام
على أن كل كتابي .. " غير ما في المخطوطة ، ليصلح الخطأ الذي وقع فيها. كما
سترى في التعليق : 3.
(2) في المطبوعة : " بحكم المسألة التي كان عليها ... " ، والصواب من
المخطوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " أدل الدليل على معنى قول الله " ،
والصواب يقتضي ما أثبت. وسياق العبارة : " وإذ كان ذلك كذلك ، وكان الجميع من
أهل الإسلام مجمعين... دل الدليل على أن معنى قول الله ... إنما معناه ... "
. فهذا هو السياق الذي يدل على صواب ما صححته في المطبوعة والمخطوطة.
(9/388)
ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. (1)
* * *
وأما الذي قال : عنى بقوله : " ليؤمنن به قبل موته " ، ليؤمنن بمحمد صلى
الله عليه وسلم قبلَ موت الكتابي - فمما لا وجه له مفهوم ، لأنه مع فساده من الوجه
الذي دَللنا على فساد قول من قال : " عنى به : ليؤمنن بعيسى قبل موت الكتابي
" يزيده فسادًا أنه لم يجر لمحمد عليه السلام في الآيات التي قبلَ ذلك ذكر ،
فيجوز صرف " الهاء " التي في قوله : " ليؤمنن به " ، إلى أنها
من ذكره. وإنما قوله : " ليؤمنن به " ، في سياق ذكر عيسى وأمه واليهود.
فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره ، إلا بحجة يجب التسليم لها من
دلالة ظاهر التنزيل ، أو خبر عن الرسول تقوم به حُجَّة. فأما الدَّعاوى ، فلا
تتعذر على أحد.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذْ كان الأمر على ما وصفنا (2) : وما من أهل الكتاب
إلا من ليؤمنن بعيسى ، قبل موت عيسى وحذف " مَن " بعد " إلا "
، لدلالة الكلام عليه ، فاستغنى بدلالته عن إظهاره ، كسائر ما قد تقدم من أمثاله
التي قد أتينا على البيان عنها.
* * *
__________
(1) الأثر : 10830 - هذا الحديث ، مضى برقم : 7145 ، من طريق ابن حميد ، عن سلمة ،
عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن قتادة ، بمثله ، إلا بعض اختلاف يسير جدًا
في لفظه. وهو حديث صحيح ، خرجه أخي السيد أحمد في موضعه هناك ، وأشار إلى طريق
الطبري هذه في هذا الموضع ، فراجعه هناك.
(2) في المطبوعة : " ما وصفت " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/389)
القول في تأويل قوله : { وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ويوم القيامة يكون عيسى على أهل الكتاب
" شهيدًا " ، يعني : شاهدًا عليهم بتكذيب من كذَّبه منهم ، وتصديق من
صدقه منهم ، فيما أتاهم به من عند الله ، وبإبلاغه رسالة ربه ، (1) كالذي : -
10831 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج :
" ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا " ، أنه قد أبلغهم ما أُرسل به إليهم.
(2)
10832 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا " ، يقول : يكون عليهم شهيدًا يوم القيامة
على أنه قد بلغ رسالة ربه ، وأقرّ بالعبوديّة على نفسه.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فحرَّمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم
الذي واثقوا ربهم ، وكفروا بآيات الله ، وقتلوا أنبياءهم ، وقالوا البهتان على
مريم ، وفعلوا ما وصفهم الله في كتابه طيباتٍ من المآكل وغيرها ، كانت لهم
__________
(1) انظر تفسير " شهيد " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة : " أرسله به " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/390)
حلالا عقوبة لهم بظلمهم ، الذي أخبر
الله عنهم في كتابه ، (1) كما : -
10833 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " الآية ، عوقب القوم بظلم
ظلموه وبَغْيٍ بَغَوْه ، حرمت عليهم أشياء ببغيهم وبظلمهم.
* * *
وقوله : " وبصدّهم عن سبيل الله كثيرًا " ، يعني : وبصدّهم عبادَ الله
عن دينه وسبله التي شرعَها لعباده ، صدًّا كثيرًا. (2) وكان صدُّهم عن سبيل الله :
بقولهم على الله الباطل ، وادعائهم أن ذلك عن الله ، وتبديلهم كتاب الله ، وتحريف
معانيه عن وجوهه. وكان من عظيم ذلك : جحودهم نبوة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم
، وتركهم بيانَ ما قد علِموا من أمره لمن جَهِل أمره من الناس. (3)
* * *
وبنحو ذلك كان مجاهد يقول :
10834 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثني أبو عاصم قال ، حدثني عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " وبصدّهم عن سبيل الله كثيرًا " ، قال :
أنفسَهم وغيرَهم عن الحق.
10835 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
* * *
وقوله : " وأخذهم الربا " ، وهو أخذهم ما أفضلوا على رءوس أموالهم ،
لفضل تأخير في الأجل بعد مَحِلِّها ، وقد بينت معنى " الربا " فيما مضى
قبل ، بما أغنى عن إعادته. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " هاد " فيما سلف 2 : 143 ، 507 ، 508.
وتفسير " الطيبات " فيما سلف 3 : 301 / 5 : 555 / 6 : 361 / 7 : 424 / 8
: 409.
(2) في المطبوعة : " التي شرحها لعبادة " وهو خطأ ظاهر.
(3) انظر تفسير " الصد " فيما سلف 4 : 300 / 7 : 53 / 8 : 482 ، 513
وتفسير " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير " الربا " فيما سلف 6 : 7 ، 8 ، 13 ، 15 ، 22.
(9/391)
" وقد نهوا عنه " يعني : عن
أخذ الربا.
* * *
وقوله : " وأكلهم أموالَ الناس بالباطل " ، يعني ما كانوا يأخذون من
الرُّشَى على الحكم ، كما وصفهم الله به في قوله : ( وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ
يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [سورة المائدة : 62]. وكان من أكلهم أموال الناس بالباطل ،
ما كانوا يأخذون من أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم ، ثم يقولون : "
هذا من عند الله " ، وما أشبه ذلك من المآكل الخسيسة الخبيثة. فعاقبهم الله
على جميع ذلك ، بتحريمه ما حرَّم عليهم من الطيبات التي كانت لهم حلالا قبل ذلك.
وإنما وصفهم الله بأنهم أكلوا ما أكلوا من أموال الناس كذلك بالباطل ، (1) لأنهم
أكلوه بغير استحقاق ، (2) وأخذوا أموالهم منهم بغير استيجاب.
* * *
وقوله : " وأعتدنا للكافرين منهم عذابًا أليمًا " ، (3) يعني : وجعلنا
للكافرين بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من هؤلاء اليهود ، (4) العذاب
الأليم وهو الموجع (5) من عذاب جهنم عنده ، (6) يصلونها في الآخرة ، إذا وردوا على
ربهم ، فيعاقبهم بها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " أكل الأموال بالباطل " فيما سلف 3 : 548 / 7 : 528 ،
578 / 8 : 216.
(2) في المطبوعة : " بأنهم أكلوه ... " ، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " فقوله : ... " ، والصواب من المخطوطة.
(4) انظر تفسير " أعتد " فيما سلف 8 : 103 ، 355 / 9 : 353.
(5) انظر تفسير " الأليم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(6) في المطبوعة : " من عذاب جهنم عدة يصلونها ... " والصواب من
المخطوطة.
(9/392)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
القول في تأويل قوله : { لَكِنِ
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ
سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) }
قال أبو جعفر : هذا من الله جل ثناؤه استثناء ، استثنَى من أهل الكتاب من اليهود
الذين وصَف صفتهم في هذه الآيات التي مضت ، من قوله : " يسألك أهل الكتاب أن
تُنزل عليهم كتابًا من السماء " .
ثم قال جل ثناؤه لعباده ، مبينًا لهم حكم من قد هداه لدينه منهم ووفقه لرشده : ما
كلُّ أهل الكتاب صفتهم الصفة التي وصفت لكم ، " لكن الراسخون في العلم منهم
" ، وهم الذين قد رَسخوا في العلم بأحكام الله التي جاءت بها أنبياؤه ،
وأتقنوا ذلك ، وعرفوا حقيقته.
* * *
وقد بينا معنى " الرسوخ في العلم " ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
(1)
* * *
" والمؤمنون " يعني : والمؤمنون بالله ورسله ، هم يؤمنون بالقرآن الذي
أنزل الله إليك ، يا محمد ، وبالكتب التي أنزلها على من قبلك من الأنبياء والرسل ،
ولا يسألونك كما سألك هؤلاء الجهلة منهم : (2) أن تنزل عليهم كتابًا من السماء ،
لأنهم قد علموا بما قرأوا من كتب الله وأتتهم به أنبياؤهم ، أنك لله رسول ، واجبٌ
عليهم اتباعك ، لا يَسعهم غير ذلك ، فلا حاجة بهم إلى أن يسألوك آية معجزة ولا
دلالة غير الذي قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم من إخبار أنبيائهم إياهم
__________
(1) انظر تفسير " الراسخون في العلم " فيما سلف 6 : 201 - 208.
(2) في المطبوعة : " كما سأل هؤلاء " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/393)
بذلك ، وبما أعطيتك من الأدلّة على
نبوتك ، فهم لذلك من علمهم ورسوخهم فيه ، يؤمنون بك وبما أنزل إليك من الكتاب ،
وبما أنزل من قبلك من سائر الكتب ، كما : -
10836 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من
قبلك " ، استثنى الله أُثْبِيَّةً من أهل الكتاب ، (1) وكان منهم من يؤمن
بالله وما أنزل عليهم ، وما أنزل على نبي الله ، يؤمنون به ويصدّقون ، ويعلمون أنه
الحق من ربهم.
* * *
ثم اختلف في " المقيمين الصلاة " ، أهم الراسخون في العلم ، أم هم غيرهم
؟.
فقال بعضهم : هم هم.
* * *
ثم اختلف قائلو ذلك في سبب مخالفة إعرابهم إعراب " الراسخون في العلم "
وهما من صفة نوع من الناس.
فقال بعضهم : ذلك غلط من الكاتب ، (2) وإنما هو : لكن الراسخون في العلم منهم
والمقيمون الصلاة.
*ذكر من قال ذلك :
10837 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن سلمة ،
عن الزبير قال : قلت لأبان بن عثمان بن عفان : ما شأنها كتبت :
__________
(1) في المطبوعة : " ثنية " ، ولا معنى لها ، وفي المخطوطة كما كتبتها ،
ولكن أخطأ في نقطها ، ووضع الألف قبلها مضطربة ، كأنه شك في قراءة الكلمة.
و " الأثبية " (بضم الألف وسكون الثاء ، وكسر الباء ، بعدها ياء مفتوحة
مشددة) و " الثبة " (بضم الثاء ، وفتح الباء) : الجماعة من الناس ، وجمع
الأولى " أثابي " (بتشديد الياء) ، وجمع الثانية " ثبات "
(بضم الثاء) و " ثبون " (بضم الثاء وكسرها).
(2) انظر رد أبي جعفر هذه المقالة فيما سيأتي ص : 397 ، 398 ، وهو من أحكم الردود
التي احتكم فيها إلى حسن التمييز.
(9/394)
" لكن الراسخون في العلم منهم
والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة " ؟ قال :
إن الكاتب لما كتب : " لكن الراسخون في العلم منهم " ، حتى إذا بلغ قال
: ما أكتب ؟ قيل له : اكتب : " والمقيمين الصلاة " ، فكتب ما قيلَ له.
10838 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أنه
سأل عائشة عن قوله : " والمقيمين الصلاة " ، وعن قوله : ( إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ ) [سورة المائدة : 69] ،
وعن قوله : ( إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) [سورة طه : 63] ، فقالت : يا ابن أختي
، هذا عمل الكاتب ، (1) أخطئوا في الكتاب.
* * *
وذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود : ( والمقيمون الصلاة ).
* * *
وقال آخرون ، وهو قول بعض نحويي الكوفة والبصرة : " والمقيمون الصلاة "
، من صفة " الراسخين في العلم " ، ولكن الكلام لما تطاول ، واعترض بين
" الراسخين في العلم " ، " والمقيمين الصلاة " ما اعترض من
الكلام فطال ، نصب " المقيمين " على وجه المدح. قالوا : والعرب تفعل ذلك
في صفة الشيء الواحد ونعته ، إذا تطاولت بمدح أو ذم ، خالفوا بين إعراب أوله
وأوسطه أحيانًا ، ثم رجعوا بآخره إلى إعراب أوله. وربما أجروا إعراب آخره على
إعراب أوسطه. وربما أجروا ذلك على نوع واحد من الإعراب. واستشهدوا لقولهم ذلك
بالآيات التي ذكرتها في قوله : (2) ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا
وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ) (3) [سورة البقرة : 177].
__________
(1) في المطبوعة : " عمل الكتاب " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب
محض.
(2) في المطبوعة : " بالآيات التي ذكرناها " ، وهو خطأ محض ، والصواب من
المخطوطة ، ومن مراجعة المرجع الذي أشار إليه.
(3) انظر ما سلف 3 : 352 - 354. ثم انظر معاني القرآن الفراء 1 : 105 - 108.
(9/395)
وقال آخرون : بل " المقيمون
الصلاة " من صفة غير " الراسخين في العلم " في هذا الموضع ، وإن
كان " الراسخون في العلم " من " المقيمين الصلاة " .
* * *
وقال قائلو هذه المقالة جميعًا : موضع " المقيمين " في الإعراب ، خفض.
فقال بعضهم : موضعه خفض على العطف على " ما " التي في قوله : "
يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " ، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة.
* * *
ثم اختلف متأوّلو ذلك هذا التأويل في معنى الكلام. (1)
فقال بعضهم : معنى ذلك : " والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
" ، وبإقام الصلاة. قالوا : ثم ارتفع قوله : " والمؤتون الزكاة " ،
عطفًا على ما في " يؤمنون " من ذكر " المؤمنين " ، كأنه قيل :
والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك ، هم والمؤتون الزكاة.
* * *
وقال آخرون : بل " المقيمون الصلاة " ، الملائكة. قالوا : وإقامتهم
الصلاة ، تسبيحهم ربَّهم ، واستغفارهم لمن في الأرض. قالوا : ومعنى الكلام :
" والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " ، وبالملائكة.
* * *
وقال آخرون منهم : بل معنى ذلك : " والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل
من قبلك " ، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة ، هم والمؤتون الزكاة ، كما قال جل
ثناؤه : ( يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) [سورة التوبة : 61].
* * *
وأنكر قائلو هذه المقالة أن يكون : " المقيمين " منصوبًا على المدح.
وقالوا : إنما تنصب العربُ على المدح من نعت من ذكرته بعد تمام خبره. قالوا : وخبر
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " متأولو ذلك في هذا التأويل " ، و "
في " زائدة من الناسخ بلا شك عندي.
(9/396)
" الراسخين في العلم " قوله
: " أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا " . قال : فغير جائز نصب "
المقيمين " على المدح ، وهو في وسط الكلام ، ولمّا يتمَّ خبر الابتداء.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : لكن الراسخون في العلم منهم ، ومن المقيمين الصلاة.
وقالوا : موضع " المقيمين " ، خفض.
* * *
وقال آخرون : معناه : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك ، وإلى المقيمين الصلاة.
* * *
قال أبو جعفر : وهذا الوجه والذي قبله ، منكرٌ عند العرب ، ولا تكاد العرب تعطف
بظاهر على مكنيٍّ في حال الخفض ، (1) وإن كان ذلك قد جاء في بعض أشعارها. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال عندي بالصواب ، أن يكون " المقيمين " في
موضع خفض ، نسَقًا على " ما " ، التي في قوله : " بما أنزل إليك
وما أنزل من قبلك " وأن يوجه معنى " المقيمين الصلاة " ، إلى
الملائكة.
فيكون تأويل الكلام : " والمؤمنون منهم يؤمنون بما أنزل إليك " ، يا
محمد ، من الكتاب " وبما أنزل من قبلك " ، من كتبي ، وبالملائكة الذين
يقيمون الصلاة. ثم يرجع إلى صفة " الراسخين في العلم " ، فيقول : لكن
الراسخون في العلم منهم والمؤمنون بالكتب والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم
الآخر.
* * *
وإنما اخترنا هذا على غيره ، لأنه قد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب(
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) ، وكذلك هو في مصحفه ، فيما ذكروا. فلو كان ذلك خطأ
من الكاتب ، لكان الواجب أن يكون في كل المصاحف غير مصحفنا الذي
__________
(1) في المطبوعة : " لظاهر " باللام ، والصواب من المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 7 : 519 ، 520.
(9/397)
كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه
بخلاف ما هو في مصحفنا. وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أبيّ في ذلك ، ما يدل على أنّ الذي
في مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ. مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخطِّ ، لم يكن
الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمون من
علَّموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن ، ولأصلحوه بألسنتهم ، ولقَّنوه الأمة
تعليمًا على وجه الصواب. (1)
وفي نقل المسلمين جميعًا ذلك قراءةً ، على ما هو به في الخط مرسومًا ، أدلُّ
الدليل على صحة ذلك وصوابه ، وأن لا صنع في ذلك للكاتب. (2)
* * *
وأما من وجَّه ذلك إلى النصب على وجه المدح لـ " الراسخين في العلم " ،
وإن كان ذلك قد يحتمل على بُعدٍ من كلام العرب ، لما قد ذكرت قبل من العلة ، (3)
وهو أن العرب لا تعدِل عن إعراب الاسم المنعوت بنعت في نَعْته إلا بعد تمام خبره.
وكلام الله جل ثناؤه أفصح الكلام ، فغير جائز توجيهه إلا إلى الذي هو [أولى] به من
الفصاحة. (4)
* * *
وأما توجيه من وجّه ذلك إلى العطف به على " الهاء " و " الميم
" في قوله : " لكن الراسخون في العلم منهم " أو : إلى العطف به على
" الكاف " من قوله : " بما أنزل إليك " أو : إلى " الكاف
" من قوله : " وما أنزل من قبلك " ، فإنه أبعد من الفصاحة من نصبه
على المدح ، لما قد ذكرت قبل من قُبْح ردِّ الظاهر على المكنيّ في الخفض.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ولقنوه للأمة " باللام ، وهو تغيير سيء قبيح.
(2) هذه الحجة التي ساقها إمامنا أبو جعفر رضي الله عنه ، هي حجة فقيه بمعاني
الكلام ، ووجوه الرأي. وهي حجة رجل عالم محيط بأساليب العلم ، عارف بما توجبه
شواهد النقل ، وأدلة العقل. وقد تناول ذلك جمهور من أئمتنا ، ولكن لا تزال حجة أبي
جعفر أقوم حجة في رد هذه الرواية التي نسبت إلى عائشة أم المؤمنين.
(3) في المطبوعة : " لما قد ذكرنا ... " ؛ وأثبت ما في المخطوطة.
(4) الزيادة بين القوسين ، يستوجبها السياق.
(9/398)
وأما توجيه من وجه " المقيمين
" إلى " الإقامة " ، فإنه دعوى لا برهان عليها من دلالة ظاهر
التنزيل ، ولا خبر تثبت حجته. وغير جائز نقل ظاهر التنزيل إلى باطن بغير برهان.
* * *
وأما قوله : " والمؤتون الزكاة " ، فإنه معطوف به على قوله : "
والمؤمنون يؤمنون " ، وهو من صفتهم.
* * *
وتأويله : والذين يعطون زكاة أموالهم مَن جعلها الله له وصرفها إليه "
والمؤمنون بالله واليوم الآخر " ، يعني : والمصدّقون بوحدانية الله وألوهته ،
(1) والبعث بعد الممات ، والثواب والعقاب " أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا
" ، يقول : هؤلاء الذين هذه صفتهم " سنؤتيهم " ، يقول : سنعطيهم
" أجرًا عظيمًا " ، يعني : جزاءً على ما كان منهم من طاعة الله واتباع
أمره ، وثوابًا عظيمًا ، وذلك الجنة. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وألوهيته " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " الإيتاء " و " الأجر " فيما سلف من فهارس
اللغة.
(9/399)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
القول في تأويل قوله : { إِنَّا
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ
وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (163) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح
" ، إنا أرسلنا إليك ، يا محمد ، بالنبوة كما أرسلنا إلى نوح ، وإلى سائر
الأنبياء الذين سَمَّيتهم لك من بعده ، والذين لم أسمِّهم لك ، (1) كما : -
__________
(1) انظر تفسير " أوحى " فيما سلف 6 : 405 ، 406.
(9/399)
10839 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
جرير ، عن الأعمش ، عن منذرٍ الثوري ، عن الربيع بن خُثَيم في قوله : " إنا
أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " ، قال : أوحى إليه كما
أوحى إلى جميع النبيين من قبله. (1)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن بعض اليهود لما
فضحهم الله بالآيات التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك من قوله :
" يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء " فتلا ذلك عليهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : " ما أنزل الله على بشر من شيء بعد
موسى " ! فأنزل الله هذه الآيات ، تكذْيبًا لهم ، وأخبر نبيَّه والمؤمنين به
أنه قد أنزل عليه بعد موسى وعلى من سماهم في هذه الآية ، وعلى آخرين لم يسمِّهم ،
كما : -
10840 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير وحدثنا ابن حميد قال ، حدثنا
سلمة عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني
سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال ، قال سُكَين وعدي بن زيد : يا محمد ، ما
نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى! فأنزل الله في ذلك من قولهما : "
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " إلى آخر الآيات. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 10839 - " منذر الثوري " هو " منذر بن يعلى الثوري
" أبو يعلى. روى عن محمد بن علي بن أبي طالب ، والربيع بن خثيم ، وسعيد بن
جبير ، وغيرهم. روى عنه ابنه الربيع بن المنذر ، والأعمش ، وفطر بن خليفة وغيرهم. ثقة
قليل الحديث. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر : 10840 - سيرة ابن هشام 2 : 211 ، وهو تابع الآثار التي آخرها قديمًا :
9792 وكان في المطبوعة والمخطوطة : " عدي بن ثابت " ، وهو خطأ بلا شك ،
ففي سيرة ابن هشام وغيرها " عدي بن زيد " ، ولم أجد في أسماء الأعداء من
يهود " عدي بن ثابت " .
و " سكين بن أبي سكين " ، و " عدي بن زيد " من بني قينقاع ،
ذكرهم ابن هشام في السيرة في الأعداء من يهود 2 : 161.
(9/400)
وقال آخرون : بل قالوا لما أنزل الله
الآيات التي قبل هذه في ذكرهم : " ما أنزل الله على بشر من شيء ، ولا على
موسى ، ولا على عيسى " ! فأنزل الله جل ثناؤه : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ
حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ) ،
[سورة الأنعام : 91] ، ولا على موسى ولا على عيسى.
*ذكر من قال ذلك :
10841 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن
كعب القرظي قال : أنزل الله : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من
السماء " إلى قوله : " وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا " ، فلما
تلاها عليهم يعني : على اليهود وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة ، جحدوا كل ما أنزل الله
، وقالوا : " ما أنزل الله على بشر من شيء ، ولا على موسى ولا على عيسى!! وما
أنزل الله على نبي من شيء " ! قال : فحلَّ حُبْوَته وقال : (1) ولا على أحد!!
فأنزل الله جل ثناؤه : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا
أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ) [سورة الأنعام : 91]
* * *
وأما قوله : " وآتينا داود زبورًا " ، فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة قرأة أمصار الإسلام ، غير نفر من قرأة الكوفة : ( وَآتَيْنَا دَاوُدَ
زَبُورًا ) ، بفتح " الزاي " على التوحيد ، بمعنى : وآتينا داود الكتاب
المسمى " زبورًا " .
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين : ( وَآتَيْنَا دَاوُدَ زُبُورًا ) ، بضم " الزاي
" جمع " زَبْرٍ " .
كأنهم وجهوا تأويله : وآتينا داود كتبًا وصحفًا مَزْبورة.
* * *
__________
(1) " الحبوة " (بضم الحاء وفتحها ، وسكون الباء) : الثوب الذي يحتبى
به. و " الاحتباء " : أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع
ظهره ، ويشده عليها. وقد يكون " الاحتباء " باليدين عوض الثوب.
(9/401)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
من قولهم : " زَبَرت الكتاب
أزْبُره زَبْرًا " و " ذَبُرته أذْبُره ذَبْرًا " ، إذا كتبته. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا ، قراءة من قرأ : (
وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ) ، بفتح " الزاي " ، على أنه اسم الكتاب
الذي أوتيه داود ، كما سمى الكتاب الذي أوتيه موسى " التوراة " ، والذي
أوتيه عيسى " الإنجيل " ، والذي أوتيه محمد " الفرقان " ، لأن
ذلك هو الاسم المعروف به ما أوتي داود. وإنما تقول العرب : " زَبُور داود
" ، بذلك تعرف كتابَه سائرُ الأمم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ
وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إنا أوحينا إليك ، كما أوحينا إلى نوح وإلى
رسل قد قصصناهم عليك ، ورسل لم نقصصهم عليك.
* * *
فلعل قائلا يقول : فإذ كان ذلك معناه ، فما بال قوله : " ورسلا "
منصوبًا غير مخفوض ؟ قيل : نصب ذلك إذ لم تعد عليه " إلى " التي خفضت
الأسماء قبله ، وكانت الأسماء قبلها ، وإن كانت مخفوضة ، فإنها في معنى النصب. لأن
معنى الكلام : إنا أرسلناك رسولا كما أرسلنا نوحًا والنبيين من بعده ، فعُطفت
" الرسل " على معنى الأسماء قبلها في الإعراب ، لانقطاعها عنها دون
ألفاظها ، إذ لم يعد عليها ما خفضها ، كما قال الشاعر. (2)
__________
(1) انظر تفسير " الزبور " فيما سلف 7 : 450 ، 451 ، وبين هنا ما أجمله
هناك ، وهذا من ضروب اختصاره التفسير.
(2) لم أعرف قائله.
(9/402)
لَوْ جِئْتَ بِالْخُبْزِ لَهُ
مُنَشَّرَا... وَالْبَيْضَ مَطْبُوخًا مَعًا والسُّكَّرَا... لَمْ يُرْضِهِ ذلِكَ
حَتَّى يَسْكَرَا (1)
* * *
وقد يحتمل أن يكون نصب " الرسل " ، لتعلق " الواو " بالفعل ،
بمعنى : وقصصنا رسلا عليك من قبل ، كما قال جل ثناؤه : ( يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ
فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) [سورة الإنسان
: 31] . (2)
* * *
وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ( ورسل قد قصصناهم عليك من قبل ورسل لم نقصصهم عليك )
، فرفعُ ذلك ، إذ قرئ كذلك ، بعائد الذكر في قوله : " قصصناهم عليك " .
(3)
* * *
وأما قوله : " وكلم الله موسى تكليمًا " ، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه :
وخاطب الله بكلامه موسى خطابًا ، وقد : -
10842 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا نوح بن أبي مريم ،
وسئل : كيف كلم الله موسى تكليمًا ؟ فقال : مشافهة. (4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " لو جيت لنا بالخير مبشرًا " ، وهو فاسد جدًا ،
والصواب ما في المطبوعة. وقوله : " منشرًا " أي مبسوطًا بسطًا ، كما
يبسط الثوب ، كأنه يعني الرقاق بعضه على بعض.
(2) قد بين أبو جعفر ذلك في تفسير " سورة الإنسان " 29 : 140 (بولاق)
فقال : و " نصب (الظالمين) لأن الواو ظرف ل " أعد " . والمعنى :
وأعد للظالمين عذابًا أليمًا " .
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 295.
(4) الأثر : 10842 - " نوح بن أبي مريم " ، أبو عصمة القرشي ، قاضي مرو.
كان أبوه مجوسيًا ويقال له : " نوح الجامع " ، وسمي " الجامع
" ، لأنه أخذ الفقه عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى ، والحديث عن حجاج بن أرطاة
وطبقته ، والتفسير عن الكلبي ومقاتل ، والمغازي عن ابن إسحاق ، وكان مع ذلك عالمًا
بأمور الدنيا. وكان شديدًا على الجهمية والرد عليهم ، تعلم منه نعيم بن حماد الرد
على الجهمية. ولكنه كان مع ذلك كله ذاهب الحديث ، ليس بثقة ، لا يجوز الاحتجاج به.
وقال ابن حبان : " نوح الجامع : جمع كل شيء إلا الصدق " !! مترجم في
التهذيب ، والكبير 4 / 2 / 111 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 484.
وفي المخطوطة إشكال ، وذلك أن فيها : " نوح بن أبي هند " ، واضحة
الكتابة جدًا ، ولكني لم أجد " نوح بن أبي هند " ، ولم أستطع أن أجد له
تصحيفًا أو تحريفًا. فأبقيت ما في المطبوعة على حاله ، وأثبت هذا الذي في المخطوطة
، عسى أن أوفق بعد إلى الصواب في هذا الإسناد.
(9/403)
وقد : -
10843 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن ابن مبارك ، عن معمر ويونس ،
عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال ، أخبرني جزى بن جابر
الخثعمي قال : سمعت كعبًا يقول : إن الله جل ثناؤه لما كلم موسى ، كلمه بالألسنة
كلها قبل كلامه يعني : كلام موسى فجعل يقول : يا رب ، لا أفهم! حتى كلمه بلسانه
آخر الألسنة ، فقال : يا رب هكذا كلامك ؟ قال : لا ولو سمعت كلامي أي : على وجهه
لم تك شيئًا!
قال ابن وكيع : قال أبو أسامة(!!) : وزادني أبو بكر الصغاني في هذا الحديث أن موسى
قال : يا رب ، هل في خلقك شيء يشبه كلامك ؟ قال : لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي ،
أشدُّ ما تسمع الناسُ من الصواعق. (1)
__________
(1) الأثر : 10843 - " أبو أسامة " ، هو : " حماد بن زيد بن أسامة
" مضى برقم : 5265 ، والاختلاف في اسمه. و " أبو بكر بن عبد الرحمن بن
الحارث بن هشام " ، مضت ترجمته رقم : 2351 ، 7820.
و " جزى بن جابر الخثعمي " ، ترجم له البخاري في الكبير 1 / 2 / 254 ،
255 ، باسم " جرز بن جابر الخثعمي " وقال : " قاله أبو اليمان ، عن
شعيب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن " . ثم قال : " وقال عبد الرزاق ، عن
معمر : جريز بن جابر الخثعمي " [قلت : الصواب " جزى " ، كما في
مخطوطة الطبري ، وكما نص عليه ابن أبي حاتم كما سيأتي]. ثم قال البخاري : "
وقال يونس وابن أخي الزهري والزبيدي : جزء " . ثم قال أيضًا : " وقال
إسماعيل ، عن أخيه سليمان عن ابن أبي عتيق : جرو بن جابر " [قلت : وهو الإسناد
الآتي رقم : 10846].
أما ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 546 ، 547 ، فقد ترجم له باسم :
" جزء بن جابر الخثعمي " ، وقال : " في رواية شعيب بن أبي حمزة ،
عن الزهري " ، فدل هذا على أن ترجمة البخاري له ، جائز أن تكون باسم "
جزء بن جابر " ، بل أرجح أن ذلك هو الصواب إن شاء الله.
ثم قال ابن أبي حاتم : " وفي رواية معمر : جزى بن جابر ، وهو وهم تابعه عليه
الزبيدي " ، فوافق البخاري في رواية معمر ، وخالفه في متابعة الزبيدي ، فإن
البخاري قال عنه في روايته " جزء " . ثم قال أيضًا : " ويقال : حزن
بن جابر " سمعت أبي يقول ذلك " ، وأخشى أن يكون في نسخة ابن أبي حاتم
تحريف ، وأن يكون صوابها كما في البخاري : " جرو " بالراء ، أو "
جزو " بالزاي. وكل هذا مشكل لا يهتدي فيه إلى اليقين ، إنما هو النقل. ثم
انظر الآثار من رقم : 10845 - 10847.
وكان في المطبوعة : " جزء من جابر " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب
الذي يدل عليه كلام البخاري وابن أبي حاتم ، لأن هذه هي رواية معمر.
ثم يأتي إشكال آخر ، ففي المخطوطة : " قال ابن كعب ، قال أبو أسامة ، وزادني
أبو بكر الصغاني ... " .
أما " ابن كعب " ، فخطأ ظاهر لا شك فيه ، إنما هو كما في المطبوعة :
" ابن وكيع " ، وسها الناسخ ، لذكر " كعب الأحبار " في الخبر
، فضللته الكافات في " وكيع " و " كعب " حتى نسي فكتب "
ابن كعب " .
وأما الإشكال ، فإن " أبا بكر الصغاني " ، هو " محمد بن إسحاق بن
جعفر " الحافظ الرحلة ، وهو شيخ الطبري ، مضت روايته عنه في مواضع ، انظر رقم
: 4074 ، وفيها ترجمته ، ورقم : 4330 وروى عنه في المنتخب من ذيل المذيل (الملحق
بتاريخه) ص : 104 ، كما أشرت إليه. ولا شك في أن " أبا أسامة حماد بن زيد
" ، لم يرو عنه قط. فواضح أن القائل : " وزادني أبو بكر الصغاني "
هو أبو جعفر محمد بن جرير نفسه.
وإذن ، فما قوله : " قال ابن وكيع ، قال أبو أسامة " ؟ لا أدري على
التحقيق ، فإما أن يكون سقط من الناسخ شيء. وإما أن يكون المملي (أبو جعفر ، أو
غيره) ، أراد أن ينتقل إلى الإسناد التالي رقم : 10844 ، فأملى صدر الإسناد ، ثم
عاد لما فاته من تتمة كلام أبي جعفر في الخبر 10843 ، وهو قوله : " وزادني
أبو بكر الصغاني " ، ولم ينتبه الكاتب عنه لما وقع فيه المملي من التردد. هذا
غاية ما أجد من تفسير ذلك. هذا ، والمخطوطة لا يعتمد عليها في هذا الموضع كل
الاعتماد ، لأن فيها خرمًا أو حذفًا كما سترى في الأسانيد : 10845 - 10847 ، ولله
وحده العلم. وكتبه : محمود محمد شاكر.
وقد كان في المطبوعة : " أشد ما تسمع " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/404)
10844 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبو أسامة ، عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر قال ، سمعت محمد بن كعب القرظي
يقول : سئل موسى : ما شبهت كلام ربك مما خلق ؟ فقال موسى : الرعد الساكب. (1)
10845 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، حدثنا عبد الله بن وهب
__________
(1) الأثر : 10844 - " عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب " ،
مضى برقم : 7819. وقد كان في المخطوطة : " ... عبد الله بن عمرو " ، وهو
خطأ بين.
وقوله : " الرعد الساكب " ، هكذا قرأتها ، وفي المخطوطة والمطبوعة :
" الرعد الساكن " بالنون في آخره ، ولست أجد لها معنى يعقل. أما "
الساكب " ، فإنه الوصف المعقول في صفة شدة صوت الرعد ، وذلك تتابعه وانسياحه.
وفي الحديث : " فإذا سكب المؤذن بالأولى من صلاة الفجر ، قام فركع ركعتين
خفيفتين " ، وذلك صفة المؤذن إذا أذن ، فأطال في أذانه وردده ورجعه ، وأصله
من " سكب الماء " ، ثم استعير " السكب " للإفاضة في الكلام أو
غيره من الأصوات ، كما يقال : " أفرغ في أذني حديثًا " ، أي : ألقى وصب.
(9/405)
قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال ،
أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن : أنه أخبره عن جزء بن جابر الخثعمي قال : لما كلّم
الله موسى بالألسنة كلها قبل لسانه ، فطفق يقول : والله يا رب ، ما أفقه هذا!! حتى
كلمه بلسانه آخر الألسنة بمثل صوته ، فقال موسى : يا ربِّ هذا كلامك ؟ قال : لا.
قال : هل في خلقك شيء يشبه كلامك ؟ قال : لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي ، أشد ما
يسمع الناس من الصواعق. (1)
10846 - حدثني أبو يونس المكي قال ، حدثنا ابن أبي أويس قال ، أخبرني أخي ، عن
سليمان ، عن محمد بن أبي عتيق ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث
بن هشام : أنه أخبره جزء بن جابر الخثعمي : أنه سمع [كعب] الأحبار يقول : لما كلم
الله موسى بالألسنة كلها قبل لسانه ، فطفق موسى يقول : أي رب ، والله ما أفقه
هذا!! حتى كلمه آخر الألسنة بلسانه بمثل صوته ، فقال موسى : أي رب ، أهكذا كلامك ؟
فقال : لو كلمتك بكلامي لم تكن شيئًا! قال : أي رب ، هل في خلقك شيء يشبه كلامك ؟
فقال : لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي ، أشدّ ما يسمع من الصواعق. (2)
__________
(1) الأثر : 10845 - " جزء بن جابر الخثعمي " ، هذا هو الصواب ، لأنه
رواية يونس عن ابن شهاب الزهري ، التي أشار إليها البخاري ، كما أثبته في التعليق
على الأثر رقم : 10843.
(2) الأثر : 10846 - " أبو يونس المكي " شيخ الطبري ، لم أعرفه ، ولم
أجده ، ولم تمر بي قبل ذلك له رواية عنه.
و " ابن أبي أويس " هو : " إسماعيل عبد الله بن أويس بن مالك
الأصبحي " مضت ترجمته برقم : 45.
و " أخوه " هو : " أبو بكر : عبد الرحمن بن عبد الله بن أويس
" ، مضى أيضًا برقم : 45.
و " سليمان " ، هو : " سليمان بن بلال التيمي القرشي " . مضى
برقم : 4333 ، 4923.
و " ابن أبي عتيق " أو " محمد بن أبي عتيق " ، هو : "
محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق " ، مضت ترجمته
برقم : 4923 ، 10317.
وهذا هو الإسناد الذي أشار إليه البخاري ، كما ذكرت في التعليق على الأثر رقم :
10843 ، وأن روايته فيه " جرو بن جابر " ، وذكره ابن أبي حاتم أيضًا ،
فانظر ما قلت فيه هناك.
وكان في المطبوعة هنا : " أنه سمع الأحبار تقول " ، ولكن تدل الروايات
السالفة والآتية ، وما أشار إليه البخاري وابن أبي حاتم ، أن صواب ذلك " كعب
الأحبار " ، فزدت " كعب " بين القوسين ، وهو الصواب المحض إن شاء
الله.
(9/406)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
10847 - حدثنا ابن عبد الرحيم قال ،
حدثنا عمرو قال ، حدثنا زهير ، عن يحيى ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن
الحارث بن هشام ، عن جزء بن جابر : أنه سمع كعبًا يقول : لما كلم الله موسى
بالألسنة قبل لسانه ، طفق موسى يقول : أي رب ، إني لا أفقه هذا!! حتى كلمه الله
آخر الألسنة بمثل لسانه ، فقال موسى : أي رب ، هذا كلامك ؟ قال الله : لو كلمتك
بكلامي لم تكن شيئًا! قال ، يا رب ، فهل من خلقك شيء يشبه كلامك ؟ قال : لا وأقرب
خلقي شبهًا بكلامي ، أشدُّ ما يسمع من الصواعق. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا
حَكِيمًا (165) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين
من بعده ، ومن ذكر من الرسل (2) " رسلا " ، فنصب " الرسل "
على القطع من أسماء الأنبياء الذين ذكر أسماءهم (3) " مبشرين " ، يقول :
أرسلتهم رسلا إلى خلقي وعبادي ، مبشرين بثوابي من أطاعني واتبع أمري وصدَّق رسلي ،
ومنذرين
__________
(1) الأثر : 10847 - هذا إسناد لم يشر إليه البخاري ، ولا ابن أبي حاتم. هذا ،
والأخبار الثلاثة الأخيرة من رقم : 10845 - 10847 ، ليست في المخطوطة. فكأن الناسخ
قد اختصر في كتابه.
ومهما يكن من أمر هذا الخبر ، فإن صفة ربنا تعالى وتقدست أسماؤه ، مما لا يؤخذ عن
كعب الأحبار وأشباهه ، بل الأمر فيها لله وحده ، هو كما يثني على نفسه ، وكما بلغ
عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا كعب الأحبار ومن لف لفه.
(2) في المخطوطة : " ومن ذكر الرسل " ، بإسقاط " من " ،
والصواب ما في المطبوعة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " فنصب به الرسل " ، بزيادة " به
" ، والصواب حذفها. انظر معنى " القطع " فيما سلف من فهارس
المصطلحات.
(9/407)
عقابي من عصاني وخالف أمري وكذب رسلي
" لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " ، يقول : أرسلت رسلي إلى
عبادي مبشرين ومنذرين ، لئلا يحتجّ من كفر بي وعبد الأنداد من دوني ، أو ضل عن
سبيلي بأن يقول إن أردتُ عقابه : ( لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا
فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ) [سورة طه : 134]. فقطع
حجة كلّ مبطل ألحدَ في توحيده وخالف أمره ، بجميع معاني الحجج القاطعة عذرَه ،
إعذارًا منه بذلك إليهم ، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10849 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " ، فيقولوا : ما
أرسلت إلينا رسلا.
* * *
" وكان الله عزيزًا حكيمًا " ، يقول : ولم يزل الله ذا عِزة في انتقامه
ممن انتقم [منه] من خلقه ، (1) على كفره به ، ومعصيته إياه ، بعد تثبيته حجَّتَه
عليه برسله وأدلَّتَه " حكيمًا " ، في تدبيره فيهم ما دبّره. (2)
* * *
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام.
(2) انظر تفسير " عزيز " فيما سلف : ص408 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك
وتفسير " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/408)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
القول في تأويل قوله : { لَكِنِ
اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ
يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن يكفر بالذي أوحينا إليك ، يا محمد ،
اليهود الذين سألوك أن تنزل عليهم كتابًا من السماء ، وقالوا لك : " ما أنزل
الله على بشر من شيء " فكذبوك ، فقد كذبوا. ما الأمر كما قالوا : لكن الله
يشهد بتنزيله إليك ما أنزل من كتابه ووحيه ، أنزل ذلك إليك بعلم منه بأنك خِيرَته
من خلقه ، وصفِيُّه من عباده ، ويشهد لك بذلك ملائكته ، فلا يحزنك تكذيبُ من
كذَّبك ، وخلافُ من خالفك " وكفى بالله شهيدًا " ، يقول : وحسبك بالله
شاهدًا على صدقك دون ما سواه من خلقه ، فإنه إذا شهد لك بالصدق ربك ، لم يَضِرْك
تكذيب من كذَّبك.
وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود ، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم
إلى اتباعه ، وأخبرهم أنهم يعلمون حقيقة نبوّته ، فجحدوا نبوَّته وأنكروا معرفته.
ذكر الخبر بذلك :
10850 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن
أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال :
دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من يهود ، فقال لهم : إني والله أعلم
إنكم لتعلمون أنيّ رسول الله! فقالوا : ما نعلم ذلك! فأنزل الله : " لكن الله
يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدًا " .
10851 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحاق قال ، حدثني محمد
بن أبي محمد ، عن عكرمة وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : دخلت على رسول الله صلى
الله عليه وسلم عِصابة من اليهود ، ثم ذكر نحوه. (1)
__________
(1) الأثران : 10850 ، 10851 - سيرة ابن هشام 2 : 211 مع اختلاف في لفظه ، وهو
تابع الأثر السالف رقم : 10840.
(9/409)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
10852 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا
يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله
بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدًا " ، شهودٌ والله غير مُتَّهمة.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا (167) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إنّ الذين جحدوا ، يا محمد ، نبوتك بعد علمهم
بها ، من أهل الكتاب الذين اقتصصت عليك قصتهم ، وأنكروا أن يكون الله جل ثناؤه
أوحى إليك كتابه " وصدوا عن سبيل الله " ، يعني : عن الدين الذي بعثَك
الله به إلى خلقه ، وهو الإسلام. وكان صدهم عنه ، قِيلُهم للناس الذين يسألونهم عن
محمد من أهل الشرك : " ما نجد صفة محمد في كتابنا! " ، وادعاءهم أنهم
عُهِد إليهم أن النبوّة لا تكون إلا في ولد هارون ومن ذرية داود ، وما أشبه ذلك من
الأمور التي كانوا يثبِّطون الناس بها عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم
والتصديق به وبما جاء به من عند الله.
* * *
وقوله : " قد ضلُّوا ضلالا بعيدًا " ، يعني : قد جاروا عن قصد الطريق
جورًا شديدًا ، وزالوا عن المحجّة. (1)
وإنما يعني جل ثناؤه بجورهم عن المحجة وضلالهم عنها ، إخطاءَهم دين الله الذي
ارتضاه لعباده ، وابتعث به رسله. يقول : من جحد رسالة محمد صلى الله
__________
(1) انظر تفسير " الصد " فيما سلف ص : 391 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
وانظر تفسير " سبيل الله " في فهارس اللغة.
(9/410)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
عليه وسلم ، وصدَّ عما بُعث به من
الملة من قَبِل منه ، فقد ضلّ فذهب عن الدين الذي هو دين الله الذي ابتعث به
أنبياءه ، ضلالا بعيدًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه
وسلم ، فكفروا بالله بجحود ذلك ، وظلموا بمُقامهم على الكفر على علم منهم ، بظلمهم
عبادَ الله ، وحسدًا للعرب ، وبغيًا على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم " لم
يكن الله ليغفر لهم " ، يعني : لم يكن الله ليعفو عن ذنوبهم بتركه عقوبتهم عليها
، ولكنه يفضحهم بها بعقوبته إياهم عليها (2) " ولا ليهديهم طريقًا " ،
يقول : ولم يكن الله تعالى ذكره ليهدي هؤلاء الذين كفروا وظلموا ، الذين وصفنا
صفتهم ، فيوفقهم لطريق من الطرق التي ينالون بها ثوابَ الله ، ويصلون بلزومهم إياه
إلى الجنة ، ولكنه يخذلهم عن ذلك ، حتى يسلكوا طريق جهنم. وإنما كنى بذكر "
الطريق " عن الدين. وإنما معنى الكلام : لم يكن الله ليوفقهم للإسلام ، ولكنه
يخذلهم عنه إلى " طريق جهنم " ، وهو الكفر ، يعني : حتى يكفروا بالله
ورسله ، فيدخلوا جهنم " خالدين فيها أبدًا " ، يقول : مقيمين فيها أبدًا
" وكان ذلك على الله يسيرًا " ، يقول : وكان تخليدُ هؤلاء الذين وصفت
لكم صفتهم في جهنم ،
__________
(1) انظر تفسير " ضل ضلالا بعيدًا " فيما سلف ص : 314 ، تعليق : 2 ،
والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة : " إياهم عليهم " ، والصواب من المخطوطة.
(9/411)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
على الله يسيرًا ، لأنه لا يقدر من
أراد ذلك به على الامتناع منه ، ولا له أحد يمنعه منه ، ولا يستصعب عليه ما أراد
فعله به من ذلك ، وكان ذلك على الله يسيرًا ، لأن الخلق خلقُه ، والأمرَ أمرُه.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ
بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
}
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " يا أيها الناس " ، مشركي العرب
، وسائرَ أصناف الكفر " قد جاءكم الرسول " ، يعني : محمدًا صلى الله
عليه وسلم ، قد جاءكم " بالحق من ربكم " ، يقول : بالإسلام الذي ارتضاه
الله لعباده دينًا ، يقول : " من ربكم " ، يعني : من عند ربكم (1)
" فآمنوا خيرًا لكم " ، يقول : فصدِّقوه وصدّقوا بما جاءكم به من عند
ربكم من الدين ، فإن الإيمان بذلك خير لكم من الكفر به " وإن تكفروا " ،
يقول : وإن تجحدوا رسالتَه وتكذّبوا به وبما جاءكم به من عند ربكم ، فإن جحودكم
ذلك وتكذيبكم به ، لن يضرَّ غيركم ، وإنما مكروهُ ذلك عائدٌ عليكم ، دون الذي
أمركم بالذي بعث به إليكم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ، (2) وذلك أن لله ما
في السموات والأرض ، ملكًا وخلقًا ، لا ينقص كفركم بما كفرتم به من أمره ،
وعصيانكم إياه فيما عصيتموه فيه ، من ملكه وسلطانه شيئًا (3) " وكان الله
عليمًا حكيمًا " ، يقول : " وكان الله عليمًا " ، بما
__________
(1) انظر تفسير " من ربكم " بمثله ، فيما سلف 6 : 440.
(2) في المطبوعة : " دون الله الذي أمركم ... " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) السياق : لا ينقص كفركم ... من ملكه وسلطانه شيئًا " .
(9/412)
أنتم صائرون إليه من طاعته فيما أمركم
به وفيما نهاكم عنه ، ومعصيته في ذلك ، على علم منه بذلك منكم ، أمركم ونهاكم (1)
" حكيمًا " يعني : حكيمًا في أمره إياكم بما أمركم به ، وفي نهيه إياكم
عما نهاكم عنه ، وفي غير ذلك من تدبيره فيكم وفي غيركم من خلقه. (2)
* * *
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله نصب قوله : " خيرًا لكم " .
فقال بعض نحويي الكوفة : نصب " خيرًا " على الخروج مما قبله من الكلام ،
(3) لأن ما قبله من الكلام قد تمَّ ، وذلك قوله : " فآمنوا " . وقال :
قد سمعت العرب تفعل ذلك في كل خبر كان تامًّا ، ثم اتصل به كلام بعد تمامه ، على
نحو اتصال " خير " بما قبله. فتقول : " لتقومن خيرًا لك " و
" لو فعلت ذلك خيرًا لك " ، و " اتق الله خيرًا لك " . قال :
وأما إذا كان الكلام ناقصًا ، فلا يكون إلا بالرفع ، كقولك : " إن تتق الله
خير لك " ، و( وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) [سورة النساء : 25].
* * *
وقال آخر منهم : جاء النصب في " خير " ، لأن أصل الكلام : فآمنوا هو
خيرٌ لكم ، فلما سقط " هو " ، الذي [هو كناية] ومصدرٌ ، (4) اتّصل
الكلام بما قبله ، والذي قبله معرفة ، و " خير " نكرة ، فانتصب لاتصاله
بالمعرفة لأن الإضمار من الفعل " قم فالقيام خير لك " ، (5) و " لا
تقم فترك القيام خير لك " . فلما سقط اتصل
__________
(1) في المطبوعة : " وعلى علم ... " بزيادة الواو ، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر " الخروج " فيما سلف من فهارس المصطلحات.
(4) في المطبوعة : " الذي هو مصدر " ، وفي المخطوطة " الذي مصدر
" ، ورجحت أن الصواب ما أثبت ، لأن تأويل الكلام ، على مذهبه هذا : فالإيمان
خير لكم ، فالضمير " هو " كناية عن " الإيمان " ، وهو مصدر.
(5) أخشى أن يكون سقط قبل قوله : " لأن الإضمار من الفعل : " قم فالقيام
خير لك ... " إلى آخر الكلام ، ما يصلح أن يكون هذا تابعًا له ، كأنه ضرب
مثلين هما : " قم خير لك " و " لا تقم خير لك " . ومع ذلك فقد
تركت الكلام على حاله ، ووضعت بينه نقطًا للدلالة على ذلك....
(9/413)
بالأول. وقال : ألا ترى أنك ترى
الكناية عن الأمر تصلح قبل الخبر ، فتقول للرجل : " اتق الله هو خير لك
" ، أي : الاتقاء خير لك. وقال : ليس نصبه على إضمار " يكن " ، لأن
ذلك يأتي بقياس يُبْطل هذا. ألا ترى أنك تقول : " اتق الله تكن محسنًا "
، ولا يجوز أن تقول : " اتق الله محسنًا " ، وأنت تضمر " كان
" ، ولا يصلح أن تقول : " انصرنا أخانا " ، وأنت تريد : " تكن
أخانا " ؟ (1) وزعم قائل هذا القول أنه لا يجيز ذلك إلا في " أفعل
" خاصة ، (2) فتقول : " افعل هذا خيرًا لك " ، و " لا تفعل
هذا خيرًا لك " ، و " أفضل لك " . ، ولا تقول : " صلاحًا لك
" . وزعم أنه إنما قيل مع " أفعل " ، لأن " أفعل " يدل
على أن هذا أصلح من ذلك.
* * *
وقال بعض نحويي البصرة : نصب " خيرًا " ، لأنه حين قال لهم : " آمنوا
" ، أمرهم بما هو خيرٌ لهم ، فكأنه قال : اعملوا خيرًا لكم ، وكذلك : (
انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ) [سورة النساء : 171]. قال : وهذا إنما يكون في الأمر
والنهي خاصة ، ولا يكون في الخبر لا تقول : " أن أنتهي خيرًا لي " ؟ (3)
ولكن يرفع على كلامين ، لأن الأمر والنهي يضمر فيهما فكأنك أخرجته من شيء إلى شيء
، لأنك حين قلت له : " انته " ، (4) كأنك قلت له : " اخرج من ذا ،
وادخل في آخر " ، (5) واستشهد بقول الشاعر عمر بن أبي ربيعة :
__________
(1) من أول قوله : " ألا ترى أنك ترى الكناية ... " إلى هذا الموضع ، هو
نص كلام الفراء في معاني القرآن 1 : 295 ، 296. فظاهر إذن أن هذه مقالة الفراء ،
ما قبل هذا ، وما بعده. إلا أني لم أجده في هذا الموضع من معاني القرآن ، فلعل أبا
جعفر جمعه من كتابه في مواضع أخر ، عسى أن أهتدي إليها فأشير إليها بعد.
(2) في المخطوطة : " أفعال خاصة " ، وهو خطأ ظاهر.
(3) في المطبوعة : " أنا أنتهي " والصواب من المخطوطة.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " اتقه " بالقاف ، والصواب " انته
" ، لأن المثال قبله : " أن أنتهي خيرًا لي " .
(5) في المخطوطة " وأخرج في آخر " ، خطأ ظاهر.
وهذا القول الذي ذكره هو قول سيبويه في الكتاب 1 : 143 ، وبسط القول فيه ، واختصره
أبو جعفر.
(9/414)
فَوَاعِدِيهِ سَرْحَتَيْ مَالِكٍ...
أوِ الرُّبَى بَيْنَهُمَا أَسْهَلا (1)
كما تقول : " واعديه خيرًا لك " . قال : وقد سمعت نصبَ هذا في الخبر ،
تقول العرب : " آتي البيت خيرًا لي ، وأتركه خيرًا لي " ، وهو على ما
فسرت لك في الأمر والنهي. (2)
وقال آخر منهم : نصب " خيرًا " ، بفعل مضمر ، واكتفى من ذلك المضمر
بقوله : (3) " لا تفعل هذا " أو " افعل الخير " ، وأجازه في
غير " أفعل " ، فقال : " لا تفعل ذاك صلاحًا لك " .
* * *
وقال آخر منهم : نصب " خيرًا " على ضمير جواب " يكن خيرًا لكم
" . (4) وقال : كذلك كل أمر ونهي. (5)
* * *
__________
(1) ديوانه : 131 ، سيبويه 1 : 143 ، الخزانة 1 : 280 وغيرها كثير ، وبعد البيت :
وَلْيِأْتِ إِنْ جَاءَ عَلَى بَغْلَةٍ ... إِنِّي أَخَافُ الْمُهْرَ أَنْ
يَصْهَلا!
وقوله : " أسهلا " ، أي : ائت أسهل الأمرين عليك. هذا تفسيره على مقالة
سيبويه.
(2) هذا تمام كلام سيبويه ، ولكن أعياني أن أجد مكانه في الكتاب.
(3) في المطبوعة : " كقوله : لا تفعل هذا " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) قوله : " ضمير " هو ، الإضمار ، مصدر - لا بمعنى مضمر في اصطلاح
سائر النحاة. وانظر ما سلف 1 : 427 ، تعليق : 1 / 2 : 107 ، تعليق : 1 / 8 : 273 ،
تعليق : 1.
(5) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 143.
(9/415)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
القول في تأويل قوله : { يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ
}
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يا أهل الكتاب " ، يا أهل
الإنجيل من النصارى " لا تغلوا في دينكم " ، يقول : لا تجاوزوا الحق في
دينكم فتفرطوا فيه ، ولا تقولوا في عيسى غير الحق ، فإن قيلكم في عيسى إنه ابن
الله ، قول منكم
(9/415)
على الله غير الحق. لأن الله لم يتخذ
ولدًا فيكون عيسى أو غيره من خلقه له ابنًا " ولا تقولوا على الله إلا الحق
" .
* * *
وأصل " الغلو " ، في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حدّه. يقال منه في الدين
: " قد غلا فهو يغلو غلوًّا " ، و " غَلا بالجارية عظمها ولحمها
" ، إذا أسرعت الشباب فجاوزت لِدَاتها " يغلو بها غُلُوًّا ، وغَلاءً
" ، ومن ذلك قول الحارث بن خالد المخزومي :
خُمْصَانَةٌ قَلِقٌ مُوَشَّحُها... رُؤْدُ الشَّبَابِ غَلا بِهَا عَظْمُ (1)
* * *
وقد : -
10853 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ،
__________
(1) الأغاني 9 : 226 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 143 ، اللسان (غلا). وفي
الأغاني " علا " بالعين المهملة ، وهو خطأ يصحح.
وقد مضى بيت من هذه القصيدة في 1 : 116 ، تعليق : 3 ، وذكرت خبرها هناك ، وهو من
أبيات يذكر فيها صاحبته وما مضى من أيامه وأيامها : إِذْ وُدُّهَا صَافٍ ،
وَرُؤْيَتُهَا ... أُمْنِيّةٌ ، وَكَلامُهَا غُنْمُ
لَفَّاءُ مَمْلُوءُ مُخَلْخَلُهَا ... عَجْزاءُ لَيْسَ لِعَظْمِهَا حَجْمُ
خُمْصَانَةٌ ................ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَكَأَنَّ غَالِيَةً تُبَاشِرُها ... تَحْتَ الثِّيَابِ ، إِذَا صَغَا النَّجْمُ
وهو شعر جيد ، وصفة حسنة للمرأة. " لفاء " ، ملتفة الفخذين ، مكتنز
لحمها ، وهو حسن في النساء ، قبيح في الرجال. " مملوء مخلخلها " ، موضع
خلخالها ، خفيت عظامها تحت اللحم ، وهو صفة حسنة ، لم تظهر عظامها كأنها دقت
بالمسامير. " عجزاء " : حسنة العجيزة. " خمصانة " (بفتح الخاء
وضمها) : ضامرة البطن. " قلق موشحها " ، قد استوى خلقها ، فالوشاح يجول
عليها من ضمورها ، لم يمتلئ لحمًا يجعلها لحمة واحدة!! " رؤد الشباب " :
شابة حسنة تهتز من النعمة وإشراق اللون. و " الغالية " : ضرب من الطيب.
" صغا النجم " : مال للمغيب ، وذلك في مطلع الفجر ، حين تتغير أفواه
البشر وأبدانهم ، وتظهر لها رائحة لا تستحب. وقل في الناس من يكون بهذه الصفة!!
(9/416)
عن أبيه ، عن الربيع قال : صاروا
فريقين : فريق غلَوا في الدين ، فكان غلوهم فيه الشك فيه والرغبة عنه ، وفريق منهم
قصَّروا عنه ، ففسقوا عن أمر ربهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ
اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ }
قال أبو جعفر : يعني ثناؤه بقوله : " إنما المسيح عيسى ابن مريم " ، ما
المسيح ، أيها الغالون في دينهم من أهل الكتاب ، بابن الله ، كما تزعمون ، ولكنه
عيسى ابن مريم ، دون غيرها من الخلق ، لا نسب له غير ذلك. ثم نعته الله جل ثناؤه
بنعته ووصفه بصفته فقال : هو رسول الله أرسله الله بالحق إلى من أرسله إليه من
خلقه.
* * *
وأصل " المسيح " ، " الممسوح " ، صرف من " مفعول "
إلى " فعيل " . وسماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب. وقيل : مُسِح
من الذنوب والأدناس التي تكون في الآدميين ، كما يمسح الشيء من الأذى الذي يكون
فيه ، فيطهر منه. ولذلك قال مجاهد ومن قال مثل قوله : " المسيح " ،
الصدّيق. (1)
* * *
وقد زعم بعض الناس أنّ أصل هذه الكلمة عبرانية أو سريانية " مشيحا " ،
فعربت فقيل : " المسيح " ، كما عرب سائر أسماء الأنبياء التي في القرآن
مثل :
__________
(1) انظر ما سلف 6 : 414 ، فهناك تجد قول مجاهد هذا. وقد علقت هناك ، وأشرت إلى
اختصار أبي جعفر ، ورجحت ما في الكلام نقص. وهذا الموضع من كلامه يدل على أن أبا
جعفر نفسه هو الذي اختصر الكلام اختصارًا هناك ، من النسيان فيما أرجح ، أو لأنه
ألف تفسيره على فترات تباعدت عليه. ولولا ذلك لأشار هنا - كعادته - إلى الموضع
السالف الذي فسر فيه معنى " المسيح " .
(9/417)
" إسماعيل " و " إسحاق
" و " موسى " و " عيسى " .
* * *
قال أبو جعفر : وليس ما مثَل به من ذلك لـ " المسيح " بنظير. وذلك أن
" إسماعيل " و " إسحاق " وما أشبه ذلك ، أسماء لا صفات ، و
" المسيح " صفة. وغير جائز أن تخاطب العرب ، وغيرها من أجناس الخلق ، في
صفة شيء إلا بمثل ما تفهم عمَّن خاطبها. ولو كان " المسيح " من غير كلام
العرب ، ولم تكن العرب تعقل معناه ، ما خوطبت به. وقد أتينا من البيان عن نظائر
ذلك فيما مضى بما فيه الكفاية عن إعادته. (1)
* * *
وأما " المسيح الدجال " ، فإنه أيضًا بمعنى : الممسوح العين ، صرف من
" مفعول " إلى " فعيل " . فمعنى : " المسيح " في
عيسى صلى الله عليه وسلم : الممسوح البدن من الأدناس والآثام ومعنى : "
المسيح " في الدجال : الممسوح العين اليمنى أو اليسرى ، كالذي روي عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. (2)
* * *
وأما قوله : " وكلمته ألقاها إلى مريم " ، فإنه يعني : بـ " الكلمة
" ، الرسالة التي
__________
(1) انظر ما سلف 1 : 13 - 24.
(2) هو ما جاء في الأحاديث الصحاح عن جماعة من الصحابة في صفة المسيح الدجال ،
أعاذنا الله من فتنته. من ذلك حديث حذيفة (مسلم 18 : 60) قال :
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدَجَّالُ أعورُ العَيْنِ اليُسْرَى ،
جُفَال الشَّعَرَ ، معهُ جنَّةٌ ونارٌ ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ ، وجَنَّتُه نارٌ).
وحديث ابن عمر :
(أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكر الدجّال بين ظَهْرَانَي الناس فقال :
إِنَّ الله ليسَ بأَعْور ، أَلا وإنَّ المسيحَ الدَّجَّالَ أعْوَرُ العين
اليُمْنَى ، كأَن عينه عِنَبَةٌ طَافيةٌ).
وأحاديث الدجال كثيرة ، مختلفة الألفاظ ، مختصرة ومطولة. فاللهم إني أعوذ بك من
عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال.
(9/418)
أمرَ الله ملائكته أن تأتي مريم بها ،
بشارةً من الله لها ، التي ذكر الله جل ثناؤه في قوله : ( إِذْ قَالَتِ
الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ) [سورة
آل عمران : 45] ، يعني : برسالة منه ، وبشارة من عنده.
* * *
وقد قال قتادة في ذلك ما : -
10854 - حدثنا به الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة : " وكلمته ألقاها إلى مريم " ، قال : هو قوله : " كن "
، فكان.
* * *
وقد بينا اختلاف المختلفين من أهل الإسلام في ذلك فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته
في هذا الموضع. (1)
* * *
وقوله : " ألقاها إلى مريم " ، يعني : أعلمها بها وأخبرها ، كما يقال :
" ألقيت إليك كلمة حسنة " ، بمعنى : أخبرتك بها وكلّمتك بها. (2)
* * *
وأما قوله : " وروح منه " ، فإن أهل العلم اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : معنى قوله : " وروح منه " ، ونفخة منه ، لأنه حدث عن نفخة
جبريل عليه السلام في دِرْع مريم بأمر الله إياه بذلك ، (3) فنسب إلى أنه "
روح من الله " ، لأنه بأمره كان. قال : وإنما سمي النفخ " روحًا "
، لأنها ريح تخرج من الرُّوح ، واستشهدوا على ذلك من قولهم بقول ذي الرمة في صفة
نار نعتها :
__________
(1) انظر تفسير " الكلمة " فيما سلف 6 : 411 ، 412.
(2) هذا معنى يقيد في كتب اللغة ، فإنك قلما تصيبه فيها ، وهو بيان واضح جدًا.
(3) " درع المرأة " : قميصها الذي يحميها أعين الفساق ، كما تحمي الدرع
لابسها. وبعيد أن يسمى شيء من لباس المرأة اليوم " درعًا " ، فإنها لا
تدرع من شيء ، والرجل لا يتورع عن شيء!! والله المستعان.
(9/419)
فَلَمَّا بَدَتْ كَفَّنْتُها ، وَهْيَ
طِفْلَةٌ... بِطَلْسَاءَ لَمْ تَكْمُلْ ذِرَاعًا وَلا شِبْرَا (1)
__________
(1) ديوانه : 176 ، واللسان (روح) ، والمزهر 1 : 556 ، وغيرها. هذا ، وليس في
المخطوطة غير الأبيات الثلاثة الأولى ، وزادت المطبوعة ، بيتًا رابعًا ، لكن قبله
في شعر ذي الرمة بيت ، فزدته من ديوانه ، ووضعته بين قوسين ، لأنه من تمام معنى
الأبيات.
وقبل هذه الأبيات ، أبيات في صفة استخراج سقط النار من الزند بالقدح ، فلما
اقتدحها كفنها كما ذكر في سائر الشعر. فقوله : " فلما بدت " ، أي بدا
سقط النار من الزند الأعلى عند القدح ، " كفنها " ضمنها خرقة وسخة ، لم
تبلغ ذراعًا ولا شبرًا ، وهي التي سماها " طلساء " ، لسوادها من وسخها.
وكانت " طفلة " لأنها سقطت من أمها لوقتها فتلقاها في الخرقة التي جعلها
لها كفنًا. وإنما جعلها " كفنًا " : لها ، لأن السقط يسقط من الزند يزهر
ويضيء حيًا ، فإذا وقع في قلب القطنة ، لم تر له ضوءًا ، فكأنه السقط قد مات.
ولكنه عاد يتابع السقط حتى يحييه مرة أخرى فقال لصاحبه : " ارفعها إليك
" ، أي خذها بيدك ، وارفعها إلى فمك ، ثم " أحيها بروحك " ، أي
انفخ لها نفخًا يسيرًا ، " واقتته لها قيتة قدرًا " ، يأمره بالرفق
والنفح القليل شيئًا فشيئًا ، كأنه جعل النفخ قوتًا لهذا الوليد ، يقدر له تقديرًا
، شيئًا بعد شيء حتى يكتمل.
ثم لما فرغ من ذلك ، ونمت النار بعض النمو ، قال له : " ظاهر لها من يابس
الشخت " ، أي اجعل دقيق الحطب اليابس بعضه على بعض ، وأطعم هذا الوليد و
" الشخت " : الدقيق من كل شيء ، وذلك لتكون النار فيه أسرع. ثم يقول له
: استقبل بها ريح الصبا ليكون ذلك لها نماء ، " واجعل يديك لها سترًا "
، أي : ليسترها من النواحي الأخرى حتى تضربها الصبا ، فلا تموت مرة أخرى.
ثم عاد فوصف نموها يقول : " ولما تنمت " وارتفعت ، " تأكل الرم
" ، تأكل ما يبس من أعواد الشجر ، لم تدع بعد ذلك يابسًا ولا أخضر مما ظلوا
يجمعونه لها ، وذلك حين استوت وبلغت أشدها. فلما رأوا النار تجري بعد ذلك في
" الجزل " - وهو ما غلظ من الحطب ويبس - كأن ضوءها سنا البرق ، رفعوا
أيديهم شكرًا للذي خلقهم وخلق النار.
وهذا شعر جيد مستقيم على النهج.
ومما يقيد هنا ، ما رواه السيوطي في المزهر ، عن أبي عبيد في الغريب المصنف أن
الأصمعي قال : أخبرني عيسى بن عمر ، قال : أنشدني ذو الرمة : وَظَاهِرْ لَهَا من
يَابِس الشَّخْتِ
ثم أنشد بعد هذا : مِنْ بَائِسِ الشَّخْتِ
قال أبو عبيد : فقلت له : إنك أنشدتني " من يابس الشخت " ؟ فقال : اليبس
من البؤس. قال السيوطي : وذلك إسناد متصل صحيح ، فإن أبا عبيد سمعه من الأصمعي.
وكان في المطبوعة : " جرت للجزل " و " لخالقها " ، وأثبت
رواية الديوان.
(9/420)
وَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إِلَيْكَ ،
وَأَحْيِهَا... بِرُوحِكَ ، وَاقْتَتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرَا... وَظَاهِرْ لَهَا
مِنْ يَابِس الشَّخْتِ ، وَاسْتَعِنْ... عَلَيْهَا الصَّبَا ، وَاجْعَلْ يَدَيْكَ
لَهَا سِتْرَا... [وَلَمَّا تَنَمَّتْ تَأْكُلُ الرِّمَّ لَمْ تَدَعْ... ذَوَابِلَ
مِمَّا يَجْمَعُونَ ولا خُضْرَا]... فَلَمَّا جَرَتْ في الْجَزْلِ جَرْيًا
كَأَنَّهُ... سَنَا البَرْقِ ، أَحْدَثْنَا لِخَالِقِهَا شُكْرَا
وقالوا : يعني بقوله : " أحيها بروحك " ، أي : أحيها بنفخك.
* * *
وقال بعضهم يعني بقوله : " وروح منه " إنه كان إنسانًا بإحياء الله له
بقوله : " كن " . قالوا : وإنما معنى قوله : " وروح منه " ،
وحياة منه ، بمعنى إحياءِ الله إياه بتكوينه.
* * *
وقال آخرون : (1) معنى قوله : " وروح منه " ، ورحمة منه ، كما قال جل
ثناؤه في موضع آخر : ( وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) [سورة المجادلة : 22].
قالوا : ومعناه في هذا الموضع : ورحمة منه. (2) قالوا : فجعل الله عيسى رحمة منه
على من اتبعه وآمن به وصدّقه ، لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : وروح من الله خلقها فصورها ، ثم أرسلها إلى مريم فدخلت في
فيها ، فصيَّرها الله تعالى روحَ عيسى عليه السلام.
* * *
*ذكر من قال ذلك :
10855 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن
سعد قال ، أخبرني أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب في قوله
: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) ،
[سورة الأعراف : 172] ، قال : أخذهم فجعلهم أرواحًا ، ثم صوَّرهم ، ثم
__________
(1) في المطبوعة : " وقال بعضهم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " قال " بالإفراد ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/421)
استنطقهم ، فكان روح عيسى من تلك
الأرواح التي أخِذ عليها العهد والميثاق ، فأرسل ذلك الروح إلى مريم ، فدخل في
فيها ، فحملت الذي خاطبها ، وهو روح عيسى عليه السلام. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى " الروح " ههنا ، جبريل عليه السلام. قالوا : ومعنى
الكلام : وكلمته ألقاها إلى مريم ، وألقاها أيضًا إليها روح من الله. قالوا : فـ
" الروح " معطوف به على ما في قوله : " ألقاها " من ذكر الله
، بمعنى : أنّ إلقاء الكلمة إلى مريم كان من الله ، ثم من جبريل عليه السلام.
* * *
قال أبو جعفر : ولكل هذه الأقوال وجه ومذهب غير بعيدٍ من الصواب.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ
انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فآمنوا بالله ورسله " ،
فصدِّقوا ، يا أهل الكتاب ، بوحدانية الله وربوبيته ، وأنه لا ولد له ، وصدِّقوا
رسله فيما جاءوكم به من عند الله ، وفيما أخبرتكم به أن الله واحد لا شريك له ،
ولا صاحبة له ، لا ولد له " ولا تقولوا ثلاثة " ، يعني : ولا تقولوا :
الأربابُ ثلاثة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فحملت ، والذي خاطبها هو روح عيسى ... " حذف ،
الواو من آخر الجملة ، وأثبتها في أولها ، فرددته إلى أصله في المخطوطة ، وهو
الصواب. ويعني قوله تعالى في سورة مريم 24 : (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا
تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا).
وهذا الأثر لم يرد في تفسير آية الأعراف في موضعه هناك ، وهو أحد الأدلة على
اختصار أبي جعفر تفسيره ، وأحد وجوه منهجه في الاختصار.
(9/422)
ورفعت " الثلاثة " ، بمحذوف
دلّ عليه الظاهر ، وهو " هم " . ومعنى الكلام : ولا تقولوا هم ثلاثة.
وإنما جاز ذلك ، لأن " القول " حكاية ، والعرب تفعل ذلك في الحكاية ،
ومنه قول الله : ( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ) ، [سورة الكهف
: 22]. وكذلك كل ما ورد من مرفوع بعد " القول " لا رافع معه ، ففيه
إضمار اسم رافع لذلك الاسم.
* * *
ثم قال لهم جل ثناؤه : متوعدًا لهم في قولهم العظيم الذي قالوه في الله : "
انتهوا " ، أيها القائلون : الله ثالث ثلاثة ، عما تقولون من الزور والشرك
بالله ، فإن الانتهاء عن ذلك خير لكم من قِيله ، لما لكم عند الله من العقاب
العاجل لكم على قِيلكم ذلك ، إن أقمتم عليه ، ولم تُنيبوا إلى الحق الذي أمرتكم
بالإنابة إليه والآجلِ في معادكم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ
يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلا (171) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " إنما الله إله واحد " ، ما الله ، أيها
القائلون : الله ثالث ثلاثة ، كما تقولون ، لأن من كان له ولد ، فليس بإله. وكذلك
من كان له صاحبة ، فغير جائز أن يكون إلهًا معبودًا. ولكن الله الذي له الألوهة
والعبادة ، إله واحد معبود ، لا ولد له ، ولا والد ، ولا صاحبة ، ولا شريك.
ثم نزه جل ثناؤه نفسه وعظَّمها ورفعها عما قال فيه أعداؤه الكَفرة به فقال :
" سبحانه أن يكون له ولد " ، يقول : علا الله وجل وعز وتعظمَّ وتنزه عن
أن يكون له ولد أو صاحبة. (2)
__________
(1) قوله : " والآجل في معادكم " معطوف على قوله : " من العقاب
العاجل لكم ... "
(2) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف 1 : 474 - 476 ، 495 / 2 : 537.
(9/423)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
ثم أخبر جل ثناؤه عباده : أن عيسى
وأمَّه ومن في السموات ومن في الأرض ، عبيدُه وإماؤه وخلقه ، (1) وأنه رازقهم
وخالقهم ، وأنهم أهل حاجة وفاقة إليه احتجاجًا منه بذلك على من ادّعى أن المسيح
ابنه ، وأنه لو كان ابنه كما قالوا ، لم يكن ذا حاجة إليه ، ولا كان له عبدًا
مملوكًا ، فقال : " له ما في السموات وما في الأرض " ، يعني : لله ما في
السموات وما في الأرض من الأشياء كلها ملكًا وخلقًا ، وهو يرزقهم ويَقُوتهم
ويدبِّرهم ، فكيف يكون المسيح ابنًا لله ، وهو في الأرض أو في السموات ، غيرُ خارج
من أن يكون في بعض هذه الأماكن ؟
وقوله : " وكفى بالله وكيلا " ، يقول : وحسب ما في السموات وما في الأرض
بالله قَيِّمًا ومدبِّرًا ورازقًا ، من الحاجة معه إلى غيره. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا
لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ }
يعني جل ثناؤه بقوله : " لن يستنكف المسيح " ، لن يأنف ولن يستكبر المسيح
" أن يكون عبدًا لله " ، يعني : من أن يكون عبدًا لله ، كما : -
10856 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون " ، لن يحتشم
المسيح أن يكون عبدًا الله ولا الملائكة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وملكه وخلقه " ، وفي المخطوطة : " وإماله
وخلقه " فرجحت قراءتها كما أثبتها.
(2) انظر تفسير " الوكيل " فيما سلف : ص : 297 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(9/424)
وأما قوله : " ولا الملائكة
المقربون " ، فإنه يعني : ولن يستنكف أيضًا من الإقرار لله بالعبودة والإذعان
له بذلك ، رسلُه " المقربون " ، الذين قرَّبهم الله ورفع منازلهم على
غيرهم من خلقه.
* * *
وروي عن الضحاك أنه كان يقول في ذلك ، ما : -
10857 - حدثني به جعفر بن محمد البزوري قال ، حدثنا يعلى بن عبيد ، عن الأجلح قال
: قلت للضحاك : ما " المقربون " ؟ قال : أقربهم إلى السماء الثانية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : ومن يتعظّم عن عبادة ربه ، ويأنفْ من التذلل
والخضوع له بالطاعة من الخلق كلهم ، ويستكبر عن ذلك " فسيحشرهم إليه جميعًا
" ، يقول : فسيبعثهم يوم القيامة جميعًا ، فيجمعهم لموعدهم عنده. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 10857 - " جعفر بن محمد البزوري " لم أجده بهذه النسبة ،
والذي وجدته في تهذيب التهذيب ، ممن يروى عن يعلى بن عبيد " جعفر بن محمد
الواسطي الوراق " ، نزيل بغداد مات سنة 265 ، وهو خليق أن يروي عنه أبو جعفر.
ثم راجع تاريخ بغداد ، ففي " جعفر بن محمد " كثرة ، ولكن لم أجد بينهم
" البزوري " . وعسى أن تكشف الأسانيد الآتية عن الذي يعنيه أبو جعفر.
و " الأجلح " ، هو " الأجلح بن عبد الله بن حجية الكندي " ،
" أبو حجية " ، قيل اسمه " يحيى " و " الأجلح "
لقب. سمع عبد الله بن الهذيل ، وابن بريدة والشعبي ، وعكرمة. روى عنه الثوري ،
وابن المبارك. مترجم في التهذيب ، والكبير 1 / 2 / 68.
(2) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف 4 : 228 / 6 : 229.
(9/425)
فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
القول في تأويل قوله : { فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا
فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (173) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : فأما المؤمنون المقرّون بوحدانية الله ،
الخاضعون له بالطاعة ، المتذلِّلون له بالعبودية ، والعاملون الصالحات من الأعمال
، وذلك : أن يَرِدُوا على ربهم قد آمنوا به وبرسله ، وعملوا بما أتاهم به رسله من
عند ربهم ، من فعل ما أمرهم به ، واجتناب ما أمرهم باجتنابه " فيوفِّيهم
أجورهم " ، يقول : فيؤتيهم جزاءَ أعمالهم الصالحة وافيًا تامًّا (1) "
ويزيدهم من فضله " ، يعني جل ثناؤه : ويزيدهم على ما وعدهم من الجزاء على
أعمالهم الصالحة والثواب عليها ، من الفضل والزيادة ما لم يعرّفهم مبلغه ، (2) ولم
يحدّ لهم منتهاه. وذلك أن الله وعد من جاء من عباده المؤمنين بالحسنة الواحدة عشرَ
أمثالها من الثواب والجزاء. فذلك هو أجر كلِّ عامل على عمله الصالح من أهل الإيمان
المحدود مبلغه ، والزيادة على ذلك تفضُّل من الله عليهم ، وإن كان كل ذلك من فضله
على عباده. غيرَ أن الذي وعد عبادَه المؤمنين أن يُوفيهم فلا ينقصهم من الثواب على
أعمالهم الصالحة ، هو ما حَدُّ مبلغه من العَشْر ، والزيادة على ذلك غير محدود
مبلغها ، فيزيد من شاء من خلقه على ذلك قدر ما يشاء ، لا حدّ لقَدْره يوقف عليه.
* * *
وقد قال بعضهم : الزيادة إلى سبعمائة ضعف.
وقال آخرون : إلى ألفين.
__________
(1) انظر تفسير " يوفيهم أجورهم " فيما سلف 6 : 465 / 7 : 364.
(2) انظر تفسير " الفضل " فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/426)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
وقد ذكرت اختلاف المختلفين في ذلك فيما
مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . (1)
* * *
وقوله : " وأما الذين استنكفوا واستكبروا " ، فإنه يعني : وأما الذين
تعظَّموا عن الإقرار لله بالعبودة ، والإذعان له بالطاعة ، واستكبروا عن التذلّل
لألوهته وعبادته ، وتسليم الربوبيّة والوحدانية له " فيعذبهم عذابًا أليمًا
" ، يعني : عذابًا موجعًا " ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا
نصيرًا " ، يقول : ولا يجد المستنكفون من عبادته والمستكبرون عنها ، إذا
عذبهم الله الأليم من عذابه ، سوى الله لأنفسهم وليًّا ينجيهم من عذابه وينقذهم
منه " ولا نصيرًا " ، يعني : ولا ناصرًا ينصرهم فيستنقذهم من ربهم ،
ويدفع عنهم بقوّته ما أحلَّ بهم من نقمته ، كالذي كانوا يفعلون بهم إذا أرادهم
غيرهم من أهل الدنيا في الدنيا بسوء ، من نصرتهم والمدافعة عنهم . (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَأَنزلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يا أيها الناس قد جاءكم برهان من
ربكم " ، يا أيها الناس من جميع أصناف الملل ، يهودِها ونصاراها ومشركيها ،
الذين قص الله جل ثناؤه قَصَصهم في هذه السورة " قد جاءكم برهان من ربكم
" ، يقول : قد جاءتكم حجة من الله تبرهن لكم بُطُولَ ما أنتم عليه مقيمون من
أديانكم ومللكم ، (3) وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي جعله الله عليكم حجة قطع
بها
__________
(1) انظر ما سلف 5 : 512 - 516.
(2) انظر تفسير " ولي " و " نصير " فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير " البرهان " فيما سلف 2 : 509.
(9/427)
عذركم ، وأبلغ إليكم في المعذرة
بإرساله إليكم ، مع تعريفه إياكم صحة نبوته ، وتحقيق رسالته " وأنزلنا إليكم
نورًا مبينًا " ، يقول : وأنزلنا إليكم معه " نورًا مبينًا " ،
يعني : يبين لكم المحجَّة الواضحة ، والسبل الهادية إلى ما فيه لكم النجاة من عذاب
الله وأليم عقابه ، إن سلكتموها واستنرتم بضوئه. (1)
وذلك " النور المبين " ، هو القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله
عليه وسلم.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10858 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " برهان من ربكم " ، قال : حجة.
10859 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
10860 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم " ، أي : بينة من ربكم "
وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا " ، وهو هذا القرآن.
10861 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " قد جاءكم برهان من ربكم " ، يقول : حجة.
10862 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "
برهان " ، قال : بينة " وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا " ، قال :
القرآن.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " مبين " فيما سلف ص : 360 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك.
(9/428)
فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
القول في تأويل قوله : { فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ
مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فأما الذين صدَّقوا الله وأقرّوا بوحدانيته ،
وما بعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم من أهل الملل " واعتصموا به " ،
يقول : وتمسكوا بالنور المبين الذي أنزله إلى نبيه ، (1) كما : -
10863 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "
واعتصموا به " ، قال : بالقرآن.
* * *
" فسيدخلهم في رحمة منه وفضل " ، يقول : فسوف تنالهم رحمته التي تنجيهم
من عقابه ، وتوجب لهم ثوابه ورحمته وجنته ، (2) ويلحَقهم من فضله ما لَحِق أهل
الإيمان به والتصديق برسله (3) " ويهديهم إليه صراطًا مستقيمًا " ، يقول
: ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به على أوليائه ، ويسدِّدهم لسلوك منهج من أنعم
عليه من أهل طاعته ، ولاقتفاء آثارهم واتباع دينهم. وذلك هو " الصراط المستقيم
" ، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده ، وهو الإسلام . (4)
* * *
ونصب " الصراط المستقيم " على القطع من " الهاء " التي في
قوله : " إليه " . (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الاعتصام " فيما سلف 7 : 62 ، 70 / 9 : 341.
(2) قوله : " وجنته " ليست في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " ما ألحق أهل الإيمان " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) انظر تفسير " الصراط المستقيم " فيما سلف 1 : 170 - 177 / 3 : 140 ،
141 / 6 : 441 / 8 : 529.
(5) " القطع " الحال ، أو باب منه ، انظر ما سلف من فهارس المصطلحات.
(9/429)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
القول في تأويل قوله : {
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ }
يعني تعالى ذكره بقوله : " يستفتونك " ، يسألونك ، يا محمد ، أن تفتيهم
في الكلالة. (1)
* * *
وقد بينا معنى : " الكلالة " فيما مضى بالشواهد الدالة على صحته ، وقد
ذكرنا اختلاف المختلفين فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته ، وبيّنا أن " الكلالة
" عندنا : ما عدا الولد والوالد. (2)
* * *
" إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " ، يعني بقوله :
" إن امرؤ هلك " ، إن إنسان من الناس مات ، (3) كما : -
10864 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " إن امرؤ هلك " ، يقول : مات.
* * *
" ليس له ولد " ذكر ولا أنثى " وله أخت " ، يعني : وللميت أخت
لأبيه وأمه ، أو لأبيه " فلها نصف ما ترك " ، يقول : فلأخته التي تركها
بعده بالصفة التي وَصَفنا ، نصف تركته ميراثًا عنه ، دون سائر عصبته. وما بقي
فلعصبته.
* * *
وذكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هَّمهم شأن الكلالة ، فأنزل الله
تبارك وتعالى فيها هذه الآية.
__________
(1) انظر تفسير " يستفتي " فيما سلف ص : 253.
(2) انظر ما سلف في " الكلالة " 8 : 53 - 61.
(3) انظر تفسير " المرء " فيما سلف 2 : 446.
(9/430)
*ذكر من قال ذلك :
10865 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " ، فسألوا عنها نبيَّ الله ، فأنزل الله
في ذلك القرآن : " إن امرؤ هلك ليس له ولد " ، فقرأ حتى بلغ : "
والله بكل شيء عليم " . قال : وذكر لنا أنّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال
في خطبته : ألا إنّ الآية التي أنزل الله في أول " سورة النساء " في شأن
الفرائض ، أنزلها الله في الولد والوالد. والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة
والإخوة من الأم. والآية التي ختم بها " سورة النساء " ، أنزلها في
الإخوة والأخوات من الأب والأم. والآية التي ختم بها " سورة الأنفال " ،
أنزلها في أولي الأرحام ، بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مما جرَّت الرحِم من
العَصَبة. (1)
10866 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن الشيباني ، عن عمرو بن مرة ، عن
سعيد بن المسيب قال : سأل عمر بن الخطاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ،
فقال : أليس قد بيَّن الله ذلك ؟ قال : فنزلت : " يستفتونك قل الله يفتيكم في
الكلالة " . (2)
10867 - حدثنا مؤمل بن هشام أبو هشام قال ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن هشام
الدستوائي قال ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : اشتكيت وعندي تسع
أخوات لي أو : سبْع ، أنا أشكّ (3) فدخل عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فنفخ في
وجهي ، فأفقت وقلت : يا رسول الله ، ألا أوصي لأخواتي بالثلثين ؟ (4) قال : أحسن!
قلت : الشطر ؟ قال : أحسن! ثم خرج وتركني ، ثم رجع إليّ فقال :
__________
(1) الأثر : 10865 - هذا الأثر رواه البيهقي في السنن 6 : 31 ، وذكره ابن كثير في
التفسير 2 : 42 ، والدر المنثور 2 : 251.
(2) الأثر : 10866 - ذكره ابن كثير في تفسيره 2 : 42 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(3) في المطبوعة : " أبو جعفر الذي يشك " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة : " بالثلث " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الموافق
لرواية البيهقي ، أما رواية أبي داود في سننه ، فهي التي أثبتت في المطبوعة.
(9/431)
يا جابر ، إنِّي لا أُرَاك ميتًا من
وجعك هذا ، (1) وإن الله قد أنزل في الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين. قال : فكان
جابر يقول : أنزلت هذه الآية فيّ : " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة
" . (2)
10868 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن هشام يعني الدستوائي
عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. (3)
10869 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن المنكدر ، عن جابر بن
عبد الله قال : مرضت ، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودُني هو وأبو بكر وهما
ماشيان ، فوجدوني قد أغمي عليّ ، (4) فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم
صبَّ عليّ من وَضوئه ، فأفقت فقلت : يا رسول الله ، كيف أقضي في مالي أو : كيف
أصنع في مالي ؟ وكان له تسع أخوات ، ولم يكن له والد ولا ولد.
__________
(1) " لا أراك " بالبناء للمجهول (بضم الهمزة) : أي لا أظنك.
(2) الأثر : 10867 - " مؤمل بن هشام اليشكري " ، هو " أبو هشام
" . روى عن إسمعيل بن علية ، وكان صهره. روى عنه البخاري وأبو داود والنسائي
وغيرهم. مترجم في التهذيب.
و " إسمعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي " هو " ابن علية " سلف
مرارًا كثيرة و " أبو الزبير " المكي ، هو : " محمد بن مسلم بن
تدرس الأسدي " ، مضى برقم : 2029 ، 3581 ، 8205.
وهذا الأثر رواه أبو داود في السنن 3 : 164 من طريق كثير بن هشام ، عن هشام
الدستوائي بلفظه.
ورواه البيهقي في السنن 6 : 231 من طرق ، مطولا مختصرًا.
ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده : 240 ، مختصرًا وفيه " الثلثين " كما
في مخطوطة الطبري.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2 : 250 ، وزاد نسبته لابن سعد والنسائي.
(3) الأثر : 10868 - هو مكرر الأثر السالف ، من طريق ابن أبي عدي ، عن هشام.
وهذا الخبر رواه الواحدي في أسباب النزول : 139 ، وساق لفظه ، مع اختلاف يسير عن
لفظ الأثر السالف.
(4) قوله : " فوجدوني " هكذا ثبت في المطبوعة والمخطوطة ، وهي في ألفاظ
أخر " فوجدني " . والذي في المخطوطة والمطبوعة صواب ، لأنه يعني أبا بكر
ورسول الله ، ومن كان معهما ، أو من كان في البيت. ولو حمله على الجمع وهو مثنى ،
لكان له وجه في العربية.
(9/432)
قال : فلم يجبني شيئًا حتى نزلت آية
الميراث : " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " إلى آخر السورة قال
ابن المنكدر : قال جابر : إنما أنزلت هذه الآية فيّ. (1)
* * *
وكان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن هذه الآية هي آخر آية نزلت
من القرآن.
*ذكر من قال ذلك :
10870 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن
أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب قال : سمعته يقول : إن آخر آية نزلت من القرآن :
" يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " . (2)
__________
(1) الأثر : 10869 - خبر " محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله " ،
روي من طرق كثيرة ، مضى من طريق شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، مختصرًا برقم : 8730
، ثم من طريق ابن جريج ، عن محمد بن المنكدر رقم : 8731 ، بغير هذا اللفظ ،
مختصرًا ، وانظر تخريجهما هناك. أما هذا ، فرواه البخاري (الفتح 12 : 2) بمثله ،
مع خلاف يسير في لفظه ، وقد بين الحافظ ابن حجر في شرحه ، ما فيه من الاختلاف.
ورواه مسلم من طرق كثيرة ، منها طريق سفيان ، في صحيحه 11 : 54 - 56.
ورواه أبو داود في سننه 3 : 164 من طريق أحمد بن حنبل ، عن سفيان.
ورواه الترمذي في السنن (في كتاب التفسير) ، وقال : " هذا حديث حسن صحيح ، رواه
غير واحد ، عن محمد بن المنكدر " . ثم ساقه من طريق " الفضل بن صباح
البغدادي ، عن سفيان بن عيينة ، عن محمد بن المنكدر " ، ثم قال : " وفي
حديث الفضل بن صباح كلام أكثر من هذا " . وحديث الفضل بن صباح ، رواه الترمذي
قبل ذلك في (كتاب الفرائض) مطولا ، وقال : " هذا حديث صحيح " .
ورواه البيهقي في السنن 6 : 223 ، 224 ، ثم قال البيهقي : " وجابر بن عبد
الله الذي نزلت فيه آية الكلالة ، لم يكن له ولد ولا والد ، لأن أباه قتل يوم أحد.
وهذه الآية نزلت بعده " .
وذكره ابن كثير في تفسيره 2 : 41 ، والسيوطي في الدر 2 : 249 ، وزاد نسبته لابن
سعد. وابن ماجه ، وابن المنذر.
(2) الأثر : 10870 - يأتي برقم : 10871 ، 10873 ، من طريق أبي إسحق ، عن البراء.
(9/433)
10871 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبي ، عن ابن أبي خالد ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : آخر آية نزلت من القرآن :
" يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " . (1)
10872 - حدثنا محمد بن خلف قال ، حدثنا عبد الصمد بن النعمان قال ، حدثنا مالك بن
مغول ، عن أبي السفر ، عن البراء قال : آخر آية نزلت من القرآن : " يستفتونك
قل الله يفتيكم في الكلالة " . (2)
10873 - حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال ، حدثنا مصعب بن المقدام قال ، حدثنا
إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : آخر سورة نزلت كاملة " براءة
" ، وآخر آية ، نزلت خاتمة " سورة النساء " : " يستفتونك قل
الله يفتيكم في الكلالة " . (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 10871 - رواه مسلم في صحيحه 11 : 58 عن علي بن خشرم ، عن وكيع ،
بمثله. ثم ساقه من طرق أخرى ، عن أبي إسحق عن البراء.
والبيهقي في السنن 6 : 224.
(2) الأثر : 10872 - " محمد بن خلف بن عمار العسقلاني " ، شيخ الطبري ،
مضى برقم : 126 ، 6534.
و " عبد الصمد بن النعمان البزاز " . ترجم له ابن أبي حاتم 3/1/51 ، 52
وقال ، " سئل أبي عنه فقال : صالح الحديث صدوق " .
و " مالك بن مغول " ، ثقة ، مضى برقم : 5431.
و " أبو السفر " هو : " سعيد بن يحمد الثوري " أو " سعيد
بن أحمد " ، مضى برقم : 3010. والخبر رواه مسلم 11 : 59 من طريق عمرو الناقد
، عن أبي أحمد الزبيري ، عن مالك بن مغول.
ورواه الترمذي في كتاب التفسير ، من طريق عبد بن حميد ، عن أبي نعيم ، عن مالك بن
مغول ، وقال : " هذا حديث حسن " .
(3) الأثر : 10873 - مكرر الأثرين السالفين : 10870 ، 10871.
" هرون بن إسحق الهمداني " شيخ الطبري ، مضى برقم : 3001.
و " مصعب بن المقدام الخثعمي " ، مضى برقم : 1291 ، 3001.
وهذا الأثر من طريق إسرائيل ، عن أبي إسحق ، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 12 :
22). وفي المخطوطة هنا " خاتم سورة البقرة " ، والصواب ما في المطبوعة.
(9/434)
واختلف في المكان الذي نزلت فيه الآية.
فقال جابر بن عبد الله : نزلت في المدينة. وقد ذكرت الرواية بذلك عنه فيما مضى ،
بعضها في أول السورة عند فاتحة آية المواريث ، وبعضها في مبتدإ الأخبار عن السبب
الذي نزلت فيه هذه الآية. (1)
* * *
وقال آخرون : بل أنزلت في مسيرٍ كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
*ذكر من قال ذلك :
10874 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد ، عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن
سيرين قال : نزلت : " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " ، والنبيّ
في مسير له ، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان ، فبلَّغها النبي صلى الله عليه وسلم
حُذيفة ، وبلّغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه. فلما استُخلف عمر سأل عنها
حذيفة ، ورجا أن يكون عنده تفسيرها ، فقال له حذيفة : والله إنك لعاجز إن ظننت أن
إمارتك تحملني أن أحدِّثك فيها بما لم أحدِّثك يومئذ! فقال عمر : لم أرِد هذا ،
رحمك الله!
10875 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب
، عن ابن سيرين بنحوه إلا أنه قال في حديثه : فقال له حذيفة : والله إنك لأحمق إن
ظننتَ.
10876 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا ابن عون ، عن
محمد بن سيرين قال : كانوا في مسير ، ورأسُ راحلة حذيفة عند رِدْف راحلة رسول الله
صلى الله عليه وسلم (2) ورأس راحلة عمر عند رِدْف
__________
(1) يعني ما سلف رقم : 8730 ، 8731 ، ثم ما سلف قريبًا من : 10867 - 10869.
(2) " ردف الراحلة " : كفل الدابة.
(9/435)
راحلة حذيفة. قال : ونزلت : " يستفتونك
قل الله يفتيكم في الكلالة " ، فلقَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة
، فلقّاها حذيفة عمر. فلما كان بعد ذلك ، سأل عمرُ عنها حذيفةَ فقال : والله إنك
لأحمق إن كنت ظننت أنه لقّانيها رسول الله فلقَّيْتُكها كما لقَّانيها ، (1) والله
لا أزيدك عليها شيئًا أبدًا! قال : وكان عمر يقول : اللهم مَن كنتَ بيّنتها له ،
(2) فإنها لم تُبَيَّن لي. (3)
* * *
واختلف عن عمر في الكلالة ، فروي عنه أنه قال فيها عند وفاته : " هو من لا
ولد له ولا والد " . وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فيما مضى في أول هذه السورة
في آية الميراث. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فلقنتكها " من " التلقين " ، وهو صواب في
المعنى ، ولكن السياق يقتضي ما أثبته من المخطوطة ، وهي فيها منقوطة. و "
لقاه الآية " : علمه الآية ، ولقنه إياها.
(2) في المطبوعة وابن كثير " إن كنت " ، وأثبت ما في المخطوطة والدر
المنثور ، وهي صواب محض ، وانظرها كذلك في الأثر الآتي رقم : 10892.
(3) الآثار : 10874 - 10876 ، ذكر الأثر الأخير منها ابن كثير في تفسيره 3 : 44 ،
ثم قال : " كذا رواه ابن جرير ، ورواه أيضًا عن الحسن بن يحيى ، عن عبد
الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، كذلك بنحوه. وهو منقطع بين ابن سيرين
وحذيفة. وقد قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده : حدثنا يوسف بن
حماد المعنى ، ومحمد بن مرزوق ، قالا ، حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ، حدثنا
هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي عبيدة بن حذيفة ، عن أبيه قال : نزلت
آية الكلالة.. " وساق الخبر ، ثم قال : " قال البزار : وهذا الحديث لا
نعلم أحدًا رواه إلا حذيفة ، ولا نعلم له طريقًا عن حذيفة إلا هذا الطريق ، ولا
رواه عن هشام إلا عبد الأعلى " . قال ابن كثير : " وكذا رواه ابن مردويه
" .
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 13 ، وقال : " رواه البزار ، ورجاله رجال
الصحيح ، غير أبي عبيدة بن حذيفة ، ووثقه ابن حبان " .
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2 : 250 قال : " أخرج العدني والبزار في
مسنديهما ، وأبو الشيخ في الفرائض ، بسند صحيح عن حذيفة " ثم ذكر الخبر.
وعاد فخرجه في 2 : 251 ، ونسبه لابن جرير ، وعبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن ابن
سيرين ، منقطعًا.
(4) انظر رقم : 8745 - 8748 ، 8767
(9/436)
وروي عنه أنه قال قبل وفاته : هو ما
خلا الأب. (1)
*ذكر من قال ذلك :
10877 - حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن
سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال ، قال عمر بن الخطاب : ما
أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو : ما نازعتُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم في شيء ما نازعته في آية الكلالة ، حتى ضرب صَدري وقال : يكفيك منها آية
الصيف التي أنزلت في آخر " سورة النساء " : (2) " يستفتونك قل الله
يفتيكم في الكلالة " ، وسأقضي فيها بقضاء يعلمه من يقرأ ومن لا يقرأ ، هو ما
خلا الأب كذا أحسب قال ابن عرفة قال شبابة : الشك من شعبة. (3)
* * *
وروي عنه أنه قال : " إني لأستحيي أن أخالف فيه أبا بكر " ، وكان أبو
بكر يقول : " هو ما خلا الولد والوالد " . وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه
فيما مضى في أول السورة (4)
* * *
وروي عنه أنه قال عند وفاته : " قد كنت كتبت في الكلالة كتابًا ،
__________
(1) انظر رقم : 8745 - 8748 ، 8767.
(2) قوله : " التي أنزلت في آخر سورة النساء " غير ثابت في المخطوطة ،
وهو ثابت في روايات الحديث التي ستأتي في التخريج.
(3) الأثر : 10877 - خبر سالم بن أبي الجعد ، عن معدان ، عن عمر سيرويه أبو جعفر
من أربع طرق أخرى فيما سيأتي من رقم : 10884 - 10887.
وروى هذا الخبر من طريق شبابة بن سوار ، عن شعبة ، عن قتادة ، مسلم في صحيحه 11 :
57 ، إشارة.
ورواه البيهقي في السنن 6 : 224 بلفظه ، وقال : " رواه مسلم عن زهير بن حرب
" . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 251 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير ، فقصر
في نسبته. وانظر تخريج الآثار التالية التي أشرت إليها.
(4) انظر ما سلف رقم : 8745 - 8749.
(9/437)
وكنت أستخير الله فيه ، وقد رأيت أن
أترككم على ما كنتم عليه " ، وأنه كان يتمنى في حياته أن يكون له بها علم.
*ذكر من قال ذلك :
10878 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد المعمري ، عن معمر ، عن الزهري ،
عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب كتب في الجدّ والكلالة كتابًا ، فمكث يستخير
الله فيه يقول : " اللهم إن علمت فيه خيرًا فأمضه " ، حتى إذا طُعِن ،
دعا بكتاب فَمُحي ، (1) فلم يدر أحدٌ ما كتب فيه ، فقال : " إني كنت كتبت في
الجدّ والكلالة كتابًا ، وكنت أستخير الله فيه ، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه
" . (2)
10879 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر ، بنحوه. (3)
10880 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان قال ، حدثنا عمرو بن مرة ، عن
مرة الهمداني قال ، قال عمر : ثلاث لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بيَّنهن لنا
، أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها : الكلالة ، والخلافة ، وأبواب الربا. (4)
__________
(1) في المطبوعة : " بالكتاب فمحي " ؛ بالتعريف ، وهو كذلك في الدر
المنثور ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو موافق لرواية ابن كثير في تفسيره.
(2) الأثر : 10878 - ذكره ابن كثير في تفسيره 3 : 45 عن هذا الموضع من التفسير ،
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 250 ، ونسبه لعبد الرزاق ، ولم ينسبه لابن جرير
، وقد رواه الطبري بنحوه في الأثر التالي : 10879.
(3) الأثر : 10878 - ذكره ابن كثير في تفسيره 3 : 45 عن هذا الموضع من التفسير ،
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 250 ، ونسبه لعبد الرزاق ، ولم ينسبه لابن جرير
، وقد رواه الطبري بنحوه في الأثر التالي : 10879.
(4) الأثر : 10880 - رواه أبو داود الطيالسي من طريق شعبة ، عن عمرو بن مرة ، مع
اختلاف يسير في لفظه ، مطولا.
ورواه البيهقي في السنن من طريق أبي داود الطيالسي 6 : 225.
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 304 من طريق سفيان ، عن عمرو بن مرة ، بلفظ الطبري ،
وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير في تفسيره 3 : 45 ، ولم ينسبه لغير الحاكم.
وخرجه السيوطي في الدر 2 : 251 ، 252 ، وزاد نسبته لعبد الرزاق ، والعدني ، وابن
ماجه ، والساجي.
وقوله : " أبواب الربا " ، أي : وجوه الربا وطرقه ، وهذا اللفظ ليس فيما
ذكرت من المراجع ، فيها جميعًا " والربا " . وانظر الأثر الآتي : 10883
، والتعليق عليه.
(9/438)
10881 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا
عثام قال ، حدثنا الأعمش قال : سمعتهم يذكرون ، ولا أرى إبراهيم إلا فيهم ، عن عمر
قال : لأن أكون أعلم الكلالة ، أحبُّ إليّ من أن يكون لي مثل جزية قصور الروم. (1)
10882 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثام قال ، حدثنا الأعمش ، عن قيس بن مسلم ،
عن طارق بن شهاب قال : أخذ عمر كتِفًا وجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم
قال : لأقضين في الكلالة قضاءً تحدَّثُ به النساء في خدورهن! فخرجت حينئذ حيَّة من
البيت ، فتفرَّقوا ، فقال : لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمَّه. (2)
10883 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أبو حيان قال ،
حدثني الشعبي ، عن ابن عمر قال : سمعت عمر بن الخطاب يخطب على منبر المدينة ، فقال
: أيها الناس ، ثلاثٌ ودِدت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارِقنا حتى يعهد
إلينا فيهن عهدًا يُنتهى إليه : الجدّ ، والكلالة ، وأبواب الربا. (3)
__________
(1) الأثر : 10881 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 251 ، ولم ينسبه لغير ابن
جرير ، وفيه " قصور الشأم " ، وهما سواء في المعنى ، ولكن العجب أنه
نقله عن هذا الموضع من التفسير ، وكتب مكان " الروم " " الشأم
" .
(2) الأثر : 10882 - رواه البيهقي في السنن 6 : 245 ، من طريق جرير عن الأعمش. مع
اختلاف في لفظه.
وذكره ابن كثير في تفسيره 3 : 44 ، 45 ، ثم قال : " وهذا إسناد صحيح " .
وخرجه السيوطي 2 : 250 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
وفي المخطوطة : " النساء في خدورها " ، وهما سواء.
(3) الأثر : 10883 - " أبو حيان " هو : " يحيى بن سعيد التيمي
" ، مضى برقم : 5382 ، 5383 ، 6318 ، 8155.
وهذا الخبر رواه البخاري مطولا (الفتح 10 : 39 - 43) من طريق يحيى بن سعيد القطان
عن أبي حيان التيمي.
ورواه مسلم في صحيحه 18 : 165 من أربع طرق ، من طريق علي بن مسهر ، عن أبي حيان ،
ومن طريق ابن إدريس عن أبي حيان ، ومن طريق ابن علية عن أبي حيان ، ومن طريق عيسى
بن يونس عن أبي حيان.
ورواه البيهقي في السنن 6 : 245/8 : 289.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2 : 249 ، وزاد نسبته لعبد الرزاق ، وابن المنذر.
وفي جميع المراجع : " وأبواب من أبواب الربا " ، وانظر شرح ذلك في
التعليق على الأثر : 10880
(9/439)
10884 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن
علية ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي
طلحة : أن عمر بن الخطاب قال : ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر
مما سألت عن الكلالة ، حتى طَعَن بإصبعه في صدري وقال : تكفيك آية الصيف التي في
آخر " سورة النساء " . (1)
10885 - حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال ، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، عن
سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان ، عن عمر قال : لن أدع شيئًا
أهمَّ عندي من أمر الكلالة ، فما أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما
أغلظ لي فيها ، حتى طعن بإصبعه في صدري أو قال : في جنبي فقال : تكفيك الآية التي
أنزلت في آخر " النساء " . (2)
__________
(1) الأثر : 10884 - خبر سالم بن أبي الجعد ، عن معدان ، مضى برقم : 10877 من طريق
شعبة عن قتادة. وأشار إليه مسلم في صحيحه 11 : 57 من طريق ابن علية عن سعيد بن أبي
عروبة ، عن قتادة.
ورواه أحمد في المسند رقم : 341 من طريق محمد بن جعفر ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن
قتادة مطولا.
ورواه أيضًا مطولا رقم : 89 من طريق عفان ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة.
ورواه مختصرًا رقم : 179 من طريق إسمعيل ، عن سعيد بن أبي عروبة.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 2 : 241 من هذه الأخيرة من مسند أحمد ، ولم يذكر شيئًا
عن الطرق الأخرى ، بل قال : " هكذا رواه مختصرًا ، وأخرجه مسلم مطولا أكثر من
هذا " ، مع أن أحمد أخرجه في مواضع مطولا كما ترى ، وكما سيأتي في التعليق
على رقم : 10887.
(2) الأثر : 10885 - " إبراهيم بن سعيد الجوهري " ، شيخ الطبري ، ثقة ،
مضى برقم : 3355 ، 3959.
و " عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي " ، ثقة صدوق مأمون ، من شيوخ أحمد.
مترجم في التهذيب. ومضى في الإسناد رقم : 8284 ، وهذا طريق آخر للأثر السالف.
وفي المطبوعة : " لم أدع " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/440)
10886 - حدثنا محمد بن بشار قال ،
حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي
طلحة : أن عمر بن الخطاب خطب الناس يوم الجمعة فقال : إنيّ والله ما أدع بعدي
شيئًا هو أهمّ إليّ من أمر الكلالة ، وقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها ، حتى طعن في نحري وقال : " تكفيك آية
الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء " ، وإن أعِش أقض فيها بقضية لا يختلف
فيها أحدٌ قرأ القرآن. (1)
10887 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا هشام ، عن قتادة ،
عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن عمر بن الخطاب بنحوه. (2)
10888 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال ، سمعت أبي يقول ، أخبرنا أبو
حمزة ، عن جابر ، عن الحسن بن مسروق ، عن أبيه قال : سألت عمر وهو يخطب الناس عن
ذي قرابة لي وَرِث كلالة ، فقال : الكلالة ، الكلالة ، الكلالة!! وأخذ بلحيته ، ثم
قال : والله لأن أعلمَها أحبَّ إلي من أن يكون لي ما على الأرض من شيء ، سألت عنها
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف ؟
فأعادها ثلاث مرات. (3)
__________
(1) الأثر : 10886 - هذه طريق أخرى للأثرين السالفين ، طريق سعيد بن أبي عروبة.
(2) الأثر : 10887 - رواه من هذه الطريق مسلم في صحيحه 11 : 56.
ورواه أحمد مطولا في المسند برقم : 186 ، وانظر التعليق على الآثار السالفة.
(3) الأثر : 10888 - " محمد بن علي بن الحسن بن شقيق " ثقة ، مضى برقم :
1591 ، 2575.
وأبوه " علي بن الحسن بن شقيق " ثقة ، مضى أيضًا برقم : 1591 ، 1909.
و " أبو حمزة " هو السكري : " محمد بن ميمون " ثقة إمام ، مضى
برقم : 1591.
و " جابر " هو " جابر الجعفي " : جابر بن يزيد بن الحارث
الجعفي ، مضى برقم : 764 ، 858 ، 2340 ، ومواضع أخرى كثيرة. وهو ضعيف جدًا ، رمي بالكذب.
أما " الحسن بن مسروق " ، فلم أجد في الرواة من يسمى بهذا الاسم ، وأما
أبوه فكأنه يعني : " مسروق بن الأجدع الهمداني الوداعي " . أحد المقرئين
والمفتين.. روى عن أبي بكر وعمر وعثمان وكثير من الصحابة. وليس في الرواة عن مسروق
من اسمه " الحسن " ، ولا وجدت له ولدًا يقال " الحسن له ابن مسروق
" .
ففي هذا الإسناد ما فيه من البلاء.
وهذا الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور 2 : 251 ، عن الحسن بن مسروق ، عن أبيه
كما هنا ، ونسبه للطبري وحده.
(9/441)
10889 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن أبي سلمة قال : جاء رجل إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة ، فقال : ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف : (
وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً ) إلى آخر الآية ؟ (1)
10890 - حدثني محمد بن خلف قال ، حدثنا إسحاق بن عيسى قال ، حدثنا ابن لهيعة ، عن
يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير : أن رجلا سأل عُقبة عن الكلالة ، فقال : ألا
تعجبون من هذا ؟ يسألني عن الكلالة ، وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة! (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 10889 - " أبو أسامة " هو : " حماد بن أسامة بن زيد
الكوفي " ، مضى برقم : 29 ، 51 ، 223 ، 2995 ، 5265.
و " زكريا " هو : " زكريا بن أبي زائدة " مضى برقم : 112 ،
1219.
و " أبو إسحق " هو السبيعي.
و " أبو سلمة " هو : " أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري
" ، مضى برقم : 8 ، 67 ، 3015 ، 8394.
وهذا الأثر رواه البيهقي في السنن 6 : 224 ، من طريق يحيى بن آدم ، عن عمار بن
رزيق ، عن أبي إسحق ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وقال : " حديث أبي إسحق عن
أبي سلمة منقطع ، وليس بمعروف " .
(2) الأثر : 10890 - " إسحق بن عيسى بن نجيح " هو أبو يعقوب ، ابن
الطباع ، مضى برقم : 2836.
و " ابن لهيعة " مضى مرارًا.
و " يزيد بن أبي حبيب المصري " ثقة مضى برقم : 4348 ، 5493.
و " أبو الخير " هو : " مرثد بن عبد الله اليزني " الفقيه
المصري ، روى عن عقبة بن عامر الجهني ، وكان لا يفارقه ، وعمرو بن العاص ، وعبد
الله بن عمرو ، وغيرهم من الصحابة. تابعي ثقة ، مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر رواه الدارمي في سننه 2 : 366 ، من طريق عبد الله بن يزيد ، عن سعيد بن
أبي أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب. وفي النسخة المطبوعة من الدارمي خطأ قال فيها
" عن يزيد بن عبد الله اليزني " ، والصواب " مرثد بن عبد الله
" ، وهو أبو الخير ، كما سلف.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2 : 250 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.
" أعضل الأمر " و " أعضل به الأمر " : ضاق وأشكل ، وضاق به
ذرعًا لإشكاله.
(9/442)
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فما وجه
قوله جل ثناؤه : " وإن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " ،
ولقد علمت اتفاق جميع أهل القبلة ما خلا ابن عباس وابن الزبير رحمة الله عليهما
على أن الميت لو ترك ابنةً وأختًا ، أن لابنته النصف ، وما بقي فلأختِه ، إذا كانت
أخته لأبيه وأمه ، أو لأبيه ؟ وأين ذلك من قوله : " إن امرؤ هلك ليس له ولد
وله أخت فلها نصف ما ترك " ، وقد ورَّثوها النصف مع الولد ؟
قيل : إنّ الأمر في ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه. إنما جعل الله جل ثناؤه بقوله :
" إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " ، إذا لم يكن للميت
ولد ذكر ولا أنثى ، وكان موروثًا كلالة ، النصفَ من تركته فريضةً لها مسمَّاة.
فأما إذا كان للميت ولد أنثى ، فهي معها عصبة ، يصير لها ما كان يصير للعصبة غيرها
، لو لم تكن. وذلك غير محدود بحدٍّ ، ولا مفروض لها فرضَ سهام أهل الميراث
بميراثهم عن ميِّتهم. ولم يقل الله في كتابه : " فإن كان له ولد فلا شيء
لأخته معه " ، فيكون لما روي عن ابن عباس وابن الزبير في ذلك وجهٌ يوجَّه
إليه. وإنما بيَّن جل ثناؤه ، مبلغ حقِّها إذا وُرث الميت كلالةً ، وترك بيان ما
لها من حق إذا لم يورث كلالةً في كتابه ، وبيَّنه بوحيه على لسان رسوله صلى الله
عليه
(9/443)
وسلم ، فجعلها عصبة مع إناث ولد الميت.
وذلك معنًى غير معنى وراثتها الميت ، إذا كان موروثًا كلالةً.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : وأخو المرأة يرثها إن ماتت قبله ، إذا وُرِثت
كلالة ، (1) ولم يكن لها ولد ولا والد.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ
مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الأنْثَيَيْنِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فإن كانتا اثنتين " ، فإن كانت
المتروكة من الأخوات لأبيه وأمه أو لأبيه " اثنتين " فلهما ثلثا ما ترك
أخوهما الميت ، إذا لم يكن له ولد ، وورث كلالة " وإن كانوا إخوة " ،
يعني : وإن كان المتروكون من إخوته " رجالا ونساء فللذكر " منهم
بميراثهم عنه من تركته " مثل حظ الأنثيين " ، يعني : مثل نصيب اثنتين من
أخواته. (2) وذلك إذا ورث كلالةً ، والإخوة والأخوات إخوته وأخواته لأبيه وأمه ،
أو : لأبيه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إذا ورث كلالة " ، والصواب ما أثبت من المخطوطة.
(2) انظر تفسير " مثل حظ الأنثيين " فيما سلف : 8 : 30 - 34.
(9/444)
القول في تأويل قوله : { يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يبين الله لكم قسمة مواريثكم ، وحكم الكلالة
، وكيف فرائضهم " أن تضلوا " ، بمعنى : لئلا تضلوا في أمر المواريث
وقسمتها ، أي : لئلا تجوروا عن الحق في ذلك وتخطئوا الحكم فيه ، فتضلّوا عن قصد
السبيل ، (1) كما : -
10891 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله :
" يبين الله لكم أن تضلوا " ، قال : في شأن المواريث.
10892 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد المعمري وحدثنا الحسن بن يحيى
قال ، أخبرنا عبد الرزاق قالا جميعًا ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين قال
: كان عمر إذا قرأ : " يبين الله لكم أن تضلوا " قال : اللهم مَنْ
بَيَّنت له الكلالة ، فلم تُبَيَّن لي. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وموضع " أن " في قوله : " يبين الله لكم أن تضلوا
" ، نصبٌ ، في قول بعض أهل العربية ، لاتصالها بالفعل.
* * *
وفي قول بعضهم : خفضٌ ، بمعنى : يبين الله لكم بأن لا تضلوا ، ولئلا تضلوا وأسقطت
" لا " من اللفظ وهي مطلوبة في المعنى ، لدلالة الكلام عليها. والعرب
تفعل ذلك ، تقول : " جئتك أن تلومني " ، بمعنى : جئتك أن لا تلومني ،
كما قال القطامي في صفة ناقة :
__________
(1) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) الأثر : 10892 - انظر الأثر السالف رقم : 10876.
(9/445)
رَأَيْنَا مَا يَرَى البُصَراءُ
فِيهَا... فَآلَيْنَا عَلَيْها أَنْ تُبَاعَا (1)
بمعنى : أن لا تباع.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " والله بكل شيء " من مصالح عباده
في قسمة مواريثهم وغيرها ، وجميع الأشياء " عليم " ، يقول : هو بذلك كله
ذو علم. (2)
* * *
(آخر تفسير سورة النساء) والحمد الله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم
* * *
__________
(1) ديوانه 43 ، وقد سلف من هذه القصيدة أبيات في 1 : 116/7 : 557 ، يصف ناقته لما
بلغت مبلغها واستوت كما وصفها ، فيقول : لما رأينا كرمها وحسنها حلفنا عليها أن لا
تباع ، لنفاستها علينا.
(2) انظر تفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(9/446)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
تفسير سورة المائدة بسم الله الرحمن
الرحيم
وبه نستعين
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا " ،
يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله ، وأذعنوا له بالعبودية ، وسلموا له الألوهة
(1) وصدَّقوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم في نبوته وفيما جاءهم به من عند
ربهم من شرائع دينه " أوفوا بالعقود " ، يعني : أوفوا بالعهود التي
عاهدتموها ربَّكم ، والعقود التي عاقدتموها إياه ، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقًا
، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضًا ، فأتمُّوها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله
بما ألزمكم بها ، ولمن عاقدتموه منكم ، بما أوجبتموه له بها على أنفسكم ، ولا
تنكُثُوها فتنقضوها بعد توكيدها . (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في " العقود " التي أمر الله جل ثناؤه بالوفاء بها
بهذه الآية ، بعد إجماع جميعهم على أن معنى " العقود " ، العهود.
فقال بعضهم : هي العقود التي كان أهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضًا على النُّصرة
والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمه أو بغاه سوءًا ، وذلك هو معنى " الحلف
" الذي كانوا يتعاقدونه بينهم.
ذكر من قال : معنى " العقود " ، العهود.
10893 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني
__________
(1) في المطبوعة : " الألوهية " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " أوفى " فيما سلف 1 : 557/3 : 348/6 : 526.
(9/447)
معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس
قوله : " أوفوا بالعقود " ، يعني : بالعهود.
10894 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل وعز : " أوفوا بالعقود " ، قال :
العهود.
10895 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
10896 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله . (1)
10897 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع
بن أنس قال : جلسنا إلى مطرّف بن الشخِّير وعنده رجل يحدثهم ، فقال : " يا
أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، قال : هي العهود . (2)
10898 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن
أبيه ، عن الربيع : " أوفوا بالعقود " ، قال : العهود.
10899 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك :
" يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، قال : هي العهود.
10900 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن
سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول : " أوفوا بالعقود " ، بالعهود.
__________
(1) الأثر : 10896 - في المخطوطة : " حدثنا سفيان قال ، حدثنا ابن أبي سفيان
، عن رجل... " وهو خطأ وسهو ، وهو إسناد دائر في التفسير : سفيان بن وكيع ،
عن أبيه وكيع ، عن سفيان الثوري.
(2) الأثر : 10897 - " عبيد الله " ، هو " عبيد الله بن موسى بن
أبي المختار العبسي " " باذام " ، مضت ترجمته برقم : 2092 ، 2219 ،
5796 ، 7758. وكان في المطبوعة هنا : " عبيد الله عن ابن أبي جعفر الرازي
" ، وهو خطأ سيأتي على الصواب في الأسانيد التالية رقم : 10935 ، 10957 ،
10963.
(9/450)
10901 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ،
أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : " أوفوا بالعقود " ،
قال : بالعهود.
10902 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " أوفوا بالعقود " ، قال : هي العهود.
10903 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، سمعت الثوري يقول : "
أوفوا بالعقود " ، قال : بالعهود.
10904 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد ، مثله.
* * *
قال أبو جعفر : و " العقود " جمع " عَقْدٍ " ، وأصل "
العقد " ، عقد الشيء بغيره ، وهو وصله به ، كما يعقد الحبل بالحبلِ ، إذا وصل
به شدًّا. يقال منه : " عقد فلان بينه وبين فلان عقدًا ، فهو يعقده " ،
ومنه قول الحطيئة :
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ... شَدُّوا العِنَاجَ وَشَدُّوا
فَوْقَهُ الْكَرَبَا (1)
__________
(1) ديوانه : 6 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 145 ، اللسان (كرب) (عنج) ، من
قصيدته التي قالها في الزبرقان بن بدر ، وبغيض بن عامر من بني أنف الناقة ، فمدح
بغيضًا وقومه فقال : قَوْمٌ هُمُ الأَنْفُ ، وَالأَذْنَابُ غَيْرهُمُ ، ... وَمَنْ
يُسَوِّي بِأَنْفِ النَّاقَةِ الذَّنَبَا!
قَوْمٌ يَبِيتُ قَرِيرَ العَيْنِ جَارُهُمُ ... إذَا لَوَى بقُوَى أَطْنَابِهِمْ
طُنُبَا
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا........ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هذا مثل ضربه يقول : إذا عقدوا للجار عقدًا وذمامًا ، أحكموا على أنفسهم العقد ،
حتى يكون أقر عينًا بنصرتهم له ، وحمايتهم لعرضه وماله. وضرب المثل بالدلو ، التي
يستقي بها وينتفع. و " العناج " : خيط يشد في أسفل الدلو ، ثم يشد في
عروتها ، أو في أحد آذانها ، فإذا انقطع حبل الدلو ، أمسك العناج الدلو أن تقع في
البئر. و " الكرب " الحبل الذي يشد على الدلو بعد " المنين "
وهو الحبل الأول ، فإذا انقطع المنين بقي الكرب. فهذا هو المثل ، استوثقوا له
بالعهد ، كما استوثقوا لدلوه بالحبل بعد الحبل حتى تكون بمأمن من القطع.
(9/451)
وذلك إذا وَاثقه على أمر وعاهده عليه
عهدًا بالوفاء له بما عاقده عليه ، من أمان وذِمَّة ، أو نصرة ، أو نكاح ، أو بيع
، أو شركة ، أو غير ذلك من العقود.
* * *
ذكر من قال المعنى الذي ذكرنا عمن قاله في المراد من قوله : " أوفوا بالعقود
" .
10905 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله
: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، أي : بعقد الجاهلية. ذُكر
لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : أوفوا بعقد الجاهلية ، ولا
تحدثوا عقدًا في الإسلام. وذكر لنا أن فرات بن حيَّان العِجلي ، سأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : لعلك تسأل
عن حِلْف لخْمٍ وتَيْم الله ؟ فقال : نعم ، يا نبي الله! قال : لا يزيده الإسلام
إلا شدة.
10906 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا معمر ، عن قتادة
: " أوفوا بالعقود " ، قال : عقود الجاهلية : الحلف.
* * *
وقال آخرون : بل هي الحلف التي أخذ الله على عباده بالإيمان به وطاعته ، فيما أحل
لهم وحرم عليهم.
*ذكر من قال ذلك :
10907 - حدثني المثنى قال ، أخبرنا عبد الله قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أوفوا بالعقود " ، يعني : ما أحل
وما حرّم ، وما فرض ، وما حدَّ في القرآن كله ، فلا تغدِروا ولا تنكُثوا. ثم شدَّد
ذلك فقال : ( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) إلى قوله : ( سُوءُ
الدَّارِ ) [سورة الرعد : 35].
10908 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن
(9/452)
ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "
أوفوا بالعقود " ، ما عقد الله على العباد مما أحل لهم وحرَّم عليهم.
* * *
وقال آخرون : بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ، ويعقدها المرء على نفسه.
*ذكر من قال ذلك :
10909 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد
الله بن عبيدة قال : العقود خمس : عُقدة الأيمان ، وعُقدة النكاح ، وعقدة العَهد ،
وعقدة البيع ، وعقدة الحِلْف.
10910 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا وكيع ، عن موسى بن عبيدة ،
عن محمد بن كعب القرظي أو عن أخيه عبد الله بن عبيدة ، نحوه.
10911 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله
: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، قال : عقد العهد ، وعقد
اليمين وعَقد الحِلْف ، وعقد الشركة ، وعقد النكاح. قال : هذه العقود ، خمس.
10912 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم قال ، حدثنا أبي في قول الله جل وعز : " يا أيها الذين آمنوا
أوفوا بالعقود " ، قال : العقود خمس : عقدة النكاح ، وعقدة الشركة ، وعقد
اليمين ، وعقدة العهد ، وعقدة الحلف . (1)
* * *
وقال آخرون : بل هذه الآية أمرٌ من الله تعالى لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به
ميثاقهم ، من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما
جاءهم به من عند الله.
__________
(1) الأثر 10912 - " عتبة بن سعيد الحمصي " مضى برقم : 8966.
(9/453)
*ذكر من قال ذلك :
10913 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "
أوفوا بالعقود " ، قال : العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب : أن يعملوا
بما جاءهم.
10914 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني يونس
قال ، قال محمد بن مسلم : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو
بن حزم حين بعثه على نَجْران (1) فكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم ، فيه : "
هذا بيان من الله ورسوله : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ،
فكتب الآيات منها حتى بلغ " إن الله سريع الحساب " . (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، ما قاله ابن عباس ، وأن
معناه : أوفوا ، يا أيها الذين آمنوا ، بعقود الله التي أوجبَهَا عليكم ، وعقدها
فيما أحلَّ لكم وحرم عليكم ، وألزمكم فرضه ، وبيَّن لكم حدوده.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال ، لأن الله جل وعز أتبع ذلك
البيانَ عما أحل لعباده وحرم عليهم ، وما أوجب عليهم من فرائضه. فكان معلومًا بذلك
أن قوله : " أوفوا بالعقود " ، أمرٌ منه عبادَه بالعمل بما ألزمهم من
فرائضه وعقوده عقيب ذلك ، ونَهْيٌ منه لهم عن نقض ما عقده عليهم منه ، مع أن قوله
: " أوفوا بالعقود " ، أمرٌ منه بالوفاء بكل عقد أذن فيه ، فغير جائز أن
يخصَّ منه شيء حتى تقوم حجة بخصوص شيء منه يجب التسليم لها. فإذْ كان الأمر في ذلك
كما وصفنا ، فلا معنى لقول من وجَّه ذلك إلى معنى الأمر بالوفاء ببعض العقود التي
أمرَ الله بالوفاء بها دون بعض.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بعثه إلى نجران " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر : 10914 - روى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبو جعفر في التاريخ
3 : 157 ، وهو في سيرة ابن هشام 4 : 241 ، وفتوح البلدان للبلاذري : 77 ، وغيرها.
(9/454)
وأما قوله : " أوفوا " فإن
للعرب فيه لغتين :
إحداهما : " أوفوا " ، من قول القائل : " أوفيت لفلان بعهده ، أوفي
له به " .
والأخرى من قولهم : " وفيت له بعهده أفي " . (1)
و " الإيفاء بالعهد " ، إتمامه على ما عقد عليه من شروطه الجائزة.
* * *
القول في تأويل قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في " بهيمة الأنعام " التي ذكر الله
عز ذكره في هذه الآية أنه أحلها لنا.
فقال بعضهم : هي الأنعام كلها.
*ذكر من قال ذلك :
10915 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن عوف ، عن الحسن قال :
بهيمة الأنعام ، هي الإبل والبقر والغنم.
10916 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام " ، قال : الأنعام كلها.
10917 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا ابن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي
: " أحلت لكم بهيمة الأنعام " ، قال : الأنعام كلها.
10918 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن
أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام " ، قال :
الأنعام كلها. (2)
10920 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ،
__________
(1) انظر تفسير " أوفى " فيما سلف 1 : 557 - 559/3 : 348/6 : 526.
(2) سقط من الترقيم ، رقم : 10919.
(9/455)
أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت
الضحاك يقول في قوله : " بهيمة الأنعام " ، هي الأنعام.
* * *
وقال آخرون : بل عنى بقوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام " ، أجنة الأنعام
التي توجد في بطون أمهاتها - إذا نحرت أو ذبحت - ميتةً.
*ذكر من قال ذلك :
10921 - حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، أخبرنا أبو عبد الرحمن
الفزاري ، عن عطية العوفي ، عن ابن عمر في قوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام
" . قال : ما في بطونها. قال قلت : إن خرج ميتًا أكله ؟ قال : نعم.
10922 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا يحيى بن زكريا ، عن إدريس
الأودي ، عن عطية ، عن ابن عمر نحوه وزاد فيه قال : نعم ، هو بمنزلة رئتها وكبدها.
10923 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن
عباس قال : الجنين من بهيمة الأنعام ، فكلوه.
10924 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مسعر وسفيان ، عن قابوس عن أبيه ، عن
ابن عباس : أن بقرة نحرت فوُجد في بطنها جنين ، فأخذ ابن عباس بذنَب الجنين فقال :
هذا من بهيمة الأنعام التي أحلّت لكم.
10925 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن قابوس ، عن أبيه ،
عن ابن عباس قال : هو من بهيمة الأنعام.
10926 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم ومؤمل قالا حدثنا سفيان ، عن قابوس ،
عن أبيه قال : ذبحنا بقرة ، فإذا في بطنها جنين ، فسألنا ابن عباس فقال : هذه
بهيمة الأنعام.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب في ذلك ، قول من قال : عنى
(9/456)
بقوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام
" ، الأنعام كلها : أجنَّتها وسِخَالها وكبارها . (1) لأن العرب لا تمتنع من
تسمية جميع ذلك " بهيمة وبهائم " ، ولم يخصص الله منها شيئًا دون شيء.
فذلك على عمومه وظاهره ، حتى تأتى حجة بخصوصه يجب التسليم لها.
* * *
وأما " النعم " فإنها عند العرب ، اسم للإبل والبقر والغنم خاصة ، كما
قال جل ثناؤه : ( وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) ، [سورة النحل : 5] ، ثم قال : ( وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ) [سورة النحل : 8] ، ففصل
جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان . (2)
وأما " بهائمها " ، فإنها أولادها. وإنما قلنا يلزم الكبار منها اسم
" بهيمة " ، كما يلزم الصغار ، لأن معنى قول القائل : " بهيمة
الأنعام " ، نظير قوله : " ولد الأنعام " . فلما كان لا يسقط معنى
الولادة عنه بعد الكبر ، فكذلك لا يسقط عنه اسم البهيمة بعد الكبر.
* * *
وقد قال قوم : " بهيمة الأنعام " ، وحشيُّها ، كالظباء وبقر الوحش
والحُمُر . (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الذي عناه الله بقوله : " إلا ما يتلى
عليكم " . فقال بعضهم : عنى الله بذلك : أحلت لكم أولاد الإبل والبقر والغنم
، إلا ما بيَّن الله لكم فيما يتلى عليكم بقوله : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) ، الآية [سورة المائدة : 3].
*ذكر من قال ذلك :
10927 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) " السخال " جمع " سخلة " (بفتح فسكون) : وهي ولد الشاة من
المعز والضأن ، ذكرًا كان أو أنثى.
(2) انظر تفسير " الأنعام " فيما سلف 6 : 254.
(3) هي مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 298.
(9/457)
عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد :
" بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم " ، إلا الميتة وما ذكر معها.
10928 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "
أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم " ، أي : من الميتة التي نهى الله
عنها ، وقدَّم فيها.
10929 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة : " إلا ما يتلى عليكم " ، قال : إلا الميتة وما لم يذكر اسم الله
عليه.
10930 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " إلا ما يتلى عليكم " ، الميتة والدم ولحم الخنزير.
10931 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس : " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم " ،
الميتة ولحم الخنزير.
10932 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس : " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم " ،
هي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير الله به.
* * *
وقال آخرون : بل الذي استثنى الله بقوله : " إلا ما يتلى عليكم " ،
الخنزير.
ذكر من قال ذلك.
10933 - حدثني عبد الله بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية
، عن علي ، عن ابن عباس : " إلا ما يتلى عليكم " ، قال : الخنزير.
10934 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ،
سمعت الضحاك يقول في قوله : " إلا ما يتلى عليكم " ، يعني : الخنزير.
* * *
(9/458)
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك
بالصواب ، تأويل من قال : " عنى بذلك : إلا ما يتلى عليكم من تحريم الله ما
حرّم عليكم بقوله : " حرمت عليكم الميتة " ، الآية. لأن الله عز وجل
استثنى مما أباح لعباده من بهيمة الأنعام ، ما حرَّم عليهم منها. والذي حرّم عليهم
منها ، ما بيّنه في قوله : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الْخِنزيرِ ) [سورة المائدة : 3]. وإن كان حرَّمه الله علينا ، فليس من بهيمة
الأنعام فيستثنى منها. فاستثناء ما حرَّم علينا مما دخل في جملة ما قبل الاستثناء
، أشبهُ من استثناء ما حرَّم مما لم يدخل في جملة ما قبل الاستثناء.
* * *
القول في تأويل قوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ
اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " "
غير محلي الصيد وأنتم حرم " " أحلت لكم بهيمة الأنعام " فذلك ، على
قولهم ، من المؤخر الذي معناه التقديم. فـ " غير " منصوب على قول قائلي
هذه المقالة على الحال مما في قوله : " أوفوا " من ذكر " الذين
آمنوا " .
وتأويل الكلام على مذهبهم : أوفوا ، أيها المؤمنون ، بعقود الله التي عقدها عليكم
في كتابه ، لا محلّين الصيد وأنتم حرم.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء والبقر والحمر
" غير محلي الصيد " ، غير مستحلِّي اصطيادها ، وأنتم حرم إلا
(9/459)
ما يتلى عليكم " . فـ " غير
" ، على قول هؤلاء ، منصوب على الحال من " الكاف والميم " اللتين
في قوله : " لكم " ، بتأويل : أحلت لكم ، أيها الذين آمنوا ، بهيمة
الأنعام ، لا مستحلِّي اصطيادها في حال إحرامكم . (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها " إلا ما يتلى عليكم
" ، إلا ما كان منها وحشيًّا ، فإنه صيد ، فلا يحل لكم وأنتم حرم. فكأن من
قال ذلك ، وجَّه الكلام إلى معنى : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها " إلا ما
يتلى عليكم " ، إلا ما يبين لكم من وحشيها ، غيرَ مستحلي اصطيادها في حال
إحرامكم. فتكون " غير " منصوبة ، على قولهم ، على الحال من " الكاف
والميم " في قوله : " إلا ما يتلى عليكم " .
*ذكر من قال ذلك :
10935 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن
الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرِّف بن الشخير ، وعنده رجل ، فحدّثهم فقال :
" أحلت لكم بهيمة الأنعام " صيدًا " غير محلي الصيد وأنتم حرم
" ، فهو عليكم حرام. يعني : بقر الوحش والظباءَ وأشباهه. (2)
10936 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن
أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى
عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم " ، قال : الأنعام كلها حِلٌّ ، إلا ما كان
منها وحشيًّا ، فإنه صيد ، فلا يحل إذا كان مُحْرِمًا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما تظاهر به تأويل
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 298.
(2) انظر الإسناد السالف رقم : 10897 ، وكان هناك عن " ابن أبي جعفر الرازي
" ، وهذا هو الإسناد الصحيح ، صححت ذلك عليه. وسيأتي برقم : 10957 ، 10963.
(9/460)
أهل التأويل في قوله : " أحلت لكم
بهيمة الأنعام " ، من أنها الأنعام وأجنَّتها وسخالها ، وعلى دلالة ظاهر
التنزيل قولُ من قال : معنى ذلك : أوفوا بالعقود ، غيرَ محلي الصيد وأنتم حرم ،
فقد أحلت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم أو غيرها من أحوالكم ، إلا ما يتلى
عليكم تحريمه من الميتة منها والدم ، وما أهل لغير الله به.
وذلك أن قوله : " إلا ما يتلى عليكم " ، لو كان معناه : " إلا
الصيد " ، لقيل : " إلا ما يتلى عليكم من الصيد غير محليه " . وفي
ترك الله وَصْلَ قوله : " إلا ما يتلى عليكم " بما ذكرت ، وإظهار ذكر
الصيد في قوله : " غير محلي الصيد " ، أوضحُ الدليل على أن قوله :
" إلا ما يتلى عليكم " ، خَبَرٌ متناهية قصته ، وأن معنى قوله : "
غير محلي الصيد " ، منفصل منه.
وكذلك لو كان قوله : (أحلت لكم بهيمة الأنعام) ، مقصودًا به قصد الوحش ، لم يكن
أيضًا لإعادة ذكر الصيد في قوله : " غير محلي الصيد " وَجْهٌ ، وقد مضى
ذكره قبل ، ولقيل : " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلِّيه
وأنتم حرم " . وفي إظهاره ذكر الصيد في قوله : " غير محلي الصيد "
، أبينُ الدلالة على صحة ما قلنا في معنى ذلك.
* * *
فإن قال قائل : فإن العرب ربما أظهرت ذكر الشيء باسمه وقد جرى ذكره باسمه ؟ قيل :
ذلك من فعلها ضرورة شعر ، وليس ذلك بالفصيح المستعمل من كلامهم. وتوجيه كلام الله
إلى الأفصح من لغات من نزل كلامه بلغته ، أولى ما وُجد إلى ذلك سبيل من صرفه إلى
غير ذلك.
* * *
قال أبو جعفر : فمعنى الكلام إذًا : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي
عقد عليكم مما حرّم وأحلّ ، لا محلين الصيد في حرمكم ، ففيما أحلَّ لكم من بهيمة
الأنعام المذكَّاة دون ميتتها ، متَّسع لكم ومستغنًى عن الصيد في حال إحرامكم.
* * *
(9/461)
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ
يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الله يقضي في خلقه ما يشاء (1) من تحليل
ما أراد تحليله ، وتحريم ما أراد تحريمه ، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم ، وغير ذلك
من أحكامه وقضاياه فأوفوا ، أيها المؤمنون ، له بما عقدَ عليكم من تحليل ما أحل
لكم وتحريم ما حرّم عليكم ، وغير ذلك من عقوده ، فلا تنكثوها ولا تنقضوها. كما : -
10937 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إن
الله يحكم ما يريد " ، إن الله يحكم ما أراد في خلقه ، وبيّن لعباده ، وفرض
فرائضه ، وحدَّ حدوده ، وأمر بطاعته ، ونهى عن معصيته.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ
اللَّهِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى قول الله : " لا تحلوا شعائر الله
" .
فقال بعضهم معناه : لا تحلوا حُرُمات الله ، ولا تتعدَّوا حدوده كأنهم وجهوا
" الشعائر " إلى المعالم ، وتأولوا " لا تحلوا شعائر الله " ،
معالم حدود الله ، وأمرَه ونهيَه وفرائضَه.
[ذكر من قال ذلك] : (2)
10938 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال ، حدثنا حبيب المعلم ،
عن عطاء : أنه سئل عن " شعائر الله " فقال : حُرُمات الله ، اجتناب
سَخَطِ الله ، واتباع طاعته ، فذلك " شعائر الله " .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حكم " فيما سلف : ص 324 : تعليق : 3.
(2) ما بين القوسين زيادة ليست في المخطوطة ولا المطبوعة ، وأثبتها على نهج أبي
جعفر في تفسيره.
(9/462)
وقال آخرون : معنى ذلك : (1) لا تحلوا
حَرَم الله فكأنهم وجهوا معنى قوله : " شعائر الله " ، أي : معالم حرم
الله من البلاد.
*ذكر من قال ذلك :
10939 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " ، قال : أما
" شعائر الله " ، فحرَم الله.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تحلّوا مناسك الحج فتضيعوها وكأنهم وجَّهوا تأويل ذلك
إلى : لا تحلوا معالم حدود الله التي حدَّها لكم في حجِّكم.
*ذكر من قال ذلك :
10940 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ،
قال ابن عباس قوله : " لا تحلوا شعائر الله " ، قال : مناسك الحج.
10941 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثنا معاوية ، عن علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله "
، قال : كان المشركون يحجّون البيت الحرام ، ويهدُون الهدايا ، ويعظِّمون حرمة
المشاعر ، ويتَّجرون في حجهم ، فأراد المسلمون أن يُغَيِّروا عليهم ، فقال الله عز
وجل : " لا تحلوا شعائر الله " .
10942 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " شعائر الله " ، الصفا والمروة ،
والهَدْي ، والبُدْن ، كل هذا من " شعائر الله " .
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " معنى قوله " ، وهو لا يستقيم ، وما أثبت
أشبه بالصواب.
(9/463)
10943 - حدثني المثنى قال ، حدثني أبو
حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تحلوا ما حرَّم الله عليكم في حال إحرامكم.
*ذكر من قال ذلك :
10944 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " لا تحلوا شعائر الله " ، قال : "
شعائر الله " ، ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرِم.
* * *
وكأن الذين قالوا هذه المقالة ، وجَّهوا تأويل ذلك إلى : لا تحلوا معالم حدود الله
التي حرّمها عليكم في إحرامكم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بقوله : " لا تحلوا شعائر الله " ، قول
عطاء الذي ذكرناه (1) من توجيهه معنى ذلك إلى : لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا
فرائضه.
* * *
لأن " الشعائر " جمع " شعيرة " ، " والشعيرة "
" فعيلة " من قول القائل : " قد شعر فلان بهذا الأمر " ، إذا
علم به. فـ " الشعائر " ، المعالم ، من ذلك . (2)
* * *
وإذا كان ذلك كذلك ، كان معنى الكلام : لا تستحلوا ، أيها الذين آمنوا ، معالم
الله فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحج : من تحريم ما حرَّم الله إصابته
فيها على المحرم ، وتضييع ما نهى عن تضييعه فيها ، وفيما حرَّم من استحلال حُرمات
حَرَمه ، وغير ذلك من حدوده وفرائضه ، وحلاله وحرامه ، لأن
__________
(1) هو الأثر السالف رقم : 10938.
(2) انظر تفسير " شعائر الله " فيما سلف 3 : 226 - 228.
(9/464)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
كل ذلك من معالمه وشعائره التي جعلها
أماراتٍ بين الحق والباطل ، يُعْلَم بها حلالُه وحرامه ، وأمره ونهيه.
وإنما قلنا ذلك القول أولى بتأويل قوله تعالى : " لا تحلوا شعائر الله "
، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها نهيًا عامًّا ، من غير
اختصاص شيء من ذلك دون شيء ، فلم يَجُز لأحد أن يوجِّه معنى ذلك إلى الخصوص إلا
بحجة يجب التسليم لها ، ولا حجة بذلك كذلك.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ولا الشهر الحرام " ، ولا
تستحلوا الشهر الحرام بقتالكم فيه أعداءَكم من المشركين (1) وهو كقوله : (
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ ) [سورة البقرة : 217].
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن عباس وغيره.
*ذكر من قال ذلك :
10945 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " ولا الشهر الحرام " ، يعني : لا تستحلوا قتالا فيه.
10946 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة قال : كان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر
الحرام ولا عند البيت.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " بقتالكم به " ، والصواب من المخطوطة.
(9/465)
وأما " الشهر الحرام " الذي
عناه الله بقوله : " ولا الشهر الحرام " ، فرجب مُضَر ، وهو شهر كانت
مضر تحرِّم فيه القتال.
* * *
وقد قيل : هو في هذا الموضع " ذو القعدة " .
*ذكر من قال ذلك :
10947 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن
عكرمة قال : هو ذو القعدة.
* * *
وقد بينا الدلالة على صحة ما قلنا في ذلك فيما مضى ، وذلك في تأويل قوله : "
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه " . (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ }
قال أبو جعفر : " أما الهدي " ، فهو ما أهداه المرء من بعيرٍ أو بقرة أو
شاة أو غير ذلك ، إلى بيت الله ، تقرُّبا به إلى الله ، وطلبَ ثوابه . (2)
* * *
يقول الله عز وجل : فلا تستحلوا ذلك ، فتغصبوه أهله غَلَبةً (3) ولا تحولوا بينهم
وبين ما أهدوا من ذلك أن يبلُغوا به المحِلَّ الذي جعله الله جل وعزّ مَحِلَّه من
كعبته.
__________
(1) انظر ما سلف في " الشهر الحرام " 4 : 229 ، 300 ، وما بعدها ، وهو
الموضع الذي ذكره ، ثم قبله 3 : 575 - 579. وتفسير " الشهر " فيما سلف 3
: 440.
(2) انظر تفسير " الهدي " فيما سلف 4 : 24 ، 25.
(3) في المطبوعة : " فتغصبوا أهله عليه " ، وفي المخطوطة كما كتبتها ،
إلا أن كتب " عليه " بالياء ، ووضع فتحة على العين ، وفتحة على اللام ،
وظاهر أن " الياء " إنما هي " باء " ، وأن الناسخ لما رآها
مضبوطة في النسخة الأم نقل الشكل ، ووضع الإعجام من عند نفسه. هذا وصواب الكلام
يقتضي أيضًا ما أثبت.
(9/466)
وقد روي عن ابن عباس أن " الهدي
" إنما يكون هديًا ما لم يُقَلَّد.
10948 - حدثني بذلك محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي
، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ولا الهدي " ، قال : الهدي ما لم
يقلَّد ، وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلِّده.
* * *
وأما قوله : " ولا القلائد " ، فإنه يعني : ولا تحلوا أيضًا القلائد.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في " القلائد " التي نهى الله عز وجل عن إحلالها.
فقال بعضهم : عنى بـ " القلائد " ، قلائدَ الهدي. وقالوا : إنما أراد
الله جل وعز بقوله : " ولا الهدي ولا القلائد " ، ولا تحلوا الهدايا
المقلَّدات منها وغير المقلَّدات. فقوله : " ولا الهدي " ، ما لم يقلّد
من الهدايا " ولا القلائد " ، المقلّد منها. قالوا : ودلّ بقوله :
" ولا القلائد " ، على معنى ما أراد من النهي عن استحلال الهدايا
المقلّدة.
*ذكر من قال ذلك :
10949 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ولا القلائد " ، القلائد ، مقلَّدات الهدي.
وإذا قلَّد الرجل هديه فقد أحرم. فإن فعل ذلك وعليه قميصه ، فليخلَعْه.
* * *
وقال آخرون : يعني بذلك : القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحج
مقبلين إلى مكة ، من لِحَاء السَّمُر (1) وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين
منها ، من الشَّعَر.
__________
(1) " لحاء الشجرة " (بكسر اللام) : قشرها. و " السمر " (بفتح
السين وضم الميم) : ضرب من الشجر ، صغار الورق ، قصار الشوك ، وله برمة صفراء
يأكلها الناس ، وليس في العضاء شيء أجود خشبًا منه. ينقل إلى القرى ، فتغمى به
البيوت.
(9/467)
*ذكر من قال ذلك :
10950 - حدثني الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة : " لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام " ، قال : كان الرجل في
الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج ، تقلَّد من السَّمُر ، فلم يعرض له أحد. فإذا
رجع تقلَّد قِلادة شَعَر ، فلم يعرض له أحد.
* * *
وقال آخرون : بل كان الرجل منهم يتقلّد إذا أراد الخروج من الحرم ، أو خرج من لحاء
شجر الحرم ، فيأمن بذلك من سائر قبائل العرب أن يعرضوا له بسوء.
*ذكر من قال ذلك :
10951 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مالك بن مغول ، عن عطاء : " ولا
القلائد " ، قال : كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم ، يأمنون بذلك إذا خرجوا
من الحرم ، فنزلت : " لا تحلوا شعائر الله " ، الآية ، " ولا الهدي
ولا القلائد " .
10952 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " ولا القلائد " ، قال : " القلائد " ،
اللحاء في رقاب الناس والبهائم ، أمْنٌ لهم.
10953 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
10954 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي ، قوله : " ولا الهدي ولا القلائد " ، قال : إن العرب كانوا
يتقلدون من لحاء شجر مكة ، فيقيم الرجل بمكانه ، حتى إذا انقضت الأشهر الحرم ،
فأراد أن يرجع إلى أهله ، قلَّد نفسه وناقته من لحاء الشجر ، فيأمن حتى يأتي أهله.
(9/468)
10955 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن
وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا القلائد " ، قال : "
القلائد " ، كان الرجل يأخذ لحاء شجرة من شجر الحرم ، فيتقلدها ، ثم يذهب حيث
شاء ، فيأمن بذلك. فذلك " القلائد " .
* * *
وقال آخرون : إنما نهى الله المؤمنين بقوله : " ولا القلائد " ، أن
ينزعوا شيئًا من شجر الحرم فيتقلّدوه ، كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم.
*ذكر من قال ذلك :
10956 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء في قوله :
" ولا الهدي ولا القلائد " ، كان المشركون يأخذون من شجر مكة ، من لحاء
السَّمُر ، فيتقلدونها ، فيأمنون بها من الناس. فنهى الله أن ينزع شجرها
فَيُتَقَلَّد.
10957 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع
بن أنس قال : جلسنا إلى مُطرِّف بن الشخير ، وعنده رجل فحدّثهم في قوله : "
ولا القلائد " ، قال : كان المشركون يأخذون من شجر مكة ، من لِحاء السمر ،
فيتقلدون ، فيأمنون بها في الناس. فنهى الله عز ذكره أن يُنزع شجرها فيتقلَّد.
* * *
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل قوله : " ولا القلائد " إذ كانت
معطوفة على أول الكلام ، ولم يكن في الكلام ما يدلّ على انقطاعها عن أوله ، ولا
أنه عنى بها النهي عن التقلد أو اتخاذ القلائد من شيء أن يكون معناه : ولا
تُحِلّوا القلائد.
فإذا كان ذلك بتأويله أولى ، فمعلوم أنه نَهْيٌ من الله جل ذكره عن استحلال حرمة
المقلَّد ، هديًا كان ذلك أو إنسانًا ، دون حرمة القلادة. وإن الله عز ذكره ، إنما
دلّ بتحريمه حرمة القلادة ، على ما ذكرنا من حرمة المقلَّد ، فاجتزأ بذكره
(9/469)
" القلائد " من ذكر "
المقلد " ، إذ كان مفهومًا عند المخاطبين بذلك معنى ما أريد به.
* * *
فمعنى الآية إذ كان الأمر على ما وصفنا : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله
، ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ، ولا المقلِّد نفسَه بقلائد الحرم. (1)
* * *
وقد ذكر بعض الشعراء في شعره ما ذكرنا عمن تأوَّل " القلائد " أنها
قلائد لحاء شجر الحرم الذي كان أهل الجاهلية يتقلَّدونه ، فقال وهو يعيب رجلين
قتلا رجلين كانا تقلَّدا ذلك : (2)
أَلَمْ تَقْتُلا الْحِرْجَيْنِ إذْ أَعْوَراكُمَا... يُمِرَّانِ بِالأيْدِي
اللِّحَاءَ الْمُضَفَّرَا (3)
و " الحرجان " ، المقتولان كذلك. ومعنى قوله : " أعوراكما " ،
أمكناكما من عورتهما. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ولا المقلد بقسميه " ، وهو لا معنى له ، والصواب ما
في المخطوطة. يعني : الذي يقلد نفسه قلادة من شجر أو شعر ، ليأمن ، كما ذكر آنفًا
، وانظر الفقرة التالية.
(2) القائل هو حذيفة بن أنس الهذلي.
(3) أشعار الهذليين 3 : 19 ، والمعاني الكبير : 1120 ، واللسان (حرج). و "
الحرج " (بكسر الحاء وسكون الراء) : الودعة ، قالوا : عنى بالحرجين : رجلين
أبيضين كالودعة ، فإما أن يكون البياض لونهما ، وإما أن يكون كنى بذلك عن شرفهما.
وقال شارح ديوانه : " ويكون أيضًا الحرجان ، رجلين يقال لهما : الحرجان
" . و " أمر الحبل يمره " : فتله. و " اللحاء " ، قشر
الشجر. و " المضفر " الذي جدل ضفائر.
هذا وقد ذكر أبو جعفر أن الشعر في رجلين قتلا رجلين ، وروى " ألم تقتلا
" ، والذي في المراجع " ألم تقتلوا " ، وهو الذي يدل عليه سياق
الشعر ، فإن أوله قبل البيت : ألا أبْلِغَا جُلَّ السَّوَارِي وَجابرًا ...
وَأَبْلِغْ بَني ذِي السَّهْم عَنِّي وَيَعْمَرَا
وَقُولا لَهُمْ عَنِّي مَقَالَةَ شَاعِرٍ ... أَلَمّ بقَوْلٍ ، لَمْ يُحَاوِلْ
لِيَفْخَرَا
لَعَلَّكُمْ لَمَّا قَتَلْتُمْ ذَكَرْتُمُ ... وَلَنْ تَتْرُكُوا أَنْ تَقْتُلُوا
، مَنْ تَعَمَّرَا
فالشعر كله بضمير الجمع. وسببه أن جندبًا ، أخو البريق بن عياض اللحياني ، قتل قيسًا
وسالمًا ابني عامر بن عريب الكنانيين ، وقتل سالم جندبًا ، اختلفا ضربتين.
(4) رواية أبي جعفر كما شرحها " أعوراكما " ، ورواية الديوان "
أعورا لكم " ، وهي في سياق لمشعر ، ورواية اللسان : " أعرضا لكم "
، ويروي " عورا لكم " بتشديد الواو. هذا على أن هذه الرواية : "
أعور " متعديًا ، والذي كتب في اللغة " أعور لك الشيء فهو معور " .
(9/470)
القول في تأويل قوله : { وَلا آمِّينَ
الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا } (1)
قال أبو جعفر : يعني بقوله عز ذكره : " ولا آمين البيت الحرام " ، ولا
تحلُّوا قاصدي البيت الحرام العامدية . (2)
* * *
تقول منه : " أممت كذا " ، إذا قصدته وعمدته ، وبعضهم يقول : "
يَمَمْته " (3) كما قال الشاعر : (4)
إنِّي كَذَاكَ إذَا مَا سَاءَنِي بَلَدٌ... يَمَمْتُ صَدْرَ بَعِيرِي غَيْرَهُ
بَلَدَا (5)
* * *
" والبيت الحرام " ، بيت الله الذي بمكة ، وقد بينت فيما مضى لم قيل له
" الحرام " . (6)
* * *
" يبتغون فضلا من ربهم " ، يعني : يلتمسون أرباحًا في تجاراتهم من الله
__________
(1) كان في المطبوعة والمخطوطة : " ولا آمين البيت الحرام " ، ولم يأت
بقية ما شرح من الآية في هذا الموضع. فزدت ما شرحه هنا. هذا على أنه سيعود إلى
شرحه مرة أخرى في ص : 479. وهذا غريب جدًا ، لا أدري كيف وقع لأبي جعفر ، فلعله
نسي ، أو أخذه ما يأخذه الناس من التعب عند هذا الموضع ، ثم عاد إليه فلم يغير ،
ثم ابتدأ الكلام في تفسير بقية الآية ، وترك ما مضى.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " ولا تحلوا قاصدين البيت " ، وهو خطأ ،
كما يدل عليه السياق. والصواب ما أثبته.
(3) انظر تفسير " أم يؤم " فيما سلف 5 : 558/8 : 407. وقوله : "
يممته " ثلاثي ، بفتح الياء والميم الأولى وسكون الثانية : مثل " ضربت
" .
(4) لم أعرف قائله.
(5) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 146.
(6) انظر ما سلف 3 : 44 - 51.
(9/471)
" ورضوانًا " ، يقول : وأن
يرضى الله عنهم بنسكهم.
* * *
وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له : " الحُطَمُ
" .
*ذكر من قال ذلك :
10958 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : أقبل الحُطم بن هند البكري ، ثم أحد بني قيس بن ثعلبة (1) حتى أتى
النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، وخَلَّف خيله خارجة من المدينة. فدعاه ، فقال :
إلام تدعو ؟ فأخبره وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل اليوم
عليكم رجل من ربيعة ، يتكلم بلسان شيطان! فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم قال
: انظر ، ولعلّي أسلم (2) ولي من أشاوره. فخرج من عنده ، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بعَقِب غادرٍ! فمرَّ بسَرْح من سَرْح المدينة
فساقه ، فانطلق به وهو يرتجز (3)
__________
(1) " الحطم " لقب ، واسمه : " شريح بن ضبيعة بن شرحبيل بن عمرو بن
مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ، من بكر بن وائل " (جمهرة
الأنساب : 301) ، وهذا " الحطم " ، خرج في الردة ، في السنة الحادية
عشرة ، فيمن تبعه من بكر بن وائل ، ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم يزل
كافرًا ، فخرج بهم حتى نزل القطيف وهجر ، واستغوى الخط ، ومن فيها من الزط
والسيابجة. وحاصر المسلمين حصارًا شديدًا. فتجمع المسلمون جميعًا إلى العلاء بن
الحضرمي ، وتجمع المشركون كلهم إلى الحطم. ثم بيتهم المسلمون وقتلوا الحطم ومن معه
في خبر طويل (انظر تاريخ الطبري 3 : 254 - 260).
وقوله هنا : " الحطم بن هند " ، أتى بذكر أمه من الشعر الآتي ، واسم
أبيه هو ما مر بك آنفًا ، وهي : " هند بنت حسان بن عمرو بن مرثد " (رغبة
الآمل 4 : 75).
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " انظروا لعلي أسلم " ، وليس بشيء ،
والصواب ما أثبت ، ويؤيده كلامه الآتي في الخبر التالي.
(3) اختلفوا في نسبة هذا الشعر اختلافًا كثيرًا ، فنقل التبريزي في شرح الحماسة (1
: 185) خبر رشيد بن رميض العنزي (بفتح العين ، وسكون النون) من بني عنز بن وائل ،
بلا شك عندي في ذلك. قال التبريري : " قالها في غارة الحطم ، وهو شريح بن
شرحبيل بن عمرو بن مرثد ، أغار على اليمن ، فقتل وليعة بن معد يكرب ، أخا قيس ،
وسبى بنت قيس بن معد يكرب ، أخت الأشعث بن قيس ، فبعث الأشعث يعرض عليه في فدائها
، بكل قرن من قرونها (ضفائرها) مئة من الإبل. فلم يفعل الحطم ، وماتت عنده عطشًا.
(وانظر غير ذلك في الأغاني 14 : 44).
ونسبت أيضًا للأغلب العجلي ، وللأخنس بن شهاب ، ولجابر بن حني التغلبي. وانظر ذلك
في تحقيق أستاذنا الراجكوتي ، سمط اللآلئ : 729. ولعل " الحطم " أنشده
مدحًا لنفسه فيما فعل من سوق السرح.
(9/472)
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ
حُطَمْ ... لَيْسَ بِرَاعِي إبِلٍ وَلا غَنَم ... وَلا بِجَزَّارٍ على ظَهْرِ
الوَضَمْ ... بَاتُوا نِيَامًا وَابْنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ ... بَاتَ يُقَاسِيهَا
غُلامٌ كَالزَّلَمْ ... خَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ القَدَمْ (1)
ثم أقبل من عام قابلٍ حاجًّا قد قلَّد وأهدى ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يبعث إليه ، فنزلت هذه الآية ، حتى بلغ : " ولا آمين البيت الحرام "
. قال له ناس من أصحابه : يا رسول الله ، خلِّ بيننا وبينه ، فإنه صاحبنا! قال :
إنه قد قلَّد! قالوا : إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية! فأبى عليهم ، فنزلت هذه
الآية.
10959 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
عكرمة قال : قدم الحُطَم ، أخو بني ضُبيعة بن ثعلبة البكري ، المدينةَ في عِير له
يحمل طعامًا ، فباعه. ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) البيان والتبيين 2 : 308 ، الأغاني 14 : 44 ، حماسة أبي تمام 1 : 184 ، حماسة
ابن الشجري : 38 ، الكامل 1 : 224 (ونسبه للحطم في ص : 227) ، الخيل لابن الأعرابي
86 ، واللسان (حطم) وغيرها ، وقبل هذا الرجز : هذَا أوانُ الشَّدِّ ، فَاشْتَدِّي
زِيَمْ
و " زيم " اسم فرس. وقوله : " حطم " شديد الحطم ، فقالوا :
للسائق الذي لا يبقى شيئًا من السير والإسراع " حطم " . و " الوضم
" ما يوقي به اللحم عند تقطيعه من خشب أو غيره. و " الزلم " (بفتح
الزاي واللام ، أو بضم الزاي) ، واحد " الأزلام " ، وهي قداح الميسر.
يعني : هو كالقدح في صلابته ونحافته وملاسته. و " خدلج الساقين " :
ممتلئ الساقين ، وهذا غير حسن في الرجال ، وإنما صواب روايته ما رواه ابن الأعرابي
: مُهَفْهَفُ الْكَشْحَيْنِ خَفَّاقُ القَدَمْ
أي ضامر الخصر. و " خفاق القدم " ، لأقدامه خفق متتابع على الأرض من
سرعته وهو يحدو بالإبل. ورواية أبي جعفر " ممسوح القدم " : أي ليس لباطن
قدمه أخمص ، فأسفل قدمه مستو أملس لين ، ليس فيهما تكسر ولا شقاق. وقد جاء في صفة
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مسيح القدمين " .
(9/473)
فبايعه وأسلم. فلما ولى خارجًا ، نظر
إليه فقال لمن عنده : لقد دخل عليّ بوجهٍ فاجرٍ ، وولّى بقفا غادرٍ! فلما قدم
اليمامة ارتدَّ عن الإسلام ، وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة.
فلما سمع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تهيَّأ للخروج إليه نفر من المهاجرين
والأنصار ليقتطعوه في عِيره ، فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا
تحلوا شعائر الله " ، الآية ، فانتهى القوم.
قال ابن جريج قوله : " ولا آمين البيت الحرام " ، قال : ينهى عن الحجاج
أن تُقطع سبلهم. قال : وذلك أن الحطم قدِم على النبي صلى الله عليه وسلم ليرتاد
وينظر ، فقال : إني داعية قوم (1) فاعرض عليّ ما تقول. قال له : أدعوك إلى الله أن
تعبده ولا تشرك به شيئًا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم شهر رمضان ، وتحج
البيت. قال الحطم : في أمرك هذا غلظة ، أرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت ، فإن
قبلوه أقبلتُ معهم ، وإن أدبروا كنت معهم. قال له : ارجع. فلما خرج قال : لقد دخل
عليّ بوجه كافرٍ ، وخرج من عندي بعَقِبَى غادر ، وما الرجل بمسلم! فمرَّ على سَرْح
لأهل المدينة فانطلق به ، فطلبه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاتهم ،
وقدم اليمامة ، وحضر الحج ، فجهّز خارجًا ، وكان عظيم التجارة ، فاستأذنوا أن
يتلقَّوه ويأخذوا ما معه ، فأنزل الله عز وجل : " لا تحلّوا شعائر الله ولا
الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام " .
10960 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا آمين
البيت الحرام " الآية ، قال : هذا يوم الفتح ، جاء ناسٌ يؤمُّون البيت من
المشركين يُهِلُّون بعمرة ، فقال المسلمون : يا رسول الله ، إنما هؤلاء مشركون
كمثل هؤلاء (2) فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم. فنزل القرآن : " ولا آمين البيت
الحرام " .
10961 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي
__________
(1) في المطبوعة : " داعية قومي " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهما سواء.
(2) في المطبوعة : " فمثل هؤلاء " ، وصواب قراءتها من المخطوطة ، كما
أثبت.
(9/474)
قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن
عباس : " ولا آمين البيت الحرام " ، يقول : من توجَّه حاجًّا.
10962 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن
الضحاك في قوله : " ولا آمين البيت الحرام " ، يعني : الحاج. (1)
10963 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر الرازي ، عن
الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرِّف بن الشخّير وعنده رجل ، فحدثهم فقال :
" ولا آمين البيت الحرام " ، قال : الذين يريدون البيت.
* * *
ثم اختلف أهل العلم فيما نسخ من هذه الآية ، بعد إجماعهم على أن منها منسوخًا.
فقال بعضهم : نسخ جميعها.
*ذكر من قال ذلك :
10964 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن عامر ، قال : لم ينسخ من
المائدة إلا هذه الآية : " لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي
ولا القلائد " .
10965 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم
، عن مجاهد : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " ، نسختها ، (
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، [سورة التوبة : 5].
10966 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا
__________
(1) الأثر : 10962 - " عمرو بن عون بن أوس الواسطي " ، مضت ترجمته برقم
: 5435 ، ومضى في آثار أخرى كثيرة ، رواية المثنى عنه ، عن هشيم فيما سلف ، مثل :
3159 ، 3879. وكان في المخطوطة والمطبوعة : " عمرو بن عوف " ، وهو
تحريف. وسيأتي على الصواب قريبًا برقم : 10969.
(9/475)
الثوري ، عن بيان ، عن الشعبي قال ، لم
ينسخ من سورة المائدة غير هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر
الله " .
10967 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام " الآية ، قال
: منسوخ. قال : كان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في
الأشهر الحُرم ، ولا عند البيت ، فنسخها قوله : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ). (1)
10968 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك : "
لا تحلوا شعائر الله " إلى قوله : " ولا آمين البيت الحرام " ، قال
: نسختها " براءة " : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ ).
10969 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم ، عن الضحاك ،
مثله.
10970 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن حبيب بن أبي
ثابت : " لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد "
، قال : هذا شيء نهي عنه ، فترك كما هو . (2)
10971 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " يا
أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا
آمين البيت الحرام " ، قال : هذا كله منسوخ ، نسخ هذا أمرُه بجهادهم كافة .
(3)
* * *
__________
(1) الأثر : 10967 - هو تمام الأثر السالف رقم : 10950 وسيأتي برقم : 10976 ،
خبرًا واحدًا ، ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ : 115.
(2) الأثر : 10970 - " جرير " ، هو " جرير بن عبد الحميد الضبي
" ، مضى مرارًا. وكان في المطبوعة : " جويبر " ، وهو خطأ فاحش ،
والصواب من المخطوطة.
(3) يعني قوله تعالى : {وَقَاتِلُوا المُشْرِكينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ
كَافَّةً} [سورة التوبة : 36]
(9/476)
وقال آخرون : الذي نسخ من هذه الآية
قوله : " ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام
" .
*ذكر من قال ذلك :
10972 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن سليمان قال ، قرأت على ابن أبي عروبة
فقال : هكذا سمعته من قتادة : نسخ من " المائدة " : " آمين البيت
الحرام " ، نسختها " براءة " قال الله : ( فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، وقال : ( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ
أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ )
[سورة التوبة : 17] ، وقال : ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) [سورة التوبة : 27] ، وهو العام
الذي حج فيه أبو بكر ، فنادى فيه بالأذان. (1)
10973 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا همام بن يحيى ،
عن قتادة قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " الآية ،
قال : فنسخ منها : " آمين البيت الحرام " ، نسختها " براءة "
، فقال : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، فذكر نحو حديث
عبدة.
10974 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : نزل في شأن الحُطم : " ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت
الحرام " ، ثم نسخه الله فقال : ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ )
(2) [سورة البقرة : 191].
10975 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن
__________
(1) في المخطوطة : " فنادى عليه بالأذان " وفوق " عليه "
" فيه " . ويعني بالأذان ، قوله تعالى : { وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إلَى الناسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ منَ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ، [سورة التوبة : 2].
(2) انظر خبر " الحطم " فيما سلف رقم : 10958 ، 10959.
(9/477)
علي ، عن ابن عباس قوله : " لا
تحلوا شعائر الله " إلى قوله : " ولا آمين البيت " ، [فكان
المؤمنون والمشركون يحجون إلى البيت] جميعًا ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدًا
أن يحجّ البيت أو يعرضوا له ، من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعد هذا : (
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ
عَامِهِمْ هَذَا ) ، وقال : ( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا
مَسَاجِدَ اللَّهِ ) ، وقال : ( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) [سورة التوبة : 18] ، فنفى المشركين من المسجد
الحرام. (1)
10976 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام " ، الآية ،
قال : منسوخ ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج ، تقلَّد من
السَّمُر فلم يعرض له أحد. وإذا رجع ، تقلَّد قلادة شَعَرٍ فلم يعرض له أحد. وكان
المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت. وأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحُرُم ، ولا
عند البيت ، فنسخها قوله : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " . (2)
* * *
وقال آخرون : لم ينسخ من ذلك شيء ، إلا القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلَّدونها
من لِحَاء الشجر.
*ذكر من قال ذلك :
10977 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قوله : " لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام " ،
الآية ، قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : هذا كله من عمل الجاهلية فِعله
وإقامته ، فحرَّم الله ذلك كله بالإسلام ، إلا لحاء القلائد ، فترك
__________
(1) الأثر : 10975 - ما بين القوسين ، زيادة من رواية أبي جعفر النحاس في الناسخ
والمنسوخ : 115 ، حيث روى هذا الأثر بهذا الإسناد نفسه ، والكلام بغيرها لا
يستقيم.
(2) الأثر : 10976 - هو ما جاء في الأثرين السالفين : 10950 ، 10967.
(9/478)
ذلك (1) " ولا آمين البيت الحرام
" ، فحرم الله على كل أحد إخافتهم.
10978 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، قول من قال : نسخ الله من هذه الآية
قوله : " ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام
" ، لإجماع الجميع على أن الله قد أحلّ قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم
وغيرها من شهور السنة كلها. وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قَلَّد عنقه أو ذراعيه
لحاء جميع أشجار الحرم ، لم يكن ذلك له أمانًا من القتل ، إذا لم يكن تقدَّم له
عقد ذمة من المسلمين أو أمان وقد بينا فيما مضى معنى " القلائد " في غير
هذا الموضع . (2)
وأما قوله : " ولا آمين البيت الحرام " ، فإنه محتمل ظاهره : ولا تحلوا
حُرْمة آمِّين البيت الحرام من أهل الشرك والإسلام ، لعموم جميع من أمَّ البيت.
وإذا احتمل ذلك ، فكان أهل الشرك داخلين في جملتهم ، فلا شك أن قوله : (
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، ناسخٌ له. لأنه غير جائز
اجتماع الأمر بقتلهم وترك قتلهم في حال واحدة ووقت واحد. وفي إجماع الجميع على أن
حكم الله في أهل الحرب من المشركين قتلُهم ، أمُّوا البيت الحرام أو البيت المقدس
، في أشهر الحرم وغيرها ما يُعلم أن المنع من قتلهم إذا أموا البيت الحرام منسوخٌ.
ومحتمل أيضًا : ولا آمين البيت الحرام من أهل الشرك.
وأكثر أهل التأويل على ذلك.
وإن كان عُني بذلك المشركون من أهل الحرب ، فهو أيضًا لا شك منسوخ.
* * *
__________
(1) يعني فجعلها الله إحلالها حرامًا في الإسلام إلا لحاء القلائد ، فإنه قد نسخ.
(2) انظر ما سلف ص : 467 - 470.
(9/479)
وإذْ كان ذلك كذلك وكان لا اختلاف في
ذلك بينهم ظاهر ، وكان ما كان مستفيضًا فيهم ظاهرًا حجةً فالواجب ، وإن احتمل ذلك
معنى غير الذي قالوا ، التسليمُ لما استفاض بصحته نقلهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " يبتغون " ، يطلبون ويلتمسون و "
الفضل " الأرباح في التجارة و " الرضوان " ، رضَى الله عنهم ، فلا
يحل بهم من العقوبة في الدنيا ما أحلَّ بغيرهم من الأمم في عاجل دنياهم ، بحجّهم
بيتَه. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10979 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا معمر ، عن قتادة
في قوله : " يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا " ، قال : هم المشركون ،
يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دُنياهم.
10980 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن سليمان قال ، قرأت على ابن أبي عروبة
فقال : هكذا سمعته من قتادة في قوله : " يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا "
، والفضل والرضوان اللذان يبتغون : أن يصلح معايشهم في الدنيا ، وأن لا يعجَّل لهم
العقوبة فيها.
__________
(1) سياق هذه الفقرة : " وإذ كان ذلك كذلك ، وكان لا اختلاف... فالواجب...
التسليم لما استفاض بصحته نقلهم " .
(2) مضى تفسير هذه الآية ص : 471 ، 472 ، كما أسلفت في التعليق : 1 ، ص : 471
وانظر تفسير " الابتغاء " فيما سلف 9 : 319 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
وتفسير " الفضل " فيما سلف من فهارس اللغة.
وتفسير " الرضوان " فيما سلف 6 : 262.
(9/480)
10981 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد
الله قال ، حدثني معاوية ، عن ابن عباس : " يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا
" ، يعني : أنهم يترضَّون الله بحجهم.
10982 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع
بن أنس قال : جلسنا إلى مطرِّف بن الشِّخِّير ، وعنده رجل فحدثهم في قوله : "
يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا " ، قال : التجارة في الحج ، والرضوان في الحج.
10983 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي
أميمة قال ، قال ابن عمر في الرجل يحج ويحمل معه متاعًا ، قال : لا بأس به وتلا
هذه الآية : " يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا " . (1)
10984 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا " ، قال : يبتغون
الأجر والتجارة.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإذا حللتم فاصطادوا الصيد الذي نهيتكم أن
تُحِلُّوه وأنتم حرم. يقول : فلا حرج عليكم في اصطياده ، واصطادوا إن شئتم حينئذ ،
لأن المعنى الذي من أجله كنت حرَّمته عليكم في حال إحرامكم قد زال.
* * *
__________
(1) الأثر : 10983 - " أبو أميمة التيمي " وهو " أبو أمامة التيمي
" ، قال ابن معين : " ثقة ، لا يعرف اسمه " ، وقال البخاري في
الكنى : " أبو أمامة ، قال شعبة : أبو أميمة سمع ابن عمر. روى عنه العلاء ،
وشعبة. يقال اسمه : عمرو بن أسماء " . مترجم في التهذيب ، والكنى للبخاري : 4
، وابن أبي حاتم في باب " أبو أمامة " ، و " أبو أميمة " .
ترجمتان 4/2/330 ، 331.
(9/481)
وبما قلنا في ذلك قال جميع أهل
التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
10985 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا حصين ، عن مجاهد أنه
قال : هي رخصة يعني قوله : " وإذا حللتم فاصطادوا " .
10986 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن القاسم ، عن
مجاهد قال : خمس في كتاب الله رخصة ، وليست بعَزْمة ، فذكر : " وإذا حللتم
فاصطادوا " ، قال : من شاء فعل ، ومن شاء لم يفعل.
10987 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد ، عن حجاج ، عن عطاء ، مثله.
10988 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حصين ، عن مجاهد : "
وإذا حللتم فاصطادوا " ، قال : إذا حلّ ، فإن شاء صاد ، وإن شاء لم يصطد.
10989 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن ابن جريج ، عن رجل ، عن مجاهد
: أنه كان لا يرى الأكل من هَدْي المتعة واجبًا ، وكان يتأول هذه الآية : " وإذا
حللتم فاصطادوا " ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ )
[سورة الجمعة : 10] . (1)
* * *
__________
(1) يعني بقوله : " يتأول هذه الآية " ، أي يفسرها كتفسير الآية الأخرى
: فإذا قضيت الصلاة ، فمن شاء خرج من المسجد ، ومن شاء جلس ، رخصة من الله.
(9/482)
القول في تأويل قوله : { وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ولا يجرمنكم " ، ولا يحملنكم ،
كما : -
10990 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ولا يجرمنكم شنآن قوم " ، يقول : لا
يحملنكم شنآن قوم.
10991 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "
ولا يجرمنكم شنآن قوم " ، أي : لا يحملنكم.
* * *
وأما أهل المعرفة باللغة فإنهم اختلفوا في تأويلها.
فقال بعض البصريين : معنى قوله : " ولا يجرمنكم " ، لا يُحِقَّنَّ لكم ،
لأن قوله : ( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ ) [سورة النحل : 62] ، هو : حقٌّ أن
لهم النار. (1)
* * *
وقال بعض الكوفيين : معناه : لا يحملنَّكم. وقال : يقال : " جرمني فلان على
أن صنعت كذا وكذا " ، أي : حملني عليه.
* * *
واحتج جميعهم ببيت الشاعر : (2)
وَلَقَدْ طَعَنْتَ أَبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً... جَرَمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا
أَنْ يَغْضَبُوا (3)
__________
(1) هذه مقالة الأخفش ، كما ذكر ذلك صاحب لسان العرب ، مادة (جرم).
(2) هو أبو أسماء بن الضّريبة. ويقال : هو لعطية بن عفيف ، ونسبه سيبوبه للفزاري
مجهلا.
(3) سيبويه 1 : 469 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 147 ، مشكل القرآن : 418 ،
والفاخر : 200 ، الجواليقي : 163 ، البطليوسي : 313 ، الخزانة 4 : 310 ، اللسان
(جرم). وسبب الشعر أن كرزًا العقيلي ، قتل أبا عيينة حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري يوم
حاجر ، فلما قتل كرز ، قال الشاعر يرثيه ويخاطبه : يَا كُرزُ ، إنَّكَ قَدْ
قُتِلْتَ بِفَارِسٍ ... بَطَلٍ إذَا هَابَ الكُمَاةُ وَجَبَّبُوا
" جبب الرجل تجبيبًا " : إذا فر ومضى مسرعًا. وروى البكري في معجم ما
استعجم أنه قال : يَا كُرْزُ إنَّكَ قد فَتَكْتَ بِفَارِسٍ ... بَطَلٍ إذَا هَابَ
الكُمَاةُ مُجَرَّبِ
وكأنه شعر غير هذا الشعر.
(9/483)
فتأول ذلك كل فريق منهم على المعنى
الذي تأوله من القرآن. فقال الذين قالوا : " لا يجرمنكم " ، لا يُحِقَّن
لكم معنى قول الشاعر : " جرمت فزارة " ، أحقَّت الطعنةُ لفزارة الغضبَ.
وقال الذين قالوا : معناه : لا يحملنكم معناه في البيت : " جرمت فزارة أن
يغضبوا " ، حملت فزارة على أن يغضبوا.
* * *
وقال آخر من الكوفيين : معنى قوله : " لا يجرمنكم " ، لا يكسبنكم شنآن
قوم.
وتأويل قائل هذا القول قولَ الشاعر في البيت : " جرمت فزارة " ، كسبت فزارة
أن يغضبوا. قال : وسمعت العرب تقول : " فلان جريمة أهله " ، بمعنى :
كاسبهم " وخرج يجرمهم " ، يكسبهم. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه ، متقاربة المعنى. وذلك
أن من حمل رجلا على بغض رجل ، فقد أكسبه بغضه. ومن أكسبه بغضه ، فقد أحقَّه له.
فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أحسن في الإبانة عن معنى الحرف ، ما قاله ابن عباس
وقتادة ، وذلك توجيههما معنى قوله : " ولا يجرمنكم شنآن قوم " ، ولا
يحملنكم شنآن قومٍ على العدوان.
* * *
__________
(1) قائل هذا هو الفراء في معاني القرآن 1 : 299.
(9/484)
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الأمصار : ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ ) بفتح " الياء " من
: " جَرَمْتُه أجْرِمُه " .
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين (1) وهو يحيى بين وثّاب ، والأعمش : ما : -
10992 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن الأعمش أنه قرأ : ( وَلا
يُجْرِمَنَّكُمْ ) مرتفعة " الياء " ، من : " أجرمته أجرمه ، وهو
يُجْرِمني " .
* * *
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بالصواب من القراءتين ، قراءة من قرأ ذلك : ( وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ ) بفتح " الياء " ، لاستفاضة القراءة بذلك في قرأة
الأمصار ، وشذوذ ما خالفها ، وأنها اللغة المعروفة السائرة في العرب ، وإن كان
مسموعًا من بعضها : " أجرم يُجْرم " على شذوذه. وقراءة القرآن بأفصح
اللغات ، أولى وأحق منها بغير ذلك. ومن لغة من قال " جَرَمْتُ " ، قول
الشاعر : (2)
يَا أَيُّهَا المُشْتَكِي عُكْلا وَمَا جَرَمَتْ... إلى القَبَائِلِ مِنْ قَتْلٍ ،
وإبْآسُ (3)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 299.
(2) ينسب للفرزدق ، وليس في ديوانه.
(3) مجالس ثعلب : 49 ، 50 ، والأضداد لابن الأنباري : 85 ، والبيت مرفوع القافية
وبعد البيت : إنّا كَذَاكَ ، إذَا كانَتْ هَمَرَّجَةٌ ... نَسْبِي ونَقْتُلُ
حَتَّى يُسْلِمَ النَّاسُ
" همرجة " : اختلاط وفتنة. وروى ثعلب هذين البيتين. ثم قال ، ولم يبين
لمن كان هذا الخبر : " قلت له (يعني : للفرزدق) : لم قلت : من قتل ، وإبآس ؟
قال : كيف أصنع وقد قلت : حتى يسلم الناس ؟ قال قلت : فيم رفعته ؟ قال : بما يسوءك
وينوءك! " .
ثم قال أبو العباس ثعلب : " وإنما رفعه ، لأن الفعل لم يظهر بعده ، كما تقول
: ضربت زيدًا وعمرو لم يظهر الفعل فرفعت ، وكما تقول : ضربت زيدًا وعمرو مضروب
" .
(9/485)
القول في تأويل قوله : { شَنَآنُ
قَوْمٍ }
اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم : (شَنَآنُ) بتحريك " الشين والنون " إلى الفتح ، بمعنى :
بغض قوم ، توجيهًا منهم ذلك إلى المصدر الذي يأتي على " فَعَلان " ،
نظير " الطيران " و " النَّسَلان " و " العَسَلان "
و " الرَّمَلان " .
* * *
وقرأ ذلك آخرون : (شَنْآنُ قَوْمٍ) بتسكين " النون " وفتح " الشين
" بمعنى : الاسم ، توجيهًا منهم معناه إلى : لا يحملنكم بَغِيض قوم (1) فيخرج
" شَنْآن " على تقدير " فَعْلان " ، لأن " فَعَل "
منه على " فَعِلَ " (2) كما يقال : " سكران " من " سكر
" ، و " عطشان " من " عطش " ، وما أشبه ذلك من الأسماء.
* * *
قال أبو جعفر : والذي هو أولى القراءتين في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأ : (شَنَآنُ
قَومٍ) بفتح " النون " محركة ، لشائع تأويل أهل التأويل على أن معناه :
بغض قوم وتوجيههم ذلك إلى معنى المصدر دون معنى الاسم.
وإذْ كان ذلك موجَّهًا إلى معنى المصدر ، فالفصيح من كلام العرب فيما جاء من
المصادر على " الفَعلان " بفتح " الفاء " ، تحريك ثانيه دون
تسكينه ، كما وصفت من قولهم : " الدَّرَجَان " و " الرَّمَلان
" ، من " درج " و " رمل " ، فكذلك " الشنآن "
من " شنئته أشنَؤُه شنآنًا " ، ومن العرب من يقول : " شَنَانٌ
" على تقدير " فعال " ، ولا أعلم قارئًا قرأ ذلك كذلك ، ومن ذلك
قول الشاعر : (3)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " بغض قوم " ، والصواب ما أثبت ، كما يدل
عليه السياق.
(2) قوله : " فعل " الأولى ، يعني الفعل الماضي ، أما الثانية ، فهي
الميزان الصرفي ، على وزن " سكر " بكسر العين.
(3) هو الأحوص بن محمد الأنصاري.
(9/486)
وَمَا العَيْشُ إلا مَا تَلَذُّ
وتَشْتَهِي... وَإنْ لامَ فِيهِ ذُو الشَّنَانِ وَفَنَّدَا (1)
وهذا في لغة من ترك الهمز من " الشنآن " ، فصار على تقدير " فعال
" وهو في الأصل " فَعَلان " .
* * *
ذكر من قال من أهل التأويل : " شنآن قوم " ، بغض قوم.
10993 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس قوله : " ولا يجرمنكم شنآن قوم " ، لا يحملنكم بغض قوم.
10994 - وحدثني به المثنى مرة أخرى بإسناده ، عن ابن عباس فقال : لا يحملنكم عداوة
قوم أن تعتدوا.
10995 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا
يجرمنكم شنآن قوم " ، لا يجرمنكم بغض قوم.
10996 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا
يجرمنكم شنآن قوم " ، قال : بغضاؤهم ، أن تعتدوا.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ
تَعْتَدُوا }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض أهل المدينة وعامة قرأة الكوفيين : ( أَنْ صَدُّوكُمْ ) بفتح "
الألف "
__________
(1) طبقات فحول الشعراء : 539 ، الأغاني 13 : 151 - 153 ، مصارع العشاق : 62 ، 75
، والشعر والشعراء : 501 ، واللسان (شنأ) ، وقلما يخلو منه كتاب بعد.
(9/487)
من " أن " ، بمعنى : لا
يجرمنكم بغض قوم بصدِّهم إياكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا.
* * *
وكان بعض قرأة الحجاز والبصرة يقرأ ذلك : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم ) ،
بكسر " الألف " من " إن " ، بمعنى : ولا يجرمنكم شنآن قوم إن
هم أحدثوا لكم صدًّا عن المسجد الحرام أن تعتدوا فزعموا أنها في قراءة ابن مسعود :
( إن يصدوكم ) ، فقرأوا ذلك كذلك اعتبارًا بقراءته. (1)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان معروفتان مشهورتان
في قرأة الأمصار ، صحيح معنى كل واحدة منهما.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صُدَّ عن البيت هو وأصحابه يوم الحديبية ،
وأنزلت عليه " سورة المائدة " بعد ذلك ، فمن قرأ( أَنْ صَدُّوكُمْ )
بفتح " الألف " من " أن " ، فمعناه : لا يحملنكم بغض قوم ،
أيها الناس ، من أجل أن صدوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام ، أن تعتدوا عليهم.
ومن قرأ : ( إن صدوكم ) بكسر " الألف " ، فمعناه : لا يجرمنكم شنآن قوم
إن صدوكم عن المسجد الحرام إذا أردتم دخوله. لأن الذين حاربوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأصحابه من قريش يوم فتح مكة ، قد حاولوا صَدَّهم عن المسجد الحرام.
فتقدم الله إلى المؤمنين في قول من قرأ ذلك بكسر " إن " بالنهي عن
الاعتداء عليهم ، إن هم صدوهم عن المسجد الحرام ، قبل أن يكون ذلك من الصادِّين.
غير أن الأمر ، وإن كان كما وصفت ، فإن قراءة ذلك بفتح " الألف " ،
أبينُ معنى. لأن هذه السورة لا تَدَافُعَ بين أهل العلم في أنها نزلت بعد يوم
الحديبية.
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 300.
(9/488)
وإذْ كان ذلك كذلك ، فالصدُّ قد كان
تقدم من المشركين ، فنهى الله المؤمنين عن الاعتداء على الصادِّين من أجل صدِّهم
إياهم عن المسجد الحرام. (1)
* * *
وأما قوله : " أن تعتدوا " ، فإنه يعني : أن تجاوزوا الحدَّ الذي حدَّه
الله لكم في أمرهم. (2)
* * *
فتأويل الآية إذًا : ولا يحملنكم بغض قوم ، لأن صدوكم عن المسجد الحرام ، أيها
المؤمنون ، أن تعتدوا حكم الله فيهم ، فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه ، ولكن الزموا
طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم.
* * *
وذكر أنها نزلت في النهي عن الطلب بذُحول الجاهلية. (3)
*ذكر من قال ذلك :
10997 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " أن تعتدوا " ، رجل مؤمن من حلفاء محمد
، قتل حليفًا لأبي سفيان من هذيل يوم الفتح بعرفة ، لأنه كان يقتل حلفاء محمد ،
فقال محمد صلى الله عليه وسلم : لعن الله من قتل بذَحْل الجاهلية.
10998 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
* * *
وقال آخرون : هذا منسوخ
*ذكر من قال ذلك :
__________
(1) انظر تفسير " الصد " فيما سلف ص : 410 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الاعتداء " فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) " الذحول " جمع " ذحل " (بفتح فسكون) : وهو الثأر.
(9/489)
10999 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن
وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن تعتدوا " ،
قال : بغضاؤهم ، حتى تأتوا ما لا يحل لكم. وقرأ : " أن صدوكم عن المسجد
الحرام أن تعتدوا وتعاونوا " ، وقال : هذا كله قد نسخ ، نسخه الجهاد.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول مجاهد أنه غير منسوخ ،
لاحتماله : أن تعتدوا الحقَّ فيما أمرتكم به. وإذا احتمل ذلك ، لم يجز أن يقال :
" هو منسوخ " ، إلا بحجة يجب التسليم لها.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا
تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وتعاونوا على البر والتقوى " ،
وليعن بعضكم ، أيها المؤمنون ، بعضًا " على البر " ، وهو العمل بما أمر
الله بالعمل به (1) " والتقوى " ، هو اتقاء ما أمر الله باتقائه
واجتنابه من معاصيه. (2)
* * *
وقوله : " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ، يعني : ولا يعن بعضكم
بعضًا " على الإثم " ، يعني : على ترك ما أمركم الله بفعله "
والعدوان " ، يقول : ولا على أن تتجاوزوا ما حدَّ الله لكم في دينكم ، وفرض
لكم في أنفسكم وفي غيركم. (3)
__________
(1) انظر تفسير " البر " فيما سلف 2 : 8/3 : 336 - 338 ، 556/4 : 425/6
: 587.
(2) انظر تفسير " التقوى " فيما سلف من فهارس اللغة ، مادة (وقى).
(3) انظر تفسير " الإثم " و " العدوان " فيما سلف من فهارس
اللغة (أثم) (عدا).
(9/490)
وإنما معنى الكلام : ولا يجرمنكم شنآن
قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ، ولكن ليعن بعضكم بعضًا بالأمر
بالانتهاء إلى ما حدَّه الله لكم في القوم الذين صدُّوكم عن المسجد الحرام وفي
غيرهم ، والانتهاء عما نهاكم الله أن تَأتوا فيهم وفي غيرهم ، وفي سائر ما نهاكم
عنه ، ولا يعن بعضكم بعضًا على خلاف ذلك.
* * *
وبما قلنا في " البر والتقوى " قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
11000 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " وتعاونوا على البر والتقوى " ، " البر " ما
أمرت به ، و " التقوى " ما نهيت عنه.
11001 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن
أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : " وتعاونوا على البر والتقوى
" قال : " البر " ما أمرت به ، و " التقوى " ما نهيت
عنه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
}
قال أبو جعفر : وهذا وعيد من الله جل ثناؤه وتهدُّدٌ لمن اعتدى حدّه وتجاوز أمره
(1) يقول عز ذكره : " واتقوا الله " ، يعني : واحذروا الله ، أيها
المؤمنون ، أن تلقوه في معادكم وقد اعتديتم حدَّه فيما حدَّ لكم ، وخالفتم أمره
فيما أمركم به ، أو نهيه فيما نهاكم عنه ، فتستوجبوا عقابه ، وتستحقوا أليم عذابه.
ثم وصف عقابه بالشدة فقال عز ذكره : إن الله شديدٌ عقابه لمن عاقبه من خلقه ،
لأنها نار
__________
(1) في المطبوعة : " وتهديد لمن اعتدى " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/491)
لا يطفأ حَرُّها ، ولا يخمد جمرها ،
ولا يسكن لهبها ، نعوذ بالله منها ومن عمل يقرِّبنا منها.
* * *
(9/492)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
القول في تأويل قوله : { حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : حرَّم الله عليكم ، أيها المؤمنون ، الميتة.
* * *
و " الميتة " : كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره ، مما أباح الله
أكلها ، أهليَّها ووحشيَّها ، فارقتها روحها بغير تذكية . (1)
وقد قال بعضهم : " الميتة " ، هو كل ما فارقته الحياة من دوابِّ البر
وطيره بغير تذكية ، مما أحل الله أكله . (2)
وقد بيّنا العلة الموجبة صحة القول بما قلنا في ذلك ، في كتابنا(كتاب لطيف القول
في الأحكام ) . (3)
* * *
وأما " الدم " ، فإنه الدم المسفوح ، دون ما كان منه غير مسفوح ، لأن
الله جل ثناؤه قال : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ
خِنزيرٍ ) [سورة الأنعام : 145] ، فأما ما كان قد صار في معنى اللحم ، كالكبد
والطحال ، وما كان في اللحم غير
__________
(1) " التذكية " : الذبح.
(2) انظر تفسير " الميتة " فيما سلف 3 : 318 ، 319.
(3) مر اسم هذا الكتاب مرارًا ، ومر في بعضها باسم " اللطيف في أحكام شرائع
الإسلام " ، 1 : 109 ، وكان هنا في المخطوطة والمطبوعة : " كتاب اللطيف
القول في الأحكام " ، وهو غير مستقيم.
(9/492)
منسفح ، فإن ذلك غير حرام ، لإجماع
الجميع على ذلك.
* * *
وأما قوله : " ولحم الخنزير " ، فإنه يعني : وحُرِّم عليكم لحم الخنزير
، أهليُّه وبَرِّيّه.
فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج عموم ، والمراد منهما الخصوص. وأما لحم
الخنزير ، فإن ظاهره كباطنه ، وباطنه كظاهره ، حرام جميعه ، لم يخصص منه شيء.
* * *
وأما قوله : " وما أهلَّ لغير الله به " ، فإنه يعني : وما ذكر عليه غير
اسم الله.
* * *
وأصله من " استهلال الصبي " ، وذلك إذا صاح حين يسقط من بطن أمه. ومنه
" إهلال المحرم بالحج " ، إذا لبّى به (1) ومنه قول ابن أحمر :
يُهلُّ بالفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا... كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ المُعْتَمِرْ (2)
* * *
وإنما عنى بقوله : " وما أهل لغير الله به " ، وما ذبح للآلهة وللأوثان
، يسمى عليه غير اسم الله . (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإهلال " فيما سلف 3 : 319 ، 320.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 150 ، الجمهرة 2 : 387 ، اللسان (عمر) (هلل). يصف
مفازة لا يهتدي فيها. و " المعتمر " ، المعتم بعمامة. و " الفرقد
" ، أراد " الفرقدان " ، وهما كوكبان من بنات نعش الصغرى ، أو هما
نجمان في السماء لا يغربان ، ولكنهما يطوفان بالجدي.
وفي شرح البيت قولان. قال الأصمعي : " إذا انجلى لهم السحاب عن الفرقد ،
أهلوا ، أي : رفعوا أصواتهم بالتكبير ، كما يهل الراكب الذي يريد عمرة الحج ،
لأنهم كانوا يهتدون بالفرقد " .
وقال غيره : " يريد أنهم في مفازة بعيدة من المياه ، فإذا رأوا فرقدًا وهو
ولد البقرة الوحشية أهلوا ، أي : كبروا ، لأنهم قد علموا أنهم قد قربوا من الماء
" .
قلت : والعرب تتخذ " الفرقدين " دليلا في الاهتداء بهما ، لأنهما لا
يطلبان في وقت من الليل إلا وجدا ، قال الراعي : لا يَتَّخِذْنَ إذَا عَلَوْنَ
مَفَازةً ... إلا بَيَاضَ الفَرْقَدَينِ دَليلا
(3) انظر ما سلف 3 : 321.
(9/493)
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ،
وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى ، فكرهنا إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالْمُنْخَنِقَةُ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في صفة " الانخناق " الذي عنى الله جل
ثناؤه بقوله : " والمنخنقة " .
فقال بعضهم بما : -
11002 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " والمنخنقة " ، قال : التي تدخل رأسها بين شُعْبتين من شجرة ،
فتختنق فتموت.
11002م - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك في
المنخنقة ، قال : التي تختنق فتموت.
11003 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا معمر ، عن قتادة
في قوله : " والمنخنقة " ، التي تموت في خِنَاقها. (2)
* * *
وقال آخرون : هي التي توثق فيقتلها بالخناق وَثَاقها.
*ذكر من قال ذلك :
11004 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك
يقول في قوله : " والمنخنقة " ، قال : الشاة توثق ، فيقتلها خِنَاقها ،
فهي حرام.
* * *
__________
(1) انظر الآثار السالفة من رقم : 2468 - 2477.
(2) " الخناق " (بكسر الخاء) : الحبل الذي يخنق به ، وأراد الحبل الذي
ربطت فيه من عند عنقها.
(9/494)
وقال آخرون : بل هي البهيمة من النَّعم
، كان المشركون يخنقونها حتى تموت ، فحرَّم الله أكلها.
*ذكر من قال ذلك :
11005 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس : " والمنخنقة " التي تُخنق فتموت. (1)
11006 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
والمنخنقة " ، كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة ، حتى إذا ماتت أكلوها. (2)
* * *
وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قول من قال : " هي التي تختنق ، إما في وثاقها ،
وإما بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه ، فتختنق حتى تموت
" .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك من غيره ، لأن " المنخنقة " ،
هي الموصوفة بالانخناق ، دون خنق غيرها لها ، ولو كان معنيًّا بذلك أنها مفعول بها
، لقيل : " والمخنوقة " ، حتى يكون معنى الكلام ما قالوا.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالْمَوْقُوذَةُ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " والموقوذة " ، والميتة وقيذًا.
* * *
يقال منه : " وقَذَهُ يَقِذُه وقْذًا " ، إذا ضربه حتى أشرف على الهلاك
، ومنه قول الفرزدق :
__________
(1) في المطبوعة : " تختنق فتموت " ، وهو خطأ صرف مفسد لاستدلال الطبري
، والصواب من المخطوطة.
(2) الأثر : 11006 - " بشر بن معاذ " ، مضى ، ومضى إسناده هذا مئات من
المرات ، أقربه رقم : 10995 ، ولكن كان في المخطوطة والمطبوعة هنا : " حدثنا
أنس قال ، حدثنا يزيد " وهو خطأ صرف.
(9/495)
شَغَّارَةٍ تَقِذُ الفَصِيلَ
بِرِجْلِهَا... فَطَّارَةٍ لِقَوَادِمِ الأبْكَارِ (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
11007 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس : " والموقوذة " ، قال : الموقوذة ، التي تضرب بالخشب حتى توقَذَ
بها فتموت. (2)
11008 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
والموقوذة " ، كان أهل الجاهلية يضربونها بالعِصيّ ، حتى إذا ماتت أكلوها.
11009 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا روح قال ، حدثنا شعبة ، عن قتادة في قوله
: " والموقوذة " ، قال : كانوا يضربونها حتى يقذوها ، ثم يأكلونها.
__________
(1) ديوانه : 452 ، النقائض : 332 ، من هجائه جريرًا ، قبله : كَمْ خَالَةٍ لَكَ ،
يا جَرِيرُ ، وعَمّةٍ ... فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَلَى عِشَارِي
كُنَّا نُحَاذِرُ أَنْ تُضِيعَ لِقَاحَنَا ... وَلَهًا ، إذَا سَمِعَتْ دُعاءَ
يَسَارِ
يقول : عماته وخالاته رعاة أجلاف ، واستجاد لهن شر الصفات ، فزعمها " فدعاء
" ، أي في الرسغ من أقدامها ميل وعوج ، من المهنة في العمل منذ ولدت. وزعم
أنهن كن عنده يحلبن " عشاره " ، وهي النوق الحديثة العهد بالولادة ،
وأنفس الإبل عند أهلها إذا كانت عشارًا ، وهي " اللقاح " أيضًا.
و " يسار " اسم راع من عبيدة. يقول : إذا سمعت صوت يسار ساورها الشبق
إليه ، فطاش عقلها ولهًا وصبابة ، فكانوا يخافون أن تهمل اللقاح حتى تهلك وتضيع.
ثم وصفها بالغلظة ، بأقبح وصف ، فزعم أنها إذا قامت تحلب الناقة ، ثم دنا الفصيل
من أمه ، شغرت برجلها رفعتها ، كما يرفع الكلب رجله وهو يبول إلى خلف فضربته ضربة
يشرف بها على الهلاك ، كأن ساقها رمح أو هراوة.
وأما قوله : " فطارة لقوادم الأبكار " ، فالأبكار جمع " بكر "
، وهي الناقة التي ولدت بطنًا واحدًا ، فأخلافها صغار قصار ، لا يستمكن الحالب أن
يحلبها ضبًا ، وهو الحلب بالكف كلها ، بل تحلب فطرًا ، أي بالسبابة والوسطى ،
ويستعان بطرف الإبهام. و " القوادم " من النوق ، لكل ناقة " قادمان
" ، وهما خلفا الضرع المقدمان.
(2) في المطبوعة : " حتى تقذها فتموت " ، وفي المخطوطة : " حتى
توقذها فتموت " ، وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله : " بها " أي
بالخشبة ، وانظر الآثار التالية ، فهي دالة على صواب هذه القراءة.
(9/496)
11010 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ،
أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " والموقوذة
" ، التي توقذ فتموت.
11011 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك قال :
" الموقوذة " ، التي تضرب حتى تموت.
11012 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " والموقوذة " ، قال : هي التي تضرب فتموت.
11013 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سلمان
قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " والموقوذة " ، كانت الشاة أو غيرها
من الأنعام تضرب بالخشب لآلهتهم ، حتى يقتلوها فيأكلوها.
11014 - حدثنا العباس بن الوليد قال ، أخبرني عقبة بن علقمة ، حدثني إبراهيم بن
أبي عبلة. قال ، حدثني نعيم بن سلامة ، عن أبي عبد الله الصنابحي قال : ليست
" الموقوذة " إلا في مالك ، وليس في الصيد وقيذ. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 11014 - " العباس بن الوليد بن مزيد الآملي " ، شيخ الطبري
، مضى برقم : 891.
و " عقبة بن علقمة بن حديج المعافري " ، من أصحاب الأوزاعي ، كان خيارًا
ثقة. مترجم في التهذيب.
و " إبراهيم بن أبي عبلة بن شمر ، بن يقظان الرملي " . روى عنه مالك ،
والليث ، وابن المبارك. ثقة. قال ضمرة بن ربيعة : " ما رأيت أفصح منه "
، وكان يقول الشعر الحسن. مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 1/1/310.
و " نعيم بن سلامة الأزدي " ، ويقال : " نعيم بن سلامان " .
كان على خاتم سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز. لم يذكروا فيه جرحًا. مترجم
في الكبير 4/2/98 ، وابن أبي حاتم 4/1/462 ، وتعجيل المنفعة : 423.
و " أبو عبد الله الصنابحي " ، هو : " عبد الرحمن بن عسيلة بن عسل
بن عسال المرادي " . رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فوجده قد مات قبله
بخمس ليال أو ست. كان ثقة قليل الحديث. أخرج الطبراني من طريق ابن محيريز قال :
" عدنا عبادة بن الصامت ، فأقبل أبو عبد الله الصنابحي ، فقال عبادة : من سره
أن ينظر إلى رجل عرج به إلى السماء ، فنظر إلى أهل الجنة وأهل النار ، فرجع وهو
يعمل على ما رأى ، فلينظر إلى هذا " .
(9/497)
القول في تأويل قوله : {
وَالْمُتَرَدِّيَةُ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وحرمت عليكم الميتة تردِّيًا من جبل أو في
بئر ، أو غير ذلك.
* * *
و " تردِّيها " ، رميُها بنفسها من مكان عالٍ مشرف إلى سُفْله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
11015 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " والمتردية " ، قال : التي تتردَّى من
الجبل.
11016 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
والمتردية " ، كانت تتردى في البئر فتموت ، فيأكلونها.
11017 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا روح قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
والمتردية " ، قال : التي تردَّت في البئر.
11018 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي في قوله : " والمتردية " ، قال : هي التي تَرَدَّى من الجبل ، أو
في البئر ، فتموت.
11019 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ،
(9/498)
عن الضحاك : " والمتردية " ،
التي تردَّى من الجبل فتموت.
11020 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد قال ،
سمعت الضحاك يقول في قوله : " والمتردية " ، قال : التي تَخِرُّ في
ركيٍّ ، أو من رأس جبل ، فتموت. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالنَّطِيحَةُ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " النطيحة " ، الشاة التي تنطحها أخرى
فتموت من النطاح بغير تذكية. فحرم الله جل ثناؤه ذلك على المؤمنين ، إن لم يدركوا
ذكاته قبل موته.
* * *
وأصل " النطيحة " ، " المنطوحة " ، صرفت من " مفعولة
" إلى " فعيلة " .
* * *
فإن قال قائل : وكيف أثبتت " الهاء " هاء التأنيث فيها ، وأنت تعلم أن
العرب لا تكاد تثبت " الهاء " في نظائرها إذا صرفوها صرف " النطيحة
" من " مفعول " إلى " فعيل " ، إنما تقول : " لحية
دهين " و " عين كحيل " و " كف خضيب " ، ولا يقولون : كف
خضيبة ، ولا عين كحيلة ؟ (2)
قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك.
فقال بعض نحويي البصرة : أثبتت فيها " الهاء " أعني في " النطيحة
" لأنها جعلت كالاسم مثل : " الطويلة " و " الطريقة " .
فكأن قائل هذا القول ، وجه " النطيحة " إلى معنى " الناطحة "
.
__________
(1) " الركي " : البئر.
(2) انظر ما سلف 2 : 328 ، 401/6 : 414 ، ومواضع أخرى غابت عني.
(9/499)
فتأويل الكلام على مذهبه : وحرمت عليكم
الميتة نطاحًا ، كأنه عنى : وحرمت عليكم الناطحة التي تموت من نِطاحها.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة : إنما تحذف العرب " الهاء " من " الفعيلة
" المصروفة عن " المفعول " ، إذا جعلتها صفة لاسم قد تقدَّمها ،
فتقول : " رأينا كفًّا خضيبًا ، وعينًا كحيلا " ، فأما إذا حذفت "
الكف " و " العين " والاسم الذي يكون " فعيل " نعتًا لها
، واجتزأوا بـ " فعيل " منها ، أثبتوا فيه هاء التأنيث ، ليعلم بثبوتها
فيه أنها صفة للمؤنث دون المذكر ، فتقول : " رأينا كحيلةً وخضيبة " و
" أكيلة السبع " . قالوا : ولذلك أدخلت " الهاء " في "
النطيحة " ، لأنها صفة المؤنث ، ولو أسقطت منها لم يُدْرَ أهي صفة مؤنث أو
مذكر.
* * *
وهذا القول هو أولى القولين في ذلك بالصواب ، لشائع أقوال أهل التأويل (1) بأن
معنى : " النطيحة " ، المنطوحة.
*ذكر من قال ذلك :
11021 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن أبي
عباس قوله : " والنطيحة " ، قال : الشاة تنطح الشاة.
11022 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن قيس ، عن أبي إسحاق ،
عن أبي ميسرة قال : كان يقرأ : (وَالمَنْطُوحَةُ).
11023 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك :
" والنطيحة " ، الشاتان ينتطحان فيموتان.
11024 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " والنطيحة " ، هي التي تنطحها الغنم والبقر فتموت.
__________
(1) في المطبوعة : " بالصواب الشائع من أقوال أهل التأويل " ، وهو عبث
وتغيير فاسد ، والصواب من المخطوطة. وانظر شبيهة هذه العبارة فيما سلف ص : 486 سطر
: 11 ، " لشائع تأويل أهل التأويل " ، وهذا التعبير ، هو الثاني فيما مر
عليّ من تفسير أبي جعفر فيما سلف.
(9/500)
يقول : هذا حرام ، لأن ناسًا من العرب
كانوا يأكلونه. (1)
11025 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
والنطيحة " ، كان الكبشان ينتطحان ، فيموت أحدهما ، فيأكلونه.
11026 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا روح قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
والنطيحة " ، الكبشان ينتطحان ، فيقتل أحدهما الآخر ، فيأكلونه.
11027 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد قال ،
سمعت الضحاك ، يقول في قوله : " والنطيحة " ، قال : الشاة تنطح الشاة
فتموت.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وما أكل السبع " ، وحرّم عليكم
ما أكل السبع غير المعَلَّم من الصوائد.
* * *
وكذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
11028 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس : " وما أكل السبع " ، يقول : ما أخذ السبع.
11029 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك :
" وما أكل السبع " ، يقول : ما أخذ السبع.
11030 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة :
__________
(1) الأثر : 11024 - يأتي بتمامه برقم : 11047.
(9/501)
" وما أكل السبع " ، قال :
كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئًا من هذا أو أكل منه ، أكلوا ما بقي.
11031 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن قيس ، عن عطاء بن السائب
، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس أنه قرأ : ( وأكيل السبع ).
* * *
القول في تأويل قوله : { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " إلا ما ذكَّيتم " ، إلا ما
طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهورًا.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيما استثنى الله بقوله : " إلا ما ذكيتم " .
فقال بعضهم : استثنى من جميع ما سمى الله تحريمه من قوله : " وما أهل لغير
الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع " .
*ذكر من قال ذلك :
11032 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس : " إلا ما ذكيتم " ، يقول : ما أدركتَ ذكاته من هذا كله ، يتحرّك
له ذنب ، أو تطرِف له عين ، فاذبح واذكر اسم الله عليه ، فهو حلال.
11033 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن الحسن : " حرمت
عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة
والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم " ، قال الحسن : أيَّ هذا
(9/502)
أدركتَ ذكاته فذكِّه وكُلْ. فقلت : يا
أبا سعيد ، كيف أعرف ؟ قال : إذا طرَفت بعينها ، أو ضربت بذَنبها.
11034 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إلا ما
ذكيتم " ، قال : فكلُّ هذا الذي سماه الله عز وجل ههنا ، ما خلا لحم الخنزير
، إذا أدركتَ منه عينًا تطرف ، أو ذنبًا يتحرك ، أو قائمة تركض (1) فذكّيته ، فقد
أحلّ الله لك ذلك.
11035 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة : " إلا ما ذكيتم " ، من هذا كله. فإذا وجدتها تطرف عينها ، أو
تحرك أذنها من هذا كله ، فهي لك حلال.
11036 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني هشيم وعباد قالا أخبرنا حجاج
، عن حصين ، عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة
والمتردية والنطيحة ، وهي تحرك يدًا أو رجلا فكلها.
11037 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا معمر ، عن
إبراهيم قال : إذا أكل السبع من الصيد ، أو الوقيذة أو النطيحة أو المتردية ،
فأدركت ذكاته ، فكُل.
11038 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مصعب بن سلام التميمي قال ، حدثنا جعفر بن
محمد ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب قال : إذا ركضت برجلها ، أو طرفت بعينها ،
وحركت ذنبها ، فقد أجزأ. (2)
__________
(1) " الركض " : حركة الرجل واضطرابها ، أو الضرب بها. و " ارتكض
الشيء " : إذا اضطرب.
(2) الأثر : 11038 - " مصعب بن سلام التميمي " مضت ترجمته برقم : 5382.
و " جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب " ، هو "
جعفر الصادق " ، مضت ترجمته برقم : 2003.
و " أبوه " : " محمد بن علي بن الحسين " ، وهو " محمد
الباقر " مضى برقم : 5123 ، 5463.
(9/503)
11039 - حدثنا ابن المثنى وابن بشار
قالا حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرني ابن طاوس ، عن أبيه قال :
إذ ذبحت فَمَصَعَت بذنبها ، أو تحركت ، فقد حلَّت لك أو قال : فَحَسْبه. (1)
11040 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن
حميد ، عن الحسن قال : إذا كانت الموقوذة تطرف ببصرها ، أو تركض برجلها ، أو تمصَع
بذنبها ، فاذبح وكُل.
11041 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن قتادة ، بمثله.
11042 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ،
عن أبي الزبير ، أنه سمع عبيد بن عمير يقول : إذا طرفت بعينها ، أو مصعت بذنبها ،
أو تحركت ، فقد حلَّت لك.
11043 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ،
سمعت الضحاك يقول : كان أهل الجاهلية يأكلون هذا ، فحرَّم الله في الإسلام إلا ما
ذُكِّي منه ، فما أُدرك فتحرّك منه رجل أو ذنب أو طَرف ، فذكِّي ، فهو حلال.
11044 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " حرمت
عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير " ، وقوله : " والمنخنقة والموقوذة
والمتردِّية والنطيحة " ، الآية " وما أكل السبع إلا ما ذكيتم " ،
قال : هذا كله محرّم ، إلا ما ذكيّ من هذا.
* * *
فتأويل الآية على قول هؤلاء : حرمت الموقوذة والمتردِّية ، إن ماتت من التردِّي
والوقذ والنطح وفَرْس السبع ، إلا أن تدركوا ذكاتها ، فتدركوها قبل موتها ، فتكون
حينئذ حلالا أكلُها.
* * *
__________
(1) " مصعت بذنبها " : حركته وضربت به. وكان في المطبوعة : " أو
قال : فحسب " ، والصواب من المخطوطة ، أي : ذلك حسبه وكافيه ومجزئه ، يعني من
أراد أكلها.
(9/504)
وقال آخرون : هو استثناء من التحريم ،
وليس باستثناء من المحرَّمات التي ذكرها الله تعالى في قوله : " حرمت عليكم
الميتة " ، لأن الميتة لا ذكاة لها ، ولا للخنزير. قالوا : وإنما معنى الآية
: حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما سمينا مع ذلك ، إلا ما ذكيتم مما أحلَّه الله
لكم بالتذكية ، فإنه لكم حلال. وممن قال ذلك جماعة من أهل المدينة.
ذكر بعض من قال ذلك :
11045 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، قال مالك ، وسئل عن الشاة التي
يخرِق جوفها السبع حتى تخرجَ أمعاؤها ، فقال مالك : لا أرى أن تذكَّى ، ولا يؤكل
أي شيء يذكَّى منها.
11046 - حدثني يونس ، عن أشهب قال : سئل مالك عن السبع يَعْدُو على الكبش فيدقُّ
ظهره ، أترى أن يذكَّى قبل أن يموت فيؤكل ؟ قال : إن كان بلغ السَّحْر (1) فلا أرى
أن يؤكل. وإن كان إنما أصاب أطرافه ، فلا أرى بذلك بأسًا. قيل له : وثب عليه فدقَّ
ظهره ؟ قال : لا يعجبني أن يؤكل ، هذا لا يعيش منه. قيل له : فالذئب يعدو على
الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء ؟ قال : إذا شق بطنها ، فلا أرى أن تؤكل.
* * *
وعلى هذا القول يجب أن يكون قوله : " إلا ما ذكيتم " ، استثناء منقطعًا.
فيكون تأويل الآية : حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما ذكرنا ، ولكن ما ذكيتم من
الحيوانات التي أحللتها لكم بالتذكية حلال.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب ، القول الأول ، وهو أن قوله :
" إلا ما ذكيتم " استثناء من قوله : " وما أهل لغير الله به
والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع " ، لأن كل ذلك مستحق
الصفة التي
__________
(1) " السحر " (بفتح فسكون) : هو الرئة ، أو ما التزق بالحلقوم والمريء
من أعلى البطن.
(9/505)
هو بها قبل حال موته (1) فيقال لما
قرَّب المشركون لآلهتهم فسموه لهم : " هو ما أهل لغير الله به " ، بمعنى
سمى قربانًا لغير الله. وكذلك " المنخنقة " ، إذا انخنقت وإن لم تمت ،
فهي منخنقة. وكذلك سائر ما حرمه الله جل وعز بعد قوله : " وما أهل لغير الله
به " ، إلا بالتذكية ، فإنه يوصف بالصفة التي هو بها قبل موته ، فحرمه الله
على عباده إلا بالتذكية المحللة ، دون الموت بالسبب الذي كان به موصوفًا. فإذ كان ذلك
كذلك ، فتأويل الآية : وحرم عليكم ما أهل لغير الله به والمنخنقة وكذا وكذا وكذا ،
إلا ما ذكيتم من ذلك.
فـ " ما " إذ كان ذلك تأويله في موضع نصب بالاستثناء مما قبلها. وقد
يجوز فيه الرفع.
وإذ كان الأمر على ما وصفنا ، فكل ما أدركت ذكاتُه من طائر أو بهيمة قبل خروج نفسه
، ومفارقة روحه جسدَه ، فحلال أكله ، إذا كان مما أحلَّه الله لعباده.
* * *
فإن قال لنا قائل : فإذ كان ذلك معناه عندك ، فما وجه تكريره ما كرّر بقوله :
" وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية " ، وسائر ما
عدَّد تحريمه في هذه الآية ، وقد افتتح الآية بقوله : " حرمت عليكم الميتة
" ؟ وقد علمت أن قوله : " حرمت عليكم الميتة " ، شامل كل ميتة ،
كان موته حتف أنفه من علة به من غير جناية أحد عليه ، أو كان موته من ضرب ضاربٍ
إياه ، أو انخناق منه ، أو انتطاح ، أو فَرْس سبع ؟ وهلا كان قوله إن كان الأمر
على ما وصفت في ذلك ، من أنه معنيٌّ بالتحريم في كل ذلك : الميتة بالانخناق
والنطاح والوقذ وأكل السبع أو غير ذلك ، دون أن يكون معنيًّا به تحريمه إذا تردّى
أو انخنق أو فرسه السبع ، فبلغ ذلك منه ما يعلم أنه لا يعيش مما أصابه منه إلا
باليسير من الحياة (2)
__________
(1) في المخطوطة : " موتها " ، وهما سواء.
(2) سياق هذه العبارة المطولة : " وهلا كان قوله.. : حرمت عليكم الميتة ،
مغنيًا من تكرير ما كرر.. وتعداده ما عدد " ، وما بينهما فصل وضعته بين خطين.
(9/506)
" حرمت عليكم الميتة " ،
مغنيًا من تكرير ما كرر بقوله : " وما أهل لغير الله به والمنخنقة " ،
وسائر ما ذكر مع ذلك ، وتَعْدادِه ما عدَّد ؟
قيل : وجه تكراره ذلك وإن كان تحريم ذلك إذا مات من الأسباب التي هو بها موصوف ،
وقد تقدم بقوله : " حرمت عليكم الميتة " أن الذين خوطبوا بهذه الآية
كانوا لا يعدُّون " الميتة " من الحيوان ، إلا ما مات من علة عارضة به
غير الانخناق والتردِّي والانتطاح وفرس السبع. فأعلمهم الله أن حكم ذلك ، حكم ما
مات من العلل العارضة وأن العلة الموجبة تحريم الميتة ، ليست موتها من علة مرض أو
أذى كان بها قبل هلاكها ، ولكن العلة في ذلك أنها لم يذبحها من أجل ذبيحته بالمعنى
الذي أحلها به (1) كالذي : -
11047 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي في قوله : " والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا
ما ذكيتم " ، يقول : هذا حرام ، لأن ناسًا من العرب كانوا يأكلونه ولا
يعدّونه ميتًا ، إنما يعدون الميت الذي يموت من الوجع. فحرمه الله عليهم ، إلا ما
ذكروا اسم الله عليه ، وأدركوا ذكاته وفيه الروح. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " وما ذبح على النصب " ، وحرم
عليكم أيضًا الذي ذبح على النُّصُب.
فـ " ما " في قوله : " وما ذبح " ، رفْعٌ ، عطفًا على "
ما " التي في قوله : " وما أكل السبع " .
__________
(1) في المطبوعة : " من أحل ذبيحته " ، والصواب ما في المخطوطة ، وهي
فيها منقوطة. ويعني : من أجل أن تكون ذبيحة له ياكلها.
(2) الأثر : 11047 - هو تمام الأثر السالف رقم : 11024.
(9/507)
و " النصب " ، الأوثان من
الحجارة ، جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الأرض ، فكان المشركون يقرِّبون لها
، وليست بأصنام.
وكان ابن جريج يقول في صفته ما : -
11048 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج :
" النصب " ليست بأصنام ، " الصنم " يصوَّر وينقش ، وهذه حجارة
تنصب ، ثلثمئة وستون حجرًا (1) منهم من يقول ثلثمئة منها لخزاعة (2) فكانوا إذا
ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت (3) وشرَّحوا اللحم وجعلوه على الحجارة.
(4) فقال المسلمون : يا رسول الله ، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم ، فنحن
أحقُّ أن نعظمه! فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك ، فأنزل الله : ( لَنْ
يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا ) [سورة الحج : 37].
* * *
ومما يحقق قول ابن جريج في أن " الأنصاب " غير " الأصنام " ،
ما : -
11049 - حدثنا به ابن وكيع قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد :
" وما ذبح على النصب " ، قال : حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية.
11050 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " النصب " ، قال : حجارة حول الكعبة ،
يذبح عليها أهل الجاهلية ، ويبدِّلونها إذا شاؤوا بحجارة أعجب إليهم منها.
__________
(1) قوله : " ثلثمئة وستون حجرًا " ، يعني عدة الأنصاب التي كانت حول
الكعبة ، انظر ابن سعد 2/1/98 : " وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحول
الكعبة ثلثمئة وستون صنما " ، ولكن هذه أصنام لا أنصاب كما ترى.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " بخزاعة " بالباء ، والصواب ما أثبت.
(3) " نضح الدم أو الماء " : رشه به.
(4) " شرح اللحم " ، وهو أن يقطع بضعة من اللحم ويرققها ، حتى تشف من
رقتها. و " الشريحة " : القطعة المرققة منه كذلك.
(9/508)
11051 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو
حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
11052 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
وما ذبح على النصب " ، و " النصب " : حجارة كان أهل الجاهلية
يعبدونها ، ويذبحون لها ، فنهى الله عن ذلك.
11053 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " وما ذبح على النصب " ، يعني : أنصابَ الجاهلية.
11054 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس : " وما ذبح على النصب " ، و " النصب " ،
أنصاب كانوا يذبحون ويُهِلُّون عليها.
11055 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن
القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد قوله : " وما ذبح على النصب " ، قال : كان
حول الكعبة حجارة كان يَذبح عليها أهل الجاهلية ، ويبدِّلونها إذا شاؤوا بحجر هو
أحبّ إليهم منها.
11056 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد قال ، سمعت الضحاك
بن مزاحم يقول : " الأنصاب " ، حجارة كانوا يهلّون لها ، ويذبحون عليها.
11057 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وما
ذبح على النُّصب " ، قال : " ما ذبح على النصب " و " ما أهل
لغير الله به " ، وهو واحد. (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " هو واحد " ، بغير واو ، والذي في المخطوطة أجود.
(9/509)
القول في تأويل قوله : { وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " وأن تستقسموا بالأزلام " ، وأن تطلبوا
علم ما قُسِم لكم أو لم يقسم ، بالأزلام.
* * *
وهو " استفعلت " من " القَسْم " قَسْم الرزق والحاجات. وذلك
أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفرًا أو غزوًا أو نحو ذلك ، أَجال القداح وهي
" الأزلام " وكانت قِداحًا مكتوبًا على بعضها : " نهاني ربّي
" ، وعلى بعضها : " أمرني ربّي " فإن خرج القدح الذي هو مكتوب عليه
: " أمرني ربي " ، مضى لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك. وإن
خرج الذي عليه مكتوب : " نهاني ربي " ، كفّ عن المضي لذلك وأمسك ، فقيل
: " وأن تستقسموا بالأزلام " ، لأنهم بفعلهم ذلك كانوا كأنهم يسألون
أزلامهم أن يَقْسِمن لهم ، ومنه قول الشاعر مفتخرًا بترك الاستقسام بها : (1)
وَلَمْ أَقْسِمْ فَتَرْبُثَنِي القُسُومُ (2)
* * *
وأما " الأزلام " ، فإن واحدها " زَلَم " ، ويقال : "
زُلَم " ، وهي القداح التي وصفنا أمرها. (3)
* * *
__________
(1) أعياني أن أعرف قائله ، وهو شبيه بكلام أمية بن أبي الصلت ، وليس في ديوانه.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 152 ، وقوله " لم أقسم " ، من "
قسمت أمري أقسمه قسما " ، أي : قدرته ونظرت ، وميلت فيه أن أفعله أو لا
أفعله. وقالوا : " تركت فلانًا يقتسم ، وتركته يستقسم " : أي يفكر ويروي
بين أمرين. وكذلك فعل من يستقسم بالأزلام ، فاستعمل " أقسم " بمعنى
" الاستقسام بالأزلام " في هذا البيت. و " القسوم " جمع
" قسم " (بكسر القاف وسكون السين) : الحظ ، وجمعه " أقسام " ،
ولكنه جمع على " قسوم " ، كجمع " حلم " على " حلوم
" و " أحلام " .
(3) " زلم " (بفتحتين) و " زلم " (بضم الزاي وفتح اللام).
(9/510)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
11058 - حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ،
عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : " وأن تستقسموا بالأزلام " ، قال :
القداح ، كانوا إذا أرادوا أن يخرجوا في سفر جعلوا قداحًا للجلوس والخروج. فإن وقع
الخروج خرجوا ، وإن وقع الجلوس جلسوا.
11059 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن شريك ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن
جبير : " وأن تستقسموا بالأزلام " ، قال : حصًى بيضٌ كانوا يضربون بها.
قال أبو جعفر : قال لنا سفيان بن وكيع : هو الشطرنج. (1)
11060 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عباد بن راشد البزّار ، عن
الحسن في قوله : " وأن تستقسموا بالأزلام " ، قال : كانوا إذا أرادوا
أمرًا أو سفرًا ، يعمَدون إلى قداح ثلاثة ، على واحد منها مكتوب : " أؤمرني
" ، وعلى الآخر : " انهني " ، ويتركون الآخر محلَّلا بينهما ليس
عليه شيء. ثم يجيلونها ، فإن خرج الذي عليه " أؤمرني " مضوا لأمرهم. وإن
خرج الذي عليه " انهني " كفُّوا ، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها.
(2)
11061 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد :
" وأن تستقسموا بالأزلام " ، حجارة كانوا يكتبون عليها ، يسمونها "
القِداح " .
__________
(1) هذا قول في غاية الغرابة!! كأنه كان يجهل ما الشطرنج أو كأنه كان يرى أنهم
يفعلون ذلك بقطع الشطرنج ، دون أن يكون هذا الفعل هو اللعب بالشطرنج.
(2) الأثر : 11060 - " عباد بن راشد التميمي البزار " ، ابن أخت داود بن
أبي هند. روى عن ثابت البناني ، والحسن البصري ، وداود بن أبي هند ، وقتادة. روى
عنه هشيم ، وعبد الرزاق ، وأبو عامر العقدي ، وغيرهم. ذكره البخاري في الضعفاء ،
وروى له مقرونًا بغيره ، متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
(9/511)
11062 - حدثني محمد بن عمرو قال ،
حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله :
" بالأزلام " ، قال : القداح ، يضربون لكل سفر وغزوٍ وتجارة.
11063 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
11064 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن زهير ، عن إبراهيم بن مهاجر
، عن مجاهد : " وأن تستقسموا بالأزلام " ، قال : كِعابُ فارس التي
يقمُرون بها ، وسهام العرب.
11065 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا زهير ، عن
إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد : " وأن تستقسموا بالأزلام " ، قال : سهام
العرب ، وكعاب فارس والروم ، كانوا يتقامرون بها.
11066 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " وأن تستقسموا بالأزلام " ، قال : كان الرجل إذا أراد
أن يخرج مسافرًا ، كتب في قدح : " هذا يأمرني بالمكث " و " هذا
يأمرني بالخروج " ، وجعل معهما منيحة. (1) شيء لم يكتب فيه شيئًا ، ثم استقسم
بها حين يريد أن يخرج. فإن خرج الذي يأمر بالمكث مكث ، وإن خرج الذي يأمر بالخروج
خرج ، وإن خرج الآخر أجالها ثانية حتى يخرج أحد القِدْحين.
11067 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وأن
تستقسموا بالأزلام " ، وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم خروجًا ، أخذ
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " معها " ، والصواب التثنية. وفي المطبوعة
: " منيحًا " ، وهو صواب في المعنى. ولكني أثبت ما في المخطوطة. وذلك أن
" المنيح " - كما في المطبوعة - هو القدح المستعار من قداح الميسر ، وهو
الغفل الذي لا نصيب له ، إلا أن يمنح صاحبه شيئًا ، فيستعار ويتيمن به. وأما
" المنيحة " ، فهي الناقة أو الشاة المعارة أيضًا ، فنظر إلى معنى
المستعار فسمى هذا الشيء الذي لا أمر له في الاستقسام " منيحة " ، كما
سموا شبيهه في الميسر " منيحًا " وهو المستعار.
(9/512)
قدحًا فقال : " هذا يأمر بالخروج
" ، فإن خرج فهو مصيب في سفره خيرًا ، ويأخذ قِدحًا آخر فيقول : " هذا
يأمر بالمكوث " ، فليس يصيب في سفره خيرًا ، و " المنيح " بينهما.
فنهى الله عن ذلك وقدَّم فيه.
11068 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد قال ،
سمعت الضحاك يقول في قوله : " وأن تستقسموا بالأزلام " ، قال : كانوا
يستقسمون بها في الأمور.
11069 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " الأزلام
" ، قداح لهم. كان أحدهم إذا أراد شيئًا من تلك الأمور كتب في تلك القداح ما
أراد ، فيضرب بها ، فأي قدح خرج وإن كان أبغض تلك ارتكبه وعمل به.
11070 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل ، قال ، حدثنا أسباط ،
عن السدي : " وأن تستقسموا بالأزلام " ، قال : " الأزلام " ،
قداح كانت في الجاهلية عند الكهنة ، فإذا أراد الرجل أن يسافر ، أو يتزوج ، أو
يحدث أمرًا ، أتى الكاهن فأعطاه شيئًا ، فضرب له بها. فإن خرج منها شيء يعجبه ،
أمره ففعل. وإن خرج منها شيء يكرهه ، نهاه فانتهى ، كما ضرب عبد المطلب على زمزم ،
وعلى عبد الله والإبل. (1)
11071 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد
الله بن كثير قال : سمعنا أنّ أهل الجاهلية كانوا يضربون بالقداح في الظَّعْن
والإقامة أو الشيء يريدونه ، فيخرج سهم الظعن فيظعنون ، والإقامة فيقيمون.
* * *
وقال ابن إسحاق في " الأزلام " ، ما : -
11072 - حدثني به ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال :
__________
(1) انظر خبر عبد المطلب وعبد الله في سيرة ابن هشام 1 : 160 - 164.
(9/513)
كانت هُبَل أعظم أصنام قريش بمكة ، وكانت
على بئر في جوف الكعبة ، وكانت تلك البئْر هي التي يجمع فيها ما يُهدي للكعبة.
وكانت عند هبل سبعة أقْدُح (1) كل قِدْح منها فيه كتاب. قدح فيه : " العقل
" (2) إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ، ضربوا بالقداح السبعة ، [فإن خرج
العقل ، فعلى من خرج حمله] (3) وقدح فيه : " نعم " للأمر إذا أرادوه ،
يضرب به ، فإن خرج قدح " نعم " عملوا به. وقدح فيه : " لا " ،
فإذا أرادوا أمرًا ضربوا به في القداح ، فإذا خرج ذلك القدح ، لم يفعلوا ذلك
الأمر. وقِدْح فيه : " منكم " . وقدح فيه : " مُلْصَق " . (4)
وقدح فيه : " من غيركم " . وقدح فيه : " المياه " ، إذا
أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح ، فحيثما خرج عملوا به.
وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلامًا (5) أو أن ينكحوا مَنكحًا ، أو أن يدفنوا
ميتًا ، أو شكوا في نسب واحد منهم (6) ذهبوا به إلى هبل وبمئة درهم ، وبجَزور ،
فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها ، ثم قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ،
ثم قالوا : " يا إلهنا ، هذا فلان بن فلان ، قد أردنا به كذا وكذا ، فأخرج
الحق فيه " . ثم يقولون لصاحب القداح : " اضرب " ، فيضرب ، فإن -
[خرج عليه " منكم " كان وسيطًا. وإن] خرج عليه : " من غيركم "
، كان حليفًا (7) وإن خرج " ملصق " كان على منزلته منهم ، لا نسب له ولا
حلف ، وإن خرج فيه شيء سوى هذا مما يعملون به " نعم " ، عملوا به. وإن
خرج " لا " ، أخّروه عامهم ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى. ينتهون في أمورهم
إلى ذلك مما خرجت به القداح. (8)
11073 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " وأن تستقسموا بالأزلام " ، يعني : القداح ، كانوا
يستقسمون بها في الأمور.
* * *
القول في تأويل قوله : { ذَلِكُمْ فِسْقٌ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ذلكم " ، هذه الأمور التي ذكرها
، وذلك : أكل الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وسائر ما ذكر في هذه الآية مما حرم
أكله ، والاستقسام بالأزلام ، " فسق " ، يعني : خروج عن أمر الله عز
ذكره وطاعته ، إلى ما نهى عنه وزجر ، إلى معصيته. (9) كما : -
11074 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس : " ذلكم فسق " ، يعني : من أكل من ذلك كله فهو فسق.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " أقداح " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وجمع " قدح
" : أقداح ، وقداح ، وأقدح ، كله صواب.
(2) " العقل " الدية.
(3) هذه الزيادة بين القوسين من ابن هشام ، ولا بد من زيادتها لتمام الكلام.
(4) في المخطوطة : " يلصق " ، وفوقها " كذا " ، أي هو كذلك في
التي نسخ عنها ، والصواب ما في المطبوعة ، وسيرة ابن هشام.
(5) في المطبوعة : " أن يجتبوا غلامًا " ، وهو لا معنى له ، والمخطوطة
غير منقوطة ، والصواب ، في سيرة ابن هشام ، كما أثبتها.
(6) في المطبوعة : " أو يشكوا " مضارعًا ، وأثبت ما في سيرة ابن هشام.
(7) ما بين القوسين زيادة من ابن هشام ، وهي السياق بغير شك. و " الوسيط
" : هو الخالص النسب ، الشريف في قومه.
(8) الأثر : 11072 - سيرة ابن هشام 1 : 160 ، 161.
(9) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف 1 : 409 ، 410/2 : 118 ، 399/4 : 135
- 137/6 : 91 ، 92/7 : 107.
وفي المطبوعة : " وزجر ، وإلى معصيته " بزيادة الواو ، وكلتاهما صواب.
(9/514)
القول في تأويل قوله : { الْيَوْمَ
يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم
" ، الآن انقطع طمع الأحزاب وأهل الكفر والجحود ، أيها المؤمنون ، " من
دينكم " ، يقول : من دينكم أن تتركوه فترتدُّوا عنه راجعين إلى الشرك ، كما :
-
11075 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " ، يعني : أن ترجعوا إلى
دينهم أبدًا.
11076 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " ، قال : أظنُّ ، يئسوا
أن ترجعوا عن دينكم. (1)
* * *
فإن قال قائل : وأيُّ يوم هذا اليوم الذي أخبرَ الله أن الذين كفروا يئسوا فيه من
دين المؤمنين ؟
قيل : ذكر أن ذلك كان يوم عرفة ، عام حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ،
وذلك بعد دخول العرب في الإسلام.
*ذكر من قال ذلك :
11077 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال
مجاهد : " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " ، " اليوم أكملت لكم
دينكم " ، هذا حين فعلت. قال ابن جريج : وقال آخرون (2) ذلك يوم
__________
(1) أنا في شك من قوله : " أظن " هنا ، وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(2) قوله : " وقال آخرون " هو من قول ابن جريج فيما أرجح ، ولذلك جعلته
في الخبر.
(9/516)
عرفة ، في يوم جمعة ، لما نظر النبي
صلى الله عليه وسلم فلم ير إلا موحِّدًا ، ولم ير مشركًا ، حمد الله ، فنزل عليه
جبريل عليه السلام : " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " ، أن يعودوا
كما كانوا.
11078 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " ، قال : هذا يوم عرفة.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَلا تَخْشَوْهُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك : فلا تخشوا ، أيها المؤمنون ، هؤلاء الذين قد يئسوا من
دينكم أن ترجعوا عنه من الكفار ، ولا تخافوهم أن يظهروا عليكم ، فيقهروكم
ويردُّوكم عن دينكم " واخشون " ، يقول : ولكن خافونِ ، إن أنتم خالفتم
أمري واجترأتم على معصيتي ، وتعدَّيتم حدودي ، أن أُحِلَّ بكم عقابي ، وأنزل بكم
عذابي. (1) كما : -
11079 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "
فلا تخشوهم واخشون " ، فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم.
* * *
القول في تأويل قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : يعني جل ثناؤه بقوله : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، اليوم
__________
(1) انظر تفسير " الخشية " فيما سلف 1 : 559 ، 560/2 : 239 ، 243/8 :
548.
(9/517)
أكملت لكم ، أيها المؤمنون ، فرائضي
عليكم وحدودي ، وأمري إياكم ونهيي ، وحلالي وحرامي ، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه
في كتابي ، وتبياني ما بيَّنت لكم منه بوحيي على لسان رسولي ، والأدلة التي
نصبتُها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم ، فأتممت لكم جميع ذلك ،
فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم. قالوا : وكان ذلك في يوم عرفة ، عام حجَّ النبي صلى
الله عليه وسلم حجة الوَدَاع. وقالوا : لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد
هذه الآية شيء من الفرائض ، ولا تحليل شيء ولا تحريمه ، وأن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة.
*ذكر من قال ذلك :
11080 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، وهو الإسلام. قال : أخبر الله
نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان ، فلا يحتاجون إلى
زيادة أبدًا ، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدًا ، وقد رضيه الله فلا
يَسْخَطه أبدًا.
11081 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، هذا نزل يوم عرفة ، فلم ينزل
بعدها حلال ولا حرام. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. فقالت أسماء بنت
عُمَيس : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة ، فبينما نحن نسير ، إذ
تجلّى له جبريل صلى الله عليه وسلم على الرَّاحلة ، فلم تطق الراحلة من ثِقْل ما
عليها من القرآن ، فبركت ، فأتيته فسجَّيت عليه برداء كان علي. (1)
11082 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن
__________
(1) " سجاه بالثوب تسجية " : غطاه به.
(9/518)
ابن جريج قال : مكث النبي صلى الله
عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية ، إحدى وثمانين ليلة ، قوله : " اليوم أكملت
لكم دينكم " .
11083 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال :
لما نزلت : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، وذلك يوم الحج الأكبر ، بكى عمر
، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ قال : أبكاني أنّا كنا في زيادة
من ديننا ، فأما إذ كمل ، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال : صدقت. (1)
11084 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أحمد بن بشير ، عن هارون بن أبي وكيع ، عن
أبيه ، فذكر نحو ذلك. (2)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، حجكم ، فأفردتم
بالبلد الحرام تحُجُّونه ، أنتم أيها المؤمنون ، دون المشركين ، لا يخالطكم في
حَجِّكم مشرك.
*ذكر من قال ذلك :
11085 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن أبي غَنِيَّة ، عن أبيه ، عن الحكم :
" اليوم أكملت لكم دينكم " ، قال : أكمل لهم دينهم : أن حجوا ولم يحجَّ
معهم مشرك. (3)
__________
(1) إنما عنى بنقصان الدين ، أهل الدين ، فإنهم إذا تطاول عليهم الأمد ، قست
قلوبهم ، وقل تمسك بعضهم بما أمر به. ومعاذ الله أن يعني عمر ، نقصان الدين نفسه.
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم " بدأ الإسلام غريبًا ، وسيعود غريبًا كما بدأ
، فطوبى للغرباء " .
(2) الأثر : 11084 - " أحمد بن بشير الكوفي " ، مضى برقم : 7819.
و " هرون بن أبي وكيع " ، هو : " هرون بن عنترة بن عبد الرحمن
" الماضي في الأثر قبله ، ومضت ترجمته برقم : 405.
وأبوه : " عنترة بن عبد الرحمن " وكنيته " أبو وكيع " ، مضى
أيضًا برقم : 405.
(3) الأثر : 11085 - " يحيى بن أبي غنية " هو : " يحيى بن عبد
الملك بن حميد بن أبي غنية " ، مضى برقم : 10597 ، وهو هذا الإسناد نفسه.
وأبوه " عبد الملك بن حميد بن أبي غنية " ، مضى أيضا برقم : 8535 ،
10597.
و " الحكم " هو " الحكم بن عتيبة " مضى مرارًا.
وكان في المخطوطة والمطبوعة : " يحيى بن أبي عتيبة " ، وهو تصحيف.
(9/519)
11086 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ،
أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : " اليوم أكملت لكم دينكم
" ، قال : أخلص الله لهم دينهم ، ونفى المشركين عن البيت.
11087 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا قيس ، عن أبي حصين ،
عن سعيد بن جبير : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، قال : تمام الحج ، ونفي
المشركين عن البيت.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله عز وجل أخبر
نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه
دينَهم ، بإفرادهم بالبلدَ الحرام (1) وإجلائه عنه المشركين ، حتى حجَّه المسلمون
دونهم لا يخالطهم المشركون.
فأما الفرائض والأحكام ، فإنه قد اختلف فيها : هل كانت أكملت ذلك اليوم ، أم لا ؟
فروي عن ابن عباس والسدّي ما ذكرنا عنهما قبل. (2)
وروي عن البراء بن عازب أن آخر آية نزلت من القرآن : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) [سورة النساء : 176]. (3)
ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن
__________
(1) في المطبوعة : " بإفرادهم بالبلد الحرام " بالباء ، وهو الذي تقوله
كتب اللغة ، وأما الذي في المخطوطة ، وهو ما أثبته. فله وجه صحيح في العربية ،
فيما أرى ، فتركته على حاله. وظني أني قرأته كذلك متعديًا في بعض كتب أبي جعفر أو
غيره ، فإن عثرت عليه أثبته إن شاء الله.
(2) يعني ما سلف رقم : 11080 ، 11081.
(3) انظر ما سلف رقم : 10870 - 10873.
(9/520)
قُبِض ، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر
ما كان تتابعًا. فإذ كان ذلك كذلك وكان قوله : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) آخرَها نزولا وكان ذلك من الأحكام والفرائض كان
معلومًا أن معنى قوله : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، على خلاف الوجه
الذي تأوَّله من تأوَّله أعني : كمال العبادات والأحكام والفرائض.
فإن قال قائل : فما جعل قولَ من قال : " قد نزل بعد ذلك فرض " ، أولى من
قول من قال : " لم ينزل " ؟
قيل : لأن الذي قال : " لم ينزل " ، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض ، والنفي
لا يكون شهادة ، والشهادة قول من قال : " نزل " . وغير جائز دفع خبر
الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : وأتممت نعمتي ، أيها المؤمنون ، بإظهاركم على
عدوِّي وعدوكم من المشركين ، ونفيِي إياهم عن بلادكم ، وقطعي طمعهم من رجوعكم
وعودكم إلى ما كنتم عليه من الشرك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
11088 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قال : كان المشركون والمسلمون يحجُّون جميعًا ، فلما نزلت " براءة
" ، فنفى المشركين عن البيت ، وحجَّ المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام
(9/521)
أحد من المشركين ، فكان ذلك من تمام
النعمة : " وأتممت عليكم نعمتي " .
11089 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " الآية ، ذكر لنا أن هذه الآية
نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ، يوم جمعة ، حين نفى الله
المشركين عن المسجد الحرام ، وأخلص للمسلمين حجَّهم.
11090 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا داود ، عن الشعبي قال :
نزلت هذه الآية بعرفات ، حيث هدم مَنار الجاهلية (1) واضمحلَّ الشرك ، ولم يحج
معهم في ذلك العام مشرك.
11091 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عامر في
هذه الآية : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " ، قال ، نزلت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات ، وقد أطاف به الناس ، وتهدَّمت
مَنار الجاهلية ومناسكهم ، واضمحلّ الشرك ، ولم يَطُف حول البيت عُرْيان ، فأنزل
الله : " اليوم أكملت لكم دينكم " .
11092 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي ، بنحوه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ورضيت لكم الاستسلام لأمري ، والانقياد
لطاعتي ، على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه (2) " دينًا " ،
يعني بذلك : طاعة منكم لي. (3)
* * *
__________
(1) " المنار " : علم الطريق ، وحدود الأرض. وأراد به شرائع أهل
الجاهلية.
(2) انظر تفسير " الإسلام " فيما سلف من فهارس اللغة ، مادة (سلم).
(3) انظر تفسير " الدين " فيما سلف 1 : 155 ، 221/3 : 571 ، 572/6 : 273
- 275 ، 564 ، 570.
(9/522)
فإن قال قائل : أوَ ما كان الله راضيًا
الإسلامَ لعباده إلا يوم أنزل هذه الآية ؟
قيل : لم يزل الله راضيًا لخلقه الإسلام دينًا ، ولكنه جل ثناؤه لم يزل يصرِّف
نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه درجة بعد درجة ،
ومرتبة بعد مرتبة ، وحالا بعد حال ، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه ، وبلغ بهم أقصى
درجاته ومراتبه ، ثم قال حين أنزل عليهم هذه الآية : " ورضيت لكم الإسلام
" بالصفة التي هو بها اليوم (1) والحال التي أنتم عليها اليوم منه "
دينًا " فالزموه ولا تفارقوه.
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك ، ما : -
11093 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا
أنه يَمْثُل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة ، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله
ويعدهم في الخير ، حتى يجيء الإسلام فيقول : " رب ، أنت السلام وأنا الإسلام
" ، فيقول : " إياك اليوم أقبل ، وبك اليوم أجزي " . (2)
* * *
وأحسب أن قتادة وجّه معنى " الإيمان " بهذا الخبر إلى معنى التصديق
والإقرار باللسان ، لأن ذلك معنى " الإيمان " عند العرب (3) ووجَّه معنى
" الإسلام " إلى استسلام القلب وخضوعه لله بالتوحيد ، وانقياد الجسد له
بالطاعة
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ورضيت لكم الإسلام دينًا ، بالصفة.. " ،
والصواب حذف " دينًا " من هذا الموضع ، لأنها ستأتي بعد ، وهو سهو من
عجلة الناسخ.
(2) الأثر : 11093 - روى أبو داود الطيالسي في مسنده : 324 من حديث أبي هريرة :
" حدثنا عباد بن راشد قال ، حدثنا الحسن قال ، حدثنا أبو هريرة ونحن إذ ذاك
في المدينة قال : يجيء الإسلام يوم القيامة ، فيقول الله عز وجل : " أنت
الإسلام وأنا السَّلام ، اليومَ بك أُعْطِي وبك آخُذ " .
(3) انظر تفسير " الإيمان " فيما سلف من فهارس اللغة ، مادة (أمن).
(9/523)
فيما أمر ونهى ، فلذلك قيل للإسلام :
" إياك اليوم أقبل ، وبك اليوم أجزي " .
* * *
ذكر من قال : نزلت هذه الآية بعرفة في حجة الوداع على رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
11094 - حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ،
عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال ، قالت اليهود لعمر : إنكم تقرأون آية لو
أنزلت فينا لاتخذناها عيدًا! فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت ، وأين
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت : أنزلت يوم عرفة ، ورسول الله صلى الله
عليه وسلم واقف بعرفة قال سفيان : وأشك ، كان يوم الجمعة أم لا " اليوم أكملت
لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا. " (1)
11095 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أبي ، عن قيس
بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال ، قال يهودي لعمر : لو علمنا معشر اليهود حين نزلت
هذه الآية : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام
دينًا " ، لو نعلم ذلك اليوم ، اتخذنا ذلك اليوم عيدًا! فقال عمر : قد علمت
اليوم الذي نزلت فيه ، والساعة ، وأين رسول
__________
(1) الأثر : 11094 - رواه أحمد في المسند رقم : 272 عن عبد الرحمن ، عن سفيان
بمثله. ورواه البخاري (الفتح 8 : 203) عن محمد بن بشار ، عن عبد الرحمن ، كطريق
أبي جعفر ، ورواه مسلم 18 : 152 ، عن محمد بن المثنى وزهير بن حرب ، عن عبد
الرحمن.
وفيها جميعًا " لأعلم حيث أنزلت " ، و " وأين رسول الله صلى الله
عليه وسلم حيث أنزلت " ، وقد أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح.
وذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره 2 : 67 ، وزاد نسبته للترمذي والنسائي. ثم قال :
" وشك سفيان رحمه الله. إن كان في الرواية فهو تورع ، حيث شك هل أخبره شيخه
بذلك أم لا. وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة ، فهذا مالا
إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله ، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به ، لم يختلف فيه أحد
من أصحاب المغازي والسير ولا الفقهاء. وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في
صحتها ، والله أعلم " .
(9/524)
الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت :
نزلت ليلة الجمعة ، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات لفظ الحديث لأبي
كريب ، وحديث ابن وكيع نحوه. (1)
11096 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جعفر بن عون ، عن أبي العميس ، عن قيس بن مسلم
، عن طارق ، عن عمر ، نحوه. (2)
11097 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن حماد بن سلمة ، عن عمار مولى بني
هاشم قال : قرأ ابن عباس : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، وعنده رجل من
أهل الكتاب فقال : لو علمنا أيَّ يوم نزلت هذه الآية ، لاتخذناه عيدًا! فقال ابن
عباس : فإنها نزلت يوم عرفة ، يوم جمعة. (3)
11098 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا قبيصة قال ، حدثنا حماد بن
__________
(1) الأثر : 11095 - رواه من هذه الطريق مسلم في صحيحه 18 : 153 ، عن أبي بن أبي
شيبة وأبي كريب ، عن عبد الله بن إدريس.
وفيه : " نزلت ليلة جمع " . قال النووي في شرحه : " هكذا هو في
النسخ ، الرواية : ليلة جمع وفي نسخة ابن ماهان : ليلة جمعة. وكلاهما صحيح. فمن
روى " ليلة جمع " ، فهي ليلة المزدلفة ، وهو المراد بقوله : " ونحن
بعرفات " في يوم جمعة ، لأن ليلة جمع ، هي عشية يوم عرفات ، ويكون المراد
بقوله : " ليلة جمعة " ، يوم جمعة. ومراد عمر رضي الله عنه : إنا قد
اتخذنا ذلك اليوم عيدًا من وجهين ، فإنه يوم عرفة ، ويوم جمعة ، وكل واحد منهما
عيد لأهل الإسلام " .
(2) الأثر : 11096 - هذا الحديث ، رواه البخاري (الفتح 1 : 97) من طريق الحسن بن
الصباح ، عن جعفر بن عون ، عن أبي العميس.
ورواه أحمد في المسند رقم : 188 ، من طريق جعفر بن عون ، عن أبي عميس.
ورواه مسلم في صحيحه 18 : 154 ، من طريق عبد بن حميد ، عن جعفر بن عون ، والنسائي
في السنن 8 : 114.
هذا ، وقد بين الحافظ ابن حجر في الفتح (1 : 97) أن هذا الرجل من اليهود : "
هو كعب الأحبار ، بين ذلك مسدد في مسنده ، والطبري في تفسيره ، والطبراني في
الأوسط ، كلهم من طريق رجاء بن أبي سلمة ، عن عبادة بن نسي (بضم النون ، وفتح
المهملة) ، عن إسحق بن خرشة ، عن قبيصة بن ذؤيب ، عن كعب " . وهذا هو الأثر
الآتي رقم : 11100 (انظر التعليق عليه ، وما فيه من الخطأ) وأشار في الموضع الآخر
(الفتح 8 : 203) إلى احتمال أن سؤال كعب وقع قبل إسلامه ، لأن إسلامه كان في خلافة
عمر على المشهور ، وأطلق عليه ذلك باعتبار ما مضى.
(3) الأثر : 11097 - خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده : 353 ، رواه عن حماد ، عن
عمار بن أبي عمار ، وسيأتي بطريق أخرى في الذي يليه.
(9/525)
سلمة ، عن عمار : أن ابن عباس قرأ :
" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا "
، فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا ، لاتخذنا يومها عيدًا! فقال ابن عباس :
فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد ، ويوم جمعة. (1)
11099 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن عمار
بن أبي عمار ، عن ابن عباس ، نحوه.
11100 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا رجاء بن أبي
سلمة قال ، أخبرنا عبادة بن نسيّ قال ، حدثنا أميرنا إسحاق قال أبو جعفر : إسحاق ،
هو ابن خَرَشة عن قبيصة قال ، قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية
، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم ، فاتخذوه عيدًا يجتمعون فيه! فقال عمر :
أيُّ آية يا كعب ؟ فقال : " اليوم أكملت لكم دينكم " . فقال عمر : قد
علمت اليوم الذي أنزلت فيه ، والمكان الذي أنزلت فيه : يوم جمعة ، ويوم عرفة ،
وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ. (2)
__________
(1) الأثر : 11098 - خرجه الترمذي في كتاب التفسير ، من طريق عبد بن حميد ، عن
يزيد بن هرون ، عن حماد ، وفيه : " نزلت في يوم عيدين ، في يوم الجمعة ، ويوم
عرفة " . وقال الترمذي : " هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عباس " .
وأشار إليه السيوطي في الدر المنثور 2 : 258 ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ،
والطبراني ، والبيهقي في الدلائل.
(2) الأثر : 11100 - " رجاء بن أبي سلمة مهران " ، " أبو المقدام
" الفلسطيني. روى عن عمر بن عبد العزيز ، وعمرو بن شعيب والزهري وغيرهم. وروى
عنه ابن عون ، وهو من شيوخه ، والحمادان ، وابن علية. ثقة ، كان من أفاضل أهل
زمانه. مترجم في التهذيب.
و " عبادة بن نسي الكندي " ، الشامي الأردني ، قاضي طبرية. روى عن أوس
بن أوس الثقفي ، وشداد بن أوس ، وعبادة بن الصامت ، وكعب بن عجرة ، وغيرهم. روى
عنه رجاء بن أبي سلمة ، وغيره. قال ابن سعد في تابعي أهل الشام : " ثقة
" . وقال البخاري : " عبادة بن نسى الكندي " سيدهم. قال مسلمة بن
عبد الملك : " إن في كندة لثلاثة نفر ، إن الله لينزل بهم الغيث ، وينصر بهم
على الأعداء : عبادة بن نسي ، ورجاء بن حيوة ، وعدي بن عدي " . مات سنة 118.
مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/1/96.
و " نسي " بضم النون ، وفتح السين ، والياء المشددة " . وأما
" إسحق " ، فإن أبا جعفر زعم أنه ابن خرشة ، ولم أجد في الرواة ولا في
الأمراء " إسحق بن خرشة " . وأما " ابن خرشة " ، فهو : "
عثمان بن إسحق بن خرشة (بفتح الخاء والراء) القرشي " روى عنه الزهري ، ولم
يذكر لعبادة بن نسي رواية عنه ، ولا هو كان أميرًا. ونسبه كما رواه ابن سعد 5 :
180 هو : " عثمان بن إسحق بن عبد الله بن أبي خرشة بن عمرو بن ربيعة بن الحارث
بن حبيب بن جذيمة بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي " ، ونسبه أيضًا المصعب في
نسب قريش : 432 ، وقال : " روى عنه ابن شهاب ، عن قبيصة بن ذؤيب حديث الجدة
" ، وهو الحديث الذي رواه أصحاب السنن الأربعة (سنن أبي داود 3 : 167 رقم :
2894) ، من طريق مالك في الموطأ : 513 بروايته عن " ابن شهاب ، عن عثمان بن
إسحق بن خرشة ، عن قبيصة بن ذؤيب " .
فلست أشك أن أبا جعفر قد وهم ، فأراد تعريف " إسحق " في إسناده هذا ،
فسبق إلى وهمه " ابن خرشة " ، وهو " عثمان بن إسحق بن خرشة "
لا " إسحق بن خرشة " .
أما " إسحق " في هذا الخبر ، فلست أشك أنه " إسحق بن قبيصة بن ذؤيب
" ، يرويه عن أبيه " قبيصة بن ذؤيب " .
وذلك ، أولا : لأن " إسحق بن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي " ، يروي عن أبيه ،
وعن كعب الأحبار.
ثانيا : أن " عبادة بن نسي " الأردني ، قاضي طبرية ، مذكور في ترجمته ،
وأنه يروي عن إسحق بن قبيصة بن ذؤيب.
ثالثًا : أن " إسحق بن قبيصة بن ذؤيب " هو الذي كان أميرًا ، كان عامل
هشام على الأردن ، كما قال أبو زرعة الدمشقي. وقال ابن سميع : " كان على
ديوان الزمني في أيام الوليد " . وعبادة بن نسي قاض من قضاة الأردن كما ذكرت.
فالذي لا شك فيه عندي ، أن " إسحق " في هذا الإسناد : هو إسحق بن قبيصة
بن ذؤيب ، يروي عن أبيه ، وأن أبا جعفر قد وهم في بيانه ، وخلط.
وقد أشرت في التعليق على الأثر رقم : 11096 ، ما نقله الحافظ ابن حجر في فتح
الباري (1 : 97) ، نقلا عن هذا الموضع من الطبري ، ولكنه نسبه أيضًا إلى مسدد في
مسنده ، وإلى الطبراني في الأوسط ، وليسا عندي ، ولكن إذا كان ذلك في واحد منهما ،
فإن الخطأ فيه ، أقدم من أبي جعفر. وكتبه محمود محمد شاكر.
وفي المطبوعة هنا : " وكلاهما بحمد الله " ، وفي المخطوطة : "
وكليهما " ، ولها وجه في العربية.
(9/526)
11101 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن عيسى بن جارية الأنصاري قال : كنا جلوسًا في الديوان ، فقال لنا نصراني : يا أهل الإسلام ، لقد نزلت عليكم آية لو نزلت علينا ، لاتخذنا ذلك اليوم وتلك الساعة عيدًا ما بقي منا اثنان : " اليوم أكملت لكم دينكم " ! فلم يجبه أحد منا ، فلقيت محمد بن كعب القرظي ، فسألته عن ذلك فقال : ألا رددتم عليه ؟ فقال : قال عمر بن الخطاب : أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الجبل يوم
(9/527)
عرفة ، فلا يزال ذلك اليوم عيدًا
للمسلمين ما بقي منهم أحد. (1)
11102 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا داود ، عن
عامر قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اليوم أكملت لكم
دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا " ، عشيَّة عرفة ، وهو في
الموقف.
11103 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود قال : قلت
لعامر : إن اليهود تقول : كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها
فيه ؟ فقال عامر : أو ما حفظته ؟ قلت له : فأيّ يوم ؟ قال : يوم عرفة ، أنزل الله
في يوم عرفة.
11104 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة قال : بلغنا أنها نزلت يوم عرفة ، ووافق يوم الجمعة.
11105 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن حبيب
، عن ابن أبي نجيح ، عن عكرمة : أن عمر بن الخطاب قال : نزلت " سورة المائدة
" يوم عرفة ، ووافق يوم الجمعة.
11106 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة ، عن
ليث ، عن شهر بن حوشب قال : نزلت " سورة المائدة " على النبي صلى الله
عليه وسلم وهو واقف بعرفة على راحلته ، فتنوَّخَتْ لأن يُدَقَّ ذراعها. (2)
__________
(1) الأثر : 11101 - " حكام " هو " حكام بن سلم الكناني " ،
ثقة ، روى عنه الطبري فأكثر فيما سلف ، و " عنبسة " هو : عنبسة بن سعيد
بن الضريس الأسدي ، مضى مرارًا أيضًا ، ترجم في رقم : 224 ، 3356 ، 5385.
و " عيسى بن جارية الأنصاري " ، روى عن جرير البجلي ، وجابر بن عبد الله
، وابن المسيب ، وغيرهم ، وروى عنه يعقوب القمي ، وعنبسة بن سعيد. تكلم فيه ابن
معين قال : " عنده مناكير " . وقال أبو داود : " منكر الحديث
" . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/1/273.
وكان في المطبوعة والمخطوطة : " عيسى بن حارثة " ، وهو خطأ.
(2) " أنخت البعير فاستناخ " ، و " نوخته ، فتنوخ " : أي برك.
قال ابن الأعرابي : " يقال تنوخ البعير ، ولا يقال : ناخ ، ولا أناخ " .
وقوله : " لأن يدق ذراعها " ، أي : مخافة أن يدق ذراعها.
(9/528)
11107 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا
جرير ، عن ليث ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : نزلت " سورة
المائدة " جميعًا وأنا آخذة بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم
العضباء. قالت : فكادت من ثقلها أن يُدَقَّ عضد الناقة. (1)
11108 - حدثني أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني قال ، حدثنا هشام بن عمار قال ،
حدثنا ابن عياش قال ، حدثنا عمرو بن قيس السكوني : أنه سمع معاوية بن أبي سفيان
على المنبر ينتزع بهذه الآية : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، حتى ختمها ،
فقال : نزلت في يوم عرفة ، في يوم جمعة. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 11107 - " أسماء بنت يزيد بن السكن " الأنصارية الأشهلية ،
" أم سلمة " ، كانت فيمن جهز عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزفها
، وكانت تخدم النبي ، وبايعته ، وشهدت اليرموك.
وهذا الحديث رواه أحمد في مسنده 6 : 455 من طريق أبي النضر ، عن شيبان ، عن ليث.
وفيه : " وكادت من ثقلها تدق.. " ليس فيه " أن " .
ثم رواه أيضًا ص : 458 من طريق إسحق بن يوسف ، عن سفيان ، عن ليث ، وفيه : "
إن كادت من ثقلها لتكسر الناقة " .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 13 ، وقال : " رواه أحمد والطبراني ، وفيه
شهر بن حوشب ، وهو ضعيف ، وقد وثق " ، وقد مضى مرارًا توثيق أخي السيد أحمد
لشهر.
(2) الأثر : 11108 - " إسمعيل بن عمرو السكوني " ، أبو عامر ، الحمصي
المقرئ ، إمام مسجد حمص. روى عن علي بن عياش ، والربيع بن روح ، ويحيى بن صالح
الوحاظي ، قال ابن أبي حاتم : " سمعت منه ، وهو صدوق " . مترجم في ابن
أبي حاتم 1/1/190.
و " هشام بن عمار بن نصير السلمي " ، أبو الوليد الدمشقي. روى عند
البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه. ثقة. مترجم في التهذيب.
و " ابن عياش " ، هو : إسمعيل بن عياش ، مضى مرارًا.
و " عمرو بن قيس بن ثور بن مازن بن خيثمة الكندي السكوني " ، أبو ثور
الشامي الحمصي. روى عن جده " مازن بن خيثمة " ، وله صحبة ، وعن عبد الله
بن عمرو ، ومعاوية ووفد عليه مع أبيه. قال إسمعيل بن عياش : و " أدرك سبعين
من الصحابة أو أكثر " . ثقة ، صالح الحديث. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر ، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مطولا ، ثم قال : " رواه الطبراني
، ورجاله ثقات " .
وقوله : " انتزع بهذه الآية " ، أي تمثل بها وقرأها.
(9/529)
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية أعني
قوله : " اليوم أكملت لكم دينكم " يوم الاثنين. وقالوا : أنزلت "
سورة المائدة " بالمدينة.
*ذكر من قال ذلك :
11109 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، أخبرنا محمد بن حرب قال ، حدثنا ابن
لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش ، عن ابن عباس : ولد نبيكم صلى الله عليه
وسلم يوم الاثنين ، وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وأنزلت
: " سورة المائدة " يوم الاثنين : " اليوم أكملت لكم دينكم "
، ورفع الذكر يوم الاثنين. (1)
__________
(1) الأثر : 11109 - " محمد بن حرب الخولاني " الأبرش. قال أحمد :
" ليس به بأس " ، وقال ابن معين : " ثقة " . مترجم في
التهذيب.
و " ابن لهيعة " هو " عبد الله بن لهيعة " ، مضى برقم : 160 ،
2941 ، 5355 ، 5518 ، ومضى توثيق أخي السيد أحمد له.
و " خالد بن أبي عمران التجيبي " ، قاضي إفريقية. ثقة ، وثقه ابن سعد
والعجلي ، وغيرهما.
و " حنش " هو : " حنش بن عبد الله السبائي الصنعاني " مضى
برقم : 1914 ، وهو تابعي ثقة.
وهذا الخبر استوهاه الطبري كما سيأتي في آخر كلامه ، وذلك لما قالوا من ضعف ابن
لهيعة ، وترك بعضهم الاحتجاج به.
وروى هذا الخبر أحمد في مسنده برقم : 2506 من طريق موسى بن داود ، عن ابن لهيعة ،
ونصه : " ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، واستنئ يوم الاثنين ،
وتوفي يوم الاثنين ، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين ، وقدم المدينة
يوم الاثنين ، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين " .
وقال أخي السيد أحمد في التعليق عليه : " إسناده صحيح. والحديث ذكره ابن كثير
في التاريخ 2 : 259 ، 260 ، عن هذا الموضع ، وقال : " تفرد به أحمد " ،
وهو في مجمع الزوائد 1 : 196 ، ونسبه لأحمد والطبراني في الكبير وقال الهيثمي :
" وفيه ابن لهيعة ، وهو ضعيف! وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح " .
وليس في خبر أحمد " وأنزلت سورة المائدة.. " ، ولذلك لما ذكره ابن كثير
في تفسيره ، 2 : 68 ، عن هذا الموضع من تفسير الطبري ونسبه للطبراني وابن مردويه ،
ثم قال : " أثر غريب ، وإسناده ضعيف ، وقد رواه الإمام أحمد.. " ثم ساق
حديث أحمد ، ثم قال : " هذا لفظ أحمد ، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين ،
فالله أعلم. ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت " يوم عيدين اثنين ، كما تقدم
(يعني في الأثر رقم : 11098) ، فاشتبه على الراوي " .
وهذا توجيه غير مرتضى ، وربما كان الأرجح أنه غلط من أحد الرواة عن ابن لهيعة ،
فإن رواية أحمد ، لا شك في قوتها وضبطها.
وقوله : " رفع الذكر يوم الاثنين " ، يعني وفاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، بأبي هو وأمي ، وانقطاع الوحي من بعد قبضه ولحاقه بالرفيق الأعلى.
(9/530)
11110 - حدثني المثنى قال ، حدثنا
الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا همام ، عن قتادة قال : " المائدة "
مدنيّة.
* * *
وقال آخرون : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره في حجة الوداع.
*ذكر من قال ذلك :
11112 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن
أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : نزلت " سورة المائدة " على رسول الله صلى
الله عليه وسلم في المسير في حجة الوداع ، وهو راكب راحلته ، فبركت به راحلته من
ثقلها. (1)
* * *
وقال آخرون : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس ، وإنما معناه : اليوم الذي أعلمه أنا
دون خلقي ، أكملت لكم دينكم.
*ذكر من قال ذلك :
11113 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، يقول : ليس بيوم
معلوم يعلمه الناس.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في وقت نزول الآية ، القولُ الذي روي عن عمر بن
الخطاب : أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة ، لصحة سنده ، وَوَهْيِ أسانيد غيره. (2)
* * *
__________
(1) سقط من الترقيم رقم : 11111.
(2) قوله : " ووهي أسانيد غيره " . سلف في 8 : 80 تعليق 1 ، أن الذي في
المخطوطة هناك.
" وهاء " ، ولذلك أثبتها ، لأني وجدتها أيضًا في تهذيب الآثار للطبري
" وهاء " ، ثم هذه مرة أخرى ، أجد في المخطوطة " وهي " ،
فاختلفت المخطوطة كما ترى في كتابتها في موضع آخر. راجع ما كتبته في التعليق هناك.
(9/531)
القول في تأويل قوله : { فَمَنِ
اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقول : " فمن اضطر " ، فمن أصابه ضُرٌّ
(1) " في مخمصة " ، يعني : في مجاعة.
* * *
وهي " مفعلة " ، مثل " المجبنة " و " المبخلة " و
" المنجبة " ، من " خَمَصِ البطنِ " ، وهو اضطماره ، وأظنه هو
في هذا الموضع معنيٌّ به : اضطماره من الجوع وشدة السَّغَب. وقد يكون في غير هذا الموضع
اضطمارا من غير الجوع والسَّغب ، ولكن من خلقة ، كما قال نابغة بني ذبيان في صفة
امرأة بخَمَص البطن : (2)
وَالبَطنُ ذُو عُكَنٍ خَمِيصٌ لَيِّنٌ ... وَالنَّحْرُ تَنْفُجُهُ بثَدْيٍ
مُقْعَدِ (3)
__________
(1) انظر تفسير " اضطر " فيما سلف 3 : 56 ، 321.
(2) " خمص " (بفتح الخاء والميم). وهذا تفصيل جيد في معنى " الخمص
" و " المخمصة " ، لا تصيب مثله في معاجم اللغة.
(3) ديوانه : 66 واللسان (قعد) وروايته : " لطيف طيه " ، ولا شاهد فيه
عندئذ. وهو من قصيدته التي استجاد فيها صفة المتجردة ، صاحبة النعمان بن المنذر ،
والتي أفضت إلى ما كان بينهما من المهاجرة.
و " العكن " : أطواء البطن لا من السمن فحسب ، كما يقول أصحاب اللغة ،
فإن هذا البيت شاهد على خلافه. وإنما " العكن " هنا ما تثنى من أطواء
البطن من رقة جلدها ونعومته ، ورخاصة جسدها ولينه ، فلذلك يتثنى. ولو كان ذلك من
" السمن " ، كما يقول أهل اللغة ، لم يقل بعد " خميص لين " ،
ويصفه بالضمور والرقة (في رواية أبي جعفر) ، ولا " لطيف طيه " ، وهو
كناية عن الضمور والرقة أيضًا ، وذلك من صفتها ضد السمن. فمن شرح " العكن
" في هذا البيت وأشباهه بأنها من السمن ، فقد أخطأ ، وأحال معاني الشعر عن
وجوهها.
وقوله : " والنحر تنفجه " ، " النحر " : أعلى الصدر ، وهو
موضع القلادة منها. وكل ما ارتفع فقد " نفج وانتفج وتنفج " ، و "
نفجه الرجل ينفجه نفجًا " . ويقال : " نفج ثدي المرأة قميصها " :
إذا رفعه. وأسند إليها أنها تنفج نحرها بثدييها ، وإن كان ذلك خلقة لا فعل لها فيه
، لأنه نظر إلى ما يساور المرأة حين تختال لتفتن الناظرين ، فتتخذ سمتًا وهيأة
تنهب بحلم الحليم. فأصاب النابغة غاية الإصابة في الإشارة إلى سر المرأة في حركتها
وشمائلها.
ولكن الذين تعرضوا لتفسير مثل هذا الشعر ، أساءوا إليه من حيث أرادوا الإحسان ،
فقال الوزير أبو بكر في شرحه ديوان النابغة : " ويروى : والإتب تنفجه ، -
والإتب ثوب تلبسه - وهو أليق بالمعنى ، لأن الثدي ينفخ الثوب ، أي يرفعه ويعظمه
" . ثم قال أيضًا : " وروي : والنحر تنفجه " أي ترفعه عن الثوب
" ، وهذا مثل على الخلط في فهم الشعر ، وإفساد لمعانيه. والذي استحسنه الوزير
، معنى مغسول سخيف في مثل هذا الموضع من شعر النابغة ، أضاع به تعب الشاعر في
شعره.
و " ثدي مقعد " : ناتئ على النحر ، إذا كان ناهدًا لم ينثن بعد.
(9/532)
فمعلوم أنه لم يرد صفتها بقوله :
" خميص " بالهزال والضرّ من الجوع ، ولكنه أراد وصفها بلطافة طيِّ ما
على الأوراك والأفخاذ من جسدها ، لأن ذلك مما يحمد من النساء. ولكن الذي في معنى
الوصف بالاضطمار والهزال من الضر من ذلك ، قول أعشى بني ثعلبة :
تَبِيتُونَ فِي المَشْتَى مِلاءً بُطُونُكُمْ ... وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى يَبِتْنَ
خَمَائِصَا (1)
يعني بذلك : يبتن مضطمرات البطون من الجوع والسغب والضرّ. فمن هذا المعنى قوله :
" في مخمصة " .
* * *
وكان بعض نحويي البصرة يقول : " المخمصة " ، المصدر من " خَمَصَه
الجوع " .
* * *
__________
(1) ديوانه : 109 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 153 ، من إحدى قصائده التي قالها
في خبر المنافرة بين علقمة بن علاثة ، وعامر بن الطفيل (الأغاني 15 : 50) ، وبعد
البيت : يُراقِبْنَ مِنْ جُوعٍ خِلالَ مَخَافةٍ ... نُجُومَ الشِّتَاء
العَاتِمَاتِ الغوامِصَا
" غرثى " ، جياع ، ويروى " جوعى " . ووصف النجوم بقوله :
" العاتمات " أراد أنها تظلم من الغبرة التي في السماء ، وذلك في الجدب
(وهو الشتاء) ، لأن نجوم الشتاء أشد إضاءة لنقاء السماء ، فهن يلتمسن وقت خفائها.
و " الغوامص " يعني : التي قل ضوءها من الغبرة. وقال شارح ديوانه :
" يبتن جياعًا خائفات ينتظرن طلوع النجوم السحرية ، ليخرجن يطلبن شيئًا ،
كيلا يعرفن " . وقوله : " خلال مخافة " من أحسن الكلام في هذا
البيت.
(9/533)
وكان غيره من أهل العربية يرى أنها اسم
للمصدر ، وليست بمصدر ، ولذلك تقع " المفعلة " اسمًا في المصادر للتأنيث
والتذكير.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
11114 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن عباس
: " فمن اضطر في مخمصة " ، يعني : في مجاعة.
11115 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "
فمن اضطر في مخمصة " ، أي : في مجاعة.
* * *
11116 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة ، مثله. (1)
11117 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فمن اضطر في مخمصة " ، قال : ذكر الميتة وما فيها ، فأحلها في
الاضطرار (2) " في مخمصة " ، يقول : في مجاعة.
11118 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله :
" فمن اضطر في مخمصة " ، قال ، المخمصة ، الجوع.
* * *
__________
(1) الأثر : 11116 - في المطبوعة والمخطوطة : " حدثنا الحسن بن يحيى قال ،
أخبرنا معمر " وهو إسناد ناقص ، سقط منه " قال أخبرنا عبد الرزاق "
، وهو إسناد دائر في التفسير ، أقربه رقم : 11104.
(2) في المطبوعة : " وأحلها " بالواو ، وفي المخطوطة : " فأكلها
" ، وهو تحريف.
(9/534)
القول في تأويل قوله : { غَيْرَ
مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فمن اضطر في مخمصة إلى أكل ما حَرَّمتُ عليه
منكم ، أيها المؤمنون ، من الميتة ، والدم ولحم الخنزير وسائر ما حرمت عليه بهذه
الآية " غير متجانف لإثم " ، يقول : لا متجانفًا لإثم. (1)
فلذلك نصب " غير " لخروجها من الاسم الذي في قوله : " فمن اضطر
" (2) وهي بمعنى : " لا " ، فنصب بالمعنى الذي كان به منصوبًا
" المتجانف " ، لو جاء الكلام : " لا متجانفًا " . (3)
* * *
وأما " المتجانف لإثم " ، فإنه المتمايل له ، المنحرف إليه. وهو في هذا
الموضع مراد به المتعمِّد له ، القاصد إليه ، من " جَنَف القوم عليّ " ،
إذا مالوا. وكل أعوج فهو " أجنف " ، عند العرب.
* * *
وقد بينا معنى " الجنف " بشواهده في قوله : ( فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ
جَنَفًا ) [سورة البقرة : 182] ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4)
* * *
وأما تجانف آكل الميتة في أكلها وفي غيرها مما حرم الله أكله على المؤمنين
__________
(1) في المطبوعة : " إلا متجانفًا " فأفسد المعنى إفسادًا ، والصواب من
المخطوطة ، وفيها : " لا متجانف " ، والصواب ما أثبت.
(2) " الخروج " ، الحال ، كما سلف في فهارس المصطلحات.
(3) في هذين الموضعين أيضًا في المطبوعة : " وهي بمعنى : إلا " ثم :
" لو جاء الكلام : إلا متجانفًا " ، وهو خطأ محض ، والصواب ما أثبته من
المخطوطة.
وانظر تفسير " غير " بمعنى " لا " فيما سلف 3 : 322 ، في
تفسير قوله تعالى من سورة البقرة : 173 : " غير باغ ولا عاد " ، بمعنى :
لا باغيًا ولا عاديًا منصوبًا على الحال.
(4) انظر تفسير " الجنف " فيما سلف 3 : 405 - 408.
وتفسير " الإثم " فيما سلف من فهارس اللغة ، مادة (أثم).
(9/535)
بهذه الآية ، للإثم في حال أكله (1)
فهو : تعمده أكل ذلك لغير دفع الضرورة النازلة به (2) ولكن لمعصية الله ، وخلاف
أمره فيما أمره به من ترك أكل ذلك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
11119 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم " ، يعني : إلى ما
حُرِّم ، مما سمَّى في صدر هذه الآية " غير متجانف لإثم " ، يقول : غير
متعمد لإثم.
11120 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " غير متجانف لإثم " ، غير متعمد لإثم. قال : إلى حِرْم الله
، ما حَرّم (3) رخّص للمضطر إذا كان غير متعمد لإثم ، أن يأكله من جهد. فمن بَغَى
، أو عدا ، أو خرج في معصيةٍ لله ، فإنه محرم عليه أن يأكله.
11121 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "
غير متجانف لإثم " ، أي : غير متعرِّض لمعصية.
11122 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة : " غير متجانف لإثم " ، غير متعمد لإثم ، غير متعرِّض.
11123 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " غير متجانف لإثم " ، يقول : غير متعرض لإثم ، أي : يبتغي فيه
شهوة ، أو يعتدي في أكله.
__________
(1) السياق : " وأما تجانف آكل الميتة... للإثم في حال أكله... " .
(2) في المطبوعة : " فهو تعمده الأكل لغير دفع الضرورة " ، غير ما في
المخطوطة بلا معنى.
(3) " حرم الله " (بكسر الحاء ، وسكون الراء) ، هو الحرام نقيض الحلال.
وقوله بعد ذلك : " ما حرم " ، تفسير لقوله : " حرم الله " .
(9/536)
11124 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن
وهب قال ، قال ابن زيد فى قوله : " غير متجانف لإثم " ، لا يأكل ذلك
ابتغاءَ الإثم ، ولا جراءة عليه.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) }
قال أبو جعفر : وفي هذا الكلام متروك ، اكتفى بدلالة ما ذكر عليه منه. وذلك أن
معنى الكلام : فمن اضطر في مخمصة إلى ما حرمت عليه مما ذكرت في هذه الآية ، غير
متجانف لإثم فأكله ، فإن الله غفور رحيم فترك ذكر " فأكله " ، وذكر
" له " (1) لدلالة سائر ما ذكر من الكلام عليهما.
* * *
وأما قوله : " فإن الله غفور رحيم " ، فإن معناه : فإن الله لمن أكل ما
حرمت عليه بهذه الآية أكله ، في مخمصة ، غير متجانف لإثم " غفور رحيم "
، يقول : يستر له عن أكله ما أكل من ذلك ، بعفوه عن مؤاخذته إياه ، وصفحه عنه وعن
عقوبته عليه " رحيم " ، يقول : وهو به رفيق. ومن رحمته ورفقه به (2)
أباح له أكل ما أباح له أكله من الميتة وسائر ما ذكر معها في هذه الآية ، في حال
خوفه على نفسه من كَلَب الجوع وضُرِّ الحاجة العارضة ببدنه.
* * *
فإن قال قائل : وما الأكل الذي وعد الله المضطر إلى الميتة وسائر المحرَّمات معها
بهذه الآية ، غفرانَهُ إذا أكل منها ؟
قيل : ما : -
__________
(1) يعني بقوله : " وذكر : له " ، معطوف على قوله : " وترك ذكر :
فأكله " ، والمعنى : وترك ذكر : " إلى ما حرمت عليه فأكله " . وكان
الأجود عندي أن يبين ذلك فيذكره كما ذكرته.
وأما قوله : " وذكر : له " ، يعني في قوله : " فإن الله له غفور...
" .
(2) في المطبوعة : " من رحمته " بإسقاط الواو ، وأثبتها من المخطوطة.
(9/537)
11125 - حدثني عبد الأعلى بن واصل
الأسدي قال ، حدثنا محمد بن القاسم الأسدي ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن
أبي واقد الليثي قال : قلنا : يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة ، فما
يصلح لنا من الميتة ؟ قال : إذا لم تصطبحوا ، أو تغتبقوا ، أو تحتفئوا بقلا
فشأنَكم بها . (1)
__________
(1) الأثر : 11125 - خبر الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، يرويه الطبري بعد برقم :
11132 ، عن الأوزاعي ، عن حسان مرسلا. ثم يرويه برقم : 11133 ، عن الأوزاعي ، عن
حسان ، عن رجل قد سمى له. وهي خبر واحد.
" عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى بن هلال الأسدي " ، شيخ الطبري ،
روى له الترمذي ، والنسائي ، وأبو حاتم. قال أبو حاتم : " صدوق " ، وقال
النسائي : " ثقة " . مترجم في التهذيب.
و " محمد بن القاسم الأسدي " رمي بالكذب والوضع. قال أبو داود : "
غير ثقة ولا مأمون ، أحاديثه موضوعة " ، وتكلم فيه أحمد بن حنبل وضعفه ، روى
محمد بن القاسم ، عن الأوزاعي. مترجم في التهذيب.
و " الأوزاعي " هو الإمام المشهور.
و " حسان بن عطية المحاربي " ، كان من أفاضل أهل زمانه ، وثقه أحمد ،
وابن معين ، والعجلي ، روى عن أبي أمامة ، وعنبسة بن أبي سفيان ، وسعيد بن المسيب.
ونصوا على أنه أرسل عن أبي واقد الليثي ، وكأنهم يعنون هذا الخبر بعينه.
و " أبو واقد الليثي " قيل اسمه : " الحارث بن مالك " ، وقيل
: " الحارث بن عوف " ، وقيل : " عوف بن الحارث بن أسد " ، من
بني ليث بن بكر بن عبد مناة ، من كنانة. صحابي ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
، وعن أبي بكر وعمر. وروى عنه ابناه عبد الملك وواقد ، وعبيد الله بن عبد الله بن
عتبة ، وعطاء بن يسار ، وعروة بن الزبير ، وغيرهم.
وإسناد أبي جعفر هذا ، إسناد ضعيف ، لضعف محمد بن القاسم ، ولكنه روي من وجه صحيح
، كما سترى في التخريج.
فرواه أحمد في مسنده 5 : 218 (حلبي) عن محمد بن القاسم ، عن الأوزاعي ، وهو نفس
إسناد الطبري ، فهو ضعيف.
ثم رواه مرة أخرى في نفس الصفحة ، عن الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي. (قلت : في
المسند : حدثنا الوليد ، حدثنا مسلم ، حدثنا الأوزاعي وهو خطأ لا شك فيه ، صوابه :
الوليد بن مسلم ، كما نقله عن هذا الموضع من المسند ، ابن كثير في تفسيره 2 : 69).
وقال ابن كثير بعد نقله هذا الخبر الثاني من خبري أحمد : " تفرد به أحمد من
هذا الوجه ، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين " .
ولكن الهيثمي خرجه في مجمع الزوائد 4 : 165 ، وقال : " رواه أحمد بإسنادين ،
رجال أحدهما رجال الصحيح [يعني الحديث الثاني من حديثي أحمد] ، إلا أن المزي قال :
لم يسمع حسان بن عطية من أبي واقد ، والله أعلم " .
ثم خرجه الهيثمي أيضًا في مجمع الزوائد 5 : 165 وقال : " رواه الطبراني ،
ورجاله ثقات " . ولم يذكر مقالة المزي ، ولا انقطاع الخبر.
ورواه الحاكم في المستدرك 4 : 125 ، من طريق أبي قلابة الرقاشي ، عن أبي عاصم ، عن
الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن أبي واقد ، بمثله. وقال : " هذا حديث صحيح
على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " . وتعقبه الذهبي فقال : " فيه انقطاع
" ، إشارة ما قاله المزي ، فيما رواه صاحب مجمع الزوائد.
ورواه البيهقي في السنن 9 : 356 من ثلاث طرق : محمد بن القاسم الأسدي ، عن
الأوزاعي ، كرواية أحمد والطبري.
ومن طريق أبي عبيد ، عن محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن حسان ، عن أبي واقد.
ثم رواه من طريق الوليد بن مسلم (وهو طريق أحمد الثاني) ، ولكن فيه زيادة ، وذلك
أنه رواه عن إسحق بن إبراهيم الحنظلي ، عن الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن حسان
بن عطية ، عن ابن مرثد أو أبي مرثد عن أبي واقد الليثي.
وإلى هذه الطريق أشار ابن كثير في تفسيره 3 : 69 ، بعد أن روى حديث أحمد في المسند
فقال : " ولكن رواه بعضهم عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن مسلم بن يزيد ،
عن أبي واقد ، به ، ومنهم من رواه عن الأوزاعي ، عن حسان ، عن مرثد أو أبي مرثد عن
أبي واقد ، به " ، فخالف ما في سنن البيهقي ، قال : " مرثد " ،
والذي فيها " ابن مرثد " .
ولم أجد ذكرًا في كتب الرجال لمسلم بن يزيد ، أو مرثد ، أو ابن مرثد. فإسناد هذه
الخبر ، كما ترى ، هو على صحته منقطع.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 259 ، ولم ينسب لغير أحمد والحاكم. * * *
وقوله : " إذا لم تصطبحوا " ، أي : إذا لم تجدوا صبوحًا ، و "
الصبوح " (بفتح الصاد) : هو ما يحلب من اللبن بالغداة ويشرب عندئذ. و "
اصطبح القوم " : شربوا الصبوح. و " صبح الرجل ضيفه " : سقاه الصبوح
بالغداة.
وقوله : " أو تغتبقوا " ، أي : إذا لم تجدوا غبوقًا ، و " الغبوق
" (بفتح الغين) : هو ما يحلب من اللبن بالعشي ، ويشرب عندئذ. " غبق
الرجل ضيفه " ، سقاه غبوقًا. و " اغتبق القوم " : شربوا الغبوق
بالعشي.
أما " تحتفئوا " ، فسيأتي تفسيرها بعد الأثر رقم : 11133 ، ص : 542 ،
تعليق : 2.
(9/538)
11126 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا
هشيم ، عن الخصيب بن زيد التميمي قال ، حدثنا الحسن : أن رجلا سأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال : إلى متى يحلُّ لي الحرام ؟ قال فقال : إلى أن يروَى أهلك من
اللبن ، أو تجيء مِيرَتُهم " . (1)
__________
(1) الأثر : 11126 - " الخصيب بن زيد التميمي " ، سمع عن الحسن ، مرسل ،
روى عنه هشيم ، هكذا قال البخاري في الكبير 2/1/201. وفي التهذيب : " وثقه
أحمد " ، وذكره ابن حبان في الثقات. وفي ابن أبي حاتم 1/2/396 ، كتب "
خصيب بن بدر التميمي " ، والصواب " خصيب بن زيد " كما قال البخاري.
و " الميرة " (بكسر الميم) : هو جلب الطعام. وفي المخطوطة : "
وتجيء " بالواو ، وأثبت ما في المطبوعة ، وابن كثير 3 : 69.
(9/539)
11127 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ،
حدثنا هشيم قال ، أخبرنا خصيب بن زيد التميمي قال ، حدثنا الحسن : أن رجلا سأل
النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله إلا أنه قال : أو تُجْبَى ميرتهم . (1)
11128 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني عمر بن عبد
الله بن عروة ، عن جده عروة بن الزبير ، عمن حدثه : أن رجلا من الأعراب أتى النبي
صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرّم الله عليه ، والذي أحل له ، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : تحل لك الطيبات ، وتحرُم عليك الخبائث ، إلا أن تفتقر إلى
طعام [لا يحل لك] ، (2) فتأكل منه حتى تستغني عنه. فقال الرجل : وما فقري الذي
يُحِلّ لي ؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك ؟ (3) فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
إذا كنت ترجو نتاجًا ، فتبلَّغ بلحوم ماشيتك إلى نِتاجك ، أو كنت ترجو غنًى تطلبه
، فتبلَّغ من ذلك شيئًا ، (4) فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه. فقال الأعرابي
: ما غِناي الذي أدعه إذا وجدته ؟
__________
(1) في المطبوعة : " أو تحيا ميرتهم " ، من " الحياة " ، وفي
المخطوطة : " تجبى " غير منقوطة ، فرأيت أن أقرأها كذلك ، من " جبى
الماء في الحوض يجيبه " : جمعه ، و " جبى الخراج " جمعه. ولو قرئت
: " يجني " من " جنى يجني " ، كما تجنى الثمرة ، لكان مجازا.
وللذي في المطبوعة : " يحيى " ، وجه. ولكني رجحت ما أثبت. ولم أجد الخبر
في مكان آخر بهذه الرواية.
(2) الزيادة بين القوسين ، لا يتم الكلام إلا بها ، من مجمع الزوائد.
(3) نص ما رواه في مجمع الزوائد : " ما فقري ، وما الذي آكل من ذلك إذا بلغته
؟ وما غناي الذي يغنيني عنه " .
(4) " تبلغ بشيء من الطعام أو غيره " : اكتفى به. وقوله : " شيئا
" ، أي : قليلا ، غير مفرط فيه.
وانظر تفسير " شيء " بمعنى " قليل " فيما سلف 6 : 448 ، تعليق
2/8 : 403 ، تعليق : 1.
(9/540)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا
أرويت أهلك غَبُوقًا من الليل. (1) فاجتنب ما حرَّم الله عليك من طعام. [وأمّا]
مالُك (2) فإنه ميسور كله ، ليس فيه حرام. " (3)
11129 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون قال : وجدت عند
الحسن كتاب سمرة ، فقرأته عليه ، وكان فيه : ويُجْزي من الاضطرار غَبُوق أو
صَبُوح. (4)
11130 - حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن ابن عون
قال : قرأت في كتاب سَمُرة بن جندب : يكفي من الاضطرار أو : من الضرورة غبوقٌ أو
صبوح. (5)
11131 - حدثني علي بن سعيد الكندي وأبو كريب قالا حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن
هشام بن حسان ، عن الحسن قال : إذا اضطر الرجل إلى الميتة ، أكل منها قوتَه يعني :
مُسْكَتَه. (6)
__________
(1) في مجمع الزوائد : " غبوقًا من اللبن " ، وما في الطبري أجود.
(2) الزيادة بين القوسين ، لا يتم الكلام إلا بها ، زدتها من مجمع الزوائد ، ومن
الدر المنثور. وأما قوله بعد : " ميسور كله " ، أي : موسع عليك فيه.
(3) الأثر : 11128 - خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مطولا ، من " حديث سمرة بن
جندب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل من الأعراب " ، ثم قال
: " رواه الطبراني في الكبير ، والبزار باختصار. وفي إسناد الطبراني مساتير ،
وإسناد البزار ضعيف " .
وذكره ابن كثير من تفسيره 3 : 70 عن هذا الموضع من التفسير ، وفيه : " عروة
بن الزبير ، عن جدته " ، والصواب ما في الطبري ، والدر المنثور ، وبما تبين
من أن الخبر من حديث سمرة بن جندب. وخرجه في الدر المنثور 2 : 260 ، ولم ينسبه
لغير الطبري.
(4) الأثر : 11129 - " سمرة " ، هو " سمرة بن جندب بن هلال الفزاري
" ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتابه هذا هو رسالته إلى بنيه ، قال
ابن سيرين : " في رسالة سمرة إلى بنيه ، علم كثير " . وانظر الأثر
التالي.
(5) الأثر : 11130 - هذا الأثر ، رواه البيهقي في السنن عن أبي عبيد ، عن معاذ ،
عن ابن عون : قال : " رأيت عند الحسن كتب سمرة لبنيه : أنه يجزئ من الاضطرار
- أو الضارورة.. " و " الضرورة " و " الضارورة " ، واحد
، وهما اسم لمصدر " الاضطرار " .
(6) " المسكة " (بضم الميم وسكون السين) : هي ما يمسك الأبدان من الطعام
والشراب. وكذلك " القوت " : هو ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام ، وما
يمسك الرمق من الرزق.
(9/541)
11132 - حدثنا هنّاد بن السري قال ،
حدثنا ابن مبارك ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية قال : قال رجل : يا رسول الله ،
إنا بأرض مَخْمصة ، فما يحلّ لنا من الميتة ؟ ومتى تحلّ لنا الميتة ؟ قال : إذا لم
تصطبحوا ، أو تغتبقوا ، ولم تحتفئوا بقلا فشأنَكم بها. (1)
11133 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن
عطية ، عن رجل قد سمي لنا : أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نكون بأرض
مخمصة ، فمتى تحل لنا الميتة ؟ قال : إذا لم تغتبقوا ، ولم تصطبحوا ، ولم تحتفئوا
بقلا فشأنكم بها. (2)
* * *
قال أبو جعفر : يروى هذا على أربعة أوجه : " تحتفئوا " بالهمزة "
وتحتفيوا " بتخفيف " الياء " و " الحاء " و "
تحتفّوا " ، بتشديد الفاء و " تحتفوا " بالحاء ، والتخفيف ، ويحتمل
الهمز (3) .
* * *
__________
(1) الأثران : 11132 ، 11133 - هما خبر أبي واقد الليثي الذي مضى برقم : 11125 ،
وانظر التعليق عليه هناك.
(2) الأثران : 11132 ، 11133 - هما خبر أبي واقد الليثي الذي مضى برقم : 11125 ،
وانظر التعليق عليه هناك.
(3) ما ذكره أبو جعفر هو روايات هذا الحرف بالحاء ، ولكنه روي أيضًا بالجيم
مهموزًا : " تجتفئوا " من قولهم : " جفأ البقل يجفؤه جفأ ، واجتفأ
" : إذا اقتلعه من أصله.
وروي بالجيم غير مهموز " تجتفوا " ، بمعنى المهموز : " جفيت البقل
واجتفيته " .
وروي بالخاء المعجمة : " تختفوا " من " أخفى الشيء " إذا
أظهره بعد خفائه ، كأنه قد أزال خفاءه.
وأما ما رواه الطبري بالحاء ، فتفسير " تحتفئوا " من " الحفأ
" وهو البردي. يقال : " احتفا الحفأ " : اقتلعه من منبته.
وأما " تحتفيوا " (بكسر الفاء وضم الياء) من قولهم : " احتفى الحفأ
، البقل " إذا اقتلعه من وجه الأرض بالأظافير ، وأصله الهمز.
وأما " تحتفوا " بتشديد الفاء ، فمن قولهم : " احتف الطعام "
إذا أكل جميع ما في القدر ، ومن قولهم : " احتفت المرأة " : أزالت شعر
وجهها نتفًا بخيطين ، فكأنهم ينتفون البقل من وجه الأرض لصغره.
وأما " تحتفوا " فمن " احتفى البقل " : إذا اقتلعه ، وهو غير
مهموز.
هذا ، وقد قال الأزهري : " قال أبو سعيد : صوابه : تحتفوا ، بتخفيف الفاء من
غير همز. وكل شيء استؤصل فقد احتفى ، ومنه : إحفاء الشعر. قال : واحتفى البقل :
إذا أخذه من وجه الأرض بأطراف أصابعه من قصره وقلته قال : ومن قال : تحتفئوا ،
بالهمز ، من الحفأ ، البردي ، فهو باطل ، لأن البردي ليس من البقل. والبقول : ما
نبت من العشب على وجه الأرض مما لا عرق له. قال : ولا بردي في بلاد العرب ويروى :
ما لم تجتفئوا ، بالجيم. قال : والاجتفاء أيضًا بالجيم باطل ، لأن الاجتفاء : كب
الآنية إذا جفأتها ويروى : ما لم تحتفوا ، بتشديد الفاء ، من : احتففت الشيء ، إذا
أخذته كله ، كما تحف المرأة وجهها من الشعر " .
(9/542)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
القول في تأويل قوله : { يَسْأَلُونَكَ
مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك ، يا محمد ، أصحابك : ما الذي أحل لهم
أكله من المطاعم والمآكل ؟ فقل لهم : أحِل لكم منها " الطيبات " ، وهي
الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح (1) وأحل لكم أيضًا مع ذلك ، صيدُ ما
علّمتم من " الجوارح " ، وهن الكَواسب من سباع البهائم.
* * *
والطير سميت " جوارح " ، لجرحها لأربابها ، وكسبها إيّاهم أقواتَهم من
الصيد. يقال منه : " جرح فلان لأهله خيرًا " ، إذا أكسبهم خيرًا ، و
" فلان جارِحَة أهله " ، يعني بذلك : كاسبهم ، و " لا جارحة لفلانة
" ، إذا لم يكن لها كاسب (2) ومنه قول أعشى بني ثعلبة.
ذاتَ حَدٍّ مُنْضِجٍ مِيسَمُهَا ... تُذْكِرَ الجَارِحَ مَا كَانَ اجْتَرَحْ (3)
__________
(1) انظر تفسير " الطيبات " فيما سلف 3 : 301/ 5 : 555/6 : 361 / 8 :
409 / 9 : 391.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 154.
(3) ديوانه : 164 ، وهي من قصيدة له طويلة ، مجد فيها إياس بن قبيصة الطائي ، ملك
الحيرة. ثم ختم القصيدة بذكر الخمر ، وذكر شبابه وما كان فيه من لهو ومروءة وبأس ،
فقال يصف لاذع قوله فيمن يعاديه (برواية الديوان) : وَلَقَدْ أَمْنَحُ مَنْ
عَادَيْتُهُ ... كَلِمًا يَحْسِمْنَ مِنْ داءِ الكَشَحْ
وقطَعْتُ نَاظِرَيْهِ ظاهِرًا ... لا يكونُ مِثْلَ لَطْمٍ وكَمَحْ
ذَا حَبَارٍ مُنْضِجٍ مِيسَمُهُ ... يُذْكِرُ الجَارِمَ مَا كَانَ اجتَرَحْ
قوله : " كلما " جمع " كلمة " ، يعني به : هجاءه وشعره. وفي
الديوان : " كلما " مضبوطة بضم الكاف وتشديد اللام المفتوحة ، ونقل عن
الديوان " كل ما " ، وهو خطأ فيما أرجح. و " حسم الداء يحسمه
" : قطعه بالدواء. و " حسم العرق " : قطعه ، ثم كواه لئلا يسيل
دمه. و " الكشح " (بفتح الكاف والشين) : داء يصيب الإنسان في كشحه فيكوى.
" الكشح " (بفتح فسكون) : ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف ، وهما كشحان
في الإنسان. و " طوى فلان كشحه " : أي أعرض وولاك كشحه ، من البغض
والعداوة. وأراد بقوله : " داء الكشح " ، العداوة والبغضاء. يقول :
أهجوه هجاء يشفيه من داء البغض!
وقوله : " وقطعت ناظريه " أي : كويته كية ظاهرة في وسط جبينه ، بين
عينيه إلى أنفه : وقوله : " ظاهرًا " صفة لمحذوف ، أي كيا ظاهر الأثر.
ليس أثره كأثر اللطم أو الكمح. و " الكمح " (بفتحتين) : هو أثر كمح
الفرس باللجام ، أي رده وجذبه باللجام ليقف ، فيترك ذلك أثرًا حيث موقع اللجام. وهو
حرف لم تذكره كتب اللغة ، وشرحته من سياق معنى الشعر. يقول : أثر اللطم غير بين
فهو يزول ، وأثر كمح اللجام سهل يأتي متتابعًا فلا يؤذي ، أما هذا الظاهر فهو
مكواة من النار (كما يبينه البيت الثالث). وأنا في شك من رواية هذا البيت.
وقوله : " ذا حبار " ، أي ذا أثر ، صفة ثانية لقوله : " ظاهرًا
" ، و " الحبار " (بفتح الحاء) الأثر في الجلد من ضرب أو كي أو
غيرها. ومثله " الحبر " (بكسر فسكون). وفي الديوان " ذا جبار
" (بضم الجيم) ، وهو لا معنى له ، صواب إنشاده ما أثبت. و " الميسم
" : الحديدة التي يكوى بها. يشبه هجاه بالمكواة الحامية تنضج الجلد ، وتبقي
فيه أثرًا لا يزول ، ولا تزال تذكره بما اجترم.
وأما رواية أبي جعفر ، فهي في المخطوطة : " ذات حد " (بالحاء المفتوحة)
، فإن صحت كذلك فهي صفة لقوله : " كلما يحسمن " ، و " الحد "
: صلابة الشيء وشدته ونفاذه ، كما يقال " حد الظهيرة " ، أي : أشد حرها.
وإن صحت روايته كما كان في المطبوعة : " ذات خد " ، (بالخاء المعجمة) :
من " الخد " و " الأخدود " ، وهو الشق ، و " خدت الضربة
جلده " إذا شقته وتركت فيه خدًا. و " أخاديد السياط " ، آثارها في
الجلد. وكلتاهما جيدة المعنى.
* * *
تنبيه : ديوان الأعشى المطبوع في أوربة ، ديوان كثير الخطأ والتحريف والتصحيف ،
فمن أجل ذلك اجتهدت في تصحيح هذا الشعر ، وفي كثير غيره مما سلف من شعر الأعشى.
(9/543)
يعني : اكتسب.
وترك من قوله : " وما علمتم " ، " وصيد " ما علمتم من الجوارح
، اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام على ما تُرِك ذكره.
* * *
(9/544)
وذلك أن القوم ، فيما بلغنا ، كانوا
سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بقتل الكلاب ، عما يحلّ لهم اتخاذه
منها وصَيْده ، فأنزل الله عز ذكره فيما سألوا عنه من ذلك هذه الآية. فاستثنى مما
كان حرّم اتخاذه منها ، وأمر بقُنْيَة كلاب الصيد (1) وكلاب الماشية ، وكلاب الحرث
، وأذن لهم باتخاذ ذلك.
ذكر الخبر بذلك :
11134 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا زيد بن حباب العكلي قال ، حدثنا موسى بن عبيدة
قال ، أخبرنا أبان بن صالح ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى أم رافع ، عن أبي رافع
قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه ، فأذن له فقال : قد
أذنَّا لك يا رسول الله! (2) قال : أجل ، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه كلب! قال أبو
رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ، فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب
ينبح عليها ، فتركته رحمة لها ، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته
، فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته. فجاؤوا فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من
هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل
الله : " يسألونك ماذا أحِل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علَّمتم من الجوارح
مكلبين " . (3)
__________
(1) " القنية " (بضم القاف ، أو بكسرها ، وسكون النون) : اقتناء الأشياء
واتخاذها لما ينتفع بها فيه.
(2) يعني بقوله : " رسول الله " ، جبريل رسول الله بوحيه إلى النبي صلى
الله عليهما.
(3) الأثر : 11134 - " زيد بن الحباب العكلي " ، مضى برقم : 2185 ، 5350
، 8165 ، وهو ثقة ، من شيوخ أحمد.
و " موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي " ، مضى برقم : 1875 ، 1876 ، 3291 ،
8361 ، وهو ضعيف جدًا. قال أحمد : " منكر الحديث ، لا تحل الرواية عنه "
. وفي تفسير ابن كثير : " يونس بن عبيدة " ، وهو خطأ يصحح.
و " أبان بن صالح بن عمير بن عبيد " ، ثقة. مضى برقم : 4337 ، 4338 ،
وكان في المطبوعة هنا : " حدثنا موسى بن عبيدة ، قال أخبرنا صالح ، وفي
المخطوطة : " قال أنا صالح " ، وهو خطأ في كلتيهما ، والصواب ما أثبته ،
عن الحاكم ، والبيهقي ، وابن كثير.
و " القعقاع بن حكيم الكناني " ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 304.
و " سلمى أم رافع " ، مولاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي زوجة أبي
رافع ، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن فاطمة الزهراء.
و " أبو رافع " مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإسناد هذا الخبر ضعيف ، لضعف موسى بن عبيدة الربذي. ورواه ابن أبي حاتم أيضًا من
طريق حجاج بن حمزة ، عن زيد بن حباب ، عن موسى بن عبيدة ، كما نقله ابن كثير في
تفسيره 3 : 72 ، 73. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4 : 42 ، 43 ، وقال : "
رواه الطبراني في الكبير ، وفيه موسى بن عبيدة الربذي ، وهو ضعيف " .
أما البيهقي في السنن 9 : 235 ، والحاكم في المستدرك 2 : 311 ، فقد روياه مختصرًا
من طريق معلى بن منصور ، عن ابن أبي زائدة ، عن محمد بن إسحق ، عن أبان بن صالح ،
وهو أصح من إسناد أبي جعفر وابن أبي حاتم. وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح
الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.
وقد روي حديث أبي رافع ، بغير هذا اللفظ ، من طرق. انظر الهيثمي في مجمع الزوائد 4
: 42 ، 43 ، ومسند أحمد 6 : 8 - 10 ، 391.
وقوله : " عندها كلب ينبح عليها " ، أي : يرد عنها بنباحه ما تخاف من
سبع ، وينذرها بمجيء ضيف إن استروح رائحته. وجاء بيانه في الأثر الذي رواه أحمد في
مسنده 6 : 391 : " قالت : إني امرأة مضيعة ، وإن هذا الكلب يطرد عني السبع ،
ويؤذنني بالجائي " .
(9/545)
11135 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم
بعث أبا رافع في قتل الكلاب ، فقتل حتى بلغ العَوالي (1) فدخل عاصم بن عدي ، وسعد
بن خيثمة ، وعويم بن ساعدة ، فقالوا : ماذا أحلَّ لنا يا رسول الله ؟ فنزلت :
" يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلِّبين
" .
11136 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير قال ،
حدثونا عن محمد بن كعب القرظي قال : لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب
، قالوا : يا رسول الله ، فماذا يحل لنا من هذه الأمة ؟ فنزلت : " يسألونك
ماذا أحل لهم " ، الآية.
* * *
__________
(1) " العوالي " : أماكن بأعلى أراضي المدينة ، وأدناها من المدينة على
أربعة أميال ، وأبعدها من جهة نجد ثمانية أميال
(9/546)
ثم اختلف أهل التأويل في "
الجوارح " التي عنى الله بقوله : " وما علمتم من الجوارح " .
فقال بعضهم : هو كل ما عُلِّم الصيدَ فتعلّمه ، من بهيمة أو طائر.
*ذكر من قال ذلك :
11137 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن
في قوله : " وما علمتم من الجوارح مكلبين " ، قال : كل ما عُلِّم فصادَ
، من كلب أو صقر أو فهدٍ أو غيره.
11138 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن :
" مكلبين " ، قال : كل ما علم فصاد من كلب أو فهد أو غيره.
11139 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في صيد الفهد قال : هو من الجوارح.
11140 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن
القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : " وما علمتم من الجوارح مكلبين
" ، قال : الطير والكلاب.
11141 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن الحجاج ، عن عطاء ، عن
القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، مثله.
11142 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن حميد ، عن مجاهد : "
مكلِّبيين " ، قال : من الكلاب والطير.
11143 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قول الله : " من الجوارح مكلبين " ، قال : من الطير
والكلاب.
11144 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
(9/547)
11145 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ،
حدثنا ابن علية قال ، حدثنا شعبة ح ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن شعبة ،
عن الهيثم ، عن طلحة بن مصرف قال ، قال خيثمة بن عبد الرحمن : هذا ما قد بيَّنت لك
: أن الصقر والبازي من الجوارح. (1)
11146 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ،
سمعت الهيثم يحدث ، عن طلحة الإيامي ، عن خيثمة قال : بيّنت لك : (2) أن الصقر
والباز والكلب من الجوارح. (3)
11147 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا عبد الله بن عمر ، عن
نافع ، عن علي بن حسين قال : الباز والصقر من الجوارح.
11148 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن شريك ، عن جابر ، عن أبي
جعفر قال : الباز والصقر من " الجوارح المكلِّبين " . (4) .
11149 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " وما علمتم من الجوارح مكلبين " ، يعني بـ " الجوارح
" ، الكلابَ الضواريَ والفهود والصقور وأشباهها.
11150 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن
طاوس ، عن أبيه : " وما علمتم من الجوارح مكلبين " ، قال : من الكلاب ،
وغيرها من الصقور والبِيزان (5) وأشباهِ ذلك مما يعلّم.
__________
(1) الأثر : 11145 ، 11146 - " الهيثم " هو : " الهيثم بن حبيب
" ، وهو " الهيثم بن أبي الهيثم " الصيرفي الكوفي. أثنى عليه أحمد
وقال : " ما أحسن أحاديثه وأشد استقامتها " . مترجم في التهذيب.
و " طلحة بن مصرف الإيامي " ، مضى برقم : 5431.
و " خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي " تابعي ثقة ، مضى برقم :
8267.
(2) في المطبوعة : " أنبئت أن الصقر " ، وفي المخطوطة : " أتيت لك
أن الصقر " ، وكأن الصواب ما أثبت ، استظهارًا من الأثر السالف.
(3) الأثر : 11145 ، 11146 - " الهيثم " هو : " الهيثم بن حبيب
" ، وهو " الهيثم بن أبي الهيثم " الصيرفي الكوفي. أثنى عليه أحمد
وقال : " ما أحسن أحاديثه وأشد استقامتها " . مترجم في التهذيب.
و " طلحة بن مصرف الإيامي " ، مضى برقم : 5431.
و " خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي " تابعي ثقة ، مضى برقم :
8267.
(4) في المطبوعة : " من الجوارح المكلبين " ، وأثبت ما في المخطوطة ،
وهو صواب.
(5) " البيزان " (بكسر الباء) جمع " باز " ، بغير ياء في آخره
، ويجمع أيضًا على " أبواز " . وقولهم " باز " لغة في "
بازي " وجمع " بازي " " بزاة " و " بواز "
(9/548)
11151 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني
أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وما
علمتم من الجوارح مكلبين " ، الجوارح : الكلاب والصقور المعلَّمة.
11152 - حدثني سعيد بن الربيع الرازيّ قال ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، سمع
عبيد بن عمير يقول في قوله : " من الجوارح مكلبين " ، قال : الكلاب
والطير.
* * *
وقال آخرون : إنما عنى الله جل ثناؤه بقوله : " وما علمتم من الجوارح مكلبين
" ، الكلابَ دون غيرها من السِّباع.
*ذكر من قال ذلك :
11153 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا أبو تميلة قال ، حدثنا عبيد ، عن الضحاك :
" وما علمتم من الجوار مكلبين " ، قال : هي الكلاب.
11154 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " وما علمتم من الجوارح مكلبين " ، يقول : أحل لكم صيد
الكلاب التي علَّمتوهن.
11155 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج ، عن نافع ،
عن ابن عمر ، قال : أمَّا ما صاد من الطير والبُزاةُ من الطير فما أدركت فهو لك ،
وإلا فلا تطعمه. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الآية قول من قال : " كل ما صاد من
الطير والسباع فمن الجوارح ، وأنّ صيد جميع ذلك حلال إذا صادَ بعد التعليم "
،
__________
(1) في المطبوعة : " فلا تطمعه " ، وهو خطأ في الطباعة
(9/549)
لأن الله جل ثناؤه عم بقوله : "
وما علمتم من الجوارح مكلبين " ، كلَّ جارحة ، ولم يخصص منها شيئًا. فكل
" جارحة " ، كانت بالصفة التي وصف الله من كل طائر وسبع ، فحلال أكل
صيدها.
* * *
وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحو ما قلنا في ذلك خبَرٌ ، مع ما في الآية
من الدلالة التي ذكرنا على صحة ما قلنا في ذلك ، وهو ما : -
11156 - حدثنا به هناد قال ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن عدي
بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال : ما أمسك
عليك فَكُل. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 11156 - " هناد " هو " هناد بن السري بن مصعب الدارمي
" ، ثقة. مضى برقم : 2058 ، 2758 ، 2998 ، 3960.
و " عيسى بن يونس بن أبي إسحق السبيعي " ، الفقيه ابن الفقيه ابن الفقيه
، ثقة حافظ رضي ، مات سنة 187. مترجم في التهذيب.
و " مجالد " هو : " مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني " ، مضى
برقم : 1614 ، 2987 ، 2988 وقد مضى أنه ثقة ، ضعفه بعض الأئمة ، وأن الراجح في
شأنه ، تصحيح حديث القدماء عنه ، وأن أعدل ما قيل فيه ، قول عبد الرحمن بن مهدي :
" حديث مجالد عند الأحداث ، يحيى بن سعيد وأبي أسامة ، ليس بشيء. ولكن حديث
شعبة وحماد بن زيد وهشيم ، وهؤلاء القدماء " ، وقول ابن أبي حاتم : "
يعني أنه تغير حفظه في آخر عمره. مات سنة 144 " .
وخبر الشعبي عن عدي بن حاتم ، رواه مسلم والبخاري عن طريق زكريا بن أبي زائدة ، عن
الشعبي ، عن عدي بن حاتم ، أن عديا سأل رسول الله عن صيد الكلب. فقال : أمسك عليك
فكل ، الحديث (انظر سنن البيهقي 9 : 235 ، 236).
ورواه الأئمة أيضًا من طريق عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي ، ومن طريق عاصم
الأحول ، عن الشعبي ومن طريق بيان عن الشعبي. ورووه أيضًا من طرق عن عدي بن حاتم ،
وليس فيها ذكر " الباز " . (انظر السنن الكبرى للبيهقي 9 : 235 - 238) ،
وانظر ما سيأتي رقم : 11210.
ثم روى البيهقي بإسناده عن عبد الله بن نمير ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن
حاتم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته ،
وذكرت اسم الله ، فكل مما أمسك عليك ، الحديث. ثم قال البيهقي : " .. إلا أن
ذكر البازي في هذه الرواية ، لم يأت به الحفاظ الذين قدمنا ذكرهم عن الشعبي ،
وإنما أتى به مجالد ، والله أعلم " .
ورواية عيسى بن يونس ، عن مجالد ، تعد من رواية القدماء عن مجالد قبل أن يتغير
حفظه. وعيسى بن يونس ثقة ثبت ، فكأن أبا جعفر صحح هذا الحديث واحتج به ، لأنه
رواية ثقة ، عن ثقة قبل تغيره.
(9/550)
فأباح صلى الله عليه وسلم صيد البازي
وجعله من الجوارح. ففي ذلك دِلالة بيِّنة على فساد قول من قال : " عنى الله
بقوله : " وما علمتم من الجوارح " ، ما علمنا من الكلاب خاصة ، دون
غيرها من سائر الجوارح " .
* * *
فإن ظن ظانّ أن في قوله : " مكلبين " ، دلالةً على أن الجوارح التي ذكرت
في قوله : " وما علمتم من الجوارح " ، هي الكلاب خاصة ، فقد ظن غير
الصواب.
وذلك أن معنى الآية : قل أحِلَّ لكم ، أيها الناس ، في حال مصيركم أصحابَ كلاب
الطيباتُ ، وصيدُ ما علمتوه الصيد من كواسب السباع والطير. فقوله : " مكلبين
" ، صفة للقانص ، وإن صاد بغير الكلاب في بعض أحيانه. وهو نظير قول القائل
يخاطب قومًا : " أحلّ لكم الطيباتُ وما علمتم من الجوارح مكلبين مؤمنين
" . فمعلوم أنه إنما عنى قائل ذلك ، إخبارَ القوم أنّ الله جل ذكره أحل لهم ،
في حال كونهم أهلَ إيمان ، الطيبات وصيد الجوارح التي أعلَمهم أنه لا يحل لهم منه
إلا ما صادوه به (1) فكذلك قوله : " أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح
مكلبين " لذلك نظيره ، في أن التكليب للقانص بالكلاب كان صيده أو بغيرها لا
أنه إعلام من الله عز ذكره أنه لا يحل من الصيد إلا ما صادته الكلاب.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ما صادوه بها " ، وما في المخطوطة صواب أيضًا.
(9/551)
القول في تأويل قوله : {
تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " تعلمونهن " ، تؤدِّبون الجوارح
فتعلمونهن طلب الصيد لكم " مما علمكم الله " ، يعني بذلك : من التأديب
الذي أدَّبكم الله ، والعلم الذي علمكم. (1)
* * *
وقد قال بعض أهل التأويل : معنى قوله : " مما علمكم الله " ، كما علمكم
الله.
*ذكر من قال ذلك :
11157 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " تعلمونهن مما علمكم الله " ، يقول : تعلمونهن من الطَّلب كما
علمكم الله.
* * *
ولسنا نعرف في كلام العرب " من " بمعنى " الكاف " ، لأن
" من " تدخل في كلامهم بمعنى التبعيض ، و " الكاف " بمعنى
التشبيه. وإنما يوضع الحرف مكان آخر غيره ، إذا تقارب معنياهما. فأما إذا اختلفت
معانيهما ، فغير موجود في كلامهم وضع أحدهما عَقِيب الآخر. وكتاب الله وتنزيله
أحرَى الكلام أن يجنَّب ما خرج عن المفهوم والغاية في الفصاحة من كلام من نزل
بلسانه ........... . (2)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 302.
(2) أرجح أنه قد سقط قبل هذا الخبر ، كلام من كلام أبي جعفر ، وذلك بدلالة قوله
بعد : " قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك " . والذي أستظهره من كلامه في
آخر سياقه هذه الأقوال من اختلاف الأئمة (ص : 564) ، أن أبا جعفر ساق سؤالا كعادته
، عن معنى " تعليم الجوارح " ، ثم أجاب عنه بذكر اختلاف أهل التأويل.
ولم أستجز أن أضع شيئًا مكان النقط التي وضعتها للدلالة على هذا السقط ، لأني أخشى
ان أخطئ في وصل الكلام بالخبر الذي رواه بعده برقم : 11158 " انظر ص : 553 ،
تعليق : 2 ، 3.
(9/552)
11158 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا
إسماعيل بن صُبيح قال ، حدثنا أبو هانئ عمر بن بشير قال ، حدثنا عامر : أن عدي بن
حاتم الطائي قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن صيد الكلاب ،
فلم يدر ما يقول له ، حتى نزلت هذه الآية : " تعلمونهن مما علمكم الله "
. (1)
* * *
قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك. (2)
فقال بعضهم (3) : هو أن يَسْتَشْلِي لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه (4)
__________
(1) الأثر : 11158 - " إسمعيل بن صبيح اليشكري " ، ثقة مضى برقم : 2996
، 8640.
و " أبو هانئ " " عمر بن بشير الهمداني " ، قال أحمد : "
صالح الحديث " . وقال يحيى بن معين : " ضعيف " . وذكره ابن حبان في
الثقات ، وقال أبو حاتم الرازي : " ليس بقوي ، يكتب حديثه ، وجابر الجعفي أحب
إلي منه " . وذكره ابن شاهين ، والعقيلي في الضعفاء. مترجم في ابن أبي حاتم
3/1/100 ، ولسان الميزان 4 : 287 ، ومضى أيضًا برقم : 4422.
وكان في المطبوعة : " حدثنا أبو هانئ عن أبي بشر " ، وهو خطأ محض ،
وتغيير سيئ لما كان في المخطوطة : " حدثنا أبو هانئ عمر بن بشر " ،
والصواب ما أثبت.
و " عامر " هو الشعبي.
وهو حديث ضعيف لضعف " أبي هانئ " . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 :
260 ، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد ، والقصة فيه : " أن عدي بن حاتم الطائي ،
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
(2) انظر التعليق السالف ص : 552 ، تعليق : 2 ، والتعليق التالي.
(3) في المخطوطة : " فقال بعضهم هو جوارحًا صيدها ، فقال لنا : وما علمتم من
الجوارح مكلبين أن يستشلى... " ، ووضع الناسخ بين " هو " و "
جوارحًا " من فوق حرف " لا " وبعد " مكلبين " من فوق ،
حرف " إلى " ، وهي طريقتهم قديمًا إذا أرادوا حذف ما بين " لا
" و " إلى " ، والظاهر أن قوله : " جوارحا صيدها ، فقال لنا :
من الجوارح مكلبين " هو بعض الجملة التي سقطت في موضع النقط التي وضعتها
آنفًا ، وأشرت إليها في التعليق السالف ، وما قبله : ص 552 ، تعليق : 2 .
(4) قوله : " يستشلي " ، بالبناء للمعلوم ، أراد به هنا : أن يغري بطلب
الصيد. وقد ذكر أهل اللغة : " أشلى الكلب واستشلاه " إذا دعاه باسمه ، وقد
أنكر ثعلب أن " أشلى الكلب " بمعنى أغراه بالصيد ، وأجازه غيره. ومن
أجازه فقد أصاب ، وقد قال الشافعي في الأم 2 : 191 :
" الكلب المعّلم : الذي إذَا أُشْلِيَ اسْتَشْلَى "
فاستعمل " استشلى " مطاوعًا لقوله : " أشلى الكلب " بمعنى :
أغراه بالصيد. ثم عاد الشافعي فاستعمل " استشلى الكلب " بمعنى : "
أشلى الكلب " غير مطاوع ، فقال في الأم 2 : 192 : " وتعليمُ الطائر
كلِّه واحد ، البازي والصقر والشاهين وغيرها : وهو أن يجمع أن يُدْعَى فيجيب ،
ويُسْتَشْلَى فيطير " .
ثم عاد فاستعمل " استشلى " بالمعنيين جميعًا ، مطاوعًا وغير مطاوع ، في
جملة طويلة في الأم 2 : 193 أثبت بعضها. :
" ...وإذا اسْتَشْلَى الرجُل كلبه على الصَّيْد - قريبًا كان منه أو بعيدًا -
فانزجَرَ واسْتَشْلَى باستشلائه... " .
فصح بذلك ما استعمله أبو جعفر ، هذا بخلاف ما جاء في الشعر ، مما يسقط اعتراض ثعلب
على " أشلى " بمعنى : أغرى.
(9/553)
ويمسك عليه إذا أخذه فلا يأكل منه ،
ويستجيب له إذا دعاه ، ولا يفرُّ منه إذا أراده. فإذا تتابع ذلك منه مرارًا كان
" معلَّمًا " . وهذا قول جماعة من أهل الحجاز وبعض أهل العراق.
*ذكر من قال ذلك :
11159 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قال
عطاء : كل شيء قتله صائدك قبل أن يعلَّم ويُمسك ويصيد ، فهو ميتة. ولا يكون قتله
إياه ذكاة ، حتى يعلَّم ويُمسك ويصيد. فإن كان ذلك ثم قتل ، فهو ذكاته.
11160 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قال : إن المعلم من الكلاب : أن يمسك صيدَه فلا يأكل منه حتى
يأتيه صاحبه. فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته ، فلا يأكل من صيده.
11161 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن طاوس ، عن ابن عباس
قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه.
(9/554)
11162 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن
إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال ، حدثنا أبو المعلى ، عن سعيد بن جبير
قال ، قال ابن عباس : إذا أرسل الرجل الكلبَ فأكل من صيده فقد أفسده ، وإن كان ذكر
اسم الله حين أرسله فزعم أنه إنما أمسك على نفسه (1) والله يقول : " من
الجوارح مكلّبين تعلمونهن مما علمكم الله " ، فزعم أنه إذا أكل من صيده قبل
أن يأتيه صاحبه أنه ليس بمعلَّم ، وأنه ينبغي أن يُضرب ويعلَّم حتى يترك ذلك
الخُلُق. (2)
11163 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معمر الرقي ، عن حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس
قال : إذا أخذ الكلب فقَتل فأكل ، فهو سَبُع. (3)
11164 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثني عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عامر ، عن
ابن عباس قال : لا يأكل منه ، فإنه لو كان معلَّمًا لم يأكل منه ، ولم يتعلم ما علَّمتَه.
إنما أمسك على نفسه ، ولم يُمسك عليك.
11165 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا داود ، عن
الشعبي ، عن ابن عباس ، بنحوه.
11166 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حماد ،
عن إبراهيم ، عن ابن عباس قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل. (4)
__________
(1) قوله : " فزعم أنه إنما أمسك على نفسه " ، هذا من قول سعيد بن جبير
، حكاية لقول ابن عباس. و " زعم " في هذا الموضع بمعنى : قال. لا بمعنى
" زعم " فيما يذم من القول والظن. وهو يأتي كثيرًا في كلامهم ، فاحفظه.
(2) الأثر : 11162 - " أبو المعلى " العطار ، هو : " يحيى بن ميمون
الضبي " ، ثقة كثير الحديث مترجم في التهذيب ، وقد مضى في الإسنادين رقم :
8346 ، 8347.
(3) الأثر : 11163 - " معمر الرقي " ، هو : " معمر بن سلمان النخعي
، الرقي " . وثقه أحمد. مترجم في التهذيب.
(4) في المطبوعة : " إذا أكلت الكلاب " بالجمع ، وأثبت ما في المخطوطة ،
وإن كان الناسخ كتب أولا : " أكلت " ثم عاد فمجمج الحروف حتى جعل اللام
والتاء في " أكلت " " أكل " .
(9/555)
11167 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا
عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الشعبي ، عن ابن عباس ، بمثله.
11168 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا ابن عون قال :
قلت لعامر الشعبي : الرجل يرسل كلبَه فيأكل منه ، أنأكل منه ؟ قال : لا لم يتعلَّم
الذي علَّمته.
11169 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر
قال : إذا أكل الكلب من صيده فاضربه ، فإنه ليس بمعلَّم.
11170 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن ابن
طاوس ، عن أبيه قال : إذا أكل الكلب فهو ميتة ، فلا تأكله.
11171 - حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير
وسَيَّار ، عن الشعبي ومغيرة ، عن إبراهيم أنهم قالوا في الكلب إذا أكل من صيده :
فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه.
11172 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قال
عطاء : إن وجدت الكلب قد أكل من الصيد ، فما وجدتَه ميتًا فدعه ، فإنه مما لم يمسك
عليك صيدًا. إنما هو سبع أمسك على نفسه ولم يمسك عليك ، وإن كان قد عُلِّم.
11173 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي ، بنحوه.
* * *
وقال آخرون نحو هذه المقالة ، غير أنهم حَدُّوا لمعرفة الكلاب بأن كلبه قد قَبِل
التعليم وصار من الجوارح الحلال صيدها (1) أن يفعل ذلك كلبه مرات
__________
(1) " الكلاب " (بتشديد اللام) : هو صاحب الكلاب. و " المكلب
" (بتشديد اللام المكسورة) : هو الذي يعلم الكلاب أخذ الصيد. ولكنه وضع
" الكلاب " هنا موضع " المكلب " . وهو جيد صحيح.
(9/556)
ثلاثًا. وهذا قول محكيٌّ عن أبي يوسف
ومحمد بن الحسن.
* * *
وقال آخرون ممن قال هذه المقالة : لا حدَّ لعلم الكلاب بذلك من كلبه ، أكثر من أن
يفعل كلبه ما وصفنا أنه له تعليم. قالوا : فإذا فعل ذلك فقد صار معلَّمًا حلالا
صيده. وهذا قول بعض المتأخرين.
وفرَّق بعض قائلي هذه المقالة بين تعليم البازي وسائر الطيور الجارحة وتعليم الكلب
وضاري السبِّاع الجارحة ، فقال : جائز أكل ما أكل منه البازي من الصيد. قالوا :
وإنما تعليم البازي أن يطير إذا استُشْلِي ، ويجيب إذا دُعِي ، ولا ينفر من صاحبه
إذا أراد أخذَه. قالوا : وليس من شروط تعليمه أن لا يأكل من الصيد.
*ذكر من قال ذلك :
11174 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم وحجاج ، عن
عطاء قال : لا بأس بصيد البازي وإن أكل منه.
11175 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أسباط قال ، حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن
حماد ، عن إبراهيم ، عن ابن عباس أنه قال في الطير : إذا أرسلتَه فقتل ، فكُل. فإن
الكلبَ إذا ضربته لم يَعُدْ. وإن تعليم الطير أن يرجع إلى صاحبه ، وليس يضرب إذا
أكل من الصيد ونتف من الريش. (1)
11176 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا أبو حمزة ، عن جابر
، عن الشعبي قال : ليس البازي والصقر كالكلب ، فإذا أرسلتهما فأمسكا فأكلا
فدعوتهما فأتياك ، فكل منه.
__________
(1) في المطبوعة : " فإذا أكل من الصيد ونتف من الريش فكل " ، بزيادة
" فكل " ، عن المخطوطة ، وكان فيها مثل ما في المطبوعة : " فإذا
أكل... " ، ورجحت أن الصواب " إذا أكل... ، " بحذف الفاء ، ويستقيم
الكلام على ما في الترجمة.
(9/557)
11177 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو
زُبَيْد ، عن مطرف ، عن حماد ، قال إبراهيم : كُلْ صيد البازي وإن أكل منه.
11178 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم وجابر ،
عن الشعبي ، قالا كُلْ من صيد البازِ وإن أكل. (1)
11179 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم : إذا
أكل البازي والصقر من الصيد ، فكُل ، فإنه لا يعلَّم. (2)
11180 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن
إبراهيم قال : لا بأس بما أكل منه البازي.
11181 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن حماد :
أنه قال في البازي إذا أكل منه ، قال : كُلْ. (3)
* * *
وقال آخرون منهم : سواء تعليم الطير والبهائم والسباع ، لا يكون نوع من ذلك
معلَّمًا إلا بما يكون به سائر الأنواع معلَّمًا. وقالوا : لا يحل أكل شيء من
الصيد الذي صادته جارحة فأكلت منه (4) كائنة ما كانت تلك الجارحة ، بهيمةً ، أو
طائرًا. (5) قالوا : لأن من شروط تعليمها الذي يحل به صيدها : أن تمسك ما صادت على
صاحبها ، فلا تأكل منه.
*ذكر من قال ذلك :
11182 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " صيد البازي " بالياء آخره ، والذي في المخطوطة
صواب. وانظر ما سلف ص : 548 ، تعليق : 4.
(2) يعني : فإنه لا يعلم أن لا يأكل من الصيد كما يعلم الكلب.
(3) في المطبوعة : " إذا أكل منه فكل " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو
صواب محض.
(4) في المخطوطة : " لا يجعل كل شيء من الصيد.. " ، والصواب ما في
المطبوعة.
(5) في المخطوطة : " بهيمة أو طائر " بالرفع ، والصواب ، ما في
المطبوعة.
(9/558)
محمد بن سالم ، عن عامر قال : قال علي
: إذا أكل البازي من صيده فلا تأكل. (1)
11183 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن جعفر ، عن شعبة ، عن مجاهد بن سعيد ، عن
الشعبي قال : إذا أكل البازي منه فلا تأكل.
11184 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير قال
: إذا أكل البازي فلا تأكل.
11185 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن عمر بن الوليد الشنيّ قال : سمعت عكرمة
قال : إذا أكل البازي فلا تأكل. (2)
11186 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قال
عطاء : الكلب والبازي كلُّه واحد ، لا تأكل ما أكل منه من الصيد ، إلا أن تدرك
ذَكاته فتذكِّيه. قال : قلت لعطاء : البازي ينتف الريش ؟ قال : فما أدركته ولم
يأكل فكل. قال ذلك غير مرَّة.
* * *
وقال آخرون : تعليم كل جارحة من البهائم والطير واحد. قالوا : وتعليمه الذي يحلُّ
به صيده : أن يُشْلَى على الصيد فيَسْتَشلي ويأخذ الصيد (3) ويدعوه صاحبه فيجيب ،
ولا يفرّ منه إذا أخذه. (4) قالوا : فإذا فعل الجارح ذلك كان " معلمًا "
(5)
__________
(1) الأثر : 11182 - " محمد بن سالم الهمداني " ، أبو سهل الكوفي. ضعيف
الحديث متروك. مترجم في التهذيب. ومضى في الإسناد رقم : 4824.
(2) الأثر : 11185 - " عمر بن الوليد الشني " ، أبو سلمة العبدي ، من
عبد القيس. روى عن عكرمة ، وشهاب بن عباد العصري. روى عنه وكيع ، وأبو نعيم. قال
أبو حاتم : " ما أرى بحديثه بأسًا ، وعامة حديثه عن عكرمة فقط ، ما أقل ما
يجاوز به إلى ابن عباس " . وقال يحيى القطان : " ليس هو عندي ممن أعتمد
عليه ، ولكنه لا بأس به " . مترجم في ابن أبي حاتم 3/1/139 ، ولسان الميزان 4
: 337.
وكان في المطبوعة : " عمرو بن الوليد السهمي " ، وليس صوابًا ، غير ما
في المخطوطة وهو الذي أثبت.
(3) انظر ما سلف ص : 553 ، تعليق : 4 .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " أولا يفر منه " ، والصواب بالواو كما
أثبته.
(5) في المطبوعة والمخطوطة : " قال " بالإفراد ، والذي قبله والذي بعده
يقتضي أن تكون " قالوا " .
(9/559)
داخلا في المعنى الذي قال الله :
" وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن
عليكم " . قالوا : وليس من شرط تعليم ذلك أن لا يأكل من الصيد. قالوا : وكيف
يجوز أن يكون ذلك من شرطه ، وهو يؤدَّب بأكله ؟
*ذكر من قال ذلك :
11187 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن
قتادة ، عن سعيد أو سعد ، عن سلمان قال : إذا أرسلت كلبك على صيد ، وذكرتَ اسم
الله ، فأكل ثلثيه وبقي ثلثه ، فكل ما بقي. (1)
11188 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا حميد قال ،
حدثني القاسم بن ربيعة ، عمن حدثه ، عن سلمان وبكر بن عبد الله ، عمن حدثه ، عن
سلمان : أن الكلب يأخذ الصيد فيأكل منه ، قال : كل ، وإن أكل ثلثيه ، إذا أرسلته
وذكرت اسم الله ، وكان معلمًا. (2)
11189 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ،
__________
(1) الأثر : 11187 - " سعيد " الأول ، هو " سعيد بن أبي عروبة
" .
و " سعيد " الثاني ، هو " سعيد بن المسيب " .
و " سلمان " ، هو ابن الإسلام ، " سلمان الخير الفارسي " ،
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان في المخطوطة في هذا الأثر ، والذي يليه
" سليمان " ، ثم استقامت المخطوطة على الصواب. وسيأتي بعد الأثر رقم
11211 ، في تعقيب أبي جعفر أن سعيد بن المسيب ، غير معلوم له سماع من سلمان
الفارسي.
أما قوله : " أو سعد " ، فلم أعرف ما أراد به ، ولم أعرف من يكون "
سعد " الذي يروي عنه قتادة ، والذي يروي عن سلمان. وسيأتي في الآثار التالية
، رواية مثل ذلك عن " سعد بن أبي وقاص " . فأخشى أن يكون في الإسناد
تقديم وتأخير : " قتادة ، عن سعيد ، عن سلمان ، أو سعد " . وأنا في شك
من ذلك أيضًا.
وهذا الأثر رواه البيهقي في السنن 9 : 237.
(2) الأثر : 11188 - " بكر بن عبد الله المزني " ، مضى برقم : 4877 ،
4878 ، 8936 ، 9732.
وكان في هذا الموضع من المخطوطة أيضًا " سليمان " ، وانظر التعليق على
الأثر السالف.
(9/560)
حدثنا شعبة قال ، سمعت قتادة يحدث ، عن
سعيد بن المسيب قال ، قال سلمان : كل وإن أكل ثلثيه يعني : الصيدَ إذا أكل منه
الكلب.
11190 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ،
عن سلمان ، نحوه.
11191 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد العزيز بن عبد الصمد ، عن
شعبة ح وحدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة جميعًا ، عن سعيد ، عن قتادة : عن سعيد بن
المسيب قال ، قال سلمان : إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسمَ الله ، فأكل ثلثيه
وبقي ثلثه ، فكل. (1) .
11192 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد ، عن سلمان ،
نحوه.
11193 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد ، عن بكر بن عبد الله المزني
والقاسم : أن سلمان قال : إذا أكل الكلب فكل ، وإن أكل ثلثيه.
11194 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود بن أبي الفرات ،
عن محمد بن زيد ، عن سعيد بن المسيب قال : قال سلمان : إذا أرسلت كلبك المعلَّم أو
بازَك ، فسميَّت فأكل نصفه أو ثلثيه ، فكل بقيَّته. (2)
11195 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني مخرمة بن
بكير ، عن أبيه ، عن حميد بن مالك بن خثيم الدؤلي : أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن
الصيد يأكل منه الكلب ، فقال : كل ، وإن لم يبق منه إلا حِذْية - يعني : بَضْعة.
(3)
__________
(1) في المطبوعة : " فأكل ثلثه فكل " ، أسقط من الكلام ما ثبت في
المخطوطة.
(2) الأثر : 11194 - " داود بن أبي الفرات " هو " داود بن عمر بن
الفرات الكندي " . ثقة ، يروي عن " محمد بن زيد بن علي الكندي " .
مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2/1/215.
و " محمد بن زيد بن علي الكندي " ويقال " العبدي " ، قاضي مرو
، ثقة صالح الحديث. مترجم في التهذيب ، والكبير 1/1/84.
(3) الأثر : 11195 - " مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج " ، مضى برقم
: 3359.
وأبوه " بكير بن عبد الله بن الأشج " ، أو " بكير بن الأشج "
، مضى برقم : 2747 ، و " حميد بن مالك بن خثيم الدؤلي " أو : "
حميد بن عبد الله بن مالك " وسيأتي كذلك في الأثرين : 11207 ، 11208 ، تابعي
ثقة ، روى عن أبي هريرة وسعد بن أبي وقاص. مترجم في التهذيب.
و " الحذية " و " الحذوة " (بكسر الحاء) : هو ما قطع من اللحم
طولا ، أو القطعة الصغيرة من اللحم. وأما " البضعة " فهي بفتح الباء
وسكون الضاد. وكان في المخطوطة : " يعني بعضه " ، والصواب ما في
المطبوعة.
(9/561)
11196 - حدثنا محمد بن المثنى قال ،
حدثني عبد الصمد قال ، حدثنا شعبة ، عن عبد ربه بن سعيد قال : سمعت بكير بن الأشج
يحدّث ، عن سعد قال : كُل ، وإن أكل ثلثيه. (1)
11197 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا سعيد بن الربيع قال ، حدثنا شعبة ، عن عبد
ربه بن سعيد قال : سمعت بكير بن الأشج ، عن سعيد بن المسيب قال شعبة : قلت : سمعته
من سعيد ؟ قال : لا قال : كل وإن أكل ثلثيه قال : ثم إن شعبة قال في حديثه : عن
سعد. قال : كل ، وإن أكل نصفه.
11198 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثني عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عامر ، عن
أبي هريرة قال : إذا أرسلت كلبك فأكل منه ، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه ، فكل.
11199 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا داود بن أبي هند
، عن الشعبي ، عن أبي هريرة ، بنحوه.
11200 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن
أبي هريرة ، نحوه.
11201 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثني سالم بن نوح العطار ، عن عمر يعني : ابن
عامر عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان قال : إذا
__________
(1) الأثر : 11169 - " عبد ربه بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري " ، روى
عن جده قيس بن عمرو. ثقة. مترجم في التهذيب.
(9/562)
أرسلت كلبك المعلَّم فأخذ فقتل ، فكل ،
وإن أكل ثلثيه. (1)
11202 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر قال ، سمعت عبيد الله (2) ح
وحدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، عن عبيد الله بن عمر عن نافع ، عن عبد الله بن عمر
قال : إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك عليك ، أكل أو لم
يأكل.
11203 - حدثنا ابن المثنى ، قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عبيد الله ، عن
نافع ، عن ابن عمر ، بنحوه.
11204 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني ابن أبي ذئب : أن نافعًا
حدَّثهم : أن عبد الله بن عمر كان لا يرى بأكل الصيد بأسًا ، إذا قتله الكلب أكل
منه.
11205 - حدثني يونس به مرة أخرى فقال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني عبيد الله بن
عمرو ، ابن أبي ذئب ، وغير واحد : أن نافعًا حدَّثهم ، عن عبد الله بن عمر ، فذكر
نحوه.
11206 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا محمد بن أبي ذئب ،
عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان لا يرى بأسًا بما أكل الكلبُ الضاري.
11207 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن ابن أبي ذئب ، عن بكير بن عبد الله بن
الأشج ، عن حميد بن عبد الله ، عن سعد قال : قلت لنا : كلاب ضوارٍ يأكلن ويبقين ؟
قال : كل ، وإن لم يبق إلا بَضْعة.
11208 - حدثنا هناد قال ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن ابن أبي
__________
(1) الأثر : 11201 - " سالم بن نوح العطار " و " عمر بن عامر
السلمي " ، مضيا برقم : 2852.
(2) في المطبوعة : " عبد الله " ، والصواب من المخطوطة ، وهي غير
منقوطة.
(9/563)
ذئب ، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج ،
عن حميد قال : سألت سعدًا ، فذكر نحوه. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا في تأويل قوله : "
تعلمونهن مما علمكم الله " : أن " التعليم " الذي ذكره الله في هذه
الآية للجوارح ، إنما هو أن يعلِّم الرجل جارحَه الاستشلاء إذا أُشلي على الصيد
(2) وطلبه إياه إذا أغرى ، أو إمساكه عليه ، إذا أخذه من غير أن يأكل منه شيئًا ،
وألا يفرّ منه إذا أراده ، وأن يجيبه إذا دعاه. فذلك ، هو تعليم جميع الجوارح ،
طيرها وبهائمها. فإن أكل من الصيد جارحةُ صائد (3) فجارحه حينئذ غير معلَّم. (4)
فإن أدرك صيده صاحبُه حيًّا فذكّاه ، حلَّ له أكله. وإن أدركه ميتًا ، لم يحلَّ له
أكله ، لأنه مما أكله السَّبُع الذي حرمه الله تعالى بقوله : ( وَمَا أَكَلَ
السَّبُعُ ) ، ولم يدرك ذكاته.
وإنما قلنا : ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، بما : -
11209 - حدثنا به ابن حميد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن عاصم بن سليمان الأحول ،
عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال :
إذا أرسلتَ كلبك فاذكر اسم الله عليه ، فإن أدركته وقد قتل وأكل منه فلا تأكل منه
شيئًا ، فإنما أمسكَ على نفسه. " (5)
__________
(1) الأثران : 11207 ، 11208 - " حميد بن عبد الله " ، هو " حميد
بن مالك بن خثيم " الذي مضى في الأثر : 11195 ، وانظر التعليق عليه هناك.
و " يعقوب بن عبد الله بن الأشج " أخو " بكير بن عبد الله بن الأشج
" الذي سلف برقم : 11195 وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
(2) انظر القول في " الإشلاء " و " الاستشلاء " فيما سلف ص :
553 ، تعليق : 4.
(3) في المطبوعة : " وإن أكل... " بالواو ، والجيد ما في المخطوطة ،
بالفاء.
(4) في المطبوعة : " فجارحه " بغير تاء التأنيث ، والجيد ما في
المخطوطة.
(5) الأثر : 11209 - حديث صحيح. رواه البخاري (الفتح 9 : 527) ، ومسلم 13 : 78 ،
79 ، وأحمد في المسند 4 : 257 ، 379 ، وأبو داود في سننه 3 : 145 رقم : 2849 ،
والبيهقي في السنن 9 : 236 ، 238 ، 242 ، 244 من طرق ، مطولا.
(9/564)
11210 - حدثنا أبو كريب وأبو هشام
الرفاعي قالا حدثنا محمد بن فضيل ، عن بيان بن بشر ، عن عامر ، عن عدي بن حاتم قال
: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إنا قوم نتصيَّد بهذه الكلاب ؟ فقال :
إذا أرسلت كلابَك المعلَّمة وذكرت اسم الله عليها ، فكل ما أمسكن عليك وإن قتلن ،
إلا أن يأكل الكلبُ ، فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون إنما حَبَسه على نفسه.
" (1)
* * *
فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما حدثك به : -
11211 - عمران بن بكّار الكلاعي قال ، حدثنا عبد العزيز بن موسى قال ، حدثنا محمد
بن دينار ، عن أبي إياس ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان الفارسي ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه ، فليأكل
ما بقي. (2)
__________
(1) الأثر : 11210 - حديث صحيح. رواه البخاري من طريق قتيبة بن سعيد ، عن محمد بن
فضيل (الفتح 9 : 527 ، 528) ، ومسلم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، عن محمد بن
فضيل 13 : 75 ، وأحمد في مسنده 4 : 258 ، والبيهقي في السنن 9 : 236 ، 237 ، وأبو
داود في سنن 3 : 145 ، رقم : 2848 مطولا.
(2) الأثر : 11211 - " عمران بن بكار الكلاعي " ، شيخ الطبري. مضى برقم
: 149 ، 2071.
و " عبد العزيز بن موسى بن روح اللاحوني " ، أبو روح ، البهراني الحمصي.
قال أبو حاتم : " صدوق ثقة مأمون " . مترجم في التهذيب.
و " محمد بن دينار الأزدي الطاحي " ، وهو " ابن أبي الفرات "
، و " أبو بكر بن أبي الفرات " قال النسائي : " ليس به بأس "
، وقال في موضع آخر : " ضعيف " ، وقال أبو داود : " تغير قبل أن
يموت " ، وقال الدارقطني : " ضعيف " ، وقال مرة : " متروك
" . مترجم في التهذيب.
و " أبو إياس " ، هو " معاوية بن قرة بن إياس المزني " ،
تابعي ثقة. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر قد تكلم الطبري في إسناده فيما يلي ، ونقل ابن كثير في تفسيره 3 : 75 ،
ما قاله الطبري ، ثم عقب عليه بقوله : " وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح ، ولكن
قد روي هذا المعنى مرفوعًا من وجوه أخر ، فقال أبو داود : حدثنا محمد بن المنهال
الضرير ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا حبيب المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ،
عن جده... " وساق حديث أبي داود في سننه 3 : 147 ، رقم : 2857 ، ثم قال ابن
كثير : " هكذا رواه أبو داود ، وقد أخرجه النسائي. وكذا رواه أبو داود من
طريق يونس بن سيف ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ثعلبة... " ثم ساق حديث
أبي داود في سننه 3 : 147 ، رقم : 2856 ، ثم قال : " وهذان إسنادان جيدان "
.
(9/565)
قيل : هذا خبر في إسناده نظر ، فإن
" سعيدًا " غير معلوم له سماع من " سلمان " ، والثقات من أهل
الآثار يقفون هذا الكلام على سلمان ، ويروونه عنه من قِبَله غير مرفوع إلى النبي
صلى الله عليه وسلم. والحفَّاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة ، فخالفهم
واحد منفردٌ ليس له حفظهم ، كانت الجماعة الأثبات أحقَّ بصحة ما نقلوا من الفرد
الذي ليس له حفظهم. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وإذا كان الأمر في الكلب على ما ذكرتُ : من أنه إذا أكل من الصيد
فغيرُ معلَّم ، فكذلك حكم كل جارحة : في أن ما أكل منها من الصيد فغير معلَّم ، لا
يحل له أكل صيده إلا أن يدرك ذكاته.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، فكلوا ، أيها
الناس ، مما أمسكت عليكم جوارحكم.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم : ذلك على الظاهر والعموم كما عممه الله ، حلال أكل كلِّ ما أمسكت
علينا الكلاب والجوارح المعلَّمة من الصيد الحلال أكله ، أكل منه الجارح والكلاب
أو لم يأكل منه ، أدركتْ ذكاته فذُكِّي أو لم تدرَك ذكاته حتى قتلته الجوارح
بجرحها إياه أو بغير جَرْح.
__________
(1) انظر التعليق على الأثر السالف ، رقم : 11211.
(9/566)
وهذا قول الذين قالوا : " تعليم
الجوارح الذي يحلّ به صيدها أن تعلَّم الاستشلاء على الصيد ، وطلبه إذا أشْليت
عليه ، وأخذه ، وترك الهرب من صاحبها ، دون ترك الأكل من صيدها إذا صادته " .
وقد ذكرنا قول قائلي هذه المقالة والرواية عنهم بأسانيدها الواردة آنفًا. (1)
* * *
وقال آخرون : بل ذلك على الخصوص دون العموم. قالوا : ومعناه : فكلوا مما أمسكن
عليكم من الصيد جميعه دون بعضه. قالوا : فإن أكلت الجوارح منه بعضًا وأمسكت بعضًا
، فالذي أمسكت منه غير جائز أكلُه وقد أكلت بعضه ، لأنها إنما أمسكت ما أمسكت من
ذلك الصيد بعد الذي أكلت منه ، على أنفسها لا علينا ، والله تعالى ذكره إنما أباح
لنا كلَ ما أمسكته جوارحنا المعلمة علينا بقوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم
" ، دون ما أمسكته على أنفسها. وهذا قول من قال : " تعليم الجوارح الذي
يحلُّ به صيدها : أن تَستشلى للصيد إذا أشليت ، فتطلبه وتأخذه ، فتمسكه على صاحبها
فلا تأكل منه شيئًا ، ولا تفر من صاحبها " . وقد ذكرنا ممن قال ذلك فيما مضى
منهم جماعة كثيرة (2) ونذكر منهم جماعة أخَر في هذا الموضع. (3)
11212 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، يقول : كلوا مما قتلن قال علي
: وكان ابن عباس يقول : إن قتل وأكل فلا تأكل ، وإن أمسك فأدركته حيًّا فذكِّه.
11213 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ،
__________
(1) انظر ما سلف من الآثار من رقم : 11187 ، وما بعده.
(2) انظر ما سلف من الآثار ، من رقم : 11182 ، وما بعده.
(3) في المطبوعة : " جماعة آخرين " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9/567)
حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال
: إن أكل المعلَّم من الكلاب من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته ، فلا يأكل
من صيده.
11214 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، إذا صادَ الكلب فأمسكه وقد قتله
ولم يأكل منه ، فهو حِلٌّ. فإن أكل منه ، فيقال : إنما أمسك على نفسه. (1) فلا
تأكل منه شيئًا ، إنه ليس بمعلَّم.
11215 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
يسألونك ماذا أحل لهم " إلى قوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم
الله عليه " ، قال : إذا أرسلت كلبك المعلَّم أو طيرك أو سهمك ، فذكرت اسم
الله ، فأخذ أو قتل ، فكل.
11216 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ،
سمعت الضحاك يقول : إذا أرسلت كلبك المعلّم فذكرت اسم الله حين ترسله ، فأمسك أو
قتل ، فهو حلال. فإذا أكل منه فلا تأكله ، فإنما أمسكه على نفسه.
11217 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن
الشعبي ، عن عديّ قوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، قال : قلت يا رسول
الله ، إن أرضي أرضُ صيد ؟ قال : " إذا أرسلت كلبك وسميت ، فكل مما أمسك عليك
كلبُك وإن قتل. فإن أكل فلا تأكل ، فإنه إنما أمسك على نفسه. (2)
__________
(1) في المخطوطة : " إنما أمسك فلا تأكل...... " أسقط " على نفسه
" ، والصواب إثباتها كما في المطبوعة.
(2) الأثر : 11217 - حديث صحيح ، أخرجه البخاري (الفتح 9 : 527) ، نحوًا من لفظه.
ورواه بهذا اللفظ مطولا ، أحمد في مسنده 4 : 257 ، وانظر التعليق على الأثر السالف
رقم : 11209.
(9/568)
وقد بينا أولى القولين في ذلك بالصواب
قبلُ ، فأغنى ذلك عن إعادته وتكراره. (1)
* * *
فإن قال قائل : وما وجه دخول " من " ، في قوله : " فكلوا مما أمسكن
عليكم " ، وقد أحل الله لنا صيد جوارحنا الحلالِ ، و " من " إنما
تدخل في الكلام مبعِّضَة لما دخلت فيه ؟
قيل : قد اختلف في معنى دخولها في هذا الموضع أهل العربية.
فقال بعض نحويي البصرة : دخلت " من " في هذا الموضع لغير معنًى ، كما
تدخله العرب في قولهم : " كان من مطر " و " كان من حديث " .
قال : ومن ذلك قوله : ( وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ) [سورة البقرة
: 271] ، وقوله : ( وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ )
[سورة النور : 43] ، قال : وهو فيما فسِّر : وينزل من السماء جبالا فيها برد. قال
: وقال بعضهم : و " ينزل من السماء من جبال فيها من برد " ، أي : من
السماء من برد ، بجعل " الجبال من برد " في السماء ، وبجعل الإنزال
منها. (2)
* * *
وكان غيره من أهل العربية ينكر ذلك ويقول : لم تدخل " من " إلا لمعنى
مفهوم ، لا يجوز الكلام ولا يصلح إلا به. وذلك أنها دالة على التبعيض. وكان يقول :
معنى قولهم " قد كان من مطر " و " كان من حديث " ؛ هل كان من
مَطَرِ مَطَرَ عندكم ؟ وهل من حديث حُدِّث عندكم ؟ (3) ويقول : معنى : (
وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ) ، أي : ويكفر عنكم من سيِّئاتكم ما
يشاء ويريد وفي قوله : ( وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ
بَرَدٍ ) ، فيجيز
__________
(1) انظر ما سلف ص : 564.
(2) انظر ما سلف 2 : 126 ، 127 / 5 : 586/6 : 551/7 : 489.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " حديث حديث عندكم " ؛ والصواب ما أثبت.
ويعني قائل ذلك أن قوله " قد كان من مطر " إلخ ، إنما هو جواب لقول
القائل : هل كان من مطر مطر عندكم ؟
(9/569)
حذف " من " من " من برد
" (1) ولا يجيز حذفها من " الجبال " ، ويتأول معنى ذلك : وينزل من
السماء أمثالَ جبالٍ بردٍ ، ثم أدخلت " من " في " البرد " ،
لأن " البرد " مفسَّر عنده من " الأمثال " (2) أعني : "
أمثال الجبال " ، وقد أقيمت " الجبال " مقام " الأمثال "
، و " الجبال " وهي " جبال برد " فلا يجيز حذف " من
" من " الجبال " ، لأنها دالة على أن الذي في السماء الذي أنزل منه
البرد ، أمثالُ جبال بردٍ. وأجاز حذف " من " من " البرد " ،
لأن " البرد " مفسَّر عن " الأمثال " ، كما تقول : "
عندي رطلان زيتًا " و " عندي رطلان من زيت " ، وليس عندك "
الرطل " ، وإنما عندك المقدار. فـ " من " تدخل في المفسِّر وتخرج
منه. وكذلك عند قائل هذا القول : من السماء ، من أمثال جبال ، وليس بجبال. وقال :
وإن كان : " أنزل من جبال في السماء من برد جبالا " ، ثم حذف "
الجبال " الثانية ، و " الجبال " الأول في السماء ، جاز. تقول :
" أكلت من الطعام " ، تريد : أكلت من الطعام طعامًا ، ثم تحذف "
الطعام " ولا تسقط " من " .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك : أن " من " لا تدخل في الكلام
إلا لمعنى مفهوم ، وقد يجوز حذفها في بعض الكلام وبالكلام إليها حاجة ، لدلالة ما
يظهر من الكلام عليها. فأما أن تكون في الكلام لغير معنى أفادته بدخولها ، فذلك قد
بيَّنا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون فيما صحّ من الكلام. (3)
ومعنى دخولها في قوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، للتبعيض ، إذ كانت
الجوارح تمسك على أصحابها ما أحل الله لهم لحومه ، وحرَّم عليهم فَرْثه ودمَه ،
فقال جل ثناؤه : " فكلوا " مما أمسكتْ عليكم جوارحكم (4) الطيبات التي
أحللت
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " حذف من من برد " ، والصواب زيادة "
من " الثالثة كما أثبتها.
(2) " المفسر " : المميز. و " التفسير " : التمييز. وانظر
فهارس المصطلحات.
(3) انظر المواضع السالفة التي أشرنا إليها في التعليق : 2 ، ص 569.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " مما أمسكن عليكم جوارحكم " ، والصواب
الجيد ما أثبت ، إنما خلط النساخ بين (النون) ، و " التاء " .
(9/570)
لكم من لحومها ، دون ما حرمت عليكم من
خبائثه من الفرث والدم وما أشبه ذلك ، مما لم أطيبه لكم. فذلك معنى دخول " من
" في ذلك.
وأما قوله : ( وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ) ، فقد بينا وجه دخولها
فيه فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته. (1)
وأما دخولها في قوله : ( وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ ) ، فسنبينه إذا
أتينا عليه إن شاء الله. (2) .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : (واذكروا اسم الله عليه) (3) على ما أمسكت
عليكم جوارحكم من الصيد. كما : -
11218 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " واذكروا اسم الله عليه " ، يقول : إذا أرسلت جوارحك فقل :
" بسم الله " ، وإن نسيت فلا حَرَج.
11219 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "
واذكروا اسم الله عليه " ، قال : إذا أرسلته فسَمِّ عليه حين ترسله على
الصيد.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 5 : 586 ، والمواضع الأخرى في التعليق السالف ص : 569 ، رقم : 2.
(2) انظر ج 18 : 118 ، 119 (بولاق) من هذا التفسير ، ولم يف أبو جعفر بما وعد ،
فلم يبينه بيانًا كافيًا حيث أشار إليه. وقد كان في المطبوعة هنا : " إن شاء
الله تعالى " . وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " واذكروا اسم الله على ما أمسكت... "
والصواب إثبات " عليه " من تمام الآية ، وما بعده تفسير قوله : "
عليه " .
(9/571)
القول في تأويل قوله : { وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : واتقوا الله ، أيها الناس ، فيما أمركم به وفيما
نهاكم عنه ، فاحذروه في ذلك أن تقدموا على خلافه ، وأن تأكلوا من صيد الجوارح غير
المعلَّمة ، أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على أنفسها ، أو تطعَمُوا ما
لم يسمَّ الله عليه من الصيد والذبائح مما صادَه أهل الأوثان وعبدة الأصنام ومن لم
يوحِّد الله من خلقه ، أو ذبحوه ، فإن الله قد حرَّم ذلك عليكم فاجتنبوه.
ثم خوَّفهم إن هم فعلوا ما نهاهم عنه من ذلك ومن غيره. فقال : اعلموا أن الله
سريعٌ حسابه لمن حاسبه على نِعَمه عليه منكم (1) وشكرِ الشاكر منكم ربَّه على ما
أنعم به عليه بطاعته إياه فيما أمر ونهى ، لأنه حافظ لجميع ذلك فيكم ، فيحيط به ،
لا يخفى عليه منه شيء ، فيجازي المطيعَ منكم بطاعته ، والعاصيَ بمعصيته ، وقد
بيَّن لكم جزاء الفريقين. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " اليوم أحل لكم الطيبات " ،
اليوم أحل لكم ، أيها المؤمنون ، الحلالُ من الذبائح والمطاعم دون الخبائث منها.
وقوله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم " ، وذبائحُ أهل الكتاب من
__________
(1) في المطبوعة : " على نعمته... " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " سريع الحساب " فيما سلف 7 : 501 ، تعليق : 3 ،
والمراجع هناك.
(9/572)
اليهود والنصارى وهم الذين أوتوا
التوراة والإنجيل وأنزل عليهم ، فدانُوا بهما أو بأحدهما " حل لكم " (1)
يقول : حلالٌ لكم ، أكله دون ذبائح سائر أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من مشركي
العرب وعبدة الأوثان والأصنام. فإن من لم يكن منهم مِمَّن أقرَّ بتوحيد الله عزَّ
ذكره ودان دين أهل الكتاب ، فحرام عليكم ذبائحهم.
* * *
ثم اختلف فيمن عنى الله عز ذكره بقوله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب " ،
من أهل الكتاب.
فقال بعضهم : عنى الله بذلك ذبيحة كل كتابي ممن أنزل عليه التوراة والإنجيل ، أو
ممن دخل في مِلَّتهم فدان دينهم ، وحرَّم ما حرَّموا ، وحلَّل ما حللوا ، منهم ومن
غيرهم من سائر أجناس الأمم.
*ذكر من قال ذلك :
11220 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد قال ،
حدثنا خصيف قال ، حدثنا عكرمة قال ، سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب ، فقرأ
هذه الآية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ ) إلى
قوله : ( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) ، الآية [سورة
المائدة : 51] . (2)
11221 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان : عن عاصم
الأحول ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله.
11222 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن عثمة قال ، حدثنا سعيد بن بشر ، عن قتادة
، عن الحسن وعكرمة : أنهما كانا لا يريان بأسًا بذبائح نصارى
__________
(1) انظر تفسير " حل " و " حلال " فيما سلف 3 : 300 ، 487.
(2) الأثر : 11220 - هذا الأثر مؤخر بعد الذي يليه في المخطوطة ، فلا أدري أهو
مؤخر ، أم سقط قبل الأثر رقم 11221 ، أثر آخر ، فاجتهد ناشر الكتاب أو ناسخ سابق ،
فقدم وأخر.
(9/573)
بني تغلب ، وبتزوُّج نسائهم ، ويتلوان
: ( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ).
11223 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن
وسعيد بن المسيب : أنهما كانا لا يريان بأسًا بذبيحة نصارى بني تغلب.
11224 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ،
عن الشعبي : أنه كان لا يرى بأسًا بذبائح نصارى بني تغلب ، وقرأ : ( وَمَا كَانَ
رَبُّكَ نَسِيًّا ) ، [سورة مريم : 64].
11225 - حدثني ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج
قال ، حدثني ابن شهاب عن ذبيحة نصارى العرب ، قال. تؤكل من أجل أنهم في الدين أهلُ
كتاب ، ويذكرون اسمَ الله.
11226 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا ابن جريج قال
، قال عطاء : إنما يقرُّون بدين ذلك الكتاب. (1)
11227 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا شعبة قال : سألت
الحكم وحمادًا وقتادة عن ذبائح نصارى بني تغلب ، فقالوا : لا بأس بها. قال : وقرأ
الحكم : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ ) ،
[سورة البقرة : 78].
11228 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ،
عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كلوا من ذبائح بني تغلب ، وتزوَّجوا من نسائهم ، فإن
الله قال في كتابه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) [سورة المائدة : 51] ، فلو لم يكونوا منهم إلا
بالولاية ، لكانوا منهم.
__________
(1) في المطبوعة : " إنما يقرأون ذلك الكتاب " ، وفي المخطوطة : "
إنما يقرون بين ذلك " ورأيت أن صواب قراءتها كما أثبت ، أي : أنهم يدينون
بدين ذلك الكتاب.
(9/574)
11229 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال
، حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة : أن الحسن كان لا يرى بأسًا
بذبائح نصارى بني تغلب ، وكان يقول : انتحلوا دينًا ، فذاك دينهم.
* * *
وقال آخرون : إنما عنى بالذين أوتوا الكتاب في هذه الآية ، الذين أنزل عليهم
التوراة والإنجيل من بني إسرائيل وأبنائهم ، فأما من كان دخيلا فيهم من سائر الأمم
ممن دان بدينهم وهم من غير بني إسرائيل ، فلم يعن بهذه الآية ، وليس هو ممن يحل
أكل ذبائحه ، لأنه ليس ممن أوتي الكتاب من قَبْل المسلمين. وهذا قول كان محمد بن
إدريس الشافعي يقوله حدثنا بذلك عنه الربيع ويتأول في ذلك قول من كره ذبائح نصارى
العرب من الصحابة والتابعين. (1)
* * *
ذكر من حرَّم ذبائح نصارى العرب.
11230 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، عن
عبيدة قال ، قال علي رضوان الله عليه : لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب ، فإنهم
إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر. (2)
11231 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن
عبيدة ، عن علي قال : لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب ، فإنهم لم يتمسكوا بشيء من
النصرانية إلا بشرب الخمر.
11232 - حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا عبد الله بن بكر قال ، حدثنا هشام ، عن
محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : سألت عليًّا عن ذبائح نصارى العرب ، فقال : لا
تؤكل ذبائحهم ، فإنهم لم يتعلَّقوا من دينهم إلا بشرب الخمر.
11233 - حدثني علي بن سعيد الكندي قال ، حدثنا علي بن عابس ،
__________
(1) انظر الأم 2 : 196.
(2) الأثر : 11230 - رواه الشافعي في الأم 2 : 196 ، والبيهقي في السنن 9 : 284 ،
وأشار إليه الحافظ ابن حجر في (الفتح 9 : 549) ، وقال : " أخرجه الشافعي وعبد
الرزاق بأسانيد صحيحة " .
(9/575)
عن عطاء بن السائب ، عن أبي البختري
قال : نهانا عليٌّ عن ذبائح نصارى العرب. (1)
11234 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي
حمزة القصاب قال : سمعت محمد بن علي يحدث ، عن علي : أنه كان يكره ذبائح نصارى بني
تغلب.
11235 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس قال ، لا تأكلوا ذبائح نصارى العرب ، وذبائح نصارى أرْمينية.
* * *
قال أبو جعفر : وهذه الأخبار عن عليّ رضوان الله عليه ، إنما تدل على أنه كان ينهى
عن ذبائح نصارى بني تغلب ، من أجل أنهم ليسوا على النصرانية ، لتركهم تحليل ما
تحلِّل النصارى ، وتحريم ما تُحَرّم ، غير الخمر. ومن كان منتحلا (2) ملّة هو غير
متمسك منها بشيء فهو إلى البراءة منها أقرب منه إلى اللحاق بها وبأهلها. (3) فلذلك
نهى عليٌّ عن أكل ذبائح نصارى بني تغلب ، لا من أجل أنهم ليسوا من بني إسرائيل.
فإذ كان ذلك كذلك ، وكان إجماعًا من الحجة أن لا بأس بذبيحة كل نصرانيّ ويهوديّ
دان دين النصرانيّ أو اليهودي (4) فأحل ما أحلُّوا ، وحرَّم ما حرموا ،
__________
(1) الأثر : 11233 - " علي بن سعيد بن مسروق الكندي " ، مضى برقم : 1184
، 2784.
و " علي بن عابس الأسدي " ، ضعيف ، يعتبر به. مترجم في التهذيب.
و " أبو البختري " ، هو : " سعيد بن فيروز الطائي " مضى برقم
: 175 ، 1497.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " من كان منتحلا... " بغير واو في أوله
الكلام ، وهو فساد ، والصواب إثباتها.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " فهو إلى البراءة منها أقرب إلى اللحاق...
" ، بإسقاط " منه " ، وهو اختلال شديد ، والصواب إثباتها.
(4) في المطبوعة : " وكان إجماعًا من الحجة إحلال ذبيحة كل نصراني ويهودي
انتحل دين النصارى أو اليهودي ، فأحل... " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، فوضع
مكان ما حذف منها ما وضع. وكان في المخطوطة : " وكان إجماعًا من الحجة ألا
بأس فذبيحة كل نصراني ويهودي دان دين النصراني أو اليهودي " ، وظاهر أن صواب
قراءة صدر هذه الجملة هو ما أثبته ، وهو مطابق لما جاء في الآثار السالفة من 11222
- 11229.
(9/576)
من بني إسرائيل كان أو من غيرهم (1)
فبيِّنٌ خطأ ما قال الشافعي في ذلك ، وتأويله الذي تأوّله في قوله : " وطعام
الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم " ، أنه ذبائح الذين أوتوا الكتابَ التوراةَ
والإنجيلَ من بني إسرائيل (2) وصوابُ ما خالف تأويله ذلك ، وقولِ من قال : إن كل يهودي
ونصراني فحلال ذبيحتُه ، من أيِّ أجناس بني آدم كان.
* * *
وأمَّا " الطعام " الذي قال الله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب
" ، فإنه الذبائح.
* * *
وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك :
11236 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد :
" وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم " ، قال : الذبائح.
11237 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن
القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم
" ، قال : ذبائحهم.
11238 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ليث ،
عن مجاهد ، مثله.
11239 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن
مجاهد ، مثله.
11240 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي ، عن أبي سنان ، عن
ليث ، عن مجاهد ، مثله. (3)
__________
(1) السياق : وإذ كان ذلك كذلك ، وكان إجماعًا من الحجة... فبين خطأ ما قال
الشافعي...
(2) السياق : فبين خطأ ما قال الشافعي... وصواب ما خالف تأويله ذلك.
(3) الأثر : 11240 - " إسحق بن سليمان الرازي العبدي ، سلف برقم : 6456.
و " أبو سنان " هو : " سعيد بن سنان الشيباني " ، مضى برقم :
175.
(9/577)
11241 - حدثنا محمد بن عمرو قال ،
حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
11242 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، قال : ذبيحة أهل
الكتاب.
11243 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله
: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، قال : ذبائحهم.
11244 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن المغيرة ،
عن إبراهيم ، بمثله.
11245 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ،
مثله.
11246 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن
مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله.
11247 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان ، عن مغيرة ،
عن إبراهيم ، مثله.
11248 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، قال
: ذبائحهم.
11249 - حدثني المثنى قال ، حدثنا المعلى بن أسد قال ، حدثنا خالد ، عن يونس ، عن
الحسن ، مثله. (1)
__________
(1) الأثر : 11249 - " المعلى بن أسد العمي " الحافظ الثقة ، روى عنه
البخاري ، والباقون بالواسطة. مترجم في التهذيب ، ومضى غير مترجم برقم : 7232.
(9/578)
11250 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد
قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم
" ، أي : ذبائحهم.
11251 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، أما طعامهم ، فهو الذبائح.
11252 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد قال ، سمعت الضحاك
يقول في قوله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، قال : أحل الله
لنا طعامهم ونساءَهم.
11253 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : أما قوله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ،
فإنه أحلَّ لنا طعامهم ونساءهم.
11254 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سألته يعني ابن زيد (1) عما ذبح
للكنائس وسُمِّي عليها ، فقال : أحل الله لنا طعام أهل الكتاب ، ولم يستثن منه
شيئًا.
11255 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني معاوية ، عن أبي الزاهرية
حدير بن كريب ، عن أبي الأسود ، عن عُمَير بن الأسود : أنه سأل أبا الدرداء عن كبش
ذُبح لكنيسة يقال لها " جرجس " ، أهدوه لها ، أنأكل منه ؟ فقال أبو
الدرداء : اللهم عفوًا! إنما هم أهل كتاب ، طعامهم حلٌّ لنا ، وطعامنا حل لهم!
وأمره بأكله. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " يعني ابن يزيد " ، وهو خطأ ، محض ، وهو إسناد دائر
في التفسير.
(2) الأثر : 11255 - " معاوية " ، هو " معاوية بن صالح بن حدير
الحمصي الحضرمي " ، مضى برقم : 186 ، 187 ، 2072 ، 8472.
و " أبو الزاهرية " ، وهو " حدير بن كريب الحضرمي أو الحميري
" . روى عن حذيفة ، وأبي الدرداء ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وغيرهم من
الصحابة.روى عنه معاوية بن صالح ، وغيره. قال ابن سعد : " وكان ثقة إن شاء
الله ، كثير الحديث " . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/91.
وفي هذا الإسناد إشكال. فإن ظاهره أن أبا الزاهرية حدير بن كريب ، روى الأثر عن
" أبي الأسود ، عن عمير بن الأسود " ، وهذا محال. فإن أبا الزاهرية يروي
مباشرة عن أبي الدرداء. فأكبر ظني أن في أصول التفسير سقطًا أو خرمًا في هذا
الموضع ، وأن الإسناد انتهى عند قوله " حدير بن كريب " وسقط أثر حدير بن
كريب عن أبي الدرداء ، وبدأ إسناد آخر - لا ندري ما هو - ينتهي إلى أبي الأسود عن
عمير بن الأسود ، أنه سأل أبا الدرداء... إلخ. وسيظهر صواب ذلك فيما يأتي.
و " أبو الأسود " في هذا الإسناد التالي ، لم أعرف من يكون فيمن يكنى
بأبي الأسود.
وأما " عمير بن الأسود العنسي " ، فزعم ابن حجر ، أنه هو " عمرو بن
الأسود " وبذلك ترجم له في التهذيب (8 : 4) وأنهما رجل واحد ، وقال : روى عن
عمر ، وابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وعبادة بن الصامت ، وغيرهم من الصحابة. وقال
ابن أبي حاتم 3/1/375 : " عمير بن الأسود العنسي الشامي " ، سمع عبادة ،
وأبا الدرداء ، وأم حرام. روى عنه خالد بن معدان ، سمعت أبي يقول ذلك " .
وترجم أيضًا " عمرو بن الأسود القيسي " ، وقال : " روى عن عمر بن
الخطاب ، وابن مسعود ، وعبادة بن الصامت. روى عنه مجاهد ، وخالد بن معدان...
" ، ففرق تفريقًا ظاهرًا بين " عمرو بن الأسود القيسي " ، و "
عمير بن الأسود العنسي " .
وكذلك فعل ابن سعد في الطبقات 7/2/153 ، ففرق بينهما قال : " عمير بن الأسود
: سأل أبا الدرداء عن طعام أهل الكتاب. وروى عن معاذ بن جبل ، وكان قليل الحديث
ثقة " .
ثم عقد ترجمة أخرى : " وعمرو بن الأسود السكوني : روى عن عمر ومعاذ ، وله
أحاديث " .
فلا أدري من أين جعلهما الحافظ ابن حجر ، رجلا واحدًا!!
وقد ثبت بما رواه ابن سعد ، أن هذا الأثر ، إنما هو من حديث عمير بن الأسود ، أنه
سأل : أبا الدرداء ، وأنه حديث آخر ، غير حديث حدير بن كريب أبي الزاهرية.
هذا ، ولم أجد هذا الأثر - أو هذين الأثرين - في مكان آخر ، وقد أغفل ابن كثير
روايته في تفسيره ، وأغفله أيضًا السيوطي في الدر المنثور. وكتبه : محمود محمد
شاكر.
(9/579)
وأما قوله : " وطعامكم حل لهم
" ، فإنه يعني : ذبائحكم ، أيها المؤمنون ، حِلٌّ لأهل الكتاب.
* * *
(9/580)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
القول في تأويل قوله : {
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " والمحصنات من المؤمنات " ، أحل
لكم ، أيها المؤمنون ، المحصنات من المؤمنات وهن الحرائر منهن (1) أن تنكحوهن
" والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، يعني : والحرائر من
الذين أعطوا الكتاب (2) وهم اليهود والنصارى الذين دانوا بما في التوراة والإنجيل
من قبلكم ، أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم من العرب وسائر الناس ، أن
تنكحوهن أيضًا " إذا آتيتموهن أجورهن " ، يعني : إذا أعطيتم من نكحتم من
محصناتِكم ومحصناتهم (3) " أجورهن " ، وهي مهورُهن. (4)
* * *
واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي عناهن الله عز ذكره بقوله : "
والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " .
فقال بعضهم : عنى بذلك الحرائر خَاصة ، فاجرةً كانت أو عفيفةً. وأجاز قائلو هذه
المقالة نكاح الحرة ، مؤمنة كانت أو كتابية من اليهود والنصارى ، من أيِّ أجناس
الناس كانت (5) بعد أن تكون كتابية ، فاجرة كانت أو عفيفةً.
__________
(1) انظر تفسير " المحصنات " ، و " الإحصان " فيما سلف 8 :
151 - 169/ ثم 8 : 185 - 190.
(2) انظر تفسير " آتى " فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير " آتى " فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير " الأجور " فيما سلف من فهارس اللغة.
(5) في المطبوعة والمخطوطة : " من أي أجناس كانت " ، وزدت " الناس
" ، لأن السياق يقتضيها اقتضاء لا شك فيه. ولو قلت مكانها : " من أي
أجناس اليهود والنصارى كانت " ، لكان صوابا أيضًا.
(9/581)
وحرّموا إماء أهل الكتاب أن
يُتَزَوَّجن بكل حال (1) لأن الله جل ثناؤه شرطَ من نكاح الإماء الإيمانَ بقوله :
( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ) ، [سورة النساء : 25].
*ذكر من قال ذلك :
11256 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو داود ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب " ، قال : من الحرائر.
11257 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن
أبي نجيح ، عن مجاهد : " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ،
قال : من الحرائر.
11258 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن قيس بن
مسلم ، عن طارق بن شهاب : أن رجلا طلَّق امرأته وخُطِبَت إليه أخته ، وكانت قد
أحدثت ، فأتى عمر فذكر ذلك له منها ، فقال عمر : ما رأيت منها ؟ قال : ما رأيت
منها إلا خيرًا! فقال : زوِّجها ولا تُخْبِر.
11259 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد قال ، حدثنا سليمان
الشيباني قال ، حدثنا عامر قال : زنت امرأة منَّا من همدان ، قال : فجلدها
مُصَدِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحدَّ (2) ثم تابت. فأتوا عمر فقالوا :
__________
(1) في المطبوعة : " أن نتزوجهن " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) " المصدق " هو العامل على الصدقات ، يجمعها من أهلها.
(9/582)
نزوّجها ، وبئسَ ما كان من أمرها! قال
عمر : لئن بلغني أنكم ذكرتم شيئًا من ذلك ، لأعاقبنكم عقوبةً شديدة.
11260 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن قيس بن
مسلم ، عن طارق بن شهاب : أن رجلا أراد أن يزوِّج أخته ، فقالت : إني أخشى أن
أفضَح أبي ، فقد بَغَيْتُ! فأتى عمر ، فقال : أليس قد تابت ؟ قال : بلى! قال :
فزوّجها.
11261 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة ، عن إسماعيل بن
أبي خالد ، عن الشعبي : أن نُبَيْشة ، امرأةً من همدان ، بغتْ ، فأرادت أن تذبح
نفسها ، قال : فأدركوها ، فداووها فبرئت ، فذكروا ذلك لعمر ، فقال : انكحوها نكاحَ
العفيفة المسلمة.
11262 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عامر : أن
رجلا من أهل اليمن أصابت أختُه فاحشة ، فأمرَّت الشَّفرة على أوداجها ، فَأُدْرِكت
، فدُووِي جُرْحها حتى برئت. ثم إن عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة ، فقرأت
القرآن ونَسَكت ، حتى كانت من أنسك نسائهم. فخطبت إلى عمها ، وكان يكره أن
يدلِّسها ، ويكره أن يفشي على ابنة أخيه ، فأتى عمر فذكر ذلك له ، فقال عمر : لو
أفشيت عليها لعاقبتك! إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوّجها إيّاه.
11263 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود ، عن عامر : أن
جارية باليمن يقال لها : " نبيشة " ، أصابت فاحشة ، فذكر نحوه.
11264 - حدثنا تميم بن المنتصر قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا إسماعيل ، عن عامر
قال : أتى رجل عمر فقال : إن ابنةً لي كانت وُئِدت في الجاهلية ، فاستخرجتها قبل
أن تموت ، فأدركت الإسلام ، فلما أسلمت أصابت حدًّا من
(9/583)
حدود الله ، فعمدتْ إلى الشفرة لتذبح
بها نفسها ، فأدركتها وقد قطعت بعض أوداجها ، فداويتها حتى برئت ، ثم إنها أقبلت
بتوبة حسنة ، فهي تخطب إلَيّ يا أمير المؤمنين ، فأخبر من شأنها بالذي كان ؟ فقال
عمر : أتخبر بشأنها ؟ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه! والله لئن أخبرت بشأنها أحدًا
من الناس لأجعلنك نَكالا لأهل الأمصار ، بل أنكحها بنكاحِ العفيفة المسلمة. (1)
11265 - حدثنا أحمد بن منيع قال ، حدثنا مروان ، عن إسماعيل ، عن الشعبي قال : جاء
رجل إلى عمر ، فذكر نحوه.
11266 - حدثنا مجاهد قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن أبي الزبير
: أن رجلا خطب من رجل أخته ، فأخبره أنها قد أحدثتْ. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ،
فضرب الرجل وقال : ما لك والخبر! أنكح واسكُت. (2)
11267 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا سليمان بن حرب قال ، حدثنا أبو هلال ، عن
قتادة ، عن الحسن قال : قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن لا أدع أحدًا أصابَ فاحشة
في الإسلام أن يتزوج مُحْصنة! فقال له أبيّ بن كعب : يا أمير المؤمنين ، الشرك
أعظم من ذلك ، وقد يقبل منه إذا تاب!
* * *
وقال آخرون : إنما عنى الله بقوله : " والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، العفائفَ من الفريقين ، إماءً كنَّ أو
حرائر. فأجاز قائلو هذه المقالة نكاحَ إماء أهل الكتاب الدائنات دينَهم بهذه الآية
،
__________
(1) " الأوداج " جمع " ودج " (بفتحتين) : وهو عرق متصل من
الرأس إلى النحر ، والأوداج : عروق تكتنف الحلقوم.
(2) هذه الأخبار السالفة ، أدب من آداب هذا الدين عظيم ، وهدي من هدي أهل الإيمان
، أمروا به ، ومضوا عليه. حتى خلفت من بعدهم الخلوف ، فجهلوا أمر دينهم ، وغالوا
غلوا فاحشًا في استبشاع زلة من زل من أهل الإيمان ، فقتل الرجل منهم بنته وأخته
ومن له عليها الولاية. وما فعلوا ذلك ، إلا بعد أن فارقوا جادة الإيمان في سائر ما
أمرهم الله به ، فاستمسكوا بالغلو الفاحش ، وظنوا ذلك من تمام ديانتهم ومروءتهم.
وهذا دليل على أن كل تفريط في الدين ، يقابله في الجانب الآخر غلو في التدين بغير
دين! ورحم الله عمر بن الخطاب ، ما كان أبصره بالناس وأرحمه بهم.
(9/584)
وحرَّموا البغايا من المؤمنات وأهل
الكتاب.
*ذكر من قال ذلك :
11268 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله :
" والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، قال : العفائف.
11269 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله.
11270 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن مطرف ، عن عامر : "
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، قال : إحصان اليهودية
والنصرانية : أن لا تزني ، وأن تغتَسِل من الجنابة.
11271 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن عامر : "
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، قال : إحصان اليهودية
والنصرانية : أن تغتسل من الجنابة ، وأن تحصن فرجَها.
11272 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن مطرف ، عن رجل ، عن
الشعبي في قوله : " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، قال :
إحصان اليهودية والنصرانية : أن لا تزني ، وأن تغتسل من الجنابة.
11273 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن مطرف ، عن
الشعبي في قوله : " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، قال :
إحصانها : أن تغتسل من الجنابة ، وأن تحصن فرجها من الزنا.
11274 - حدثني المثنى قال ، حدثنا معلى بن أسد قال ، حدثنا خالد ، قال ، أخبرنا
مطرف ، عن عامر ، بنحوه.
11275 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك قال : سمعت سفيان
يقول في قوله : (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) ، قال : العفائف.
(9/585)
11276 - حدثنا محمد بن الحسين قال ،
حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " والمحصنات من المؤمنات
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، قال : أما " المحصنات
" ، فهنّ العفائف.
11277 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة :
أن امرأة اتخذت مملوكها (1) وقالت : تأوّلت كتابَ الله : " وما ملكت أيمانكم
" ، قال : فأتى بها عمر بن الخطاب ، فقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم : تأوّلت آية من كتاب الله على غير وجهها. قال فغَرَّب العبد وجزَّ
رأسه. (2) وقال : أنتِ بعده حرام على كل مسلم.
11278 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن
إبراهيم أنه قال : في التي تزني قبل أن يُدْخل بها (3) قال : ليس لها صداق ،
ويفرَّق بينهما.
11279 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا أشعث ، عن الشعبي ، في
البكر تفجُر (4) قال : تضرب مئة سوط ، وتنفى سنة ، وترُدّ على زوجها ما أخذت منه.
11280 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا أشعث ، عن أبي الزبير ،
عن جابر ، مثل ذلك.
11281 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا أشعث عن الحسن ، مثل
ذلك.
__________
(1) قوله : " اتخذت مملوكها " ، أي أمكنته من نفسها ، وتسرت به كأنه زوج
لها.
(2) في المطبوعة : " فقرب العبد " بالقاف ، وهو في المخطوطة كما أثبته
غير منقوط ، وصواب قراءته ما أثبت. و " التغريب " : النفي. و " جز
رأسه " : أي قص شعره. ولم يرد القتل.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " تسرى قبل أن يدخل بها " ، وكأن الصواب ما
أثبت. انظر الأثر التالي.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " في البكر تهجر " ، ولا معنى لذلك ،
والصواب ما أثبت.
(9/586)
11282 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ،
حدثنا ابن علية ، عن يونس : أن الحسن كان يقول : إذا رأى الرجل من امرأته فاحشةً
فاستيقن ، فإنه لا يمسكها.
11283 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي ميسرة قال : مملوكات
أهل الكتاب بمنزلة حرائرهم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في حكم قوله عز ذكره : " والمحصنات من الذين أوتوا
الكتاب من قبلكم " ، أعام أم خاصٌّ ؟
فقال بعضهم : هو عامٌّ في العفائف منهن ، لأن " المحصنات " ، العفائف.
وللمسلم أن يتزوج كل حرة وأمة كتابيةٍ ، حربيةً كانت أو ذميَّةً.
واعتلُّوا في ذلك بظاهر قوله تعالى : " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم " ، وأن المعنيَّ بهن العفائف ، كائنة من كانت منهن. وهذا قول من قال :
عني بـ " المحصنات " في هذا الموضع : العفائف.
* * *
وقال آخرون : بل اللواتي عنى بقوله جل ثناؤه : " والمحصنات من الذين أوتوا
الكتاب من قبلكم " ، الحرائرَ منهن ، والآية عامة في جميعهن. فنكاح جميع الحرائر
اليهود والنصارى جائز ، حربيّات كنّ أو ذميات ، من أيِّ أجناس اليهود والنصارى
كنَّ. وهذا قول جماعة من المتقدمين والمتأخرين.
*ذكر من قال ذلك :
11284 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد
بن المسيب والحسن : أنهما كانا لا يريان بأسًا بنكاح نساء اليهود والنصارى ، وقالا
أحلَّه الله على علم.
* * *
وقال آخرون منهم : بل عنى بذلك نكاحَ بني إسرائيل الكتابياتِ منهن
(9/587)
خاصة ، دون سائر أجناس الأمم الذين
دانوا باليهودية والنصرانية. وذلك قول الشافعي ومن قال بقوله. (1)
* * *
وقال آخرون : بل ذلك معنىٌّ به نساءُ أهل الكتاب الذين لهم من المسلمين ذمَّة
وعهدٌ. فأما أهل الحرب ، فإن نساءهم حرام على المسلمين.
*ذكر من قال ذلك :
11285 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا محمد بن عقبة ، قال ، حدثنا الفزاري ، عن
سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : من نساء أهل الكتاب من
يحلُّ لنا ، ومنهم من لا يحلُّ لنا ، ثم قرأ : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ) ، [سورة التوبة : 29]. فمن أعطى الجزية
حلَّ لنا نساؤه ، ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه قال الحكم : فذكرت ذلك
لإبراهيم ، فأعجبه. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قولُ من قال :
__________
(1) انظر الأم 5 : 6 قوله : " ولا يحل نكاح حرائر من دان من العرب دين
اليهودية والنصرانية ، لأن أصل دينهم كان الحنيفية ، ثم ضلوا بعبادة الأوثان ،
وإنما انتقلوا إلى دين أهل الكتاب بعده ، لا بأنهم كانوا الذين دانوا بالتوراة
والإنجيل فضلوا عنهما وأحدثوا فيها ، إنما ضلوا عن الحنيفية ، ولم يكونوا كذلك ،
لا تحل ذبائحهم ، وكذلك كل أعجمي كان أصل دين من مضى من آبائه عبادة الأوثان ، ولم
يكن من أهل الكتابين المشهورين التوراة والإنجيل ، فدان دينهم ، لم يحل نكاح
نسائهم " . وانظر سنن البيهقي 7 : 173.
(2) الأثر : 11285 - " محمد بن عقبة بن المغيرة الشيباني " ، " أبو
عبد الله الطحان " . روى عن أبي إسحق الفزاري ، وسوار بن مصعب ، وغيرهما. روى
عنه البخاري وأبو كريب وغيرهما. قال البخاري " معروف الحديث " ، وقال
أبو حاتم " ليس بالمشهور " ، وذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن حجر :
" وماله في البخاري سوى حديثين : أحدهما في الجمعة ، متابعة. والآخر في
الاعتصام ، مقرونًا " . مترجم في التهذيب ، والكبير 1/1/200.
و " الفزاري " ، هو " أبو إسحق الفزاري " : " إبراهيم بن
محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الفزاري " ، الإمام الثقة. مضى برقم :
3833.
و " سفيان بن حسين الواسطي " ، مضى برقم : 3471 ، 6462.
(9/588)
عنى بقوله : " والمحصنات من
المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، حرائرَ المؤمنين وأهل
الكتاب. لأن الله جل ثناؤه لم يأذن بنكاح الإماء الأحرارِ في الحال التي أباحهن لهم
، إلا أن يكنَّ مؤمنات ، فقال عز ذكره : ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا
أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) [سورة النساء : 25] ، فلم يبح منهن إلا
المؤمنات. فلو كان مرادًا بقوله : " والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من
الذين أوتوا الكتاب " ، العفائفَ ، لدخل العفائف من إمائهم في الإباحة ، وخرج
منها غير العفائف من حرائرهم وحرائر أهل الإيمان. وقد أحل الله لنا حرائر المؤمنات
، وإن كن قد أتين بفاحشة بقوله : ( وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ) [سورة النور : 32]. وقد دللنا
على فساد قول من قال : " لا يحلُّ نكاح من أتى الفاحشة من نساء المؤمنين وأهل
الكتاب للمؤمنين " ، في موضع غير هذا ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
(1)
فنكاح حرائر المسلمين وأهل الكتاب حلال للمؤمنين ، كن قد أتين بفاحشة أو لم يأتين
بفاحشة ، ذميةً كانت أو حربيّةً ، بعد أن تكون بموضع لا يخافُ الناكح فيه على ولده
أن يُجْبر على الكفر ، بظاهر قول الله جل وعز : " والمحصنات من المؤمنات
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " .
* * *
فأما قول الذي قال : " عنى بذلك نساء بني إسرائيل ، الكتابيّات منهن خاصة
" (2) فقول لا يوجب التشاغل بالبيان عنه ، لشذوذه والخروج عما عليه علماء
الأمة ، من تحليل نساء جميع اليهود والنصارى. وقد دللنا على فساد قول قائل
__________
(1) انظر ما سلف 8 : 189 ، 190.
(2) يعني قول الشافعي فيما سلف ص 587 ، 588 : تعليق : 1.
(9/589)
هذه المقالة من جهة القياس في غير هذا
الموضع بما فيه الكفاية ، فكرهنا إعادته. (1)
* * *
وأما قوله : " إذا آتيتموهن أجورهن " ، فإن " الأجر " : العوض
الذي يبذله الزوج للمرأة للاستمتاع بها ، وهو المهر. (2) كما : -
11286 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس في قوله : " آتيتموهن أجورهن " ، يعني : مهورهن.
* * *
القول في تأويل قوله : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي
أَخْدَانٍ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أحل لكم المحصنات من المؤمنات والمحصنات من
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، وأنتم محصنون غير مسافحين ولا متخذي أخدان.
ويعني بقوله جل ثناؤه : " محصنين " ، أعفَّاء " غير مسافحين "
، يعني : لا معالنين بالسفاح بكل فاجرة ، وهو الفجور " ولا متخذي أخدان
" ، يقول : ولا منفردين ببغيّة واحدة ، قد خادنها وخادنته ، واتخذها لنفسه
صديقة يفجر بها.
* * *
وقد بينا معنى " الإحصان " ووجوهه ومعنى " السفاح " و "
الخدن " في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع (3) وهو كما :
-
__________
(1) انظر ما سلف 4 : 362 - 369.
(2) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير " الإحصان " فيما سلف 8 : 151 - 169/ ثم 8 : 185 - 190
وتفسير " السفاح " فيما سلف 8 : 174 ، 175 ، 193 - 195 وتفسير "
الخدن " فيما سلف 8 : 193 - 195.
(9/590)
11287 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد
الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " محصنين غير مسافحين
" ، يعني : ينكحوهن بالمهر والبينة (1) غير مسافحين متعالنين بالزنا "
ولا متخذي أخدان " ، يعني : يسرُّون بالزنا.
11288 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : أحل الله
لنا محصنتين : محصنة مؤمنة ، ومحصنة من أهل الكتاب " ولا متخذي أخدان "
: ذات الخدان ، ذات الخليل الواحد.
11289 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن سليمان بن
المغيرة ، عن الحسن قال : سأله رجل : أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب ؟ قال :
ما له ولأهل الكتاب ، وقد أكثر الله المسلمات! فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها
حَصانًا غير مسافحة. قال الرجل : وما المسافحة ؟ قال : هي التي إذا لَمَح الرجل ،
إليها بعينه اتّبعته. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ
وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ومن يكفر بالإيمان " ، ومن يجحد
ما أمر الله بالتصديق به ، من توحيد الله ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء
به
__________
(1) " البينة " ، سلف ذكرها في الأثرين رقم 9002 ، 9008 (انظر 8 : 161 ،
تعليق : 1 ثم ص : 162 تعليق : 2). وقد بدا لي هنا أنه عنى بقوله " البينة
" ، إعلان النكاح. فراجع ما كتبته هناك ، فإني في شك من ذلك كله.
(2) الأثر : 11289 - " سليمان بن المغيرة القيسي " ، " أبو سعيد
البصري " ، روى عن أبيه ، وثابت البناني ، والحسن ، وابن سيرين ، وغيرهم. روى
عنه الثوري وشعبة ، وماتا قبله ، ثم جماعة كثيرة من الثقات ، من ثقات أهل البصرة.
مترجم في التهذيب.
(9/591)
من عند الله وهو " الإيمان "
، الذي قال الله جل ثناؤه : " ومن يكفر بالإيمان فقد حَبِطَ عمله " يقول
: فقد بَطل ثواب عمله الذي كان يعمله في الدنيا ، يرجو أن يدرك به منزلة عند الله.
(1) " وهو في الآخرة من الخاسرين " ، يقول : وهو في الآخرة من الهالكين
، الذين غَبَنوا أنفسَهم حظوظها من ثواب الله بكفرهم بمحمد ، وعملهم بغير طاعة
الله. (2)
* * *
وقد ذكر أن قوله : " ومن يكفر بالإيمان " ، عنى به أهل الكتاب ، وأنه
أنزل على رسول الله صلى عليه وسلم من أجل قوم تحرَّجوا نكاح نساءِ أهل الكتاب لما
قيل لهم : " أحِل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم وطعامكم حل
لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " .
*ذكر من قال ذلك :
11290 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن
ناسًا من المسلمين قالوا : كيف نتزوّج نساءهم يعني : نساء أهل الكتاب وهم على غير
ديننا ؟ فأنزل الله عز ذكره : " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في
الآخرة من الخاسرين " ، فأحل الله تزويجهن على علم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل " الإيمان " قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك.
11291 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ،
عن عطاء : " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله " ، قال : " الله
" ، الإيمان. (3)
__________
(1) انظر تفسير " حبط " فيما سلف 4 : 317/6 : 287.
(2) انظر تفسير " الخاسر " ، و " الخسران " فيما سلف 9 : 224
، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة : " قال : بالإيمان ، بالله " ، غير ما في المخطوطة ،
وهو صواب.
(9/592)
11292 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
يحيى بن يمان ، عن واصل ، عن عطاء : " ومن يكفر بالإيمان " ، قال :
" الإيمان " ، التوحيد.
11293 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد :
" ومن يكفر بالإيمان " ، قال : بالله.
11294 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ،
مثله.
11295 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن
القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله
" ، قال : من يكفر بالله.
11296 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : " ومن يكفر بالإيمان " ، قال : من يكفر بالله.
11297 - حدثنا محمد قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : " ومن يكفر بالإيمان " ، قال : الكفر بالله.
11298 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة. قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
11299 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله " ، قال : أخبر الله
سبحانه أن " الإيمان " هو العروة الوثقى ، وأنه لا يقبل عملا إلا به ،
ولا يحرِّم الجنة إلا على من تركه.
* * *
فإن قال لنا قائل : وما وجه تأويل مَنْ وجَّه قوله : " ومن يكفر بالإيمان
" ، إلى معنى : ومن يكفر بالله ؟
(9/593)
قيل : وجه تأويله ذلك كذلك ، أن "
الإيمان " هو التصديق بالله وبرسله وما ابتعثهم به من دينه ، و " الكفر
" جحود ذلك. قالوا : فمعنى " الكفر بالإيمان " ، هو جحود الله
وجحود توحيده. ففسروا معنى الكلمة بما أريد بها ، وأعرضوا عن تفسير الكلمة على حقيقة
ألفاظها وظاهرها في التلاوة.
فإن قال قائل : فما تأويلها على ظاهرها وحقيقة ألفاظها ؟
قيل : تأويلها : ومن يأبَ الإيمان بالله ، ويمتنع من توحيده والطاعة له فيما أمره
به ونهاه عنه ، فقد حبط عمله. وذلك أن " الكفر " هو الجحود في كلام
العرب ، و " الإيمان " التصديق والإقرار. ومن أبى التصديق بتوحيد الله
والإقرار به ، فهو من الكافرين (1) فذلك تأويل الكلام على وجهه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الكفر " و " الإيمان " في فهارس اللغة.
(9/594)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
القول في تأويل قوله عز ذكره : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ،
وأنتم على غير طهر الصلاة ، فاغسلوا وجوهكم بالماء ، وأيديكم إلى المرافق.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في قوله : " إذا قمتم إلى الصلاة " ، أمرادٌ به
كلَّ حال قام إليها ، أو بعضها ؟ وأيّ أحوال القيام إليها ؟
فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه ، من أنه معنيٌّ به بعضُ أحوال القيام إليها
دون كل الأحوال ، وأنّ الحال التي عُني بها ، حالُ القيام إليها على غير طُهْر.
ذكر من قال ذلك :
11300 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا عبيد الله قال : سئل
عكرمة عن قول الله : " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى
المرافق " ، فكلَّ ساعة يتوضأ ؟ فقال : قال ابن عباس : لا وضوء إلا من
حَدَثٍ.
11301 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت
مسعود بن علي الشيباني قال ، سمعت عكرمة قال : كان
(10/7)
سعد بن أبي وقاص يُصلِّي الصلوات
بوضوءٍ واحد. (1)
11302 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا سفيان بن حبيب ، عن مسعود بن علي ، عن
عكرمة قال : كان سعد بن أبي وقاص يقول : صلّ بطهورك ما لم تحدث. (2)
11303 - حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال : أخبرنا سليم بن أخضر قال ، أخبرنا ابن عون
، عن محمد قال : قلت لعبيدة السلماني : ما يوجب الوضوء ؟ قال : الحدَث.
11304 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن
واقع بن سحبان ، عن يزيد بن طريف أو : طريف بن يزيد : أنهم كانوا مع أبي موسى على
شاطئ دجلة ، فتوضأوا فصلوا الظهر ، فلما نودي بالعصر ، قام رجال يتوضأون من دجلة ،
فقال : إنه لا وضوء إلا على من أحدث.
11305 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن طريف
بن زياد أو : زياد بن طريف عن واقع بن سحبان : أنه شهد أبا موسى صلى بأصحابه الظهر
، ثم جلسوا حِلَقًا على شاطئ دجلة ، فنودي بالعصر ، فقام رجال يتوضأون ، فقال أبو
موسى : لا وضوء إلا على من أحدث.
__________
(1) الأثر : 11301 - " مسعود بن على الشيباني " ، قال البخاري : "
سمع عكرمة ، مرسل. روى عنه يحيى القطان وقال : لم يكن به بأس " . وقال ابن
أبي حاتم : " روى عنه شعبة ، ويحيى بن سعيد القطان " . الكبير للبخاري
4/ 1 / 423 ، وابن أبي حاتم : 4 / 1 / 283. وسيأتي في الأثر التالي.
وفي الأثرين رقم : 11322 ، 11323. وفي الأثر التالي . والأثر : 11322 ، أنه قد روى
عنه " سفيان بن حبيب " . وانظر التعليق على الأثر التالي.
(2) الأثر : 11302 - " سفيان بن حبيب البصري " ، كان عالما بحديث شعبة
وابن أبي عروبة. مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/91 ، وابن أبي حاتم 2/1/228 ، ولم
يذكر في ترجمته أنه روى عن " مسعود بن علي الشيباني " . وخبر مسعود هذا
من رواية شعبة ، كما مر في الأثر السالف ، فأخشى أن يكون إسناده " سفيان بن
حبيب ، عن شعبة ، عن مسعود بن علي " .
وانظر التعليق على الأثر السالف ، وتعليق الأثر الآتي : 11322.
(10/8)
11306 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى
قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت قتادة يحدث ، عن واقع بن
سحبان ، عن طريف بن يزيد أو : يزيد بن طريف قال : كنت مع أبي موسى بشاطئ دجلة ،
فذكر نحوه.
11307 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا
شعبة ، عن قتادة ، عن واقع بن سحبان ، عن طريف بن يزيد أو : يزيد بن طريف ، عن أبي
موسى ، مثله. (1)
11308 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا أبو خالد قال ،
توضأت عند أبي العالية الظهرَ أو العصر ، فقلت : أصلي بوضوئي هذا ، فإني لا أرجع
إلى أهلي إلى العَتَمة ؟ قال أبو العالية : لا حرج. وعلّمنا :
__________
(1) الآثار 11304 - 11307 - أربعة أسانيد لخبر واحد ، اتفقت ثلاثة منها في الراوي
عن أبي موسى ، وهو " طريف بن يزيد " ، على ما في اسمه من الاختلاف ،
وانفرد رقم : 11305 ، فجعل الراوي عن أبي موسى هو " واقع بن سحبان " ،
وكأنه إسناد مقلوب ، إذ جعل الراوي عن أبي موسى هو الراوي عن " طريف بن يزيد
" في الأسانيد الثلاثة الأخرى.
وأما " واقع بن سحبان " ، فقد ترجم له البخاري في الكبير 4/2/189 ، وقال
: " يعد في البصريين ، أبو عقيل. روى عنه قتادة ، وثابت البناني " ، ولم
يزد. وأما ابن أبي حاتم 4/2/49 ، فإنه قال : " روى عن أسير بن جابر. روى عنه
قتادة ، وثابت البناني ، وحميد الطويل. وكان ابن المبارك يقول : " واقع بن سحبا
" ، بغير نون ، ولا يقول : سحبان. سمعت أبي يقول ذلك " .
وأما " طريف بن يزيد الحنفي " ، فقد ترجم له في لسان الميزان 3 : 209 ،
والبخاري في الكبير 2/2/358 ، لم يزد على أن قال : " طريف بن يزيد الحنفي ،
عن أبي موسى " . وترجم له ابن أبي حاتم 2/1/493 ، وفي ترجمته بياض مكانه نقط
، قال : " روى عن أبي موسى ، روى عنه... سمعت أبي يقول : هما مجهولان "
. وقال الحافظ في لسان الميزان : " طريف بن يزيد ، عن أبي موسى " مجهول
، وكذا شيخه. انتهى.
وذكره ابن حبان في الثقات في التابعي ، فقال : الحنفي ، روى عنه أهل اليمامة.
فمقتضى ذكره في التابعين ، أن يكون شيخه أبو موسى ، هو الأشعري.
وليس في كتاب ابن أبي حاتم أن شيخ طريف " مجهول " . واعتراض ابن حجر
صحيح ، فإن المجهول هو الراوي عن طريف ، لا شيخه.
ولم يذكر في سائر الكتب الاختلاف في اسمه " يزيد بن طريف " ، أو "
طريف بن زياد " أو " زياد بن طريف " ، فهذه مما أفادها تفسير أبي
جعفر.
وقد تبين من كتب التراجم أن الإسناد : 11305 ، مقلوب لا شك فيه.
(10/9)
إذا توضأ الإنسان فهو في وضوئه حتى
يحدث حدثا.
11309 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا ابن هلال ، عن قتادة ،
عن سعيد بن المسيب قال : الوضوء من غير حدث اعتداء. (1)
11310 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو داود ، قال حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ،
عن سعيد ، مثله. (2)
11311 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش قال : رأيت إبراهيم
صلَّى بوضوء واحد ، الظهرَ والعصرَ والمغربَ.
11312 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عثام قال ، حدثنا الأعمش قال : كنت مع يحيى ،
فأصلّي الصلوات بوضوء واحد. قال : وإبراهيم مثل ذلك.
11313 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا يزيد بن
إبراهيم قال : سمعت الحسن سئل عن الرجل يتوضأ فيصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ،
فقال : لا بأس به ما لم يُحْدث.
11314 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد ، عن الضحاك ،
قال : يصلِّي الصلوات بالوضوء الواحد ما لم يحدث.
11315 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا زائدة ، عن الأعمش ،
عن عمارة قال : كان الأسود يصلي الصلوات بوضوء واحد. (3)
11316 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ،
__________
(1) الأثر : 11309 ، 11310 - هذان الأثران ، ذكرهما ابن كثير في تفسيره 3 : 84 قال
: " وأما ما رواه أبو داود الطيالسي ، عن أبي هلال ، عن قتادة ، عن سعيد بن
المسيب أنه قال : الوضوء من غير حدث اعتداء فهو غريب عن سعيد بن المسيب ، ثم هو
محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد. وأما مشروعيته استحبابا ، فقد دلت السنة
على ذلك " .
(2) الأثر : 11309 ، 11310 - هذان الأثران ، ذكرهما ابن كثير في تفسيره 3 : 84 قال
: " وأما ما رواه أبو داود الطيالسي ، عن أبي هلال ، عن قتادة ، عن سعيد بن
المسيب أنه قال : الوضوء من غير حدث اعتداء فهو غريب عن سعيد بن المسيب ، ثم هو
محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد. وأما مشروعيته استحبابا ، فقد دلت السنة على
ذلك " .
(3) الأثر : 11315 - " الأعمش " هو : " سليمان بن مهران " ،
مضى مرارا كثيرة.
و " عمارة " ، هو : " عمارة بن عمير التيمي " ، مضى برقم :
3294 ، 5789.
و " الأسود " هو : " الأسود بن يزيد النخعي " ، مضى برقم :
3299 ، 4888 ، 8267.
(10/10)
عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا
إذا قمتم إلى الصلاة " يقول : قمتم وأنتم على غير طهر.
11317 - حدثنا أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة ، عن
الأسود : أنه كان له قَعبٌ قدرَ رِيِّ رجل (1) ، فكان يتوضأ ثم يصلي بوضوئه ذلك
الصلوات كلها.
11318 - حدثنا محمد بن عباد بن موسى قال ، أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل
البكائي قال ، حدثنا الفضل بن المبشر قال : رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات
بوضوء واحد ، فإذا بال أو أحدثَ ، توضأ ومسح بفضل طَهوره الخفين. فقلت : أبا عبد
الله ، أشيء تصنعه برأيك ؟ قال : بل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه ،
فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. (2)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة.
ذكر من قال ذلك :
11319 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني من سمع مالك بن أنس ،
__________
(1) " القعب " : قدح صغير من خشب مقعر ، وهو يروي الرجل.
(2) الأثر : 11318 - " محمد بن عباد بن موسى الختلي " ، شيخ الطبري. روى
عن هشام بن محمد الكلبي ، والوليد بن صالح ، روى عنه أبو بكر بن أبي الدنيا. مترجم
في ابن أبي حاتم 4/1/15. روى عنه أبو جعفر في التاريخ 6 : 21.
و " زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي " . قال أحمد : " ليس به
بأس ، حديثه حديث أهل الصدق " . وقال وكيع : " هو أشرف من أن يكذب
" . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/329.
و " الفضل بن المبشر الأنصاري " ، سمع جابر بن عبد الله ، وسالم بن عبد
الله بن عمر.
قال ابن معين : " ضعيف " ، وقال ابن عدي : " عامة أحاديثه لا يتابع
عليها " . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/114 ، وابن أبي حاتم 3/2/66.
والحديث رواه ابن ماجه 1 : 170 رقم : 511 ، عن إسمعيل بن توبة ، عن زياد بن عبد
الله ، به. وانظر ابن كثير في تفسيره 3 : 83.
(10/11)
يحدث عن زيد بن أسلم ، قوله : "
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " قال : يعني : إذا قمتم من النوم.
11320 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب : أن مالك بن أنس أخبره عن زيد بن أسلم ،
بمثله. (1)
11321 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " قال فقال ، قمتم
إلى الصلاة من النوم.
* * *
وقال آخرون : بل ذلك معنيٌّ به كل حال قيام المرء إلى صلاته ، أن يجدِّد لها
طُهرًا.
ذكر من قال ذلك :
11322 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا سفيان بن حبيب ، عن مسعود بن علي قال ،
سألت عكرمة ، قال قلت : يا أبا عبد الله ، أتوضأ لصلاة الغداة ، ثم آتي السوق
فتحضر صلاة الظهر ، فأصلي ؟ قال : كان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه يقول :
" يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى
المرافق " . (2)
11323 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ،
سمعت مسعود بن علي الشيباني قال ، سمعت عكرمة يقول : كان علي رضي الله عنه يتوضأ
عند كل صلاة ، ويقرأ هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم
__________
(1) الأثران : 11319 ، 11320 - انظر الموطأ ص : 21.
(2) الأثر : 11322 - " سفيان بن حبيب " و " مسعود بن علي الشيباني
" . انظر التعليق على الأثرين السالفين : 11301 ، 11302.
وقوله في جواب السؤال : " قال كان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه... "
، وتلاوته الآية بعد ذلك ، دون أن يذكر فعل علي ، جائز في مثل هذا السياق. كأنه
قال : كان علي بن أبي طالب يفعل مثل ذلك ويقرأ هذه الآية. وانظر الأثر التالي.
(10/12)
إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " ...
الآية. (1)
11324 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا أزهر ، عن ابن عون ، عن ابن
سيرين : أن الخلفاء كانوا يتوضأون لكل صلاة.
11325 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس قال ، توضأ
عمر بن الخطاب وضوءًا فيه تجوٌّز خفيفًا ، فقال ، هذا وضوء من لم يحدث. (2)
11326 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثني وهب بن جرير قال ، أخبرنا شعبة ، عن عبد
الملك بن ميسرة ، عن النزال ، قال ، رأيت عليًّا صلى الظهر ثم قعد للناس في
الرَّحْبة ، ثم أتِيَ بماء فغسل وجهه ويديه ، ثم مَسَح برأسه ورجليه ، وقال : هذا
وضوء من لم يحدِث. (3)
11327 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن
__________
(1) الأثر : 11323 - " مسعود بن علي الشيباني " انظر التعليق على الأثر
السالف.
وهذا الأثر ساقه ابن كثير في تفسيره 3 : 83 ، 84 ، وساق معه الأثرين 11326 ، 11327
، وقال : " هذه طرق جيدة عن علي ، يقوي بعضها بعضا " .
(2) الأثر : 11325 - " ابن أبي عدي " ، هو : " محمد بن إبراهيم بن
أبي عدي " ، مضى برقم : 5440 ، 6497.
و " حميد " ، هو " حميد الطويل " ، مضى مرارا كثيرة.
و " أنس " ، هو أنس بن مالك.
وهذا الأثر ، نقله ابن كثير في تفسيره 3 : 84 ، عن هذا الموضع من الطبري ، وقال :
" هذا إسناد صحيح " .
(3) الأثر : 11326 - " عبد الملك بن ميسرة الهلالي الزراد " ، ثقة ، من
صغار التابعين ، مضى برقم : 503 ، 504.
و " النزال " ، هو : " النزال بن سبرة الهلالي " ، مختلف في
صحبته. روى عن رسول الله - يقال هو مرسل - وعن عثمان ، وعلي ، وابن مسعود وغيرهم.
ثقة من كبار التابعين.
وهذا خبر إسناده صحيح ، وانظر التعليق على الأثر السالف : 11323. خرجه ابن كثير في
تفسيره 3 : 83 ، 84. ورواه أحمد في مسنده من طرق ، بالأرقام : 583 ، 1005 ، 1173 ،
1174 ، 1222 ، 1315 ، 1366 ، وخرجه أخي السيد أحمد هناك.
(10/13)
إبراهيم : أن عليًّا اكتالَ من حُبٍّ
فتوضأ وضوءًا فيه تجوُّزٌ ، فقال : هذا وضوء من لم يحدث. (1)
* * *
وقال آخرون : بل كان هذا أمرًا من الله عز ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم
والمؤمنين به : أن يتوضَّأوا لكل صلاة ، ثم نُسخ ذلك بالتخفيف.
ذكر من قال ذلك :
11328 - حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني ، قال ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال
، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ثم المازني
، مازن بني النجار فقال لعبيد الله بن عبد الله بن عمر : أخبرني عن وضوء عبد الله
لكل صلاة ، طاهرا كان أو غير طاهر ، عمَّن هو ؟ قال : حدثتنيه أسماء ابنة زيد بن
الخطاب : أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر ، الغسيل حدَّثها : أن النبي صلى الله
عليه وسلم أُمِرَ بالوضوء عند كل صلاة ، فشق ذلك عليه ، فأمِر بالسواك ، ورفع عنه
الوضوء إلا من حدّث. فكان عبد الله يرى أنّ به قوة عليه ، فكان يتوضأ. (2)
__________
(1) الأثر : 11327 - انظر التعليق على الأثر السالف : 11323. وخرجه ابن كثير في
تفسيره 3 : 84.
" اكتال " ، مأخوذ من " كيل الطعام وغيره " ، وأراد به هنا
أنه أخذ من الماء مقدار ما يكفي في وضوئه. وهو عربي صحيح المجاز.
و " الحب " (بضم الحاء) : هو الجرة الضخمة ، أو الجابية التي يجعل فيها
الماء.
(2) الأثر : 11328 - " عبد الله بن أبي زياد القطواني " ، هو " عبد
الله بن الحكم بن أبي زياد " ، مضى برقم : 2247 ، 5796.
و " يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري "
، مضى برقم : 4314 ، 5493.
وأبوه " إبراهيم بن سعد بن إبراهيم الزهري " ، مضى برقم : 4314 ، وكان
من أكثر أهل المدينة حديثا في زمانه. قال البخاري : " قال لي إبراهيم بن حمزة
: كان عند إبراهيم بن سعد ، عن ابن إسحق ، نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام ،
سوى المغازي " . مترجم في التهذيب.
و " ابن إسحق " هو : " محمد بن إسحق " صاحب المغازي ، مضى
مرارا ، ومضى توثيق أخي السيد أحمد له. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا : "
عن أبي إسحق " ، وهو خطأ ، صوابه من سنن أبي داود ، وابن كثير.
و " محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري المازني " ، فقيه ثقة كثير الحديث ،
روى له الأئمة.
مترجم في التهذيب.
و " عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب " ، ثقة قليل الحديث ، يقال
إنه كان أسن من أخيه " عبد الله بن عبد الله بن عمر " ، لم يذكروا في
ترجمته أنه روى عن أسماء بنت زيد بن الخطاب ، ولا أن محمد بن يحيى بن حبان روى عنه
، بل ذكروا ذلك في ترجمته أخيه " عبد الله " كما سترى في التخريج.
وأما أخوه " عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب " فقد روى عن أسماء
بنت زيد بن الخطاب ، وروى عنه محمد بن يحيى بن حبان. قال ابن سعد : " ثقة
قليل الحديث " ، وقيل : كان أكبر ولد " عبد الله بن عمر " وكان من
أشراف قريش. ووجوهها. مترجم في التهذيب.
وأما " أسماء بنت زيد بن الخطاب " فقد روت عن " عبد الله بن حنظلة
" ، وروى عنها : " عبد الله بن عبد الله بن عمر " . وكانت زوج ابن
عمها " عبد الله بن عمر بن الخطاب " . فلما قتل ، لم تتزوج بعده حتى
ماتت. وذكرها ابن حبان وابن مندة في الصحابة. ولكن الحافظ ابن حجر رد ذلك ، وانظر
ترجمتها في الإصابة في القسم الثاني من تراجم النساء. مترجمة في التهذيب.
و " عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الراهب " ، فأبوه " حنظلة
" ، هو غسيل الملائكة ، غستله يوم قتل في أحد. وكان الأجود أن يقال ، "
... بن حنظلة بن أبي عامر ، ابن الغسيل " . فإن أبا عامر هو الراهب ، الذي
سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم " الفاسق " . و " عبد الله بن
حنظلة " مترجم في التهذيب.
وكان في المخطوطة والمطبوعة : عبد الله بن زيد بن حنظلة... " بزيادة "
ابن زيد " ، وهو خطأ محض ، لعله سهو من الناسخ.
وأما " عبد الله " المذكور في هذا الأثر غير منسوب ، والمسئول عن وضوئه
، فهو " عبد الله بن عمر بن الخطاب " ، صاحب رسول الله.
وهذا الأثر ، رواه أبو داود في سننه 1 : 43 ، رقم : 48 ، من طريق محمد بن عوف
الطائي ، عن أحمد بن خالد ، عن محمد بن إسحق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عبد
الله بن عبد الله بن عمر. ثم قال أبو داود : " إبراهيم بن سعد ، رواه عن محمد
بن إسحق قال : عبيد الله بن عبد الله " . يعني هذه الرواية التي رواها أبو
جعفر في هذا الإسناد ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر.
وأخرجه البيهقي في سننه 1 : 37 ، 38. وقد خرجه ابن كثير في تفسيره 3 : 83 من رواية
أحمد بن حنبل ، عن يعقوب بن إبراهيم ، عن أبيه إبراهيم بن سعد ، بمثل رواية الطبري
: " عبيد الله بن عبد الله بن عمر " ، وساق رواية أبي داود " عبد
الله بن عبد الله بن عمر " ثم قال : " وأيا ما كان ، فهو إسناد صحيح ،
وقد صرح فيه ابن إسحق بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن حبان ، فزال محذور
التدليس. لكن قال الحافظ ابن عساكر رواه سلمة بن الفضل ، وعلي بن مجاهد ، عن ابن
إسحق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، به. والله
أعلم " .
وهذا الإسناد الذي الذي ذكره ابن عساكر ، هو الإسناد التالي.
(10/14)
11329 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ،
(10/15)
عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال
، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري قال : قلت لعبيد الله بن عبد الله بن عمر :
أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة ، ثم ذكر نحوه. (1)
11330 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان ، عن علقمة
بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتوضأ لكل صلاة. فلما كان عام الفتح ، صلَّى الصلوات بوضوء واحد ، ومسح على خفيه ،
فقال عمر : إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله! قال ، " عمدا فعلته. (2)
__________
(1) الأثر : 11329 - مكرر الذي قبله.
" محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف " .
قال أبو داود وابن معين : " ثقة " ، وقال ابن سعد : " كان قليل
الحديث " . مترجم في التهذيب.
انظر التعليق على الأثر السالف.
(2) الأثر : 11330 - " يحيى " ، هو : " يحيى بن سعيد القطان "
.
و " عبد الرحمن " ، هو " عبد الرحمن بن مهدي " .
و " سفيان " ، هو الثوري.
و " علقمة بن مرثد الحضرمي " ، روى عن زر بن حبيش ، وطارق بن شهاب ،
وسليمان بن بريدة وغيرهم. روى عنه شعبة ، وسفيان الثوري ، ومسعر. ثقة ثبت في
الحديث. مترجم في التهذيب.
و " سليمان بن بريدة بن الحصيب الأسلمي " . أخو " عبد الله بن
بريدة " . روى عن أبيه ، وعمران بن حصين ، وعائشة. روى عنه علقمة بن مرثد ،
ومحارب بن دثار ، وغيرهم. قال أحمد : عن وكيع : " يقولون إن سليمان بن بريدة
كان أصح حديثا من أخيه وأوثق " . ثقة ، مترجم في التهذيب.
وأبوه : " بريدة بن الحصيب الأسلمي " ، أسلم قبل بدر ، ولم يشهدها ،
وشهد خيبر وفتح مكة. استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه. وسكن
المدينة ، ثم انتقل إلى البصرة ، ثم إلى مرو ، فمات بها.
وهذا الأثر ، سيرويه أبو جعفر من طريق أخرى رقم : 11333.
رواه أحمد في مسنده 5 : 350 ، من طريق يحيى بن سعيد ، عن سفيان به و 5 : 358 ، من
طريق عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان بمثله ، ورواه أيضا 5 : 351 ، من طريق وكيع عن
سفيان ، بمثله.
ورواه مسلم 3 : 176 ، 177 ، من طريق عبد الله بن نمير ، عن سفيان ومن طريق محمد بن
حاتم واللفظ له ، عن يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، بمثله.
ورواه أبو داود في سننه 1 : 82 ، رقم : 172 ، من طريق مسدد ، عن يحيى بن سعيد ،
بمثله.
ورواه النسائي 1 : 86 ، من طريق عبيد الله بن سعيد ، عن يحيى ، بمثله.
ورواه البيهقي في السنن 1 : 162 من طريق ابن وهب ، عن سفيان ، بمثله ومن طريق
الضحاك بن مخلد ، عن سفيان. ثم رواه أيضا 1 : 271 من طريق أبي داود في سننه. ومن
طريق علي بن قادم ، عن سفيان.
ورواه الترمذي في السنن 1 : 89 ، 90 (شرح أخي السيد أحمد) ، وعلق عليه الترمذي ،
وذكر اختلاف الرواة فيه ، كما سيأتي. ولكن حديث الثوري عن علقمة بن مرثد ، مرفوع
موصول ، لم يختلف فيه أحد من الرواة ، وإنما اختلفوا في حديث الثوري ، عن محارب بن
دثار ، كما سيأتي.
(10/16)
11331 - حدثنا أبو كريب ، قال ، حدثنا
وكيع ، عن سفيان ، عن محارب بن دثار ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه : أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة. فلما كان يوم فتح مكة ، صلى الصلوات
كلها بوضوء واحد. (1)
11332 - حدثنا ابن بشار ، قال ، حدثنا عبد الرحمن ، قال ، حدثنا سفيان ،
__________
(1) الأثر : 11331 - " محارب بن دثار بن كردوس السدوسي " . ثقة ، روى له
الأربعة.
قال سماك بن حرب : " كان أهل الجاهلية إذا كان في الرجل ست خصال سودوه :
الحلم ، والصبر ، والسخاء ، والشجاعة ، والبيان ، والتواضع ، ولا يكملن في الإسلام
إلا بالعفاف. وقد كملن في هذا الرجل - يعني محارب بن دثار " .
وهذا الأثر ، رواه أبو جعفر مرفوعا موصولا من طريقين ، هذا ، ورقم : 11334.
ورواه ابن ماجه 1 : 170 ، رقم : 510 ، من طريق وكيع ، عن سفيان ، عن محارب ابن
دثار ، مرفوعا موصولا.
وتكلم في رواية سفيان ، عن محارب بن دثار ، الترمذي في سننه 1 : 89 ، 90 ، فأشار
إلى روايتها مرفوعة موصولة ، ومرسلة من طريق عبد الرحمن بن مهدي وغيره عن سفيان ،
عن محارب ابن دثار ، مرفوعا موصولا.
وتكلم في وراية سفيان ، عن محارب بن دثار ، الترمذي في سننه 1 : 89 ، 90 ، فأشار
إلى روايتها مرفوعة موصولة ومرسلة ، من طريق عبد الرحمن بن مهدي وغيره ، عن سفيان
، عن محارب بن دثار ، وقال ، " وهذا أصح من حديث وكيع " . وزاد الطبري
في الأثر 11334 ، روايته من طريق معاوية بن هشام ، عن سفيان ، مرفوعا موصولا. و
" معاوية بن هشام " ، ثقة.
قال أخي السيد أحمد : " وهذه الرواية جعلها الترمذي مرجوحة ، ورأى أن رواية
من رواه عن الثوري ، عم محارب ، عن سليمان مرسلا - : أصح. ولسنا نوافقه على ذلك ،
لأن الحديث معروف عن سليمان عن أبيه. ووكيع ثقة حافظ. فالظاهر أن الثوري كان تارة
يروي الحديث عن محارب موصولا ، كما رواه عنه وكيع ، وتارة مرسلا ، كما رواه عنه
غيره " .
(10/17)
عن محارب بن دثار ، عن سليمان بن بريدة
: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ ، فذكر نحوه. (1)
11333 - حدثنا أبو كريب ، قال ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن علقمة بن
مرثد ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات
كلها بوضوء واحد ، فقال له عمر : يا رسول الله ، صنعت شيئا لم تكن تصنعه ؟ فقال ،
" عمدا فعلته يا عمر. (2)
11334 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معاوية ، عن سفيان ، عن محارب بن دثار ، عن
سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل
صلاة ، فلما فتح مكة ، صلى الظهرَ والعصرَ والمغرب والعشاء بوضوء واحد. (3)
11335 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا الحكم بن ظُهَير ، عن مِسْعر ،
عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر
والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد. (4)
* * *
__________
(1) الأثر : 11332 - هذه هي الرواية المرسلة للأثر السالف ، والتي أشار إليها
الترمذي كما أسلفنا.
(2) الأثر : 11333 - هذه طريق أخرى للأثر السالف رقم : 11330 ، وقد أشرنا إليها في
التخريج هناك.
و " معاوية بن هشام الأسدي القصار " ، مضى برقم : 2997 ، ثقة ، وثقه أبو
داود وابن حبان. وقال أحمد : " هو كثير الخطأ " .
(3) الأثر : 11334 - هذه طريق أخرى ، لحديث وكيع ، عن سفيان ، التي خرجناها في رقم
: 11331 ، وأشرنا إليها هناك.
(4) الأثر : 11335 - حديث ضعيف الإسناد جدا.
" الحكم بن ظهير الفزاري " ، مضى برقم : 249 ، 5523 ، 5792. رمى بوضع
الحديث ، تركوه. قال ابن حبان : " كان يشتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ،
يروي عن الثقات الأشياء الموضوعات " .
و " مسعر " ، هو " مسعر بن كدام " ، ثقة معروف ، أحد الأعلام.
مضى برقم : 503 ، 504 ، 1974 ، 5729 ، 6172.
(10/18)
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك
عندنا بالصواب ، قولُ من قال : إن الله عنى بقوله : " إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا " جميعَ أحوال قيام القائم إلى الصلاة ، غير أنه أمرُ فرضٍ بغسل ما
أمر الله بغسله القائمَ إلى صلاته ، بعد حَدَثٍ كان منه ناقضٍ طهارتَه ، وقبل
إحداث الوضوء منه وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه ، ولم يكن منه بعده حدث
ينقض طهارته. ولذلك كان عليه السلام يتوضأ لكل صلاة قبل فتح مكة ، ثم صلىّ يومئذ
الصلوات كلها بوضوء واحد ، ليعلّم أمته أن ما كان يفعل عليه السلام من تجديد الطهر
لكل صلاة ، إنما كان منه أخذا بالفضل ، وإيثارا منه لأحب الأمرين إلى الله ،
ومسارعةً منه إلى ما ندبه إليه ربّه لا على أن ذلك كان عليه فرضًا واجبًا.
فإن ظنّ ظانٌّ أن في الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن حنظلة ، أن النبي صلى الله
عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة (1) دلالةً على خلاف ما قلنا من أن ذلك كان
ندبا للنبي عليه السلام وأصحابه ، وخُيِّل إليه أن ذلك كان على الوجوب فقد ظنّ غير
الصواب. (2)
وذلك أن قول القائل : " أمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا "
، محتملٌ من وجوه لأمر الإيجاب ، والإرشاد والندب والإباحة والإطلاق. وإذ كان
محتملا ما ذكرنا من الأوجه ، كان أولى وجوهه به ما على صحته الحجة مجمعة ، دون ما
لم يكن على صحته برهان يوجب حقيقة مدَّعيه. (3) .
وقد أجمعت الحجة على أن الله عز وجل لم يوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم ولا على
عباده فرضَ
__________
(1) انظر الأثر رقم : 11328.
(2) سياق هذه الجملة : فإن ظن ظان... وخيل إليه أن ذلك كان على الوجوب ، فقد ظن
غير الصواب " .
(3) قوله : " حقيقة مدعيه " ، أي : حق مدعيه. واستعمال " حقيقة
" بمعنى " حق " ، قد سار عليه أبو جعفر في كتابه هذا ، وسار
الناشرون على تغيير " حقيقة " ، إلى " حقية " ، كما جاء هنا
في المطبوعة ، مخالفا للمخطوطة. وانظر ما سلف 8 : 568 ، تعليق : 1 ثم : 592 ،
تعليق : 7 ثم 9 : 336 ، تعليق : 4 ثم : 360 ، تعليق : 4.
(10/19)
الوضوء لكل صلاة ، ثم نسخ ذلك ، ففي
إجماعها على ذلك ، الدلالةُ الواضحةُ على صحة ما قلنا : من أن فعل النبي صلى الله
عليه وسلم ما كان يفعل من ذلك ، كان على ما وصفنا ، من إيثاره فعلَ ما ندبه الله
عز ذكره إلى فعله وندبَ إليه عباده المؤمنين بقوله : " يا أيها الذين آمنوا
إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق " ... الآية ، وأن
تركه في ذلك الحال الذي تركه ، (1) كان ترخيصا لأمته ، وإعلاما منه لهم أن ذلك غير
واجب ولا لازم له ولا لهم ، إلا من حدَثٍ يوجب نقضَ الطهر.
* * *
وقد روي بنحو ما قلنا في ذلك أخبار :
11336 - حدثنا ابن المثنى ، قال ، حدثني وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة ، عن عمرو
بن عامر ، عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقَعْبٍ صغير فتوضأ. قال :
قلت لأنس : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ؟ قال : نعم! قلت
: فأنتم ؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد. (2) .
__________
(1) في المخطوطة : " في ذلك الحال التي تركه " ، والصواب ما أثبته ،
يريد : وأن تركه الذي تركه ، كان ترخيصا...
(2) الأثر : 11336 - " عمرو بن عامر الأنصاري " ، روى عن أنس بن مالك.
وعنه أبو الزناد ، وشعبة ، وسفيان الثوري ، ومسعر ، وشريك. ثقة صالح الحديث. روى
له الأربعة. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/1/249. وانظر بقية التعليق.
وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 1 : 272 ، 273) ، من طريق محمد بن يوسف الفريابي ،
عن سفيان الثوري ، عن عمرو بن عامر ومن طريق مسدد ، عن يحيى ، عن سفيان الثوري.
ورواه أبو داود في السنن 1 : 81 ، رقم : 171 ، من طريق محمد بن عيسى ، عن شريك ،
عن عمرو بن عامر البجلي قال محمد : هو أبو : " أسد بن عمرو " قال سألت
أنس ، بمثله. هذا ، و " عمرو بن عامر البجلي " هو غير " عمرو بن
عامر الأنصاري " ، وكأن محمد بن عيسى قد أخطأ. وانظر التهذيب في " عمرو
بن عامر البجلي " .
ورواه الترمذي 1 : 88 (شرح أخي السيد أحمد) من طريق محمد بن بشار ، عن يحيى بن
سعيد ، وعبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن عمرو بن عامر ، قال الترمذي : "
هذا حديث حسن صحيح " .
ورواه النسائي في سننه 1 : 85 ، من طريق خالد ، عن شعبة ، عن عمرو بن عامر كمثل
طريق أبي جعفر هذا.
ورواه ابن ماجه 1 : 170 ، رقم : 509 ، من طريق شريك ، عن عمرو بن عامر.
والبيهقي في السنن 1 : 162 من طريق الفريابي ، عن سفيان.
ورواه أحمد من طريق عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن عمرو بن عامر الأنصاري ،
انظر تفسير ابن كثير (3 : 84).
(10/20)
11337 - حدثنا سليمان بن عمر بن خالد
الرقّي ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي ، عن أبي غطيف ،
قال : صليت مع ابن عمر الظهر ، فأتى مجلسا في داره فجلس وجلست معه. فلما نُودي
بالعصر دعا بوضوء فتوضأ ، ثم خرج إلى الصلاة ، ثم رجع إلى مجلسه. فلما نودي
بالمغرب دعا بوضوء فتوضأ ، فقلت : أسنة ما أراك تَصنع ؟ قال ، لا وإن كان وَضوئي
لصلاة الصبح كافيَّ للصلوات كلها ما لم أحدِث ، (1)
ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من توضأ على طهرٍ كتب له
عشر حسنات " ، (2)
، فأنا رغبت في ذلك. (3)
__________
(1) في المطبوعة " كاف للصلوات كلها " ، غير ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة " فأنا رغبت " ، غير ما في المخطوطة.
(3) الأثر : 11337 - " سليمان بن عمر بن خالد الرقي ، الأقطع " ، مضت ترجمته
برقم : 6254.
و " عيسى بن يونس بن أبي إسحق السبيعي " ، رأى جده أبا إسحق ، روى عن
أبيه وأخيه ، وعن كثير. ثقة ، روى له الأئمة. مترجم في التهذيب.
و " عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري الإفريقي " ، هو " ابن
أنعم " ، و " الإفريقي " ، مضى برقم : 2195 ، 10180 ، تكلم فيه بعض
العلماء ، ولكن وثقه أخي السيد أحمد في رقم : 2195.
و " أبو غطيف الهذلي " ، ويقال : " غطيف " ، ويقال : "
غضيف " . قال أبو زرعة : " لا يعرف اسمه " . ضعفه الترمذي. مترجم
في التهذيب.
وهذا الحديث ، رواه أبو داود في سننه 1 : 48 ، رقم : 62 ، من طريق محمد بن يحيى
ابن فارس ، عن عبد الله بن يزيد المقرئ ، ومن طريق مسدد ، عن عيسى بن يونس ، جميعا
عن عبد الرحمن بن زياد ، مختصرا.
ورواه ابن ماجه 1 : 170 ، 171 ، رقم : 512 ، من طريق محمد بن يحيى ، عن عبد الله
بن يزيد المقرئ ، مطولا.
والبيهقي في السنن 1 : 162.
والترمذي في السنن 1 : 87 ، 88 (شرح أخي السيد أحمد) ، وقد ضعف الترمذي هذا
الإسناد ، وقال البخاري في حديث أبي غطيف هذا : " لم يتابع عليه " .
وانظر شرح السنن.
(10/21)
11338 - حدثني أبو سعيد البغدادي ، قال
، حدثنا إسحاق بن منصور ، عن هريم ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن أبي غطيف ، عن ابن
عمر ، قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من توضأ على طهر كتب له عشر
حسنات. (1)
* * *
وقد قال قوم : إن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إعلاما من
الله له بها أن لا وضوء عليه ، إلا إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال كلها ،
وذلك أنه كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلِّها حتى يتوضأ ، فأذن الله بهذه الآية
أن يفعل كل ما بدا له من الأفعال بعد الحدث عَدَا الصلاة توضأ أو لم يتوضأ ، وأمره
بالوضوء إذا قام إلى الصلاة قبل الدخول فيها.
ذكر من قال ذلك :
11339 - حدثنا أبو كريب ، قال ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن شيبان ، عن جابر ، عن
عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء ، عن أبيه
قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ، ونسلم
عليه فلا يرد علينا ، حتى يأتي منزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة. فقلنا : يا رسول الله
، نكلمك فلا تكلمنا ، ونسلم عليك فلا ترد علينا ؟ قال : حتى نزلت آية الرخصة :
" يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " ، الآية. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 11338 - " أبو سعيد البغدادي ، مضى برقم : 6684 ، " أبو
سعيد بن يوشع البغدادي " ولم أجد له ترجمة ، ثم مضى برقم : 6690 " أبو
سعيد البغدادي " كالذي هنا.
و " إسحق بن منصور السلولي " . ثقة ، مضت ترجمته برقم : 4925 ، ومضت
رواية أبي سعيد البغدادي عنه في : 6684 : 6690.
و " هريم بن سفيان البجلي " ، ثقة. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر مختصر الأثر السالف. ونقله ابن كثير في تفسيره 3 : 84 ، عن هذا الموضع
من التفسير.
(2) الأثر : 11339 - هذا خبر مشكل ، وهو مع إشكاله ضعيف الإسناد ، لضعف جابر بن
يزيد الجعفي ، فهو ضعيف جدا ، رمي بالكذب ، كما بينه أخي السيد أحمد في رقم : 2340.
أول ذلك أن إسناده في المطبوعة كان هكذا : " معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن
جابر بن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرو بن حزم ، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص ،
عن أبيه " .
وفي المخطوطة : " معاوية بن هشام ، عن شيبان ، عن جابر بن عبد الله بن أبي
بكر ، عن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء ، عن أبيه " .
فخالفت المطبوعة المخطوطة ، فجعلت مكان " شيبان " ، " سفيان "
ومكان " عبد الله بن علقمة الفغواء " ، عبد الله بن علقمة بن وقاص
" ، ولا أدري من أين أتى به ناسخ تفسير أبي جعفر ، فإن ابن كثير في تفسيره قد
نقله ولا شك عن نسخة من تفسير أبي جعفر ، وفيها " عبد الله بن علقمة بن وقاص
" .
وسأبدأ بذكر ما وجدته فيما بين يدي من الكتب ، من ذكر هذا الخبر وإسناده.
1 فرواه الطحاوي في معاني الآثار 1 : 53 بروايته عن ابن أبي داود قال : "
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا معاوية بن هشام ، عن شيبان ، عن جابر ، عن عبد الله
بن محمد ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء ،
عن أبيه... "
2 ونقله ابن كثير في تفسيره 3 : 84 ، من تفسير ابن جرير فقال : " حدثنا أبو
كريب ، قال حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عبد الله بن أبي بكر
بن عمرو بن حزم ، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص ، عن أبيه... "
ثم قال : " ورواه ابن أبي حاتم ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي كريب ، به نحوه
" .
3 ورواه الجصاص في أحكام القرآن 2 : 329 ، فقال : " روى سفيان الثوري عن جابر
، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عبد الله بن علقمة ، عن
أبيه... " .
4 وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة ، في ترجمة " علقمة بن الفغواء الخزاعي
" ، فقال : " أخرجه مطين ، والطحاوي ، والدراقطني من طريق جابر الجعفي ،
عن عبد الله بن محمد بن حزم ، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء ، عن أبيه...
"
5 وذكره ابن الأثير في أسد الغابة 4 : 14 في ترجمة " علقمة بن الفغواء
الخزاعي " فقال : " روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عبد الله
بن علقمة بن الفغواء ، عن أبيه... "
6 وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 276 فقال : " وعن علقمة بن الفغواء...
رواه الطبراني في الكبير ، وفيه جابر الجعفي ، وهو ضعيف " .
7 وذكره أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ : 119 قال : " حديث علقمة بن
الفغواء ، عن أبيه أنه قال ، ... " ، وهذا خطأ لا شك فيه ، فإن المطبوع من
الناسخ والمنسوخ ردئ الطبع جدا. والصواب " حديث عبد الله بن علقمة بن الفغواء
، عن أبيه... " . وفي المطبوعة : " علقمة بن القعوى " ، وهو تحريف
لا شك فيه خطئه.
8 وخرجه السيوطي في الدر المنثور فقال : " وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ،
والطبراني ، بسند ضعيف ، عن علقمة بن صفوان... " .
فهذا ، كما ترى ، اختلاف شديد جدا في أسانيد هذا الأثر.
فالاختلاف الأول : في الذي روى عنه معاوية بن هشام ، ففي المطبوعة ، وابن كثير ،
وأحكام القرآن للجصاص أنه رواه عن " سفيان " ، وهو الثوري كما صرح به
الجصاص. وفي المخطوطة ، ومعاني الآثار للطحاوي أنه رواه عن " شيبان " ، وهو
النحوي. ومعاوية بن هشام يروي عنهما جميعا. وسفيان الثوري ، وشيبان النحوي ،
يرويان جميعا عن جابر بن يزيد الجعفي. فجائز أن يكون معاوية بن هشام رواه عنهما
جميعا ، عن جابر ، مرة عن هذا ، ومرة عن هذا.
والاختلاف الثاني : في الذي رواه عنه " سفيان " أو " شيبان "
. ففي المطبوعة والمخطوطة : " جابر بن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرو بن حزم
" ، وهو خطأ لا شك فيه ، لأن الحديث مداره على " جابر بن يزيد الجعفي
" ، كما جاء في المراجع جميعا.
والاختلاف الثالث : في الذي رواه عنه " جابر الجعفي " ، فذكر الطحاوي في
معاني الآثار. أنه عن : " عبد الله بن محمد ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن
حزم " فكأن جابرا رواه عن " عبد الله بن محمد " هذا ، عن أبي بكر
بن محمد بن عمرو بن حزم ، كما قال ابن الأثير في أسد الغابة ، وأما ما نقله ابن
كثير عن نسخة من تفسير أبي جعفر من أنه : " عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن
حزم " فاتفق مع ما جاء في أحكام القرآن للجصاص ، وفي الإصابة لابن حجر - مع
اختلاف لا يضر في اختصار اسمه.
فانفرد الطحاوي بأن زاد " عبد الله بن محمد " في هذا الإسناد ، ولا ندري
من يكون. فأخشى أن يكون في النسخة المطبوعة من معاني الآثار ، خطأ.
والاختلاف الرابع : متعلق بالاختلاف الثالث ، في الراوي عن " عبد الله بن
علقمة بن الفغواء " أهو : " عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
" كما جاء في تفسير ابن كثير ، وفي أحكام القرآن للجصاص ، والإصابة أم هو
أبوه " أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم " ، كما جاء في إسناد الطحاوي ،
وكما ذكر ابن الأثير في أسد الغابة ؟
والاختلاف الخامس : فإن المطبوعة وابن كثير في تفسيره ، جعلا التابعي الراوي عن
أبيه " عبد الله بن علقمة بن وقاص " ، وانفرد السيوطي في الدر المنثور
بأن جعل أباه الصحابي هو " علقمة بن صفوان " ، وكلاهما خطأ لا شك فيه ،
بدليل إجماع سائر الرواة على أن هذا الخبر من حديث " علقمة بن الفغواء
الخزاعي " .
من أجل ذلك كله ، غيرت ما في المطبوعة ، فجعلت " شيبان " مكان "
سفيان " ، مطابقا لما في المخطوطة ومعاني الآثار. وجعلت " جابر ، عن عبد
الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم " ، مطابقا لما في تفسير ابن كثير ، وأحكام
القرآن للجصاص ، والإصابة لابن حجر. وجعلت " عبد الله بن علقمة بن الفغواء
" ، مكان " عبد الله بن علقمة بن وقاص " مطابقا لما في سائر
الأخبار ، سوى ابن كثير ، والسيوطي.
أما رجال الإسناد فهم :
" معاوية بن هشام الأسدي القصار " ، ثقة. مضى برقم : 2997.
و " سفيان " - كما أسلفنا في الاختلاف الأول - هو سفيان الثوري الإمام
الثقة ، مضى مرارا.
وأما " شيبان " ، فهو " أبو معاوية ، شيبان النحوي " ، وهو
" شيبان بن عبد الرحمن التميمي " ، إمام ثقة. مضى مرارا ، رقم : 2340 ،
4898 ، 5280 ، 9222 ، 9223 ، 9456.
وأما " جابر " ، فهو : " جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي " ،
ضعيف جدا ، رمي بالكذب.
مضى برقم : 764 ، 858 ، 2340 ، 3074 ، 5423 ، 7350.
و " عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم " ، ثقة. مضى برقم :
4808.
وأما أبوه : " أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم " ، ثقة. مضى برقم : 2031
.
و " عبد الله بن علقمة بن الفغواء الخزاعي " ، روى عن أبيه. روى عنه زيد
بن أسلم ، ومسلم بن نبهان. مترجم في ابن أبي حاتم 2/2/121.
وأبوه : " علقمة بن الفغواء الخزاعي " ، دليل رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى تبوك.
سمع النبي صلى الله عليه وسلم. روى عن عمر. روى عنه ابنه عبد الله. مترجم في
الإصابة ، وأسد الغابة ، وطبقات ابن سعد 4/2/32 ثم 5 : 340 ، والكبير للبخاري
4/1/39 ، وابن أبي حاتم 3/1/404 .
ومضى تخريج الأثر فيما سلف مما كتبناه ، وهو بمثل لفظ الطبري ، إلا في بعض حروف
يسيرة ، وإلا ما جاء في رواية الجصاص في أحكام القرآن. كتبه محمود محمد شاكر.
(10/22)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في حدّ " الوجه " الذي أمر الله بغسله
، القائمَ إلى الصلاة بقوله : " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " .
(10/23)
فقال بعضهم : هو ما ظهر من بَشرة
الإنسان من قُصَاص شعر رأسه ، (1) منحدرا إلى منقطع ذَقَنه طولا وما بين الأذنين
عرضا. قالوا : فأما الأذن وما بطن من داخل الفم والأنف والعين ، فليس من الوجه
وغير واجب غسلُ ذلك ولا غسل شيء منه في الوضوء. (2) قالوا : وأما ما غطاه الشعر
منه كالذقن الذي غطاه شعر اللحية ، والصدغين اللذين قد غطاهما عِذَار اللحية ، فإن
إمرار الماء على ما على ذلك من الشعر ، مجزئ من غسل ما بطن منه من بشرة الوجه ،
(3) لأن " الوجه "
__________
(1) " قصاص الشعر " (بضم القاف وكسرها وفتحها) : نهاية منبته من مقدم
الرأس.
(2) في المطبوعة : " فليس من الوجه ولا غيره ولا أحب غسل ذلك " ، كان في
المخطوطة : " فليس من الوجه وغيره اجب غسل ذلك " مع وصل راء " غير
" بما يشبه الهاء المفردة ، ففعل الناشر ما فعل في إفساد هذه العبارة ، بلا
أمانة ولا عقل.
(3) في المطبوعة : " مجزئ عن غسل " ، وما في المخطوطة ، هو الجيد الذي
سار عليه القدماء.
(10/24)
عندهم : هو ما عَنَّ لعين الناظر من
ذلك فقابلها (1) دون غيره.
ذكر من قال ذلك :
11340 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عمر بن عبيد ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال ،
يجزئ اللحية ما سال عليها من الماء. (2)
11341 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا شعبة قال ،
حدثنا المغيرة ، عن إبراهيم قال : يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته.
11342 - حدثنا ابن المثنى ، قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن المغيرة ، عن
إبراهيم ، بنحوه.
11343 - حدثنا ابن المثنى ، قال ، حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن
إبراهيم ، بنحوه.
11344 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن مغيرة في
تخليل اللحية ، قال : يجزيك ما مرَّ على لحيتك.
11345 - حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، قال ، حدثنا مصعب بن المقدام ، قال ،
حدثنا زائدة ، عن منصور ، قال : رأيت إبراهيم يتوضأ ، فلم يخلِّل لحيته. (3)
__________
(1) في المخطوطة : " فهو باطن لعين الناظر " ، وهو تحريف ، وصححها في
المطبوعة : " ما ظهر لعين الناظر " ، ورأيت قراءتها كما أثبتها يقال :
" عن الشيء يعن عننا وعنونا " : عرض وظهر أمامك.
(2) الأثر : 11340 - في المخطوطة : " عن معمره " ، وفي المطبوعة : عن
معمر " ، والصواب ما أثبته.
" عمر بن عبيد بن أبي أمية الطنافسي " ، مضى برقم : 8979.
و " مغيرة " ، هو " مغيرة بن مقسم الضبي " ، مضى مرارا كثيرة
، وروايته عن " إبراهيم النخعي " ، دائرة في التفسير ، وانظر الآثار
التالية لهذا.
وقد مضى هذا الإسناد نفسه برقم : 8979.
(3) الأثر : 11345 - " هرون بن إسحق الهمداني " و " مصعب بن
المقدام " ، مضيا برقم : 3001.
(10/26)
11346 - حدثنا أبو كريب ، قال ، حدثنا
ابن إدريس ، عن سعيد الزبيدي ، عن إبراهيم ، قال : يجزيك ما سال عليها من أن
تخللها. (1)
11347 - حدثنا ابن المثنى ، قال ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن يونس ، قال :
كان الحسن إذا توضأ مسح لحيته مع وجهه.
11348 - حدثنا أبو كريب ، قال ، حدثنا ابن إدريس ، قال ، حدثنا هشام ، عن الحسن ،
أنه كان لا يخلِّل لحيته.
11349 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن هشام ، عن الحسن أنه كان
لا يخلل لحيته إذا توضأ.
11350 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا هارون ، عن إسماعيل ، عن الحسن ، مثله.
11351 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال ، حدثنا هشيم ، عن أشعث ، عن ابن سيرين ،
قال ، ليس غسلُ اللحية من السنة.
11352 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا هارون ، عن عيسى بن يزيد ، عن عمرو ، عن
الحسن : أنه كان إذا توضأ لم يبلِّغ الماء في أصول لحيته.
11353 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا هارون ، عن أبي شيبة سعيد بن عبد الرحمن
الزبيدي ، قال : سألت إبراهيم : أخلِّل لحيتي عند الوضوء بالماء ؟ فقال ، لا إنما
يكفيك ما مرَّت عليه يدك. (2)
11354 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، سألت شعبة عن تخليل
اللحية في الوضوء ، فقال : قال المغيرة ، قال إبراهيم : يكفيه ما سال من الماء من
وجهه على لحيته.
__________
(1) الأثر : 11346 ، 11353 - " سعيد الزبيدي " ، هو " سعيد بن عبد
الرحمن الزبيدي " " أبو شيبة " ، وثقه أبو داود ، وابن حبان ، وقال
البخاري : " لا يتابع في حديثه " .
مترجم في التهذيب وسيأتي في الأثر رقم : 11353.
(2) الأثر : 11346 ، 11353 - " سعيد الزبيدي " ، هو " سعيد بن عبد
الرحمن الزبيدي " " أبو شيبة " ، وثقه أبو داود ، وابن حبان ، وقال
البخاري : " لا يتابع في حديثه " .
مترجم في التهذيب وسيأتي في الأثر رقم : 11353.
(10/27)
11355 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد
الحكم ، قال ، حدثنا حجاج بن رشدين قال ، حدثنا عبد الجبار بن عمر : أن ابن شهاب
وربيعة توضآ فأمرا الماء على لحاهما ، ولم أر واحدا منهما خلّل لحيته.
11356 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : سألت سعيد بن
عبد العزيز ، عن عَرْك العارضين في الوضوء ، فقال : ليس ذلك بواجب ، رأيت مكحولا
يتوضأ فلا يفعل ذلك. (1)
11357 - حدثنا أبو الوليد أحمد بن عبد الرحمن القرشي ، قال ، حدثنا الوليد ، قال ،
أخبرني سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال ، ليس عَرْك العارضين في الوضوء
بواجب. (2)
11358 - حدثنا أبو الوليد ، قال ، حدثنا الوليد قال ، أخبرني إبراهيم بن محمد ، عن
المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : يكفيه ما مرَّ من الماء على لحيته. (3)
11359 - حدثنا أبو الوليد القرشي ، قال ، حدثنا الوليد ، قال ، أخبرني ابن لهيعة ،
عن سليمان بن أبي زينب ، قال ، سألت القاسم بن محمد : كيف أصنع بلحيتي إذا توضأت ؟
قال : لستُ من الذين يغسلون لحاهم. (4)
__________
(1) الأثر : 11356 - " أبو الوليد الدمشقي " ، هو " أبو الوليد
القرشي " ، كما في الأثر : 11359 ، وهو : " أحمد بن عبد الرحمن بن بكار
بن عبد الملك بن الوليد بن بسر بن أرطأة القرشي " ، ويقال في نسبته "
البسري " ، نسبة إلى جده ، ويقال " العامري " ، لأنه من ولد "
معيص بن عامر بن لؤي " . ثقة صدوق. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر : 11357 - " سعيد بن بشير الأزدي " ، مضى برقم : 126 ، 5439 ،
9632.
(3) الأثر : 11358 - " إبراهيم بن محمد " هو : " إبراهيم بن محمد
بن الحارث بن أسماء بن خارجة " ، " أبو إسحق الفزاري " ، مضى برقم
: 3833 ، 11285.
(4) الأثر : 11359 - " سليمان بن أبي زينب السبأي الشامي " ، روى عنه
سعيد بن أبي أيوب المصري. مترجم في الكبير 2/2/15 ، وابن أبي حاتم 2/1/118. وكان
في المخطوطة والمطبوعة : " سلمان بن أبي زينب " ، وهو خطأ لا شك فيه.
(10/28)
11360 - حدثنا أبو الوليد ، قال ،
حدثنا الوليد قال ، قال أبو عمرو : ليس عَرْك العارضين وتشبيك اللحية بواجب في
الوضوء. (1)
* * *
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بَطَن من الفم والأنف.
11361 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك
بن أبي بشير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لولا التلمُّظ في الصلاة ما مضمضتُ.
(2)
11362 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت عبد الملك يقول : سئل
عطاء عن رجل صلى ولم يتمضمض ، قال : ما لم يسَّم في الكتاب يجزئه.
11363 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال :
ليس المضمضة والاستنشاق من واجب الوضوء.
11364 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الصباح ، عن أبي سنان قال : كان الضحاك ينهانا
عن المضمضة والاستنشاق في الوضوء في رمضان.
11365 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت هشامًا ، عن الحسن قال :
إذا نسى المضمضة والاستنشاق ، قال : إن ذكر وقد دخل في الصلاة فليمض في صلاته. وإن
كان لم يدخل تمضمض واستنشق.
__________
(1) " عرك اللحية " : دلكها. وأما " تشبيك اللحية " فقلما
تصيب صفته في كتب اللغة ، وهو بين في الآثار. روى البيهقي في السنن 1 : 55 ، عن
ابن عمر : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك
، ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها " ، يعني أنه أنشب فيها أصابعه منفرجة ،
فشبكها فيها.
(2) الأثر : 11361 - " عبد الملك بن أبي بشير البصري " ، روى عن عكرمة
وعبد الله بن مساور ، وغيرهما. روى عنه ليث بن أبي سليم ، وسفيان الثوري ، وزهير
بن معاوية ، وغيرهم ثقة. مترجم في التهذيب.
و " التلمظ " : تحريك اللسان في الفم بعد الأكل ، كأنه يتتبع بقية
الطعام بين أسنانه.
(10/29)
11366 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ،
حدثنا ابن علية ، عن شعبة قال : سألت الحكم وقتادة عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه
لم يتمضمض ولم يستنشق ، فقال : يمضي في صلاته.
* * *
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة : من أن الأذنين ليستا من الوجه.
11367 - حدثني يزيد بن مخلد الواسطي قال ، حدثنا هشيم ، عن غيلان قال : سمعت ابن
عمر يقول : الأذنان من الرأس. (1)
11368 - حدثنا عبد الكريم بن أبي عمي ، قال ، حدثنا أبو مطرف [....] قال ، حدثنا
غيلان مولى بني مخزوم ، قال : سمعت ابن عمر يقول : الأذنان من الرأس. (2)
11369 - حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا محمد بن يزيد ، عن محمد بن إسحاق ، عن
نافع ، عن ابن عمر قال : الأذنان من الرأس ، فإذا مسحت الرأس فامسحهما.
__________
(1) الأثر : 11367 - " يزيد بن مخلد الواسطي " ، " أبو خداش "
، روى عن هشيم ، وبشر بن مبشر. روى عنه إبراهيم بن يوسف الهسنجاني ، وعلي بن
الحسين بن الجنيد. مترجم في ابن أبي حاتم 4/2/291.
" غيلان " هو : " غيلان بن عبد الله الواسطي " مولى قريش
(مولى بني مخزوم). سمع ابن عمر. سمع منه شعبة وهشيم. روى ابن أبي حاتم ، عن عبد
الله بن أحمد بن حنبل قال : " سمعت أبي يقول : غيلان بن عبد الله مولى قريش ،
الذي حدثنا عنه هشيم ، روى عنه شعبة ، هو أحب إلي من سهيل بن ذكوان " . مترجم
في الكبير 4/1/105 ، وابن أبي حاتم 3/2/53. ثم انظر ذكره في الآثار الآتية : 11368
، 11370.
(2) الأثر : 11368 - " عبد الكريم بن أبي عمير الدهان - أو الدهقان " ،
شيخ الطبري.
مضى برقم : 7578. و " أبو مطرف " ، المعروف بذلك هو " ابن أبي
الوزير " : " محمد بن عمر بن مطرف الهاشمي " ، روى عن شريك وهشيم
وغيرهما ، ثقة. مترجم في التهذيب ، والكبير 1/1/178 ، وابن أبي حاتم 4/1/20.
وقد وضعت نقطا بعده ، لأني أرجح أنه روى ذلك عن " هشيم " ، كما في الأثر
السالف ، والأثر : 11370 ، فإن مدار هذا الخبر على " هشيم ، عن غيلان "
.
وانظر " غيلان ، مولى بني مخزوم " ، في التعليق على الأثر السالف.
(10/30)
11370 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم
قال ، أخبرني غيلان بن عبد الله مولى قريش ، قال : سمعت ابن عمر سأله سائل قال :
إنه توضأ ونسي أن يمسح أذنيه ، قال فقال ابن عمر : الأذنان من الرأس. ولم ير عليه
بأسا. (1)
11371 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أيوب بن سويد ح ، وحدثنا
ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن جميعا ، عن سفيان ، عن سالم أبي النضر ، عن سعيد
بن مرجانة ، عن ابن عمر ، أنه قال : الأذنان من الرأس.
11372 - حدثني ابن المثنى قال ، حدثني وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة ، عن رجل ، عن
ابن عمر قال : الأذنان من الرأس.
11373 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي
بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : الأذنان من الرأس. (2)
11374 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن
قتاده ، عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا الأذنان من الرأس.
11375 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة قال :
الأذنان من الرأس عن الحسن وسعيد.
__________
(1) الأثر : 11370 - " غيلان بن عبد الله ، مولى قريش " ، انظر التعليق
على الأثرين السالفين.
(2) الأثر : 11373 - " علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة بن زهير بن عبد
الله بن جدعان " ، أو : " علي بن زيد بن جدعان " منسوبا إلى جده.
مضى برقم : 40 ، 4897 ، 6495 ، 9293 ، 10275.
و " يوسف بن مهران البصري " ، روى عن ابن عباس ، وابن عمر ، وجابر. روى
عنه علي بن زيد بن جدعان قال أحمد : " لا يعرف ، ولا أعرف أحدا روى عنه إلا
علي بن زيد " . وقال ابن سعد : " ثقة قليل الحديث " . مترجم في
التهذيب ، والكبير 4/2/375 ، وابن سعد 7/1/161 ، وابن أبي حاتم 4/2/229 .
(10/31)
11376 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال
، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، أخبرني أبو عمرو ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن ابن عمر
قال : الأذنان من الرأس.
11377 - حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا الوليد قال ، أخبرني ابن لهيعة ، عن أبي
النضر ، عن ابن عمر ، مثله. (1)
11378 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن عيسى بن يزيد ، عن عمرو ، عن الحسن
قال ، الأذنان من الرأس.
11379 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن سنان بن
ربيعة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة أو : عن أبي هريرة ، شك ابن بزيع : أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : الأذنان من الرأس.
11380 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا معلى بن منصور ، عن حماد بن زيد ، عن سنان بن
ربيعة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة قال : الأذنان من الرأس قال حماد : لا أدري
هذا عن أبي أمامة أو : عن النبي صلى الله عليه وسلم.
11381 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو أسامة قال ، حدثني حماد بن زيد قال ،
حدثني سنان بن ربيعة أبو ربيعة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة ، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : الأذنان من الرأس. (2)
__________
(1) الأثران 11376 ، 11377 - " أبو الوليد الدمشقي " هو : " أحمد
بن عبد الرحمن القرشي " ، وانظر الآثار السالفة : 11356 - 11360.
(2) الآثار : 11379 - 11381 - " معلى بن منصور الرازي " ، في الإسناد
الثاني ، روى عن مالك ، ومحمد بن ميمون الزعفراني ، وحماد بن زيد ، وهشيم ،
وغيرهم. روى عنه البخاري ، وذكره في الكبير ، ولم يذكر فيه جرحا. ووثقه ابن معين ،
وأبو حاتم وابن حبان وغيرهم. وقد تكلموا فيه. مترجم في التهذيب.
و " سنان " بن ربيعة الباهلي ، أبو ربيعة صاحب السابرى " ، روى عن
أنس ، وشهر بن حوشب ، وغيرهما. روى عنه الحمادان. قال ابن معين : " ليس
بالقوي " ، وقال أبو حاتم : " شيخ مضطرب الحديث " . وذكره ابن حبان
في الثقات. روى له البخاري مقرونا بغيره في الصحيح.
و " شهر بن حوشب الأشعري " ، تابعي ، وثقه أخي السيد أحمد فيما سلف رقم
: 1489 ، 5244 ، 6650 - 6652.
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 5 : 258 ، 264 ، 268. مطولا ، وأبو داود في سننه 1
: 68 ، رقم : 134 ، وابن ماجه 1 : 152 ، رقم : 444 ، والبيهقي في السنن 1 : 66 ،
67 ، والترمذي في السنن (شرح أخي السيد أحمد) 1 : 53 - 55 ، به بنحوه. وقال :
" وقد أطال العلماء البحث في هذه الكلمة ، وهل هي مدرجة من كلام أبي أمامة أو
مرفوعة ؟ ورجح كثير منهم الإدراج. انظر التلخيص (ص : 33) ، ونصب الراية (1 : 10 -
12 ) ، والراجح عندي أن الحديث صحيح. فقد روي من غير وجه بأسانيد بعضها جيد ،
ويؤيد بعضها بعضا " ، ثم أفاض في الكلام فيه.
وأما شك بن بزيع - في الأثر الأول - فالظاهر أنه خطأ من ابن بزيع ، وأن الصواب أنه
عن أبي أمامة ، لا عن أبي هريرة ، وسيأتي خبر أبي هريرة بعد ، رقم : 11383.
(10/32)
11382 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال
، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، أخبرني ابن جريج وغيره ، عن سليمان بن موسى : أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : الأذنان من الرأس. (1)
11383 - حدثنا الحسن بن شبيب ، قال ، حدثنا علي بن هاشم بن البريد قال ، حدثنا
إسماعيل بن مسلم ، عن عطاء ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: الأذنان من الرأس. (2)
11384 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا سفيان بن حبيب ، عن يونس : أن الحسن قال
: الأذنان من الرأس.
* * *
وقال آخرون : " الوجه " كل ما دون منابت شعر الرأس إلى منقطع الذَّقَن
__________
(1) الأثر : 11382 - " سليمان بن موسى الأموي " ، أبو هشام الأشدق ،
فقيه أهل الشام في زمانه. ثقة ثبت ، ولكنه يروي أحاديث ينفرد بها لا يرويها غيره.
مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر مرسل ، وإن كان سليمان بن موسى قد روى عن أبي أمامة.
(2) الأثر : 11383 - " الحسن بن شبيب بن راشد بن مطر " ، أبو علي المؤدب
، شيخ الطبري مضى برقم : 9642 ، وهو ليس بالقوي.
و " علي بن هاشم بن البريد البريدي العائذي " . له في مسلم حديثان. روى
عنه جماعة من الأئمة ، ووثقوه وضعفه بعضهم. مترجم في التهذيب.
و " إسمعيل بن مسلم المكي " ، مضى توثيقه ، برقم : 5417.
وروى ابن ماجه 1 : 152 ، رقم : 445 ، خبر أبي هريرة ، من طريق عمرو بن الحصين ، عن
محمد بن عبد الله بن علاثة ، عن عبد الكريم الجزري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي
هريرة. وقد ضعفوه ، لضعف عمرو بن الحصين ، ومحمد بن عبد الله بن علاثة.
(10/33)
طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا ، ما
ظهر من ذلك لعين الناظر ، وما بَطَن منه من منابت شعر اللحية النابت على الذَّقَن
وعلى العارضين ، وما كان منه داخل الفم والأنف ، وما أقبل من الأذنين على الوجه.
كل ذلك عندهم من " الوجه " الذي أمر الله بغسله بقوله : " فاغسلوا
وجوهكم " . وقالوا : إن ترك شيئا من ذلك المتوضِّئ فلم يغسله لم تُجْزِه
صلاته بوضوئه ذلك.
ذكر من قال ذلك :
11385 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثني محمد بن بكر وأبو عاصم قالا أخبرنا ابن
جريج قال ، أخبرني نافع : أن ابن عمر كان يبُلّ أصول شعر لحيته ، ويغلغِل بيده في
أصول شعرها حتى يَكثر القَطَرانُ منها. (1)
11386 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا سفيان بن حبيب ، عن ابن جريج قال ،
أخبرني نافع مولى ابن عمر : أن ابن عمر كان يغلغل يديه في لحيته حتى يَكثر منها
القَطَران. (2)
11387 - حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث ، عن سعيد قال ، حدثنا ليث ،
عن نافع ، عن ابن عمر : كان إذا توضأ خلَّل لحيته حتى يبلغ أصول الشعر.
11388 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا معلى بن جابر اللقيطي
قال ، أخبرني الأزرق بن قيس قال : رأيت ابن عمر توضأ فخلَّل لحيته. (3)
__________
(1) في المطبوعة في الأثرين جميعا " حتى تكثر القطرات " ، والصواب من
المخطوطة.
" قطر الماء يقطر قطرا وقطورا وقطرانا " : سال وتتابع.
(2) في المطبوعة في الأثرين جميعا " حتى تكثر القطرات " ، والصواب من
المخطوطة.
" قطر الماء يقطر قطرا وقطورا وقطرانا " : سال وتتابع.
(3) الأثر : 11388 - " يزيد " ، هو " يزيد بن زريع " ، مضى
مرارا.
و " معلى بن جابر مسلم اللقيطي " ، وثقه ابن حبان ، ولم يذكر البخاري
فيه جرحا. مترجم في الكبير 4/1/394 ، وابن أبي حاتم 4/1/332 ، وتعجيل المنفعة :
409.
و " الأزرق بن قيس الحارثي " ، ثقة. مترجم في التهذيب ، والكبير 1/2/69
، وابن أبي حاتم 1/1/339.
(10/34)
11389 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن
علية قال ، أخبرنا ليث ، عن نافع : أن ابن عمر كان يخلّل لحيته بالماء حتى يبلغ
أصول الشعر.
11390 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكر قال ، حدثنا ابن جريج قال :
أخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير : أن أباه عبيد بن عمير كان إذا توضأ غَلغل
أصابعه في أصول شعر الوجه يغلغلها بين الشعر في أصوله ، يدلك بأصابعه البشرة فأشار
لي عبد الله كما أخبره الرجل ، كما وصف عنه. (1)
11391 - حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا الوليد قال ، حدثنا أبو عمرو ، عن نافع ، عن
ابن عمر : أنه كان إذا توضأ عرَك عَارضيه بعض العرك ، وشبَّك لحيته بأصابعه أحيانا
ويترك أحيانًا. (2)
11392 - حدثنا أبو الوليد وعلي بن سهل قالا حدثنا الوليد قال ، قال أبو عمرو ،
وأخبرني عبدة ، عن أبي موسى الأشعري ، نحو ذلك.
11393 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن مسلم قال :
رأيت ابن أبي ليلى توضأ فغسل لحيته ، وقال : من استطاع منكم أن يُبْلغ الماء أصولَ
الشعر فليفعل.
11394 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا سفيان بن حبيب ، عن ابن جريج ، عن عطاء
قال : حقٌّ عليه أن يبل أصول الشعر.
11395 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا شعبة ، عن
الحكم قال : كان مجاهد يخلِّل لحيته.
__________
(1) الأثر : 11390 - " محمد بن بكر بن عثمان البرساني " ، مضى برقم :
5438.
وأما قوله : " كما أخبره الرجل. كما وصف عنه " فإني في شك منها ، ولكن
هكذا جاءت في المخطوطة أيضا.
(2) الأثر : 11391 - رواه البيهقي في السنن 1 : 55 ، من طريق عبد الواحد بن قيس ،
عن نافع ، بمثله. وانظر تفسير " تشبيك اللحية " فيما سلف ص : 29 ، تعليق
: 1 ، في الأثر : 11360.
(10/35)
11396 - حدثنا حميد قال ، حدثنا سفيان
، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : أنه كان يخلِّل لحيته إذا توضأ.
11397 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن
الحكم ، عن مجاهد ، مثله.
11398 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن
مجاهد ، مثله.
11399 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو داود الحفري ، عن سفيان ، عن ابن شبرمة ،
عن سعيد بن جبير قال : ما بال اللحية تغسل قبل أن تنبت فإذا نبتت لم تغسَل ؟ (1)
11400 - حدثنا ابن المثني ، قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عبيد الله ، عن
نافع ، عن ابن عمر : أنه كان يخلل لحيته إذا توضأ.
11401 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن طاوس : أنه
كان يخلِّل لحيته.
11402 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن إسماعيل ، عن ابن سيرين : أنه كان
يخلل لحيته.
11403 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، مثله.
11404 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، سألت شعبة عن تخليل اللحية في
الوضوء ، فذكر عن الحكم بن عتيبة : أن مجاهدا كان يخلل لحيته.
__________
(1) الأثر : 11399 - " أبو داود الحفري " ، (بالحاء المهملة) هو :
" عمر بن سعد بن عبيد " ، مضى برقم : 863.
(10/36)
11405 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا
هارون ، عن عمرو عن معروف ، قال ، رأيت ابن سيرين توضأ فخلل لحيته.
11406 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا هشام ، عن ابن سيرين ،
مثله.
11407 - حدثنا أبو كريب ، قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن الزبير بن عدي ،
عن الضحاك قال : رأيته يخلل لحيته.
11408 - حدثنا تميم بن المنتصر قال ، أخبرنا محمد بن يزيد ، عن أبي الأشهب ، عن
موسى بن أبي عائشة ، عن زيد الخدري ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال : رأيت
النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فخلَّل لحيته ، فقلت : لم تفعل هذا يا نبي الله ؟
قال : " أمرني بذلك ربيِّ " . (1)
11409 - حدثنا تميم قال ، أخبرنا محمد بن يزيد ، عن سلام بن سَلْم ، عن
__________
(1) الأثر : 11408 - " محمد بن يزيد الكلاعي " ، الواسطي ، روى عن
إسمعيل بن أبي خالد ، وأبي الأشهب جعفر بن حيان السعدي ، وغيرهما. روى عنه أحمد ،
وابن معين ، وغيرهما من الأئمة. قال أحمد : " كان ثبتا في الحديث " .
مترجم في التهذيب.
و " أبو الأشهب " هو : " جعفر بن حيان السعدي العطاردي " ،
روى عن أبي رجاء العطاردي ، والحسن البصري ، وغيرهما. ثقة مترجم في التهذيب.
" وموسى بن أبي عائشة المخزومي " ، روى عبد الله بن شداد بن الهاد ،
وعمرو بن الحارث ، وسعيد بن جبير ، روى عنه شعبة والسفيانان وغيرهم. ثقة مترجم في
التهذيب.
وأما " زيد الخدري " ، فلم أجد له ترجمة ، ولم أعرف من يكون. وأخشى أن
يكون في الإسناد خلط ، أو أن يكون في هذا الاسم تحريف.
وأما " يزيد الرقاشي " ، فهو : " يزيد بن أبان الرقاشي " ،
ضعيف مضى برقم : 6654 ، 6728 ، 7757.
وستأتي رواية هذا الخبر عن يزيد الرقاشي عن أنس ، في رقم : 11409 ، 11411.
ومدار هذا الخبر على يزيد الرقاشي ، فهو إسناد ضعيف.
وهذا الخبر رواه ابن ماجه في سننه 1 : 149 ، رقم : 431 من طريق يحيى بن كثير ، أبو
النضر ، صاحب البصري ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس ، بغير هذا اللفظ. ورواه الحاكم
في المستدرك مرسلا عن أنس ، من طريق موسى بن أبي عاشة أيضا عن أنس. وأشار إليه
البيهقي في السنن 1 : 54.
(10/37)
زيد العمي ، عن معاوية بن قرة أو :
يزيد الرقاشي عن أنس ، قال : وضّأت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأدخل أصابعه من
تحت حَنَكه ، فخلَّل لحيته ، وقال : بهذا أمرني ربي جل وعز " . (1)
11410 - حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال ، حدثنا المحاربي ، عن سلام بن سَلْم
المديني ، قال ، حدثنا زيد العمي ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، نحوه. (2)
11411 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال ، حدثنا أبو عبيدة الحداد ، قال حدثنا موسى
بن ثروان ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" هكذا أمرني ربي " ! وأدخل أصابعه في لحيته ، فخلَّلها (3)
__________
(1) الأثر : 11409 - طريق أخرى ، لخبر يزيد الرقاشي ، عن أنس.
و " سلام بن سلم المدائني " ويقال : " سلامة بن سليم " ،
" وابن سليمان " ، والصواب الأول ، هو " سلام الطويل " ، أكثر
روايته عن " زيد العمي " . وروى عنه عبد الرحمن بن محمد المحاربي. قال
أحمد : " روى أحاديث منكرة " . وقال البخاري : " تركوه " ، وقال
النسائي : " ليس بثقة ، ولا يكتب حديثه " . مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة : " سلام بن سليم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
و " زيد العمي " هو " زيد بن الحواري " ، قاضي هراة. روى عن
أنس ، وسعيد بن المسيب ، وعكرمة ، والحسن ، ومعاوية بن قرة وغيرهم. متكلم فيه.
مترجم في التهذيب.
و " معاوية بن قرة المزني " ، أبو إياس ، تابعي ثقة ، كان من عقلاء
الرجال. مترجم في التهذيب.
وهذا الحديث ضعيف لضعف سلام بن سلم.
و " الحنك " : ما تحت الذقن من الإنسان وغيره.
(2) الأثر : 11410 - " محمد بن إسمعيل الأحمسي " شيخ الطبري ، مضى برقم
: 405 ، 718 ، 9155.
و " المحاربي " ، هو " عبد الرحمن بن محمد بن زياد " ، ثقة.
مضى برقم : 221 ، 875.
و " سلام بن سلم المديني " ، هو الذي مضى في الأثر السالف ، ونسب في
المراجع " المدائني " .
وكان في المخطوطة هنا : " سلم بن سلام المديني " ، وهو سهو من الناسخ لا
شك فيه.
وهذا أيضا ضعيف الإسناد ، كالذي قبله.
(3) الأثر : 11411 - هو مكرر الأثرين السالفين : 11408 ، 11409 ، من طريق أخرى.
" أبو عبيدة الحداد " هو : " عبد الواحد بن واصل السدوسي " ،
ثقة ، من شيوخ أحمد ، مضى برقم : 3023 ، 9837.
" موسى بن ثروان العجلي " (بالثاء المثلثة) ، ويقال : " موسى بن
سروان " ، و " موسى بن فروان " (بالفاء). ثقة. مترجم في التهذيب
والكبير 4/1/281 ، وابن أبي حاتم 4/1/138.
وكان في المخطوطة والمطبوعة " شروان " (بالشين المعجمة) ، وهو خطأ.
وهذا الخبر ضعيف ، لضعف يزيد الرقاشي.
(10/38)
11412 - حدثنا أبو كريب ، قال ، حدثنا
معاوية بن هشام وعبيد الله بن موسى ، عن خالد بن إلياس ، عن عبد الله بن رافع ، عن
أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ، فخلّل لحيته. (1)
11413 - حدثنا علي بن الحسين بن الحر ، قال ، حدثنا محمد بن ربيعة ، عن واصل بن
السائب ، عن أبي سورة ، عن أبي أيوب ، قال : رأينا النبي صلى الله عليه وسلم توضأ
، وخلّل لحيته. (2)
__________
(1) الأثر : 11412 - " معاوية بن هشام " و " عبيد الله بن موسى بن
أبي المختار العبسي " ، مضيا مرارا كثيرة.
و " خالد بن إلياس بن صخر القرشي العدوي ، المدني " ، من ولد عامر بن
لؤي. قال البخاري : " ليس بشيء " . وقال أحمد : " متروك الحديث
" . مترجم في ميزان الاعتدال للذهبي 1 : 295 ، والكبير للبخاري 2/1/129 ،
وابن أبي حاتم 1/2/321.
و " عبد الله بن رافع المخزومي " ، مولى أم سلمة ، تابعي ثقة. مضى برقم
: 5398.
وهذا الخبر خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 235 ، وقال : " رواه الطبراني
في الكبير.
وفيه : خالد بن إلياس ، ولم أر من ترجمه " . فقصر ، فقد ذكرنا من ترجمه قبل.
(2) الأثر : 11413 - " علي بن الحسين بن الحر " هو " علي بن الحسين
بن إبراهيم بن الحر بن زعلان " المعروف بابن أشكاب الأكبر ، ثقة ، مترجم في
تاريخ بغداد 11 : 392 ، وابن أبي حاتم 3/1/179.
و " محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي " ، ثقة ، مضى برقم : 181 ، 6860.
و " واصل بن السائب الرقاشي " ، قال ابن معين : " ليس بشيء "
، وقال البخاري : " منكر الحديث " . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/173
، وابن أبي حاتم 4/2/30.
و " أبو سورة " ، ابن أخي أبي أيوب الأنصاري. قال البخاري : " منكر
الحديث ، يروي عن أبي أيوب مناكير لا يتابع عليها " . وقال الترمذي في العلل
عن البخاري : " لا يعرف لأبي سورة سماع من أبي أيوب " . مترجم في التهذيب
، وابن أبي حاتم 4/2/388.
وهذا خبر ضعيف ، لضعف واصل بن السائب ، وأبي سورة.
رواه ابن ماجه في السنن 1 : 149 ، رقم : 433 ، من طريق إسمعيل بن عبد الله الرقي
عن محمد بن ربيعة ، به ، نحوه ، وضعفه الزيلعي في نصب الراية 1 : 24.
وسيأتي هذا الخبر بإسناد آخر رقم : 11418.
(10/39)
11414 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ،
حدثنا زيد بن حباب قال ، حدثنا عمر بن سليمان ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة :
" أن النبي صلى الله عليه وسلم خلّل لحيته " . (1)
11415 - حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني قال ، حدثنا سفيان ، عن عبد الكريم أبي أمية
: أن حسان بن بلال المزني رأى عمار بن ياسر توضأ وخلل لحيته ، فقيل له : أتفعل هذا
، فقال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. (2)
__________
(1) الأثر : 11414 - " زيد بن حباب العكلي " ، ثقة. مضى برقم : 2185 ،
5350 ، 8165. وكان في المطبوعة : " زيد بن حبان " ، وهو خطأ محض.
و " عمر بن سليمان " ، هكذا جاء في المطبوعة ، وفي نصب الراية : "
عمر بن سليمان الباهلي " ، وفي المخطوطة " عمرو بن سليمان " . ولا
أدري كيف اتفق ذلك في التفسير ، وفي نصب الراية ، نقلا عن الطبراني في معجمه ،
وابن أبي شيبة في مصنفه !! فإنه يكاد يكون من المقطوع به أنه " عمر بن سليم
الباهلي " ، فهو الذي يروي عن أبي غالب ، صاحب أبي أمامة ، وهو الذي يروي عنه
زيد بن الحباب ، كما في ترجمته في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/1/112 ، 113. قال أبو
زرعة : " صدوق " ، وذكره ابن حبان في الثقات. فلا أدري أجائز أن يكون
فاتهم أن في اسم أبيه اختلافا : " سليم " أو " سليمان " ؟
و " أبو غالب " صاحب أبي أمامة ، معروف بكنيته ، قال ابن معين : "
صالح الحديث " ، وحسن الترمذي بعض أحاديثه ، وصحح بعضها ، وقال ابن حبان :
" لا يجوز الاحتجاج به إلا فيما وافق الثقات " . وضعفه بعضهم. مترجم في
التهذيب.
وهذا الخبر خرجه الزيلعي في نصب الراية 1 : 25 ، فقال : " رواه الطبراني في
معجمه ، وابن أبي شيبة في مصنفه ، والطبراني : حدثنا عنبسة بن غنام ، قال حدثنا
أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا عمر بن سليمان الباهلي ، عن
ابن غالب (والصواب : عن أبي غالب) ، عن أبي أمامة... " . الحديث.
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 235 ، وقال : " رواه الطبراني في الكبير ،
وفيه الصلت ابن دينار ، وهو متروك " . فهذا إسناد آخر للطبراني ، فيما يظهر ،
غير الذي خرجه الزيلعي في نصب الراية.
(2) الأثر : 11415 - " محمد بن عيسى الدامغاني " ، شيخ الطبري ، مضى
برقم : 3225. و " سفيان " هو ابن عيينة.
و " عبد الكريم أبو أمية " هو " عبد الكريم بن أبي المخارق "
، روى عن أنس بن مالك ، وطاوس وحسان بن بلال ، وغيره. وهو ضعيف ، متكلم فيه. وأنكر
البخاري وابن عيينة سماع عبد الكريم من حسان بن بلال حديث التخليل. مترجم في
التهذيب.
و " حسان بن بلال المزني " روى عن عمار بن ياسر. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر رواه ابن ماجه 1 : 148 ، رقم : 429 ، والحاكم في المستدرك 1 : 149 ،
وأبو داود الطيالسي رقم : 645 ، والترمذي في السنن 1 : 44 (شرح أخي السيد أحمد) ،
وقد استوفى أخي الكلام فيه هناك. وانظر أيضا نصب الراية للزيلعي 1 : 24.
(10/40)
11416 - حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا
الوليد قال ، حدثنا أبو عمرو قال ، أخبرني عبد الواحد بن قيس ، عن يزيد الرقاشي
وقتادة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا توضأ عَرك عارضيه ، وشبك
لحيته بأصابعه. (1)
11417 - حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا الوليد قال ، أخبرني أبو مهدي سعيد بن سنان
، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نفير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه. (2)
11418 - حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال ، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي أبو عبد
الله قال ، حدثني واصل الرقاشي ، عن أبي سودة هكذا قال
__________
(1) الأثر : 11416 - " أبو الوليد " : هو : " أحمد بن عبد الرحمن
القرشي " ، انظر ما مضى في التعليقات على الآثار : 11356 - 11360.
و " الوليد " ، هو " الوليد بن مسلم " ، انظر ما سلف أيضا.
و " عبد الواحد بن قيس السلمي " الأفطس النحوي. روى عن أبي أمامة ،
ونافع مولى ابن عمر ، ويزيد الرقاشي. وروى عنه أبو عمرو الأوزاعي. تكلموا فيه.
مترجم في التهذيب.
وانظر تفسير " تشبيك اللحية " فيما سلف : 11360 ، 11391.
(2) الأثر : 11417 - " أبو مهدي " ، " سعيد بن سنان الحنفي "
، روى عن أبيه ، وأبي الزاهرية ، وغيرهما. روى عنه بشر بن بكر التنيسي ، وابن
المبارك ، والوليد بن مسلم ، وغيرهم ، قال أحمد : " ضعيف " ، وقال ابن
معين : " ليس بثقة " . وقال الجوزجاني : " أخاف أن تكون أحاديثه
موضوعة ، لا تشبه أحاديث الناس " . وقال مسلم في الكنى : " منكر الحديث
" . مترجم في التهذيب.
و " أبو الزاهرية " ، هو : " حدير بن كريب الحضرمي " ، روى عن
حذيفة ، وأبي الدرداء ، وعبد الله بن عمرو بن العاص. ثقة. مضى برقم : 11255.
و " جبير بن نفير الحضرمي " ، ثقة من كبار التابعين ، كان جاهليا. مضى
برقم : 7009. وهذا الخبر مرسل.
(10/41)
الأحمسي عن أبي أيوب قال : كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ تمضمض ومسح لحيته من تحتها بالماء. (1)
* * *
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بَطن من الأنف والفم.
11419 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي
نجيح قال ، سمعت مجاهدا يقول : الاستنشاق شَطْر الوضوء.
11420 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن شعبة قال : سألت حمادا
عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق ، قال حماد : ينصرف فيتمضمض
ويستنشق.
11421 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الصباح ، عن أبي سنان قال : قدمت الكوفة فأتيت
حمادا فسألته عن ذلك يعني : عمن ترك المضمضة والاستنشاق وصلى فقال : أرى عليه
إعادة الصلاة.
11422 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا شعبة قال : كان
قتادة يقول : إذا ترك المضمضة أو الاستنشاق أو أذنه أو طائفة من رجله حتى يدخل في
صلاته ، فإنه ينفتِلُ ويتوضأ ، ويعيد صلاته. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 11418 - " محمد بن إسمعيل الأحمسي " ، مضى قريبا رقم :
11410.
و " محمد بن عبيد الطنافسي " أبو عبد الله الأحدب ، ثقة معروف ، مضى
برقم : 405 ، 9155.
و " واصل الرقاشي " ، هو : " واصل بن السائب الرقاشي " ، مضى
برقم : 11413.
و " أبو سودة " ، إنما هو " أبو سورة " (بالراء) كما سلف في
رقم : 11413 ، وإنما قال ذلك محمد بن إسمعيل الأحمسي ، شيخ الطبري ، وأخطأ. وكان
في المطبوعة " أبو سورة " بالراء ، وهو تصحيح لا معنى له. والصواب من
المخطوطة ، وإن كان خطأ على الحقيقة.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5 : 417 ، عن محمد بن عبيد الطنافسي ، بمثله ،
مطولا.
وهو ضعيف الإسناد ، كأخيه السالف رقم : 11413.
(2) في المطبوعة : " فإنه ينتقل " ، وهو خطأ محض ، وهو في المخطوطة كما
أثبته غير منقوط.
يقال ، " انفتل فلان عن صلاته ، أو من صلاته " ، أي : انصرف. ويقال :
" فتل وجهه عن القوم " : صرفه ولفته.
(10/42)
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه
المقالة من أن ما أقبل من الأذنين فمن الوجه ، وما أدبر فمن الرأس.
11423 - حدثنا أبو السائب قال ، حدثنا حفص بن غياث قال ، حدثنا أشعث ، عن الشعبي ،
قال : ما أقبل من الأذنين فمن الوجه ، وما أدبر فمن الرأس.
11424 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثني شعبة ، عن
الحكم وحماد ، عن الشعبي في الأذنين : باطنهما من الوجه ، وظاهرهما من الرأس.
11425 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن
الحكم ، عن الشعبي قال : مقدَّم الأذنين من الوجه ، ومؤخَّرهما من الرأس.
11426 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن الحكم وحماد ،
عن الشعبي بمثله إلا أنه قال : باطن الأذنين.
11427 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن حماد ،
عن الشعبي بمثله ، إلا أنه قال : باطن الأذنين.
11428 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن حماد ،
عن الشعبي ، بمثله.
11429 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، قال : باطن
الأذنين من الوجه ، وظاهرهما من الرأس.
11430 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا أبو تميلة ح ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال
، حدثنا ابن علية قالا جميعا ، حدثنا محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن طلحة بن
يزيد بن ركانة ، عن عبيد الله الخولاني ، عن ابن
(10/43)
عباس قال : قال علي بن أبي طالب : ألا
أتوضأ لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال قلنا : نعم! فتوضأ ، فلما غسل وجهه
، ألقَم إبهاميه ما أقبل من أذنيه. قال : ثم لما مسح برأسه مسح أذنيه من ظهورهما
(1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندنا قولُ من قال : " الوجه
" الذي أمر الله جل ذكره بغسله القائمَ إلى صلاته : كل ما انحدر عن منابت
شَعَر الرأس إلى مُنقطع الذَّقَن طولا وما بين الأذنين عرضا مما هو ظاهر لعين
الناظر ، دون ما بطن من الفم والأنف والعين ، ودون ما غطاه شعر اللحية والعارضين
والشاربين فستره عن أبصار الناظرين ، ودون الأذنين.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب وإن كان ما تحت شعر اللحية والشاربين قد كان " وجها
" يجب غسله قبل نبات الشعر الساتر عن أعين الناظرين على القائم إلى صلاته
لإجماع جميعهم على أن العينين من الوجه ، ثم هم - مع إجماعهم على ذلك - مجمعون على
أن غسلَ ما علاهما من أجفانهما دون إيصال الماء إلى ما تحت الأجفان منهما مجزئ.
فإذْ كان ذلك منهم إجماعا بتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على ذلك ، فنظير
ذلك كل ما علاه شيء من مواضع الوضوء من جسد ابن آدم من نفس خلقه ساتِرَه لا يصل
الماء إليه إلا بكلفة ومؤنة وعلاج ، قياسا لما ذكرنا من حكم العينين في ذلك.
__________
(1) الأثر : 11430 - " محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة " . ثقة ، مضى
برقم : 11329.
و " عبيد الله الخولاني " ، هو " عبيد الله بن الأسود " ،
ويقال : " عبيد الله بن الأسد " ربيب ميمونة ، روى عنها ، وعن ابن عباس.
ثقة.
وهذا الخبر رواه أبو داود في السنن 1 : 64 ، رقم : 117 ، ورواه أحمد في المسند رقم
: 625 ، مطولا ، وقد ضعف البخاري هذا الحديث وقال : " ما أدري ما هذا "
، ولكن أخي السيد أحمد صححه في شرح هذا الخبر في المسند.
(10/44)
فإذا كان ذلك كذلك ، فلا شك أن مثلَ
العينين في مؤنة إيصال الماء إليهما عند الوضوء ما بطن من الأنف والفم وشَعَر
اللحية والصدغين والشاربين ، لأن كل ذلك لا يصل الماء إليه إلا بعلاجٍ لإيصال
الماء إليه نحو كلفة علاج الحدقتين لإيصال الماء إليهما أو أشدّ.
وإذا كان ذلك كذلك ، كان بيِّنًا أن غسل مَنْ غسل من الصحابة والتابعين ما تحت
منابت شعر اللحية والعارضين والشاربين ، وما بطن من الأنف والفم ، إنما كان
إيثارًا منه لأشق الأمرين عليه : من غسل ذلك وترك غسله ، كما آثر ابن عمر غسل ما
تحت أجفان العينين بالماء بصبِّه الماء في ذلك لا على أنّ ذلك كان عليه عنده فرضا
واجبا. فأما من ظنّ أن ذلك من فعلهم كان على وجه الإيجاب والفرض ، فإنه خالف في
ذلك بقوله منهاجَهم وأغفل سبيلَ القياس ، لأن القياس هو ما وصفنا من تمثيل المختلف
فيه من ذلك ، بالأصل المجمع عليه من حكم العينين وأنْ لا خبر عن واحد من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب على تارك إيصال الماء في وضوئه إلى أصول شعر
لحيته وعارضيه ، وتارك المضمضة والاستنشاق إعادةَ صلاته إذا صلى بطهره ذلك. ففي
ذلك أوضح الدليل على صحة ما قلنا من أن فعلهم ما فعلوا من ذلك كان إيثارا منهم
لأفضل الفعلين من الترك والغسل.
فإن ظن ظان أن في الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
11431 - " إذا توضأ أحدكم فليستنثر " . (1)
دليلا على وجوب الاستنثار ، فإن في إجماع الحجة على أن ذلك غيرُ فرض واجب ، يجب
على من تركه إعادة الصلاة التي صلاها قبل غسله ، ما يغني عن إكثار القول فيه.
* * *
__________
(1) الأثر : 11431 - هذا خبر لم يذكر إسناده ، وانظر مثل لفظه في البخاري (فتح 1 :
229).
(10/45)
وأما الأذنان فإن في إجماع جميعهم على
أن ترك غسلهما ، أو غسل ما أقبل منهما مع الوجه ، غيُر مفسد صلاةَ من صلى بطهره
الذي ترك فيه غسلهما مع إجماعهم جميعا على أنه لو ترك غسل شيء مما يجب عليه غسله
من وجهه في وضوئه أن صلاته لا تجزئه بطهوره ذلك ما ينبئ عن أنّ القول في ذلك ما
قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا قولهم : (1) إنهما ليسا من
الوجه دون ما قاله الشعبي.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في " المرافق " ، هل هي من اليد
الواجب غسلها ، أم لا ؟ بعد إجماع جميعهم على أن غسل اليد إليها واجب.
فقال مالك بن أنس وسئل عن قول الله : " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق
" أترى أن يخلف المرفقين في الوضوء ؟ قال : الذي أمر به أن يُبْلغ "
المرفقين " ، قال تبارك وتعالى : " فاغسلوا وجوهكم " فذهب هذا يغسل
خلفه!! (2) فقيل له : فإنما يغسل إلى المرفقين والكعبين لا يجاوزهما ؟ فقال ، لا
أدري " ما لا يجاوزهما " أما الذي أمر به أن يبلغ به فهذا : إلى
المرفقين والكعبين حدثنا يونس ، عن أشهب عنه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ما ينبئ عن القول في ذلك مما قاله أصحاب رسول الله...
" ، وهو مضطرب ، وفي المخطوطة مثله ، إلا أنه كتب " ما قاله أصحاب رسول
الله... " ، وصواب السياق يقتضي أن يكون : " ما ينبئ عن أن القول...
" بزيادة " أن " .
(2) في المطبوعة : " مذهب هذا يغسل خلفه " ، وقد استشكلها ناشر المطبوعة
الأولى ، وحق له. وهي في المخطوطة مثلها سيئة الكتابة ، وصوابها " فذهب
" ، وهذه الجملة ، تعجب ممن قيل له : " فاغسلوا وجوهكم " ، فراح
يغسل ما خلف الوجه ، أي القفا.
(10/46)
وقال الشافعي : لم أعلم مخالفا في أن
المرافق فيما يغسل " ، كأنه يذهب إلى أن معناها : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى
أن تُغْسَل المرافق حدثنا بذلك عنه الربيع. (1)
* * *
وقال آخرون : إنما أوجب الله بقوله : " وأيديكم إلى المرافق " غسلَ
اليدين إلى المرفقين ، فالمرفقان غايةٌ لما أوجب الله غسله من آخر اليد ، والغاية
غير داخلة في الحدِّ ، كما غير داخل الليلُ فيما أوجب الله تعالى على عباده من
الصوم بقوله : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) [سورة البقرة :
187] لأن الليل غاية لصوم الصائم ، إذا بلغه فقد قضى ما عليه. قالوا : فكذلك
المرافق في قوله : " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق " غاية لما
أوجب الله غسلَه من اليد. وهذا قول زُفَر بن الهذيل. (2)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن غسل اليدين إلى المرفقين من
الفرض الذي إن تركه أو شيئا منه تارك ، لم تجزه الصلاة مع تركه غسلَه. فأما
المرفقان وما وراءهما ، فإن غسل ذلك من الندب الذي ندبَ إليه صلى الله عليه وسلم
أمته بقوله :
11432 - " أمتي الغرُّ المحجلون من آثار الوضوء ، فمن استطاع منكم أن يُطيل
غُرَّته فليفعل " . (3)
__________
(1) هذا كله نص الشافعي في الأم 1 : 22 ، إلا أن فيه : " كأنهم ذهبوا إلى أن معناها...
"
(2) " زفر بن الهذيل بن قيس العنبري " ، أبو الهذيل ، صاحب أبي حنيفة.
كان من أصحاب الحديث ، ثم غلب عليه الرأي ، فكان من أصحاب أبي حنيفة.
(3) هذا حديث صحيح ، لم يذكر إسناده ، ورواه البخاري (الفتح 1 : 207 ، 208 ) ولفظه
: " إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين " ، بمثله.
و " الغر " جمع " أغر " ، أي ذو غرة (بضم الغين وتشديد الراء)
، وهي لمعة بيضاء ، تكون في جبهة الفرس ، وأراد بذلك النور الذي يكون في وجوه أهل
الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، واهتدوا بهديه.
و " المحجلون " من " التحجيل " ، وهو بياض يكون في ثلاث قوائم
من قوائم الفرس. وهذه سيما المؤمنين الذين اتبعوه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
(10/47)
فلا تفسد صلاة تاركِ غسلِهما وغسل ما
وراءهما ، لما قد بينا قبلُ فيما مضى : من أن كل غاية حُدَّت بـ " إلى "
فقد تحتمل في كلام العرب دخول الغاية في الحدّ وخروجها منه. وإذا احتمل الكلام ذلك
لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيه ، إلا لمن لا يجوز خلافه فيما بيَّن وحَكم ،
ولا حُكم بأن المرافق داخلة فيما يجب غسله عندنا ممن يجب التسليم بحكمه.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في صفة " المسح " الذي أمر الله به
بقوله : " وامسحوا برءوسكم " .
فقال بعضهم : وامسحوا بما بدا لكم أن تمسحوا به من رءوسكم بالماء ، إذا قمتم إلى
الصلاة.
ذكر من قال ذلك :
11433 - حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال ، حدثنا حماد بن مسعدة ، عن عيسى بن حفص قال
: ذكر عند القاسم بن محمد مسحُ الرأس فقال : يا نافع كيف كان ابن عمر يمسح ؟ فقال
، مسحةً واحدة ووصف أنه مسح مقدَّم رأسه إلى وجهه فقال القاسم : ابن عمر أفقهُنا
وأعلمُنا.
11434 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال : سمعت يحيى بن سعيد يقول :
أخبرني نافع : أن ابن عمر كان إذا توضأ ردَّ كفه اليمنى إلى الماء ووضعهما فيه ،
ثم مسح بيديه مقدَّم رأسه.
11435 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكير ، قال أخبرنا ابن جريج قال ،
أخبرني نافع : أن ابن عمر كان يضع بطن كفه اليمنى على الماء ، (1)
__________
(1) في المطبوعة : " كان يضع بطن كفيه على الماء " ، ليت شعري كيف
استجاز الناشر أن يجعل " كفه اليمنى " " كفيه " ؟ أمن أجل أن
الناسخ كتب في الجملة التالية : " ثم لا ينفضهما ، ثم تمسح بهما "
بالتثنية ؟ ولقد أخطأ الناسخ في تثنية الضمير ، فرددته إلى الصواب بإفراد الضمير.
(10/48)
لا ينفضهما ثم يمسح بها ما بين قَرْنيه
إلى الجبين واحدًة ، ثم لا يزيد عليها في كل ذلك مسحةٌ واحدة ، مقبلةً من الجبين
إلى القرن. (1)
11436 - حدثنا تميم بن المنتصر قال ، حدثنا إسحاق قال ، أخبرنا شريك ، عن يحيى بن
سعيد الأنصاري ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان إذا توضأ مسح مقدَّم رأسه.
11437 - حدثنا تميم بن المنتصر قال ، أخبرنا إسحاق قال ، أخبرنا شريك ، عن عبد
الأعلى الثعلبي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : يجزيك أن تمسح مقدَّم رأسك إذا
كنت معتمرا. (2) وكذلك تفعل المرأة.
11438 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الله الأشجعي ، عن سفيان ، عن ابن عجلان ،
عن نافع قال : رأيت ابن عمر مسح بَيافوخه مسحة وقال سفيان : إن مسح شعرةً أجزأه
يعني واحدةً.
11439 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا عبد السلام بن حرب قال ، أخبرنا مغيرة ، عن
إبراهيم قال : أيّ جوانب رأسك أمْسَسْتَ الماء أجزأك. (3)
11440 - حدثنا أبو هشام قال ، حدثنا علي بن ظبيان قال ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد
، عن الشعبي ، قال : أي جوانب رأسك أمسست الماء أجزأك. (4)
11441 - حدثنا الرفاعي قال ، حدثنا وكيع ، عن إسماعيل الأزرق ، عن الشعبي ، مثله.
(5)
__________
(1) " القرن " هو حد الرأس وجانبها ، وهما قرنان عن يمين وشمال.
(2) " اعتمر الرجل يعتمر ، فهو معتمر " : إذا تعمم بعمامة ، فهو معتم. و
" العمارة " (بفتح العين) : كل شيء على الرأس ، من عمامة ، أو قلنسوة ،
أو تاج ، أو غير ذلك.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " مسست الماء " ، وهو خطأ ، انظر الخبر
التالي.
(4) الأثر : 11440 - كان في المطبوعة : " ... عن الشعبي ، مثله " ، ولم
يثبت نص الخبر ، وهو ثابت في المخطوطة. فرددته إلى مكانه.
(5) الأثر : 11441 - هذا الأثر ، أخره ناشر المطبوعة السالفة ، فوضعه بعد الأثر
التالي ، وقد أساء.
(10/49)
11442 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن
علية قال ، أخبرنا أيوب ، عن نافع قال : كان ابن عمر يمسح رأسه هكذا فوضع أيوب
كفّه وسط رأسه ، ثم أمرَّها على مقدَّم رأسه.
11443 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن سفيان ، قال : إن مسح رأسه
بأصبع واحدة أجزأه. (1)
11444 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : قلت لأبي عمرو
: ما يجزئ من مسح الرأس ؟ قال : أن تمسح مقدَّم رأسك إلى القفا أحبُّ إلّي.
11445 - حدثني العباس بن الوليد ، عن أبيه ، عنه ، نحوه.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : فامسحوا بجميع رءوسكم. قالوا : إن لم يمسح بجميع رأسه
بالماء ، لم تجزِه الصلاة بوضوئه ذلك.
ذكر من قال ذلك :
11446 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، حدثنا أشهب قال ، قال مالك : من مسح بعضَ
رأسه ولم يعمَّ أعاد الصلاة بمنزلة من غسل بعضَ وجهه أو بعضَ ذراعه. قال ، وسئل
مالك عن مسح الرأس ، قال : يبدأ من مقدَّم وجهه ، فيدير يديه إلى قفاه ، ثم
يردُّهما إلى حيث بدأ منه.
* * *
وقال آخرون : لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع. وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي
يوسف ومحمد.
* * *
__________
(1) الأثر : 11443 - " زيد بن الحباب " ، مضى قريبا برقم : 11414 ، وكان
في المخطوطة والمطبوعة : " يزيد بن الحباب " ، وهو خطأ.
(10/50)
قال أبو جعفر : والصواب من القول في
ذلك عندنا ، أن الله جل ثناؤه أمر بالمسح برأسه القائمَ إلى صلاته مع سائر ما أمره
بغسله معه أو مسحه ، ولم يحدَّ ذلك بحدٍّ لا يجوز التقصير عنه ولا يجاوزه. وإذ كان
ذلك كذلك ، فما مسح به المتوضئ من رأسه فاستحقَّ بمسحه ذلك أن يقال : " مسح
برأسه " ، فقد أدّى ما فرض الله عليه من مسح ذلك لدخوله فيما لزمه اسم "
ماسحٍ برأسه " إذا قام إلى صلاته. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل : فإن الله قد قال في التيمم : ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ ) [سورة النساء : 43] أفيجزئ المسحُ ببعض الوجه واليدين في التيمم ؟
قيل له : كلَّ ما مسح من ذلك بالتراب ، فيما تنازعت فيه العلماء فقال بعضهم :
" يجزيه ذلك من التيمم " وقال بعضهم : " لا يجزيه " فهو مجزئه
، لدخوله في اسم " الماسحين به " .
وما كان من ذلك مجمعا على أنه غير مجزئه ، فمسلَّم لما جاءت به الحجة نقلا عن
نبيِّها صلى الله عليه وسلم. ولا حجة لأحد علينا في ذلك ، إذ كان من قولنا : إن ما
جاء في آي الكتاب عامًّا في معنىً ، فالواجب الحكم أنه على عمومه ، (2)
حتى يخصه ما يجب التسليم له ، فإذا خُصَّ منه شيء ، كان ما خُصَّ منه خارجا من
ظاهره ، وحكم سائره على العموم. (3)
وقد بيَّنا العلة الموجبة صحة القول بذلك في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته
في هذا الموضع. (4)
* * *
و " الرأس " الذي أمر الله جل وعز بالمسح به بقوله : " وامسحوا
برءوسكم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " اسم مامسح " ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) في المطبوعة : " فالواجب الحكم به على عمومه " ، وأسقط " من
" . وفي المخطوطة : " فالواجب من الحكم به على عمومه " ، وهو
الصواب ، مع جعل " به " " أنه " ، كما أثبتها.
(3) انظر تفسير آية التيمم في 8 : 410 - 425.
(4) انظر القول في الخصوص والعموم فيما سلف 2 : 207 ، 539/4 : 134/5 : 40 ، 130 ،
وفي مواضع أخرى كثيرة متفرقة.
(10/51)
وأرجلكم إلى الكعبين " هو منابت
شعر الرأس ، دون ما جاوز ذلك إلى القفا ممَّا استدبر ، ودون ما انحدر عن ذلك مما
استقبلَ من قِبل وجه إلى الجبهة.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه جماعة من قرأة الحجاز والعراق : ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ،
نصبًا ، فتأويله : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم إلى المرافق
وأرجلَكم إلى الكعبين ، وامسحوا برءوسكم وإذا قرئ كذلك ، كان من المؤخر الذي معناه
التقديم ، وتكون " الأرجل " منصوبة عطفا على " الأيدي " .
وتأول قارئو ذلك كذلك ، أن الله جل ثناؤه : إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح
بها.
* * *
ذكر من قال : عنى الله بقوله : " وأرجلكم إلى الكعبين " الغسلَ.
11447 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا خالد الحذاء ،
عن أبي قلابة أن رجلا صلى وعلى ظهر قدمه موضع ظُفُر ، فلما قضى صلاته ، قال له عمر
: أعدْ وضوءك وصلاتَك.
11448 - حدثنا حميد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا إسرائيل قال ، حدثنا عبد
الله بن حسن قال ، حدثنا هزيل بن شرحبيل ، عن ابن مسعود قال : خلِّلوا الأصابع
بالماء ، لا تخلَّلها النارُ. (1)
__________
(1) الأثر : 11448 - " عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب " ،
روى له الأربعة ، ثقة. وكان من العباد ، له شرف وعارضة وهيبة ولسان شديد ، وكان ذا
منزلة من عمر بن عبد العزيز. مترجم في التهذيب.
و " هزيل بن شرحبيل الأودي " ، الأعمى ، أخو الأرقم بن شرحبيل ، روى عن
أخيه ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، وسعد وابن مسعود ، وغيرهم. تابعي ثقة ، من أصحاب
عبد الله بن مسعود. ويقال : أدرك الجاهلية. مترجم في التهذيب.
(10/52)
11449 - حدثنا عبد الله بن الصباح
العطار قال ، حدثنا حفص بن عمر الحوضي ، قال ، حدثنا مُرجَّى يعني : ابن رجاء
اليشكري قال ، حدثنا أبو روح عمارة بن أبي حفصة ، عن المغيرة بن حنين : أن النبي
صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يتوضأ وهو يغسل رجليه ، فقال : بهذا أمرت. (1)
11450 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن واقد مولى
زيد بن خليدة ، قال : سمعت مصعب بن سعد يقول : رأى عمر بن الخطاب قوما يتوضأون
فقال : خلِّلوا. (2)
11451 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال : سمعت يحيى قال ، سمعت القاسم
قال : كان ابن عمر يخلع خفَّيه ، ثم يتوضأ فيغسل رجليه ، ثم يخلِّل أصابعه.
11452 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ،
__________
(1) الأثر : 11449 - " عبد الله بن الصباح بن عبد الله الهاشمي ، العطار
" شيخ الطبري ، روى عنه الجماعة ، سوى ابن ماجه. ثقة. مترجم في التهذيب.
و " حفص بن عمر الحوضي ، النمري " ، أبو عمر الحوضي. روى عنه البخاري
وأبو داود. قال أحمد : " ثبت ، ثبت ، متقن ، لا يؤخذ عليه حرف واحد " .
مترجم في التهذيب.
و " مرجي بن رجاء اليشكري " ، ضعيف ، قال ابن معين : " ليس حديثه
بشيء " . مترجم في التهذيب.
و " أبو روح " : " عمارة بن أبي حفصة العتكي " . ثقة. مضى
برقم : 8513.
و " مغيرة بن حنين " ، تابعي ، روى عن علي. روى عنه عمارة بن أبي حفصة.
ذكره البخاري في الكبير 4/1/318 ، وابن أبي حاتم 4/1/220 ، لم يزيدا على ذلك شيئا
، لا جرحا ولا تعديلا.
وهذا خبر مرسل ، ضعيف لضعف مرجي بن رجاء.
(2) الأثر : 11450 - " واقد ، مولى زيد بن خليدة " كوفي. روى عن زادان ،
وسعيد بن جبير. روى عنه سفيان الثوري ، وشعبة. قال الثوري : " كان شيخ صدق
" . مترجم في التهذيب.
و " مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري " ، أبو زرارة ، تابعي ثقة ، مضى
برقم 9841. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا : " مصعب بن سعيد " ، وليس
في التابعين من يقال له : " مصعب بن سعيد " ، وبعيد أن يكون تابعيا يروى
عنه ، ثم يغفلونه. فثبت عندي أنه " مصعب بن سعد " .
(10/53)
عن الزبير بن عدي ، عن إبراهيم قال :
قلت للأسود : رأيتَ عمر يغسل قدميه غَسْلا ؟ قال : نعم.
11453 - حدثني محمد بن خلف قال ، حدثنا إسحاق بن منصور ، قال ، حدثنا محمد بن مسلم
، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن عمر بن عبد العزيز : أنه قال لابن أبي سويد : بلغنا عن
ثلاثة كلهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يغسل قدميه غسلا أدناهم ابن عمك
المغيرة. (1)
11454 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا الصباح ، عن محمد وهو ابن أبان عن أبي إسحاق
، عن الحارث ، عن علي قال : اغسلوا الأقدام إلى الكعبين.
11455 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن خالد ، عن أبي قلابة : أن عمر بن
الخطاب رأى رجلا قد ترك على ظهر قدمه مثل الظُفُر ، فأمره أن يعيد وضوءه وصلاته.
11456 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن محمد بن إسحاق ، عن شيبة بن نِصاح
قال : صحبت القاسم بن محمد إلى مكة ، فرأيته إذا توضأ للصلاة يُدخل أصابع رجليه
يصب عليها الماء ، قلت : يا أبا محمد ، لم تصنع هذا ؟ قال : رأيت ابن عمر يصنعه.
(2)
11457 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس قال : سمعت أبي ، عن حماد
، عن إبراهيم في قوله : " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا
برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين " قال : عاد الأمرُ إلى الغسل.
11458 - حدثني الحسين بن علي الصدائي ، قال ، حدثنا أبي ، عن حفص
__________
(1) الأثر : 11453 - " ابن أبي سويد " هو : " محمد بن أبي سويد
الثقفي الطائفي " . روى عن عثمان بن العاص ، وعمر بن عبد العزيز. روى له
الترمذي حديثا واحدا. مترجم في التهذيب.
و " المغيرة " ، يعني : " المغيرة بن شعبة الثقفي " ، صاحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) الأثر : 11456 - " شيبة بن نصاح بن سرجس المخزومي " ، مولى أم سلمة
، أتي به إليها وهو صغير ، فمسحت رأسه. كان قاضيا بالمدينة. ثقة قليل الحديث.
مترجم في التهذيب.
" نصاح " بكسر النون.
(10/54)
الغاضري ، عن عامر بن كليب ، عن أبي
عبد الرحمن قال : قرأ عليَّ الحسن والحسين رضوان الله عليهما ، فقرآ : (
وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فسمع علي رضى الله عنه ذلك وكان يقضي بين
الناس فقال : " وَأَرْجُلَكُمْ " ، هذا من المقدم والمؤخر من الكلام.
(1)
11459 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الوهاب بن عبد الأعلى ، عن خالد ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس : أنه قرأها : ( فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ )
بالنصب ، وقال : عاد الأمر إلى الغسل. (2)
11460 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة وأبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه
أنه قرأها : (وَأَرْجُلَكُمْ) وقال : عاد الأمر إلى الغسل.
11461 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن قيس ، عن عاصم ، عن زر ، عن
عبد الله : أنه كان يقرأ : (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب.
11462 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ،
__________
(1) الأثر : 11458 - " الحسين بن علي بن يزيد بن سليم الصدائي " ، مضى
مرارا منها : 2093 ، 5427 ، 5437.
وأبوه : " علي بن يزيد بن سليم الصدائي " مضى برقم : 2093.
و " حفص الغاضري " هو : " حفص بن سليمان الأسدي الغاضري " ،
متروك الحديث ، مضى برقم : 5753.
و " عاصم بن كليب بن شهاب المجنون الجرمي " ، مضى برقم : 8098 ، ثقة قليل
الحديث.
و " أبو عبد الرحمن " هو : " أبو عبد الرحمن السلمي " :
" عبد الله بن حبيب بن ربيعة " ، الضرير ، مقرئ الكوفة. ولد في حياة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأبيه صحبة. إليه انتهت القراءة تجويدا وضبطا.
أخذ القراءة عرضا عن عثمان ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وأبي بن
كعب. وأخذ القراءة عنه أئمة التابعين ، منهم الحسن والحسين ، رضي الله عنهما.
أقرأ القرآن في المسجد الأعظم بالكوفة ، أربعين سنة ، من زمن عثمان رضي الله عنه
إلى أن توفي سنة 74 ، رحمه الله. وقد مضى برقم : 82.
(2) الأثر : 11459 - " عبد الوهاب بن عبد الأعلى " (!!) ، لم أجد له
ذكرا في شيء من الكتب ، ولا مر بنا قبل ذلك. ولكن هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة.
والذي يروى عن " خالد الحذاء " ممن اسمه " عبد الوهاب " :
" عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي " ، و " عبد الوهاب بن عطاء
الخفاف " ، فأخشى أن يكون أحدهما ، ومنها الناسخ أو أخطأ المملي.
(10/55)
حدثنا أسباط ، عن السدي ، قوله :
" فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين
" ، فيقول : اغسلوا وجوهكم ، واغسلوا أرجلكم ، وامسحوا برءوسكم. فهذا من
التقديم والتأخير.
11463 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين بن علي ، عن شيبان ، قال ، أثبت لي عن
علي أنه قرأ : (وَأَرْجُلَكُمْ). (1)
11464 - حدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه
: (وأرجلكم) رجع الأمر إلى الغسل.
11465 - حدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خالد ، عن عكرمة ،
مثله.
11466 - حدثني المثني ، قال ، حدثنا الحماني ، قال ، حدثنا شريك ، عن الأعمش قال :
كان أصحاب عبد الله يقرأونها : (وَأَرْجُلَكُمْ) فيغسلون.
11467 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ،
عن علي قال : اغسل القدمين إلى الكعبين.
11468 - حدثني عبد الله بن محمد الزهري قال ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي
السوداء ، عن ابن عبد خير ، عن أبيه قال : رأيت عليًّا توضأ ، فغسل ظاهر قدميه ،
وقال : لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَل ذلك ، ظننت أن بَطْنَ
القدم أحقُّ من ظاهرها. (2)
__________
(1) الأثر : 11463 - " حسين بن علي بن وليد الجعفي " ، مضى في مواضع
كثيرة ، منها رقم : 29 ، 174 ، 441 ، 7287 ، 7499.
و " شيبان " النحوي ، هو : " شيبان بن عبد الرحمن " ، أبو
معاوية. مضى كثيرا ، من ذلك رقم : 2340 ، 4898 ، 5280 ، 9222 ، 9223 ، 9456.
و " شيبان النحوي " ، روى القراءة عن عاصم ، وروى القراءة عنه : "
حسين بن علي الجعفي " ، انظر طبقات القراء للجزري 1 : 329 ، رقم : 1435.
(2) الأثر : 11468 - " عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري
" ، شيخ الطبري ، روى عن سفيان بن عيينة ، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي
، وأبي عامر العقدي ، وغيرهم.
روى عنه الجماعة ، سوى البخاري. وروى عنه أبو جعفر في التاريخ 2 : 40 " عبد
الله بن محمد الزهري ، عن سفيان " . مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة : " عبد الله بن محمد الزبيري " ، لم يحسن قراءة ما في
المخطوطة.
و " أبو السوداء " هو : " المسيب بن عبد خير بن يزيد الهمداني
" . ثقة. مضى برقم : 5850 ، 5851.
و " ابن عبد خير " ، هو " المسيب بن عبد خير بن يزيد الهمداني
" . ثقة. مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/408.
وأبوه : " عبد خير بن يزيد الخيواني الهمداني " ، مخضرم ، تابعي ثقة.
مضى برقم : 8035.
وهذا خبر صحيح الإسناد رواه أحمد في مسنده من طريق المسيب بن عبد خير ، عن أبيه
برقم : 918 ، 1014 ، 1015 ، مع اختلاف في لفظه. ورواه من طريق أبي إسحق ، عن عبد
خير ، برقم : 737 ، 917 ، 1013 ، 1263 ، ومن طريق السدي ، عن عبد خير برقم : 943.
مطولا.
(10/56)
11469 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا
ابن يمان قال ، حدثنا عبد الملك ، عن عطاء قال : لم أر أحدا يمسح على القدمين.
11470 - حدثني المثنى قال ، حدثني الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن قيس بن
سعد ، عن مجاهد أنه قرأ : ( وَأرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فنصبها ، وقال :
رجع إلى الغسل.
11471 - حدثنا أبو كريب ، قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، سمعت الأعمش يقرأ :
(وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب.
11472 - حدثني يونس ، قال ، أخبرنا أشهب قال : سئل مالك عن قول الله : "
وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين " أهي : " أرجلَكم " أو
" أرجلِكم " ؟ فقال : إنما هو الغسل وليس بالمسح ، لا تُمْسح الأرجل ،
إنما تُغسل. قيل له : أفرأيت من مسح أيحزيه ذلك ؟ قال : لا.
11473 - حدثنا أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سلمة ، عن الضحاك :
" وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم " قال : اغسلوها غسلا.
* * *
وقرأ ذلك آخرون من قراء الحجاز والعراق : (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ
وَأَرْجُلِكُمْ) بخفض " الأرجل " . وتأول قارئو ذلك كذلك : أنّ الله
إنما أمر عباده بمسح الأرجل
(10/57)
في الوضوء دون غسلها ، وجعلوا "
الأرجل " عطفا على " الرأس " ، فخفضوها لذلك.
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل :
11474 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا محمد بن قيس الخراساني ، عن ابن جريج ، عن
عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الوضوء غَسْلتان ومَسْحتان. (1)
11475 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل ، عن حميد ح ، وحدثنا
يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا حميد قال ، قال موسى بن أنس
لأنس ونحن عنده : يا أبا حمزة إن الحجاج خطبَنا بالأهواز ونحن معه ، فذكر الطَّهور
فقال : " اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم ، وإنه ليس شيء من
ابن آدم أقرَب إلى خَبَثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورَهما وعَرَاقيبهما
" . فقال أنس : صدق الله وكذبَ الحجاج ، قال الله : " وامسحوا برءوسكم
وأرجلِكم " قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلَّهما. (2)
11476 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا حماد قال ، حدثنا عاصم
الأحول ، عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنة الغسلُ. (3)
11477 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن حميد ، عن موسى
__________
(1) الأثر : 11474 - " محمد بن قيس الخراساني " ، لم أجد له ذكرا ، ولم
أعرف من يكون. وعسى أن يكون محرفا.
(2) الأثر : 11475 - " موسى بن أنس بن مالك الأنصاري " ، قاضي البصرة.
روى عن أبيه أنس بن مالك ، وعبد الله بن عباس. روى عنه ابن حمزة ، وعطاء بن أبي
رباح ، وحميد الطويل ، وغيرهم. قال ابن سعد : " كان ثقة قليل الحديث " .
مترجم في التهذيب.
وسيأتي هذا الخبر بلفظ آخر برقم : 11477 ، فانظر تخريجه هناك.
و " الخبث " (بفتحتين) : النجس ، يعني البول والغائط ، ويقال لهما
" الأخبثان " .
(3) الأثر : 11476 - في المطبوعة : " حدثنا ابن سهل " ، أسقط " على
" ، وهي ثابتة في المخطوطة.
(10/58)
بن أنس قال : خطب الحجاج فقال : "
اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلَكم ، ظهورَهما وبطونَهما وعراقيبَهما ، فإن ذلك أدنى
إلى خبثكم " . قال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال الله : " وامسحوا
برءوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين " . (1)
11478 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا عبيد الله العتكي ، عن
عكرمة قال : ليس على الرجلين غسل ، إنما نزل فيهما المسح. (2)
11479 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن أبي جعفر ،
قال : امسح على رأسك وقدميك.
11480 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي
قال : نزل جبريل بالمسح. قال : ثم قال الشعبي : ألا ترى أن " التيمم "
أن يمسح ما كان غسلا ويُلغِي ما كان مسحًا ؟
11481 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : أُمر
بالتيمم فيما أُمر به بالغسل.
11482 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي أنه قال : إنما
هو المسح على الرجلين ، ألا ترى أنه ما كان عليه الغسل ، جعل عليه المسح ، وما كان
عليه المسح أهمل ؟
11483 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن عامر أنه
قال : أمر أن يمسح في التيمم ، ما أمر أن يغسل في الوضوء ، وأبطل
__________
(1) الأثر : 11477 - انظر الأثر السالف رقم : 11475.
وفي المخطوطة : " أدنى إلى أخبثكم " ، بإفراد " أخبث " ،
وإنما جاء على التثنية : " الأخبثان " ، وهما البول والغائط. وأما في
المطبوعة ، فإنه جعلها " خبثكم " فأسقط الألف. والصواب ما أثبت.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن 1 : 71 ، من طريق يحيى بن أبي طالب ، عن عبد
الوهاب بن عطاء ، عن حميد ، به نحوه.
(2) الأثر : 11478 - " عبيد الله العتكي " هو : " عبيد الله بن عبد
الله العتكي " ، أبو المنيب. مضى برقم : 1634 ، 4268 ، 5500 ، وكان في
المطبوعة والمخطوطة " عبد الله العتكي " ، والصواب ما أثبته ، مصغرا.
(10/59)
ما أمر أن يُمسح في الوضوء : الرأس
والرجلان.
11484 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي قال :
أمر أن يمسح بالصعيد في التيمم ، ما أمر أن يغسل بالماء. وأهمِل ما أمر أن يمسح
بالماء.
11485 - حدثنا ابن أبي زياد قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا إسماعيل قال : قلت لعامر
: إن ناسًا يقولون إن جبريل صلى الله عليه وسلم نزل بغسل الرجلين! فقال : نزل
جبريل بالمسح. (1)
11486 - حدثنا أبو بشر الواسطي إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن
يونس قال ، حدثني من صحب عكرمة إلى واسط قال : فما رأيته غسل رجليه ، إنما يمسح
عليهما ، حتى خرج منها. (2)
11487 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يا
أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا
برءوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين " افترض الله غَسلتين ومسحتين.
11488 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثَاب
، عن علقمة : أنه قرأ : " وَأَرْجُلِكُمْ " مخفوضة " اللام "
. (3)
11489 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن الأعمش ، مثله.
__________
(1) الأثر : 11485 - " ابن أبي زياد " ، هو : " عبد الله بن عبد
الحكم بن أبي زياد القطواني " ، مضى برقم : 2247 ، 5796 ، وغيرهما.
(2) الأثر : 11486 - " إسحق بن شاهين الواسطي " ، أبو بشر الواسطي
" ، مضى برقم : 7211 ، 9788.
و " خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي " ، مضى أيضا : 4433 ، 7211
، 9141 ، 9788.
(3) الأثر : 11488 - " يحيى بن وثاب الأسدي " المقرئ. روى عن ابن عمر ،
وابن عباس ، وعلقمة. ثقة. قال الأعمش : " كان يحيى بن وثاب من أحسن الناس
قراءة ، وكان إذا قرأ لا يسمع في المسجد حركة " . مترجم في التهذيب.
(10/60)
11490 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبو الحسين العكلي ، عن عبد الوارث ، عن حميد ، عن مجاهد : أنه كان يقرأ : "
وَأَرْجُلِكُمْ " . (1)
11491 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد
قال ، كان الشعبي يقرأ : " وَأَرْجُلِكُمْ " بالخفض.
11492 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الحسن بن صالح ، عن غالب ، عن أبي
جعفر ، أنه قرأ : " وَأَرْجُلِكُمْ " بالخفض. (2)
11493 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك : أنه قرأ "
وَأَرْجُلِكُمْ " بالكسر.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول عندنا في ذلك ، أن الله عزّ ذكره أمر
__________
(1) الأثر : 11490 - " أبو الحسين العكلي " ، هو " زيد بن الحباب
العكلي " ، مضى برقم : 2185 ، 5350 ، 8165 ، وغيرها. وكان في المطبوعة
والمخطوطة : " أبو الحسن " وهو خطأ.
و " عبد الوارث " هو : " عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبري
" . إمام حافظ مقرئ. مضى برقم : 2154 ، 6589 ، 6591 ، 6819. ومترجم أيضا في
طبقات القراء للجزري 1 : 478 ، رقم : 1989 ، أخذا القراءة عرضا على أبي عمرو بن
العلاء ، ورافقه في العرض علي حميد بن قيس المكي.
و " حميد " هو " حميد الأعرج " ، " حميد بن قيس المكي
الأسدي " القارئ ، مضى برقم : 3352 ، 6461 ، ومترجم أيضا في طبقات القراء
للجزري 1 : 265 ، رقم : 1200. أخذ القراءة عن " مجاهد بن جبر " . روى
القراءة عنه سفيان بن عيينة ، وأبو عمرو بن العلاء ، وعبد الوارث بن سعيد. توفى
سنة 130.
(2) الأثر : 11492 - " الحسن بن صالح بن حي الثوري " ، مضى برقم : 178 ،
5347 ، 7594.
وأما " غالب " ، فكأنه يعني " غالب بن فائد الأسدي " المقرئ ،
روى عن سفيان الثوري ، وإسرائيل ، وأبي بكر بن عياش ، وعرض القراءة على حمزة
الزيات. قال أبو حاتم : " هو مقرئ ليس به بأس " . وقال أبو زرعة :
" هو شيخ كوفي ، لا أعرفه " . مترجم في ابن أبي حاتم 3/2/49.
وأما " أبو جعفر " ، فهو " أبو جعفر المخزومي " : " يزيد
بن القعقاع " ، الإمام القارئ ، أحد القراء العشرة ، تابعي مشهور كبير القدر.
مترجم في طبقات القراء للجزري 2 : 382 ، رقم : 3882.
(10/61)
بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء ،
كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم. وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ ، كان
مستحقًّا اسم " ماسحٍ غاسلٍ " ، لأن " غسلهما " إمرار الماء
عليهما أو إصابتهما بالماء. و " مسحهما " ، إمرار اليد أو ما قام مقام
اليد عليهما. فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو " غاسل ماسح " .
ولذلك من احتمال " المسح " المعنيين اللذين وصفتُ من العموم والخصوص
اللذين. أحدهما مسح ببعض والآخر مسح بالجميع اختلفت قراءة القرأة في قوله : "
وأرجلكم " فنصبها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل وإنكارًا
منه المسح عليهما ، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم
مسحهما بالماء. وخفضها بعضهم ، توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح.
ولما قلنا في تأويل ذلك إنه معنّي به عموم مسح الرجلين بالماء كره من كره للمتوضئ
الاجتزاءَ بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده ، أو بما قام مقام اليد ، توجيها
منه قوله : " وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين " إلى مسح جميعهما
عامًّا باليد ، أو بما قام مقام اليد ، دون بعضهما مع غسلهما بالماء ، كما : -
11494 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثنا
نافع ، عن ابن عمر عن الأحول ، عن طاوس ، أنه سئل عن الرجل يتوضأ ويدخل رجليه في
الماء. قال : ما أعدُّ ذلك طائلا. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 11494 - في هذا الإسناد خطأ لم أهتد إلى صوابه ، فإن " سفيان بن
عيينة " لم يرو عن " نافع " مولى " ابن عمر " .
وأخشى أن يكون صوابه " قال حدثنا عبد الرحمن ، قال حدثنا سفيان وحدثنا نافع
بن عمر عن الأحول... " .
وإن " عبد الرحمن بن مهدي " ، يروي عن نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل
الجمحي " ، ولكن لا أدري ، أروى " نافع بن عمر " هذا عن "
الأحول " أم لم يرو عنه.
وأما " الأحول " ، فهو " سليمان بن أبي مسلم المكي " ، روى
عنه سفيان بن عيينة. ومضى برقم : 7867.
وقوله : " ما أعد ذلك طائلا " أي مغنيا أو مجزئا. وأصل " الطائل
" : النفع والفائدة.
ويقال : " هذا أمر لا طائل فيه " ، إذا لم يكن فيه غناء ولا مزية.
(10/62)
وأجاز ذلك من أجاز ، توجيهًا منه إلى
أنه معنيٌّ به الغسل. كما : -
11495 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا ابن إدريس قال : سمعت هشاما يذكر ، عن الحسن
، في الرجل يتوضأ في السفينة ، قال : لا بأس أن يغمس رجليه غمسًا.
11496 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال : أخبرني أبو حرّة ، عن
الحسن في الرجل إذا توضأ على حرف السفينة ، قال : يخضخِضُ قدميه في الماء. (1)
* * *
فإذا كان " المسحَ " المعنيان اللذان وصفنا : من عموم الرجلين بالماء ،
وخصوص بعضهما به وكان صحيحًا بالأدلّة الدالة التي سنذكرها بعدُ ، أنّ مراد الله
من مسحهما العموم ، وكان لعمومهما بذلك معنى " الغسل " و " المسح
" فبيِّنٌ صواب قرأة القراءتين جميعًا (2)
أعني النصب في " الأرجل " والخفض. لأن في عموم الرجلين بمَسحهما بالماء
غسلُهما ، وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما مسحُهما.
فوجه صواب قراءة من قرأ ذلك نصبا لما في ذلك من معنى عمومها بإمرار الماء عليهما.
(3)
ووجهُ صواب قراءة من قرأه خفضا ، لما في ذلك من إمرار اليد عليهما ، أو ما قام
مقام اليد ، مسحا بهما.
__________
(1) الأثر : 11496 - " أبو حرة " البصري ، هو " واصل بن عبد الرحمن
" ، مضى مثل هذا الإسناد برقم : 6385. وكان في المطبوعة هنا : " أبو
حمزة " ، وهو خطأ محض.
و " خضخض الماء " : حركه.
(2) في المطبوعة : " صواب القراءتين جميعا " ، خالف المخطوطة وحذف.
" قرأة " (بفتح القاف والراء والهمزة) ، جمع " قارئ " ، كما
سلف مئات من المرات.
(3) في المطبوعة : " معنى عمومهما " بالتثنية ، والصواب من المخطوطة.
(10/63)
غير أنّ ذلك وإن كان كذلك ، وكانت
القراءتان كلتاهما حسنًا صوابًا ، فأعجب القراءتين إليّ أن أقرأها ، قراءة من قرأ ذلك
خفضًا ، لما وصفت من جمع " المسح " المعنيين اللذين وصفت ، ولأنه بعد
قوله : " وامسحوا برءوسكم " فالعطف به على " الرءوس " مع قربه
منه ، أولى من العطف به على " الأيدي " ، وقد حيل بينه وبينها بقوله :
" وامسحوا برءوسكم " .
* * *
فإن قال قائل : وما الدليل على أن المراد بالمسح في الرجلين العموم ، دون أن يكون
خصوصًا ، نظيرَ قولك في المسح بالرأس ؟
قيل : الدليل على ذلك ، تظاهرُ الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" ويل للأعقاب وبُطون الأقدام من النار " . ولو كان مسح بعض القدم مجزئا
عن عمومها بذلك (1) لما كان لها الويل بترك ما تُرك مسحه منها بالماء بعد أن يُمسح
بعضها. لأن من أدَّى فرض الله عليه فيما لزمه غسلُه منها لم يستحق الويل ، بل يجب
أن يكون له الثواب الجزيل. وفي وجوب الويل لعَقِب تارك غسل عَقِبه في وضوئه ، (2)
أوضحُ الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء ، وصحةِ ما قلنا في ذلك
، وفسادِ ما خالفه.
* * *
ذكر بعض الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا :
11497 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا شعبة ، عن محمد
بن زياد قال : كان أبو هريرة يمرُّ ونحن نتوضأ من المَطْهَرة ، فيقول : (3)
أسبغوا الوضوء ، اسبغوا الوضوء ، قال أبو القاسم : ويلٌ للعراقيبِ من النار.
__________
(1) في المطبوعة : " مجزئا عن عمومها " ، والصواب من المخطوطة ، وكأن
الناشر قد اعتاد أن يضع " عن " ، مكان " من " في مثل هذا ،
انظر ما سلف : ص : 25 ، تعليق : 3.
(2) في المطبوعة : " فوجب الويل " ، وهو فاسد. وفي المخطوطة : " في
وجوب الويل " ، سقط من الناسخ " الواو " من أول الكلام ، فأثبتها.
(3) " المطهرة " (بفتح الميم ، وكسرها) : الإناء الذي يكون فيه الماء ،
ليتوضأ منه.
(10/64)
11498 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا
وكيع ، عن شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
نحوه إلا أنه قال : ويل للأعقاب من النار. (1)
11499 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن محمد بن زياد
قال : كان أبو هريرة يمرّ بأناس يتوضأون يُسِيئون الطهور ، (2) فيقول : اسبغوا
الوضوء ، فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : ويلٌ للعَقِب من النار.
11500 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن
أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه.
11501 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن حماد بن سلمة ، عن محمد بن زياد ،
عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه.
11502 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن حماد بن سلمة ، عن محمد بن زياد ،
عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ويل للأعقاب من النار. (3)
11503 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا خالد بن مخلد قال ، حدثني سليمان بن بلال قال
، حدثني سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ويل للأعقاب من النار يوم القيامة. (4)
11504 - حدثني إسحاق بن شاهين وإسماعيل بن موسى قالا حدثنا خالد بن عبد الله ، عن
سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال ، قال
__________
(1) في المخطوطة : " ويل للعراقيب " ، كالذي قبله ، ولا يستقيم ذلك ،
فالظاهر أن الصواب هو ما ثبت في المطبوعة.
(2) في المطبوعة : " مسرعين الطهور " ، وفي المخطوطة : " يسوون
الطهور " فكأن قراءتها كما أثبت. ولو قرئت : (يُسوُون الطهور) ، لكان صوابًا
. فقد حكى ابن خالويه أنه يقال : " أسوى " بمعنى : أساء.
(3) الآثار 11497 - 11502 - ست طرق ، لخبر محمد بن زياد ، عن أبي هريرة.
و " محمد بن زياد القرشي الجحمي " ، تابعي ثقة.
والحديث ، رواه البخاري (الفتح 1 : 233) ومسلم 3 : 131 ، وأحمد في المسند رقم :
7122 ، من طريق شعيب ، عن محمد بن زياد ، وبرقم : 7803 ، من طريق معمر ، عن محمد
بن زياد. وانظر تعليق أخي السيد أحمد عليه هناك. وهو حديث صحيح.
(4) الأثر : 11503 - " خالد بن مخلد القطواني " ، صدوق في الرواية ، مضى
برقم : 2206 ، 4577 ، 8166 ، 8397.
و " سليمان بن بلال التيمي " ، ثقة ، مضى برقم : 4333 ، 4923 ، 10846.
و " سهيل بن أبي صالح ذكوان السمان " . ثقة ، مضى برقم : 10676.
وأبوه : " أبو صالح ذكوان السمان " . مضى برقم : 304 ، 3226 ، 5387 .
حديث صحيح ، رواه مسلم 1 : 131 ، من طريق جرير ، عن سهيل ، بنحوه. ورواه أحمد في
مسنده رقم : 7778 ، من طريق معمر ، عن سهيل ، بمثله. وسيأتي في الذي يليه بإسناد
آخر.
(10/65)
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
ويلٌ للأعقاب من النار وقال إسماعيل في حديثه : ويلٌ للعراقيب من النار " .
(1)
11505 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا حسين المعلم ،
عن يحيى بن أبي كثير ، عن سالم الدوسي قال : دخلت مع عبد الرحمن بن أبي بكر على
عائشة ، فدعا بوضوء ، فقالت عائشة : يا عبد الرحمن ، أسبغ الوضوء ، فإنّي سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ويل للأعقاب من النار. (2) .
11506 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عمر بن يونس الحنفي قال ، حدثنا عكرمة بن
عمار قال ، حدثنا يحيى بن أبي كثير قال ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال ،
حدثني أبو سالم مولى المَهْري هكذا قال عمر بن يونس قال : خرجت أنا وعبد الرحمن بن
أبي بكر في جنازة سعد بن أبي وقاص قال :
__________
(1) الأثر : 11504 - " إسحق بن شاهين الواسطي " ، مضى قريبا برقم :
11486.
و " إسمعيل بن موسى الفزاري " شيخ الطبري ، مضى برقم : 849 ، 9682.
و " خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي الطحان " ، مضى برقم : 4433
، 7211 ، 9141 ، 9788.
وهذا إسناد آخر للحديث السالف.
(2) الأثر : 11505 - " يحيى بن أبي كثير الطائي " ، روى عن أنس ، وأبي
سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وعن سالم مولى دوس. ثقة مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر رواه يحيى بن أبي كثير مرتين هنا وفي رقم : 11507 ، عن " سالم
" مباشرة ، ثم عنه بواسطة أبي سلمة بن عبد الرحمن ، في الأثر التالي.
و " سالم الدوسي " هو " سالم بن عبد الله النصري " ، و "
أبو عبد الله مولى شداد " ، و " سالم مولى شداد بن الهاد " ، وهو
" سالم مولى النصريين " ، و " سالم سبلان " ، و " سالم
مولى مالك بن أوس بن الحدثان النصري " و " سالم مولى المهري " ، و
" سالم مولى دوس " ، هذه كلها جاءت في أخباره ، كما قال النووي في شرح
مسلم. قال أبو حاتم : " كان سالم من خيار المسلمين " ، وكانت عائشة
تستعجب بأمانته ، تستأجره. مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/110.
وسيأتي تخرج حديث " سالم " في رقم : 11510.
(10/66)
فمررت أنا وعبد الرحمن على حُجرة عائشة
أخت عبد الرحمن ، فدعا عبد الرحمن بوضوء ، فسمعت عائشة تناديه : يا عبد الرحمن ،
أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ويل للأعقاب
من النار " (1) .
11507 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا علي بن المبارك ، عن
يحيى بن أبي كثير ، عن سالم مولى دَوْس قال : سمعت عائشة تقول لأخيها عبد الرحمن :
يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء ، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ويل
للأعقاب من النار " (2) .
__________
(1) الأثر : 11506 - " عمر بن يونس الحنفي اليمامي " ، ثقة ثبت. مضى
برقم : 4435 ، 8224.
و " عكرمة بن عمار العجلي " ، ثقة ، مضى برقم : 849 ، 2185.
و " أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري " ، ثقة. مضى برقم : 8 ، 67 ،
3015 ، 8394.
و " أبو سالم مولى المهري " ، هو " سالم الدوسي " الذي مضى في
الأثر السالف. وقول الطبري : " هكذا قال عمر بن يونس " ، يعني في روايته
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، فإن ابن حجر نقل في التهذيب في ترجمته : " وقال
عبد الغني بن سعيد في إيضاح الإشكال : وهو الذي روى عنه أبو سلمة فقال : حدثنا أبو
سالم ، أو سالم ، مولى المهري " .
وقال البخاري في الكبير 2/2/110 : " وقال عكرمة ، عن يحيى ، حدثني أبو سلمة ،
حدثني أبو سالم المهري - ولا يصح " . وهو يعني هذا الإسناد نفسه.
و " المهري " (بالراء والياء المشددة) ، وكان في المطبوعة والمخطوطة
بالدال ، وهو خطأ محض. وسيأتي في التخريج في الأثر رقم : 11510.
(2) الأثر : 11507 - " علي بن المبارك الهنائي " ثقة. قال أحمد : "
كانت عنده كتب عن يحيى بن أبي كثير ، بعضها سمعها ، وبعضها عرض " . مترجم في
التهذيب.
وهذا الخبر أيضا من رواية يحيى بن أبي كثير ، عن سالم ، دون واسطة ، كما أشرت إليه
في التعليق على الأثر : 11505.
(10/67)
11508 - حدثني يعقوب وسوار بن عبد الله
، قالا حدثنا يحيى القطان ، عن ابن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة ، أن
عائشة رأت عبد الرحمن يتوضأ فقالت : أسبغ الوضوء ، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : ويل للأعقاب من النار. (1) .
11509 - حدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا ابن عيية ويحيى بن سعيد القطان ، عن ابن
عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي سلمة ، قال ، رأت عائشة عبد الرحمن يتوضأ ،
فقالت : أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ويلٌ
للعراقيب من النار. (2) .
11510 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن
راشد قال : أخبرنا حيوة بن شريح قال ، أخبرنا أبو الأسود : أنّ أبا عبد الله مولى
شدّاد بن الهاد حدّثه : أنه دخل على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعندها
عبد الرحمن ، فتوضأ عبد الرحمن ، ثم قام فأدبر ، فنادته عائشة فقالت : يا عبد
الرحمن! فأقبل عليها ، فقالت له : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
ويلٌ للأعقاب من النار. (3) .
__________
(1) الأثران : 11508 ، 11509 - " أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف " روى
عن عائشة بغير واسطة. وهذان الخبران لم يصرح فيهما أبو سلمة بسماعه من عائشة ، وقد
مضى برقم : 11506 ، أنه سمع ذلك من سالم مولى المهري.
(2) الأثران : 11508 ، 11509 - " أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف " روى
عن عائشة بغير واسطة. وهذان الخبران لم يصرح فيهما أبو سلمة بسماعه من عائشة ، وقد
مضى برقم : 11506 ، أنه سمع ذلك من سالم مولى المهري.
(3) الأثر : 11510 - " أبو زرعة ، وهب الله بن راشد المصري " ، مؤذن
الفسطاط. مضى برقم : 2377 ، 2891 ، 5005 ، 5386 ، 6458. وكان في المطبوعة هنا :
" أخبرنا أبو رواحة وعبد الله بن راشد قالا " ، تصرف في نص المخطوطة
تصرفا قبيحا ، وجعل الرجل الواحد رجلين ، ووضع مكان " قال " ، "
قالا " وليس في العبث بالأمانة أقبح من هذا الفعل.
و " حيوة بن شريح " ، مضى برقم : 2891 ، 3179.
و " أبو الأسود " ، هو " يتيم عروة " : " محمد بن عبد
الرحمن بن نوفل بن الأسود الأسدي " مضى برقم : 2891.
وكان في المطبوعة : " أخبرنا عبد الله مولى شداد بن الهاد " ، وفي
المخطوطة : " أنا عبد الله مولى شداد بن الهاد " . والصواب بينهما ما
أثبته بزيادة " أن " ، كما في مسلم 3 : 128.
وهذا الخبر : 11510 ، أخرجه مسلم في صحيحه 3 : 128 ، من طريق حرملة بن يحيى ، عن
ابن وهب ، عن حيوة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، ولم يذكر لفظه. والطحاوي في شرح
معاني الآثار 1 : 23 ، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير 2/2/111 ، مختصرا.
وأما الحديث : 11506 ، فقد أخرجه مسلم في صحيحه 3 : 128 ، من طريق " محمد بن
حاتم ، وأبو معن الرقاشي ، قال حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثني
يحيى بن أبي كثير ، قال حدثني أو حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن ، حدثني سالم مولى
المهري " ، ولم يقل عمر بن يونس فيه " أبو سالم المهري " ، كما قال
الطبري إنه كذلك في رواية " عمر بن يونس " . وقد مضى أن البخاري قال في
قوله : " أبو سالم المهري " ، إنه لا يصح.
وحديث سالم ، أخرجه مسلم أيضا (3 : 127 ، 128) من طريق عبد الله بن وهب ، عن مخرمة
بن بكير ، عن سالم. وأخرجه البيهقي في السنن 1 : 69 ، والطيالسي : 217 ، رقم :
1552 ، من طريق ابن أبي ذئب ، عن عمران بن بشير ، عن سالم سبلان ، وفيه زيادة :
" ويل للأعقاب من النار يوم القيامة " ، وعنه البيهقي في السنن 1 : 69.
ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1 : 23.
(10/68)
11511 - حدثني محمد بن المثنى قال ،
حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، قال ، حدثني أبو إسحاق ، عن سعيد أو : شعيب بن أبي
كرب قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ويل للعراقيب من النار " (1) .
11512 - حدثنا خلاد بن أسلم قال ، حدثنا النضر قال ، أخبرنا شعبة ،
__________
(1) الأثر : 11511 - " أبو إسحق " هو السبيعي.
" سعيد بن أبي كرب (أو كريب) الهداني " ، سئل أبو زرعة عنه فقال :
" كوفي ثقة " ، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب ، والكبير
2/1/467 ، وابن أبي حاتم 2/1/57.
كان في المطبوعة والمخطوطة هنا " أبو إسحق ، عن سعد أو : سعيد ابن أبي كرب
" . وهو خطأ لا شك فيه ، فإن البخاري قد نص على أن شعبة قد روى عن أبي إسحق
" عن سعيد أو شعيب " . وكذلك روى أحمد في مسنده 3 : 369 " عن أبي
إسحق أنه سمع سعيد بن أبي كريب " أو : شعيب بن أبي كريب " . وهكذا جاء
في المسند ، " كريب " مصغرا ، ومثله في التهذيب ، وابن ماجه.
وهذا الخبر رواه الطبري هنا من ثلاث طرق عن أبي إسحق ، إلى رقم : 11516 ، وسأذكر
بقية تخريجه في الأثر الأخير.
(10/69)
عن أبي إسحاق قال ، سمعت ابن أبي كرب
قال ، سمعت جابر بن عبد الله قال ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ويل
للعَقِب أو : العراقيب من النار " (1) .
11513 - حدثني إسماعيل بن محمود الحجيري ، قال ، حدثنا خالد بن الحارث قال ، حدثنا
شعبة ، عن أبي إسحاق قال ، سمعت سعيدا يقول ، سمعت جابرا يقول : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : ويل للأعقاب من النار. (2) .
11514 - حدثنا ابن بشار وابن المثني ، قالا حدثنا عبد الرحمن ، قال ، حدثنا سفيان
، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن أبي كرب ، عن جابر بن عبد الله ، قال ، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ويل للعراقيب من النار. (3)
11515 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الصباح بن محارب ، عن محمد بن أبان ، عن أبي
إسحاق ، عن سعيد بن أبي كرب ، عن جابر بن عبد الله قال : سَمِع أذني من النبي صلى
الله عليه وسلم : ويل للعراقيب من النار. (4)
__________
(1) الأثر : 11512 - " خلاد بن أسلم " ، أبو بكر الصفار ، شيخ الطبري ،
مضى برقم : 3004.
و " النضر " هو : " النضر بن شميل المازني " النحوي البصري ،
روى له الأئمة ، كان أروى الناس عن شعبة. وكان النضر إمام في العربية والحديث.
مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر مكرر الذي سلف.
(2) الأثر : 11513 - " إسمعيل بن محمود الحجيري " شيخ الطبري. لم أجد له
ترجمة ولا ذكرا فيما بين يدي من الكتب ، ولا أدري أهو " الحجيري " أم
" الجحيري " ، فإنه في المخطوطة غير منقوط.
و " خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي " ، سلف برقم : 7507 ، 7818 ، 9878.
وهذا الخبر مكرر الخبرين السالفين.
(3) الأثر : 11514 - هذا الخبر من طريق سفيان عن أبي إسحق ، رواه الطحاوي في معاني
الآثار 1 : 33 من طريق مؤمل بن إسمعيل ، عن سفيان ، عن أبي إسحق ، بزيادة في آخره
: " أسبغوا الوضوء " .
(4) الأثر : 11515 ، 11516 - " الصباح بن محارب التيمي " الكوفي ثقة ،
لم يرو له سوى ابن ماجه. قال أبو زرعة ، وأبو حاتم : " صدوق " . وقال
العقيلي : " يخالف في بعض حديثه " . مترجم في التهذيب.
و " محمد بن أبان بن صالح بن عمير الجعفي " ، تزوج في الجعفيين ، فنسب
إليهم. ضعفوه ، متكلم في حفظه. مضى برقم : 2720.
هذا ، وأثر أبي إسحق ، عن سعيد بن أبي كرب ، رواه أحمد في المسند 3 : 390 من طريق
إسرائيل ، عن أبي إسحق ، وبمثله الطحاوي في معاني الآثار 1 : 33. ثم رواه أحمد في
3 : 393 من طريق يزيد بن عطاء ، عن أبي إسحق. ورواه ابن ماجه في سننه 1 : 155 ،
رقم : 454 ، من طريق الأحوص ، عن أبي إسحق.
(10/70)
11516 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا
الصباح بن محارب ، عن محمد بن أبان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن أبي كرب ، عن جابر
بن عبد الله قال : سمع أذني من النبي صلى الله عليه وسلم : " ويلٌ للعراقيب
من النار! أسبغوا الوضوء. (1)
11517 - حدثني الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا الوليد بن القاسم ، عن الأعمش ،
عن أبي سفيان ، عن جابر بن عبد الله قال : أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا
يتوضأ ، وبقي من عَقِبه شيء ، فقال : ويلٌ للعراقيب من النار. (2) .
11518 - حدثني علي بن مسلم قال ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا حفص ،
عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى قوما
يتوضأون لم يُصب أعقابَهم الماءُ ، فقال : ويل للعراقيب من النار. (3) .
11519 - حدثنا أبو سفيان الغنوي يزيد بن عمرو قال ، حدثنا خلف بن الوليد قال ،
حدثني أيوب بن عتبة ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن معيقيب قال ، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويل للعراقيب من النار. (4)
__________
(1) الأثر : 11516 - انظر التعليق على الأثر السالف.
(2) الأثران : 11517 ، 11518 - " أبو سفيان " هو : " طلحة بن نافع
القرشي " ، ثقة ، مضى برقم : 6654.
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 3 : 316 من طريق أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي
سفيان ، بنحوه.
(3) الأثران : 11517 ، 11518 - " أبو سفيان " هو : " طلحة بن نافع
القرشي " ، ثقة ، مضى برقم : 6654.
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 3 : 316 من طريق أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي
سفيان ، بنحوه.
(4) الأثر : 11519 - " أبو سفيان الغنوي " ، " يزيد بن عمرو "
، شيخ الطبري ، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب.
و " معيقيب " ، هو : " معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي " ، ويقال
: " معيقب " ، أسلم قديما بمكة ، وهاجر الهجرتين ، وشهد بدرا. روي عنه
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 3 : 426 ، ثم 5 : 425 ، من طريق خلف بن الوليد
بإسناده ولفظه. وقال ابن كثير في تفسيره 3 : 92 : " تفرد به أحمد " .
(10/71)
11520 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا
عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن أبي يحيى ، عن
عبد الله بن عمرو قال ، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتوضأون ، فرأى
أعقابهم تلوح ، فقال : " ويلٌ للأعقاب من النار! أسبغوا الوضوء. (1)
11521 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن منصور ،
عن هلال بن يساف ، عن أبي يحيى الأعرج ، عن عبد الله بن عمرو قال : أبصر رسول الله
صلى الله عليه وسلم قومًا يتوضأون لم يتمُّوا الوضوء ، فقال : أسبغوا الوضوء ،
ويلٌ للعراقيب أو : الأعقاب من النار! (2)
11522 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ،
عن رجل من أهل مكة ، عن عبد الله بن عمرو : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما
يتوضأون ، فلم يتمُّوا الوضوء ، فقال : ويلٌ للأعقاب من النار. (3) .
__________
(1) الأثر : 11520 - هذا الخبر رواه أبو جعفر من طريق سفيان ، عن منصور ، هنا ،
ورقم : 11523 ، ورواه برقم : 11521 من طريق شعبة ، عن منصور ، ورواه برقم 11524 ،
من طريق إسرائيل ، عن منصور. وسيأتي تخريجه في آخرها.
(2) الأثر : 11520 - هذا الخبر رواه أبو جعفر من طريق سفيان ، عن منصور ، هنا ،
ورقم : 11523 ، ورواه برقم : 11521 من طريق شعبة ، عن منصور ، ورواه برقم 11524 ،
من طريق إسرائيل ، عن منصور. وسيأتي تخريجه في آخرها.
(3) الأثر : 11522 - " أبو بشر " ، " جعفر بن إياس " ، وهو
" ابن أبي وحشية " ، سلف مرارا كثيرة.
وهذا الخبر أخرجه أحمد في مسنده برقم : 6911 ، من هذه الطريق نفسها ، بلفظه. قال
أخي السيد أحمد : " الرجل من أهل مكة الذي رواه عنه أبو بشر ، هو : "
يوسف بن ماهك.. ، كما نص عليه الحافظ في التعجيل : 551 " .
و " يوسف بن ماهك بن مهران الفارسي المكي " ، ثقة عدل روى له الأئمة.
مترجم في التهذيب. والحديث المصرح فيه بذكر " يوسف بن ماهك " ، رواه
البخاري (الفتح 1 : 132 ، 170 ، 232) ، ومسلم في صحيحه 3 : 130 ، 131.
وكان في المخطوطة في هذا الخبر " عن رجل من أهل مكة ، عن عبد الرحمن بن عمرو
" ، وهو خطأ لا شك فيه ، أحسن ناشر المطبوعة الأولى في تصحيحه وأصاب.
(10/72)
11523 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا
وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن أبي يحيى ، عن عبد الله بن
عمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضأون وأعقابُهم تلوح ، فقال :
ويلٌ للأعقاب من النار! أسبغوا الوضوء. (1)
11524 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن منصور ، عن هلال
، عن أبي يحيى مولى عبد الله بن عمرو ، عن عبد الله بن عمرو قال : كنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ، فسبقنا ناس فتوضأوا ، فجاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء ، فقال ، ويلٌ للعراقيب من
النار! أسبغوا الوضوء " (2)
11525 - حدثني علي بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المحاربي ، عن مطرح بن يزيد ، عن
عبيد الله بن زَحْر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ويل للأعقاب من النار! قال : فما بقي في المسجد شريفٌ
ولا وضيع إلا نظرتُ إليه يقلِّب عُرْقوبيه ينظر إليهما. (3)
__________
(1) الآثار : 11520 - 11524 ، خلا الحديث (11522) - خبر منصور ، عن هلال بن يساف ،
رواه الأئمة من طرق. رواه مسلم في صحيحه 3 : 128 - 130 ، وأحمد في مسنده من طرق
رقم : 6528 ، 6809 ، 6883 ، والنسائي في سننه 1 : 77 ، 78 ، وابن ماجه 1 : 154 ،
رقم : 450 ، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1 : 33 ، والبيهقي في السنن 1 : 69.
وانظر تخريجه في شرح المسند رقم : 6528.
وقوله : " تلوح " : أي تلمع ، من بياضها. وأتى في الأثر : 11524 ،
" فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء " .
(2) الآثار : 11520 - 11524 ، خلا الحديث (11522) - خبر منصور ، عن هلال بن يساف ،
رواه الأئمة من طرق. رواه مسلم في صحيحه 3 : 128 - 130 ، وأحمد في مسنده من طرق
رقم : 6528 ، 6809 ، 6883 ، والنسائي في سننه 1 : 77 ، 78 ، وابن ماجه 1 : 154 ،
رقم : 450 ، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1 : 33 ، والبيهقي في السنن 1 : 69.
وانظر تخريجه في شرح المسند رقم : 6528.
وقوله : " تلوح " : أي تلمع ، من بياضها. وأتى في الأثر : 11524 ،
" فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء " .
(3) الأثر : 11525 - " مطرح بن يزيد الأسدي الكناني " ، أبو المهلب. روى
عن عبيد الله بن زحر. ضعيف قال أبو حاتم : " ليس بالقوي ، هو ضعيف الحديث.
يروي أحاديث بن زحر عن علي بن يزيد ، فلا أدري من علي بن يزيد أو منه " .
مترجم في التهذيب ، والكبير 4/2/19 ، وابن أبي حاتم 4/1/409.
و " عبيد الله بن زحر الضمري الإفريقي " ، وثقه أخي السيد أحمد فيما سلف
رقم : 7660 ، وقال ، " ضعفه أحمد ، وابن معين ، وابن المديني.. ولم يذكره
البخاري ولا النسائي في الضعفاء. ونرى أن من تكلم فيه ، إنما هو من أجل نسخة
يرويها عن علي بن يزيد الألهاني ، الحمل فيها على علي بن يزيد " . وانظر
التهذيب.
و " علي بن يزيد الألهاني " . ضعيف بمرة. روى عن القاسم بن عبد الرحمن ،
صاحب أبي أمامة ، نسخة كبيرة. روى عن عبيد الله بن زحر ، ومطرح بن يزيد ، وآخرين.
ضعفه أحمد. وقال ابن معين : " علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة "
، " ضعاف كلها " وقال ، " أحاديث عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد ،
ضعيفة " . وقال البخاري : " منكر الحديث ضعيف " .
" القاسم " ، هو " القاسم بن عبد الرحمن الشامي " ، اختلف فيه
، قال أخي السيد أحمد : " والراجح أنه ثقة ، وأن ما أنكر عليه ، إنما جاء من
الرواة عنه الضعفاء. وقد بينا ذلك في شرح المسند : 598 ، وما علقنا به على تهذيب
السنن للمنذري : 2376 " . مضى ذلك برقم : 1939.
فهذا حديث ضعيف لضعف رواته.
(10/73)
11526 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا
حسين ، عن زائدة ، عن ليث قال ، حدثني عبد الرحمن بن سابط ، عن أبي أمامة أو : أخي
أبى أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر أقواما يتوضأون ، وفي عَقِب أحدهم
أو كعب أحدهم مثلُ موضع الدرهم أو : موضع الظفُر لم يمسَّه الماء ، فقال : ويلٌ
للأعقاب من النار! فقال : فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئا لم يصبه الماء أعادَ
وضوءه. (1) .
* * *
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما حدّثكم به : -
11527 - محمد بن المثنى قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن يعلى بن عطاء ،
عن أبيه ، عن أوس بن أبي أوس ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح
على نعليه ، ثم قام فصلى. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 11526 - " عبد الرحمن بن سابط " ، واختلف في اسمه فقيل هو :
" عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط " انظر ما سلف رقم : 503 ، 504 ، 599
، 4341. وهو تابعي ثقة. قيل ليحيى بن معين : " سمع عبد الرحمن من سعد بن أبي
وقاص ؟ قال : لا. قيل : من أبي أمامة ؟ قال : لا. قيل : من جابر ؟ قال : لا ، هو
مرسل " ، فهذا خبر مرسل.
(2) الأثر : 11527 - " يعلى بن عطاء العامري الطائفي " . روي عن أبيه ،
وأوس بن أبي أوس ، وغيرهما. وروي عنه شعبة ، والثوري ، وحماد بن سلمة ، وشريك ،
وهشيم.ثقة. مترجم في التهذيب.
وأبوه " عطاء العامري الطائفي " . روى عن أوس بن أبي أوس ، وابن عمرو بن
العاص ، وابن عباس. وروى عنه ابنه يعلى. ذكره ابن حبان في الثقات.
و " أوس بن أبي أوس الثقفي " ، هو " أوس بن حذيفة " الصحابي.
وانظر الاختلاف في اسم أبيه ، في التهذيب ، والإصابة ، والكبير للبخاري 1/2/16 ،
17 ، وابن أبي حاتم 1/1/303.
وسيأتي هذا الخبر برقم : 11529 من طريق هشيم ، عن يعلى بن عطاء. وسنخرجه هناك.
(10/74)
وما حدثك به : _
11528 - عبد الله بن الحجاح بن المنهال قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا جرير بن حازم
قال ، سمعت الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم سُبَاطة قوم فبال عليها قائما ، ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه. (1)
* * *
وما حدثك به : -
11529 - الحارث قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا يعلى بن
عطاء ، عن أبيه ، عن أوس بن أبي أوس قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم أتى سُبَاطة قوم ، فتوضأ ومسح على قدميه " (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 11528 - " جرير بن حازم الأزدي العتكي " ، مضى برقم : 597 ،
إمام حافظ ، قال قراد : " قال لي شعبة : عليك بجرير بن حازم فاسمع منه. وقال
ابنه وهب بن جرير : كان شعبة يأتي أبي فيسأله عن حديث الأعمش ، فإذا حدثه قال :
هكذا والله سمعته من الأعمش " . فجرير يروى عن الأعمش ، مباشرة ، ثم من طريق
شعبة عنه. بيد أن أبا جعفر الطبري ، قال بعد في (ص : 80) إن هذا الخبر لم ينقله عن
الأعمش بهذا اللفظ غير جرير بن حازم ، وإن أصحاب الأعمش الحفاظ الثقات ، رووه عنه
بغير هذا اللفظ. (انظر رقم : 11531 - 11536). وقد نقله ابن كثير في تفسيره 3 : 94
، وقال ، " وهو حديث صحيح " ثم قال عن هاتين الروايتين رواية جرير بن
حازم ، ورواية الحفاظ من أصحاب الأعمش : " ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون في
رجله خفان ، عليهما نعلان " .
(2) الأثر : 11529 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم : 11528.
وهذا الحديث رواه أبو داود في سننه 1 : 78 ، رقم : 160 ، من طريق مسدد وعباد بن
موسى ، عن هشيم. ورواه أحمد في مسنده مختصرا 4 : 8 عن هشيم. ولفظ أبي داود :
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وقدميه وقال عباد :
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كظامة قوم - يعني الميضأة ، ولم يذكر مسدد
: الميضأة ، والكظامة - ثم اتفقا : فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه " .
وأما رواية أحمد في المسند : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كظامة
قوم فتوضأ " .
وأما ما جاء في الخبر هنا " سباطة قوم " ، فإنه خالف رواية أبي داود عن
هشيم أنه قال " كظامة " ، ومن العجيب أن ابن كثير نقل الخبر عن هذا
الموضع من سنن أبي داود فكتب أيضا " سباطة قوم " ، مع أن " الكظامة
" (بكسر الكاف) جاءت مفسرة في حديث أبي داود أنها الميضأة. وأما "
السباطة " (بضم السين) ، فهي الكناسة ، أو الموضع الذي يرمي فيه التراب
والأوساخ وما يكنس من المنازل.
وأما " الكظامة " ، فإن أبا داود فسرها بأنها الميضأة ، وهو تفسير
بالمعنى ، وإلا فإنها قناة في باطن الأرض يجري الماء فيها.
وعجب آخر ، أن ابن كثير كتب : " أتى سباطة قوم فبال " ، فزاد "
فبال " ، وهي ليست في حديث هشيم هذا ، في سنن أبي داود. ولا في المسند ، فلا
أدري من أين جاء بها ؟ وأخشى أن تكون عجلة منه أو من ناسخ تفسيره ، اشتبه عليه
حديث " أبي وائل " عن حذيفة الآتي في رقم : 11531 وما بعدها ، فعجل
فكتبه كذلك.
(10/75)
وما أشبه ذلك من الأخبار الدالة على أن
المسح ببعض الرجلين في الوضوء مجزئ ؟ قيل له : أما حديث أوس بن أبى أوس فإنه لا
دلالة فيه على صحة ذلك ، إذ لم يكن في الخبر الذي روي عنه ذكر أنه رأى النبي صلى
الله عليه وسلم توضأ بعد حدَثٍ يوجب عليه الوضوء لصلاته ، فمسح على نعليه ، أو على
قدميه. وجائز أن يكون مسحه على قدميه الذي ذكره أوس كان في وضوء توضأه من غير حدث
كان منه وجب عليه من أجله تجديد وضوئه ، لأن الرواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه
كان إذا توضأ لغير حدث ، كذلك يفعل ، يدل على ذلك ما : -
11530 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا أبو مالك الجنبي ، عن مسلم ، عن
حبة العرني قال : رأيت عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه شرب في الرحبة قائما ، ثم
توضأ ومسح على نعليه وقال : هذا وضوء من لم يحدث ، هكذا رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم صنع. (1)
* * *
__________
(1) الأثر : 11530 - " محمد بن عبيد بن محمد بن واقد المحاربي " شيخ
الطبري ، مضت روايته عنه كثيرا منها : 1952 ، 3167 ، 3366 ، 4294 ، 8756 ، 9180.
روى عنه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وآخرون. قال النسائي : " لا
بأس به " ، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و " أبو مالك الجنبي " : هو : " عمرو بن هاشم الحنبي الكوفي "
. قال أحمد : " صدوق ، ولم يكن صاحب حديث " . وقال البخاري : " فيه
نظر " ، وقال أبو حاتم : " لين الحديث ، يكتب حديثه " . قال ابن
سعد : " كان صدوقا ، ولكنه كان يخطئ كثيرا " ، وضعفه مسلم ، وقال ابن
حبان : " لا يجوز الاحتجاج بخبره " . مترجم في التهذيب.
و " مسلم " و " مسلم الأعور " وهو : " مسلم بن كيسان
الضبي الملائي " الأعور. مضى برقم : 9673. روى عن أنس بن مالك ، ومجاهد وسعيد
بن جبير ، وحبة العرني ، وغيرهم. قال البخاري : " يتكلمون فيه " ، وقال
أيضا : " ضعيف " ذاهب الحديث ، لا أروى عنه " . وقال عمرو بن علي :
" كان يحيى بن سعيد ، وابن مهدي ، لا يحدثان عن مسلم الأعور ، وكان شعبة
وسفيان يحدثان عنه ، وهو منكر الحديث جدا " . مترجم في التهذيب.
و " حبة العرني " هو " حبة بن جوين بن علي بن عبدنهم العرني البجلي
" . روى عن ابن مسعود ، وعلي ، وعمار. روى عنه سلمة بن كهيل ، والحكم بن
عتيبة ، ومسلم الأعور. قال ابن معين " حبة العرني ، ليس بشيء " . وقال
البخاري : " فيه نظر ، يذكر عنه سوء مذهب " ، وقال النسائي : " ليس
بالقوي " ، وقال ابن سعد : " يضعف " ، ونقل عن أحمد أنه وثقه ،
وقال العجلي : " كوفي تابعي ثقة " . وقال ابن حبان : " كان غاليا
في التشيع ، واهيا في الحديث " . مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2/1/86
، وابن أبي حاتم 1/2/253.
وهذا خبر ضعيف كما ترى ، بضعف رواته.
(10/76)
فقد أنبأ هذا الخبر عن صحة ما قلنا في
معنى حديث أوس.
* * *
فإن قال : فإن حديث أوس ، وإن كان محتملا من المعنى ما قلت ، فإنه محتمل أيضا ما
قاله من قال أنه معنيٌّ به المسح على النعلين أو القدمين في وضوء توضأه رسول الله
صلى الله عليه وسلم من حدثٍ ؟
قيل : أحسن حالات الخبر ما حُمِّل ما قلتَ ، (1) إن سلم له ما ادَّعى من احتماله
ما ذكر من المسح على القدم أو النعل بعد الحدث ، وإن كان ذلك غير محتمله عندنا ،
إذ كان غير جائز أن تكون فرائضُ الله وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم متنافيًة
متعارضًة ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمرُ بعموم غسل القدمين في الوضوء
بالماء ، بالنقل المستفيض القاطع عذرَ من انتهى إليه وبلَغه. وإذْ كان
__________
(1) في المطبوعة : " ما احتمل ما قلت " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فإنه
لا بأس به.
(10/77)
ذلك عنه صحيحا ، فغير جائز أن يكون
صحيحا عنه إباحةُ ترك غسل بعض ما قد أوجبَ فرضًا غَسْلَه في حال واحدة ووقت واحد ،
لأن ذلك إيجاب فرض وإبطاله في حال واحدة. وذلك عن أحكام الله وأحكام رسوله صلى
الله عليه وسلم منتفٍ.
غير أنا إذا سلَّمنا لمن ادَّعى في حديث أوس ما ادعى من احتماله مسح النبيّ صلى
الله عليه وسلم على قدمه في حال وضوء من حدَث ، ثقًة منا بالفَلَج عليه ، بأنه لا
حجة له في ذلك (1) قلنا : فإذا كان محتملا ما ادَّعيت ، أفمحتمل هو ما قلناه إنّ
ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم في حال وضوئه لا من حدث ؟ (2)
فإن قال : " لا " ثبتت مكابرته لأنه لا بيان في خبر أوس أن النبي صلى
الله عليه وسلم فعل ذلك في وضوء من حدث.
وإن قال : " بل هو محتمل ما قلتَ ومحتمل ما قلنا " .
قيل له : فما البرهان على أن تأويلك الذي ادَّعيتَ فيه أولى به من تأويلنا ؟ فلن
يدّعي برهانا على صحة دعواه في ذلك ، إلا عُورض بمثله في خلاف دعواه.
وأما حديث حذيفة فإن الثِّقات الحفَّاظ من أصحاب الأعمش حدثوا به ، عن الأعمش ، عن
أبي وائل ، عن حذيفة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سُبَاطة قوم فبال
قائما ، ثم توضأ ومسح على خفيه " .
11531 - حدثنا بذلك أحمد بن عبدة الضبي قال ، حدثنا أبو عوانة ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " ..في حال وضوء من حدث ، ففيه نبأ بالفلج عليه ، فإنه لا
حجة له في ذلك " ، وهو خلف من الكلام رديء لا معنى له. وكان في المخطوطة :
" ..نفه منا بالفلح عليه فإنه لا حجة له في ذلك " ، وصواب قراءة ذلك ما
أثبته ، وأخطأ ناسخ المخطوطة ، فجعل " بأنه " ، " فإنه "
بالفاء. والصواب المحض هو ما أثبته. يقول : إذا سلمنا له ذلك ثقة منا بالفلج
عليه.. قلنا : واستقام الكلام ، والحمد لله وحده.
(2) في المطبوعة : " في حال وضوئه لا من حدث " ، وفي المخطوطة : "
في حال وضوئه من حدث " خطأ أسقط " غير " ، وصوابه ما أثبت ،
استظهارا من نهجه في عبارته فيما سلف ، وإن كان ما في المطبوعة صواب مستعمل.
(10/78)
الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة.
11532 - ح ، حدثني المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي
وائل ، عن حذيفة.
11533 - ح ، حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن
أبي وائل ، عن حذيفة.
11534 - ح ، حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن
حذيفة.
11535 - ح ، حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال ، حدثنا عمي يحيى بن عيسى ،
عن الأعمش ، عن شقيق ، عن حذيفة.
11536 - ح ، حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن
حذيفة. (1) .
* * *
__________
(1) الآثار : 11531 - 11536 - " أبو أوائل " هو " شقيق بن سلمة
الأسدي " ، من كبار التابعين الثقات ، لا يسأل عن مثله. مضى كثيرا ، منها رقم
: 177 ، 3956 ، 4223 ، 4526 ، 7279 ، 7282 ، 9671.
وهذا الحديث رواه الأئمة من طرق عن الأعمش ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، عن حذيفة
، بمثله. رواه البخاري (الفتح 1 : 282) ، ليس فيه زيادة " ومسح على خفيه
" ، ولكن رواها مسلم في صحيحه 3 : 165 ، لأنها زيادة من حافظ. وانظر تفصيل
ذلك فيما قاله ابن حجر في الفتح ، وما كتبه أخي السيد أحمد في شرح الترمذي 1 : 19
، 20.
هذا ، وقد جاء الأثر : 11535 ، في المطبوعة : " حدثنا عيسى بن عثمان بن عيسى
الرملي ، قال حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد " ، وفي المخطوطة : " عمر بن
يحيى بن سعيد " ، وكل ذلك خطأ لا شك فيه.
وإن " عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي " ، مضت ترجمته برقم 300 ، 2813 ،
وهو يروى عن عمه " يحيى بن عيسى الرملي " ، كما مضى هناك ، ولم يذكر أنه
روى عن غير عمه هذا.
وعمه " يحيى بن عيسى الرملي " . مضى برقم : 300 ، 6317 ، 9035 ، وأما
" عمر بن يحيى بن سعيد " ، كما في المخطوطة ، فليس في الرواة من سمى
بذلك. وأما ما غيره ناشر المطبوعة " عمرو بن يحيى بن سعيد " ، فإن في
الرواة " عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص " ، روى عن جده
" سعيد بن عمرو " وروى عنه ابن عيينة وروح بن عبادة ، وهذه الطبقة ، لا
يدرك " عيسى بن عثمان الرملي " أن يروى عنه. وظاهر أن الناسخ كتب مكان
" عمي " " عمر " وزاد بعده " بن " ، وأخطأ في قراءة
" عيسى " ، فكتب " سعيد " ، فرددت الإسناد إلى صوابه.
(10/79)
وكل هؤلاء يحدّث ذلك عن الأعمش ،
بالإسناد الذي ذكرنا عن حذيفة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه
" ، وهم أصحاب الأعمش. ولم ينقل هذا الحديث عن الأعمش غير جرير بن حازم. (1)
ولو لم يخالفه في ذلك مخالف ، لوجب التثبت فيه لشذوذه ، فكيف والثِّقات من أصحاب
الأعمش يخالفونه في روايته ما روى من ذلك!! ولو صح ذلك عن النبي صلى الله عليه
وسلم كان جائزا أن يكون مسح على نعليه وهما ملبوستان فوق الجوربين ، وإذا جاز ذلك
لم يكن لأحد صرفُ الخبر إلى أحد المعاني المحتمِلِها الخَبرُ إلا بحجة يجب التسليم
لها.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { إِلَى الْكَعْبَيْنِ }
قال أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في " الكعب " .
فقال بعضهم بما : -
11537 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا القاسم بن
الفضل الحدّاني ، قال ، قال أبو جعفر : أين " الكعبين " ؟ فقال القوم :
هاهنا. فقال : هذا رأس الساق! ولكن " الكعبين " هما عند المفصل (2)
__________
(1) انظر ما سلف في التعليق على الأثر : 11528.
(2) الأثر : 11537 - " القاسم بن الفضل بن معدان بن قريط الحداني ، الأزدي
" ، أبو المغيرة. لم يكن حدانيا ، كان نازلا فيهم ، هو أزدي من بني الحارث بن
مالك. روى عن أبيه وابن سيرين ، ومعاوية بن قرة ، وأبي جعفر محمد بن علي بن
الحسين. وغيرهم. ثقة ثبت. قال يحيى القطان : " كان منكرا " ، يعني من
فطنته. مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/169 ، وابن أبي حاتم 3/2/116.
و " أبو جعفر " هو الباقر : " محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب " ، مضى برقم : 5123 ، 5463.
وفي المطبوعة هنا : " أين الكعبان " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب
محض ، استفهم عن " الكعبين " في لفظ الآية.
(10/80)
11538 - حدثني يونس قال ، أخبرنا أشهب
قال ، قال مالك : " الكعب " الذي يجب الوضوء إليه ، هو الكعب الملتصق
بالساق المحاذِي العقب ، وليس بالظاهر في ظاهر القدم.
* * *
وقال آخرون بما : -
11539 - حدثنا الربيع قال ، قال الشافعي : لم أعلم مخالفًا في أن " الكعبين
" اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء ، هما الناتئان وهما مجمع مَفْصِل
الساق والقدم (1)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن " الكعبين " هما العظمان
اللذان في مفصل الساق والقدم ، تسمِّيهما العرب " المِنْجَمين " . (2)
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : هما عظما الساق في طرفها (3)
* * *
واختلف أهل العلم في وجوب غسلهما في الوضوء وفي الحدّ الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل
إليه من الرجلين نحو اختلافهم في وجوب غسل المرفقين ، وفي الحد الذي ينبغي أن يبلغ
بالغسل إليه من اليدين. وقد ذكرنا ذلك ودللنا على الصحيح من القول فيه بعلله فيما
مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته. (4)
* * *
__________
(1) هذا في الأم للشافعي 1 : 23 مع خلاف يسير في لفظه ، قال الشافعي " لم
أسمع مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكر الله عز وجل في الوضوء هما الكعبان
الناتئان.. " .
وكان في المطبوعة هنا " مجمع فصل الساق والقدم " ، وهو خطأ لا شك فيه.
(2) " المنجم " (بكسر الميم وسكون النون وفتح الجيم) و (بفتح الميم
وسكون النون وكسر الجيم) مثل : " منبر " و " مجلس " ، ويقال
مثل : " مقعد " (بفتحتين) : وهو الكعب والعرقوب ، وكل ما نتأ.
(3) لم أعرف قائل هذا ، وهو صواب محض.
(4) انظر ما سلف قريبا ص : 47 ، 48.
(10/81)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " وإن كنتم جنبا " وإن كنتم
أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها " فاطَّهَّروا " ،
يقول : فتطهّروا بالاغتسال منها قبل دخولكم في صلاتكم التي قمتم إليها. (1)
* * *
ووحَّد " الجُنب " وهو خبر عن الجميع ، لأنه اسم خرج مخرج الفعل (2) كما
قيل : " رجل عَدْل وقوم عدل " ، و " رجل زَوْرٌ وقوم زَوْرٌ "
، وما أشبه ذلك لفظ الواحد والجميع والاثنين والذكر والأنثى فيه واحد.
يقال منه : " أجنَب الرجل " و " جَنُب " و " اجتَنَب
" (3) والفعل " الجنابة " ، و " الاجناب " . (4) وقد سمع
في جمعه " أجناب " ، وليس ذلك بالمستفيض الفاشي في كلام العرب ، بل
الفصيح من كلامهم ما جاء به القرآن (5) .
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ
جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : إن كنتم جرحى أو مُجَدَّرين (6) وأنتم
__________
(1) انظر تفسير " التطهر " فيما سلف 4 : 383 - 387.
(2) " الفعل " هنا ، يعني به المصدر ، كما سلف مرارا. انظر فهارس
المصطلحات.
(3) " اجتنب " ، زيادة عما جاء في كتب اللغة ، وعندهم أيضا : "
تجنب " و " استجنب " في هذا المعنى.
(4) " الفعل " هنا ، يعني به المصدر ، كما سلف مرارا. انظر فهارس
المصطلحات.
(5) انظر تفسير " الجنب " ، فيما سلف 8 : 340 ، 379 ، ولم يشرح أبو جعفر
هناك هذا الحرف ، ثم استوفاه في هذا الموضع. وهو من اختصاره في تفسيره.
(6) يقال ، " جدر الرجل ، جدرا " (بالبناء للمجهول ، بضم أوله وكسر
ثانيه) " فهو جدير " . و " جدر " (بالبناء للمجهول مشدد
الدال) " فهو مجدر " ، إذا أصابه الجدري.
(10/82)
جنب
وقد بيَّنا أن ذلك كذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته (1) .
* * *
وأما قوله : " أو على سفر " فإنه يقول : وإن كنتم مسافرين وأنتم جنب (2)
" أو جاء أحد منكم من الغائط " يقول : أو جاء أحدكم وقد قضى حاجته فيه
وهو مسافر. وإنما عنى بذكر مجيئه منه قضاء حاجته فيه (3) .
أو لامستم النساء " يقول أو جامعتم النساء وأنتم مسافرون. وقد ذكرنا اختلاف
المختلفين فيما مضى قبل في " اللمس " وبينا أولى الأقوال في ذلك بالصواب
فيما مضى بما أغنى عن إعادته (4) .
* * *
فإن قال قائل : وما وجه تكرير قوله : " أو لامستم النساء " إن كان معنى
" اللمس " الجماع ، وقد مضى ذكر الواجب عليه بقوله : " وإن كنتم
جنبا فاطّهروا " ؟
قيل : وجه تكرير ذلك أن المعنى الذي ألزمه تعالى ذكره من فرضه (5) بقوله : "
وإن كنتم جنبا فاطهروا " غيُر المعنى الذي ألزمه بقوله : " أو لامستم
النساء " وذلك أنه بيَّن حكمه في قوله : " وإن كنتم جنبا فاطهروا "
إذا كان له السبيل إلى الماء الذي يطهّره ، ففرض عليه الاغتسال به (6) ثم بيَّن
حكمه إذا أعوزه الماء فلم يجد إليه السبيلَ وهو مسافر غير مريض مقيم ، فأعلمه أن
التيمم بالصعيد له حينئذ الطهور.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 8 : 385 - 388.
(2) انظر تفسير " على سفر " فيما سلف 8 : 388.
(3) انظر تفسير " الغائط " فيما سلف 5 : 354/8 : 388. وفي المطبوعة :
" بعد قضاء حاجته " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وكان فيها " فقد قضى
" .
(4) انظر تفسير " الملامسة " و " اللمس " فيما سلف 8 : 389 -
406.
(5) في المطبوعة : " أن المعنى الذي ذكره تعالى من فرضه " ، وكان في
المخطوطة : " أن المعنى الذي تعالى ذكره " ، سقط منها " ألزمه
" ، استظهرتها من تمام الجملة.
(6) في المطبوعة : " فرض " حذف الفاء ، وهو خطل.
(10/83)
القول في تأويل قوله : { فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا
" فإن لم تجدوا أيها المؤمنون إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم مرضى مقيمون ، أو
على سفر أصحَّاء ، أو قد جاء أحد منكم من قضاء حاجته ، أو جامع أهلَه في سفره
" ماء فتيمموا صعيدا طيبا ، يقول : فتعمَّدوا واقصدوا وجه الأرض " طيبا
" ، يعني : طاهرا نظيفا غير قذر ولا نجس ، جائزا لكم حلالا " فامسحوا
بوجوهكم وأيديكم منه " يقول : فاضربوا بأيديكم الصعيد الذي تيممتموه
وتعمدتموه بأيديكم ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم مما عَلِق بأيديكم " منه "
، يعني : من الصعيد الذي ضربتموه بأيديكم من تُرابه وغباره.
وقد بينا فيما مضى كيفية " المسح بالوجوه والأيدي منه " واختلاف
المختلفين في ذلك والقول في معنى " الصعيد " و " التيمم " ،
ودللنا على الصحيح من القول في كل ذلك بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع (1) .
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
حَرَجٍ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج
" ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى صلاتكم ، والغُسل
__________
(1) انظر تفسير " المسح بالوجوه والأيدي " فيما سلف 8 : 410 - 425
وتفسير التيمم " فيما سلف 8 : 407 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك وتفسير "
الصعيد " فيما سلف 8 : 408 ، 409 وتفسير " الطيب " فيما سلف 8 :
409 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(10/84)
من جنابتكم والتيمم صعيدا طيبا عند
عدمكم الماء " ليجعل عليكم من حرج ليلزمكم في دينكم من ضيق ، ولا ليعنتكم
فيه.
* * *
وبما قلنا في معنى " الحرج " قال أهل التأويل (1) .
ذكر من قال ذلك :
11540 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن خالد بن دينار ، عن أبي العالية وعن
أبي مكين ، عن عكرمة في قوله : " من حرج " قالا من ضيق.
11541 - حدثنا محمد بن عمرو ، قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " من حرج " من ضيق.
11542 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ولكن يريد ليطهركم " ولكن الله
يريد أن يطهِّركم بما فرض عليكم من الوضوء من الأحداث والغسلِ من الجنابة ،
والتيمم عند عدم الماء ، فتنظفوا وتطهّروا بذلك أجسامكم من الذنوب (2) . كما : -
11543 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد قال ،
حدثنا قتادة عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : إن الوضوء يكفّر ما قبله ، ثم تصير الصلاة نافلة. قال قلت : أنت سمعت
__________
(1) انظر تفسير " الحرج " فيما سلف 8 : 518 ، وما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " التطهر " فيما سلف قريبا ص : 82 ، تعليق : 1.
(10/85)
ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : نعم ، غيرَ مرة ، ولا مرتين ، ولا ثلاث ، ولا أربع ، ولا خمس (1) .
11544 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا معاذ بن هشام قال ، حدثني أبي ، عن قتادة
، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة صديّ بن عجلان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
، نحوه (2) .
11545 - حدثنا أبو كريب ، ومحمد بن المثني ويحيى بن داود الواسطي ، قالوا ، حدثنا
إبراهيم بن يزيد مردانبه القرشي قال ، أخبرنا رقبة بن مصقلة العبدي ، عن شمر بن
عطية ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي إمامة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة ، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه
ورجليه " (3)
__________
(1) الأثر : 11543 - " سعيد " ، هو : سعيد بن أبي عروبة.
و " شهر بن حوشب " ، تابعي ثقة ، مضى توثيقه برقم : 1489 ، 5244 ، 6650
- 6652. فهو حديث صحيح الإسناد ، وسيأتي بإسنادين آخرين بعد.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5 : 251 ، من طريق محمد بن بشر ، عن سعيد وفي ص 261
، من طريق محمد بن جعفر ، عن سعيد. بمثله.
هذا ، وقد كان في المخطوطة والمطبوعة : " لا مرة ولا مرتين.. " ، وهذا
غير جائز ، إلا أن يقول : " لا ثلاثا ، ولا أربعا ، ولا خمسا " بالنصب.
فمن أجل ذلك ، ومن أجل رواية أحمد في الموضعين ، ورواية الطيالسي في مسنده : 154 ،
جعلت " غير " مكان " لا " . كما في روايتهم.
(2) الأثر : 11544 - " معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي " ، مضى
مرارا وأبوه " هشام الدستوائي " ، مضى مرارا.
وهذا إسناد آخر للخبر السالف ، من طريق هشام الدستوائي ، عن قتادة. رواه أبو داود
الطيالسي في مسنده من هذه الطريق نفسها ص : 154 ، رقم : 1129.
وخبر أبي أمامة هذا ، رواه أحمد من طرق أخرى. فرواه من طريق أبي خريم ، عقبة بن
أبي الصهباء ، عن أبي غالب الراسبي ، عن أبي أمامة (5 : 254) ومن طريق سليم بن
حيان ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة (5 : 255) ومن طريق حماد بن سلمة ، عن أبي غالب
، عن أبي أمامة (5 : 256) ، بغير هذا اللفظ. ومن هذه الطريق رواه أبو داود
الطيالسي في مسنده ص : 155 رقم : 1135 ، بمثله.
(3) الأثر : 11545 - " يحيى بن داود بن ميمون الواسطي " ، شيخ الطبري.
ذكره ابن حبان في الثقات وقال : " مستقيم الحديث " ، مات سنة 244. مضت
رواية الطبري عنه برقم : 4451. مترجم في التهذيب.
" إبراهيم بن يزيد بن مردانبه القرشي المخزومي " ، مولى عمرو بن حريث.
قال أبو حاتم : " شيخ ، يكتب حديثه ولا يحتج به " . مترجم في التهذيب ،
والخلاصة ، والكبير 1/1/336.
وكان في المطبوعة : " إبراهيم بن يزيد يزرانبه " (بالياء في أوله) ، كما
في الخلاصة ، وبحذف (بن). وضبطه في الخلاصة : " بفتح التحتانية ، والمهملة ،
بينهما زاي ساكنة ، ثم نون بعد الألف ، وموحدة " .
أما في المخطوطة ففيها : " يزيد بن مردانيه " بإثبات " بن "
وبياء منقوطة ، والصواب بالباء. وهكذا جاء في التهذيب ، وفي تاريخ البخاري ، وذكره
البخاري أيضا بالذال " مرذانبه " ، وضبطه في التقريب " بنون ، ثم
موحدة " . فأثبت ما اتفقت عليه المخطوطة ، وتاريخ البخاري ، وضبط التقريب.
و " رقبة بن مصقلة بن عبد الله العبدي " ، قال أحمد : " شيخ ثقة من
الثقات ، مأمون " وكان مفوها ، يعد من رجالات العرب ، وكانت فيه دعابة. مترجم
في التهذيب.
و " شمر بن عطية بن بهدلة ، وغيرهم. قال ابن سعد : " ثقة ، وله أحاديث
صالحة " .
وهذا الخبر رواه أحمد من طريق وكيع ، عن الأعمش ، عن شمر ، عن شهر ، في مسنده 5 :
252 ، 256 ، وخرجه في مجمع الزوائد ، وقال : " رواه أحمد والطبراني في الكبير
بنحوه ، وإسناده حسن " . وفيه في رواية الخبر زيادة في آخره : " فإن قعد
قعد مغفورا له " .
ثم رواه أحمد في المسند من طرق أخرى ، من طريق أبي النضر ، عن عبد الحميد بن بهرام
، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة (5 : 263) ، مطولا ، وخرجه صاحب مجمع الزوائد (1
: 222) ، وقال : " رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط. وفي إسناد أحمد :
عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر. واختلف في الاحتجاج بهما ، والصحيح أنهما ثقتان ،
ولا يقدح الكلام فيهما " .
ثم رواه أحمد أيضا في المسند ( 5 : 264) من طريقين ، عن زائدة ، عن عاصم بن أبي
النجود ، عن شهر بن حوشب.
(10/86)
11546 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا
معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن منصور عن سالم بن أبي الجعد ، عن كعب بن مرة قال ،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه أو :
ذراعيه إلا خرجت خطاياه منهما ، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه ، فإذا مسح
رأسه خرجت خطاياه من رأسه ، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه. (1)
__________
(1) الأثر : 11546 - " كعب بن مرة البهزي السلمي " أو " مرة بن كعب
" ، اختلف في ذلك ، وهكذا ذكره أحمد في إسناد هذا الخبر. وانظر ما قاله ابن
حجر في الترجمتين من الإصابة.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 4 : 234 مطولا من طريق : " محمد بن جعفر ، عن
شعبة ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد قال شعبة ، قال ، قد حدثني به منصور ،
وذكر ثلاثة بينه وبين مرة بن كعب ثم قال بعد : عن منصور ، عن سالم ، عن مرة ، أو
عن كعب " .
ثم عاد أحمد فرواه أيضا ( 4 : 321) من طريق : " سفيان ، عن منصور ، عن سالم
بن أبي الجعد ، عن رجل ، عن كعب بن مرة البهزي " .
و " سالم بن أبي الجعد الأشجعي " ، مات سنة 97 ، 98 ، وسمع جابرا وأنسا
، وعبد الله بن عمرو ، وهو تابعي ثقة. قال ابن حجر في التهذيب : روى عن كعب بن مرة
، وقيل : " لم يسمع منه " .
ومع انقطاعه ، قال ابن كثير في تفسيره ( 3 : 97) بعد أن ذكر حديث أحمد : "
وهذا إسناد صحيح " . وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ( 1 : 224 ، 225) ثم قال
، " رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح " .
هذا ، وقد كان سياق الخبر هكذا في المطبوعة : " ما من رجل يتوضأ فيغسل وجهه
إلا خرجت خطاياه من وجهه ، وإذا غسل يديه أو ذراعيه ، خرجت خطاياه من ذراعيه..
" ، وهذا تغيير من الناشر الأول ، لأن الخبر جاء في المخطوطة هكذا : "
ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه أو ذراعيه إلا خرجت خطاياه من وجهه ، فإذا مسح رأسه..
" ، سقط من كلامه ما أثبته من رواية ابن كثير في تفسيره 3 : 97 ، عن هذا
الموضع من تفسير ابن جرير.
(10/87)
11547 - حدثنا أبو كريب ، قال ، حدثنا
عثمان بن سعيد قال ، حدثنا حاتم ، عن محمد بن عجلان ، عن أبى عبيد مولى سليمان بن
عبد الملك ، عن عمرو بن عبسة : أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
: إذا غسل المؤمن كفّيه انتثرت الخطايا من كفَّيه ، وإذا تمضمض واستنشق خرجت
خطاياه من فيه ومنخريه ، وإذا غسل وجهه خرجت من وجهه حتى تخرج من أشفار عينيه ،
فإذا غسل يديه خرجت من يديه ، فإذا مسح رأسه وأذنيه خرجت من رأسه وأذنيه ، فإذا
غسل رجليه خرجت حتى تخرج من أظفار قدميه ، فإذا انتهى إلى ذلك من وضوئه كان ذلك
حظّه منه ، فإذ قام فصلى ركعتين مقبلا فيهما بوجهه وقلبه على ربه ، كان من خطاياه
كيوم ولدته أمّه " (1)
__________
(1) الأثر : 11547 - " عثمان بن سعيد بن مرة القرشي " ، روى عنه أبو
كريب ، مترجم في التهذيب.
وهناك أيضا " عثمان بن سعيد الزيات الأحول " ، يروى عنه أبو كريب ، مضى
برقم : 137 ، فلا أدري أيهما هو.
و " حاتم " ، هو : " حاتم بن إسمعيل المدني " ، ثقة ، روى له
الجماعة ، مضى برقم : 2003.
و " محمد بن عجلان المدني " ، أحد العلماء العاملين الثقات ، مضى برقم :
304 ، 4170 ، 5589.
و " أبو عبيد المذحجي " مولى سليمان بن عبد الملك ، مختلف في اسمه. ثقة
من أتباع التابعين ، روى عن عمر بن عبد العزيز ، ورجاء بن حيوة. مترجم في التهذيب.
وكان في المخطوطة هنا " عن أبي عبيدة " ، والصواب ما في المطبوعة.
و " عمرو بن عبسة السلمي " ، أسلم قديما بمكة ، وكان أخا لأبي ذر لأمه.
وكان في الجاهلية يعتزل عبادة الأصنام ، فلما أسلم يومئذ كان ربع الإسلام ، كان
المسلمون يومئذ : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وبلال ، كما قال في
حديثه. وكان في المخطوطة : " ابن عنبسة " ، وهو خطأ صرف.
وهذا الخبر الذي رواه أبو جعفر منقطع ، لم يسمع أبو عبيد من عمرو بن عبسة ، وقد
روى من طرق صحاح. رواه مسلم في صحيحه 6 : 114 - 116 ، ورواه أحمد في مسنده 4 : 112
، 113 ، 285 - 388 ، ورواه ابن سعد في الطبقات 4/1/158 ، 159 ، مطولا ، وهو حديث
إسلام عمرو بن عبسة بطوله ، بغير هذا اللفظ.
(10/88)
11548 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال
، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، أخبرني مالك بن أنس ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه
، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ، إذا توضأ العبد المسلم
أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء ، أو مع آخر
قطرة من الماء ، أو نحو هذا. وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشت بها يداه
مع الماء ، أو مع آخر قطرة من الماء ، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب " (1) .
11549 - حدثنا عمران بن بكار الكلاعي ، قال ، حدثنا علي بن عياش ، قال ، حدثنا أبو
غسان ، قال ، حدثنا زيد بن أسلم ، عن حمران مولى عثمان قال ،
__________
(1) الأثر : 11548 - رواه مالك في الموطأ ص 32 ، رقم : 31 ، ومسلم في صحيحه 3 :
132 ، 133 ، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 : 226 مطولا بلفظ آخر وقال ، "
رواه الطبراني في الأوسط ، وهو في الصحيح باختصار ، ورجاله موثقون " . وانظر
ابن كثير 3 : 97.
وخبر أبي جعفر هنا مختصر ، والزيادة في الموطأ ومسلم : " فإذا غسل رجليه خرجت
كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء ، أو مع آخر قطر الماء " .
وفي المخطوطة والمطبوعة : " مع آخرة قطرة من الماء " في الموضعين ، وهو
في مسلم والموطأ : " مع آخر قطر الماء " .
(10/89)
أتيت عثمان بن عفان بوضوء وهو قاعد ،
فتوضأ ثلاثا ثلاثا ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ كوضوئي
هذا. ثم قال : من توضأ وضوئي هذا كان من ذنوبه كيوم ولدته أمّه ، وكانت خُطاه إلى
المساجد نافلة. (1)
* * *
وقوله : " وليتم نعمته عليكم " فإنه يقول : ويريد ربكم مع تطهيركم من
ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة بالماء
إن وجدتموه ، وتيممكم إذا لم تجدوه أن يتم نعمته عليكم بإباحته لكم التيمم ،
وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا ، رخصة منه لكم في ذلك مع سائر نِعَمه التي أنعم
بها عليكم (2) أيها المؤمنون " لعلكم تشكرون " يقول : لكي تشكروا الله
على نعمه التي أنعمها عليكم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم (3) .
* * *
__________
(1) الأثر : 11549 - " علي بن عياش بن مسلم الألهاني الحمصي " ، ثقة حجة
متقن ، من شيوخ أحمد ، روى له الأربعة ، مترجم في التهذيب.
و " أبو غسان " هو : " محمد بن مطرف الليثي المدني " ، أحد
الأعلام الأثبات ، مضى برقم : 2990.
وهذا الخبر من طريق زيد بن أسلم ، عن حمران ، عن عثمان ، رواه مسلم في صحيحه بنحو
من لفظه 3 : 113.
وقد روي من طرق أخرى كثيرة ، عن حمران بن أبان مولى عثمان ، عن عثمان مختصرا
ومطولا ، انظر مسلم في صحيحه 3 : 105 - 117 ، 133 ، وسنن أبي داود 1 : 60 ، رقم :
106 ، وأحمد في المسند بالأرقام : 406 ، 415 ، 418 ، 419 ، 421 ، 428 ، 430 ، 459
، 476 ، 478 ، 484 ، 486 ، 487 ، 489 ، 493 ، 503.
(2) انظر تفسير " إتمام النعمة " فيما سلف من فهارس اللغة ، مادة (تمم)
(نعم).
(3) في المطبوعة : " يقول : تشكرون الله على نعمه.. " ، وفي المخطوطة :
" تشكروا الله.. " ، والصواب ما أثبت. وانظر ما سلف في مواضع كثيرة ، في
تفسير " لعل " بمعنى " لكي " ، منها 1 : 364 ، 365/2 : 69 ، 2
، 85.
(10/90)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ
إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : (1) واذكروا نعمة الله عليكم أيها المؤمنون ،
بالعقود التي عقدتموها لله على أنفسكم ، واذكروا نعمته عليكم في ذلك بأن هداكم من
العقود لما فيه الرضا ، ووفقكم لما فيه نجاتكم من الضلالة والرَّدَى في نِعم غيرها
جَمّة. كما : -
11550 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " واذكروا نعمة الله عليكم " قال ، النعم : آلاءُ الله.
11551 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
* * *
وأما قوله : " وميثاقه الذي واثقكم به " فإنه يعني : واذكروا أيضا أيها
المؤمنون ، في نعم الله التي أنعم عليكم " ميثاقه الذي واثقكم به ، وهو عهده
الذي عاهدكم به. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في " الميثاق " الذي ذكر الله في هذه الآية ، أيَّ
مواثيقه عَنى ؟
فقال بعضهم : عنى به ميثاقَ الله الذي واثقَ به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، حين بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " يعني جل ثناؤه بقوله " ، والسياق يقتضي
ما أثبت.
(2) انظر تفسير " الميثاق " فيما سلف 9 : 363 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(10/91)
له فيما أحبّو وكرهوا ، والعمل بكل ما
أمرهم الله به ورسوله.
ذكر من قال ذلك :
11552 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس ، قوله : " واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ
قلتم سمعنا وأطعنا " الآية ، يعني : حيث بعث الله النبيَّ صلى الله عليه وسلم
، وأنزل عليه الكتاب ، (1) فقالوا : " آمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم
وبالكتاب ، (2) وأقررنا بما في التوراة " ، فذكّرهم الله ميثاقَه الذي أقروا
به على أنفسهم ، وأمرهم بالوفاء به.
11553 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا
وأطعنا " ، فإنه أخذ ميثاقنا فقلنا : سمعنا وأطعنا على الإيمان والإقرار به
وبرسوله.
* * *
وقال آخرون : بل عنى به جلّ ثناؤه : ميثاقه الذي أخذ على عباده حين أخرجهم من صُلب
آدم صلى الله عليه وسلم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألستُ بربكم ؟ فقالوا : بلى شهدنا.
ذكر من قال ذلك :
11554 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) " حيث " هنا ، استعملت في موضع " حين " . وقد قال الأصمعي
: " ومما تخطئ فيه العامة والخاصة ، باب " حين " و " حيث
" ، غلط فيه العلماء ، مثل أبي عبيدة وسيبويه " .وقال أبو حاتم : "
رأيت في كتاب سيبويه أشياء كثيرة ، يجعل حين : حيث " ، وكذلك في كتاب أبي
عبيدة بخطه. قال أبو حاتم : واعلم أن " حين " و " حيث " ظرفان
، فحين ظرف للزمان ، وحيث ظرف للمكان ، ولكل واحد منهما حد لا يجاوزه ، والأكثر من
الناس جعلوهما معا : حيث " .
ثم انظر مقالة الأخفش أن " حيث " ظرف للزمان ، في الخزانة 3 : 162.
والأمر يحتاج إلى زيادة بحث. ليس هذا موضعه.
(2) في المطبوعة : " بالنبي والكتاب " وأثبت ما في المخطوطة.
(10/92)
عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في
قوله : " وميثاقه الذي واثقكم به " قال : الذي واثق به بني آدم في ظهر
آدم.
11555 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، نحوه.
* * *
ثال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك : قولُ ابن عباس ، وهو أن
معناه : " واذكروا " أيها المؤمنون " نعمة الله عليكم " التي
أنعمها عليكم بهدايته إياكم للإسلام " وميثاقه الذي واثقكم به " ، يعني
: وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على السمع
والطاعة له في المنشَط والمكرَه ، والعُسر واليُسر " إذ قلتم سمعنا " ما
قلت لنا ، وأخذت علينا من المواثيق وأطعناك فيما أمرتنا به ونهيتنا عنه ، وأنعم
عليكم أيضا بتوفيقكم لقبول ذلك منه بقولكم له : " سمعنا وأطعنا " ، يقول
: ففُوا لله ، أيها المؤمنون بميثاقه الذي واثقكم به ، ونعمته التي أنعم عليكم في
ذلك بإقراركم على أنفسكم بالسمع له والطاعة فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ، يَفِ
لكم بما ضمن لكم الوفاءَ به إذا أنتم وفيتم له بميثاقه ، من إتمام نعمته عليكم ،
وبإدخالكم جنته وإنعامكم بالخلود في دار كرامته ، وإنقاذكم من عقابه وأليم عذابه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من قول من قال : " عنى به الميثاق الذي أخذ
عليهم في صلب آدم صلوات الله عليه " ، لأن الله جل ثناؤه ذكرَ بعقب تذكرة
المؤمنين ميثاقَه الذي واثقهم به ، ميثاقَه الذي واثق به أهل التوراة بعد ما أنزل
كتابه على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم فيها ، (1) فقال : (
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ
اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ) ، الآيات بعدها [سور المائدة : 12] مُنبِّهًا بذلك
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) قوله : " فيها " ، أي في التوراة ، والسياق : " ميثاقه الذي
واثق به أهل التوراة.. فيها " .
(10/93)
محمد على مواضع حظوظهم من الوفاء لله
بما عاهدهم عليه ومعرِّفَهم سوء عاقبة أهل الكتاب في تضييعهم ما ضيعوا من ميثاقه
الذي واثقهم به في أمره ونهيه ، وتعزير أنبيائه ورسله زاجرًا لهم عن نكث عهودهم ،
فيُحلّ بهم ما أحلَّ بالناكثين عهوده من أهل الكتاب قبلهم.
فكان إذْ كان الذي ذكرهم فوعظهم به ونهاهم عن أن يركبوا من الفعل مثلَه ، ميثاقَ
قوم أخذ ميثاقهم بعد إرسال الرسول إليهم وإنزال الكتاب عليهم (1) واجبًا أن يكون
الحال التي أخذ فيها الميثاق والموعوظين نظيرَ حال الذين وعظوا بهم. وإذا كان ذلك
كذلك ، كان بيِّنًا صحة ما قلنا في ذلك وفسادُ خلافه.
* * *
وأما قوله : " واتقوا الله إنّ الله عليم بذات الصدور " ، فإنه وعيد من
الله جل اسمه للمؤمنين كانوا برسوله صلى الله عليه وسلم من أصحابه (2) وتهدُّدًا
لهم أن ينقضوا ميثاق الله الذي واثقهم به في رسوله (3) وعهدهم الذي عاهدوه فيه بأن
يضمروا له خِلاف ما أبدوا له بألسنتهم. (4) .
يقول لهم جل ثناؤه : واتقوا الله ، أيها المؤمنون ، فخافوه أن تبدِّلوا عهده
وتنقضوا ميثاقه الذي واثقكم به ، أو تخالفوا ما ضمنتم له بقولكم : " سمعنا
وأطعنا " ، بأن تضمروا له غير الوفاء بذلك في أنفسكم ، فإن الله مطلع على
ضمائر صدوركم (5) وعالم بما تخفيه نفوسكم لا يخفى عليه شيء من ذلك ، فيُحّل بكم من
عقوبته ما لا قبل لكم به ، كالذي حلَّ بمن قبلكم من اليهود من المسخ وصنوف النّقم
، وتصيروا في معادِكم إلى سخط الله وأليم عقابه.
* * *
__________
(1) سياق هذه العبارة : " فكان.. واجبا أن يكون الحال.. " ، وأما الجملة
التي بينهما فهي معترضة ، فمن أجل ذلك وضعتها بين خطين.
(2) في المطبوعة : " .. للمؤمنين الذين أطافوا برسوله " ، غير ما في
المخطوطة ، وهو صواب محض وعربي عريق ، وضع مكان " كانوا " : " الذي
أطافوا " .
(3) في المطبوعة : " وتهديدا لهم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب
محض.
(4) قوله : " بأن يضمروا.. " متعلق " أن ينقضوا ميثاق الله..
" ، بأن يضمروا.
(5) انظر تفسير " ذات الصدور " فيما سلف 7 : 155 ، 325.
(10/94)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
القول في تأويل قوله عز ذكره : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد ،
ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيامُ لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم ، (1) ولا
تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعدواتهم لكم ، ولا
تقصِّروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم ، (2) ولكن
انتهوا في جميعهم إلى حدِّي ، واعملوا فيه بأمري.
* * *
وأما قوله : " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا " فإنه يقول : ولا
يحملنكم عداوةُ قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم ، فتجوروا عليهم
من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة.
* * *
وقد ذَكرنا الرواية عن أهل التأويل في معنى قوله : ( كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ) [سورة النساء : 135] وفي قوله : ( وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ) [سورة المائدة : 2] واختلاف المختلفين في قراءة
ذلك ، والذي هو أولى بالصواب من القول فيه والقراءة بالأدلة الدالة على صحته ، بما
أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
وقد قيل : إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين همت اليهود
بقتله.
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " لولايتهم " ، وأسقط " لكم " ، وأثبتها من
المخطوطة.
(2) انظر تفسير " القسط " فيما سلف 9 : 301 ، تعليق : 5 ، والمراجع
هناك.
(3) انظر ما سلف 9 : 301 ، الآية الأولى ثم الثانية 9 : 483 - 487.
(10/95)
11556 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير : " يا أيها
الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا
اعدلوا هو أقرب للتقوى " ، نزلت في يهود خيبر ، أرادوا قتل النبيّ صلى الله
عليه وسلم وقال ابن جريج ، قال عبد الله بن كثير : ذهب رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى يهود يستعينهم في دية ، فهمُّوا أن يقتلوه ، فذلك قوله : " ولا
يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا " ... الآية.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : اعدلوا " أيها المؤمنون ، على كل أحد
من الناس وليًّا لكم كان أو عدوًّا ، فاحملوهم على ما أمرتكم أن تحملوهم عليه من
أحكامي ، ولا تجوروا بأحد منهم عنه.
* * *
وأما قوله : " هو أقرب للتقوى " فإنه يعني بقوله : " هو "
العدلُ عليهم أقرب لكم أيها المؤمنون إلى التقوى ، يعني : إلى أن تكونوا عند الله
باستعمالكم إياه من أهل التقوى ، وهم أهل الخوف والحذر من الله أن يخالفوه في شيء
من أمره ، أو يأتوا شيئا من معاصيه. (1)
* * *
وإنما وصف جل ثناؤه " العَدْل " بما وصفه به من أنه " أقرب للتقوى
" من الجور ، لأن من كان عادلا كان لله بعدله مطيعًا ، ومن كان لله مطيعا ،
كان لا شك
__________
(1) انظر تفسير " العدل " ، و " التقوى " ، فيما سلف من فهارس
اللغة.
(10/96)
من أهل التقوى ، ومن كان جائرا كان لله
عاصيا ، ومن كان لله عاصيا ، كان بعيدًا من تقواه.
* * *
وإنما كنى بقوله : " هو أقرب " عن الفعل (1) والعرب تكني عن الأفعال إذا
كَنَتْ عنها بـ " هو " وبـ " ذلك " ، كما قال جل ثناؤه : (
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) (2) [سورة البقرة : 271] و( ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ )
[سورة البقرة : 232]. (3) ولو لم يكن في الكلام " هو " لكان " أقرب
" نصبا ، ولقيل : " اعدلوا أقربَ للتقوى " ، كما قيل : ( انْتَهُوا
خَيْرًا لَكُمْ ) [سورة النساء : 171]. (4)
* * *
وأما قوله : " واتقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون " ، فإنه يعني :
واحذروا أيها المؤمنون ، أن تجوروا في عباده فتجاوزوا فيهم حكمه وقضاءَه الذين
بيّن لكم ، فيحلّ بكم عقوبته ، وتستوجبوا منه أليم نكاله " إن الله خبير بما
تعملون " ، يقول : إن الله ذو خبرة وعلم بما تعملون أيها المؤمنون فيما أمركم
به وفيما نهاكم عنه ، من عمل به أو خلافٍ له ، مُحْصٍ ذلكم عليكم كلّه ، حتى
يجازيكم به جزاءَكم ، المحسنَ منكم بإحسانه ، والمسيءَ بإساءته ، فاتقوا أن
تسيئوا. (5)
* * *
__________
(1) " الفعل " ، يعني مصدر الفعل ، كما سلف قريبا ص : 82 ، تعليق : 2 ،
وانظر فهرس المصطلحات.
(2) كان في المطبوعة : " هو خير لكم " ، وفي المخطوطة بإسقاط " هو
" ، وهذا الذي أثبته هو نص آية البقرة : 271 ، وراجع ذلك في 5 : 582 مما سلف.
وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 303.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " ذلك أذكى " ، وأثبت نص آية البقرة. وانظر
ما سلف 5 : 29.
(4) انظر ما سلف 9 : 413 - 415.
(5) انظر تفسير " خبير " فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/97)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وعد الله الذين آمنوا وعملوا
الصالحات " ، وعد الله أيها الناس الذين صدّقوا الله ورسوله ، وأقرُّوا بما
جاءهم به من عند ربهم ، وعملوا بما واثقهم الله به ، وأوفوا بالعقود التي عاقدَهم
عليها بقولهم : " لنسمعن ولنطيعنَّ الله ورسوله " فسمعوا أمر الله ونهيه
وأطاعوه ، فعملوا بما أمرهم الله به ، وانتهوا عما نهاهم عنه. (1)
ويعني بقوله : " لهم مغفرة " لهؤلاء الذين وفوا بالعقود والميثاق الذي
واثقهم به ربهم " مغفرة " وهي ستر ذنوبهم السالفة منهم عليهم وتغطيتها
بعفوه لهم عنها ، وتركه عقوبتهم عليها وفضيحتهم بها (2) " وأجر عظيم "
يقول : ولهم مع عفوه لهم عن ذنوبهم السالفة منهم ، جزاءً على أعمالهم التي عملوها
ووفائهم بالعقود التي عاقدوا ربهم عليها " أجر عظيم " ، و " العظيم
" من خيره غير محدود مبلغه ، ولا يعرف منتهاه غيره تعالى ذكره. (3)
* * *
فإن قال قائل : إن الله جل ثناؤه أخبر في هذه الآية أنه وعد الذين آمنوا وعملوا
الصالحات ، ولم يخبر بما وعدهم ، فأين الخبر عن الموعود ؟
قيل : بلى (4) إنه قد أخبَر عن الموعود ، والموعود هو قوله : " لهم مغفرة
وأجر عظيم " .
__________
(1) انظر تفسير " الصالحات " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير " الأجر " و " عظيم " فيما سلف من فهارس
اللغة.
(4) " بلى " تكون جوابا للكلام الذي فيه الجحد كقوله : " ألست
بربكم قالوا بلى " . هكذا قالوا ، وقال ابن هشام في المغنى في باب " بلى
" : " ولكن وقع في كتب الحديث أنها يجاب بها الاستفهام المجرد ، ففي
صحيح البخاري في كتاب الإيمان : أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه : أترضون أن
تكونوا ربع أهل الجنة ؟ قالوا : بلى وفي صحيح مسلم في كتاب الهبة : أيسرك أن
يكونوا لك في البر سواء ؟ قال ، بلى! قال ، فلا إذن وفيه أيضا أنه قال ، أنت الذي
لقيتني بمكة ؟ فقال له : بلى " .
فمن أجل ذلك استعمله الطبري في جواب الاستفهام الذي لا جحد فيه ، فكأنه عد سؤال
السائل جحدا لذكره في الآية ، فقال في جوابه " بلى " ، بمعنى : ليس ذلك
كما تزعم ، وانظر ما سلف 2 : 280 ، 510 ، وما سيأتي في الأثر رقم : 11818.
(10/98)
فإن قال : فإن قوله : " لهم مغفرة
وأجر عظيم " خبرٌ مبتدأ ، ولو كان هو الموعود لقيل : " وعد الله الذين
آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرًا عظيمًا ، ولم يدخل في ذلك " لهم " ،
وفي دخول ذلك فيه ، دلالة على ابتداء الكلام ، وانقضاء الخبر عن الوعد!
قيل : إن ذلك وإن كان ظاهره ما ذكرتَ ، فإنه مما اكتُفي بدلالة ما ظهر من الكلام
على ما بطن من معناه من ذكر بعضٍ قد ترك ذكره فيه ، وذلك أن معنى الكلام : وعد
الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يغفر لهم ويأجرهم أجرًا عظيما لأن من شأن
العرب أن يُصْحِبوا " الوعد " " أن " ويعملوه فيها ، فتركت
" أن " إذ كان " الوعد " قولا. ومن شأن " القول "
أن يكون ما بعده من جمل الأخبار مبتدأ ، وذكر بعده جملة الخبر اجتزاءً بدلالة ظاهر
الكلام على معناه ، وصرفا للوعد الموافق للقول في معناه وإن كان للفظه مخالفا إلى
معناه ، (1) فكأنه قيل : " قال الله : للذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة
وأجر عظيم " .
* * *
وكان بعض نحويي البصرة يقول ، إنما قيل : " وعد الله الذين آمنوا وعملوا
الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم " ، في الوعد الذي وُعِدوا (2) فكأن معنى
الكلام على تأويل قائل هذا القول : وعد الله الذي آمنوا وعملوا الصالحات ، لهم
مغفرة وأجر عظيم ، [فيما وعدهم به]. (3)
* * *
__________
(1) السياق : " وصرفا للوعد.. إلى معناه " ، أي : إلى معنى القول.
(2) في المطبوعة : " الوعد الذي وعدوا " بإسقاط " في " ، وهي
في المخطوطة مكتوبة بسن القلم بين " عظيم " و " الوعد " .
(3) اقتصر في هذا الموضع في المطبوعة والمخطوطة على نص الآية ، واستظهرت تمام
الكلام من تفسير القرطبي 6 : 110 ، وقد عقب عليه بقوله : " وهذا المعنى عن
الحسن " ، فلا أدري أأصبت في ذلك ، أم أخطأني التوفيق!
(10/99)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
(10) }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " والذين كفروا " والذين جحدوا
وحدانية الله ، ونقضوا ميثاقه وعقودَه التي عاقدوها إياه " وكذبوا بآياتنا
" يقول : وكذبوا بأدلّة الله وحججه الدالة على وحدانيته التي جاءت بها الرسل
وغيرها " أولئك أصحاب الجحيم " يقول : هؤلاء الذين هذه صفتهم أهل "
الجحيم " ، يعني : أهل النار الذين يخلُدون فيها ولا يخرجون منها أبدًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : (2) " يا أيها الذين آمنوا " يا
أيها الذين أقرُّوا بتوحيد الله ورسالة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من
عند ربهم " اذكروا نعمة الله عليكم " ، اذكروا النعمة التي أنعم الله
بها عليكم ، فاشكروه عليها بالوفاء له بميثاقه الذي واثقكم به ، والعقود التي
عاقدتم نبيكم صلى الله عليه وسلم عليها. ثم وصف نعمته التي أمرهم جل ثناؤه بالشكر
عليها مع سائر نعمه ، فقال ، هي كفُّه عنكم أيدي القوم الذين همُّوا بالبطش بكم ،
فصرفهم عنكم ،
__________
(1) انظر تفسير " الكفر " و " الآيات " و " أصحاب الجحيم
" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) كان في المطبوعة والمخطوطة : " يعنى بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا
أقروا.. " ، فأثبت ما يقتضيه سياق أبي جعفر في سائر تفسيره ، وهو في أغلب
الظن اختصار سيئ من الناسخ.
(10/100)
وحال بينهم وبين ما أرادوه بكم. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذه النعمة التي ذكّر الله جل ثناؤه أصحابَ نبيه صلى
الله عليه وسلم بها ، وأمرهم بالشكر له عليها.
فقال بعضهم : هو استنقاذ الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابَه مما كانت
اليهود من بني النضير همُّوا به يوم أتوهم يستحملونهم دية العامريَّين اللذين
قَتلهما عمرو بن أمية الضمري. (2)
ذكر من قال ذلك :
11557 - حدثنا ابن حميد ، قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر
بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني
النضير ليستعينَهم على دية العامريَّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمري. فلما
جاءهم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا محمدًا أقرب منه الآن ، فَمَن رجلٌ
يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه ؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب :
أنا. (3) فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ ، وانصرف عنهم ، فأنزل الله
عز ذكره فيهم وفيما أرادَ هو وقومه : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله
عليكم إذْ همَّ قومٌ أن يبسطوا إليكم أيديهم " ... الآية. (4)
__________
(1) انظر تفسير " الكف " فيما سلف 8 : 548/9 : 29 وقد مضى " الهم
" غير مشروح أيضا فيما سلف 9 : 199.
(2) " الحمالة " (بفتح الحاء) : الدية والغرامة التي يحملها قوم عن قوم
يكفلون دفعها يقال : " تحمل الحمالة " و " استحمل القوم " ،
طلب إليهم أن يعينوه في " حمالته " ، وهي الدية التي تكفل بها.
(3) " ظهر على البيت " : علاه ، أي ركب ظهره. وكان في المطبوعة : "
فمروا رجلا يظهر " وليس فيها ولا في المخطوطة : " أنا " ، فلذلك
غيرها الناسخ ، لفساد خط الناسخ في هذا الموضع. والصواب من سيرة ابن هشام.
(4) الأثر : 11557 - هو في سيرة ابن هشام 2 : 211 ، 212 ، ثم يأتي فيها بغير هذا
اللفظ 3 : 199 - 200.
(10/101)
11558 - حدثني محمد بن عمرو قال ،
حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله :
" إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم " ، قال : اليهود دخل عليهم النبي
صلى الله عليه وسلم حائطا لهم ، (1) وأصحابه من وراء جداره ، فاستعانهم في مغَرِم
ديةٍ غَرِمها ، ثم قام من عندهم ، فائتمروا بينهم بقتله ، فخرج يمشي القَهقَرى
ينظر إليهم ، ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تَتَامُّوا إليه.
11559 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " اذكروا نعمة الله عليكم إذ هَمَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم
فكفَّ أيديهم عنكم " يهودُ حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطا لهم ،
وأصحابه من وراء جدار لهم ، فاستعانهم في مغرم ، في الدية التي غرمها (2) ثم قام
من عندهم ، فائتمروا بينهم بقتله ، فخرج يمشي معترضا ينظرُ إليهم خِيفتَهم (3) ثم
دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتامُّوا إليه. قال الله جل وعز : " فكف أيديهم
عنكم واتَّقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون " .
11560 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثني أبو معشر ، عن
يزيد بن أبي زياد قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير يستعينهم في
عَقْلٍ أصابه (4) ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال : أعينوني في عَقْلٍ أصابني. فقالوا
: نعم يا أبا القاسم ، قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة! اجلس حتى نطعمَك ونعطَيك
الذي تسألنا! فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) " الحائط " : البستان من النخيل ، قد أحاطوه بجدار.
(2) في المطبوعة : " في مغرم في دية غرمها " كما في الدر المنثور 1 :
266. وفي المخطوطة : " في الدية " بالتعريف فرجحت أنه قد سقط من الكلام
" التي " فأثبتها.
(3) " معترضا " ، أي يأخذ يمنة ويسرة ، يميل بوجهه إليهم ينظر ، ويمشي
هكذا وهكذا ، لا تستقيم مشيته على الطريق.
(4) " العقل " هو : الدية.
(10/102)
وأصحابُه ينتظرونه ، وجاء حُييّ بن أخطب
وهو رأس القوم ، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ، فقال حيي
لأصحابه : لا ترونه أقربَ منه الآن ، اطرحوا عليه حجارة فاقْتُلوه ، ولا ترون
شرًّا أبدًا ! فجاءوا إلى رحًى لهم عظيمة ليطرحوها عليه ، فأمسك الله عنها أيديهم
، حتى جاءه جبريل صلى الله عليه وسلم فأقامه من ثَمَّ ، فأنزل الله جل وعز :
" يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذْ همّ قوم أن يبسطوا إليكم
أيديهم فكفَّ أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون " ، فأخبر
الله عزَّ ذكره نبيّه صلى الله عليه وسلم ما أرادوا به.
11561 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد
الله بن كثير : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن
يبسطوا إليكم أيديهم " الآية ، قال ، يهودُ ، دخلَ عليهم النبي صلى الله عليه
وسلم حائطا ، فاستعانهم في مَغْرَمٍ غرمه ، فائتمروا بينهم بقتله ، فقام من عندهم
فخرج معترِضًا ينظر إليهم خِيفتَهم ، (1) ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتامُّوا
إليه.
11562 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
عكرمة قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الأنصاري أحدَ بني
النجار وهو أحد النُّقباء ليلة العقبة فبعثه في ثلاثين راكبًا من المهاجرين
والأنصار ، فخرجوا ، فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة ، وهي من
مياه بني عامر ، فاقتتلوا ، فقُتل المنذرُ وأصحابُه إلا ثلاثة نَفَرٍ كانوا في طلب
ضَالة لهم ، فلم يرعهم إلا والطيرُ تحُوم في السماء ، يسقط من بين خراطيمها عَلَقُ
الدم. (2) فقال أحد النفر : قُتِل أصحابنا والرحمنِ! ثم تولّى يشتدُّ حتى لقي رجلا
(3) فاختلفا ضربتين ، فلما خالطته الضربة ، رفع رأسه إلى السماء ففتح
__________
(1) " معترضا " أي يأخذ يمنة ويسرة ، يميل بوجهه إليهم ينظر ، ويمشي
هكذا وهكذا ، لا تستقيم مشيته على الطريق.
(2) " العلق " (بفتحتين) : قطع الدم الغليظ الجامد قبل أن ييبس.
(3) " اشتد " : عدا عدوا شديدا.
(10/103)
عينيه ثم قال : الله أكبر ، الجنةُ
وربّ العالمين!! فكان يُدْعى " أعنقَ لِيَمُوت " ، (1) ورجع صاحباه ،
فلقيا رجلين من بني سليم ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما مُوَادعة ،
فانتسبا لهما إلى بني عامر ، فقتلاهما. وقدِم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم
يطلبون الدية ، فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعليُّ وطلحة وعبد الرحمن بن عوف ،
حتى دخلوا إلى كعب بن الأشرف ويهود النضير ، فاستعانهم في عَقْلهما. قال ، فاجتمعت
اليهودُ لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، واعتَلُّوا بصنيعة الطعام ،
(2) فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم بالذي أجمعت عليه يهودُ من الغَدر ، (3) فخرج
ثم دعا عليًّا ، فقال ، لا تبرح مَقامك ، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنِّي فقل
: " وجّه إلى المدينة فأدركوه " . (4) قال : فجعلوا يمرُّون على عليّ ،
فيأمرهم بالذي أمرَه حتى أتى عليه آخرُهم ، ثم تبعهم ، فذلك قوله : ( وَلا تَزَالُ
تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ ) [سورة المائدة : 13].
11563 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن السدي ، عن
أبي مالك في قوله : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم
أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفّ أيديهم عنكم " قال : نزلت في كعب بن الأشرف
وأصحابه ، حين أرادوا أن يغدِروا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون : بل النعمة التي ذكرها الله في هذه الآية ، فأمر المؤمنين من أصحاب
رسول الله صلى اله عليه وسلم بالشُّكر له عليها : أنَّ اليهود كانت هَمَّت بقتل
النبيّ صلى الله عليه وسلم في طعامٍ دعوه إليه ، فأعلم الله عز وجل نبيّه صلى
__________
(1) " أعنق ليموت " و " المعنق ليموت " ، يقال هو "
المنذر بن عمرو الأنصاري " ، ويقال هو " حرام بن ملحان النجاري " .
" أعنق الرجل إعناقا " : سارع وأسرع إسراعًا شديدًا حتى يسبق الناس. سمي
بذلك ، لأنه أسرع إلى مصرعه ، رضي الله عنه.
(2) " الصنيعة " و " الصنيع " : الطعام يصنع ويهيأ للحفاوة
والإكرام.
(3) في المطبوعة : " اجتمعت عليه " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المخطوطة : " وجه المدينة " أسقط " إلى " ، والجيد ما
في المطبوعة.
(10/104)
الله عليه وسلم ما همُّوا به ، فانتهى
هو وأصحابه عن إجابتهم إليه.
ذكر من قال ذلك :
11564 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم
" إلى قوله : " فكف أيديهم عنكم " وذلك أن قوما من اليهود صَنَعوا
لرسول الله وأصحابه طعاما ليقتلوه إذا أتى الطعام ، فأوحى الله إليه بشأنهم ، فلم
يأتِ الطعام ، وأمرَ أصحابه فلم يأتوه. (1)
* * *
وقال آخرون : عنى الله جل ثناؤه بذلك : النعمةَ التي أنعمها على المؤمنين باطلاع
نبيّه صلى الله عليه وسلم على ما همَّ به عدوّه وعدوُّهم من المشركين يوم بَطْن
نَخْلٍ من اغترارهم إياهم ، والإيقاع بهم ، إذا هُم اشتغلوا عنهم بصلاتهم ، فسجدوا
فيها وتعريفِه نبيَّه صلى الله عليه وسلم الِحذَار من عدوّه في صَلاته بتعليمه
إيَّاه صلاة الخوف.
ذكر من قال ذلك :
11565 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
قوله : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسُطوا
إليكم أيديهم " ... الآية ، ذكر لنا أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو ببَطْنِ نخل في الغَزْوة السابعة ، (2) فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن
يفتِكوا
__________
(1) في المطبوعة : " وأمر أصحابه فأبوه " ، و " أبوه " هنا
سقيمة المنزل. وفي المخطوطة : " فأتوه " معجمة. وهو مخالف لما في
الترجمة ، إذ قال ، " فانتهى هو وأصحابه عن إجابتهم إليه " ، فآثرت أن
أثبت نص ما في الدر المنثور 1 : 266 ، فهو المطابق للترجمة. ونقله السيوطي عن ابن
جرير ، وابن أبي حاتم ، من هذه الطريق نفسها.
(2) هكذا قال : " في الغزوة السابعة " ، وهي في كثير من الروايات "
الغزوة التاسعة " ، وهي " غزوة ذي أمر " بنجد ، انظر ابن سعد
2/1/24 ، وإمتاع الأسماع للمقريزي 1 : 110 ، 111. وانظر التعليق على الأثر التالي
، والأثر السالف رقم : 10340 ، والذي جاء في الأخبار أن صلاة الخوف كانت في السنة
السابعة.
(10/105)
به ، فأطلعه الله على ذلك. ذكر لنا أن
رجلا انتدب لقتله ، فأتى نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم وسيفُه موضوع ، فقال :
آخذه ، يا نبي الله ؟ قال : خذه! قال : أستلُّه ؟ قال : نعم! فسلَّه ، فقال ، من
يمنعك منِّي ؟ قال : " الله يمنعُني منك!. فهدّده أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأغلظوا له القول ، فشامَ السَّيف (1) وأمر نبيُّ الله صلى الله عليه
وسلم أصحابَه بالرحيل ، فأنزلت عليه صلاة الخوف عند ذلك. (2)
11566 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
الزهري ، ذكره عن أبي سلمة ، عن جابر : أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نزل منزلا
وتفرَّق الناس في العِضاه يستظِلُّون تحتها ، (3) فعلَّق النبي صلى الله عليه وسلم
سلاحَه بشجرةٍ ، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه فسلَّه ،
ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال ، من يمنعك مني ؟ والنبي صلى الله
عليه وسلم يقول : " الله " ، فشامَ الأعْرابي السيف ، (4) فدعا النبي
صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبرَ الأعرابيّ ، وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه
قال معمر : وكان قتادة يذكر نحو هذا ، وذكر أنَّ قومًا من العرب أرادُوا أن يفتكوا
برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسلوا هذا الأعرابي. وتأوّل : " اذكروا
نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم " ، الآية. (5)
* * *
__________
(1) " شام السيف " : أغمده. وهو من الأضداد ، ويقال أيضا : " شام
السيف " : إذا سله.
(2) الأثر : 11565 - هذا الخبر عن " صلاة الخوف " ، لم يذكره أبو جعفر
في صلاة الخوف فيما سلف 5 : 237 - 250 ، ولا في 9 : 123 - 166.
(3) " العضاه " (بكسر العين) : اسم يقع على ما عظم من شجر الشوك وطال
واشتد شوكه ، فاستظل به الناس.
(4) " شام السيف " : أغمده. وهو من الأضداد ، ويقال أيضا : " شام
السيف " : إذا سله.
(5) الأثر : 11566 - " أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف " مضى مرارا. وكان
في المطبوعة والمخطوطة " ابن أبي سلمة " بزيادة " ابن " ،
والصواب حذفها كما في تفسير ابن كثير 3 : 101.
وهذا الخبر عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن جابر في مسند أحمد 3 : 311 ، عن عبد الله
بن أحمد بن حنبل ، قال : " حدثنا عبد الله قال : وجدت هذا الحديث في كتاب أبي
بخط يده ، وسمعته في موضع آخر : حدثنا أبو اليمان قال ، أخبرني شعيب ، عن الزهري ،
حدثني سنان بن أبي سنان الدؤلي ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن : أن جابر بن عبد الله
الأنصاري " ، وساق الخبر بغير هذا اللفظ مطولا.
ثم رواه أحمد أيضا 3 : 364 ، من طريق عفان بن أبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي
سلمة بن عبد الرحمن ، عن جابر بغير ذاك اللفظ.
وروى أحمد خبر جابر مطولا مفصلا ، من طريق أبي بشر ، عن سليمان بن قيس ، عن جابر
قال : قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة بنخل في المسند 3 : 364 ، 365
ثم : 390.
ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 7 : 329 - 331) ، بأسانيد. ورواه مسلم في صحيحه 15
: 44 ، 45 ، بإسناد الطبري وأحمد.
وانظر أيضا ما رواه أبو جعفر من حديث جابر فيما سلف برقم : 10325.
وقال ابن كثير في تفسيره 3 : 101 ، بعد أن ساق خبر أبي جعفر عن هذا الموضع من
التفسير : " وهذا الأعرابي ، هو غورث بن الحارث ، ثابت في الصحيح " .
(10/106)
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصحة
في تأويل ذلك ، قولُ من قال : عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية ، نعمتَه
على المؤمنين به وبرسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيّهم محمدا صلى الله
عليه وسلم مما كانت يهود بني النضير همت به من قتله وقتل من معه يومَ سار إليهم
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في الدية التي كان تحمَّلها عن قتيلي عمرو بن أمية.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة في تأويل ذلك لأن الله جل ثناؤه عقًّب ذكر ذلك برمي
اليهود بصنائعها وقبيح أفعالها ، وخيانتها ربَّها وأنبياءها. ثم أمر نبيَّه صلى
الله عليه وسلم بالعفو عنهم ، والصفح عن عظيم جهلهم ، فكان معلوما بذلك أنه صلى
الله عليه وسلم لم يؤمر بالعفو عنهم والصفح عَقِيب قوله : " إذ هم قوم أن
يبسطوا إليكم أيديهم " وغيرُهم كان يبسط الأيدي إليهم. (1) لأنه لو كان الذين
همُّوا ببسط الأيدي إليهم غيرَهم لكان حريًّا أن يكون الأمر بالعفو والصفح عنهم ،
لا عمَّن لم يجر لهم بذلك ذكر ولكان الوصف بالخيانة في وصفهم في هذا الموضع ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ومن غيرهم كان يبسط الأيدي إليهم "
بزيادة " من " ، وهو فساد في الكلام شديد ، والصواب حذف " من
" ، كما يدل عليه سياق الكلام. والواو في " وغيرهم " واو الحال.
(10/107)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
لا في وصف من لم يجر لخيانته ذكر ، ففي
ذلك ما ينبئ عن صحة ما قضينا له بالصحة من التأويلات في ذلك ، دون ما خالفه.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) }
(1) قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : واحذرُوا الله ، أيها المؤمنون أن تخالفوه
فيما أمركم ونهاكم ، وأن تنقضوا الميثاق الذي واثقكم به فتستوجبوا منه العقابَ
الذي لا قبل لكم به " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " يقول : وإلى الله
فليُلْقِ أزمَّة أمورهم ، ويستسلم لقضائه ، ويثقْ بنصرته وعونه (2) المقروّن
بوحدانيّة الله ورسالة رسوله ، العاملون بأمره ونهيه ، فإن ذلك من كمال دينهم
وتمامِ إيمانهم وأنّهم إذا فعلوا ذلك كلأهم ورعاهم وحفظهم ممن أرادهم بسوء ، كما
حفظكم ودافع عنكم ، أيها المؤمنون اليهودَ الذين همُّوا بما همُّوا به من بسط
أيديهم إليكم ، كلاءَةً منه لكم ، إذ كنتم من أهل الإيمان به وبرسوله دون غيره ،
(3) فإن غيره لا يطيق دَفْع سوءٍ أراد بكم ربُّكم ولا اجتلابَ نفعٍ لكم لم يقضه
لكم.
* * *
__________
(1) سقط من المخطوطة والمطبوعة صدر بقية الآية ، وهو قوله : " واتقوا الله
" ، فأثبتها.
(2) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف 8 : 566 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(3) قوله : " دون غيره " ، أي : كما حفظكم ودافع عنكم دون غيره.
(10/108)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ
عَشَرَ نَقِيبًا }
قال أبو جعفر : وهذه الآية أنزلتْ إعلامًا من الله جلّ ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه
وسلم والمؤمنين به ، أخلاقَ الذين همُّوا ببسط أيديهم إليهم من اليهود. كالذي : -
11567 - حدثنا الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك ، عن الحسن
في قوله : " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل " قال : اليهود من أهل
الكتاب.
* * *
(1) وأن الذي هموا به من الغدر ونقض العهد الذي بينهم وبينه ، من صفاتهم وصفات
أوائلهم وأخلاقِهم وأخلاقِ أسلافهم قديما (2) واحتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم
على اليهود ، بإطلاعه إيَّاه على ما كان علمه عندَهم دون العرب من خفيّ أمورهم
ومكنون علومهم وتوبيخا لليهود في تمادِيهم في الغيّ ، وإصرارهم على الكفر ، مع
علمهم بخطأ ما هم عليه مقيمون.
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا تستعظموا أمرَ الذين همُّوا ببسط أيديهم
إليكم من هؤلاء اليهود بما همُّوا به لكم ، ولا أمرَ الغدر الذي حاولوه وأرادوه
بكم ، فإن ذلك من أخلاق أوائلهم وأسْلافهم ، لا يَعْدُون أن يكونوا على منهاج
أوَّلهم وطريق سَلَفِهم. ثم ابتدأ الخبر عز ذكره عن بعضِ غَدَراتهم وخياناتهم
وجراءَتهم على ربهم ونقضهم ميثاقَهم الذي واثقَهم عليه بَارِئُهم ، (3) مع نعمه
التي خصَّهم بها ،
__________
(1) قوله : " وأن الذي هموا به.. " معطوف على قوله : " إعلاما منه
نبيه.. أخلاق الذين هموا... وأن الذي هموا به.. " ، هذا سياق الجملة.
(2) قوله " واحتجاجا.. " ، معطوف على قوله آنفا : " وهذه الآية
أنزلت إعلاما.. " .
(3) في المطبوعة : " الذي واثقتهم عليه بأدائهم " ، لم يحسن قراءة
المخطوطة إذ كانت غير معجمة ، فحرفها تحريفا أفضى إلى هلاك العبارة كلها.
(10/109)
وكراماته التي طوّقهم شكرها ، فقال ،
ولقد أخذ الله ميثاق سَلَف من همّ ببسط يده إليكم من يهود بني إسرائيل ، يا معشر
المؤمنين بالوفاء له بعهوده وطاعته فيما أمرهم ونهاهم ، (1) كما : -
11568 - حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم العسقلاني قال ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن
الربيع ، عن أبي العالية في قوله : " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل "
قال : أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له ، ولا يعبدُوا غيره.
* * *
" وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " يعني بذلك : وبعثنا منهم اثنى عشر كفيلا
كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم
عنه.
و " النقيب " في كلام العرب ، كالعَرِيف على القوم ، غير أنه فوق "
العريف " . يقال منه : " نَقَب فلان على بني فلان فهو ينقُبُ نَقْبًا
(2) فإذا أريد أنه لم يكن نقيبا فصار نقيبا ، قيل : " قد نَقُبَ فهو ينقُب
نَقَابة " ومن " العريف " : " عَرُف عليهم يَعْرُف عِرَافَةً
" . فأما " المناكب " فإنهم كالأعوان يكونون مع العُرفاء ، واحدهم
" مَنْكِب " .
وكان بعض أهل العلم بالعربية يقول : هو الأمين الضامن على القوم. (3)
* * *
فأما أهل التأويل فإنهم قد اختلفوا بينهم في تأويله.
__________
(1) انظر تفسير " أخذ الميثاق " فيما سلف ص : 91 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(2) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة : " نقبا " ، وهذا مصدر غريب جدا ،
ولم تذكره العربية ، وهو جائز على ضعف شديد ، وأنا أخشى أن يكون ذلك خطأ من النساخ
، وأن الصواب هو الذي أجمعت عليه كتب اللغة " نقابة " (بكسر النون) في
مصدر هذا الفعل. أما مصدر الفعل الذي يليه فهو بفتح النون. وقال سيبويه : "
النقابة بالكسر الاسم ، وبالفتح المصدر ، مثل الولاية والولاية " .
(3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 156.
(10/110)
فقال بعضهم : هو الشاهد على قومه.
ذكر من قال ذلك :
11569 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : "
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " ، من كل سِبْط
رجل شاهد على قومه.
* * *
وقال آخرون : " النقيب " ، الأمين.
ذكر من قال ذلك :
11570 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع
قال : " النقباء " الأمناء.
11571 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع ، مثله.
* * *
وإنما كان الله عز ذكره أمر موسى نبيّه صلى الله عليه وسلم ببعثة النقباء الاثنى
عشر من قومه بني إسرائيل إلى أرض الجبابرة بالشأم ، ليتحسَّسوا لموسى أخبارَهم (1)
إذْ أراد هلاكهم ، وأن يورِّث أرضَهم وديارَهم موسى وقومَه ، وأن يجعلها مساكن
لبني إسرائيل بعد ما أنجاهم من فرعون وقومه ، وأخرجهم من أرض مصر ، فبعث مُوسى
الذين أمَره الله ببعثهم إليها من النقباء ، كما :
11572 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : أمر الله بني إسرائيل بالسير إلى أرْيَحَا ، وهى أرض بيت المقدس ،
فساروا حتى إذا كانوا قريبا منهم بعث موسى اثنى عشر نقيبا من جميع أسباط بني
إسرائيل. فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبابرة ، فلقيهم رجل
__________
(1) في المطبوعة : " ليتجسسوا " بالجيم ، و " التحسس " بالحاء
: تطلب الخبر وتبحثه. وفي التنزيل : " يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه
" .
(10/111)
من الجبَّارين يقال له " عاج
" ، فأخذ الاثنى عشر ، فجعلهم في حُجْزَته (1) وعلى رأسه حَمْلَةُ حطب. (2)
فانطلق بهم إلى امرأته فقال : انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن
يقاتلونا!! فطرَحَهم بين يديها ، فقال ، ألا أطْحَنُهم برجلي! فقالت امرأته : بل
خلّ عنهم حتى يخبروا قومَهم بما رأوا. ففعل ذلك. فلما خرج القومُ ، قال بعضهم لبعض
: يا قوم إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبرَ القوم ، ارتدُّوا عن نبيِّ الله عليه
السلام ، ولكن اكتموه وأخبروا نَبِيَّ الله ، فيكونان هما يَرَيان رأيهما! (3)
فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ليكتموه ، ثم رجعوا فانطلق عشرة منهم فنكثوا
العهدَ ، فجعل الرجل يخبر أخاه وأباه بما رأى من [أمر] " عاج " (4) وكتم
رجلان منهم ، فأتوا موسى وهارون ، فأخبروهما الخبرَ ، فذلك حين يقول الله (5)
" ولقد أخذ الله ميثاقَ بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " . (6)
11573 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " اثنى عشر نقيبا " من كل سبط من بني
إسرائيل رجل ، أرسلهم موسى إلى الجبارين ، فوجدوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان منهم
يُلقونهم إلقاءً (7) ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس
__________
(1) " الحجزة " (بضم فسكون) : موضع شد الإزار. وسبحان الله!! كيف كان يبالغ
هؤلاء الرواة من أصحاب الإسرائيليات!!
(2) في المطبوعة : " حزمة حطب " ، لم يحسن قراءة المخطوطة مع وضوحها.
وأثبتها لما طابقت المخطوطة تاريخ الطبري. وما سيأتي برقم : 11656.
و " الحملة " (بفتح الحاء) : هي مقدار ما يحمله الحامل ، كما يقال :
" قبضة " ، لمقدار ما تقبض عليه الكف. وهذا حرف لم أجد النص عليه في
كتاب.
(3) " نبي الله " ، يعني موسى وهرون عليهما السلام. وكان في المطبوعة :
" فيما يريان " ، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(4) هذه الزيادة بين القوسين ، من تاريخ الطبري.
(5) انظر ما كتبته في ص : 92 ، تعليق : 1 ، في أمر " حيث " و " حين
" .
(6) الأثر : 11572 - هو من بقية الأثر الذي رواه أبو جعفر قديما برقم : 991 ، وهو
في تاريخ الطبري 1 : 221 ، 22. وسيأتي صدره برقم : 11656.
(7) في المخطوطة : " يلفونهم الفا " غير واضحة ولا منقوطة ، وفي
المطبوعة هنا " يلفونهم لفا " ، وسيأتي برقم : 11660 ، كما أثبتها ، في
المخطوطة والمطبوعة معا. وانظر الأثر التالي : 11574 ، والتعليق عليه.
(10/112)
منهم في خشبة (1) ويدخل في شطر الرمانة
إذا نزع حبُّها خمسة أنفس أو أربع. فرجع النقباء كلٌّ منهم يَنْهى سِبْطه عن
قتالهم إلا يوشع بن نون وكلاب بن يافنة ، (2) يأمران الأسباط بقتال الجبابرة
وبجهادهم ، فعصوا هذين وأطاعُوا الآخرين.
11574 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد بنحوه إلا أنه قال : من بني إسرائيل رجالٌ وقال أيضا : يلقونهما. (3)
11575 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : أمر موسى أن يسير
ببني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة ، وقال : إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا
فاخرج إليها ، وجاهد من فيها من العدوّ ، فإني ناصركم عليهم ، وخُذ من قومك اثنى
عشر نقيبًا من كل سبط نقيبا يكون على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به ، وقل لهم
: إن الله يقول لكم : ( إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ
الزَّكَاةَ )... إلى قوله : ( فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) وأخذ موسى منهم
اثنى عشر نقيبا اختارهم من الأسباط كفلاء على قومهم بما هم فيه ، على الوفاء بعهده
وميثاقه. وأخذ من كل سبط منهم خيرَهم وأوفاهم رجلا. يقول الله عز وجل : "
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا " فسار بهم
موسى إلى الأرض المقدّسة بأمر الله ، حتى إذا نزل التيه بين مصر والشام وهي بلاد
ليس فيها خَمَرٌ
__________
(1) في المخطوطة : " خمسة أنفاس بينهم في خشبة " ، وفي المطبوعة :
" خمسة أنفس بينهم في خشبة " ، وأثبت ما في تفسير البغوي (هامش ابن كثير
3 : 104) ، فهو أقرب إلى هذا السياق. وانظر ما سيأتي ، الأثر رقم : 11573.
(2) في المطبوعة : " وكالب بن يوفنا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو
فيها هنا " " غير منقوطة ، ولكنه سيأتي في المخطوطة ، في رقم : 11666 ،
كما أثبته هنا. وانظر ما مضى 5 : 272. وفي التاريخ 1 : 222 : " كالوب بن
يوفنة ، وقيل : كلاب بن يوفنة ختن موسى " . وسيأتي بعض هذا الأثر مختصرا برقم
: 11660.
(3) في المطبوعة : " يلففونها " ، مع أنها في المخطوطة كما أثبتها واضحة
منقوطة ، وانظر التعليق على الأثر السالف ص : 112 ، تعليق : 7 ، وانظر الأثر
التالي : 11660.
(10/113)
ولا ظلّ (1) دعا موسى ربه حين آذاهم
الحرّ ، فظلَّل عليهم بالغمام ، ودعا لهم بالرزق ، فأنزل الله عليهم المنَّ
والسلوى. (2) وأمر الله موسى فقال : أَرْسل رجالا يتحسسّون إلى أرض كنعان التي
وهبت لبني إسرائيل (3) من كل سبط رجلا. فأرسل موسى الرءوس كلهم الذين فيهم ، [فبعث
الله جل وعزّ من برّية فاران بكلام الله ، وهم روءس بني إسرائيل]. (4) وهذه أسماء
الرَّهط الذين بعث الله جل ثناؤه من بني إسرائيل إلى أرض الشام ، فيما يذكر أهل
التوراة ليجوسوها لبني إسرائيل (5) من سبط روبيل : " شامون بن زكوّن "
(6) ومن سبط شمعون : " شافاط بن حُرّي " (7) ومن سبط يهوذا : "
كالب بن يوفنّا (8) ومن سبط أتين : " يجائل بن يوسف " (9) ومن سبط يوسف
: وهو سبط أفرائيم : " يوشع بن نون " (10) ومن سبط بنيامين " فلط
بن رفون " (11) ومن سبط زبالون : " جدي بن سودي (12) ومن سبط منشا بن
يوسف : " جدي بن سوسا (13) ومن سبط دان : " حملائل بن جمل " (14)
ومن سبط أشر : ساتور بن ملكيل " (15) ومن سبط نفتالي : " نحى بن وفسي
" (16) ومن سبط جاد : " جولايل بن ميكي " . (17)
فهذه أسماء الذين بعثهم موسى يتحسّسون له الأرض (18) ويومئذ سمى " هوشع بن
نون " : " يوشع بن نون " (19) فأرسلهم وقال لهم : ارتفعوا قِبَل
الشمس ، فارقوا الجبل ، وانظروا ما في الأرض ، وما الشعب الذي يسكنون ، أقوياء هم
أم ضعفاء ، أقليل هم أم كثير ؟ وانظروا أرضهم التي يسكنون : أسمينة هي [أم هزيلة]
؟ أذات شجر أم لا ؟ اجتازوا ، واحملوا إلينا من ثمرة تلك الأرض. وكان ذلك في أول
ما أشجن بكر ثمرة العنب. (20)
__________
(1) في المطبوعة : " شجر ولا ظل " ، وفي المخطوطة : " حعر " ،
والصواب ما أثبته ، كما مضى في الأثر : 992 ، و " الخمر " (بفتحتين) :
كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره.
(2) إلى هذا الموضع مضى قديما في الأثر رقم : 992.
(3) في المخطوطة : " وهب " ، والصواب ما في المطبوعة. وفي المطبوعة :
" يتجسسون " بالجيم ، وانظر ص : 111 ، تعليق : 1.
(4) هذه الجملة التي بين القوسين ، من المخطوطة ، وحذفها ناشر المطبوعة. وهي عبارة
غير مفهومة ، ولم أستطع أن أهتدي إلى صوابها ، ولا استطعت أن أصل الكلام بعضه
ببعض. والذي في كتاب القوم ، في العهد القديم ، في سفر العدد ، في الإصحاح الثالث
عشر : " فأرسلهم موسى من برية فاران حسب قول الرب " . وكل وجه من
التصحيف ، أو التحريف ، أو النقص في العبارة ، أردت أن أحمل عليه هذه الجملة ، حتى
تستقيم ، خرج معي وجها ضعيف التركيب ، فتركت ذلك لمن يحسن أن يقيمه ، أو لمن يهتدي
إلى صوابه من مرجع آخر ، غير المراجع التي بين يدي.
(5) هذه الأسماء مذكورة في كتاب القوم ، في سفر العدد ، في الإصحاح الثالث عشر.
ونقلها عن هذا الموضع من الطبري ، ابن كثير في تفسيره 3 : 103. وذكرها ابن حبيب في
" المحبر " ص : 464 ، ونقلها عنه القرطبي في تفسيره 6 : 113 ، فسأذكر
بعد ، ما اختلف فيه من الأسماء ، عن هذه المراجع ، ونصها في كتاب القوم.
(6) في كتاب القوم : " من سبط رَأو بين : شمع بن زكُّور " ، كما في
المحبر. وفي المطبوعة وابن كثير " بن ركون " ، وفي القرطبي " ركوب
" . وفي المخطوطة ، تقرأ كما كتبتها.
(7) في كتاب القوم : " .. بن حوري " . وفي المحبر : " شرفوط بن
حوري " ، وفي القرطبي : " شوقوط بن حوري " .
(8) في كتاب القوم : " .. بن يُفَنّة " ، وفي المحبر : " كولب..
" ، وفي القرطبي : " يوقنا " .
(9) في كتاب القوم : " ومن سبط يسَّاكرَ : يجال بن يوسف " ، وكان في
المطبوعة هنا " ومن سبط كاذ : ميخائيل بن يوسف " ، ولا أدري من أين جاء
به ناشر المطبوعة. وفي ابن كثير : " ومن سبط أتين : ميخائيل بن يوسف " ،
ولم أجد في الأسباط " أتين " ، ولكن هكذا كتب في مخطوطة التفسير كما
كتبته غير منقوط ، وفيها أيضا " محامل " غير منقوطة ، والذي أثبته هو
صواب قراءتها. أما في المحبر فهو : " ومن سبط إساخر : يغوول بن يوسف " ،
وفي القرطبي : " ومن سبط الساحر : يوغول بن يوسف " . وهذا السبط ، ذكره
الطبري عن محمد بن إسحق فيما سلف رقم : 2107 : " يشجر " ، وهو "
يساكر " ، فالذي لا شك فيه أن " أبين " التي في مخطوطة التفسير ،
هي " يشجر " ، أو " أشجر " ، ولكني تركتها كما هي في
المخطوطة.
(10) في كتاب القوم : " من سبط أفرايم : هو شع بن نون " ، ولكن كتب في
مخطوطة التفسير " يوشع " هنا ، وكان الأجود أن يكتب هنا " هوشع
" ، لأنه سيأتي في آخر الخبر أنه يومئذ سمى " هوشع " ، " يوشع
" .
(11) في كتاب القوم : " من سبط بنيامين فَلطي بن رافو " وفي المخطوطة :
" بن دفون " ، وفي المطبوعة : " بن ذنون " ، وفي ابن كثير :
" فلطم بن دفون " ، وفي المحبر : " يلطى بن ردفوا " ، وفي
القرطبي : " يلظى بن روقو " .
(12) في كتاب القوم : " من سبط زبولون : جَدّ يئيل بن سودى " ، وفي
المخطوطة " جدي بن سوشي " ، ولكن ابن كثير نقله في تفسيره عن الطبري :
" جدي بن شورى " ، فتبين أن " سوشي " تحريف " سودي
" . وكان في المطبوعة " كرابيل بن سودي " ، وفي المحبر "
كداييل بن شوذي " ، وفي القرطبي : " كرابيل بن سورا " .
(13) في كتاب القوم : " من سبط يوسف ، من سبط منسي : جدّي بن سوسي " ،
وفي ابن كثير : " بن موسى " ، خطأ. وفي المحبر : " كدي بن سوسي
" ، وفي القرطبي والمطبوعة : " سوشا " .
(14) في كتاب القوم : " .. عميئيل بن جملّى " وفي ابن كثير : "
خملائيل بن حمل " ، وفي المحبر : " عماييل بن كملى " ، وفي القرطبي
: " عمائيل بن كسل " .
(15) في كتاب القوم : " من سبط أشير : ستور بن ميخائيل " ، وفي المطبوعة
: " أشار : سابور " ، فأثبت ما في المخطوطة ، وهي غير منقوطة. وفي ابن
كثير : " أشار : ساطور بن ملكيل " . وفي المحبر " ومن سبط أوشير :
شتور بن ميخائيل " ، " شير : ستور " .
(16) في كتاب القوم " من سبط نفتالي : نحيى بن وفسى " ، وفي المطبوعة :
" محر بن وقسى " ، وفي المخطوطة : " ومن سبط ثفثا أبي بحر بن وفسى
" ، وصواب قراءتها ما أثبت. وفي ابن كثير : " بحر بن وقسي " . وفي
المحبر : " يحيى بن وقسي : وفي القرطبي : " يوحنا بن وقوشا " .
(17) في كتاب القوم : " من سبط جاد : جأوئيل بن ماكي " وفي المخطوطة :
" ومن سبط دار : جولائل بن منكد " ، وفي المطبوعة : " ومن سبط
يساخر : حولايل بن منكد " ، وفي تفسير ابن كثير : " ومن سبط يساخر :
لايل بن مكيد " وفي المحبر : " ومن سبط جاذ : كوآءل بن موخى " .
وفي القرطبي : " ومن سبط كاذ : كوال بن موخى " . فأثتب " جاد
" مكان " دار " في المخطوطة ، من أسماء الأسباط في رواية ابن إسحق
فيما سلف في الأثر رقم : 2107. وقرأت " منكد " " ميكي " ،
لأنها أقرب إلى " ماكي " و " موخي " .
هذا ، وقد نقل ابن كثير في تفسيره 3 : 103 أسماء هؤلاء النقباء ، وقال : "
وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة ، تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل ،
وأسماء مخالفة لما ذكره ابن إسحق ، والله أعلم " . ولكن اتضح من المراجعة أن
الذي ذكره ابن إسحق ، هو الموجود في النسخة التي بين أيدينا من التوراة. أما الذي
نقله ابن كثير فهو مخالف كل المخالفة لما في رواية ابن إسحق ، ولما جاء في كتاب
القوم. فلا ريب أن التوراة التي كانت في يد ابن كثير ، هي غير التي في أيدينا من
كتاب القوم.
(18) في المطبوعة : " يتجسسون " بالجيم ، وانظر ما سلف ص : 111 ، تعليق
: 1 ، و ص : 114 ، تعليق : 3.
(19) في المطبوعة والمخطوطة في هذا الاسم الأول " يوشع " ، ولكن
المخطوطة غير متقوطة ، والصواب أن تكون " هوشع " كما أثبتها. انظر ص :
115 ، تعليق : 2.
(20) في المطبوعة : " .. أشمسة هي أم ذات شجر ، واحملوا إلينا من ثمرة تلك
الأرض " ، رأى ما في المخطوطة لا يقرأ ، فحذفه. وكان في المخطوطة : "
أسمسه هي أم ذات شجر أم لا احباروا واحملوا إلينا.. " . ورأيت أن أقرأها كذلك
، استظهارا مما جاء في كتاب القوم ، في سفر العدد ، في الإصحاح الثالث عشر :
" وكيف هي الأرض : أسمينة أم هزيلة ؟ أفيها شجر أم لا ؟ وتشددوا فخذوا من ثمر
الأرض " .
يقال ، " أرض سمينة " ؛ جيدة الترب ، قليلة الحجارة ، قوية على ترشيح
النبت. ويقال ، " أرض مهزولة " ، رقيقة. و " المهازل " :
الجدوب ، فلذلك آثرت وضع " هزيلة " كما جاءت في كتاب القوم بهذا المعنى
، وإن أغفلتها كتب اللغة ، أو أغفلت النص عليها.
وكان في المطبوعة : " وكان في أول ما سمى لهم من ذلك ثمرة العنب " ، وهو
تصرف رديء مستهجن. فإن الذي في المخطوطة هو : " وكان ذلك في أول ما سمى بكر
ثمرة العنب " لم يحسن قراءة " سمن " ، فتصرف بلا ورع. والذي في
كتاب القوم ما نصه : " وأما الأيام فكانت أيام باكورات العنب " .
فاستظهرت منها صواب ما في المخطوطة ، وقرأت : " أول ما سمن " : "
أول ما أشجن بكر ثمرة العنب " .
و " الشجنة " (بكسر فسكون) : الشعبة من عنقود العنب تدرك كلها. يقال
منها " أشجن الكرم " ، أدركت عناقيده وطابت.
وقوله " بكر العنب " ، فإن " بكر كل شيء " ، أوله. وهو صحيح
في العربية ، وإن كانوا قد خصوا الثمار التي أدركت في أول إدراكها بقولهم : "
باكورة الثمرة " .
(10/114)
11576 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني
أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "
وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا " فهم من بني إسرائيل ، بعَثهم موسى لينظُروا له
إلى المدينة. فانطلقوا فنظروا إلى المدينة ، فجاءوا بحبّة من فاكهتهم وِقْرَ رجلٍ
، (1) فقالوا :
__________
(1) " الوقر " (بكسر الواو وسكون القاف) : الحمل. وفي حديث عمر بن
الخطاب والمجوس : " فألقوا وقر بغل أو بغلين " ، أي : حمل بغل أو بغلين.
(10/117)
اقدُروا قوة قوم وبأسهم هذه فاكهتهم!
فعند ذلك فُتِنوا فقالوا : لا نستطيع القتال ، ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ
فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) [سورة المائدة : 24].
11577 - حدثت عن الحسين بن الفرج المروزي قال : سمعت أبا مُعاذ الفضلَ بن خالد
يقول في قوله : " وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا " أمر الله بني إسرائيل
أن يسيروا إلى الأرض المقدّسة مع نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم ، فلما كانوا
قريبًا من المدينة قال لهم موسى : ادخلوها ! فأبوا وجَبُنوا ، وبعثُوا اثنى عشر
نقيبًا لينظروا إليهم ، فانطلقوا فنظروا ، فجاءوا بحبة من فاكهتهم بوِقْرِ الرجل ،
فقالوا : اقدورا قوة قوم وبأسهم ، (1) هذه فاكهتهم!! فعند ذلك قالوا لموسى :
(اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ).
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ
أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وقال الله لبني إسرائيل : " إني معكم
" ، يقول : إني ناصركم على عدوّكم وعدوِّي الذين أمرتكم بقتالهم ، (2) إن
قاتلتموهم ووفيتم بعهدي وميثاقي الذي أخذته عليكم.
* * *
وفي الكلام محذوف ، استغنى بما ظهر من الكلام عما حذف منه. وذلك أن معنى الكلام :
وقال الله لَهُم إني معكم فترك ذكر " لهم " ، استغناء بقوله : "
ولقد أخذ الله ميثاقَ بني إسرائيل " ، إذ كان مُتقدّم الخبر عن قوم مسمَّين
بأعيانهم ، فكان معلومًا أن ما في سياق الكلام من الخبر عنهم ، (3) إذ لم يكن
الكلام مصروفًا عنهم إلى غيرهم.
* * *
ثم ابتدأ ربُّنا جل ثناؤه القسمَ فقال : قسمًا لئن أقمتم ، معشر بني إسرائيل ،
الصلاة " وآتيتم الزكاة " ، أي : أعطيتموها من أمرتكم بإعطائها (4)
" وآمنتم برسلي " يقول : وصدّقتم بما آتاكم به رسلي من شرائع ديني.
__________
(1) في المطبوعة في الموضعين : " قدروا " ، والجيد من المخطوطة.
(2) انظر تفسير " مع " فيما سلف 3 : 213 - 214/5 : 353.
(3) في المطبوعة : " كان معلوما " ، والسياق يقتضي " فكان "
بالفاء.
(4) انظر فهارس اللغة فيما سلف في تفسير " إقامة الصلاة " ، و "
إيتاء الزكاة " .
(10/118)
وكان الربيع بن أنس يقول : هذا خطاب من
الله للنقباء الاثنى عشر.
11578 - حدثت عن عمار بن الحسن قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع بن أنس : أنّ موسى صلى الله عليه وسلم قال للنقباء الاثنى عشر : سيروا
إليهم يعني : إلى الجبارين فحدثوني حديثهم ، وما أمْرهم ، ولا تخافوا إن الله معكم
ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزّرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنًا.
* * *
قال أبو جعفر : وليس الذي قاله الربيع في ذلك ببعيد من الصواب ، غيرَ أن من قضاءِ
الله في جميع خلقه أنه ناصرٌ من أطاعه ، ووليّ من اتّبع أمره وتجنّب معصيتَه
وتحامَى ذنوبه. (1) فإذ كان ذلك كذلك ، وكان من طاعته إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ،
والإيمان بالرسل ، وسائر ما ندب القوم إليه كان معلوما أن تكفير السيئات بذلك
وإدخال الجنات به. لم يخصص به النقباء دون سائر بني إسرائيل غيرهم. فكان ذلك بأن
يكون ندبًا للقوم جميعا ، وحضًّا لهم على ما حضَّهم عليه ، أحق وأولى من أن يكون
ندبًا لبعضٍ وحضًّا لخاصّ دون عامّ.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " وعزرتموهم " .
فقال بعضهم : تأويل ذلك : ونصرتموهم.
ذكر من قال ذلك :
11579 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " وعزرتموهم " قال : نصرتموهم.
__________
(1) في المطبوعة : " وجافى ذنوبه " ، وفي المخطوطة : " وعامى ذنوبه
" فرأيت أن أقرأها " تحامى " ، فهي عندي أجود وأبين في معنى اتقاء
الذنوب والتباعد عنها.
(10/119)
11580 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو
حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
11581 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " وعزرتموهم " قال : نصرتموهم بالسيف.
* * *
وقال آخرون : هو الطاعة والنصرة.
ذكر من قال ذلك :
11582 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول في
قوله : " وعزرتموهم " قال : " التعزيز " و " التوقير
" ، الطاعة والنصرة.
* * *
واختلف أهل العربية في تأويله.
فذكر عن يونس [الحرمري] أنه كان يقول (1) تأويل ذلك : أثنيتم عليهم.
11583 - حدثت بذلك عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عنه (2) .
* * *
وكان أبو عبيدة يقول : معنى ذلك نصرتموهم وأعنتموهم ووقّرتموهم وعظمتوهم
وأيَّدتموهم ، وأنشد في ذلك : (3)
وَكَمْ مِنْ مَاجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ... وَمِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ في النَّدِيِّ (4)
__________
(1) قوله : " يونس [الحرمري] " ، هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة ، وهو
مشكل ، فإنه إما أن يكون نسبة نسب إليها ، ونسبة " يونس بن حبيب " ، هي
" النحوي " ونسبته في ولائه " الضبي " ، وهو مولى " بلال
بن هرمي من بني ضبيعة بن بجالة " (النقائص : 323) ، ولا أظنه محرفا عن شيء من
ذلك وإما أن يكون نسبة إلى مكان ، ويونس من أهل جبل (بفتح الجيم وتشديد الباء
مضمومة) (انظر طبقات النحويين للزبيدي : 48). وليس تحريفا لهذا أيضا. ولعل باحثًا
يهتدي إلى صوابه ، فتركته كما هو. هذا مع أن أبا عبيدة في مجاز القرآن ، لم يذكر
غير اسمه ، والطبري يروي هذا عن أبي عبيدة.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 157.
(3) لم أعرف قائله.
(4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 157. و " الندى " : مجلس القوم ، ما
داموا مجتمعين فيه ، فإذا تفرقوا عنه فليس بندي. ومثله " النادي " .
ومن العجب العاجب شرح من شرح هذا البيت فقال! " واللهم ، بكسر اللام وسكون
الهاء ، الثور المسن.. ولعل الكلمة محرفة عن كلمة شهم " . وهذا خلط لا يعلى
عليه ، فتجنب مثله.
(10/120)
وكان الفراء يقول : " العَزْر
" الردُّ " عَزَرته " ، رددته : إذا رأيته يظلم فقلت : " اتق
الله " أو نهيته ، فذلك " العزر " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب ، قول من قال : " معنى
ذلك : نصرتموهم " . وذلك أن الله جل ثناؤه قال في " سورة الفتح " :
( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) [سورة الفتح : 8 ، 9] فـ "
التوقير " هو التعظيم. وإذْ كان ذلك كذلك كان القول في ذلك إنما هو بعضُ ما
ذكرنا من الأقوال التي حكيناها عمن حكينا عنه. وإذا فسد أن يكون معناه : التعظيم
وكان النصر قد يكون باليد واللسان ، فأما باليد فالذبُّ بها عنه بالسيف وغيِره ،
وأما باللسان فحُسْن الثناء ، والذبّ عن العرض صحَّ أنه النصر ، إذ كان النصر يحوي
معنى كلِّ قائلٍ قال فيه قولا مما حكينا عنه.
* * *
وأما قوله : " وأقرضتم الله قرضا حسنًا " فإنه يقول : وأنفقتم في سبيل
الله ، وذلك في جهاد عدوه وعدوكم " قرضا حسنًا " يقول : وأنفقتم ما
أنفقتم في سبيله ، فأصبتم الحق في إنفاقكم ما أنفقتم في ذلك ، ولم تتعدوا فيه
حدودَ الله وما ندبكم إليه وحثَّكم عليه إلى غيره. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل : وكيف قال : " وأقرضتم الله قرضا حسنا " ولم يقل :
" إقراضا حسنًا " ، وقد علمت أن مصدر " أقرضت " "
الإقراض " ؟
قيل : لو قيل ذلك كان صوابا ، ولكن قوله : " قرضًا حسنًا " أخرج
__________
(1) انظر تفسير " القرض " ، و " القرض الحسن " فيما سلف 5 :
282 ، 283 ، وقوله : " إلى غيره " متعلق بقوله " ولم تتعدوا فيه...
" .
(10/121)
مصدرًا من معناه لا من لفظه. وذلك أن
في قوله : " أقرض " معنى " قرض " ، كما في معنى " أعطى
" " أخذ " . فكان معنى الكلام : وقَرَضْتم الله قرضًا حسنًا ،
ونظير ذلك : ( وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا ) [سورة نوح : 17]إذ
كان في " أنبتكم " معنى : " فنبتم " ، وكما قال امرؤالقيس :
وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةً أيَّ إِذْلالِ (1)
إذ كان في " رضت " معنى " أذللت " ، فخرج " الإذلال
" مصدرا من معناه لا من لفظه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك بني إسرائيل ، يقول لهم جل ثناؤه : لئن أقمتم
الصلاة ، أيها القوم الذين أعطوني ميثاقَهم بالوفاء بطاعتي واتباع أمري ، وآتيتم
الزكاة ، وفعلتم سائرَ ما وعدتكم عليه جنّتي " لأكفرن عنكم سيئاتكم " ،
__________
(1) ديوانه : 141 ، وغيره ، وقبل البيت ، يقول لصاحبته بعد ما سما إليها سمو حباب
الماء : حَلَفْتُ لَهَا بِاللهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ ... لَنَامُوا ، فَمَا إنْ من
حَدِيثٍ ولا صَالِي
فَلَمَّا تَنَازَعْنَا الْحَدِيثَ وأَسْمَحَتْ ، ... هَصَرَتْ بُغِصْنٍ ذِي
شَمَارِيخَ مَيَّالِ
وَصِرْنَا إِلَى الحُسْنَى ، وَرَقَّ كَلامُنَا ... ورُضْتُ ، فَذَلَّتْ صَعْبَةً
أيَّ إِذْلالِ!!
و " راض الدابة أو غيرها يروضها " : وطأها وذللها وعلمها السير.
(2) انظر ما سلف 5 : 533 ، 534. هذا وقد سلف في 5 : 282 ، 283 ، " يقرض الله
قرضا حسنا " ، فلم يستوف الكلام هناك. وهذا باب من أبواب اختصار أبي جعفر
تفسيره.
(10/122)
يقول : لأغطين بعفوي عنكم - وصفحي عن
عقوبتكم ، على سالف أجرامكم التي أجرمتموها فيما بيني وبينكم (1) - على ذنوبكم
التي سلفت منكم من عبادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم (2)
" ولأدخلنكم " مع تغطيتي على ذلك منكم بفضلي يوم القيامة " جنات
تجري من تحتها الأنهار " .
* * *
فـ " الجنات " البساتين. (3)
* * *
وإنما قلت معنى قوله : " لأكفرّن " لأغطين ، لأن " الكفر "
معناه الجحود ، والتغطية ، والستر ، كما قال لبيد :
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا (4)
يعني : " غطاها " ، فـ " التكفير " " التفعيل " من
" الكَفْر " .
* * *
واختلف أهل العربية في معنى " اللام " التي في قوله : " لأكفرن
" .
فقال بعض نحويي البصرة : " اللام " الأولى على معنى القسم يعني "
اللام " التي في قوله : " لئن أقمتم الصلاة " قال : والثانية معنى
قسمٍ آخر.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة : بل " اللام " الأولى وقعت موقع اليمين ، فاكتفى
بها عن اليمين يعني بـ " اللام الأولى " : " لئن أقمتم الصلاة
" . قال ، و " اللام " الثانية يعني قوله : " لأكفرنّ عنكم
سيئاتكم " جواب لها ، يعني " اللام " التي في قوله : " لئن
أقمتم الصلاة " واعتلّ لقيله ذلك بأن قوله : " لئن أقمتم الصلاة "
__________
(1) سياق الجملة : " لأغطين بعفوي عنكم.. على ذنوبكم.. "
(2) انظر تفسير " التكفير " و " السيئات " فيما سلف من فهارس
اللغة ، مادة (كفر) و (سوأ).
(3) انظر تفسير " الجنات " فيما سلف من فهارس اللغة (جنن).
(4) سلف البيت وتمامه وتخريجه في 1 : 255.
(10/123)
غير تام ولا مستغنٍ عن قوله : "
لأكفرن عنكم سيئاتكم " . وإذ كان ذلك كذلك ، فغير جائز أن يكون قوله : "
لأكفرنّ عنكم سيئاتكم " قسما مبتدأ ، بل الواجب أن يكون جوابًا لليمين إذْ
كانت غير مستغنية عنه.
* * *
وقوله : (تجري من تحتها الأنهار) يقول : تجري من تحت أشجار هذه البساتين التي
أدخلكموها الأنهار.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ
ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) }
قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : فمن جحد منكم ، يا معشر بني إسرائيل ، شيئا مما
أمرته به فتركه ، أو ركب ما نهيته عنه فعمله بعد أخذي الميثاق عليه بالوفاء لي
بطاعتي واجتناب معصيتي " فقد ضلَّ سواء السبيل " يقول : فقد أخطأ قصدَ
الطريق الواضح ، وزلَّ عن منهج السبيل القاصد.
* * *
" والضلال " ، الركوب على غير هدى ، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا
الموضع. (1)
* * *
وقوله " سواء " يعني به : وسط : و " السبيل " ، الطريق.
* * *
وقد بيَّنا تأويل ذلك كله في غير هذا الموضع ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف 2 : 495 ، 496/6 : 66 ، 584 ،
ومواضع غيرها ، التمسها في فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " سواء السبيل " فيما سلف 2 : 496 ، 497 ، وفهارس اللغة
في (سوى) و (سبل).
(10/124)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ }
قال أبو جفر : يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، لا تعجبن
من هؤلاء اليهود الذين همُّوا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك ، ونكثوا العهدَ
الذي بينك وبينهم ، غدرًا منهم بك وبأصحابك ، فإن ذلك من عاداتهم وعادات سَلَفهم ،
ومن ذلك أنَّي أخذت ميثاق سلفهم على عهد موسى صلى الله عليه وسلم على طاعتي ،
وبعثت منهم اثنى عشر نقيبًا وقد تُخُيِّرُوا من جميعهم ليتحسَّسُوا أخبار الجبابرة
، ووعدتهم النصرَ عليهم ، وأن أورثهم أرضَهم وديارهم وأموالهم ، بعد ما أريتهم من
العِبَر والآيات - بإهلاك فرعون وقومِه في البحر ، وفلق البحر لهم ، وسائر العبر -
ما أريتهم ، (1) فنقضوا مِيثاقهم الذي واثقوني ونكثوا عهدي ، فلعنتهم بنقضهم
ميثاقهم. فإذْ كان ذلك من فعل خيارهم مع أياديَّ عندهم ، فلا تستنكروا مثله من فعل
أرَاذلهم.
* * *
وفى الكلام محذوف اكتُفِي بدلالة الظاهر عليه ، وذلك أن معنى الكلام : " فمن
كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل " - فنقضوا الميثاق ، فلعنتهم "
فبما نقضْهم ميثاقهم لعناهم " فاكتفى بقوله : " فبما نقضهم ميثاقهم
" من ذكر " فنقضوا " . (2)
* * *
ويعني بقوله جل ثناؤه : " فبما نقضهم ميثاقهم " ، فبنقضهم ميثاقهم ، كما
قال قتادة.
11584 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة :
__________
(1) السياق : " بعد ما أريتهم من العبر والآيات.. ما أريتهم " ، وما بين
الخطين فصل مفسر.
(2) انظر تفسير " النقص " فيما سلف 9 : 363.
(10/125)
" فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم
" يقول : فبنقضهم ميثاقهم لعناهم. (1)
11585 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ،
قال ابن عباس : " فبما نقضهم ميثاقهم " قال : هو ميثاق أخذه الله على
أهل التوراة فنقضوه.
* * *
وقد ذكرنا معنى " اللعن " في غير هذا الموضع. (2)
* * *
و " الهاء والميم " من قوله : " فبما نقضهم " عائدتان على ذكر
بني إسرائيل قبل.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهلِ المدينة وبعض أهل مكة والبصرة والكوفة : (قَاسِيَةً) بالألف
* * *
على تقدير " فاعلة " من " قسوة القلب " ، من قول القائل :
" قَسَا قلبه ، فهو يقسُو وهو قاسٍ " ، وذلك إذا غلظ واشتدّ وصار يابسًا
صلبًا (3) كما قال الراجز : وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَتْ لِدَاتِي (4)
* * *
فتأويل الكلام على هذه القراءة : فلعنَّا الذين نقضوا عهدي ولم يفُوا بميثاقي من
بني إسرائيل ، بنقضهم ميثاقهم الذي واثقوني " وجعلنا قلوبهم قاسية " ،
__________
(1) الأثر : 11584 - في المطبوعة والمخطوطة : " حدثنا كثير ، قال حدثنا يزيد
" ، وهو خطأ ، وهو إسناد دائر في التفسير.
(2) انظر تفسير " اللعن " فيما سلف 9 : 213 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " القسوة " فيما سلف 2 : 233.
(4) مر تخريجه فيما سلف 2 : 233 ، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 158.
(10/126)
غليظة يابسةً عن الإيمان بي ، والتوفيق
لطاعتي ، منزوعةً منها الرأفةُ والرحمة.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : ( وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَّةً ).
* * *
ثم اختلف الذين قرأوا ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم : معنى ذلك معنى " القسوة " ، لأن " فعيلة " في الذم
أبلغ من " فاعلة " ، فاخترنا قراءتها " قسية " على "
قاسية " لذلك.
* * *
وقال آخرون منهم : بل معنى " قسِيَّة " غير معنى " القسوة " ،
وإنما " القسية " في هذا الموضع : القلوبُ التي لم يخلص إيمانها بالله ،
ولكن يخالط إيمانها كُفْر ، كالدراهم " القَسِيَّة " ، وهي التي يخالط
فضّتها غشٌّ من نحاس أو رَصاص وغير ذلك ، كما قال أبو زُبَيْد الطائي :
لَهَا صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلامِ كَمَا... صَاحَ القَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي
الصَّيارِيفِ (1)
__________
(1) المعاني الكبير : 1024 ، 1025 ، وأمالي القالى 1 : 28 ، وسمط اللآلئ : 128 ،
931 ، واللسان (أمر) (صهل) من قصيدته في رثاء أمير المؤمنين المقتول ظلمًا ، ذي
النورين عثمان بن عفان ، يقول فيها : يَا لَهْفَ نَفْسِي إنْ كَانَ الَّذِي
زَعَمُوا ... حَقًّا ، وَمَاذَا يَرُدُّ الْيَومَ تَلْهِيفِي!!
إِنْ كَانَ عُثْمَانُ أَمْسَى فَوْقَهُ أَمَرٌ ... كَرَاقِبِ العُونِ فَوْقَ
القُنَّةِ المُوفِي
" الأمر " (بفتحتين) : الحجارة. و " العون " جمع " عانة
" ، وهي حمر الوحش. " وراقب العون " : الفحل الذي يحوطها ويحرسها
على مربأة عالية ، ينتظر مغيب الشمس فيرد بها الماء.
ثم يقول بعد ذلك : يَا بُؤْسَ لْلأرْضِ ، مَا غَالَتْ غَوَائِلُهَا ... مِنْ
حُكْمِ عَدْلٍ وَجُودٍ غَيْرِ مَكْفُوفِ!!
على جَنَابَيْهِ مِنْ مَظَلُومَةٍ قِيَمٌ ... تَعَاوَرَتْهَا مَسَاحٍ
كَالْمَنَاسِيفِ
لَهَا صَوَاهَلُ فِي صُمِّ السِّلامِ ، كَمَا ... صَاحَ القَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي
الصَّيَارِيفِ
كَأنَّهُنَّ بِأَيْدِي الْقَوْمِ فِي كَبَدٍ ... طَيْرٌ تَكَشفُ عَنْ جُونٍ
مَزَاحِيفِ
قوله : " جنابيه " أي : جانبيه. " مظلومة " : حفرت ولم تكن
حفرت من قبل ، يعني أرض لحده. " قيم " جمع " قامة " : يعني ما
ارتفع من ركام تراب القبر. و " المساحي " جمع " مسحاة " : وهي
المجرفة من الحديد. و " المناسيف " جمع " منسفة " ، وهي آلة
يقلع بها البناء وينسف ، أصلب وأشد من المسحاة. و " الصواهل " جمع
" صاهلة " مصدر على " فاعلة " ، بمعنى " الصهيل " :
وهو صوت الخيل الشديد ، وكل صوت يشبهه. و " الصم " جمع " أصم
" ، يعني أنها حجارة صلبة تصهل منها المساحي. و " السلام " (بكسر
السين) الصخور. و " الصياريف " هم " الصيارف " ، وزاد الياء
للإشباع. و " الكبد " : الشدة. و " الجون " : السود. و "
مزاحيف " ، تزحف من الإعياء ، يعني إبلا قد هلكت من الإعياء. شبه المساحي
بأيدي القوم وهم يحفرون قبره ، بنسور تقع على الإبل المعيية ، ثم تنهض ، ثم تعود
فتسقط عليها. وكان قبر عثمان في حرة المدينة ذات الحجارة السود ، فلذلك قال :
" عن جون مزاحيف " .
(10/127)
يصف بذلك وقع مَسَاحي الذين حفروا قبر
عثمان على الصخور ، وهي " السِّلام " .
* * *
قال أبو جعفر : وأعجبُ القراءتين إليّ في ذلك ، قراءة من قرأ : ( وَجَعَلْنَا
قُلُوبَهُمْ قَسِيَّةً ) على " فعيلة " ، لأنها أبلغ في ذم القوم من
" قاسية " . وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، تأويل من تأوله : "
فعيلة " من " القسوة " ، كما قيل : " نفس زكيّة " و
" زاكية " ، و " امرأة شاهدة " و " شهيدة " ، لأن
الله جل ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقَهم وكفرِهم به ، ولم يصفهم بشيء من الإيمان
، فتكون قلوبهم موصوفة بأنّ إيمانها يخالطه كفر ، كالدراهم القَسِيَّة التي يخالط
فضَّتها غشٌّ.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ }
قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودَنا من بني
إسرائيل قَسِيَّة ، منزوعا منها الخير ، مرفوعًا منها التوفيق ، فلا يؤمنون ولا
يهتدون ، فهم لنزعِ الله عز وجل التوفيقَ من قلوبهم والإيمانَ ، يحرّفون كلام
(10/128)
ربِّهم الذي أنزله على نبيهم موسى صلى
الله عليه وسلم ، وهو التوراة ، فيبدّلونه ، ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله
جل وعز على نبيهم ، ثم يقولون لجهال الناس : (1) " هذا هو كلام الله الذي
أنزله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم ، والتوراة التي أوحاها إليه " . (2)
وهذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى من اليهود ، ممن أدرك بعضُهم عصرَ نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله عزّ ذكره أدخلهم في عِدَاد الذين ابتدأ الخبر
عنهم ممن أدرَك موسى منهم ، إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم في الكذب على الله ،
والفرية عليه ، ونقض المواثيق التي أخذها عليهم في التوراة ، كما : -
11586 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " يحرّفون الكلم عن مواضعه " يعني : حدود الله في التوراة ،
ويقولون : إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه ، وإن خالفكم فاحذروا.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ }
يعني تعالى ذكره بقوله : " ونسوا حظًّا " وتركوا نصيبا ، وهو كقوله : (
نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) [سورة التوبة : 67] أي : تركوا أمر الله فتركهم
الله. (3)
* * *
وقد مضى بيان ذلك بشواهده في غير هذا الموضع ، فأغنى ذلك عن إعادته. (4)
* * *
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) في المطبوعة : " ويقولون " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " تحريف الكلم عن مواضعه " فيما سلف 2 : 248/8 : 430 -
432.
(3) انظر تفسير " النسيان " فيما سلف 2 : 9 ، 476/5 : 164/6 : 133 -
135.
(4) انظر التعليق السالف ، وتفسير " حظ " فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/129)
ذكر من قال ذلك :
11587 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ونسوا حظًّا مما ذكروا به " يقول : تركوا نصيبًا.
11588 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن
الحسن في قوله : " ونسوا حظًّا مما ذكروا به " قال : تركوا عُرَى دينهم
، ووظائفَ الله جل ثناؤه التي لا تُقْبل الأعمال إلا بها. (1)
..............................................
................................................ (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ
إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ }
قال أبو جعفر : يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تزال يا
محمد تَطَّلع من اليهود الذين أنبأتك نبأهم ، من نقضهم ميثاقي ، ونكثهم
__________
(1) " الوظائف " جمع " وظيفة " ، وهي من كل شيء ، ما يقدر له
في كل يوم من رزق أو طعام أو علف أو شراب. ثم قالوا : " وظف الشيء على نفسه
توظيفا " ، أي : ألزمها إياه ، وقالوا : " عليه كل يوم وظيفة من عمل
" ، أي : ما ألزم عمله في يومه هذا. وعنى الحسن بقوله " وظائف الله
" ، فروضه التي ألزمها عباده في الإيمان به ، وطاعته ، وإخلاص النية له
سبحانه. وهذا حرف ينبغي تقييده في كتب اللغة ، من كلام الحسن رضي الله عنه.
(2) وضعت هذه النقط دلالة على سقط أو خرم في نسخ ناسخ المخطوطة. وذلك أنه كتب في
أول تفسير هذا الجزء من الآية : " ونسوا حظًا " ، ثم ساق كلام أبي جعفر
إلى آخر الخبر رقم : 11588.
ثم بدأ بعد ذلك هكذا : " القول في تأويل قوله عز ذكره : " مما ذكروا به
" ثم ساق تفسير الجزء التالي من الآية ، وهو : " ولا تزال تطلع على
خائنة منهم إلا قليلا منهم " . ولم يكتب هذا الجزء من الآية ، والتفسير
تفسيرها. فاتضح من ذلك أن الناسخ نسى تفسير " مما ذكروا " فسقط منه. ولم
يذكر الآية التي يفسرها كلام أبي جعفر.
هذا ، وانظر معنى " التذكير " فيما سلف 5 : 580/6 : 62 - 65 ، 211.
(10/130)
عهدي ، مع أياديَّ عندهم ، ونعمتي
عليهم على مثل ذلك من الغدر والخيانة " إلا قليلا منهم " ، إلا قليلا
منهم [لم يحزنزا]. (1)
* * *
و " الخائنة " في هذا الموضع : الخيانة ، وُضع وهو اسمٌ - موضع المصدر ،
كما قيل : " خاطئة " ، للخطيئة (2) و " قائلة " للقيلولة.
* * *
وقوله : " إلا قليلا منهم " ، استثناء من " الهاء والميم "
اللتين في قوله : " على خائنة منهم " .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
11589 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " قال : على خيانة وكذب
وفجور.
11590 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل وعزّ : " ولا تزال تطلع على خائنة منهم
" قال : هم يهودُ مِثْلُ الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل
حائطهم.
__________
(1) في المطبوعة ، وقف عند قوله : " إلا قليلا منهم " ، وأسقط : "
إلا قليلا منهم لم يخونوا " . وفي المخطوطة سقط من الناسخ " لم يخونوا
" فكتب " إلا قليلا منهم ، إلا قليلا منهم " . واستظهرت " لم
يخونوا " ووضعتها بين قوسين ، من قوله بعد : إنه استثناء من الهاء والميم في
" خائنة منهم " .
(2) في المطبوعة : " خاطئة ، للخطأة " ، كأنه استنكرها ، وسيأتي في
تفسير أبي جعفر 29 : 33 (بولاق) في تفسير قوله تعالى : " والموتفكات بالخاطئة
" ، قال ، " بالخاطئة ، يعني بالخطيئة " . وهكذا كتب أبو جعفر كما
ترى ، وإن كان لا يعجبني هذا التمثيل ، بل كنت أوثر أن يقول إنه مصدر جاء على
فاعلة ، مثل " العافية " . إلا أن يكون أبو جعفر أراد أن " الخطيئة
" مصدر على " فعيلة " كالشبيبة والفضيحة ، وأشباهها ، وهي قليلة.
(10/131)
11591 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو
حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه.
11592 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ،
قال مجاهد وعكرمة قوله : " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " من يهود مثلُ
الذي همُّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم.
* * *
وقال بعض القائلين : (1) معنى ذلك : ولا تزال تطلع على خائن منهم ، قال : والعرب
تزيد " الهاء " في آخر المذكر كقولهم : " هو راوية للشعر " ،
و " رجل علامة " ، وأنشد : (2)
حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالوَفَاءِ ولَمْ تَكُنْ... لِلغَدْرِ خَائِنَةً مُغِلَّ
الإصْبَعِ (3)
__________
(1) ما أشد استنكار أبي جعفر لمقالات أبي عبيدة معمر بن المثنى ، حتى يذكره مجهلا
بأساليب مختلفة!! وهذا الآتي هو نص كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 158.
(2) هو رجل من السواقط ، من بني أبي بكر بن كلاب. و " السواقط " هم
الذين يردون اليمامة لامتياز التمر.
(3) الكامل للمبرد 1 : 211 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 158 ، وإصلاح المنطق :
295 ، واللسان (صبع) (غلل) (خون). وهذا من شعر له خبر. وذلك أن هذا الشاعر لما ورد
اليمامة كان معه أخ له جميل ، فنزل جارا لعمير بن سلمى ، فقال قرين أخو عمير
للكلابي : " لا تردن أبياتنا بأخيك هذا " ، مخافة جماله ، فرآه قرين بين
أبياتهم بعد ، وأخوه عمير غائب ، فقتله. فجاء الكلابي قبر سلمى (أبي عمير ، وقرين)
فاستجار به وقال : وَإِذَا اسْتَجَرْتَ مِنَ الْيَمَامَةِ فَاسْتَجِرْ ... زَيْدَ
بن يَرْبُوعٍ وَآلَ مُجَمِّعِ
وَأَتَيْتُ سُلْمِيَّا فَعُذْتُ بِقَبْرِهِ ... وَأَخُو الزَّمَانَةِ عَائِذٌ
بِالأمْنَعِ
أَقَرِينُ إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ فَوَارِسِي ... بِعَمَايَتَيْنَ إِلَى جَوَانِبِ
ضَلْفَعِ
حَدَّثْتَ نَفْسَك .................. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فلجأ قرين إلى وجوه بني حنيفة (وهم زيد بن يربوع ، وآل مجمع) ، فحملوا إلى الكلابي
ديات مضاعفة ، فأبى أن يقبلها. فلما قدم عمير ، فقالت له أمه : " لا تقتل
أخاك ، وسق إلى الكلابي جميع ماله " ، فأبى الكلابي أن يقبل. فأخذ عمير أخاه
قرينًا فقتله ، وقال : قَتَلْنَا أَخَانَا لِلْوَفَاءِ بِجَارِنَا ... وَكَانَ
أَبُونَا قَدْ تُجِيرُ مَقابِرُهْ
وقالت أم عمير لعمير : تَعُدُّ مَعَاذِرًا لا عُذْرَ فِيهَا ... وَمَنْ يَقْتُلْ
أَخَاهُ فَقَدْ أَلاَمَا
وقوله : " أخو الزمانة " ، هي العاهة ، يريد ضعفه عن درك ثأره. و "
عمايتان " و " ضلفع " مواضع من بلاد هذا الكلابي. وقوله " مغل
الإصبع " ، كناية عن الخيانة والسرقة. " أغل يغل " : خان الأمانة
خلسة. ويقول بعضهم : " مغل الإصبع " ، منصوب على النداء.
(10/132)
فقال : " خائنة " ، وهو
يخاطب رجلا.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من التأويل في ذلك ، القولُ الذي رويناه عن أهل التأويل.
لأنّ الله عنى بهذه الآية ، القوم من يهود بني النضير الذين همُّوا بقتل رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، إذ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية
العامريّين ، فأطلعه الله عز ذكره على ما قد همُّوا به. ثم قال جل ثناؤه بعد
تعريفِه أخبار أوائلهم ، وإعلامه منهج أسلافهم ، وأنَّ آخرهم على منهاج أوّلهم في
الغدر والخيانة ، لئلا يكبُر فعلُهم ذلك على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال
جل ثناؤه : ولا تزال تطَّلع من اليهود على خيانة وغدرٍ ونقضِ عهد ولم يرد أنّه لا
يزال يطلع على رجل منهم خائنٍ. وذلك أن الخبر ابتُدِئ به عن جماعتهم فقيل : "
يا أيها الذين آمنوا اذكرُوا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم
" ، ثم قيل : " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " ، فإذ كان الابتداء
عن الجماعة ، فالختْمُ بالجماعة أولى. (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فلتختم بالجماعة أولى " ، ولست أدري فيم يغير
الصواب المستقيم!
(10/133)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) }
قال أبو جعفر : وهذ أمر من الله عز ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالعفو
عن هؤلاء القوم الذين همُّوا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود. يقول الله جل وعز
له : اعف ، يا محمد ، عن هؤلاء اليهود الذين همُّوا بما هموا به من بسط أيديهم
إليك وإلى أصحابك بالقتل ، واصفح لهم عن جُرْمهم بترك التعرُّض لمكروههم ، فإني
أحب من أحسنَ العفو والصَّفح إلى من أساء إليه. (1)
* * *
وكان قتادة يقول : هذه منسوخة. ويقول : نسختها آية " براءة " : (
قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ) الآية
[سورة التوبة : 29].
11593 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " فاعف عنهم واصفح " ، قال : نسختها : ( قَاتِلُوا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ
مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ).
11594 - حدثني المثني قال ، حدثنا حجاج بن المنهال قال ، حدثنا همام ، عن قتادة :
" فاعف عنهم واصفح إنّ الله يحب المحسنين " ، ولم يؤمر يومئذ بقتالهم ،
فأمره الله عز ذكره أن يعفو عنهم ويصفح. ثم نسخ ذلك في " براءة " فقال :
( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ ) [سورة التوبة : 29] ، وهم أهل الكتاب ، فأمر الله
__________
(1) انظر تفسير " العفو " فيما سلف من فهارس اللغة وتفسير " الصفح
" فيما سلف 2 : 503 وتفسير " المحسنين " ، فيما سلف من فهارس
اللغة.
(10/134)
جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن
يقاتلهم حتى يسلموا أو يقرُّوا بالجزية.
11595 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن سليمان قال ، قرأت على ابن أبي
عروبة ، عن قتادة ، نحوه.
* * *
قال أبو جعفر : والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانهُ ، غير أن الناسخ الذي لا شك
فيه من الأمر ، هو ما كان نافيًا كلَّ معاني خلافهِ الذي كان قبله ، فأمَّا ما كان
غير نافٍ جميعَه ، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جل وعز أو من
رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس في قوله : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ) دلالةٌ على الأمر بنفي معاني الصَّفح والعفو
عن اليهود.
وإذ كان ذلك كذلك وكان جائزًا مع إقرارهم بالصَّغار وأدائهم الجزية بعد القتال ،
الأمرُ بالعفو عنهم في غَدْرة همُّوا بها ، أو نكثةٍ عزموا عليها ، ما لم
يَنْصِبُوا حربًا دون أداء الجزية ، (1) ويمتنعوا من الأحكام اللازمَتِهم (2) لم
يكن واجبا أن يحكم لقوله : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الآخِرِ ) الآية ، بأنه ناسخ قوله : " فاعف عنهم واصفح إن الله
يحب المحسنين " .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ما لم يصيبوا حربًا " ، والصواب المحض من المخطوطة.
يقال : " نصب له الحرب نصبًا " : وضعها وأظهرها ، وأعلنها. و "
ناصبه الحرب والعداوة " : أي أظهرها ولج في إظهارها.
(2) في المطبوعة : " اللازمة منهم " ، غير صواب المخطوطة ، إلى ما درج
عليه كلام أمثاله ، وقد مضى مثل ذلك مرارًا ، ومضى مثل ذلك من فعل الناشر.
(10/135)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَمِنَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ }
قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : وأخذنا من النصارى الميثاقَ على طاعتي وأداء فرائضي
، واتباع رسلي والتصديق بهم ، فسلكوا في ميثاقي الذي أخذتُه عليهم منهاج الأمة
الضالة من اليهود ، فبدلوا كذلك دينَهم ، ونقضوه نقضَهم ، (1) وتركوا حظّهم من
ميثاقي الذي أخذته عليهم بالوفاء بعهدي ، وضيَّعوا أمري ، (2) كما : -
11596 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ومن
الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًّا مما ذكروا به " ، نسوا
كتاب الله بين أظهرهم ، وعهدَ الله الذي عهده إليهم ، وأمرَ الله الذي أمرهم به.
11597 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : قالت النصارى مثل ما قالت اليهود ، ونسوا حظًّا مما ذكروا به.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ونقضوا " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " أخذ الميثاق " فيما سلف ص : 110 ، تعليق : 1 ،
والمراجع هناك وتفسير " النسيان " و " الحظ " فيما سلف ص :
129 ، تعليق : 3 ، 4 ، والمراجع هناك وتفسير " التذكير " فيما سلف ص :
130 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(10/135)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
}
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فأغرينا بينهم " حرّشنا بينهم
وألقينا ، كما تغري الشيء بالشيء.
يقول جل ثناؤه : لما ترك هؤلاء النصارى ، الذين أخذتُ ميثاقهم بالوفاء بعهدي ،
حظَّهم مما عهدتُ إليهم من أمري ونهيي ، أغريتُ بينهم العداوة والبغضاء.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة " إغراء الله عز ذكره بينهم العداوة ، والبغضاء
" . (1)
__________
(1) انظر تفسير " البغضاء " فيما سلف 7 : 146.
(10/136)
فقال بعضهم : كان إغراؤه بينهم
بالأهواء التي حَدَثت بينهم.
ذكر من قال ذلك :
11598 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال : أخبرنا العوام بن حوشب ،
عن إبراهيم النخعي في قوله : " فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء " ، قال
: هذه الأهواء المختلفة والتباغُض ، فهو الإغراء.
11599 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب قال :
سمعت النخعي يقول : " فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء " ، قال : أغرى
بعضهم ببعض بخصُومات بالجدال في الدين.
11600 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني هشيم قال ، أخبرنا العوام بن
حوشب ، عن إبراهيم النخعي والتّيمي ، قوله : " فأغرينا بينهم العداوة
والبغضاء " ، قال : ما أرى " الإغراء " في هذه الآية إلا الأهواء
المختلفة وقال معاوية بن قرة : الخصومات في الدين تُحْبِط الأعمال.
* * *
وقال آخرون : بل ذلك هو العداوة التي بينهم والبغضاء.
ذكر من قال ذلك :
11601 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " الآية ، إنّ القوم لما
تركوا كتابَ الله ، وعصَوْا رسله ، وضَيّعوا فرائضه ، وعطّلوا حدُوده ، ألقى بينهم
العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، بأعْمالهم أعمالِ السوء ، ولو أخذ القوم كتاب
الله وأمرَه ، ما افترقوا ولا تباغَضُوا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأولين في ذلك عندنا بالحق ، تأويلُ من قال : " أغرى
بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم " ، كما قال إبراهيم النخعي ، لأن عداوة
النصارى
(10/137)
بينَهم ، إنما هي باختلافهم في قولهم
في المسيح ، وذلك أهواءٌ ، لا وحيٌ من الله.
* * *
واختلف أهل التأويل في المعنيِّ بـ " الهاء والميم " اللتين في قوله :
" فأغرينا بينهم " .
فقال بعضهم : عني بذلك اليهود والنصارى. فمعنى الكلام على قولِهم وتأويلهم :
فأغرينا بين اليهود والنصارى ، لنسيانهم حظًّا مما ذكّروا به.
ذكر من قال ذلك :
11602 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : وقال في النصارى أيضا : " فنسوا حظًّا مما ذكروا به " ، فلما
فعلوا ذلك ، أغرى الله عز وجل بينَهم وبين اليهود العداوةَ والبغضاءَ إلى يوم
القيامة.
11603 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " ، قال : هم اليهود
والنصارى. قال ابن زيد : كما تُغْري بين اثنين من البهائم.
11604 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء " ،
قال : اليهود والنصارى.
11605 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
11606 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن
قتادة قال : هم اليهود والنصارى ، أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم
القيامة.
* * *
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك النصارَى وحدَها. وقالوا : معنى ذلك : فأغرينا بين
النصارى ، عقوبةً لها بنسيانها حظًّا مما ذكرت به. قالوا : وعليها عادت
(10/138)
" الهاء والميم " في "
بينهم " ، دون اليهود.
ذكر من قال ذلك :
11607 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي
جعفر ، (1) عن أبيه ، عن الربيع قال : إن الله عز ذكره تقدَّم إلى بني إسرائيل :
أن لا تشتروا بآيات الله ثمنًا قليلا وعلموا الحكمة ولا تأخذوا عليها أجرًا ، فلم
يفعل ذلك إلا قليل منهم ، فأخذُوا الرّشوة في الحكم ، وجاوزوا الحدود ، فقال في
اليهود حيث حكموا بغير ما أمر الله : ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) [سورة المائدة : 64] ، وقال في
النصارى : " فنسوا حظًّا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى
يوم القيامة " .
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأولين بالآية عندي ما قاله الربيع بن أنس ، وهو أنّ
المعنيّ بالإغراء بينهم ، النصارى ، في هذه الآية خاصة وأنّ " الهاء والميم
" عائدتان على النصارى دون اليهود ، لأن ذكر " الإغراء " في خبر
الله عن النصارى ، بعد تقضِّي خبره عن اليهود ، وبعد ابتدائه خبَره عن النصارى ،
فلأنْ يكون ذلك معنيًّا به النصارى خاصًّة ، (2) أولى من أن يكون معنيًّا به
الحزبان جميعًا ، لما ذكرنا.
* * *
فإن قال قائل : وما العداوة التي بين النصارى ، فتكون مخصوصة بمعنى ذلك ؟
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " عبيد الله بن أبي جعفر " ، والصواب
" عبد الله " كما أثبته ، وهو " عبد الله بن أبي جعفر الرازي
" ، مضى مئات من المرات في الأسانيد السالفة.
(2) في المطبوعة : " فأن لا يكون ذلك معنيا به إلا النصارى خاصة " ، وهو
كلام بريء من العربية. وفي المخطوطة : " فلا يكون ذلك معنيا به إلا النصارى
خاصة " ، وهو مثله ، ولكنه سهو من الناسخ وغفلة ، أخطأ فكتب " فلأن يكون
" " فلا يكون " ، ثم زاد " إلا " . وهذا كله فساد ،
صوابه ما أثبت.
(10/139)
قيل : ذلك عداوة النسطوريةِ
واليعقوبيةِ ، والملكيةَ والملكيةِ النسطوريةَ واليعقوبيةَ. (1) وليس الذي قاله من
قال : " معنيٌّ بذلك : إغراء الله بين اليهود والنصارى " ببعيد ، غير أن
هذا أقرب عندي ، وأشبهُ بتأويل الآية ، لما ذكرنا.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ (14) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لنبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم : اعفُ عن هؤلاء
الذين همُّوا ببسط أيديهم إليك وإلى أصحابك واصفح ، فإن الله عز وجل من وراء
الانتقام منهم ، وسينبئهم الله عند ورودهم عليه في معادهم ، بما كانوا في الدنيا
يصنعون ، من نقضهم ميثاقه ، ونكثهم عهده ، وتبديلهم كتابه ، وتحريفهم أمره ونهيه ،
فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا
يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو
عَنْ كَثِيرٍ }
قال أبو جعفر : يقول عز ذكره لجماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا في
عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أهل الكتاب " من اليهود
والنصارى " قد جاءكم رسولنا " ، يعني محمّدا صلى الله عليه وسلم ، كما :
-
__________
(1) في المطبوعة : " ذلك عداوة النسطورية واليعقوبية والملكية النسطورية
واليعقوبية " . وهو كلام خال من المعنى ، صوابه من المخطوطة. يعني عداوة
هؤلاء لهؤلاء وعداوة هؤلاء لهؤلاء.
(10/140)
11608 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد
قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا " ، وهو
محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقوله : " يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب " ، يقول : يبين لكم
محمّد رسولنا ، كثيرًا مما كنتم تكتمونه الناسَ ولا تُبينونه لهم ممّا في كتابكم.
وكان مما يخفونه من كتابهم فبيَّنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للناس : رَجْمُ
الزَّانيين المحصنين.
* * *
وقيل : إن هذه الآية نزلت في تبيين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك للناس ، من
إخفائهم ذلك من كتابهم.
ذكر من قال ذلك :
11609 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن
يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال ، من كفر بالرجم ، فقد كفر بالقرآن من
حيث لا يحتسب. قوله : " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسوُلنا يبين لكم كثيرًا مما
كنتم تخفون من الكتاب " ، فكان الرجمُ مما أخفوا. (1) .
11610 - حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبَّويه ، أخبرنا علي بن الحسن قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثنا يزيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله. (2) .
__________
(1) الأثر : 11609 - " يحيى بن واضح " ، أبو تميلة ، مضى مرارا ، منها :
392.
و " الحسين بن واقد المروزي " ، ثقة. مضى برقم : 481 ، 6311.
و " يزيد النحوي " ، هو " يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي "
، ثقة ، مضى برقم : 6311. وهذا إسناد صحيح ، وسيأتي تخريجه في الأثر التالي.
(2) الأثر : 11610 - " عبد الله بن أحمد بن شبويه الخزاعي " ، ثقة مضى
برقم : 1909 ، 4612 ، 4923.
و " علي بن الحسن بن شقيق بن دينار " ، ثقة ، من شيوخ أحمد ، مضى برقم :
1591 ، 1909 ، 9951 ، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا : " علي بن الحسين
" ، وهو خطأ محض.
وهذا إسناد صحيح أيضا ، مكرر الذي قبله. وهذا الخبر أخرجه الحاكم في المستدرك 4 :
359 من طريق علي بن الحسن بن شقيق ، بمثله ، وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد
ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 269 ، وزاد نسبته إلى ابن الضريس ، والنسائي ،
وابن أبي حاتم.
فائدة : راجع أحاديث الرجم فيما سيأتي برقم 11921 - 11924.
(10/141)
11611 - حدثني المثني قال ، حدثنا
إسحاق قال ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة في قوله :
" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم " ، إلى قوله : " صراط
مستقيم " ، قال : إنّ نبيّ الله أتاه اليهود يسألونه عن الرجم ، واجتمعوا في
بيتٍ ، قال : أيُّكم أعلم ؟ فأشاروا إلى ابن صُوريا ، فقال : أنت أعلمهم ؟ قال ،
سل عما شئت ، قال ، " أنت أعلمهم ؟ " قال : إنهم ليزعمون ذلك! قال :
فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى ، والذي رفع الطُّور ، وناشده بالمواثيق التي
أُخذت عليهم ، حتى أخذه أفْكَل ، (1) فقال : إن نساءنا نساء حسان ، فكثر فينا
القتل ، فاختصرنا أُخصورةً ، (2) فجلدنا مئة ، وحلقنا الرءوس ، وخالفنا بين الرءوس
إلى الدواب (3) أحسبه قال : الإبل قال : فحكم عليهم بالرجم ، فأنزل الله فيهم :
" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيين لكم " ، الآية وهذه الآية : (
وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ
__________
(1) " أفكل " (علي وزن أفعل) : رعدة تعلو الإنسان من برد أو خوف أو
غيرهما ، وليس له فعل ، وأنشد ابن بري : بِعَيْشِكِ هَاتِي فَغَنِّي لَنَا ...
فَإِنَّ نَدَامَاكِ لَمْ يَنْهَلُوا
فَبَاتَتْ تُغَنِّي بِغِرْبَالِهَا ... غِنَاء رُوَيْدًا لَهُ أفْكَلُ
(2) قوله : " فاختصرنا أخصورة " ، هكذا جاءت في المخطوطة أيضا. وفي
تفسير أبي حيان 3 : 447 " فاختصرنا فجلدنا مئة مئة " ، وحذف "
أخصورة " . ولم أجد لها في اللغة ذكرًا ، بمعنى : شيئًا من الاختصار. والذي
في الكتب " الخصيري " (بضم الخاء وفتح الصاد وسكون الياء بعدها راء
مفتوحة) ، وهي : حذف الفضول من كل شيء ، مثل " الاختصار " . فلعل صواب
العبارة : " فاختصرنا خصيري " ، أي اختصارا من حكم الرجم. وتركت ما في
المطبوعة والمخطوطة ، مخافة أن يكون في الكلمة تحريف لم أهتد إليه.
(3) في تفسير أبي حيان " وخالفنا بين الرءوس على الدبرات " ، وكأنه خطأ.
(10/142)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
) [سورة البقرة : 76]. (1)
* * *
وقوله : " ويعفو عن كثير " يعني بقوله : " ويعفو " ، ويترك
أخذكم بكثير مما كنتم تخفون من كتابكم الذي أنزله الله إليكم ، وهو التوراة ، فلا
تعملون به حتى يأمره الله بأخذكم به. (2) .
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ
مُبِينٌ (15) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب : " قد
جاءكم " ، يا أهل التوراة والإنجيل " من الله نور " ، يعني بالنور
، محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي أنار الله به الحقَّ ، وأظهر به الإسلام ، ومحق
به الشرك ، فهو نور لمن استنار به يبيِّن الحق. ومن إنارته الحق ، تبيينُه لليهود
كثيرًا مما كانوا يخفون من الكتاب. (3)
* * *
وقوله : " وكتاب مبين " ، يقول : جل ثناؤه : قد جاءكم من الله تعالى
النور الذي أنار لكم به معالم الحقِّ ، " وكتاب مبين " ، يعني كتابًا
فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم : من توحيد الله ، وحلاله وحرامه ، وشرائع دينه ،
وهو القرآن الذي أنزله
__________
(1) الأثر : 11611 - في هذا الأثر ، ذكر سبب نزول آية " سورة البقرة " :
76 ، ولم يذكره أبو جعفر في تفسير الآية هناك (2 : 250 - 254) ، مع أنه يصلح أن
يكون وجهًا آخر في تفسير الآية ، وأن يكون مرادًا بها " الرجم " . فهذا
دليل آخر على اختصار أبي جعفر تفسيره ، وهو أيضا وجه من وجوه منهجه في اختصاره.
(2) انظر تفسير " العفو " فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير " نور " فيما سلف 9 : 428.
(10/143)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ،
يبين للناس جميع ما بهم الحاجةُ إليه من أمر دينهم ، ويوضحه لهم ، حتى يعرفوا
حقَّه من باطله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ
سُبُلَ السَّلامِ }
قال أبو جعفر : يعني عز ذكره : يهدي بهذا الكتاب المبين الذي جاء من الله جل جلاله
ويعني بقوله : " يهدي به الله " ، يرشد به الله ويسدِّد به ، (2) و
" الهاء " في قوله : " به " عائدة على " الكتاب "
" من اتبع رضوانه " ، يقول : من اتبع رِضَى الله. (3)
* * *
واختلف في معنى " الرضى " من الله جل وعز.
فقال بعضهم : الرضى منه بالشيء " ، القبول له والمدح والثناء. قالوا : فهو
قابل الإيمان ، ومُزَكّ له ، ومثنٍ على المؤمن بالإيمان ، وواصفٌ الإيمانَ بأنه
نور وهُدًى وفصْل. (4)
* * *
وقال آخرون : معنى " الرضى " من الله جل وعز ، معنى مفهوم ، هو
__________
(1) انظر تفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " يهدي " فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير " الرضوان " فيما سلف 6 : 262/9 : 480.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " وفضل " بالضاد المعجمة ، و " الفصل
" هنا هو حق المعنى ، لأنه يفصل بين الحق والباطل.
(10/144)
خلاف السخط ، وهو صفة من صفاته على ما
يعقل من معاني : " الرضى " الذي هو خلاف السخط ، وليس ذلك بالمدح ، لأن
المدح والثناء قولٌ ، وإنما يثنى ويمدح ما قد رُضِي. قالوا : فالرضا معنًى ، و
" الثناء " و " المدح " معنًى ليس به.
* * *
ويعني بقوله : " سُبُل السلام " ، طرق السلام (1) و " السلام
" ، هو الله عزَّ ذكره.
11612 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " من اتبع رضوانه سبل السلام " ، سبيل الله الذي شرعه لعباده
ودعاهم إليه ، وابتعث به رسله ، وهو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملا إلا به ، لا
اليهودية ، ولا النصرانية ، ولا المجوسية.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِهِ }
قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : يهدي الله بهذا الكتاب المبين ، من اتبع رضوان الله
إلى سبل السلام وشرائع دينه " ويخرجهم " ، يقول : ويخرج من اتبع رضوانه
و " الهاء والميم " في : " ويخرجهم " إلى من ذُكر " من
الظلمات إلى النور " ، يعني : من ظلمات الكفر والشرك ، إلى نور الإسلام
وضيائه (2) " بإذنه " ، يعني : بإذن الله جل وعز. و " إذنه في هذا
الموضع : تحبيبه إياه الإيمان برفع طابَع الكفر عن قلبه ، وخاتم الشرك عنه ،
وتوفيقه لإبصار سُبُل السّلام. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " سبيل " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " من الظلمات إلى النور " فيما سلف 5 : 424 - 426.
(3) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف 8 : 516 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(10/145)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) }
قال أبو جعفر : يعني عز ذكره بقوله : " ويهديهم " ، ويرشدهم ويسددهم (1)
" إلى صراط مستقيم " ، يقول : إلى طريق مستقيم ، وهو دين الله القويم
الذي لا اعوجاج فيه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ
هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ }
قال أبو جعفر : هذا ذمٌّ من الله عز ذكره للنصارى والنصرانية ، الذين ضلُّوا عن
سبل السلام واحتجاجٌ منه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في فِرْيتهم عليه بادّعائهم
له ولدًا.
يقول جل ثناؤه : أقسم ، لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم و
" كفرهم " في ذلك ، تغطيتهم الحقّ في تركهم نفي الولد عن الله جل وعز ،
وادِّعائهم أن المسيح هو الله ، فرية وكذبًا عليه. (3)
* * *
وقد بينا معنى : " المسيح " فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع. (4) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " يهدي " في فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " الصراط المستقيم " فيما سلف 8 : 529 ، تعليق : 3 ،
والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الكفر " فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير " المسيح " فيما سلف 9 : 417 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(10/146)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
القول في تأويل قوله عز ذكره : { قُلْ
فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه ، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل ، يا محمد ،
للنصارى الذين افتروا عليّ ، وضلُّوا عن سواء السبيل بقيلهم : إنّ الله هو المسيح
ابن مريم : " من يملك من الله شيئًا " ، يقول : من الذي يطيق أن يدفع من
أمر الله جل وعز شيئا ، فيردّه إذا قضاه.
* * *
من قول القائل : " ملكت على فلان أمره " ، إذا صار لا يقدر أن ينفذ
أمرًا إلا به. (1)
* * *
وقوله : " إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا " ،
يقول : من ذا الذي يقدر أن يرد من أمر الله شيئًا ، إن شاء أن يهلك المسيح بن مريم
، بإعدامه من الأرض وإعدام أمه مريم ، وإعدام جميع من في الأرض من الخلق جميعا.
(2)
* * *
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء الجهلة من النصارى : لو
كان المسيح كما تزعمون أنّه هو الله ، وليس كذلك لقدر أن يردَّ أمرَ الله إذا جاءه
بإهلاكه وإهلاك أمه. وقد أهلك أمَّه فلم يقدر على دفع أمره فيها إذْ نزل ذلك. ففي
ذلك لكم معتَبرٌ إن اعتبرتم ، وحجة عليكم إن عقلتم : في أن المسيح ، بَشَر كسائر
بني آدم ، وأن الله عز وجل هو الذي لا يغلب ولا يقهر ولا يردُّ له
__________
(1) هذا بيان قلما تصيبه في كتب اللغة.
(2) انظر تفسير " الإهلاك " فيما سلف 4 : 239 ، 240/9 : 430.
(10/147)
أمر ، بل هو الحيُّ الدائم القيُّوم
الذي يحيي ويميت ، وينشئ ويفني ، وهو حي لا يموت.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ }
قال أبو جعفر : يعني تبارك وتعالى بذلك : والله له تصريف ما في السموات والأرض وما
بينهما (1) يعني : وما بين السماء والأرض يهلك من يشاء من ذلك ويبقي ما يشاء منه ،
ويوجد ما أراد ويعدم ما أحبّ ، لا يمنعه من شيء أراد من ذلك مانع ، ولا يدفعه عنه
دافع ، يُنْفِذ فيهم حكمه ، ويُمضي فيهم قضاءه لا المسيح الذي إن أراد إهلاكه
ربُّه وإهلاكَ أمّه ، لم يملك دفع ما أراد به ربُّه من ذلك.
* * *
يقول جل وعز : كيف يكون إلهًا يُعبد من كان عاجزًا عن دفع ما أراد به غيره من
السوء ، وغير قادرٍ على صرف ما نزل به من الهلاك ؟ بل الإله المعبود ، الذي له ملك
كل شيء ، وبيده تصريف كل من في السماءِ والأرض وما بينهما.
* * *
فقال جل ثناؤه : " وما بينهما " ، وقد ذكر " السموات " بلفظ
الجمع ، ولم يقل : " وما بينهن " ، لأن المعنى : وما بين هذين النوعين
من الأشياء ، كما قال الراعي :
__________
(1) انظر تفسير " الملك " فيما سلف 8 : 48 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(10/148)
طَرَقَا ، فَتِلْكَ هَمَاهِمِي ،
أَقْرِيهِمَا... قُلُصًا لَوَاقِحَ كَالقِسِيِّ وَحُولا (1)
فقال : " طرقا " ، مخبًرا عن شيئين ، ثم قال : " فتلك هَمَاهمي
" ، فرجع إلى معنى الكلام.
* * *
وقوله : " يخلق ما يشاء " ، يقول جل ثناؤه : وينشئ ما يشاء ويوجده ،
ويخرجُه من حال العدم إلى حال الوجود ، ولن يقدر على ذلك غير الله الواحد
القهَّار. وإنما يعني بذلك ، أنّ له تدبير السموات والأرض وما بينهما وتصريفه ،
وإفناءه وإعدامه ، وإيجادَ ما يشاء مما هو غير موجود ولا مُنْشأ. يقول : فليس ذلك
لأحد سواي ، فكيف زعمتم ، أيها الكذبة ، أنّ المسيح إله ، وهو لا يطيق شيئا من ذلك
، بل لا يقدر على دفع الضرَر عن نفسه ولا عن أمه ، ولا اجتلابِ نفعٍ إليها إلا
بإذني ؟
* * *
__________
(1) من قصيدته في جمهرة أشعار العرب : 173 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 118 ،
160 ، يقول لابنته خليدة : لَمَّا رَأَتْ أَرَقِي وَطُولَ تَلَدُّدِي ... ذَاتَ
الْعِشَاء وَلَيْلَيِ الْمَوْصُولا
قَالَتْ خُلَيْدَةُ : مَا عَرَاكَ ، وَلَمْ تَكُنْ ... أَبَدًا إِذَا عَرَتِ
الشُّئُونُ سَؤُولا
أَخُلَيْدَ ، إِنَّ أَبَاكِ ضَافَ وِسَادَهُ ... هَمَّان باتَا جَنْبَةً وَدَخِيلا
طَرَقَا ، فَتِلْكَ هَمَا هِي.... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
" الهماهم " : الهموم. و " قلص " جمع " قلوص " :
الفتية من الإبل. " لواقح " : حوامل ، جمع " لاقح " . و
" الحول " ، جمع " حائل " ، وهي الناقة التي لم تحمل سنة أو
سنتين أو سنوات ، وكذلك كل حامل ينقطع عنها الحمل. يقول : أجعل قرى هذه الهموم ،
نوقًا هذه صفاتها ، كأنها قسى موترة من طول أسفارها ، فأضرب بها الفيافي.
والشاهد الذي أراده الطبري أنه قال : " فتلك هماهمي " ، وقد ذكر قبل
" همان " ، ثم عاد بعد يقول : " أقريهما " ، وقد قال : "
فتلك هماهمي " جمعًا. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 118 ، 160.
(10/149)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) }
قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : الله المعبودُ ، هو القادر على كل شيء ، والمالك
كلَّ شيء ، الذي لا يعجزُه شيء أراده ، ولا يغلبه شيء طلبه ، المقتدرُ على هلاك
المسيح وأمه ومن في الأرض جميعًا لا العاجز الذي لا يقدر على منع نفسه من ضُرّ نزل
به من الله ، ولا منْعِ أمّه من الهلاك. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " قدير " فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/150)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ
فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل وعز عن قوم من اليهود والنصارى أنهم قالوا هذا
القول.
* * *
وقد ذكر عن ابن عباس تسمية الذين قالوا ذلك من اليهود.
11613 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني
محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن
عباس قال : أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نعمانُ بن أضَاء (1) وبحريّ بن عمرو
، وشأس بن عدي ، فكلموه ، فكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الله
وحذّرهم نقمته ، فقالوا : ما تُخَوّفنا ،
__________
(1) في المطبوعة : " نعمان بن أحي ، ويحرى بن عمرو.. " ، وفي المخطوطة :
" عثمان بن أصار ويحوى بن عمرو... " ، وكلاهما خطأ ، وصوابه من سيرة ابن
هشام.
(10/150)
يا محمد!! نحن والله أبناء الله
وأحبَّاؤه!! (1) كقول النصارى ، فأنزل الله جل وعز فيهم : " وقالت اليهودُ
والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " ، إلى آخر الآية. (2)
* * *
وكان السدي يقول في ذلك بما :
11614 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " ، أما "
أبناء الله " ، فإنهم قالوا : إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدًا من ولدك ،
(3) أدخلهم النار ، فيكونون فيها أربعين يومًا حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ، ثم
ينادي منادٍ : أن أخرجوا كل مختون من ولدِ إسرائيل ، فأخرجهم. فذلك قوله : ( لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ) [سورة آل عمران : 24]. وأما
النصارى ، فإن فريقًا منهم قال للمسيح : ابن الله. (4)
* * *
والعرب قد تخرج الخبرَ ، إذا افتخرت ، مخرجَ الخبر عن الجماعة ، وإن كان ما افتخرت
به من فعل واحد منهم ، فتقول : " نحن الأجواد الكرام " ، وإنما الجواد
فيهم واحدٌ منهم ، وغير المتكلِّم الفاعلُ ذلك ، كما قال جرير :
نَدَسْنَا أَبَا مَنْدُوسَةَ القَيْنَ بِالقَنَا... وَمَارَ دَمٌ مِنْ جَارِ
بَيْبَةَ نَاقعُ (5)
__________
(1) في المخطوطة : " نحن أبناء الله وأحباءه ، بل أنتم بشر ممن خلق " ،
وهو من عجلة الناسخ لا شك في ذلك.
(2) الأثر : 11613 - سيرة ابن هشام 2 : 212 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 11557.
(3) في المخطوطة : " إلى بني إسرائيل إن ولدك من الولد فأدخلهم النار "
، وهو خلط بلا معنى ، صوابه ما في المطبوعة على الأرجح.
(4) الأثر : 11614 - لم يمض هذا الأثر في تفسير آية سورة البقرة : 80 (2 : 274 -
278) ، ولا آية سورة آل عمران : 24 (6 : 292 ، 293). وهذا أيضا من الأدلة على
اختصار أبي جعفر تفسيره.
(5) ديوانه : 372 ، والنقائض : 693 ، واللسان (بيب) (مور) (ندس). و " ندس
" : طعن طعنًا خفيفًا. و " أبو مندوسة " ، هو مرة بن سفيان بن
مجاشع ، جد الفرزذق. قتلته بنو يربوع - قوم جرير - في يوم الكلاب الأول. و "
القين " لقب لرهط الفرزدق ، يهجون به. و " جاربيبة " ، هو الصمة بن
الحارث الجشمي ، قتله ثعلبة بن حصبة ، وهو في جوار الحارث بن بيبة بن قرط بن سفيان
بن مجاشع ، من رهط الفرزدق. و " مار الدم على وجه الأرض " : جرى وتحرك
فجاء وذهب. و " دم ناقع " ، أي : طري لم ييبس.
(10/151)
فقال : " نَدَسْنَا " ،
وإنما النادس رجل من قوم جريرٍ غيرُه ، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن جماعة هو أحدهم.
فكذا أخبر الله عزّ ذكره عن النصارى أنها قالت ذلك ، على هذا الوجه إن شاء الله.
* * *
وقوله : " وأحباؤه " ، وهو جمع " حبيب " .
* * *
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " قل " لهؤلاء الكذبة
المفترين على ربهم " فلم يعذبكم " ربكم ، يقول : فلأي شيء يعذبكم ربكم
بذنوبكم ، إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحبّاؤه ، فإن الحبيب لا يعذِّب
حبيبه ، وأنتم مقرُّون أنه معذبكم ؟ وذلك أن اليهود قالت : إن الله معذبنا أربعين
يومًا عَدَد الأيام التي عبدنا فيها العجل ، (1) ثم يخرجنا جميعًا منها ، فقال
الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم : إن كنتم ، كما تقولون ، أبناءُ الله
وأحباؤه ، فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ يعلمهم عز ذكره أنَّهم أهل فرية وكذب على الله جل
وعز.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ
لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لنبيه محمّدٍ صلى الله عليه وسلم ، قل لهم : ليس
الأمر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه " بل أنتم بشر ممن خلق " ،
يقول : خلق من بني آدم ، خلقكم الله مثل سائر بني آدم ، (2) إن أحسنتم جُوزيتم
بإحسانكم ،
__________
(1) انظر ما سلف 6 : 292.
(2) انظر تفسير " بشر " فيما سلف 6 : 538.
(10/152)
كما سائر بني آدم مجزيُّون بإحسانهم ،
وإن أسأتم جوزيتم بإساءتكم ، كما غيركم مجزيٌّ بها ، ليس لكم عند الله إلا ما
لغيركم من خلقه ، فإنه يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان به ذنوبَه ، فيصفح عنه بفضله
، ويسترها عليه برحمته ، فلا يعاقبه بها.
* * *
وقد بينا معنى " المغفرة " ، في موضع غير هذا بشواهده ، فأغنى ذلك عن
إعادته في هذا الموضع. (1) .
* * *
" ويعذب من يشاء " يقول : ويعدل على من يشاء من خلقه فيعاقبه على ذنوبه
، ويفضَحه بها على رءوس الأشهاد فلا يسترها عليه.
* * *
وإنما هذا من الله عز وجل وعيد لهؤلاء اليهود والنصارى المتّكلين على منازل
سَلَفهم الخيارِ عند الله ، الذين فضلهم الله جل وعز بطاعتهم إياه ، واجتباهم
لمسارعتهم إلى رضاه ، (2) واصطبارهم على ما نابهم فيه. (3) يقول لهم : لا تغتروا
بمكان أولئك مني ومنازلهم عندي ، فإنهم إنما نالوا ما نالوا منّي بالطاعة لي ،
وإيثار رضاي على محابِّهم (4) لا بالأماني ، فجدُّوا في طاعتي ، وانتهوا إلى أمري
، وانزجروا عما نهيتُهم عنه ، فإني إنما أغفر ذنوب من أشاء أن أغفر ذنوبه من أهل
طاعتي ، وأعذّب من أشاء تعذيبه من أهل معصيتي (5) لا لمن قرَّبتْ زُلْفَةُ آبائه
مني ، وهو لي عدوّ ، ولأمري ونهيي مخالفٌ.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 109 ، 110 ، ثم سائر فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة : " واجتنابهم معصيته لمسارعتهم " ، لم يحسن قراءة
المخطوطة ، لأنها غير منقوطة ، وزاد " معصيته " لتستقيم له قراءته. و
" الاجتباء " : الاصطفاء والاختيار.
(3) في المخطوطة : " إلى ما نابهم فيه " ، والجيد ما في المطبوعة.
(4) يقول : " نالوا ما نالوا مني بالطاعة لي.. لا بالأماني " . هكذا
السياق.
(5) يقول : " فإني أغفر ذنوب من أشاء.. لا لمن قربت زلفة آبائه مني " ،
هكذا السياق.
(10/153)
وكان السدي يقول في ذلك بما : -
11615 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " ، يقول : يهدي منكم من
يشاء في الدنيا فيغفر له ، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذِّبه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) }
قال أبو جعفر يقول : لله تدبيرُ ما في السموات وما في الأرض وما بينهما ، وتصريفُه
، وبيده أمره ، وله ملكه ، (1) يصرفه كيف يشاء ، ويدبره كيف أحبّ ، (2) لا شريك له
في شيء منه ، ولا لأحدٍ معهُ فيه ملك. فاعلموا أيها القائلون : " نحن أبناء
الله وأحباؤه " ، أنه إن عذبكم بذنوبكم ، لم يكن لكم منه مانع ، ولا لكم عنه
دافع ، لأنه لا نسب بين أحد وبينه فيحابيه لسبب ذلك ، ولا لأحد في شيء دونه ملك ،
فيحول بينه وبينه إن أراد تعذيبه بذنوبه ، (3) وإليه مصير كل شيء ومرجعه. فاتَّقوا
أيها المفترون ، عقابَه إياكم على ذنوبكم بعد مرجعكم إليه ، ولا تغتروا بالأمانيّ
وفضائل الآباء والأسلاف.
* * *
__________
(1) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف قريبا ص : 148 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(2) في المطبوعة : " كيف أحبه " ، وأثبت الجيد من المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " بذنبه " ، وفي المخطوطة : " بدونه " ،
ورجحت ما أثبت.
(10/154)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
القول في تأويل قوله عز ذكره : { يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ
مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يا أهل الكتاب " ، اليهودَ
الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزلت هذه
الآية. وذلك أنهم أو : بعضهم ، فيما ذكر لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى الإيمان به وبما جاءهم به من عند الله ، قالوا : ما بعثَ الله من نبيّ بعد
موسى ، ولا أنزل بعد التوراة كتابًا!
11616 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني
محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن
عباس قال : قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود : يا معشر اليهود ،
اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله! لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مَبعثه
، وتصفونه لنا بصفته! فقال رافع بن حُرَيملة ووهب بن يهودا (1) ما قلنا هذا لكم ،
وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ، ولا أرسل بشيرًا ولا نذيرًا بعده! (2) فأنزل
الله عز وجل في [ذلك من] قولهما (3) " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين
لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشيرٌ ونذيرٌ
والله على كل شيء قدير " . (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " رافع بن حرملة " ، وفي المخطوطة : " نافع بن
حرملة " ، وأثبت ما في سيرة ابن هشام.
(2) في المخطوطة : " ولا أرسل بشيرًا ونذيرًا " ، والصواب ما في
المطبوعة كما في سيرة ابن هشام.
(3) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام.
(4) سيرة ابن هشام 2 : 212 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 11613.
(10/155)
ويعني بقوله جل ثناؤه : " فقد
جاءكم رسولنا " ، قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم رسولنا " يبين لكم
" ، يقول : يعرفكم الحقَّ ، ويوضح لكم أعلام الهدى ، ويرشدكم إلى دين الله
المرتضى ، (1) كما : -
11617 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : "
قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم
، جاء بالفرقان الذي فرَق الله به بين الحق والباطل ، فيه بيان الله ونوره وهداه ،
وعصمةٌ لمن أخذ به.
* * *
" على فترة من الرسل " ، يقول : على انقطاع من الرسل و " الفترة
" في هذا الموضع الانقطاع يقول : قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى ، على
انقطاع من الرسل.
* * *
و " الفترة " " الفعلة " من قول القائل : " فتر هذا
الأمر يفتُر فُتورًا " ، وذلك إذا هدأ وسكن. وكذلك " الفترة " في
هذا الموضع ، معناها : السكون ، يراد به سكون مجيء الرسل ، وذلك انقطاعها.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في قدر مدة تلك الفترة ، فاختلف في الرواية في ذلك عن قتادة.
فروى معمر عنه ما : -
11618 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " على فترة من الرسل " قال : كان بين عيسى ومحمَّدٍ صلى
الله عليه وسلم خمسمائة وستون سنة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التبيين " فيما سلف من فهارس اللغة ، مادة (بين).
(10/156)
وروى سعيد بن أبي عروبة عنه ما : -
11619 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كانت
الفترة بين عيسى ومحمّدٍ صلى الله عليهما ، ذكر لنا أنها كانت ستمائة سنة ، أو ما
شاء من ذلك ، والله أعلم. (1)
11620 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن
أصحابه قوله : " قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " ، قال :
كان بين عيسى ومحمد صلى لله عليهما خمسمائة سنة وأربعون سنة قال معمر ، قال قتادة
: خمسمائة سنة وستون سنة.
* * *
وقال آخرون بما : -
11621 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، أخبرنا
عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " على فترة من الرسل "
، قال : كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما ، أربعمائة سنة وبضعًا
وثلاثين سنة.
ويعني بقوله : " أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير " أن لا تقولوا ،
وكي لا تقولوا ، كما قال جل ثناؤه : ( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا )
[سورة النساء : 176] ، بمعنى : أن لا تضلوا ، وكي لا تضلوا.
* * *
فمعنى الكلام : قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ، كي لا تقولوا ما
جاءَنا من بشير ولا نذير. يعلمهم عز ذكره أنه قد قطَع عذرهم برسوله صلى الله عليه
وسلم ، وأبلغ إليهم في الحجة. (2)
__________
(1) كان في المطبوعة : " وما شاء الله " بالواو ، وفي المطبوعة
والمخطوطة : " الله أعلم " بغير واو. والصواب ما أثبت.
(2) انظر ما سلف 9 : 445 ، 446.
(10/157)
ويعني بـ " البشير " ،
المبشر من أطاع الله وآمن به وبرسوله ، وعمل بما آتاه من عند الله ، بعظيم ثوابه
في آخرته (1) وبـ " النذير " ، المنذر من عصاه وكذّب رسولَه صلى الله
عليه وسلم وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه ، بما لا قبل له به من أليم
عقابه في معاده ، وشديد عذابه في قِيامته.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لهؤلاء اليهود الذين وصفنا صفتهم : قد أعذرنا إليكم
، واحتججنا عليكم برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إليكم ، وأرسلناه إليكم ليبيّن
لكم ما أشكل عليكم من أمر دينكم ، كيلا تقولوا : " لم يأتنا من عندك رسولٌ
يبيِّن لنا ما نحن عليه من الضلالة " ، فقد جاءكم من عندي رسول يبشر من آمن
بي وعمل بما أمرته وانتهى عما نهيته عنه ، وينذر من عصاني وخالف أمري ، وأنا
القادر على كل شيء ، أقدر على عقاب من عصاني ، وثواب من أطاعني ، فاتقوا عقابي على
معصيتكم إياي وتكذيبكم رسولي ، واطلبوا ثوابي على طاعتكم إياي وتصديقكم بشيري
ونذيري ، فإني أنا الذي لا يعجزه شيء أرادَه ، ولا يفوته شيء طلبه. (2)
__________
(1) وانظر تفسير " البشارة " فيما سلف 9 : 318 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " قدير " فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/158)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
القول في تأويل عز ذكره : { وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُم }
قال أبو جعفر : وهذا أيضا من الله تعريفٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، قديمَ
تمادي هؤلاء اليهود في الغيّ ، وبعدِهم عن الحق ، وسوء اختيارهم لأنفسهم ، وشدة
خلافهم لأنبيائهم ، وبطء إنابتهم إلى الرشاد ، مع كثرة نعم الله عندهم ، وتتابع
أياديه وآلائه عليهم مسلِّيًا بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عما يحلّ به من
علاجهم ، وينزل به من مقاساتهم في ذات الله. يقول الله له صلى الله عليه وسلم : لا
تأسَ على ما أصابك منهم ، فإن الذهابَ عن الله ، والبعد من الحق ، وما فيه لهم
الحظ في الدنيا والآخرة ، من عاداتهم وعادات أسلافهم وأوائلهم وتعزَّ بما لاقى
منهم أخوك موسى صلى الله عليه وسلم واذْكُر إذ قال موسى لهم : " يا قوم
اذكروا نعمة الله عليكم " ، يقول : اذكروا أيادِي الله عندكم ، وآلاءه قبلكم
، (1) كما : -
11622 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن
عيينة : " اذكروا نعمة الله عليكم " ، قال : أيادي الله عندكم وأيَّامه.
(2)
11623 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس قوله : " اذكروا نعمة الله عليكم " يقول : عافية الله عز وجل.
* * *
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا ما قلنا ، لأن الله لم يخصص من النعم شيئًا ، بل عمَّ
ذلك بذكر النعم ، فذلك على العافية وغيرها ، إذ كانت " العافية " أحد
معاني " النعم " .
__________
(1) انظر تفسير " النعمة " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) الأثر : 11622 - " عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله بن أسامة
الأسدي الحميدي " . روى عن ابن عيينة ، والشافعي وهذه الطبقة. روى عن
البخاري. ومضى برقم : 9914.
(10/159)
القول في تأويل جل ثناؤه : { إِذْ
جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا }
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : أنَّ موسى ذكَّر قومه من بني إسرائيل بأيَّام
الله عندهم ، وبآلائه قبلهم ، مُحَرِّضهم بذلك على اتباع أمر الله في قتال
الجبارين ، (1) فقال لهم : اذكروا نعمة الله عليكم أنْ فضّلكم ، بأن جعل فيكم
أنبياء يأتونكم بوحيه ، ويخبرونكم بأنباء الغيب ، (2) ولم يعط ذلك غيركم في زمانكم
هذا. (3)
فقيل : إن الأنبياء الذين ذكَّرهم موسى أنهم جُعلوا فيهم : هم الذين اختارهم موسى
إذ صار إلى الجبل ، وهم السبعون الذين ذكرهم الله فقال : ( وَاخْتَارَ مُوسَى
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا ) [سورة الأعراف : 155].
* * *
" وجعلكم ملوكًا " سخر لكم من غيركم خدمًا يخدمونكم.
* * *
وقيل : إنما قال ذلك لهم موسى ، لأنه لم يكن في ذلك الزمان أحدٌ سواهم يخدُمه أحد
من بني آدم.
ذكر من قال ذلك :
11624 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "
وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياءَ
__________
(1) في المطبوعة : " فحرضهم بذلك " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " ويخبرونكم بآياته الغيب " ، وهو كلام فارغ من
المعنى ، وفي المخطوطة هكذا " بآياتنا الغيب " ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(3) انظر تفسير " نبي " فيما سلف 2 : 140 - 142/6 : 380 ، وغيرها في
فهارس اللغة.
(10/160)
وجعلكم ملوكًا " ، قال : كنا
نحدَّثُ أنهم أول من سُخِّر لهم الخدَم من بني آدم ومَلَكوا.
* * *
وقال آخرون : كل من ملك بيتًا وخادمًا وامرأةً ، فهو " ملك " ، كائنًا
من كان من الناس.
ذكر من قال ذلك :
11625 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا أبو هانئ :
أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل
فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال
: نعم! قال ألك مسكن تسكُنُه ؟ قال : نعم! قال : فأنت من الأغنياء! فقال : إنّ لي
خادمًا. قال : فأنت من الملوك. (1)
11626 - حدثنا الزبير بن بكار قال ، حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض قال : سمعت زيد بن
أسلم يقول : " وجعلكم ملوكًا " فلا أعلم إلا أنه قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : من كان له بيتٌ وخادم فهو ملك. (2)
11627 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا العلاء بن عبد الجبار ، عن
__________
(1) الأثر : 11625 - " أبو هانئ " ، هو : " حميد بن هانئ الخولاني
المصري " من ثقات التابعين ، مضى : 6039 ، 6657.
و " أبو عبد الرحمن الحبلي " ، هو : " عبد الله بن يزيد المعافري
" ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 6657 ، 9483.
وهذا حديث صحيح ، رواه مسلم في صحيحه 18 : 109 ، 110 ، من طريق أبي الطاهر أحمد بن
عمرو بن سرح ، عن ابن وهب ، بإسناده ، مطولا.
وقصر السيوطي في الدر المنثور 1 : 270 فقال " أخرجه سعيد بن منصور " ،
واقتصر عليه.
(2) الأثر : 11626 - " الزبير بن بكار " شيخ الطبري ، مضى برقم : 7855.
" وأنس بن عياض بن ضمرة " ، ثقة. مضى برقم : 7 ، 1679.
والحديث خرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 270 ، ولم ينسبه لابن جرير ، ونسبه
للزبير بن بكار في الموفقيات ، ولأبي داود في مراسيله. وذكره ابن كثير في تفسيره 3
: 112 ، 113 ، وقال : " وهذا مرسل غريب " .
(10/161)
حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن :
أنه تلا هذه الآية : " وجعلكم ملوكًا " ، فقال : وهل المُلْك إلا مركبٌ
وخادمٌ ودار ؟
فقال قائلو هذه المقالة : إنما قال لهم موسى ذلك ، لأنهم كانوا يملكون الدّور
والخدم ، ولهم نساءٌ وأزواج.
ذكر من قال ذلك :
11628 - حدثنا سفيان بن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن منصور قال : أراه عن
الحكم : " وجعلكم ملوكًا " ، قال : كانت بنو إسرائيل إذا كان للرجل منهم
بيتٌ وامرأة وخادم ، عُدَّ ملكًا.
11629 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ح ، وحدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي
، عن سفيان عن منصور ، عن الحكم : " وجعلكم ملوكًا " قال : الدار
والمرأة ، والخادم قال سفيان : أو اثنتين من الثلاثة. (1)
11630 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن
رجل ، عن ابن عباس في قوله : " وجعلكم ملوكًا " قال : البيت والخادم.
11631 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن
منصور ، عن الحكم أو غيره ، عن ابن عباس في قوله : " وجعلكم ملوكًا "
قال : الزوجة والخادم والبيت.
11632 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " وجعلكم ملوكًا " قال : جعل لكم أزواجًا
وخدمًا وبيوتًا.
11633 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة : " واثنتين " بالواو ، والصواب من المخطوطة.
(10/162)
أبو معاوية ، عن حجاج بن تميم ، عن
ميمون بن مهران ، عن ابن عباس في قول الله : " وجعلكم ملوكًا " قال :
كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمَّى مَلِكًا. (1)
11634 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " وجعلكم ملوكًا " قال : مُلْكُهم الخدم قال قتادة :
كانوا أوَّل من مَلك الخدم.
11635 - حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال ، حدثنا سفيان ،
عن الأعمش ، عن مجاهد : " وجعلكم ملوكًا " قال : جعل لكم أزواجًا وخدمًا
وبيوتًا.
* * *
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : " وجعلكم ملوكًا " أنهم يملكون أنفُسَهم
وأهلِيهم وأموالهم.
ذكر من قال ذلك :
11636 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وجعلكم ملوكًا " يملك الرجل منكم نفسَه وأهلَه ومالَه.
__________
(1) الأثر : 11633 - " علي بن محمد بن إسحق الطنافسي " ، روى عن أبي
معاوية الضرير. ثقة صدوق. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/1/202. وكان في
المخطوطة " الطيالسي " ، وهو خطأ من الناسخ.
و " أبو معاوية " الضرير ، هو : " محمد بن خازم التميمي " .
ثقة كثير الحديث ، كان يدلس. مضى برقم : 2783.
و " حجاج بن تميم الجزري " . روى عن ميمون بن مهران ، وروى عنه أبو
معاوية الضرير. قال النسائي : " ليس بثقة " ، وقال الأزدي : " ضعيف
" . وقال العقيلي : " روى عن ميمون بن مهران أحاديث لا يتابع عليها
" . وقال ابن حبان في الثقات : " روى عن ميمون بن مهران. روى عنه أبو
معاوية الضرير " . مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة والمطبوعة : "
حجاج بن نعيم " ، وهو خطأ محض كما ترى.
(10/163)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) }
قال أبو جعفر : اختلف فيمن عنوا بهذا الخطاب.
فقال بعضهم : عني به أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك :
11637 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن
أبي مالك وسعيد بن جبير : " وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين " ،
قالا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون : عُنِي به قوم موسى صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك :
11638 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد قال ، هم قوم موسى.
11639 - حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال ، حدثنا سفيان ،
عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين
" ، قال : هم بين ظهرانيه يومئذٍ. (1)
* * *
ثم اختلفوا في الذي آتاهمُ الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين.
__________
(1) الأثر 11639 - هذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2 : 311 ، 312 ، من طريق
مصعب بن المقدام ، عن سفيان بن سعيد ، عن الأعمش ، مطولا. ونصه : " الذين هم
بين ظهرانيهم يومئذ " . وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم
يخرجاه " . ووافقه الذهبي.
والذي في نص الطبري " هم بين ظهرانيه يومئذ " ، الضمير بالإفراد ، كأنه
يعني " العالم " الذي هم بين ظهرانيه يومئذ.
والخبر خرجه السيوطه في الدر المنثور 1 : 269 ، وزاد نسبته للفريابي ، وابن المنذر
، والبيهقي في شعب الإيمان.
(10/164)
فقال بعضهم : هو المنّ والسلوى والحجر
والغمام. (1)
ذكر من قال ذلك :
11640 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد :
" وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين " قال : المنّ والسلوى والحجر
والغمام.
11641 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " ، يعني : أهل
ذلك الزمان ، المنَّ والسلوى والحجر والغمام.
* * *
وقال آخرون : هو الدَّار والخادِم والزوجة.
ذكر من قال ذلك :
11642 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا بشر بن السري ، عن طلحة بن
عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس : " وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين "
قال : الرجل يكون له الدار والخادم والزوجة. (2)
11643 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن
مجاهد ، عن ابن عباس : " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " ، المنّ والسلوى
والحجر والغمام.
* * *
__________
(1) " الحجر " ، يعني الحجر الذي ضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا
عشرة عينًا. وانظر ما سلف 2 : 119 - 122.
(2) الأثر : 11642 - " بشر بن السري البصري " ، أبو عمرو الأفوه ، ثقة
كثير الحديث. روى له الجماعة ، وهو من شيوخ أحمد. مترجم في التهذيب.
و " طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي " ، روى عن عطاء بن أبي رباح ، وسعيد
بن جبير وغيرهما. ضعيف جدًا ، قال أحمد : " لا شيء ، متروك الحديث " .
وقال ابن عدي : " روى عنه قوم ثقات ، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه " .
وقال ابن حبان : " لا يحل كتب حديثه ولا الرواية عنه ، إلا على جهة التعجب
" . مترجم في التهذيب.
(10/165)
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك
عندي بالصواب ، قولُ من قال : " وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين " ،
في سياق قوله : " اذكروا نعمة الله عليكم " ، ومعطوفٌ عليه. (1)
ولا دلالة في الكلام تدلّ على أن قوله : " وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من
العالمين " مصروف عن خطاب الذين ابتدئَ بخطابهم في أوّل الآية. فإذ كان ذلك
كذلك ، فأنْ يكون خطابًا لهم ، أولى من أن يقال : هو مصروف عنهم إلى غيرهم.
فإن ظن ظان أن قوله : " وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين " ، لا يجوز
أن يكون لهم خطابًا ، (2) إذ كانت أمة محمَّد قد أوتيت من كرامة الله جلّ وعزّ
بنبيِّها عليه السلام محمّدٍ ، ما لم يُؤتَ أحدٌ غيرهم ، (3) وهم من العالمين (4)
فقد ظنَّ غير الصواب. وذلك أن قَوله : " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين
" ، خطاب من موسى صلى الله عليه وسلم لقومه يومئذٍ ، وعنى بذلك عالمي زمانه ،
لا عالمي كل زمان. ولم يكن أوتي في ذلك الزمان من نِعَم الله وكرامته ، ما أوتي
قومُه صلى الله عليه وسلم ، أحد من العالمين. (5) فخرج الكلام منه صلى الله عليه
على ذلك ، لا على جميع [عالم] كلِّ زمان. (6)
* * *
__________
(1) لم يفهم ناشر المطبوعة عربية أبي جعفر ، فجعل الكلام هكذا : " وآتاكم ما
لم يوت أحدا من العالمين ، خطاب لبني إسرائيل حيث جاء في سياق قوله : اذكروا نعمة
الله عليكم ومعطوفًا عليه " ، فغير وزاد وأساء وخان الأمانة!!
(2) في المطبوعة : " لا يجوز أن تكون خطابًا لبني إسرائيل " بزيادة
" لبني إسرائيل " ، وفي المخطوطة : " أن تكون له خطابا " ،
وصواب قراءتها ما أثبت.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " من كرامة الله نبيها عليه السلام محمدًا ما لم
يؤت أحدًا غيرهم " ، فأثبت زيادة المخطوطة ، وجعلت " نبيها "
" بنبيها " ، بزيادة الباء في أوله ، وجعلت " أحدًا " "
أحد " ، وذلك الصواب المحض.
(4) السياق : " فإن ظن ظان.. فقد ظن غير الصواب " .
(5) السياق : " ولم يكن أوتي في ذلك الزمان.. أحد من العالمين " .
(6) انظر تفسير " العالمين " فيما سلف 1 : 143 - 146/2 : 23 - 26/5 :
375/6 : 393.
(10/166)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { يَا
قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول موسى صلى الله عليه وسلم لقومه من
بني إسرائيل ، وأمرِه إياهم عن أمر الله إياه بأمرهم بدخول الأرض المقدسة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الأرض التي عناها بـ " الأرض المقدَّسة " .
فقال بعضهم : عنى بذلك الطورَ وما حوله.
ذكر من قال ذلك :
11644 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " الأرض المقدسة " الطور وما حوله.
11645 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
11646 - حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن
الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " ادخلوا الأرض المقدسة " ، قال :
الطور وما حوله.
* * *
وقال آخرون : هو الشأم.
ذكر من قال ذلك :
11647 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " الأرض المقدسة " قال : هي الشأم.
* * *
(10/167)
وقال آخرون : هي أرض أريحا.
ذكر من قال ذلك :
11648 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم " قال : أريحا.
11649 - حدثني يوسف بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : هي أريحا.
11650 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال ، حدثنا إبراهيم بن بشار قال ، حدثنا
سفيان ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : هي أريحا.
* * *
وقيل : إن " الأرض المقدسة " دمشق وفلسطين وبعض الأرْدُنّ.
* * *
وعنى بقوله : " المقدسة " المطهرة المباركة ، (1) كما : -
11651 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " الأرض المقدسة " ، قال : المباركة.
11652 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، بمثله.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : هي الأرض المقدّسة ، كما
قال نبي الله موسى صلى الله عليه ، لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض ، لا تُدرك
حقيقةُ صحته إلا بالخبر ، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به. غير أنها لن تخرج من
أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر ، لإجماع جميع أهل التأويل
والسِّير والعلماء بالأخبار على ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التقديس " فيما سلف 1 : 475 ، 476/2 : 322.
(10/168)
ويعني بقوله : " التي كتب الله
لكم " التي أثبت في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن ومنازل دون الجبابرة التي
فيها. (1)
* * *
فإن قال قائل : فكيف قال : " التي كتب الله لكم " ، وقد علمت أنَّهم لم
يدخلوها بقوله : " فإنها محرَّمة عليهم " ؟ فكيف يكون مثبتا في اللوح
المحفوظ أنها مساكن لهم ، ومحرمًا عليهم سكناها ؟
قيل : إنها كتبت لبني إسرائيل دارًا ومساكن ، وقد سكنوها ونزلوها وصارت لهم ، كما
قال الله جل وعز. وإنما قال لهم موسى : " ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله
لكم " ، يعني بها : كتبها الله لبني إسرائيل ، وكان الذين أمرهم موسى بدخولها
من بني إسرائيل ولم يعن صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ذكره كتبها للذين أمرهم
بدخولها بأعيانهم.
ولو قال قائل : قد كانت مكتوبة لبعضهم ولخاص منهم فأخرج الكلام على العموم ،
والمراد منه الخاص ، إذ كان يُوشع وكالب قد دخلا (2) وكانا ممن خوطب بهذا القول
كان أيضًا وجهًا صحيحًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.
11653 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، " التي كتب
الله لكم " ، التي وهب الله لكم.
* * *
وكان السدي يقول : معنى " كتب " في هذا الموضع ، بمعنى : أمر.
11654 - حدثنا بذلك موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ،
عن السدي : " ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم " ، التي أمركم
الله بها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " كتب " فيما سلف 9 : 262 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة : " يوشع وكلاب " ، وانظر ما سلف ص : 113 تعليق : 2.
(10/169)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَلا
تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز ذكره عن قيل موسى عليه السلام لقومه من بني
إسرائيل ، إذ أمرهم عن أمر الله عزّ ذكره إيّاه بدخول الأرض المقدسة ، أنه قال لهم
: امضُوا ، أيها القوم ، لأمر الله الذي أمركم به من دخول الأرض المقدسة "
ولا ترتدوا " يقول : لا ترجعوا القهقرى مرتدّين (1) " على أدباركم "
يعني : إلى ورائكم ، (2) ولكن امضوا قُدُمًا لأمر الله الذي أمركم به ، من الدخول
على القوم الذين أمركم الله بقتالهم والهجوم عليهم في أرضهم ، وأنّ الله عز ذكره
قد كتبها لكم مسكنًا وقرارًا.
ويعني بقوله : " فتنقلبوا خاسرين " ، أي : تنصرفوا خائبين هُلَّكًا. (3)
* * *
وقد بينا معنى " الخسارة " في غير هذا الموضع ، بشواهده المغنية عن
إعادته في هذا الموضع. (4)
* * *
فإن قال قائل : وما كان وجه قيل موسى لقومه ، إذْ أمرهم بدخول الأرض المقدسة :
" لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " ، أوَ يستوجب الخسارة من لم
يدخل أرضًا جعلت له ؟
__________
(1) انظر تفسير " ارتد " فيما سلف 3 : 163/4 : 316.
(2) انظر تفسير " الأدبار " فيما سلف 7 : 109.
(3) انظر تفسير " انقلب " فيما سلف 3 : 163/7 : 414. وكانت هذه العبارة
في المخطوطة والمطبوعة : " أنكم تنصرفوا خائبين هكذا " ، ورجحت أن صواب
قراءتها ما أثبت.
و " هلك " جمع " هالك " . وقد مر تفسيره " الخسارة
" بمعنى " الهلاك " .
(4) انظر تفسير " الخسارة " فيما سلف 9 : 224 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(10/170)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
قيل : إن الله عز ذكره كان أمرهم بقتال
من فيها من أهل الكفر به وفرض عليهم دخولها ، (1) فاستوجب القوم الخسارة بتركهم
إذًا فرض الله عليهم من وجهين : أحدُهما : تضييع فرض الجهاد الذي كان الله عز ذكره
فرضه عليهم والثاني : خلافهم أمر الله في تركهم دخول الأرض ، وقولهم لنبيهم موسى
صلى الله عليه وسلم إذ قال لهم : " ادخلوا الأرض المقدسة " : " إنا
لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون " .
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك بما :
11655 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : "
يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم " أمروا بها ، كما أمروا
بالصلاة والزكاة والحجِّ والعُمْرة.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا
جَبَّارِينَ }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن جواب قوم موسى عليه السلام ، إذ
أمرهم بدخول الأرض المقدسة : أنهم أبوا عليه إجابته إلى ما أمرهم به من ذلك ، (2)
واعتلّوا عليه في ذلك بأن قالوا ، إن في الأرض المقدسة التي تأمرنا بدخولها ،
قومًا جبارين لا طاقة لنا بحربهم ، ولا قوة لنا بهم. وسموهم " جبّارين "
، لأنهم كانوا لشدة بطشهم وعظيم خلقهم ، (3) فيما ذكر لنا ، قد قهروا سائر الأمم
غيرهم.
__________
(1) في المطبوعة : " كان أمره " ، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " إجابة إلى ما أمرهم " ، والسياق يقتضي ما
أثبت.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " بشدة بطشهم " ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(10/171)
وأصل " الجبار " ، المصلح
أمر نفسه وأمر غيره ، ثم استعمل في كل من اجترَّ نفعا إلى نفسه بحق أو باطل طلبَ
الإصلاح لها ، حتى قيل للمتعدِّي إلى ما ليس له بغيًا على الناس ، وقهرًا لهم ،
وعتوًّا على ربه " جبار " ، وإنما هو " فعّال " من قولهم :
" جبر فلان هذا الكسر " ، إذا أصلحه ولأمه ، ومنه قول الراجز : (1)
قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلهُ فَجَبَرْ... وَعَوَّرَ الرَّحمنُ مَنْ وَلَّي
العَوَرْ (2)
يريد : قد أصلح الدين الإله فصلح. ومن أسماء الله تعالى ذكره " الجبار "
، لأنه المصلحُ أمرَ عباده ، القاهرُ لهم بقدرته.
* * *
ومما ذكرته من عظم خلقهم ما : -
11656 - حدثني به موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي في قصة ذكرها من أمر مُوسى وبني إسرائيل ، قال ، ثم أمرهم بالسير إلى أريحا
وهي أرض بيت المقدس فساروا ، حتى إذا كانوا قريبًا منهم ، بعث موسى اثنى عشر
نقيبًا من جميع أسباط بني إسرائيل ، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبَّارين ،
فلقيهم رجل من الجبارين ، يقال له : " عاج " ، (3) فأخذ الاثنى عشر
فجعلهم في حُجْزَته ، وعلى رأسه حَمْلة حطب ، (4) وانطلق بهم
__________
(1) هو العجاج.
(2) ديوانه : 15 ، واللسان (جبر) (عور) ، وهو أول أرجوزته التي مدح بها عمر بن
عبيد الله بن معمر التيمي ، وقد مضت منها أبيات ، وذكرنا خبرها فيما سلف ، انظر 1
: 190/2 : 157/3 : 229/4 : 321. وقوله : " قد جبر الدين الإله " ، من
قولهم : " جبرت العظم " متعديًا ، " فجبر " ، لازمًا ، أي :
انجبر العظم نفسه. و " العور " في هذا الشعر هو قبح الأمر وفساده ، وترك
الحق فيه ، وليس من عور العين. و " عور الشيء " قبحه. يدعو فيقول : قبح
الله من اتبع الفساد واستقبله بوجهه. من قولهم " ولي الشيء وتولاه " ،
أي اتبعه وفي التنزيل : " ولكل وجهة هو موليها " ، أي مستقبلها ومتبعها
، فهذا تفسير البيت بلا خلط في تفسيره.
(3) في المطبوعة : " عوج " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو موافق لما سلف
رقم : 11572 ، وتاريخ الطبري.
(4) انظر ما سلف ص 112 تعليق : 1 ، 2 ، وما غيره ، مصحح المطبوعة السالفة هناك.
(10/172)
إلى امرأته فقال ، انظري إلى هؤلاء
القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا!! فطرحهم بين يديها ، فقال : ألا
أطحنهم برجلي ؟ فقالت امرأته : لا بل خلِّ عنهم حتى يُخْبروا قومهم بما رأوا! ففعل
ذلك. (1)
11657 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال ، حدثنا إبراهيم بن بشار قال ، حدثنا
سفيان قال ، قال أبو سعيد ، قال عكرمة ، عن ابن عباس قال : أمر موسى أن يدخل مدينة
الجبَّارين. قال : فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبًا من المدينة وهي أريحاء فبعث
إليهم اثنى عشر عينًا ، من كل سبطٍ منهم عينًا ، ليأتوه بخبر القوم. قال : فدخلوا
المدينة ، فرأوا أمرًا عظيمًا من هيئتهم وجثثهم وعظمهم ، فدخلوا حائطًا لبعضهم ،
فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه ، فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم ،
وتتبعهم. فكلما أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة ، وذهب إلى ملكهم
فنثرهم بين يديه ، فقال الملك : قد رأيتم شأننا وأمرنا ، اذهبوا فأخبروا صاحبكم.
قال : فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عايَنُوا من أمرهم.
11658 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : "
إن فيها قومًا جبَّارين " ، ذكر لنا أنهم كانت لهم أجسام وخِلَقٌ ليست
لغيرهم.
11659 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع قال : إن موسى عليه السلام قال لقومه : " إني سأبعث رجالا يأتونني
بخبرهم " وإنه أخذ من كل سبط رجلا فكانوا اثنى عشر نقيبًا ، فقال : "
سيروا إليهم وحدِّثوني حديثهم وما أمرهم ، ولا تخافوا ، إن الله معكم ما أقمتم
الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برُسله ، وعزرتموهم ، وأقرضُتم الله قرضًا حسنًا
" وإنّ القوم ساروا حتى هجموا عليهم ، (2) فرأوا أقوامًا لهم أجسام عجبٌ
عظمًا
__________
(1) الأثر : 11656 - مضى مطولا برقم : 11572 ، وهو في تاريخ الطبري 1 : 221 ، 222.
(2) في المطبوعة : " ثم إن القوم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/173)
وقوة ، وإنه فيما ذكر أبصرهم أحد
الجبَارين ، وهم لا يألون أن يخفُوا أنفسهم حين رأوا العجب. فأخذ ذلك الجبّار منهم
رجالا فأتى رئيسَهم ، فألقاهم قدّامه ، فعجبوا وضحكوا منهم. فقال قائل منهم :
" فإنّ هؤلاء زعموا أنهم أرادوا غزوكم " !! (1) وأنه لولا ما دفع الله
عنهم لقُتلوا ، وأنهم رجعوا إلى موسى عليه السلام فحدّثوه العجب.
11660 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " اثنى عشر نقيبًا " من كل سبط من بني
إسرائيل رجل ، أرسلهم موسى إلى الجبارين ، فوجدُوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان
منهم ، يلقونهم إلقاءً ، ولا يحمل عنقود عِنبهم إلا خمسة أنفُسٍ بينهم في خشبة ،
ويدخُل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس ، أو أربعة. (2)
11661 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، نحوه.
11662 - حدثني محمد بن الوزير بن قيس ، عن أبيه ، عن جويبر ، عن الضحاك : "
إن فيها قومًا جبارين " قال : سِفْلة لا خَلاقَ لهم. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " إن هؤلاء " ، بحذف الفاء ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر : 11660 - مضى هذا الأثر برقم : 11573 ، 11574.
(3) الأثر : 11662 - " محمد بن وزير بن قيس الواسطي " ، روى عن أبيه ،
وابن عيينة ، ويحيى بن سعيد القطان ، وغيرهم. روى عنه الترمذي وابن أبي حاتم ،
وغيرهما. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 4/1/115.
وأبوه " وزير بن قيس الواسطي " ، روى عن جويبر. مترجم في ابن أبي حاتم
4/2/44.
(10/174)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا
فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز ذكره عن قولِ قوم موسى لموسى ، جوابًا لقوله
لهم : " ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم " ، فقالوا : "
إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها " ، يعنون : [حتى يخرج] من الأرض المقدسة
الجبارون الذين فيها ، (1) جبنًا منهم ، وجزعًا من قتالهم. وقالوا له : إن يخرج
منها هؤلاء الجبارون دخلناها ، وإلا فإنا لا نُطيق دخولها وهم فيها ، لأنه لا طاقة
لنا بهم ولا يَدَان. (2)
11663 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، أن كالب بن يافنا ،
أسكت الشعْبَ عن موسى صلى الله عليه وسلم فقال لهم : إنا سنعلو الأرض ونرثُها ،
وإن لنا بهم قوّة! وأما الذين كانوا معه فقالوا : لا نستطيع أن نصل إلى ذلك الشعب
، من أجل أنهم أجرأ منا! ثم إن أولئك الجواسيس أخبروا بني إسرائيل الخبر ، وقالوا
: إنّا مررنا في أرض وحسسناها ، فإذا هي تأكل ساكنها ، ورأينا رجالهَا جسامًا ،
ورأينا الجبابرة بني الجبابرة ، وكنا في أعينهم مثل الجراد! فأرجفت الجماعة من بني
إسرائيل ، فرفعوا أصواتهم بالبكاء. فبكى الشعب تلك الليلة ، ووسوسُوا على موسى
وهارون ، (3) فقالوا لهما : يا ليتنا مِتنا في أرض مصر! وليتنا نموت في هذه البرية
، ولم يدخلنا الله هذه الأرض لنقع في الحرب ، فتكون نساؤنا وأبناؤنا وأثقالنا
غنيمًة! ولو كنا قعودًا في أرض مصر ، كان خيرًا لنا وجعل الرجل يقول لأصحابه :
تعالوا نجعل علينا رأسًا وننصرف إلى مصر.
* * *
__________
(1) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.
(2) في المطبوعة : " ولا يد " ، وفي المخطوطة " ولا يدان "
غير منقوطة.
(3) " وسوس عليه " ، انظر تفسيرها في الأثر رقم : 11697 ص : 195 ، تعليق
: 7.
(10/175)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : {
قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز ذكره عن الرجلين الصَّالحين من قوم موسى :
" يوشع بن نون " و " كالب بن يافنا " ، أنهما وفَيا لموسى بما
عهد إليهما من ترك إعلام قومِه بني إسرائيل الذين أمرَهم بدخول الأرض المقدسة على
الجبابرة من الكنعانيين بما رأيا وعاينا من شدّة بطش الجبابرة وعِظم خلقهم ،
ووصفهما الله عز وجل بأنهما ممن يخاف الله ويراقبه في أمره ونهيه ، كما : -
11664 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ح ، وحدثنا
ابن وكيع قال حدثنا أبي ، عن سفيان ح ، وحدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان
عن منصور ، عن مجاهد : " قال : رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما
" ، قال : كلاب بن يافنا ، (1) ويوشع بن نون.
11665 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن منصور ، عن
مجاهد قال : " رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " ، قال : يوشع
بن نون ، وكلاب بن يافنا ، (2) وهما من النقباء.
11666 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قصة ذكرها ، قال : فرجع النقباء ، كلُّهم ينهى سِبْطه عن
قتالهم ، إلا يوشع بن نون ، وكلاب بن يافنة ، (3) يأمران الأسباط بقتال الجبارين
ومجاهدتهم ، فعصوهما ، وأطاعوا الآخرين ، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما.
(4)
__________
(1) في المطبوعة الموضعين : " يوفنة " ، وفي المخطوطة في الموضعين :
" فانيا " ، وانظر ص : 113 تعليق : 2.
(2) في المطبوعة : " يوفنا " ، وفي المخطوطة : " فانيه " .
وانظر التعليق على الأثر : 11573.
(3) في المطبوعة : " يوفنا " ، وفي المخطوطة : " فانيه " .
وانظر التعليق على الأثر : 11573.
(4) الأثر : 11666 - مضى هذا الخبر برقم : 11573 ، ومضى صدره قريبًا برقم : 11660.
(10/176)
11667 - حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع
قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثل حديث ابن بشار ، عن ابن مهدي إلا أنّ
ابن حميد قال في حديثه : هما من الاثنى عشر نقيبًا.
11668 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال ، حدثنا إبراهيم بن بشار قال ، حدثنا
سفيان قال ، قال أبو سعيد ، قال عكرمة ، عن ابن عباس في قصة ذكرها. قال : فرجعوا
يعني النقباء الاثنى عشر إلى موسى ، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم ، فقال لهم موسى
: اكتموا شأنهم ، ولا تخبروا به أحدًا من أهل العسكر ، فإنكم إن أخبرتموهم بهذا
الخبر فَشِلوا ولم يدخلوا المدينة. (1) قال : فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابنَ
عمه ، إلا هذين الرجلين يوشع بن نون ، وكلاب بن يوفنة فإنهما كتما ولم يخبرا به
أحدًا ، وهما اللذان قال الله عز وجل : " قال رجلان من الذين يخافون أنعم
الله عليهما " ، إلى قوله : " وبين القوم الفاسقين " .
11669 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " ، وهما اللذان
كتماهم : يوشع بن نون فتى موسى ، (2) وكالوب بن يوفنة ختَنُ موسى.
11670 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا عبيد الله ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية : "
قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " ، كالوب ، ويوشع بن النون فتى
موسى. (3)
11671 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي
__________
(1) " فشل " : جبن ونكص.
(2) في المخطوطة : " هو يوشع بن النون " ، وأظن أصلها " هوشع بن
النون " ، كما سلف في ص : 113 ، تعليق : 2. وكان في المطبوعة هنا " نون
" ، فأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " بن نون " ، في الموضعين ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/177)
قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن
عباس قوله : " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " ، والرجلان
اللذان أنعم الله عليهما من بني إسرائيل : يوشع بن النون ، وكالوب بن يوفنة.
11672 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " قال
رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " ذكر لنا أن الرجلين : يوشع بن نون
وكالب.
11673 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن
أبيه ، عن الربيع : أن موسى قال للنقباء لمَّا رجعوا فحدثوه العجبَ : " لا
تحدثوا أحدًا بما رأيتم ، إن الله سيفتحها لكم ويظهركم عليها من بعد ما رأيتم
" وإن القوم أفشوا الحديث في بني إسرائيل ، فقام رجلان من الذين يخافون أنعم
الله عليهما ، (1) كان أحدهما ، فيما سمعنا ، يوشع بن نون وهو فتى موسى ، والآخر
كالب - فقالا " ادخلوا عليهم الباب " إلى " إن كنتم مؤمنين "
. (2)
* * *
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : " قال رجلان من الذين يخافون
" .
قرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشام : ( قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ) بفتح " الياء " من " يخافون " ،
على التأويل الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه آنفًا ، أنهما يوشع بن نون وكالب ، من قوم
موسى ، ممن يخاف الله ، وأنعمَ عليهما بالتوفيق.
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " فقام رجلان هما اللذان يخافون.. " ، والذي في
المطبوعة هو الصواب.
(2) في المطبوعة : " ادخلوا عليهما الباب إن كنتم مؤمنين " ، وهو غير
صواب ، والصواب من المخطوطة.
(10/178)
وكان قتادة يقول : في بعض القراءة : (
قَالَ رَجُلانِ مِنَ الذِينَ يَخَافُونَ اللهَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ).
11674 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ح ، وحدثنا الحسن
بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : " قال رجلان
من الذين يخافون أنعم الله عليهما " ، في بعض الحروف : ( يَخَافُونَ اللهَ
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ).
* * *
وهذا أيضا مما يدل على صحة تأويل من تأوَّل ذلك على ما ذكرنا عنه أنه قال : يوشع ،
وكالب.
* * *
وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ ذلك : ( قَالَ رَجُلانِ مِنَ الذِينَ
يُخَافُونَ ) بضم الياء( أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ).
11675 - حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا هشيم ،
عن القاسم بن أبي أيوب ولا نعلمه أنه سمع منه عن سعيد بن جبير : أنه كان يقرؤها
بضم الياء من : (يُخافُونَ).
وكأن سعيدًا ذهب في قراءته هذه إلى أن الرجلين اللذين أخبر الله عنهما أنهما قالا
لبني إسرائيل : " ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " ،
كانا من رهط الجبابرة ، وكانا أسلما واتَّبعا موسى ، فهما من أولاد الجبابرة الذين
يخافهم بنو إسرائيل ، (1) وإن كانوا لهم في الدين مخالفين. (2)
* * *
وقد حكي نحو هذا التأويل عن ابن عباس.
__________
(1) في المخطوطة : " فهم من أولاد الجبابرة " ، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة : " وإن كانا لهم في الدين مخالفين " ، وفي المخطوطة :
" وإن كانوا لهم في الدنيا مخالفين " ، والصواب المحض ما أثبته.
(10/179)
11676 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد
الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ادخلوا الأرض
المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " ، قال :
هي مدينةُ الجبارين. لما نزل بها موسى وقومه ، بعث منهم اثني عشر رجلا وهم النقباء
الذين ذكر بعثتهم (1) ليأتوه بخبرهم. فساروا ، فلقيهم رجل من الجبارين ، فجعلهم في
كسائه ، فحملهم حتى أتى بهم المدينة ، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه ، فقالوا : من
أنتم ؟ فقالوا : نحن قوم موسى ، بعثَنا إليكم لنأتيه بخبركم! فأعطوهم حبَّة من
عِنب بوِقْر الرجل ، (2) فقالوا لهم : اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم : اقدُروا
قَدْر فاكهتهم! فلما أتوهم قالوا لموسى : " اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنّا ههنا
قاعدون " ! " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " ، وكانا
من أهل المدينة أسلَما واتّبعا موسى وهارون ، فقالا لموسى : " ادخلوا عليهم
الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكَّلوا إن كنتم مؤمنين " .
* * *
قال أبو جعفر : فعلى هذه القراءة وهذا التأويل ، لم يكتم من الاثنى عشر نقيبًا
أحدٌ ، ما أمرهم موسى بكتمانه بني إسرائيل مما رأوا وعاينوا من عظم أجسام الجبابرة
، وشدة بطشهم ، وعجيب أمورهم ، بل أفشوا ذلك كله. وإنما القائل للقوم ولموسى :
" ادخلوا عليهم الباب " ، رجلان من أولاد الذين كان بنو إسرائيل
يخافونهم ويرهبون الدخولَ عليهم من الجبابرة ، كان أسلما وتبعا نبيَّ الله صلى الله
عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب عندنا ، قراءةُ من قرأ :
__________
(1) في المطبوعة : " ذكر نعتهم " ، وفي المخطوطة : " ذكر بعثهم
" ، وكتبتها " بعثتهم " ، ويعني بذلك ما جاء في الآية السالفة من
هذه السورة : 10 " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر
نقيبًا " .
(2) " الوقر " (بكسر فسكون) : الحمل والثقل.
(10/180)
( مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ
اللهُ عَلَيْهِمَا ) لإجماع قرأة الأمصار عليها وأنَّ ما استفاضت به القراءة عنهم
، فحجة لا يجوز خلافها ، وما انفرد به الواحد ، فجائز فيه الخطأ والسهو. ثم في
إجماع الحجةِ في تأويلها على أنهما رجلان من أصحاب موسى من بني إسرائيل وأنهما
يوشع وكلاب ، ما أغنى عن الاستشهاد على صحة القراءة بفتح " الياء " في
ذلك ، وفسادِ غيره. وهو التأويل الصحيحُ عندنا ، لما ذكرنا من إجماعها عليه.
* * *
وأما قوله : " أنعم الله عليهما " ، فإنه يعني : أنعم الله عليهم بطاعة
الله في طاعة نبيه موسى صلى الله عليه ، وانتهائهم إلى أمره ، والانزجار عما
زجرهما عنه صلى الله عليه وسلم ، من إفشاء ما عاينا من عجيب أمر الجبارين إلى بني
إسرائيل ، الذي حدّث عنه أصحابهما الآخرون الذين كانوا معهما من النقباء. (1)
* * *
وقد قيل إن معنى ذلك : أنعم الله عليهما بالخوف.
ذكر من قال ذلك :
11677 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا خلف بن تميم قال ، حدثنا
إسحاق بن القاسم ، عن سهل بن علي قوله : " قال رجلان من الذين يخافون أنعم
الله عليهما " ، قال : أنعم الله عليهما بالخوف. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " الذي حذر عنه أصحابهما الآخرين.. " ، وفي المخطوطة
: " الذي حول عنه أصحابهما الآخرون " ، وصواب قراءة ذلك ما أثبت ، ولا
معنى لتغيير ما غيره ناشر المطبوعة الأولى.
(2) الأثر : 11677 - " خلف بن تميم بن أبي عتاب التميمي " ، أبو عبد
الرحمن ثقة عابد. مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/180 ، وابن أبي حاتم 1/2/370.
و " إسحق بن القاسم " ، لم أجده.
وأما " سهل بن علي " ، فلم أجد من يسمى بذلك إلا " سهل بن علي
المروزي " ، روى عن المبارك. روى عنه المراوزة كلامه ، وتأدبوا بورعه. مترجم
في ابن أبي حاتم 2/1/203.
(10/181)
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان الضحاك
يقول ، وجماعة غيره.
11678 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثني عبيد بن سليمان قال ،
سمعت الضحاك يقول في قوله : " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما
" ، بالهدى فهداهما ، فكانا على دين موسى ، وكانا في مدينة الجبّارين.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا
دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول الرجلين اللذين يخافان الله لبني
إسرائيل ، إذ جبُنوا وخافوا من الدخول على الجبارين ، لمَّا سمعوا خبرهم ، وأخبرهم
النقباء الذين أفشَوْا ما عاينوا من أمرهم فيهم ، وقالوا : (1) " إن فيها
قومًا جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها " ، فقالا لهم : ادخلوا عليهم ،
أيها القوم بابَ مدينتهم ، فإن الله معكم ، وهو ناصركم ، وإنكم إذا دخلتم الباب
غلبتموهم ، كما : -
11679 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم
بالكتاب الأوَّل ، قال : لما هم بنو إسرائيل بالانصراف إلى مصر ، حين أخبرهم
النقباء بما أخبروهم من أمر الجبابرة ، خرَّ موسى وهارون على وجوههما سجودًا
قدِّام جماعة بني إسرائيل ، وخرَّق يوشع بن نون وكالب بن يافنا ثيابهما ، وكانا من
جواسيس الأرض ، وقالا لجماعة بني إسرائيل : " إن الأرض مررنا بها وحسِسْناها
صالحًة ، (2) رضيها ربُّنا لنا فوهبها لنا ، وإنها.. تفيض لبنًا وعسلا (3) ولكن
افعلوا واحدة :
__________
(1) السياق : .. إذ جبنوا وخافوا.. وقالوا " ، معطوفا على ذلك.
(2) " حس منه خيرًا وأحس " ، رآه وعلمه.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " وإنها لم تكن تفيض لبنًا وعسلا " ، وهو
لا يستقيم ، والذي جاء في كتاب القوم ، في سفر العدد ، في الإصحاح الثالث عشر :
" وحقًا إنها تفيض لبنًا وعسلا " ، وفي الرابع عشر وهو نص هذا الكلام
بالعربية " ويعطينا إياها أرضًا تفيض لبنًا وعسلا " . فحذفت " لم
تكن " ، ووضعت مكانها نقطًا ، مخافة أن تكون الكلمة محرفة عن شيء لم أعرفه.
(10/182)
لا تعصُوا الله ، ولا تخشوا الشعب
الذين بها ، فإنهم خُبْزُنا ، ومُدَفَّعون في أيدينا ، (1) إن كبرياءهم ذهبت منهم
، (2) وإن الله معنا فلا تخشوهم. فأراد جماعة من بني إسرائيل أن يرجموهما
بالحجارة.
11680 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا
أنهم بعثوا اثنى عشر رجلا من كل سبط رجلا عيونًا لهم ، وليأتوهم بأخبار القوم.
فأمَّا عشرة فجبَّنُوا قومهم وكرَّهوا إليهم الدخول عليهم. وأما الرجلان فأمرا
قومهما أن يدخلوها ، وأن يتبعوا أمر الله ، ورغَّبا في ذلك ، وأخبرا قومهما أنهم غالبون
إذا فعلوا ذلك.
11681 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " عليهم الباب " ، قرية الجبَّارين.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فإنهم جبناء مدفعون.. " ، وأثبت ما في المخطوطة ،
وهو مطابق لما في كتاب القوم في سفر العدد ، الإصحاح الرابع عشر. ويعني بقوله :
" خبرنا " ، أي هم طعمة لنا وغنيمة ، كما نقول بالعربية.
(2) في المطبوعة : " إن حاربناهم ذهبت منهم " ، ولا أدري ما هذا. وفي
المخطوطة : " إن حرباهم ذهبت منهم " . ورأيت أن أقرأها كذلك ، فإني رأيت
في كتاب القوم : " قد زال عنهم ظلهم ، والرب معنا " ، كأنه يعني : قد
ذهب عنهم ما كان ملازمًا لهم من الجرأة والقوة والبطش والمهابة.
هذا ، ومن المفيد أن تقارن هذا المروى عن ابن إسحق ، بترجمة التوراة الموجودة في
أيدينا ، فإن هذه الروايات عن ابن إسحق ، ترجمته قديمة للتوراة بلا شك. ولعل
متتبعًا يتتبع هذه الرواية عن ابن إسحق وغيره ، ويقارنها بالترجمة الموجودة الآن ،
فإن في ذلك فوائد تاريخية عظيمة ، وفوائد في مناهج الترجمة قديمًا وحديثًا.
(10/183)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : {
وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) }
قال أبو جعفر : وهذا أيضًا خبر من الله جل وعزّ عن قول الرجلين اللذين يخافان الله
، أنهما قالا لقوم موسى يشجعانهم بذلك ، ويرغِّبانهم في المضيّ لأمر الله بالدخول
على الجبارين في مدينتهم توكلوا أيها القوم ، على الله في دخولكم عليهم ، فيقولان
لهم : (1) ثقوا بالله ، (2) فإنه معكم إن أطعتموه فيما أمركم من جهاد عدوِّكم.
وعنيا بقولهما : " إن كنتم مؤمنين " إن كنتم مصدِّقي نبيكم صلى الله
عليه وسلم فيما أنبأكم عن ربَّكم من النصرة والظفر عليهم ، وفي غير ذلك من إخباره
عن ربه ومؤمنين بأن ربَّكم قادر على الوفاء لكم بما وعدكم من تمكينكم في بلاد
عدوِّه وعدوِّكم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ويقولان " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص : 108 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(10/184)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ
أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا (24) }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ذكره عن قول الملأ من قوم موسى لموسى ، إذ
رُغِّبوا في جهاد عدوِّهم ، ووعِدوا نصر الله إيَّاهم إن هم ناهضوهم ودخلوا عليهم
باب مدينتهم ، أنهم قالوا له : " إنا لن ندخلها أبدًا " يعنون : إنا لن
ندخل مدينتهم أبدًا.
(10/184)
و " الهاء والألف " في قوله
: " إنا لن ندخلها " ، من ذكر " المدينة " .
* * *
ويعنون بقولهم : " أبدًا " ، أيام حياتنا (1) " ما داموا فيها
" ، يعنون : ما كان الجبارُون مقيمين في تلك المدينة التي كتبها الله لهم
وأُمِروا بدخولها " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون " ، لا
نجيء معك يا موسى إن ذهبت إليهم لقتالهم ، ولكن نتركك تذهب أنت وحدك وربُّك
فتقاتلانهم.
* * *
وكان بعضهم يقول في ذلك : ليس معنى الكلام : اذهب أنت ، وليذهب معك ربك فقاتلا
ولكن معناه : اذهب أنت ، يا موسى ، وليعنك ربُّك. وذلك أن الله عز ذكره لا يجوز
عليه الذهاب. (2)
وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له ، لو كان الخبر عن قوم مؤمنين. فأمّا قومٌ
أهلُ خلافٍ على الله عز ذكره ورسوله ، فلا وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في
الله عز وجل وافتروا عليه ، إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم.
* * *
وقد ذكر عن المقداد أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، خلافَ ما قال قومُ
موسى لموسى.
11682 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي وحدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع عن
سفيان ، عن مخارق ، عن طارق : أن المقداد بن الأسود قال للنبي صلى الله عليه وسلم
: إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل : " اذهب أنت ورَبك فقاتلا إنّا ههنا
قاعدون " ، ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. (3)
__________
(1) انظر تفسير " أبدا " فيما سلف 9 : 227.
(2) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1 : 160 ، بمعناه ، وبغير لفظه.
(3) الأثر : 11682 - " مخارق " ، هو : " مخارق بن عبد الله بن جابر
البجلي الأحمسي " ، ويقال : " مخارق بن خليفة " . مترجم في
التهذيب.
و " طارق هو " طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي " ، رأى
النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى عنه مرسلا ، وروى عن الخلفاء الأربعة ، وهو من
أصحاب عبد الله بن مسعود. مترجم في التهذيب. ومضى برقم : 9744.
وهذا الخبر روي من طريق طارق ، مطولا ومختصرًا. رواه البخاري مختصرًا ، مرسلا
وموصولا في صحيحه (الفتح 8 : 205) ، ورواه مطولا موصولا (الفتح 7 : 223 - 227) ،
ورواه أحمد مطولا في مسند ابن مسعود برقم : 3698 ، 4070 ، 4376.
وهذا الخبر في مشورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل بدر لما وصل الصفراء ،
وبلغه أن قريشًا قصدت بدرًا ، وأن أبا سفيان نجا بما معه ، فاستشار الناس. وانظر
القصة مفصلة في كتب السير. ثم انظر الخبر التالي ، وأن ذلك كان يوم الحديبية.
(10/185)
11683 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد
قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لأصحابه يوم الحديبية ، حين صَدّ المشركون الهَدْيَ وحيل بينهم وبين مناسكهم :
" إني ذاهب بالهَدْيِ فناحِرُه عند البيت! فقال له المقداد بن الأسود : أمَا
والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذْ قالوا لنبيهم : " اذهب أنت وربك
فقاتِلا إنا ههنا قاعدون " ولكن : اذهب أنت وربك فقاتِلا إنّا معكم مقاتلون!
فلما سمعها أصحابُ نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم تتابعوا على ذلك. (1)
* * *
وكان ابن عباس والضحاك بن مزاحم وجماعة غيرهما يقولون : إنما قالوا هذا القول
لموسى عليه السلام ، حين تبيَّن لهم أمر الجبارين وشدّةُ بطشهم.
11684 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن
سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول : أمر الله جل وعزّ بني إسرائيل أن يسيروا إلى
الأرض المقدسة مع نبيهِّم موسى عليه السلام ، فلما كانوا قريبًا من المدينة قال
لهم موسى : " ادخلوها " ، فأبوا وجبُنوا ، وبعثوا اثنى عشر نقيبًا
لينظروا
__________
(1) الأثر : 11683 - كرر في المخطوطة هذا الأثر بإسناده ونصه ، ففي المرة الأولى
كتبه إلى قوله : " إنا معكم مقاتلون " ، ثم عاد فكتب الخبر نفسه بإسناده
، وأتمه على وجهه إلى آخره. والظاهر أنه وقف عند هذا الموضع ، ثم عاد يكتب ، وكان
الخبر قبله ينتهي أيضًا بقوله : " إنا معكم مقاتلون " ، فظن أن الذي كتب
هو الخبر الأول ، فعاد فكتب الخبر بإسناده من أوله إلى تمامه.
(10/186)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
إليهم ، فانطلقوا فنظروا فجاءوا بحبة
فاكهة من فاكهتهم بوِقْر الرجل ، فقالوا : اقدُرُوا قوّة قوم وبأسُهم هذه فاكهتهم!
فعند ذلك قالوا لموسى : " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " .
11685 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس ، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي
وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل وعز عن قيل قوم موسى حين قال له قومه ما قالوا
، من قولهم : " إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا
إنّا ههنا قاعدون " أنه قال عندَ ذلك ، وغضب من قيلهم له ، (1) داعيا : يا رب
إني لا أملك إلا نفسي وأخي يعني بذلك ، لا أقدر على أحد أن أحمله على ما أحب وأريد
من طاعتك واتّباع أمرك ونهيك ، إلا على نفسي وعلى أخي.
* * *
من قول القائل : " ما أملك من الأمر شيئا إلا كذا وكذا " ، بمعنى : لا
أقدر على شيء غيره. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " من قيلهم لهم " ، والسياق يقتضي "
له " ، وسياق العبارة : " أنه قال عند ذلك.. داعيًا : يا رب.. " .
(2) انظر تفسير " ملك " فيما سلف قريبًا ص : 105.
(10/187)
ويعني بقوله : " فافرق بيننَا
وبين القوم الفاسقين " ، افصل بيننا وبينهم بقضاء منك تقضيه فينا وفيهم
فتبعِدُهم منّا.
* * *
من قول القائل : " فَرَقت بين هذين الشيئين " ، بمعنى : فصلت بينهما ،
من قول الراجز : (1)
يَا رَبِّ فافْرُقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي... أَشَدَّ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَ اثْنَيْنَ
(2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
ذكر من قال ذلك :
11686 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال ، حدثني عمي
__________
(1) لعله : حبينة بن طريف العكلي. وانظر التعليق التالي. و " حبينة "
بالباء ، والنون وأخطأ من ظن أنه بنونين.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 160 ، وهكذا جاء هناك وهنا. وفي المخطوطة : "
يا رب فارق " ، وصححه في المطبوعة ، وجاء تصحيحه موافقًا لما في مجاز القرآن.
ولم أجد الرجز بهذا اللفظ ، وظني أنه رجز حبينة بن طريف العكلي ، له خبر طويل
(انظر تهذيب إصلاح المنطق 1 : 138) ، كان بينه وبين ليلى الأخيلية كلام ، فقال لها
: " أما والله لو أن لي منك النصف ، لسببتك سبًا يدخل معك قبرك!! " ثم
راجزها وفضحها ، فقال في رجزه ذلك : جَارِيَةٌ منْ شِعْب ذي رُعَيْنِ ...
حَيَّاكَةٌ تَمْشِي بِعُلْطَتَيْنِ
وَذِي هِبَابٍ نَعِظِ الْعَصْرَيْنِ ... قَدْ خَلَجَتْ بحاجِبٍ وعَيْنِ
يَا قَوْمِ خَلُّوا بَيْنَها وَبَيْنِي ... أَشَدَّ مَا خُلِّي بَيْنَ اثْنَيْنَ
لم يُلْقَ قَطُّ مِثْلَنَا سِيَّيْنِ
" حياكة " ، تحيك في مشيتها ، أي تتبختر. و " وتتثط بالعلطتان
" ، قلادتان أو ودعتان تكون في أعناق الصبيان ، " خجلت العين "
واضطربت. يصفها بالغمز للرجال. " سيين " : مثلين. و " هب التيس
هبابًا وهبيبًا " ، هاج ونب للسفاد.
وتجد هذا الشعر وخبره مفرقًا في المؤتلف والمختلف للآمدي : 97 ، وإصلاح المنطق :
89 ، وتهذيب إصلاح المنطق : 138 ، واللسان (خلج) (علط) (نعظ) (عرك) ، والمخصص 2 :
47. والشعر بهذه الرواية لا شاهد فيه.
(10/188)
قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن
عباس : " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " ، يقول : اقض بيني وبينهم.
11687 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس : " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " ، يقول : اقض بيننا وبينهم.
11688 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي ، قال : غضب موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له القوم : " اذهب أنت
وربك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون " ، فدعا عليهم فقال : " رب إنّي لا أملك
إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " ، وكانت عَجْلَةً من موسى
عِجلها. (1)
11689 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ،
سمعت الضحاك يقول في قوله : " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " ، يقول
: اقض بيننا وبينهم ، وافتح بيننا وبينهم كلّ هذا يقول الرجل : " اقض بيننا
" (2)
فقضاء الله جل ثناؤه بينه وبينهم : أن سماهم " فاسقين " . (3)
* * *
وعنى بقوله : " الفاسقين " الخارجين عن الإيمان بالله وبه إلى الكفر
بالله وبه.
* * *
وقد دللنا على أن معنى " الفسق " ، الخروج من شيء إلى شيء ، فيما مضى ،
بما أغنى عن إعادته. (4)
* * *
__________
(1) " عجلة " مصدر الواحدة من قولهم : " عجل " ، إذا أسرع.
(2) في المطبوعة : " كل هذا من قول الرجل " ، وأثبت ما في المخطوطة ،
وكأنه صواب ، وكأنه يقول " افرق بينا " و " اقض بينا " ، و
" افتتح بيننا " كل ذلك يقول الرجل بمعنى " اقض بيننا " .
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " فقضى الله " ، وآثرت قراءتها كذلك لحسن
سياقها ، وهو في المخطوطة يكثر أن يكتب " قضاء " هكذا " قضى "
، كما سلف مرارا.
(4) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف 1 : 409 ، 410/2 : 118/ ثم 9 : 515 ،
تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(10/189)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : {
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي
الأَرْضِ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الناصب لِـ " الأربعين " .
فقال بعضهم : الناصب له قوله : " محرّمة " ، وإنما حرم الله جل وعزّ على
القوم الذين عصوه وخالفوا أمره من قوم موسى وأبوا حَرْب الجبارين (1) دخولَ
مدينتهم أربعين سنة ، (2) ثم فتحها عليهم وأسكنهموها ، (3) وأهلك الجبارين بعد حرب
منهم لهم ، بعد أن انقضت الأربعون سنة وخرجوا من التيه. (4)
11690 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن
أبيه ، عن الربيع قال : لما قال لهم القوم ما قالوا ، ودعا موسى عليهم ، أوحى الله
إلى موسى : " إنها محرمة عليهم أربعين سنًة يتيهون في الأرض فلا تأس على
القوم الفاسقين " ، وهم يومئذ ، فيما ذكر ، ستمائة ألف مقاتل. فجعلهم "
فاسقين " بما عصوا. فلبثوا أربعين سنة في فراسخ ستّة ، أو دون ذلك ، يسيرون
كل يوم جادِّين لكي يخرجوا منها ، حتى سئموا ونزلوا ، (5) فإذا هم في الدار التي
منها ارتحلوا وإنهم اشتكوا إلى موسى ما فُعِل بهم ، فأنزل عليهم المنّ والسلوى ،
وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم ، وينشأ الناشئ فتكون معه على هيئته. (6) وسأل
موسى ربه أن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وإنما حرم الله جل وعز القوم.. " ،
والسياق يقتضي ما أثبت ، بزيادة " على " .
(2) قوله " دخول " منصوب ، مفعول لقوله : " حرم " . وكان في
المطبوعة : " ودخول مدينتهم " ، وهو خطأ لا شك فيه ، والكلام لا يستقيم.
(3) في المطبوعة : " وأسكنوها " ، غير ما في المخطوطة لغير علة.
(4) في المطبوعة : " بعد أن قضيت الأربعون سنة " ، غير ما في المخطوطة
لغير علة.
(5) في المطبوعة : " حتى يمسوا وينزلوا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو
صواب.
(6) قوله : " ما هي قائمة لهم " ، كأنه يعني أن ثيابهم كانت لا تبلي ،
بل لا تزال قائمة. وكان في المطبوعة والمخطوطة : " ينشأ " بغير واو ،
فزدتها لاقتضاء السياق.
(10/190)
يسقيهم ، فأتى بحجر الطور ، وهو حجر
أبيض ، إذا ما نزل القوم ضربه بعصاه ، فيخرج منه اثنتا عشرة عينًا ، لكل سبط منهم
عَيْنٌ ، قد علم كل أناس مشربهم. حتى إذا خَلَت أربعون سنة ، وكانت عذابًا بما
اعتدوا وعصوا ، أوحى إلى موسى : أنْ مُرْهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة ، فإن
الله قد كفاهم عدوَّهم ، وقل لهم إذا أتوا المسجد : أن يأتوا الباب ، ويسجدوا إذا
دخلوا ، ويقولوا : " حطة " وإنما قولهم : " حطة " ، أن يحطَّ
عنهم خطاياهم فأبى عامة القوم وعصوا ، وسجدوا على خدِّهم ، وقالوا : " حنطة
" ، فقال الله جل ثناؤه : ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ
الَّذِي قِيلَ لَهُمْ إِلَى بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) [سورة البقرة : 59]. (1)
* * *
وقال آخرون : بل الناصب لِـ " الأربعين " ، " يتيهون في الأرض
" . قالوا : ومعنى الكلام : قال ، فإنَّها محرمة عليهم أبدًا ، يتيهون في
الأرض أربعين سنة. قالوا : ولم يدخُل مدينة الجبَّارين أحد ممن قال : " إنا
لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " ،
وذلك أن الله عز ذكره حرَّمها عليهم. قالوا : وإنما دخلها من أولئك القوم يُوشع
وكلاب ، اللذان قالا لهم : " ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون
" ، وأولادُ الذين حرَّم الله عليهم دخولها ، فتيَّههم الله فلم يدخلها منهم
أحدٌ.
ذكر من قال ذلك :
11691 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا سليمان بن حرب قال ، حدثنا أبو هلال ، عن
قتادة في قول الله جل وعزّ : " إنها محرمة عليهم " ، قال : أبدًا.
11692 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا سليمان بن حرب قال ، حدثنا أبو هلال ، عن
قتادة في قول الله : " يتيهون في الأرض " ، قال : أربعين سنة.
11693 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا هارون
__________
(1) الأثر : 11690 - كأن هذا هو الأثر الذي ذكر أبو جعفر إسناده ولم يتمه فيما مضى
رقم : 993. فلا أدري أفعل ذلك اختصارا ، أم سقط الخبر من هناك.
(10/191)
النحوي قال ، حدثني الزبير بن الخرّيت
، عن عكرمة في قوله : " فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض
" ، قال : التحريم ، التيهاءُ. (1)
11694 - حدثنا موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : غضب موسى على قومه فدعا عليهم فقال : " رب إني لا أملك إلا نفسي
وأخي " الآية ، فقال الله جل وعز : " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة
يتيهون في الأرض " . فلما ضُرِب عليهم التيه ، ندم موسى. وأتاه قومه الذين
كانوا [معه] يطيعونه ، (2) فقال له : ما صنعت بنا يا موسى! فمكثوا في التيه. فلما
خرجوا من التيه ، رُفع المنُّ والسلوى وأكلُوا من البقول. والتقى موسى وعاج ، (3)
فنزا موسى في السماء عشرة أذرع (4) وكانت عصاه عشرة أذرع ، وكان طوله عشرة أذرع
فأصاب كعب عاج فقتله. (5) ولم يبق [أحد] ممن أبى أن يدخل قرية الجبَارين مع موسى ،
إلا مات ولم يشهد الفتح. (6) ثم إن الله جل وعز لما انقضت الأربعون سنة ، بعث يوشع
بن النون نبيًا ، (7) فأخبرهم أنه نبيّ ، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبّارين ،
فبايعوه وصدَّقوه ، فهزم الجبارين واقتحمُوا عليهم يقتُلونهم ، (8)
__________
(1) الأثر : 11693 - " مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي " .
و " هرون النحوي " ، هو : " هرون بن موسى الأزدي " ، الأعور.
و " الزبير بن الحزيت " . ثقات مضوا جميعًا برقم : 4985.
وهذا الخبر ، رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 225 ، 226.
وكان في المطبوعة هنا : " التحريم ، لا منتهى له " ، وهو تصرف معيب بالغ
العيب. وفي المخطوطة : " التحريم ، المنتهى " ، فآثرت قراءتها "
التيهاء " يقال : " أرض تيه ، وتيهاء " ، ويقال ، " تيه
" جمع " تيهاء " ، وهي المفازة يتاه فيها. وفي تاريخ الطبري 1 :
226 " التحريم : التيه " .
(2) هذه الزيادة بين القوسين مما مضى في 2 : 98 ، رقم : 991.
(3) في المطبوعة : " عوج " في هذا المكان ، وكل ما سيأتي ، وأثبت ما في
المخطوطة.
(4) في المطبوعة : " فوثب " ، ولم يحسن قراءة المخطوطة ، لأنها غير
منقوطة. و " نزا ينزو نزوا " ، وثب. وهي كما أثبتها في تاريخ الطبري 2 :
223.
(5) عند هذا الموضع انتهى ما رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 223.
(6) زدت ما بين القوسين من تاريخ الطبري ، ولا يستقيم الكلام إلا بها.
(7) في المطبوعة : " بن نون " .
(8) في المطبوعة : " يقاتلونهم " ، وأثبت ما في المخطوطة. وفي تاريخ
الطبري : " فقتلوهم " .
(10/192)
فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون
على عُنُق الرجل يضربونها لا يقطعونها. (1)
11695 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال ، حدثنا إبراهيم بن بشار قال ، حدثنا
سفيان قال ، قال أبو سعيد ، (2) عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال الله جل وعز :
لما دعا موسى " فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض " . (3)
قال : فدخلوا التيه ، فكلُّ من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنًة مات في التيه. (4)
قال : فمات موسى في التيه ، ومات هارون قبله. قال : فلبثوا في تيههم أربعين سنة ،
فناهض يوشع بمن بقي معه مدينةَ الجبارين ، فافتتح يوشع المدينة. (5)
11696 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله جل وعزّ
: " إنها محرّمة عليهم أربعين سنة " ، حرمت عليهم [القُرَى] ، (6)
فكانوا لا يهبطون قرية ولا يقدرون على ذلك ، إنما يتبعون الأطواء أربعين سنة ، (7)
وذكر لنا أن موسى صلى الله عليه وسلم مات في الأربعين سنة ، وأنه لم يدخل بيت
المقدس منهم إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا. (8)
11697 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني بعض أهل
العلم بالكتاب الأوّل قال : لما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من
__________
(1) الأثر : 11694 - هذا الأثر رواه أبو جعفر مفرقًا بين تاريخه وتفسيره ، كما مر
عليك في التعليقات السالفة. ومن عند ذلك الموضع الذي أشرت إليه في ص : 192 التعليق
رقم : 5 ، إلى هذا الموضع رواه أبو جعفر في التاريخ 1 : 225.
(2) في المخطوطة : " أبو سعد " ، وهو خطأ ، وانظر الأثر السالف رقم :
11668.
(3) في المطبوعة : " قال لما دعا موسى قال الله فإنها محرمة.. " ، غير
ما في المخطوطة ، مع أنه مطابق لما في تاريخ الطبري.
(4) في المخطوطة ؛ " جاز العشرين " ، وما في المطبوعة مطابق لما في
التاريخ.
(5) الأثر : 11695 - هذا الأثر ، رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 225.
(6) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري ، وهي زيادة لا بد منها. وكان في
المطبوعة والمخطوطة بعد " وكانوا " بالواو ، والصواب من التاريخ.
(7) " الأطواء " جمع " طوى " (بفتح الطاء ، وكسر الواو ،
وتشديد الياء) : وهو البئر المطوية بالحجارة ، وهو صفة على " فعيل "
بمعنى " مفعول " انتقل إلى الأسماء ، فلذلك جمعوه على " أفعال
" كما قالوا : " شريف " و " أشراف " ، و " يتيم
" ، و " أيتام " .
(8) الأثر : 11696 - رواه أبو جعفر في التاريخ 1 : 225 ، إلا قوله : " إنما
يتتبعون الأطواء " .
(10/193)
معصيتهم نبيّهم ، وهّمهم بكالب ويوشع ،
إذْ أمرَاهم بدخول مدينة الجبارين ، وقالا لهم ما قالا ظهرت عظمة الله بالغمام على
باب قُبّة الزُّمَرِ على كل بني إسرائيل ، (1) فقال جل ثناؤه لموسى : إلى متى
يعصيني هذا الشعب ؟ وإلى متى لا يصدّقون بالآيات كلِّها التي وضَعتُ بينهم ؟
أضربهم بالموت فأهلكهم ، (2) وأجعل لك شعبًا أشد وأكبر منهم. فقال موسى : يسمع
أهلُ المصر الذين أخرجتَ هذا الشعب بقوّتك من بينهم ، (3) ويقول ساكن هذه البلاد
الذين قد سمعوا أنك أنت الله في هذا الشعب ، (4) فلو أنك قتلت هذا الشعب كلهم كرجل
واحد ، لقالت الأمم الذين سمعوا باسمك : " إنما قتل هذا الشعب من أجل الذين
لا يستطيع أن يدخلهم الأرض التي خلق لهم ، فقتلهم في البّرية " ، ولكن لترتفع
أياديك ويعظم جزاؤك ، يا رَبِّ ، كما كنت تكلَّمت وقلتَ لهم ، فإنه طويلٌ صبرك ،
كثيرة نعمك ، وأنت تغفر الذنوب فلا توبق ، (5) وإنك تحفظ [ذنب] الآباء على الأبناء
وأبناء الأبناء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة. (6) فاغفر ، أيْ ربِّ ، آثام هذا الشعب
بكثرة نعمك ، وكما غفرت لهم منذ أخرجتهم من أرض مصر إلى الآن. فقال الله جل ثناؤه
لموسى صلى الله عليه : قد غفرت لهم بكَلمتك ، ولكن حيٌّ أنا ، (7) وقد ملأت الأرض
محمدتي كلها ، لا يرى القوم الذين قد رأوا محمدتي وآياتي التي فعلت في أرض مصر وفي
القفار ، (8) وابتلوني عشر مرات ولم يطيعوني ، (9) لا يرون الأرض التي حلفت
لآبائهم ، (10) ولا يراها من أغضبني ، فأما عبدي كالب الذي كان روحه معي واتبع
هواي ، (11) فإني مدخله الأرض التي دخلها ، ويراها خَلَفه.
وكان العماليق والكنْعانيون جلوسًا في الجبال ، ثم غدوا فارتحلوا إلى القفار في
طريق بحر سوف ، (12) وكلم الله عز وجل موسى وهارون ، وقال لهما : إلى متى توسوس
عليّ هذه الجماعة جماعة السوء ؟ قد سمعتُ وسوسة بني إسرائيل. (13) وقال ،
__________
(1) كان في المطبوعة : " على نار فيه الرمز " ، وهو لا معنى له ، وفي
المخطوطة " على فيه الرمز " كل ذلك غير منقوط ، وصواب قراءته كما أثبت ،
فإني أشك في كلمة " نار " التي كانت في المطبوعة ، والتي في المخطوطة
غير منقوطة ، فرجحت قراءتها " باب " ، لأنه يكثر في كتاب القوم : "
باب خيمة الاجتماع " كما في سفر العدد ، الإصحاح العاشر مثلا. و " خيمة
الاجتماع " ، هي التي جاءت في خبر بن إسحق " قبة الزمر " ، و
" الزمر " جمع " زمرة " وهي الجماعة. ويقابل ما رواه ابن إسحق
هنا في سفر العدد ، الإصحاح الرابع عشر ، " ثم ظهر مجد الرب في خيمة الاجتماع
" ، فثبت بهذا أن " خيمة الاجتماع " هي " قبة الزمر " .
و " القبة " عند العرب. هي خيمة من أدم مستديرة.
هذا ، وخبر ابن إسحق هذا بطوله ، هو ترجمة أخرى للإصحاح الرابع عشر من سفر العدد.
فمن المفيد مراجعته ، كما أسلفت في ص : 183 ، تعليق 2. وسأجتهد في بيان بعض خلاف
الترجمة هنا.
(2) هكذا في المخطوطة والمطبوعة : " أضربهم بالموت " ، وفي كتاب القوم
" بالوبأ " ، وغير بعيد أن يكون لفظ " الموت " مصحفا عن
" الوبأ " .
(3) في كتاب القوم : " فيسمع المصريون.. " .
(4) في المطبوعة : " ساكنو هذه البلاد " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) من الحسن أن تقرأ هذا النص في كتاب القوم ، فإنه هناك : " فالآن لتعظم
قدرة سيدي كما تكلمت قائلا. الرب طويل الروح ، كثير الإحسان ، يغفر الذنب والسيئة
" .
(6) في المطبوعة : " إلى ثلاثة أجيال وأربعة " ، وأثبت ما في المخطوطة.
و " الأحقاب " جمع " حقب " (بضم فسكون ، أو بضمتين) : وهي
الدهر ، قيل : ثمانون سنة ، وقيل أكثر. وأما ما بين القوسين فقد استظهرته من كتاب
القوم ، فإن الكلام بغيره غير مستقيم. وهو في كتابهم : " بل يجعل ذنب الآباء
على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع " .
(7) في المطبوعة : " ولكن قد أتى أني أنا الله " ، غير ما في المخطوطة ،
إذ لم يحسن قراءته ، وهو كما أثبته ، وهو في كتاب القوم أيضًا : " ولكن حي
أنا فتملأ كل الأرض من مجد الرب " .
(8) في المطبوعة والمخطوطة : " ألا ترى القوم " ، والسياق يقتضي ما أثبت
، وهو بمعناه في كتاب القوم.
(9) في المطبوعة : " وسلوني عشر مرات " ، و " ابتلاه " :
اختبره ، وفي كتاب القوم : " وجربوني عشر مرات " .
(10) في المطبوعة : " التي خلقت " ، وهو ليس صحيح المعنى ، بل هو باطل.
وهي في المخطوطة غير منقوطة ، وهي في كتاب القوم " حلفت " كما هي في رسم
المخطوطة ، وكما أثبتها ، واتفقت على ذلك الترجمة القديمة ، وهذه الترجمة التي بين
أيدينا. والمعنى في ذلك : الأرض التي أقسمت لآبائهم بعزتي وجلالي أن أجعلها
لأبنائهم.
(11) في ترجمة القوم : " وأما عبدي كالب ، فمن أجل أنه كانت معه روح أخرى.
وقد اتبعني تمامًا " .
(12) في المطبوعة والمخطوطة : " في طريق يحرسون " ، وهو تصحيف وتحريف.
والصواب ما أثبته و " بحر سوف " هو المعروف باسم " البحر الأحمر
" ، وكان العرب يعرفونه باسم " بحر القلزم " ، و " القلزم
" : مدينة قديمة كانت قرب أيلة والطور. و " السوف " لعلها نطق قديم
لقول العرب " السيف " (بكسر السين) ، وهو ساحل البحر ، ولعله قد سمى به
موضع هناك ، فنسب إليه البحر.
(13) " وسوس عليه " ، و " الوسوسة " ، مضت في الأثر رقم :
11663 ، ولم أشرحها هناك.
وأصل " الوسوسة " : الصوت من الريح ، أو صوت الحلي والقصب وغيرها. و
" الوسوسة " أيضا : كلام خفي مختلط لا يستبين. " وسوس الرجل "
: إذا تكلم بكلام لم يبينه. وهذه ترجمة بلا شك يراد بها الإكثار من الكلام الخفي
المبهم ، يتناقله القوم بينهم متذمرين. ويقابله في ترجمة القوم ، في الكتاب الذي
بين أيدينا : " قد سمعت تذمر بني إسرائيل.. "
(10/194)
لأفعلن بكم كما قلت لكم ، (1)
ولتلقينَّ جِيَفكم في هذه القفار ، وكحسابكم ، (2) من بني عشرين سنة فما فوق ذلك ،
من أجل أنكم وسوستم عليّ ، (3) فلا تدخلوا الأرض التي رفعت [يدي] إليها ، (4) ولا
ينزل فيها أحد منكم غير كالب بن يوفنا ويوشع بن نون ، وتكون أثقالكم كما كنتم
الغنيمة ، وأما بنُوكم اليوم الذين لم يعلموا ما بين الخير والشر ، فإنهم يدخلون
الأرض ، وإني بهم عارف ، لهم الأرض التي أردت لهم ، وتسقط جيفكم في هذه القفار ،
وتتيهون في هذه القفار على حساب الأيَّام التي حَسَستم الأرض أربعين يومًا ، مكان
كل يوم سنةً وتقتلون بخطاياكم أربعين سنة ، وتعلمون أنكم وسوستم قُدَّامي. إنى أنا
الله فاعل بهذه الجماعة جماعة بني إسرائيل الذين وعدوا قدامي بأن يتيهوا في القفار
، (5) فيها يموتون.
فأما الرهط الذين كان موسى بعثهم ليتحسسوا الأرض ، ثم حرَّشوا الجماعة ، فأفشوا
فيهم خبرَ الشرّ ، فماتوا كلهم بغتًة ، وعاش يوشع وكالب بن يوفنا من الرهط الذين
انطلقوا يتحسسون الأرض.
فلما قال موسى عليه السلام هذا الكلام كلَّه لبني إسرائيل ، حزن الشعب
__________
(1) في كتاب القوم هكذا : " لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني " .
(2) في المطبوعة : " وحسابكم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، يعني : مثل
عددكم ، أي جميعا. وفي كتاب القوم : " جميع المعدودين منكم حسب عددكم "
.
(3) انظر تفسير " الوسوسة " آنفا ص 195 ، رقم : 7.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " التي دفعت إليها " ، وليس له معنى ،
فجعلتها " رفعت " وزدت " يدي " بين القوسين استظهارًا من نص
كتاب القوم ، وفيه : " التي رفعت يدي لأسكننكم فيها " .
(5) في المطبوعة : " قد أتى أني أنا الله......... الذين وعدوا بأن
يتيهوا........ " ، وأثبتت ما في المخطوطة. وفي كتاب القوم : "
........فتعرفون ابتعادي. أنا الرب قد تكلمت ، لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة
المتفقة على. في هذا القفر يفنون وفيه يموتون " .
(10/196)
حزنًا شديدًا ، وغدوا فارتفعوا ، إلى
رأس الجبل ، (1) وقالوا : نرتقي الأرض التي قال جل ثناؤه ، من أجل أنا قد أخطأنا.
فقال لهم موسى : " لم تعتدون في كلام الله ؟ من أجل ذلك لا يصلح لكم عمل ،
ولا تصعدوا من أجل أنَّ الله ليس معكم ، فالآن تنكسرون من قدّام أعدائكم ، من أجل
العمالقة والكنعانيين أمامكم ، فلا تقعوا في الحرب من أجل أنكم انقلبتم على الله ،
فلم يكن الله معكم " . فأخذوا يَرْقَوْنَ في الجبل ، ولم يبرح التابوت الذي
فيه مواثيق الله جل ذكره وموسى من المحلة يعني من الخيمة (2) حتى هبط العماليق
والكنعانيون في ذلك الحائط ، فحرقوهم وطردوهم وقتلوهم. (3) فتيّهم الله عز ذكره في
التيه أربعين سنًة بالمعصية ، حتى هلك من كان استوجب المعصية من الله في ذلك. قال
: فلما شَبّ النواشئ من ذراريهم وهلك آباؤهم ، وانقضت الأربعون سنة التي تُيِّهوا
فيها ، (4) وسار بهم موسى ومعه يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ، وكان - فيما يزعمون -
على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون ، وكان لهما صهرًا ، (5) قدَّم يوشع بن نون
إلى أريحا ، في بني إسرائيل ، فدخلها بهم ، وقتل بها الجبابرة الذين كانوا فيها ،
ثم دخلها موسى ببني إسرائيل ، فأقام فيها ما شاء الله أن يُقيم ، ثم قبضه الله
إليه ، لا يعلم قبره أحد من الخلائق.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قولُ من قال : إن "
الأربعين " منصوبة بـ " التحريم " وإنّ قوله : " محرمة عليهم
أربعين سنة " ، معنيٌّ به جميع قوم موسى ، لا بعض دون بعض منهم. لأن الله عز
ذكره عمَّ بذلك القوم ، ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض. وقد وفَى الله جل ثناؤه بما
وعدهم به من العقوبة ، فتيَّههم أربعين سنة ، وحرَّم على جميعهم ، في الأربعين سنة
التي مكثوا فيها تائهين ، دخولَ الأرض المقدَّسة ، فلم يدخلها منهم أحد ، لا صغير
ولا كبير ، ولا صالح ولا طالح ، حتى انقضت السنون التي حرَّم الله عز وجَل عليهم
فيها دخولها. ثم أذن لمن بقي منهم وذراريهم بدخُولها مع نبي الله موسى والرجلين
اللذين أنعمَ الله عليهما ، وافتتح قرية الجبارين ، إن شاء الله ، نبيُّ الله موسى
صلى الله عليه وسلم ، وعلى مقدّمته يوشع ، وذلك لإجماع أهل العلم بأخبار الأوَّلين
أن عوج بن عناق قتلَه موسى صلى الله عليه وسلم. (6) فلو كان قتلُه إياه قبل مصيره
في التيه ، وهو من أعظم الجبارين خلقًا ، لم تكن بنو إسرائيل تجزَع من الجبارين
الجزعَ الذي ظهر منها. ولكن ذلك كان ، إن شاء الله ، بعد فناء الأمة التي جزعت
وعصت ربها ، وأبت الدخول على الجبارين مدينَتهم.
وبعدُ : فإن أهل العلم بأخبار الأوّلين مجمعون على أن بلعم بن باعور ، (7) كان ممن
أعان الجبارين بالدعاء على موسى. ومحالٌ أن يكون ذلك كان وقوم موسى ممتنعون من
حربهم وجهادهم ، لأن المعونة إنما يحتاج إليها من كان مطلوبًا ، فأما ولا طالب ،
فلا وجه للحاجة إليها.
__________
(1) في المطبوعة : " على رأس الجبل " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " يعني من الحكمة " ، والصواب ما أثبت ، لأن "
التابوت " كان في خيمة. واللفظة في المخطوطة غير بينة الكتابة. وانظر صفة
" الخيمة " التي كان فيها التابوت في قاموس كتابهم.
(3) إلى هذا الموضع انتهى الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد. وقد تبين أن ما رواه
ابن إسحق ، هو ترجمة أخرى لهذا الإصحاح. ولغة ترجمة ابن إسحق تخالف كل المخالفة ،
عبارة ابن إسحق في سائر ما كتب من السير ، وفيها عبارات وجمل وألفاظ ، لا أشك في
أنها من عمل مترجم قديم. ومحمد بن إسحق مات في نحو سنة 150 من الهجرة ، فهذه
الترجمة التي رواها عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول ، قد تولاها بلا ريب رجال قبل
هذا التاريخ ، أي في القرن الأول من الهجرة. وهذا أمر مهم ، أرجو أن أتتبعه فيما
بعد حتى أضع له تاريًخا يمكن أن يكشف عن أمر هذه الترجمة العتيقة.
(4) في المطبوعة : " التي تتيهوا " بتاءين ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو
مطابق لما في تاريخ الطبري 1 : 226.
(5) من أول قوله : " فلما شب النواشئ " ، إلى هذا الموضع ، مروي في
تاريخ الطبري 1 : 226.
(6) في المطبوعة : " عوج بن عنق " ، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر ما سلف
أنه روى في اسمه " عاج " ص : 192 ، تعليق : 2.
(7) في المطبوعة : " باعوراء " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/197)
11698 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا
مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف قال : كان سرير عوج ثمانمائة ذراع
، وكان طول موسى عشرة أذرع ، وعصاه عشرة أذرع ، ووثب في السماء عشرة أذرع ، (1)
فضرب عوجًا فأصاب كعبه ، فسقط ميتًا ، فكان جسرًا للناس يمرُّون عليه. (2)
11699 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عطية قال ، حدثنا قيس ، عن أبي إسحاق ، عن
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت عصا موسى عشرة أذرع ، ووثبته عشرة أذرع ،
وطوله عشرة أذرع ، (3) فوثب فأصاب كعب عوج فقتله ، فكانَ جسرًا لأهل النيل سنة.
(4)
* * *
ومعنى : " يتيهون في الأرض " ، يحارون فيها ويضلُّون ومن ذلك قيل للرجل
الضال عن سبيل الحق : " تائه " . وكان تيههم ذلك : أنهم كانوا يصبحون
أربعين سنة كل يوم جادِّين في قدر ستة فراسخ للخروج منه ، فيمسون في الموضع الذي
ابتدأوا السير منه.
11700 - حدثني بذلك المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ،
عن أبيه ، عن الربيع. (5)
11701 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة " عشرة أذرع " في المواضع الثلاثة ، وأثبت ما في
المخطوطة ، وكلاهما صواب فإن " الذراع " ، مؤنثة ، وقد تذكر.
(2) الأثر : 11698 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 223.
(3) في المطبوعة " عشرة أذرع " في المواضع الثلاثة ، وأثبت ما في
المخطوطة ، وكلاهما صواب فإن " الذراع " ، مؤنثة ، وقد تذكر.
(4) الأثر : 11699 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 223.
هذا ، وكل ما رواه أبو جعفر من أخبار عوج ، وما شابهه مما مضى في ذكر ضخامة خلق
هؤلاء الجبارين ، إنما هي مبالغات كانوا يتلقونها من أهل الكتاب الأول ، لا يرون
بروايتها بأسًا. وهي أخبار زيوف لا يعتمد عليها.
(5) الأثر : 11700 - انظر الأثر السالف رقم : 11690.
(10/199)
عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال
: تاهت بنو إسرائيل أربعين سنة ، يصبحون حيث أمسوا ، ويمسون حيث أصبحوا في تيههم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
}
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فلا تأس " ، فلا تحزن.
يقال منه : " أسِيَ فلان على كذا يأسىَ أسًى " ، و " قد أسيت من
كذا " ، أي حزنت ، ومنه قول امرئ القيس :
وُقُوفًا بِهَا صَحْبي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ... يَقُولُونَ : لا تَهْلِكْ أَسًى
وتَجَمَّل (1)
يعني : لا تهلك حزنًا.
* * *
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
11702 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس : " فلا تأس " يقول : فلا تحزن.
11703 - حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط ، عن السدي : " فلا تأس
على القوم الفاسقين " ، قال : لما ضُرب عليهم التّيه ، ندم موسى صلى الله
عليه وسلم ، فلما نَدِم أوحى الله إليه : " فلا تأس على القوم الفاسقين
" ، لا تحزن على القوم الذين سمَّيتهم " فاسقين " ، فلم يحزن. (2)
* * *
__________
(1) ديوانه : 125 ، من معلقته المشهورة.
(2) الأثر : 11703 - هو بعض الأثر السالف قديمًا رقم : 991. وأسقط ناشر المطبوعة
الأولى : " فلم يحزن " ، لأنها كانت في المخطوطة : " فلا تحزن
" ، فظنها تكرارًا فحذفها ، وهي ثابتة كما كتبتها في الأثر السالف : 991.
(10/200)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
القول في تأويل قوله عز وجل : {
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ
لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واتلُ على هؤلاء
اليهود الذين هموا أن يبسطُوا أيديهم إليكم ، وعلى أصحابك معك (1) وعرِّفهم مكروهَ
عاقبة الظلم والمكر ، وسوء مغبَّة الخَتْر ونقض العهد ، (2) وما جزاء الناكثِ
وثوابُ الوافي (3) خبرَ ابني آدم ، هابيل وقابيل ، وما آل إليه أمر المطيع منهما
ربَّه الوافي بعهده ، وما إليه صار أمر العاصي منهما ربَّه الخاتِر الناقضِ عهده. (4)
فلتعرف بذلك اليهود وخَامِة غِبّ غَدْرهم ونقضهم ميثاقَهم بينك وبينهم ، (5)
وهمَّهم
__________
(1) أخطأ ناشر المطبوعة الأولى فهم هذه العبارة ، فجعلها " واتل على هؤلاء
الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليكم عليك وعلى أصحابك معك " ، فزاد "
عليك " ، وجعل " معهم " ، " معك " فأخرج الكلام من عربية
أبي جعفر ، إلى كلام غسل من عربيته.
وسياق الكلام : واتل على هؤلاء اليهود.. وعلى أصحابك معهم " . فسبحان من سلط
الناشرين على الكاتبين!!
(2) " الختر " : هو أسوأ الغدر. وأقبح الخديعة ، وفي الحديث : " ما
ختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو " ، وفي التنزيل : " وما يحجد
بآياتنا إلا كل ختار كفور " . ولم يحسن ناشر المطبوعة قراءة " الختر
" ، فجعل مكانها " الجور " .
(3) قوله " خبر ابني آدم " منصوب ، مفعول قوله : " واتل على هؤلاء
اليهود " ، وما بين الخطين ، جملة فاصلة للبيان.
وانظر تفسير " يتلو " فيما سلف 2 : 409 ، 411 ، 569/3 : 86/6 : 466/7 :
97. وتفسير " نبأ " فيما سلف 1 : 488 ، 489/6 : 259 ، 404.
(4) في المطبوعة : " الجائر " ، وانظر تفسير " الختر " فيما
سلف تعليق : 2 ، وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(5) في المطبوعة : " وخامة غب عدوهم " ، وهو فاسد مريض ، وهي في
المخطوطة كما كتبتها غير منقوطة.
(10/201)
بما همُّوا به من بسط أيديهم إليك وإلى
أصحابك ، فإن لك ولهم (1) في حسن ثوابي وعِظَم جزائي على الوفاء بالعهد الذي جازيت
المقتولَ الوافِيَ بعهده من ابني آدم ، وعاقبتُ به القاتل الناكثَ عهده عزاءً
جميلا. (2)
* * *
واختلف أهل العلم في سبب تقريب ابني آدم القربان ، وسبب قَبُول الله عز وجل ما
تقبل منه ، ومَنِ اللذان قرَّبا ؟
فقال بعضهم : كان ذلك عن أمر الله جل وعز إياهما بتقريبه ، وكان سبب القبول أن
المتقبَّل منه قرَّب خير ماله ، وقرب الآخر شر ماله ، وكان المقرِّبان ابني آدم
لصلبه ، أحدهما : هابيل ، والآخرُ : قابيل.
ذكر من قال ذلك :
11704 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي
جعفر ، عن هشام بن سَعْد ، عن إسماعيل بن رافع قال : بلغني أن ابني آدم لمّا
أُمِرَا بالقربان ، كان أحدهما صاحب غَنَم ، وكان أُنْتِجَ له حَمَلٌ في غنمه ،
(3) فأحبه حتى كان يؤثره بالليل ، وكان يحمله على ظهره من حبه ، حتى لم يكن له
مالٌ أحبَّ إليه منه. فلما أُمِر بالقربان قرّبه لله فقبله الله منه ، فما زال
يَرْتَع في الجنة حتى فُدِي به ابن إبراهيم صلى الله عليهما. (4)
11705 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا عوف ، عن أبي
المغيرة ، عن عبد الله بن عمرو قال : إنّ ابني آدم اللذين قرّبا قربانًا فتقبّل من
أحدهما ولم يتقبل من الآخر ، كان أحدهما صاحب حَرْثٍ ،
__________
(1) يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
(2) السياق : " فإن لك ولهم.. عزاء جميلا " .
(3) " أنتج " (بالبناء للمجهول) ، أي : ولد. و " الحمل "
(بفتحتين) : الخروف.
(4) الأثر : 11704 - " هشام بن سعد المدني " ، ثقة ، تكلموا فيه من جهة
حفظه. مضى برقم : 5490. وكان في المطبوعة هنا : " بن سعيد " ، والصواب
من المخطوطة.
" إسمعيل بن رافع بن عويمر المدني القاص " ، ضعيف جدا ، مضى برقم :
4039.
(10/202)
والآخر صاحب غنم. وأنهما أُمرا أن
يقرّبا قربانًا وإن صاحب الغَنَم قرب أكرم غنمه وأسمَنَها وأحسَنَها طيّبًة بها
نفسه وإن صاحبَ الحرث قرّب شَرّ حرثه ، [الكوزن] والزُّوان ، (1) غير طيبةٍ بها
نفسه وإن الله تقبّل قربان صاحب الغنم ، ولم يتقبل قُربان صاحب الحرث. وكان من
قصتهما ما قص الله في كتابه. وقال : أيمُ الله ، إنْ كان المقتول لأشدّ الرجلين ،
ولكن منعه التحرُّجُ أن يبسطَ يده إلى أخيه. (2)
* * *
وقال آخرون : لم يكن ذلك من أمرِهما عن أمرِ الله إياهما به.
ذكر من قال ذلك :
11706 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قال : كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يُتصدَّق عليه ، (3)
وإنما كان القربان يقرِّبه الرجل. فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا " لو قربنا
قربانًا " ! وكان الرجل إذا قرب قربانًا فرضيه الله جل وعزّ ، أرسل إليه
نارًا فأكلته. وإن لم يكن رضيَه الله ، خَبَتِ النار. فقرّبا قربانًا ، وكان
أحدهما راعيًا ، وكان الآخر حرَّاثًا ، وإنّ صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنَها ،
وقرب الآخر بعضَ زرعه. (4) فجاءت النار فنزلت يينهما ، فأكلت الشاة وتركت
__________
(1) " الكوزن " ، هكذا في المطبوعة والمخطوطة ، وفي تاريخ الطبري "
الكوذر " ، ولم أجدها في شيء مما بين يدي من الكتب. والذي وجدته أن "
الدوسر " : نبات كنبات الزرع ، له سنبل وحب دقيق أسمر ، يكون في الحنطة ،
ويقال هو " الزوان " . و " الزوان " (بضم الزاي) : ما يخرج من
الطعام فيرمي به ، وهو الرديء منه. وقيل : هو حب يخالط الحنطة ، تسميه أهل الشأم :
" الشيلم " .
(2) الأثر : 11705 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 71 ، وسيأتي برقم : 11727 ،
مختصرًا. وفي المطبوعة هنا : " أن يبسط يده إلى أخيه " ، زاد " يده
" ، وهي ليست في المخطوطة ، ولا في التاريخ ، ولا في هذا الأثر الذي سيرويه
مرة أخرى بعد.
(3) في المطبوعة : " فيتصدق " ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(4) في المطبوعة : " أبغض زرعه " ، غير ما في المخطوطة ، وهي موافقه لما
في التاريخ. ويعني بقوله : " بعض زرعه " ، أي : ما اتفق له ، غير متخير
كما تخير أخوه. وهو كقوله في الأثر رقم : 11709. " زرعا من زرعه " .
(10/203)
الزرع ، وإن ابن آدم قال لأخيه :
أتَمْشي في الناس وقد علموا أنك قرَّبت قربانًا فتُقبِّل منك ، ورُدَّ علي ؟ فلا
والله لا تنظر الناس إليّ وإليك وأنت خير مني!! فقال : لأقتلنَّك! فقال له أخوه :
ما ذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين. (1)
11707 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى قال ، حدثنا
ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " إذ قربا قربانًا " ، قال :
ابنا آدم ، هابيل وقابيل ، لصلب آدم. فقرّب أحدهما شاةً ، وقرب الآخر بَقْلا فقبل
من صاحب الشاة ، فقتله صاحبه.
11708 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
11709 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن
مجاهد في قوله : " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذْ قرّبا قربانًا "
قال : هابيل وقابيل ، فقرب هابيل عَنَاقًا من أحسن غَنَمه ، (2) وقرب قابيل زرعًا
من زرعه. قال : فأكلت النار العَناقَ ، ولم تأكل الزرع ، فقال : لأقتلنك! قال :
إنما يتقبل الله من المتقين.
11710 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا رجل سمع مجاهدا في قوله
: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا " قال : هو هابيل
وقابيل لصُلْب آدم ، قربا قربانًا ، قرب أحدهما شاة من غنمه ، وقرب الآخر بَقْلا
فتُقُبِّل من صاحب الشاة ، فقال لصاحبه : لأقتلنك! فقتله. فعقل الله إحدى رجليه
بساقها إلى فخذها إلى يوم القيامة ، وجعل وجهه إلى الشمس حيثما دارت ، عليه
حَظِيرة من ثلج في الشتاء ، وعليه في الصيف حظيرة من نار ، ومعه
__________
(1) الأثر : 11706 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 71 ، وسيأتي برقم : 11750 ،
بزيادة في آخره.
(2) " العناق " (بفتح العين) : وهي الأنثى من المعز ما لم تتم سنة.
(10/204)
سبعةُ أملاكٍ ، كلما ذهب مَلَك جاء
الآخر.
11711 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ح ، وحدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع
، عن سفيان عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " واتل
عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر
" ، قال : قرّب هذا كبشًا ، وقرّب هذا صُبَرًا من طعام ، (1) فتقبل من أحدهما
، قال : تُقُبل من صاحب الشاة ، ولم يتقبل من الآخر.
11712 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس : " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قربانًا فتقبل من أحدهما
ولم يتقبل من الآخر " ، كان رجلان من بني آدم ، فتُقُبل من أحدهما ولم يتقبل
من الآخر.
11713 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية :
" واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " ، قال : كان أحدهما اسمه قابيل ،
والآخر هابيل ، أحدهما صاحب غنم ، والآخر صاحب زرع ، فقرب هذا من أمثل غنمه حَمَلا
وقرّب هذا من أرذَلِ زرعه ، (2) قال : فنزلت النار فأكلت الحمل ، فقال لأخيه :
لأقتلنك!
11714 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم
بالكتاب الأوَّل : أن آدم أمر ابنه قابيل أن يُنكِح أختَه تُؤْمَهُ هابيل ، وأمر
هابيل أن ينكح أخته تُؤْمَه قابيل ، (3) فسلم لذلك هابيل ورضي ، وأبى قابيل
__________
(1) " الصبر " (بضم الصاد وفتح الباء) جمع " صبرة " (بضم
فسكون) : كومة من طعام بلا كيل ولا وزن. ويقال : " اشتريت الشيء صبرة "
، أي بلا كيل ولا وزن. وفي المطبوعة : " صبرة " وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " من أردإ زرعه " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة في الموضعين " توأمة " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وفي
تاريخ الطبري : " توأمته " . و " التوأم " و " التئم
" (بكسر فسكون) و " التؤم " (بضم فسكون) ، و " التئيم "
، هو من جميع الحيوان ، المولود مع غيره في بطن ، من الاثنين إلى ما زاد ، ذكرًا
كان أوأنثى ، أو ذكرًا مع أنثى.ويقال أيضا " توأم للذكر " و "
توأمة " للأنثى.
وفي المخطوطة والمطبوعة في جميع المواضع " قابيل " . وأما في التاريخ ،
فهو في جميع المواضع " قين " مكان " قابيل " ، وهما واحد ،
فتركت ما في المطبوعة والمخطوطة على حاله ، وإن كان يخالف ما رواه أبو جعفر في
التاريخ.
(10/205)
ذلك وكره ، (1) تكرمًا عن أخت هابيل ،
ورغب بأخته عن هابيل ، وقال : نحنَ وِلادة الجنة ، وهما من ولادة الأرض ، وأنا أحق
بأختي! ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول : كانت أخت قابيل من أحسن الناس ، فضن
بها عن أخيه وأرادها لنفسه. فالله أعلم أيّ ذلك كان فقال له أبوه : يا بني إنها لا
تحلُّ لك! فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه ، فقال له أبوه : يا بني فقرّب
قربانًا ، ويقرّب أخوك هابيل قربانًا ، فأيُّكما قَبِل الله قربَانه فهو أحق بها.
وكان قابيل على بَذْر الأرض ، وكان هابيل على رِعاية الماشية ، فقرب قابيل قمحًا
وقرّب هابيل أبْكارًا من أبكار غنمه وبعضهم يقول : قرب بقرة فأرسل الله جل وعز
نارًا بيضاء فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، وبذلك كان يُقْبَل القُربان
إذا قبله. (2)
11715 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي فيما ذكر ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن مسعود
وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وكان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه
جارية ، (3) فكان يزوّج غلام هذا البطن ، جاريةَ هذا البطن الآخر ، ويزوج جارية
هذا البطن ، غلامَ هذا البطن الآخر. حتى ولد له ابنان يقال لهما : قابيل ، وهابيل.
وكان قابيل صاحب زرع ، وكان
__________
(1) في المطبوعة : " وكرهه " ، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(2) الأثر : 11714 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 70.
(3) في المطبوعة : " كان.. " بغير واو ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/206)
هابيل صاحب ضَرْعٍ. وكان قابيل أكبرهما
، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل. وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل ، فأبى عليه
وقال : هي أختي ، ولدت معي ، وهي أحسن من أختك ، وأنا أحق أن أتزوَّجها! فأمره
أبوه أن يزوِّجها هابيل ، فأبى. وإنهما قربا قربانًا إلى الله أيُّهما أحق
بالجارية ، كان آدم يومئذ قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها ، قال الله عز ذكره
لآدم : يا آدمُ ، هل تعلم أن لي بيتًا في الأرض ؟ قال : اللهم لا! قال : فإن لي
بيتًا بمكة فأتِه. فقال آدم للسماء : " احفظي ولدي بالأمانة " ، فأبت.
وقال للأرض ، فأبت. وقال للجبال فأبت. وقال لقابيل ، فقال : نعم ، تذهب وترجع
وتجدُ أهلك كما يسرُّكَ. فلما انطلق آدم ، قربا قربانًا ، وكان قابيل يفخَر عليه
فقال : أنا أحق بها منك ، هي أختي ، وأنا أكبر منك ، وأنا وصيُّ والدي! فلما
قرَّبا ، قرب هابيل جَذَعة سمينة ، (1) وقرّب قابيل حُزمة سنبل ، فوجد فيها سنبلةً
عظيمة ، ففرَكَها فأكلها. فنزلت النار فأكلت قربانَ هابيل ، وتركت قربان قابيل ،
فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي! فقال هابيل : إنما يتقبَّل الله من
المتقين. (2)
11716 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " ، ذكر لنا أنهما هابيل وقابيل. فأما هابيل ،
فكان صاحب ماشية ، فعمَد إلى خير ماشيته فتقرّب بها ، فنزلت عليه نار فأكلته وكان
القربان إذا تُقُبل منهم ، نزلت عليه نار فأكلته. وإذا رُدَّ عليهم أكلته الطيرُ
والسباع وأما قابيل ، فكان صاحب زرع ، فعمد إلى أردإ زرعه فتقرب به ، فلم تنزل
عليه النار ، فحسد أخاه عند ذلك فقال : لأقتلنك! قال : إنما يتقبل الله من
المتقين.
11717 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا
__________
(1) " الجذعة " من الضأن والمعز ، الصغير ، لم يتم سنته.
(2) الأثر : 11715 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 68 ، 69.
(10/207)
معمر ، عن قتادة في قوله : " واتل
عليهم نبأ ابني آدم بالحق " ، قال : هما هابيل وقابيل ، قال : كان أحدهما
صاحب زرع ، والآخر صاحب ماشية ، فجاء أحدهما بخيرِ ماله ، وجاء الآخر بشر ماله.
فجاءت النار فأكلت قربان أحدهما ، وهو هابيل ، وتركت قربان الآخر ، فحسده فقال :
لأقتلنك!
11718 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد :
" إذ قرّبا قربانًا " ، قال : قرّب هذا زرعًا ، وذَا عناقًا ، فتركت
النارُ الزرعَ وأكلتِ العَناق. (1)
* * *
وقال آخرون : اللذان قرّبا قربانًا ، وقصَّ الله عز ذكره قصصهما في هذه الآية :
رجلان من بني إسرائيل ، لا من ولد آدم لصلبه.
ذكر من قال ذلك :
11719 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن قال : كان
الرجلان اللذان في القرآن ، اللذان قال الله : " واتل عليهم نبأ ابني آدم
بالحق " ، من بني إسرائيل ، ولم يكونا ابني آدم لصلبه ، وإنما كان القُربان
في بني إسرائيل ، وكان آدم أول من مات. (2)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، أن اللذين قرّبا القربان كانا
ابني آدم لصلبه ، لا من ذرّيته من بني إسرائيل. وذلك أن الله عز وجل يتعالى عن أن
يخاطب عبادَه بما لا يفيدهم به فائدة ، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن
تقريبَ القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم ، دون الملائكة والشياطين
__________
(1) " العناق " : أنثى المعز ، ما لم تتم سنة.
(2) الأثر : 11719 - " سهل بن يوسف الأنماطي " ، روى عن ابن عون ، وعوف
الأعرابي ، وحميد الطويل ، وغيرهم. روى عنه أحمد ، ويحيى بن معين ، ومحمد بن بشار
، وغيرهم. مترجم التهذيب.
وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 71.
وسيأتي رد هذا الذي قاله الحسن فيما سيأتي ص : 219 ، 220.
(10/208)
وسائرِ الخلق غيرهم. فإذْ كان معلومًا
ذلك عندهم ، فمعقول أنه لو لم يكن معنيًّا بِ " ابني آدم " اللذين
ذكرهما الله في كتابه ، ابناهُ لصلبه ، لم يفدْهم بذكره جل جلاله إياهما فائدة لم
تكن عندهم. وإذْ كان غيرَ جائز أن يخاطبهم خطابًا لا يفيدهم به معنًى ، فمعلوم أنه
عَنى بـ " ابني آدم " ، [ابني آدم لصلبه] ، لا بَنِي بنيه الذين بَعُد
منه نسبهم ، (1) مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل ، على أنهما كانا
ابني آدم لصلبه ، وفي عهد آدم وزمانه ، وكفى بذلك شاهدا.
* * *
وقد ذكرنا كثيًرا ممن نُصَّ عنه القول بذلك ، وسنذكر كثيرًا ممن لم يذكر إن شاء
الله.
11720 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، حدثنا حسام بن
المِصَكّ ، عن عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد قال : لما قتل ابن آدم أخاه ،
مكث آدم مائة سنة حزينًا لا يضحك ، ثم أتي فقيل له : حيّاك الله وبيّاك! فقال :
" بياك " ، أضحكك. (2)
11721 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن غياث بن إبراهيم ، عن أبي إسحاق
الهمداني قال ، قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه : لما قتل ابن آدم أخاه ، بكى
آدم فقال :
تَغَيَّرَتِ الْبِلادُ وَمَنْ عَلَيْهَا... فَلَوْنُ الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ
تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي لَوْنٍ وَطَعْمٍ... وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الْمَلِيحِ
__________
(1) في المطبوعة ، بغير الزيادة التي بين القوسين. أما المخطوطة ، فكانت العبارة
غير مستقيمة ، كتب هكذا : " أنه عني بابني آدم لصلبه بني بنيه الذين بعد منه
نسبهم " فالصواب زيادة ما زدته بين القوسين ، وزيادة " لا " كما
فعل في المطبوعة السابقة.
(2) الأثر : 11720 - " حسام بن مصك بن ظالم بن شيطان الأزدي " . روى عن
الحسن. وابن سيرين ، وقتادة ، ونافع مولى ابن عمر. روى عنه أبو داود الطيالسي ،
وهشيم ، ويزيد بن هرون ، وغيرهم. ضعفوه ، حتى قال ابن معين : " كان كثير
الخطأ ، فاحش الوهم ، حتى خرج عن حد الاحتجاج به " . مترجم في التهذيب.
(10/209)
فأجيب آدم عليه السلام :
أَبَا هَابِيلَ قَدْ قُتِلا جَمِيعًا... وَصَارَ الْحَيُّ كَالْمَيْتِ الذَّبِيحِ
وَجَاءَ بِشِرَّةٍ قَدْ كَانَ مِنْهَا... عَلَى خَوْفٍ ، فَجَاءَ بِهَا يَصِيحُ
(1)
* * *
قال أبو جعفر : وأما القول في تقريبهما ما قرَّبا ، فإن الصواب فيه من القول أن
يقال : إن الله عز ذكره أخبرَ عبادَه عنهما أنهما قد قربا ، ولم يخبر أن تقريبهما
ما قرّبا كان عن أمر الله إياهما به ، ولا عن غير أمره. وجائز أن يكون كان عن أمر
الله إياهما بذلك وجائز أن يكون عن غير أمره. غير أنه أيّ ذلك كان ، فلم يقرّبا
ذلك إلا طلب قرْبةٍ إلى الله إن شاء الله.
* * *
وأما تأويل قوله : " قال لأقتلنك " ، فإن معناه : قال الذي لم
يُتَقَبَّل منه قربانه ، للذي تُقُبّل منه قربانه : " لأقتلنك " ، فترك
ذكر : " المتقبل قربانه " و " المردود عليه قربانه " ،
استغناء بما قد جرى من ذكرهما عن إعادته. وكذلك ترك ذكر " المتقبل قربانه
" مع قوله ، " قال إنما يتقبل الله من المتقين " .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.
11722 - حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " قال لأقتلنك " ، فقال له أخوه : ما ذنبي ؟ إنما
يتقبل الله من المتقين. (2)
__________
(1) الأثر : 11721 - " غياث بن إبراهيم النخعي ، الكوفي " ، قال يحيى بن
معين : " كذاب خبيث " . وقال خالد بن الهياج : " سمعت أبي يقول :
رأيت غياث بن إبراهيم ، ولو طار على رأسه غراب لجاء فيه بحديث! وقال : إنه كان
كذابًا يضع الحديث من ذات نفسه " . مترجم في الكبير 4/1/109 ، وابن أبي حاتم
3/2/57 ، وفي لسان الميزان ، وميزان الاعتدال.
وفي المخطوطة والمطبوعة ، سقط من الإسناد " عن غياث بن إبراهيم " ،
وزدته من إسناد أبي جعفر في تاريخه 1 : 72 ، وروى الخبر هناك.
(2) الأثر : 11722 - هذا ختام الأثر السالف رقم : 11706.
(10/210)
11723 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن
وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " إنما يتقبل الله من المتقين " ، قال
يقول : إنك لو اتقيت الله في قربانك تُقُبل منك ، جئت بقربانٍ مغشوش بأشرِّ ما
عندك ، (1) وجئت أنا بقربان طيِّب بخير ما عندي. قال : وكان قال : يتقبل الله منك
ولا يتقبل مني!
* * *
ويعني بقوله : " من المتقين " ، من الذين اتقوا الله وخافوه ، بأداء ما
كلفهم من فرائضه ، واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته. (2)
* * *
وقد قال جماعة من أهل التأويل : " المتقون " في هذا الموضع ، الذين
اتقوا الشرك.
ذكر من قال ذلك :
11724 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد بن سليمان ، عن
الضحاك قوله : " إنما يتقبل الله من المتقين " ، الذين يتقون الشرك.
* * *
وقد بينا معنى " القربان " فيما مضى وأنه " الفعلان " من قول
القائل : " قرَّب " ، كما " الفُرْقان " " الفعلان
" من " فرق " ، و " العُدْوان " من " عدا " .
(3)
* * *
وكانت قرابين الأمم الماضية قبل أمَّتنا ، كالصدقات والزكوات فينا ، غير أن
قرابينهم كان يُعْلم المتقبل منها وغير المتقبَّل فيما ذكر بأكل النار ما تُقُبل
منها ، وترك النار ما لم يُتقبّل منها. (4) و " القربان " في أمّتنا ،
الأعمال الصالحة ، من الصَّلاة ، والصيام ، والصدقة على أهل المسكنة ، وأداءِ
الزكاة المفروضة. ولا سبيل
__________
(1) قوله : " بأشر ما عندك " ، أي : " بشر ما عندك " ، وهي
لغة قليلة. وقد مضت في الخبر رقم : 5080 ، وانظر التعليق هناك : 5 : 85 ، تعليق :
1.
(2) انظر تفسير " اتقى " فيما سلف من فهارس اللغة (وقى).
(3) انظر ما سلف 7 : 448.
(4) انظر الأثرين السالفين : 8310 ، 8311.
(10/211)
لها إلى العلم في عاجلٍ بالمتقبَّل
منها والمردود. (1)
* * *
وقد ذكر عن عامر بن عبد الله العنبري ، أنه حين حضرته الوفاة بَكى ، فقيل له : ما
يبكيك ؟ فقد كنتَ وكنتَ! فقال : يبكيني أنّي أسمع الله يقول : " إنما يتقبل
الله من المتقين " .
11725 - حدثني بذلك محمد بن عمر المقدمي قال ، حدثني سعيد بن عامر ، عن همّام ،
عمن ذكره ، عن عامر. (2)
* * *
وقد قال بعضهم : قربان المتقين ، الصلاة.
11726 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن عمران بن سليمان ، عن عدي بن
ثابت قال : كان قربان المتّقين ، الصلاة. (3)
* * *
__________
(1) قوله : " لها " ، الضمير عائد إلى قوله : " أمتنا " .
(2) الأثر : 11725 - " محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي " ، مضى برقم
: 6225 ، 6809.
و " سعيد بن عامر الضبعي " ، ثقة مأمون. مترجم في التهذيب.
و " همام " هو " همام بن يحيى بن دينار الأزدي " ، ثقة صدوق.
مترجم في التهذيب.
و " عامر بن عبد الله العنبري " ، هو " عامر بن عبد الله بن عبد
قيس العنبري " ، ويقال : " عامر بن عبد قيس " ، أحد الزهاد
الثمانية ، وهم : " عامر بن عبد الله بن عبد قيس ، وأويس القرني ، وهرم بن
حبان ، والربيع بن خثيم ، ومسروق بن الأجدع ، والأسود بن يزيد ، وأبو مسلم
الخولاني ، والحسن بن أبي الحسن البصري " . انظر ترجمته في حلية الأولياء 2 :
87 - 95 ، وكتاب الزهد لأحمد بن حنبل : 218 - 228. ولم أجد هذا الخبر في أخباره في
الكتابين.
(3) الأثر : 11726 - " عمران بن سليمان القيسي " ، ذكره ابن حبان في
الثقات. مترجم في لسان الميزان.
و " عدي بن ثابت الأنصاري " ، ثقة ، إلا أنه كان يتشيع. مات سنة 116.
مترجم في التهذيب.
(10/212)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ
إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن المقتول من ابني آدم أنه قال لأخيه
لما قال له أخوه القاتل : لأقتلنك : والله " لئن بسطت إليَّ يدك " ،
يقول : مددت إليَّ يدك " لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك " ، يقول : ما
أنا بمادٍّ يدي إليك (1) " لأقتلك " .
* * *
وقد اختلف في السبب الذي من أجله قال المقتول ذلك لأخيه ، ولم يمانعه ما فَعَل به.
فقال بعضهم : قال ذلك ، إعلامًا منه لأخيه القاتل أنه لا يستحل قتلَه ولا بسطَ يده
إليه بما لم يأذن الله جل وعز له به. (2)
ذكر من قال ذلك :
11727 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا عوف ، عن أبي
المغيرة ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : وايم الله ، إن كان المقتول لأشدَّ
الرجلين ، ولكن منعه التحرُّج أن يبسُط إلى أخيه. (3)
11728 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك
" ، ما أنا بمنتصر ، (4) ولأمسكنَّ يدي عنك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير : " بسط " فيما سلف ص : 100.
(2) في المطبوعة : " بما لم يأذن الله به " ، أسقط ما هو ثابت في
المخطوطة ، ولا أدري لم يرتكب ذلك!!
(3) الأثر : 11727 - سلف هذا الأثر مطولا برقم : 11705 ، وانظر التعليق عليه هناك.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " لا أنا " ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(10/213)
وقال آخرون : لم يمنعه مما أراد من
قتله ، وقال ما قال له مما قصَّ الله في كتابه : [إلا] أن الله عزّ ذكره فرضَ
عليهم أن لا يمتنع من أريد قتله ممن أراد ذلك منه. (1)
ذكر من قال ذلك :
11729 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا رجل سمع مجاهدًا يقول في
قوله : " لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " ،
قال مجاهد : كان كُتب عليهم ، (2) إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع
منه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عز ذكره قد كان
حرَّم عليهم قتل نفسٍ بغير نفس ظلمًا ، وأن المقتول قال لأخيه : " ما أنا
بباسط يدي إليك إن بسطت إليّ يدك " ، لأنه كان حرامًا عليه من قتل أخيه مثلُ
الذي كان حرامًا على أخيه القاتل من قتله. فأما الامتناع من قتله حين أراد قتله ،
فلا دلالة على أن القاتلَ حين أراد قتله وعزم عليه ، كان المقتول عالمًا بما هو
عليه عازمٌ منه ومحاولٌ من قتله ، فترك دفعَه عن نفسه. بل قد ذكر جماعة من أهل
العلم أنه قتله غِيلةً ، اغتاله وهو نائم ، فشدَخ رأسه بصخرةٍ. (3) فإذْ كان ذلك
ممكنًا ، ولم يكن في الآيةِ دلالة على أنه كان مأمورًا بترك منع أخيه من قتله ،
يكون جائزًا ادعاءُ ما ليس في الآية ، إلا ببرهان يجب تسليمُه.
* * *
وأما تأويل قوله : " إنّي أخاف الله رب العالمين " فإنه : إنّي أخاف
الله في بسط يدي إليك إن بسطتها لقتلك (4) " رب العالمين " ، يعني :
مالك الخلائق كلها (5) أن يعاقبني على بسط يدي إليك.
* * *
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق هذه الجملة.
(2) في المطبوعة : " كان كتب الله عليهم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر الآثار التالية من رقم : 11746 - 11749.
(4) في المطبوعة : " فإني أخاف " ، وهو لا يستقيم ، والصواب ما أثبته من
المخطوطة.
(5) انظر تفسير " رب " و " العالمون " فيما سلف من فهارس
اللغة.
(10/214)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معناه : إني أريد أن تبوء بإثمي من قتلك إياي ، وإثمك في معصيتك الله
، وغير ذلك من معاصيك. (1)
ذكر من قال ذلك :
11730 - حدثني موسى بن هارون ، (2) قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ،
عن السدي في حديثه ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن
مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أريد أن تبوء
بإثمي وإثمك " ، يقول : إثم قتلي ، إلى إثمك الذي في عنقك " فتكون من
أصحاب النار " .
11731 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "
إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، يقول : بقتلك إياي ، وإثمك قبل ذلك.
11732 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، قال : بإثم قتلي وإثمك.
11733 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " يقول : إني
أريد أن يكون عليك خطيئتك ودمي ، تبوء بهما جميعًا.
11734 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز ، عن سفيان ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " وإثمك في معصيتك الله بغير ذلك من معاصيك " ، وهو
كلام لا يستقيم ، لا شك أن صوابه ما أثبت.
(2) في المطبوعة : " محمد بن هرون " ، وهو خطأ لا شك فيه ، صوابه في
المخطوطة.
(10/215)
منصور ، عن مجاهد : " إني أريد أن
تبوء بإثمي وإثمك " ، يقول : إني أريد أن تبوء بقتلك إياي " وإثمك
" ، قال : بما كان منك قبل ذلك.
11735 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثني
عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قوله : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ،
قال : أما " إثمك " ، فهو الإثم الذي عمل قبل قتل النفس يعني أخاه وأما
" إثمه " ، فقتلُه أخاه.
* * *
وكأن قائلي هذه المقالة ، وجَّهوا تأويل قوله : " إني أريد أن تبوء بإثمي
وإثمك " ، إلى : إني أريد أن تبوء بإثم قتلي (1) فحذف " القتل "
واكتفى بذكر " الإثم " ، إذ كان مفهومًا معناه عند المخاطبين به.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إني أريد أن تبوء بخطيئتي ، فتتحمل وزرها ، وإثمِك في
قتلك إيّاي. وهذا قول وجدتُه عن مجاهد ، وأخشى أن يكون غلطًا ، لأن الصحيح من
الرواية عنه ما قد ذكرنا قبلُ.
ذكر من قال ذلك :
11736 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، يقول : إني أريد أن تكون
عليك خطيئتي ودمي ، فتبوء بهما جميعًا.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن تأويله : إني أريد أن تنصرف
بخطيئتك في قتلك إياي (2) وذلك هو معنى قوله : " إني
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " أي : إني أريد.. " ، وصواب قراءتها ما
أثبت.
(2) انظر تفسير " باء " فيما سلف 2 : 138 ، 345/7 : 116 ، 366 وتفسير
" الإثم " ، فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/216)
أريد أن تبوء بإثمي " وأما معنى :
" وإثمك " ، فهو إثمه بغير قتله ، وذلك معصيته الله جل ثناؤه في أعمالٍ
سِوَاه.
وإنما قلنا ذلك هو الصواب ، لإجماع أهل التأويل عليه. لأن الله عز ذكره قد أخبرنا
أن كل عامل فجزاءُ عمله له أو عليه. وإذا كان ذلك حكمه في خلقه ، فغير جائز أن
يكون آثام المقتول مأخوذًا بها القاتل ، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم
وسائر آثامِ معاصيه التي ارتكبها بنفسه ، دون ما ركبَه قتيلُه.
* * *
فإن قال قائل : أو ليس قتلُ المقتول من بني آدم كان معصيةً لله من القاتل ؟ قيل :
بلى ، وأعظِمْ بها معصية!
فإن قال : فإذا كان لله جل وعز معصيًة ، فكيف جاز أن يُريد ذلك منه المقتول ،
ويقول : " إني أريد أن تبوء بإثمي " ، وقد ذكرتَ أن تأويل ذلك ، إني
أريد أن تبوء بإثم قتلي ؟ [قيل] معناه : (1) إني أريد أن تبوء بإثم قتلي إن قتلتني
، لأني لا أقتلك ، فإن أنت قتلتني ، فإني مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله في قتلك
إياي. وهو إذا قتله ، فهو لا محالة باءَ به في حكم الله ، فإرادته ذلك غير موجبةٍ
له الدخولَ في الخطأ.
* * *
ويعني بقوله : " فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " ، يقول :
فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم ، ووقود النار المخلدين فيها (2) " وذلك
جزاء الظالمين " ، يقول : والنار ثوابُ التاركين طريق الحق ، الزائلين عن قصد
__________
(1) في المطبوعة ، وصل الكلام ، فلم يكن للاستفهام جواب ، فكتب هكذا : " إني
أريد أن تبوء بإثم قتلي ، فمعناه : إني أريد.. " . وفي المخطوطة مثل ذلك ،
إلا أنه كتب " ومعناه " بالواو. واستظهرت أن الصواب ما زدت بين القوسين
" قيل " ، فإنه هذا أول جواب السائل.
(2) انظر تفسير " أصحاب النار " فيما سلف 2 : 286/4 : 317/5 : 429/ 6 :
14/ 7 : 133 ، 134.
(10/217)
السبيل ، المتعدِّين ما جُعِل لهم إلى
ما لم يجعل لهم. (1)
وهذا يدل على أن الله عز ذكره قد كان أمرَ ونهى آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض ، ووعد
وأوعد. ولولا ذلك ما قال المقتول للقاتل : " فتكون من أصحاب النار "
بقتلك إياي ، ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين. فكان مجاهد يقول : عُلّقت إحدى رجلي
القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه في الشمس حيثما دارت
دار ، عليه في الصيف حظيرة من نار ، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج.
11737 - حدثنا بذلك القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن
جريج قال مجاهد ذلك قال : وقال عبد الله بن عمرو : وإنا لنجد ابنَ آدم القاتلَ
يقاسِم أهل النار قسمًة صحيحًة العذابَ ، عليه شطرُ عذابهم. (2)
* * *
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحو ما روي عن عبد الله بن عمرو ،
خبٌر.
11738 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير وحدثنا سفيان قال ، حدثنا جرير وأبو
معاوية ح ، وحدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ووكيع جميعًا ، عن الأعمش ، عن عبد
الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما من
نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأوَّلَ كفلٌ منها ، ذلك بأنه أول من سَنَّ
القتل. (3)
11739 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ح ، وحدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن
جميعا ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه. (4)
__________
(1) انظر تفسير " جزاء " و " الظالمون " فيما سلف من فهارس
اللغة.
(2) الأثر : 11737 - رواه أبو جعفر فيما سلف برقم : 11710 ، طريق أخرى. وليس فيه
هذه الزيادة عن عبد الله بن عمرو.
(3) الأثران : 11738 ، 11739 - هذا حديث صحيح ، رواه أحمد في مسنده من هذه الطرق ،
من حديث عبد الله بن مسعود برقم : 3630 ، 4092 ، 4123. ورواه البخاري في صحيحه من
طرق عن الأعمش (الفتح 6 : 262/12 : 169/ 13 : 256) ، ورواه مسلم في صحيحه من طرق
عن الأعمش 11 : 165 ، 166. وقال ابن كثير في تفسيره 3 : 130 : " وقد أخرجه
الجماعة سوى أبي داود ، من طرق عن الأعمش ، به " . ورواها أبو جعفر في تاريخه
1 : 72 ، بمثل الذي رواه هنا.
و " الكفل " (بكسر فسكون) : الحظ والنصيب من الوزر والإثم. وانظر تفسير
أبي جعفر فيما سلف 8 : 581.
(4) الأثران : 11738 ، 11739 - هذا حديث صحيح ، رواه أحمد في مسنده من هذه الطرق ،
من حديث عبد الله بن مسعود برقم : 3630 ، 4092 ، 4123. ورواه البخاري في صحيحه من
طرق عن الأعمش (الفتح 6 : 262/12 : 169/ 13 : 256) ، ورواه مسلم في صحيحه من طرق
عن الأعمش 11 : 165 ، 166. وقال ابن كثير في تفسيره 3 : 130 : " وقد أخرجه
الجماعة سوى أبي داود ، من طرق عن الأعمش ، به " . ورواها أبو جعفر في تاريخه
1 : 72 ، بمثل الذي رواه هنا.
و " الكفل " (بكسر فسكون) : الحظ والنصيب من الوزر والإثم. وانظر تفسير
أبي جعفر فيما سلف 8 : 581.
(10/218)
11740 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبي ، عن حسن بن صالح ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم النخعي قال : ما من
مقتول يقتل ظلمًا ، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفلٌ منه.
11741 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم ، أنه
حُدِّث عن عبد الله بن عمرو : أنه كان يقول : إن أشقى الناس رجلا لابْنُ آدم الذي
قتل أخاه ، ما سُفِك دم في الأرض منذ قَتَل أخاه إلى يوم القيامة ، إلا لحق به منه
شيء ، وذلك أنه أوَّل من سنَّ القتل. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، (2)
مبينٌ عن أنّ القول الذي قاله الحسن في ابني آدم اللذين ذكرهما الله في هذا الموضع
(3) أنهما ليسا بابني آدم لصلبه ، ولكنهما رجلان من بني إسرائيل وأن القول الذي
حكي عنه (4) أنّ أول من مات آدم ، وأن القربان الذي كانت
__________
(1) الأثر : 11741 - " حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري " ، روى
عن ابن عمه أبي أمامة بن سهل ، ونافع بن جبير بن مطعم ، والزهري ، وغيرهم. ذكره
ابن حبان في الثقات ، وصحح له الترمذي وابن خزيمة وغيرها ، وقال ابن سعد : "
كان قليل الحديث ، ولا يحتجون بحديثه " . مترجم في التهذيب.
(2) في المطبوعة : " وبهذا الخبر.. " ، غير ما في المخطوطة ، لم يحسن
قراءة الآتي.
(3) في المطبوعة : " تبين أن القول " ، جعلها كذلك ، وغير التي قبلها من
أجل تغييره. وفي المخطوطة " متبين عن القول " غير منقوطة ، والصواب ما
أثبته ، أسقط الناسخ " أن " ، والسياق دال على ذلك.
(4) قول الحسن هذا ، هو ما رواه في الأثر رقم : 11719. وانظر أيضا ما سيأتي ص :
224.
(10/219)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
النار تأكله لم يكن إلا في بني إسرائيل
(1) خطأ ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا القاتل الذي قَتَل
أخاه : أنه أول من سَنَّ القتل. وقد كان ، لا شك ، القتلُ قبل إسرائيل ، فكيف قبل
ذريته! فخطأ من القول أن يقال : أول من سن القتل رجلٌ من بني إسرائيل. (2)
وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من قال : " هو ابن آدم
لصلبه " ، لأنه أولُ من سن القتل ، فأوجب الله له من العقوبة ما رَوَينا عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ
فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " فطوّعت " فآتتهُ وساعدته عليه.
(3)
* * *
وهو " فعَّلت " من " الطوع " ، من قول القائل : " طاعني
هذا الأمر " ، إذا انقاد له.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويله.
فقال بعضهم ، معناه : فشجَّعت له نفسه قتل أخيه.
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) السياق : وهذا الخبر... مبين عن أن القول الذي قاله الحسن... خطأ " .
(2) في المخطوطة والمطبوعة : " وخطأ من القول " بالواو ، والسياق يقتضي
الفاء ، كما أثبتها.
(3) في المطبوعة : " فأقامته وساعدته... " ، وفي المخطوطة كما كتبتها ،
ولكنها غير منقوطة. يقال : " آتيته على هذا الأمر مؤاتاة " ، إذا وافقته
وطاوعته. قالوا : " والعامة تقول : واتيته. قالوا : ولا تقل : واتيته ، إلا
في لغة لأهل اليمن. ومثله آسيت ، وآكلت ، وآمرت وإنما جعلوها واوًا على تخفيف
الهمزة في : يواكل ، ويوامر ، ونحو ذلك " .
(10/220)
11742 - حدثني نصر بن عبد الرحمن
الأودي ومحمد بن حميد قالا حدثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عن ابن أبي ليلى ، عن
القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : " فطوعت له نفسه " ، قال : شجعت. (1)
11743 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " فطوعت له نفسه " قال : فشجعته.
11744 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " فطوعت له نفسه قتل أخيه " ، قال : شجعته على قتل أخيه.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : زيَّنَت له.
ذكر من قال ذلك :
11745 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
فطوعت له نفسه " ، قال : زينت له نفسه قتلَ أخيه فقَتله.
* * *
ثم اختلفوا في صفة قتله إياه ، كيف كانت ، والسبب الذي من أجله قتله.
* * *
فقال بعضهم : وجده نائمًا فشدَخ رأسه بصَخرة.
ذكر من قال ذلك :
11746 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي فيما ذكر ، عن أبى مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس
__________
(1) الأثر : 11742 - " عنبسة " ، هو " عنبسة بن سعيد بن الضريس
الأسدي " مضى مرارًا ، منها رقم : 224 ، 3356 ، 5385.
و " ابن أبي ليلى " ، هو " محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى "
، مضى مرارًا. رقم : 32 ، 33 ، 631 ، 3914 ، 5434.
وكان في الإسناد هنا ، في المخطوطة والمطبوعة : " عن عنبسة بن أبي ليلى
" ، وهو خطأ لا شك فيه ، وقد مضى هذا الإسناد كثيًرا ، انظر مثلا رقم : 631.
(10/221)
وعن مرة ، عن عبد الله وعن ناس من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فطوعت له نفسه قتل أخيه " فطلبه
ليقتله ، فراغ الغلام منه في رءوس الجبال. وأتاه يومًا من الأيام وهو يرعى غنمًا
له في جبل ، وهو نائم ، فرفع صخرة فشدَخ بها رأسه ، فمات ، فتركه بالعَرَاء.
* * *
وقال بعضهم ما : -
11747 - حدثني محمد بن عمر بن علي قال ، سمعتَ أشعث السجستاني يقول : سمعت ابن
جريج قال : ابنُ آدم الذي قتل صاحبَه لم يدر كيف يقتله ، فتمثَّل إبليس له في هيئة
طير ، فأخذ طيرًا فقطع رأسه ، (1) ثم وضعه بين حجرين فشدَخ رأسه ، فعلَّمه القتل.
11748 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال :
قتله حيث يرعَى الغنم ، فأتاه فجعل لا يدري كيف يقتله ، (2) فلَوَى برقبته وأخذ
برأسه ، فنزل إبليس وأخذ دابَّةً أو طيرًا ، فوضع رأسه على حجرٍ ، ثم أخذ حجرًا
آخر فرضخ به رأسه ، وابنُ آدم القاتلُ ينظر. فأخذ أخاه فوضع رأسه على حجَر ، وأخذ
حجرًا آخر فرضخ به رأسه.
11749 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا رجل سمع مجاهدًا يقول ،
فذكر نحوه.
11750 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قال : لما أكلت النار قربانَ ابن آدم الذي تُقُبِّل قربانه ،
قال الآخر لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قربانًا فتقُبِّل منك ،
ورُدَّ عليَّ ؟ والله لا تنتظر الناس إلي وإليك وأنت خير
__________
(1) في المطبوعة : " فقصع رأسه " ، ولا تصح وأثبت ما في المخطوطة. وإنما
عني " قطع رأسه " ، علمه قطع الرأس في القتل ، ثم علمه الشدخ في القتل.
صورتان للقتل.
(2) في المطبوعة " فأتى " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/222)
مني! فقال : " لأقتلنك " ،
فقال له أخوه : ما ذنبي ؟ " إنما يتقبل الله من المتقين " . فخوّفه
بالنار ، فلم ينته ولم ينزجر " فطوعت له نفسه قتلَ أخيه فقتله فأصبح من
الخاسرين " . (1)
11751 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال :
أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم ، قال : أقبلت مع سعيد بن جبير أرمي الجَمْرة ،
وهو متقَنّع متوكئٌ على يدي ، حتى إذا وازينا بمنزل سَمُرَةَ الصوّاف ، (2) وقف
يحدثني عن ابن عباس قال : نهى أن ينكح المرأة أخوها تُؤْمها ، (3) وينكحها غيره من
إخوتها. وكان يولد في كل بطن رجلٌ وامرأة. فوُلدت امرأةٌ وسيمةٌ ، وولدت امرأة دميمة
قبيحة. فقال أخو الدّميمة : أنكحني أختك وأنكحك أختي. قال : لا أنا أحق بأختي.
فقرّبا قربانًا ، فتقبل من صاحب الكبش ، ولم يتقبل من صاحب الزرع ، فقتله. فلم يزل
ذلك الكبش محبوسًا عند الله عز وجل حتى أخرجه في فداء إسحاق ، فذبحه على هذا
الصَّفا في ثَبِير ، عند منزل سمرة الصواف ، (4) وهو على يمينك حين ترمي الجمار
قال ابن جريج ، وقال آخرون بمثل هذه القصة. قال : فلم يزل بنو آدم على ذلك حتى مضى
أربعة آباء ، فنكح ابنةَ عمه ، وذهب نكاح الأخوات. (5)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عز ذكره قد أخبر
عن القاتل أنه قتل أخاه ، ولا خبر عندنا يقطع العذر بصفة قتله إياه. وجائزٌ أن
يكون على نحو ما قد ذكر السديّ في خبره وجائزٌ أن يكون كان على
__________
(1) الأثر : 11750 - مضى مفرقًا برقم : 11706 ، 11722.
(2) في المطبوعة والمخطوطة " بمنزل سمرة الصراف " بالراء ، وأثبت ما في
تاريخ الطبري ، ولا أدري ما يكون هذا ، فلم أجد موضعًا بهذا الاسم فيما بين يدي من
المراجع. و " سمرة الصراف " ، اسم رجل. ولم أعرف من يكون.
(3) في تاريخ الطبري : " أن تنكح المرأة أخاها توأمها " ، وكان في
المطبوعة هنا " توأمها " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وانظر ما سلف ص : 205
، تعليق : 3.
(4) في المطبوعة والمخطوطة " بمنزل سمرة الصراف " بالراء ، وأثبت ما في
تاريخ الطبري ، ولا أدري ما يكون هذا ، فلم أجد موضعًا بهذا الاسم فيما بين يدي من
المراجع. و " سمرة الصراف " ، اسم رجل. ولم أعرف من يكون.
(5) الأثر : 11751 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1 : 69.
(10/223)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
ما ذكره مجاهد ، والله أعلم أيُّ ذلك
كان. غير أن القتل قد كان لا شك فيه.
* * *
وأما قوله : " فأصْبَحَ من الخاسرين " ، فإن تأويله : فأصبح القاتل أخاه
من ابني آدم ، من حزب الخاسرين ، وهم الذين باعوا آخرتهم بدنياهم ، بإيثارهم إياها
عليها ، فوُكسوا في بيعهم ، وغبنوا فيه ، وخابوا في صفقتهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ
لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ
أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ (31) }
قال أبو جعفر : وهذا أيضًا أحدُ الأدلة على أن القول في أمر ابني آدم بخلاف ما
رواه عمرو ، عن الحسن ، (2) لأن الرجلين اللذين وصف الله صفتهما في هذه الآية ، لو
كانا من بني إسرائيل ، لم يجهل القاتلُ دفنَ أخيه ومواراة سوأة أخيه ، ولكنهما
كانا من ولد آدم لصلبه ، ولم يكن القاتلُ منهما أخاه عَلِم سنّة الله في عبادِهِ
الموتى ، (3) ولم يدر ما يصنع بأخيه المقتول. فذكر أنه كان يحمله على عاتقه حينًا
حتى أراحت جيفته ، (4) فأحب الله تعريفَه السنة في موتى خلقه ، فقيَّض له الغرابين
اللذين وصف صفتهما في كتابه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الخاسرين " و " الخسران " فيما سلف ص : 170
، تعليق : 4. والمراجع هناك.
(2) يعني الأثر : 11719 ، وانظر ما سلف أيضًا في ص : 219.
(3) في المخطوطة : " في عاده الموتى " ، وفي المطبوعة : " في عادة
الموتى " ، وهذا كلام لا معنى له ، صواب قراءته ما أثبت.
(4) " أراح اللحم " ، أنتن وسطعت له ريح خبيثة.
(10/224)
ذكر الأخبار عن أهل التأويل بالذي كان
من فعل القاتل من ابني آدم بأخيه المقتول ، بعد قتله إياه.
11752 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن أبي روق الهمداني ، عن أبيه ، عن
الضحاك ، عن ابن عباس قال : مكث يحمل أخاه في جِرابٍ على رقبته سنًة ، حتى بعث
الله جل وعز الغُرَابين ، فرآهما يبحثان ، فقال : " أعجزتُ أن أكون مثل هذا
الغراب " ؟ فدفن أخاه. (1)
11753 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة
أخيه " ، بعث الله جل وعز غرابًا حيًّا ، إلى غراب ميت ، فجعل الغراب الحيُّ
يواري سوأة الغراب الميت ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه : " يا ويلتا أعجزت أن
أكون مثل هذا الغراب " الآية.
11754 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي فيما ذكر ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن عبد الله
وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما مات الغلام تَركه بالعراء ، ولا
يعلم كيف يَدْفن. فبعث الله جل وعزّ غرابين أخوين ، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ،
فحفر له ثم حَثا عليه. فلما رآه قال : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا
الغراب فأواري سوأة أخي " ، فهو قول الله : " فبعث الله غرابًا يبحث في
الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه " .
11755 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " يبحث " ، قال : بعث الله غرابًا حتى
__________
(1) الأثر : 11752 - " يحيى بن أبي روق " ، هو " يحيى بن عطية بن
الحارث الهمداني الكوفي. ضعيف. قال يحيى بن معين " ليس بثقة " . مترجم
في لسان الميزان ، وابن أبي حاتم 4/2/180 وأبوه " أبو روق " هو "
عطية بن الحارث الهمداني " ، ثقة ، لا بأس به. مضى برقم : 137 ، 9632.
(10/225)
حفر لآخر إلى جنبه ميت وابن آدم القاتل
ينظر إليه ثم بحث عليه حتى غيَّبه. (1)
11756 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " غرابًا يبحث في الأرض " ، حتى حفر لآخر ميت إلى جنبه ،
فغيّبه ، وابن آدم القاتل ينظر إليه ، حيث يبحثُ عليه حتى غيبه ، فقال : " يا
ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " ، الآية.
11757 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن
مجاهد قوله : " فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض " ، قال : بعث الله
غرابًا إلى غراب ، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، فجعل يَحْثِي عليه التراب ، (2)
فقال : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من
النادمين " .
11758 - حدثني المثنى قال ، حدثني عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس : " فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض " ، قال : جاء غراب إلى
غراب ميّت ، فحثَى عليه من التراب حتى واراه ، فقال الذي قتل أخاه : " يا
ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " ، الآية.
11759 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن فضيل بن مرزوق ، عن
عطية قال : لما قتله ندم ، فضَّمه إليه حتى أروح ، (3) وعكفت عليه الطير والسباع
تنتظر متى يَرْمي به فتأكله.
11760 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
__________
(1) " بحث عليه " : يعني حفر التراب عليه وغطاه به.
(2) " حثا عليه التراب يحثوه حثوًا " و " حثى عليه التراب يحثيه
حثيًا " : هاله. والثاني منهم أعلى من الأول وأفصح. وقد مضت : " حثا
" ، وستأتي في الآثار التالية : " يحثو " ، فأغنانا ذكرها هنا عن
ذكرها فيما سلف وما سيأتي.
(3) " أروح اللحم ، وأراح " . أنتن ، وانظر للتعليق السالف ص : 224 ،
تعليق : 4.
(10/226)
قوله : " فبعث الله غرابًا يبحث
في الأرض ليريه " ، أنه بعثه الله عز ذكره يبحثُ في الأرض ، ذكر لنا أنهما
غرابان اقتَتَلا فقتل أحدهما صاحبه ، وذلك يعني ابن آدم ينظر ، وجعل الحيّ يَحْثِي
على الميت الترابَ ، فعند ذلك قال ما قال : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا
الغراب " الآية ، إلى قوله : " من النادمين " .
11761 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة قال : أما قوله : " فبعث الله غرابًا " ، قال : قتل غرابٌ غرابًا
، فجعل يحثُو عليه ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه حين رآه : " يا ويلتا أعجزت
أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين " .
11762 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : "
فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه " ، قال : وارى
الغراب الغراب. قال : كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به ، يحمله
ويضعه إلى الأرض ، حتى رأى الغراب يدفن الغرابَ ، فقال : " يا ويلتا أعجزت أن
أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين " .
11763 - حدثني المثنى قال ، حدثنا معلَّى بن أسد قال ، حدثنا خالد ، عن حصين ، عن
أبي مالك في قول الله : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " ،
قال : بعث الله عزّ وجل غرابًا ، فجعل يَبْحَثُ على غراب ميت الترابَ. قال : فقال
عند ذلك : " أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين
" .
11764 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض " ،
بعث الله غرابًا حيًّا إلى غراب ميّت ، فجعل الغراب الحيُّ يواري سوأة الغراب
الميت ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا
الغراب " ، الآية.
(10/227)
11765 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا
سلمة ، عن ابن إسحاق ، فيما يذكر عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل ، قال : لما
قتله سُقِط في يديه ، ولم يَدْر كيف يواريه. وذلك أنه كان ، فيما يزعمون ، أوَّل
قتيل من بني آدم وأوّل ميت [قال] : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب
فأواري سوأة أخي " الآية [إلى قوله : " ثم إن كثيًرا منهم بعد ذلك في
الأرض لمسرفون " ، قال] : (1) ويزعم أهل التوراة أن قابيل حين قتل أخاه هابيل
قال له جل ثناؤه : يا قابيل ، (2) أين أخوك هابيل ؟ قال : ما أدري ، ما كنت عليه
رقيبًا! فقال الله جل وعز له : إنّ صوت دم أخيك لينادِيني من الأرض ، الآن أنت
ملعون من الأرضِ التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك. فإذا أنت عملت في الأرض ،
فإنها لا تعود تعطيك حرثَها حتى تكون فزعًا تائهًا في الأرض. قال قابيل : عظمت
خطيئتي من أن تغفرها! (3) قد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض ، وأتوارى من قُدَّامك ،
وأكون فزعًا تائهًا في الأرض ، وكل من لقيني قتلني! فقال الله جل وعز : ليس ذلك
كذلك ، ولا يكون كل من قتل قتيلا يجزى بواحدٍ سبعة ، ولكن من قتل قابيل يجزي سبعة
، (4) وجعل الله في قابيل آية لئلا يقتله كل من وجده ، وخرج قابيل من قدام الله عز
وجل من شرقي عدن الجنة. (5)
__________
(1) زدت ما بين القوسين من تاريخ الطبري.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " قابيل " ، وفي التاريخ مكان " قابيل
" في كل موضع " قين " ، وانظر ص : 205 ، تعليق : 3.
(3) في المخطوطة : " قال ومن عظمت خطيئتي " ، وصوابها " قال قين :
عظمت... " كما في التاريخ ولكن المخطوطة جرت هنا على أن تضع " قابيل
" مكان " قين " ، فوضع الناشر الأول للتفسير " قال قابيل
" وهو حسن.
(4) كانت هذه الجملة في المطبوعة : " ولا يكون كل قاتل قتيلا يجزي واحدا ،
ولكن يجزي سبعة " وهي فاسدة كل الفساد ، صححتها من تاريخ الطبري ، ولكني سرت
على نهج المخطوطة في وضع " قابيل " مكان " قين " ، فكتبت
" من قتل قابيل " .
(5) الأثر : 11765 - هذا الذي رواه ابن إسحق من قول أهل التوراة ، تجده في كتاب
القوم في سفر التكوين ، في الإصحاح الرابع ، وهو ترجمة أخرى لهذه الفقرة من هذا
الإصحاح. وانظر ما سلف ص : 183 ، تعليق : 2.
(10/228)
11766 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا
جابر بن نوح قال ، حدثنا الأعمش ، عن خيثمة قال : لما قتل ابن آدم أخاه نَشِفت
الأرض دمه ، فلُعِنت فلم تَنْشَف الأرض دمًا بعدُ. (1)
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام : فأثار الله للقاتل (2) إذ لم يدر ما يصنع بأخيه المقتول
" غرابًا يبحث في الأرض " ، يقول : يحفر في الأرض ، فيثير ترابها "
ليريه كيف يواري سوأة أخيه " ، يقول : ليريه كيف يواري جيفةَ أخيه.
* * *
وقد يحتمل أن يكون عُنِيَ بـ " السوأة " ، الفرج ، غير أن الأغلب من
معناه ما ذكرت من الجيفة ، بذلك جاء تأويل أهل التأويل.
* * *
قال أبو جعفر : وفي ذلك محذوفٌ ترك ذكره ، استغناء بدلالة ما ذكر منه ، وهو :
" فأراه بأن بحث في الأرض لغراب آخر ميتٍ فواراه فيها " ، فقال القاتل
أخاه حينئذ : " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " ، الذي وارى
الغرابَ الآخر الميتَ " فأواري سوأة أخي " ، فواراه حينئذ " فأصبح
من النادمين " ، على ما فرط منه ، من معصية الله عز ذكره في قتله أخاه. (3)
* * *
وكل ما ذكر الله عز وجلّ في هذه الآيات ، مثلٌ ضربه الله عز ذكره لبني آدم ،
وحرَّض به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على استعمال العفوِ
والصفح عن اليهود الذين كانوا هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وقتلهم من بني
النضير ، (4) إذ أتوهم يستعينونهم في دية قتيلي عمرو بن أمية الضمري ،
__________
(1) " نشفت الأرض الماء تنشفه نشفًا " (على وزن : علم يعلم) : شربته.
(2) انظر تفسير " بعث " فيما سلف 2 : 84 ، 85/5 : 457.
(3) في المخطوطة : " في قتله أخيه " ، والصواب ما في المطبوعة ، أو تكون
: " في قتل أخيه " .
(4) السياق : " ... عن اليهود... من بني النضير " .
(10/229)
وعرَّفهم جل وعز رداءة سجيَّة أوائلهم
، (1) وسوء استقامتهم على منهج الحق ، مع كثرة أياديه وآلائه عندهم. وضرب مثلهم في
غَدْرهم ، (2) ومثل المؤمنين في الوفاء لهم والعفو عنهم ، بابني آدم المقرِّبَين
قرابينهما ، (3) اللذين ذكرهما الله في هذه الآيات. ثم ذلك مثلٌ لهم على التأسِّي
بالفاضل منهما دون الطالح. (4) وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
11767 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال ،
قلت لبكر بن عبد الله ، أما بلغك أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال : "
إن الله جل وعز ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا خيرَهما ودعوا شرَّهما " ؟ قال :
بلى.
11768 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ابني آدم ضُرِبا مثلا لهذه
الأمة ، فخذوا بالخير منهما.
11769 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن عاصم
الأحول ، عن الحسن قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ضرب لكم ابني
آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا الشر. (5)
* * *
__________
(1) في المخطوطة هكذا : " ردأ سجه أوائلهم " وغير منقوطة ، وما في
المطبوعة مقارب للصواب.
(2) في المطبوعة : " في عدوهم " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، لأنها غير
منقوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " قرا بينهم " ، والصواب ما أثبت.
(4) في المخطوطة : " دون الصالح " ، وهو خطأ محض. ولعل الأصل : "
بالصالح منهما دون الطالح " .
(5) الآثار : 11767 - 11769 - هذه الثلاثة أخبار مرسلة ، لم أهتد إلى شيء منها في
دواوين السنة.
(10/230)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
القول في تأويل قوله عز ذكره : { مِنْ
أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا
بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا
وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " من أجل ذلك " ، من جرِّ ذلك
وجَريرته وجنايته. يقول : من جرِّ القاتل أخاه من ابني آدم اللذين اقتصصنا قصتهما
الجريرةَ التي جرَّها ، وجنايتِه التي جناها " كتبنا على بني إسرائيل "
.
* * *
يقال منه : " أجَلْت هذا الأمر " ، أي : جررته إليه وكسبته ، "
آجله له أجْلا " ، كقولك : " أخَذْته أخذًا " ، ومن ذلك قول الشاعر
: (1)
وَأَهْلِ خِبَاءٍ صَالِحٍ ذَاتُ بَيْنِهمْ... قَدِ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أَنَا
آجِلُه (2)
__________
(1) نسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن فقال : " قال الخنوت ، وهو توبة بن مضرس ،
أحد بني مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم. وإنما سماه الخنوت ، الأحنف بن قيس. لأن
الأحنف كلمه ، فلم يكلمه احتقارًا له ، فقال : إن صاحبكم هذا الخنوت! والخنوت :
المتجبر الذاهب بنفسه ، المستصغر للناس " .
و " الخنوت " (بكسر الخاء ، ونون مشددة مفتوحة ، واو ساكنة).
وذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف ص : 68 وقال : " وقتل أخواه ... فأدرك
الأخذ بثأرهما... وجزع على أخويه جزعًا شديدًا ، ... وكان لا يزال يبكي أخويه ،
فطلب إليه الأحنف أن يكف ، فأبى ، فسماه : الخنوت وهو الذي يمنعه الغيظ أو البكاء
من الكلام " .
ونسبه التبريزي في شرح إصلاح المنطق ، والشنتمري في شرح ديوان زهير إلى خوات بن
جبير الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو الذي يذكر في خبر ذات
النحيين.
وألحق بشعر زهير بن أبي سلمى ، في ديوانه (شرح الشنتمري).
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 163 (وفيه مراجع) ، وشرح إصلاح المنطق 1 : 14 ،
وشرح شعر زهير للشنتمري : 33 ، واللسان (أجل) ، وفي رواية لابن برى ، في اللسان.
وَأَهْل خِبَاء آمِنِين ، فَجَعْتُهُمْ ... بِشَيْءٍ عَزِيزٍ عَاجِل أَنَا آجِلُهْ
وَأَقْبَلْتُ أَسْعَى أَسْأَلُ الْقَوْمَ مَالَهُمْ ... سُؤَالَكَ بِالَّشْيءِ
الَّذِي أَنْتَ جَاهِلُهْ
ويروى الشطر الأول ، من البيت الثاني : فَأَقْبَلَتْ فِي السَّاعِينَ أَسْأَلُ
عَنْهُمُ
وفي المخطوطة : " قد اصرموا " ، غير منقوطة ، والصواب من المراجع.
(10/231)
يعني بقوله : " أنا آجله " ،
أنا الجارُّ ذلك عليه والجانِي.
* * *
فمعنى الكلام : من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلمًا ، حكمنا على بني إسرائيل أنه
من قتل منهم نفسًا ظلمًا ، بغير نفس قتلت ، فقتل بها قصاصًا (1) " أو فساد في
الأرض " ، يقول : أو قتل منهم نفسًا بغير فسادٍ كان منها في الأرض ، فاستحقت
بذلك قتلها. و " فسادها في الأرض " ، إنما يكون بالحرب لله ولرسوله ،
وإخافة السبيل. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
11770 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثني عبيد بن سليمان قال ،
سمعت الضحاك يقول في قوله : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل " ،
يقول : من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلمًا.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله جل ثناؤه : " من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو
فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا
" .
فقال بعضهم : معنى ذلك : ومن قتل نبيًّا أو إمام عدل ، فكأنما قتل الناس جميعًا ،
ومن شدَّ على عضُد نبيّ أو إمام عدل ، فكأنما أحيا الناس جميعًا.
ذكر من قال ذلك :
11771 - حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي قال ، حدثنا الفضل
__________
(1) انظر تفسير " كتب " فيما سلف ص : 169 ، تعليق 1. والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الفساد في الأرض " فيما سلف 1 : 287 ، 406/ 4 : 238 ،
239 ، 243 ، 424/ 5 : 372/ 6 : 477.
(10/232)
بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " من قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض
فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا " ، قال : من
شدّ على عضُد نبيّ أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعًا ، ومن قتل نبيًّا أو إمام
عدل ، فكأنما قتل الناس جميعًا. (1)
11772 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل
نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا " ، يقول : من
قتل نفسًا واحدًة حرَّمتها ، فهو مثل من قتل الناس جميعًا " ومن أحياها
" ، يقول : من ترك قتل نفس واحدة حرمتها مَخَافتي ، واستحياها أن يقتلها ،
فهو مثل استحياء الناس جميعًا يعني بذلك الأنبياء.
* * *
وقال آخرون : " من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس
جميعًا " ، عند المقتول في الإثم " ومن أحياها " ، فاستنقذها من
هلكةٍ " فكأنما أحيى الناس جميعًا " ، عند المستنقذ.
ذكر من قال ذلك :
11773 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ،
فيما ذكر عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني ، عن عبد الله
وعن ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " من قتل نفسًا بغير
نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتَلَ
__________
(1) الأثر : 11771 - " أبو عمار المروزي " ، هو : " الحسين بن حريث
بن الحسن بن ثابت " . روى عن ابن المبارك ، والفضل بن موسى ، وابن أبي حازم ،
وابن عيينة ، وغيرهم. روى عنه الجماعة سوى ابن ماجه. ثقة. مترجم في التهذيب ،
والكبير 1/2/389 ، وابن أبي حاتم 1/2/50.
و " الفضل بن موسى السيناني " ، أبو عبد الله المروزي. ثقة ثبت روى له
الجماعة. مترجم في التهذيب.
و " الحسين بن واقد المروزي " ، مضى برقم : 4810 ، 6311.
(10/233)
الناس جميعًا " ، عند المقتول ،
يقول : في الإثم " ومن أحياها " ، فاستنقذها من هلكة " فكأنما أحيى
الناس جميعًا " ، عند المستنقَذ.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : إن قاتل النفس المحرم قتلُها ، يصلى النار كما يصلاها لو
قتل الناس جميعًا " ومن أحياها " ، من سلم من قتلها ، فقد سلم من قتل
الناس جميعًا.
ذكر من قال ذلك :
11774 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال :
" من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا " ، قال : من كف عن قتلها فقد
أحياها " ومن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا " ، قال : ومن
أوبقها.
11775 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن خصيف ، عن
مجاهد قال : من أوبق نفسًا فكما لو قتل الناس جميعًا ، ومن أحياها وسلم من ظُلمها
فلم يقتلها ، (1) فقد سلم من قتل الناس جميعًا.
11776 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك
، عن خصيف ، عن مجاهد : " فكأنما قتل الناس جميعًا ، ومن أحياها فكأنما أحيى
الناس جميعًا " ، لم يقتلها ، وقد سلم منه الناس جميعًا ، لم يقتل أحدًا.
11777 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي
قال ، أخبرنا عبدة بن أبي لبابة قال : سألت مجاهدًا أو : سمعته يُسْأل عن قوله :
" من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا "
، قال : لو قتل الناس جميعًا ، كان جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغَضِب
__________
(1) في المطبوعة : " وسلم من طلبها " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو
الصواب.
(10/234)
الله عليه ولَعنه ، وأعد له عذابًا
عظيمًا. (1)
11778 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج
قراءةً ، عن الأعرج ، (2) عن مجاهد في قوله : " فكأنما قتل الناس جميعًا
" ، قال : الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدًا ، جعل الله جزاءه جهَنّم ، وغضب
الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا. يقول : لو قتل الناس جميعًا لم يزد على
مثل ذلك من العذاب قال ابن جريج ، قال مجاهد : " ومن أحياها فكأنما أحيى
الناس جميعًا " قال : من لم يقتل أحدًا ، فقد استراح الناسُ منه.
11779 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد
قال : أوبق نفسه. (3)
11780 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد
قال : في الإثم.
11780 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد : " من قتل
نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا " ، وقوله : (
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ) [سورة النساء :
93] قال : يصير إلى جهنم بقتل المؤمن ، كما أنه لو قتل الناس جميعًا لصار إلى
جهنم.
11781 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير
نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا " قال : هو كما قال وقال :
" ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا " ، فإحياؤها : لا يقتل نفسًا
حرمها الله ، فذلك الذي أحيى الناس جميعًا ، يعني : أنه من حرم قتلها إلا بحقٍّ ،
حَيِي الناس منه جميعًا.
__________
(1) هذا تضمين آية " سورة النساء " : 93.
(2) في المطبوعة : " قراءة عن الأعرج " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " أوبق نفسا " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/235)
11782 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا
حكام ، عن عنبسة ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد : " ومن أحياها "
، قال : ومن حرَّمها فلم يقتلها.
11783 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن العلاء قال : سمعت مجاهدًا يقول :
" من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا " ، قال : من كف عن قتلها فقد
أحياها.
11784 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " فكأنما قتل الناس جميعًا " قال
: هي كالتي في " النساء " : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ) [سورة النساء : 93] ، في جزائه.
11785 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " فكأنما قتل الناس جميعًا " كالتي في " سورة النساء
" ، ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ) في جزائه " ومن أحياها
" ، ولم يقتل أحدًا ، فقد حيِيَ الناس منه.
11786 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن مجاهد
في قوله : " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا " ، قال : التفت إلى
جلسائه فقال : هو هذا وهذا. (1)
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل
الناس جميعًا ، لأنه يجب عليه من القِصاص به والقوَد بقتله ، مثلُ الذي يجب عليه
من القَوَد والقصاص لو قتل الناس جميعًا.
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) كأنه يعني بقوله : " هو هذا وهذا " ، أن قتل نفس محرمة بغير نفس أو
فساد في الأرض قتل للناس جميعًا ، وإحياؤها إحياء للناس جميعًا.
(10/236)
11787 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن
وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من
قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا " ، قال :
يجب عليه من القتل مثلُ لو أنه قتل الناس جميعًا. قال : كان أبي يقول ذلك.
* * *
وقال آخرون معنى قوله : " ومن أحياها " : من عفا عمن وجب له القِصَاص
منه فلم يقتله.
ذكر من قال ذلك :
11788 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ومن
أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا " ، يقول : من أحياها ، أعطاه الله جل وعزّ
من الأجر مثلُ لو أنه أحيى الناس جميعًا " أحياها " فلم يقتلها وعفا
عنها. قال : وذلك وليّ القتيل ، والقتيل نفسه يعفو عنه قبل أن يموت. قال : كان أبي
يقول ذلك :
11789 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن يونس ، عن
الحسن في قوله : " ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا " ، قال : من
عفا.
11790 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن : " ومن
أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا " ، قال : من قُتِل حميمٌ له فعفا عن دمه.
(1)
11791 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن يونس ، عن
الحسن. " ومن أحياها فكأنما أحيى الناسَ جميعًا " ، قال : العفو بعد
القدرة.
* * *
__________
(1) " الحميم " : ذو القرابة القريب.
(10/237)
وقال آخرون : معنى قوله : " ومن
أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا " ، ومن أنجاها من غَرَق أو حَرَقٍ. (1)
ذكر من قال ذلك :
11792 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : " ومن
أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا " قال : من أنجاها من غَرَق أو حرَقٍ أو
هَلَكةٍ.
11793 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي وحدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع عن سفيان ،
عن منصور ، عن مجاهد : " ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا " ، قال :
من غرَق أو حَرَق أو هَدَمٍ. (2)
11794 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل عن خصيف ، عن
مجاهد : " ومن أحياها " ، قال : أنجاها.
* * *
وقال الضحاك بما : -
11795 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن أبي عامر ، عن
الضحاك قال : " من قتل نفسًا بغير نفس " ، قال : من تورَّع أو لم
يتورَّع. (3)
11796 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثني عبيد بن سليمان قال ،
سمعت الضحاك يقول في قوله : " فكأنما أحيى الناس جميعًا " ، يقول : لو
لم يقتله لكان قد أحيى الناس ، فلم يستحلّ محرَّمًا.
* * *
__________
(1) " الحرق " (بفتحتين) : النار ولهبها ، كالحريق. وفي الحديث : "
الحرق والغرق والشرق شهادة " (كل ذلك بفتحات).
(2) " الهدم " (بفتحتين). وهو البناء المهدوم ، وفي حديث الشهداء :
" وصاحب الهدم شهادة " .
(3) كأنه يعني : من تورع عن قتلها ، أو لم يتورع ولكنه لم يقتل ، فكأنما أحيى
الناس جميعا.
(10/238)
وقال قتادة والحسن في ذلك بما : -
11797 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن : " من
قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض " ، قال : عَظُم ذلك.
11798 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " من
أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس " الآية ، من قتلها
على غير نفس ولا فسادٍ أفسدته " فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما
أحيى الناس جميعًا " عظُم والله أجرُها ، وعظُم وزرها! فأحيها يا ابن آدم بما
لك ، وأحيها بعفوك إن استطعت ، ولا قوة إلا بالله. وإنا لا نعلمُه يحل دم رجل
مسلمٍ من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث : رجل كفرَ بعد إسلامه ، فعليه القتل أو
زنى بعد إحصانه ، فعليه الرجم أو قتل متعمدًا ، فعليه القَوَد.
11799 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر قال : تلا
قتادة : " من قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما
أحيى الناس جميعًا " قال : عظم والله أجرُها ، وعظم والله وِزْرها!
11800 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن
سلاّم بن مسكين قال ، حدثني سليمان بن علي الربعي قال : قلت للحسن : " من أجل
ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس " الآية ، أهي لنا يا
أبا سعيد ، كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال : إِي والذي لا إله غيره ، كما كانت لبني
إسرائيل! وما جعل دماءَ بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا ؟ (1)
11801 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن
__________
(1) الأثر : 11800 - " سلام بن مسكين بن ربيعة الأزدي " ، " أبو
روح " ، ثقة. مضى برقم : 692.
و " سليمان " بن علي الربعي الأزدي " . ثقة. مترجم في التهذيب.
(10/239)
المبارك ، عن سعيد بن زيد قال : سمعت
خالدًا أبا الفضل قال : سمعت الحسن تلا هذه الآية : " فطوَّعت له نفسه قتل
أخيه " إلى قوله : " ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا " ، ثم
قال : عظَّم والله في الوزر كما تسمعون ، ورغَّب والله في الأجر كما تسمعون! إذا
ظننت يا ابن آدم ، أنك لو قتلت الناس جميعًا ، فإن لك من عملك ما تفوز به من النار
، كذَبَتْك والله نفسك ، وكذَبَك الشيطان. (1)
11802 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن عاصم ، عن الحسن في قوله : " فكأنما
قتل الناس جميعًا " قال : وِزْرًا " ومن أحياها فكأنما أحيى الناس
جميعًا " قال : أجرًا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قولُ من قال : تأويل
__________
(1) الأثر : 11801 - " سعيد بن زيد بن درهم الأزدي " ، أخو : حماد بن
زيد. تكلموا فيه ، ووثقوه فقالوا : " صدوق حافظ " ، وأعدل ما قيل فيه ما
قاله ابن حبان : " كان صدوقا حافظًا ، ممن كان يخطئ في الأخبار ويهم ، حتى لا
يحتج به إذا انفرد " . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/432 ، وابن أبي حاتم
2/1/21.
و " خالد ، أبو الفضل " . قال البخاري في الكبير 2/1/153 : " خالد
بن أبي الفضل ، سمع الحسن. روى عنه سعيد بن زيد قوله... وكنيته خالد بن رباح أبا
الفضل ، فلا أدري هو ذا أم لا " ؟ كأن البخاري يعني هذا الأثر.
ثم ترجم " خالد بن رباح الهذلي " 2/1/136 ، وقال : " سمع منه وكيع
" ، ولم يذكر " سعيد بن زيد " . وقال : " قال يزيد بن هرون ،
أخبرنا خالد بن رباح أبو الفضل " .
وأما ابن أبي حاتم فقد ترجم في الجرح والتعديل 1/2/346 : " خالد بن الفضل.
روي عن الحسن. روى عنه سعيد بن زيد. سمعت أبي يقول ذلك " .
ثم ترجم في 1/2/330. و " خالد بن رباح الهذلي ، أبو الفضل ... روى عن
الحسن.... " ، ولم يذكر في الرواه عنه " سعيد بن زيد " .
وترجم له الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة : 112 ، وفي لسان الميزان 2 : 374 ،
" خالد بن رباح الهذلي ، أبو الفضل البصري " ، ونقل عن ابن حبان في
الضعفاء أن كنيته " أبو الفضل " ثم قال : " ولما ذكره في الطبقة
الثالثة من الثقات قال : خالد بن رباح أبو الفضل ، يروي عن الحسن. روى عنه سعيد بن
زيد " . قال ابن حجر : " فما أدري ، ظنه آخر ، أو تناقض فيه ؟ " .
أما ترجمته في لسان الميزان ، فلم يذكر كنيته هناك ، ونقل بعض ما جاء في تعجيل
المنفعة.
والظاهر أن " خالدًا أبا الفضل " ، هو " خالد بن رباح الهذلي
" نفسه ، وأن ما جاء في ابن أبي حاتم " خالد بن الفضل " خطأ أو
وهم. والظاهر أيضًا أنه توقف في أمر " خالد بن أبي الفضل " ، ورجح أن
يكون خطأ من الرواة ، وأن الراوية " خالد أبو الفضل " . وهو " خالد
بن رباح الهذلي " نفسه.
(10/240)
ذلك : أنه من قتل نفسًا مؤمنة بغير نفس
قَتَلتها فاستحقت القَوَد بها والقتل قِصاصًا أو بغير فساد في الأرض ، بحرب الله
ورسوله وحرب المؤمنين فيها فكأنما قتل الناس جميعًا فيما استوجب من عظيم العقوبة
من الله جل ثناؤه ، كما أوعده ذلك من فعله ربُّه بقوله : ( وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) [سورة النساء : 93].
* * *
وأما قوله : " ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا " فأولى التأويلات
به ، قول من قال : من حرّم قتل من حرّم الله عز ذكره قتله على نفسه ، فلم يتقدّم
على قتله ، فقد حيى الناس منه بسلامتهم منه ، وذلك إحياؤه إياها. وذلك نظير خبر
الله عز ذكره عمن حاجّ إبراهيم في ربّه إذ قال له إبراهيم : ( رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) [سورة البقرة : 258]. فكان
معنى الكافر في قيله : " أنا أحيي " ، (1) أنا أترك من قَدَرت على قتله
- وفي قوله : " وأميت " ، قتله من قتله. (2) فكذلك معنى " الإحياء
" في قوله : " ومن أحياها " ، من سلِمَ الناس من قتله إياهم ، إلا
فيما أذن الله في قتله منهم " فكأنما أحيى الناس جميعًا " .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الآية ، لأنه لا نفسَ يقومُ قتلُها في عاجل
الضُّرّ مقام قتل جميع النفوس ، ولا إحياؤها مقامَ إحياء جميع النفوس في عاجل
النفع. فكان معلومًا بذلك أن معنى " الإحياء " : سلامة جميع النفوس منه
، لأنه من لم يتقدم على نفس واحدة ، فقد سلم منه جميع النفوس - وأن الواحدة منها
التي يقوم قتلُها مقام جميعها إنما هو في الوِزْر ، لأنه لا نفس من نفوس بني آدم
يقوم فقدها مقام فقد جميعها ، وإن كان فقد بعضها أعمّ ضررًا من فقد بعض. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة هنا : " أنا أحيي وأميت " ولا شك أن قوله :
" وأميت " تكرار ، فتركته.
(2) انظر ما سلف : 5 : 432.
(3) انظر تفسير " الإحياء " فيما سلف 5 : 432 ، وما بعدها.
(10/241)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) }
قال أبو جعفر : وهذا قسم من الله جل ثناؤه أقسم به : أن رسله صلوات الله عليهم قد
أتت بني إسرائيل الذين قصَّ الله قَصَصهم وذكر نبأهم في الآيات التي تقدَّمت ، من
قوله : " يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ همَّ قوم أن
يبسُطوا إليكم أيديهم " إلى هذا الموضع " بالبينات " ، يعني :
بالآيات الواضحة والحجج البيِّنة على حقيقة ما أرسلوا به إليهم ، (1) وصحة ما
دعوهم إليه من الإيمان بهم ، وأداء فرائضِ الله عليهم.
يقول الله عز ذكره : " ثم إن كثيًرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون " ،
يعني : أن كثيرًا من بني إسرائيل.
* * *
و " الهاء والميم " في قوله : " ثم إن كثيرًا منهم " ، من ذكر
بني إسرائيل ، وكذلك ذلك في قوله : " ولقد جاءتهم " .
* * *
" بعد ذلك " ، يعني : بعد مجيء رسل الله بالبينات (2) .
" في الأرض لمسرفون " ، يعني : أنهم في الأرض لعاملون بمعاصي الله ،
ومخالفون أمر الله ونهيه ، ومحادُّو الله ورسله ، باتباعهم أهواءَهم. وخلافهم على
أنبيائهم ، وذلك كان إسرافهم في الأرض. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " على حقية " ، فعل بما كان في المخطوطة ، كما فعل
بأخواتها من قبل ، انظر ما سلف ، كما أشرت إليه في ص : 19 ، تعليق : 3 ، والمراجع
السابقة هناك.
(2) انظر تفسير " البينات " فيما سلف 9 : 360 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " الإسراف " فيما سلف 7 : 272 ، 579.
(10/242)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الأرْضِ فَسَادًا }
قال أبو جعفر : وهذا بيان من الله عز ذكره عن حكم " الفساد في الأرض " ،
الذي ذكره في قوله : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا
بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض " أعلم عباده : ما الذي يستحق المفسدُ في الأرض
من العقوبة والنكال ، فقال تبارك وتعالى : لا جزاء له في الدنيا إلا القتلُ ،
والصلب ، وقطعُ اليد والرِّجل من خلافٍ ، أو النفي من الأرضِ ، خزيًا لهم. وأما في
الآخرة إن لم يتبْ في الدنيا ، فعذاب عظيم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية.
فقال بعضهم : نزلت في قوم مِن أهل الكتاب كانوا أهل مودَاعةٍ لرسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فنقضوا العهد ، وأفسدوا في الأرض ، فعرَّف الله نبيَّه صلى الله عليه
وسلم الحكمَ فيهم.
ذكر من قال ذلك :
11803 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض
فسادًا " ، قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم
عهدٌ وميثاق ، فنقضوا العهدَ وأفسدوا في الأرض ، فخيَّرَ الله رسوله : إن شاء أن
يقتل ، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ.
11804 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن
الضحاك قال : كان قوم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاقٌ ، فنقضوا
العهد وقطعوا السبيل ، وأفسدوا في الأرض ، فخيَّر الله جل
(10/243)
وعز نبيَّه صلى الله عليه وسلم فيهم ،
فإن شاء قتل ، وإن شاء صَلَب ، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
11805 - حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثني عبيد بن سليمان قال ،
سمعت الضحاك يقول ، فذكر نحوه.
* * *
وقال آخرون : نزلت في قوم من المشركين.
ذكر من قال ذلك :
11806 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن
يزيد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال : " إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله " إلى " أن الله غفور رحيم " ، نزلت هذه الآية في المشركين
، فمن تاب منهم من قبل أن تقدِروا عليه لم يكن عليه سبيل. وليست تُحْرِزُ هذه
الآية الرجلَ المسلم من الحدِّ. إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ، ثم
لحق بالكفار قبل أن يُقْدَر عليه ، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحدُّ الذي أصاب.
(1)
11807 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن أشعث ، عن الحسن : "
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، قال : نزلت في أهل الشرك.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت في قوم من عُرَيْنه وعُكْل ، ارتدُّوا عن الإسلام ، وحارَبوا
الله ورسوله.
[ذكر من قال ذلك] :
11808 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا سعيد
__________
(1) الأثر : 11806 - " يزيد " هو " يزيد النحوي " ، "
يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي " مضى برقم : 6311. وكان في المطبوعة هنا :
" زيد " ، وهو خطأ ، صوابه في المخطوطة. وأخرجه النسائي في سننه 7 : 101
بمثله. وأبو داود في سننه 4 : 187 ، رقم 4372 ، وسيأتي برقم : 11872.
(10/244)
بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس : أن
رهطًا من عُكْلٍ وعُرَينة ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله
، إنا أهل ضَرْع ، ولم نكن أهل ريفٍ ، (1) وإنا استوخمنا المدينة ، (2) فأمر لهم
النبي صلى الله عليه وسلم بِذَوْدٍ وراعٍ ، (3) وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من
ألبانها وأبوالها ، فقتلوا راعيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستاقوا الذود ،
وكفروا بعد إسلامهم. فأتيَ بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ،
وَسَمل أعينهم ، (4) وتركهم في الحرَّة حتى ماتوا (5) فذُكر لنا أن هذه الآية نزلت
فيهم : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " . (6)
11809 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا روح قال ، حدثنا هشام بن أبي عبد الله ، عن
قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثل هذه القصة. (7)
11810 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال ، سمعت أبى يقول :
__________
(1) " أهل ضرع " : أهل إبل وشاء. و " الضرع " ، ثدي كل ذات خف
أو ظلف ، يعني أنهم أهل بادية و " أهل ريف " : أهل زرع وحرث ، وهم
الحضر. و " الريف " ، ما قارب الماء من أرض العرب وغيرها.
(2) " استوخموا المدينة " : استثقلوها ، ولم يوافق هواؤها أبدانهم ،
فمرضوا.
(3) " الذود " : القطيع من الإبل ، من الثلاث إلى التسع.
(4) " سمل عينه " : فقأها بحديدة محماة ، أو بشوك ، أو ما شابه ذلك.
وإنما فعل بهم ذلك ، لأنهم فعلوا بالرعاة مثله ، فجازاهم على صنيعه بمثله.
(5) " الحرة " (بفتح الحاء) : أرض ذات حجارة سود نخرات ، كأنها أحرقت
بالنار. ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حرتين.
(6) الأثران : 11808 ، 11809 - " روح بن عباة القيسي " ، ثقة ، أخرج له
أصحاب الكتب الستة. مضى برقم : 3015 ، 3355 ، 3912.
و " هشام بن أبي عبد الله " في الأثر الثاني هو " الدستوائي "
.
وهذا حديث صحيح ، رواه أحمد من طرق في مسنده 3 : 163 ، من طريق معمر ، عن قتادة/
و170 ، من طريق سعيد عن قتادة/ و233 ، من طريق سعيد أيضا/ و287 من طريق حماد ، عن
قتادة/ و290 من طريق عفان عن قتادة. ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 7 : 351) من
طريق عبد الأعلى بن حماد ، عن يزيد بن زريع ، عن سعيد ، بمثله. وأشار إليه مسلم في
صحيحه 11 : 157. وأبو داود في سننه 4 : 186 ، رقم 4368 ، من طريق هشام ، عن قتادة
، والنسائي في سننه من طرق 7 : 97 ، والبيهقي في السنن 8 : 62.
(7) الأثران : 11808 ، 11809 - " روح بن عباة القيسي " ، ثقة ، أخرج له
أصحاب الكتب الستة. مضى برقم : 3015 ، 3355 ، 3912.
و " هشام بن أبي عبد الله " في الأثر الثاني هو " الدستوائي "
.
وهذا حديث صحيح ، رواه أحمد من طرق في مسنده 3 : 163 ، من طريق معمر ، عن قتادة/
و170 ، من طريق سعيد عن قتادة/ و233 ، من طريق سعيد أيضا/ و287 من طريق حماد ، عن
قتادة/ و290 من طريق عفان عن قتادة. ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 7 : 351) من
طريق عبد الأعلى بن حماد ، عن يزيد بن زريع ، عن سعيد ، بمثله. وأشار إليه مسلم في
صحيحه 11 : 157. وأبو داود في سننه 4 : 186 ، رقم 4368 ، من طريق هشام ، عن قتادة
، والنسائي في سننه من طرق 7 : 97 ، والبيهقي في السنن 8 : 62.
(10/245)
أخبرنا أبو حمزة ، عن عبد الكريم وسئل
عن أبوال الإبل فقال : حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال : كان ناس أتوا النبي
صلى الله عليه وسلم فقالوا : نبايعك على الإسلام! فبايعوه وهم كَذَبة ، وليس
الإسلامَ يريدون. ثم قالوا : إنا نجتوي المدينة! (1) فقال النبي صلى الله عليه
وسلم : " هذه اللَّقاح تغدو عليكم وتروح ، (2) فاشربوا من أبوالها وألبانها.
قال : فبينا هم كذلك ، إذ جاء الصريخُ ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
(3) فقال : قتلوا الراعي ، وساقوا النَّعَم! فأمر نبي الله فنودي في الناس : أنْ "
يا خيل الله اركبي " ! (4) قال : فركبوا ، لا ينتظر فارسٌ فارسًا. قال : فركب
رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم ، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم
مأمنَهم ، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم ، فأتوا بهم
النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله " الآية. قال : فكان نفيُهم : أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنَهم وأرضهم ،
ونفوهم من أرض المسلمين. وقتل نبي الله منهم ، وصلب وقَطَع ، وَسَمل الأعين. قال :
فما مثَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلُ ولا بعدُ. قال : ونهَى عن المُثْلة ،
وقال : لا تمثِّلوا بشيء. قال : فكان أنس بن مالك يقول ذلك ، غير أنه قال : أحرقهم
بالنار بعد ما قتلهم. (5)
* * *
__________
(1) " اجتوى الأرض والبلد " : إذا كره المقام فيه ، وإن كانت موافقة له
في بدنه. ويقال : " الاجتواء " : أن لا تستمرئ الطعام بالأرض والشراب ،
غير أنك إذ أحببت المقام بها ولم يوافقك طعامها ، فأنت " مستوبل " ،
ولست بمجتو. ويقال في شرح حديث العرنيين : أصابهم " الجوى " ، وهو المرض
وداء الجوف إذا تطاول.
(2) " اللقاح " (بكسر اللام) جمع " لقحة " (بكسر فسكون) ، وهي
ذوات الألبان من النوق.
(3) " الصريخ " و " الصارخ " : المستغيث. وقوله : " صرخ
إلى رسول الله " ، كأنه يعني : انتهى باستغاثته إلى رسول الله. وهو تعبير
قلما تظفر به في المراجع فقيده.
(4) قال ابن الأثير : " هذا على حذف المضاف ، أراد : يا فرسان خيل الله اركبي
، وهذا من أحسن المحازات وألطفها " ، وهي في التنزيل : " وأجلب عليهم
بخيلك ورجلك " ، أي بفرسانك ورجالتك.
(5) الأثر : 11810 - " أبو حمزة " ، هو " ميمون ، أبو حمزة الأعور
القصاب " ، ضعيف جدا ، مضى برقم : 6190.
و " عبد الكريم " ، هو " عبد الكريم بن مالك الجزري : " أبو
سعيد ، ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 892.
(10/246)
قال : وبعضهم يقول : هم ناس من بني
سليم ، ومنهم من عرينة ، وناس من بَجيلة
[ذكر من قال ذلك] :
11811 - حدثني محمد بن خلف قال ، حدثنا الحسن بن حماد ، عن عمرو بن هاشم ، عن موسى
بن عبيدة ، عن محمد بن إبراهيم ، عن جرير قال : قَدِم على النبي صلى الله عليه
وسلم قوم من عرينة ، حفاةً مضرورين ، (1) فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) فلما صَحُّوا واشتدُّوا ، قتلوا رِعاءَ اللقاح ، (3) ثم خرجوا باللِّقاح
عامدين بها إلى أرض قومهم. قال جرير : فبعثني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في
نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعد ما أشرَفُوا على بلاد قومهم ، فقدِمنا بهم على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقطع أيديهم وأرجلَهم من خلاف ، وسملَ أعينهم ،
وجعلوا يقولون : " الماء " ! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" النار " ! حتى هلكوا. قال : وكره الله عز وجلَ سَمْل الأعين ، فأنزل
هذه الآية : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى آخر الآية.
(4)
__________
(1) " المضرور " و " الضرير " : المريض المهزول الذي أصابه
الضر.
(2) يعني بقوله : " فأمر بهم " ، يعني : أمر ان يمرضوا ويعتني بأمرهم.
(3) " الرعاء " و " الرعاة " جمع " راع " .
(4) الأثر : 11811 - " محمد بن خلف بن عمار العسقلاني " ، شيخ الطبري ،
مضى برقم : 126 ، 6534.
و " الحسن بن حماد بن كسيب الحضرمي " ، وهو " سجادة " . روي
عن حفص بن غياث ويحيى بن سعيد الأموي ، وأبي خالد الأحمر ، وأبي مالك الجنبي ،
ووكيع ، وغيرهم. روى عنه أبو داود ، وابن ماجه وغيرهم. ثقة. قال أحمد : "
صاحب سنة ، ما بلغني عنه إلا خيرًا " . توفى سنة 241. وكان في المطبوعة :
" الحسن بن هناد " ، خطأ ، صوابه في المخطوطة. وتفسير ابن كثير.
و " عمرو بن هاشم " ، هو " أبو مالك الجنبي " ، صدوق يخطئ ،
لينوه. مضى برقم : 1530
و " موسى عبيدة بن نشيط الربذي " ضعيف نمرة ، قال أحمد : " لا تحل
الرواية عندي عن موسى بن عبيدة " . مضى برقم : 1875 ، 3291 ، 8361 ، 11134
وكان في المطبوعة والمخطوطة : " موسى بن عبيد " ، وهو خطأ ، صوابه من
تفسير ابن كثير.
وأما " محمد بن إبراهيم " ، فكأنه " محمد بن إبراهيم بن الحارث بن
خالد التيمي " ، رأى سعد بن أبي وقاص ، وأبا سعيد الخدري ، وأرسل عن ابن عمر
وابن عباس. فلا أدري أسمع من جرير بن عبد الله ، أم لا. وجرير مات سنة 51.
وهذا الخبر ضعيف جدا ، وهو أيضا لا يصح ، لأن جرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول
الله صلى الله عليه وسلم وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفى فيه
، وخبر العرنيين كان في شوال سنة ست ، في رواية الواقدي (ابن سعد2/1/67) ، وكان
أمير السرية كرز بن جابر الفهري. وذلك قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في
شهر ربيع الأول سنة 11 من الهجرة ، بأعوام.
وهذا الخبر ، ذكره الحافظ ابن حجر ، في ترجمة " جرير بن عبد الله البجلي
" ، وضعفه جدا. أما ابن كثير ، فذكره في تفسيره 3 : 139 ، وقال : " هذا
حديث غريب ، وفي إسناده الربذي ، وهو ضعيف. وفي إسناده فائدة : وهو ذكر أمير هذه
السرية. وهو جرير بن عبد الله البجلي. وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا
عشرين فارسًا من الأنصار. وأما قوله : فكره الله سمل الأعين ، فإنه منكر. وقد تقدم
في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء ، فكان ما فعل بهم قصاصًا ، والله أعلم
" .
والعجب لابن كثير ، يظن فائدة فيما لا فائدة فيه ، فإن أمير هذه السرية ، كان ،
ولا شك ، كرز ابن جابر الفهري ، ولم يرو أحد أن أميرها كان جرير بن عبد الله
البجلي ، إلا في هذا الخبر المنكر.
(10/247)
11812 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن
وهب قال ، أخبرني ابن لهيعة ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن ، عن عروة بن
الزبير ح ، وحدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يحيى بن عبد الله بن
سالم ، وسعيد بن عبد الرحمن وابن سمعان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : أغار
ناس من عرينة على لِقَاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستاقوها وقتلوا غلامًا
له فيها ، فبعث في آثارهم ، فأخِذوا ، فقطع أيديهم وأرجلهم وَسَمل أعينهم. (1)
__________
(1) الأثر : 11812 - " أبو الأسود " ، " محمد بن عبد الرحمن بن
نوفل الأسدي " ، هو " يتيم عروة " ثقة. سلف برقم : 2891 ، 11510.
" يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب " ، ثقة ،
مستقيم الحديث. مترجم في التهذيب.
و " سعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حميل الجمحي " ، قاضي بغداد. ثقة
، قال أحمد : " ليس به بأس ، وحديثه مقارب " . وقال ابن أبي عدي :
" له غرائب حسان ، وأرجو أنها مستقيمة ، وإنما يهم في الشيء بعد الشيء ،
فيرفع موقوفًا ، ويصل مرسلا ، لا عن تعمد " . مترجم في التهذيب.
و " ابن سمعان " ، هو " عبد الله بن سليمان بن سمعان المخزومي
" ، وهو ضعيف كذاب. سئل مالك عنه فقال : " كذاب " . وقال هشام بن
عروة (الذي روى عنه هذا الأثر هنا) : " حدث عني بأحاديث ، والله ما حدثته بها
، ولقد كذب علي " . وقد أجمعوا على أنه لا يكتب حديثه ، كما قال النسائي.
قال ابن عدي : " أروى الناس عنه ابن وهب ، والضعف على حديثه ورواياته بين
" . أما ابن وهب الراوي عنه هنا ، فقد سأله عنه أحمد بن صالح فقال : "
ما كان مالك يقول في ابن سمعان ؟ " ، قال : " لا يقبل قول بعضهم في بعض
" .
وهذا الخبر الذي رواه الطبري بهذا الإسناد ، صحيح ، إلا ما كان من ضعف ابن سمعان
وتركه ، ولذلك رواه النسائي في سننه 7 : 99 ، 100 ، فساق إسناد الطبري ولكنه أغفل
ذكر ابن سمعان فقال : " أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح قال ، أنبأنا ابن وهب
قال. وأخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم وسعيد بن عبد الرحمن ، وذكر آخر ، عن هشام
بن عروة ، عن عروة بن الزبير " ، فنكر ذكر " ابن سمعان " ، لأنه
متروك عنده.
وهذا الخبر روي بأسانيد صحاح أخرى مرفوعا إلى عائشة. انظر السنن للنسائي 7 : 99.
(10/248)
11813 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن
وهب قال ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن أبي الزناد ، عن عبد
الله بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عمر أو : عمرو ، شك يونس ، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بذلك ، ونزلت فيهم آية المحاربة. (1)
11814 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، حدثنا الأوزاعي ، عن
يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أنس قال : قدم ثمانية نفَرٍ من عُكْلٍ على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلموا ، ثم اجتووا المدينة ، فأمرهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها.
__________
(1) الأثر : 11813 - " عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري " ، ثقة
حافظ ، مضى برقم : 1387 ، 5973 ، 6889.
و " سعيد بن أبي هلال الليثي المصري " ، ثقة ، من أتباع التابعين. مضى
برقم : 1495 ، 5465. و " أبو الزناد " هو : " عبد الله بن ذكوان
القرشي " ، قيل إن أباه كان أخا أبي لؤلؤة ، قاتل عمر بن الخطاب. ثقة ، لم
يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم منه.
و " عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب " . روى عن عمه عبد الله ،
وروى عنه أبو الزناد. ثقة. روى له أبو داود والنسائي حديثًا واحدًا ، هو هذا
الحديث.
وكان في المخطوطة والمطبوعة : " عبد الله بن عبد الله " ، وهو خطأ محض.
وأما ما شك فيه يونس من أنه " عبد الله بن عمر بن الخطاب " أو "
عبد الله بن عمرو بن العاص " ، فشك لا مكان له. والصحيح أنه " عبد الله
بن عمر بن الخطاب " .
وهذا الحديث رواه أبو داود في سننه 4 : 186 - 187 ، رقم 4369 ، مطولا. ورواه
النسائي في سننه 7 : 100 بمثل رواية أبي جعفر.
(10/249)
ففعلوا ، فقتلوا رعاتها ، واستاقوا
الإبل. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم قَافَة ، (1) فأتي بهم ، فقطع
أيديهم وأرجلهم ، (2) وتركهم فلم يحسِمْهُم حتى ماتوا. (3)
11815 - حدثنا علي قال ، حدثنا الوليد قال ، حدثني سعيد ، عن قتادة ، عن أنس قال :
كانوا أربعة نفرٍ من عرينة ، وثلاثةً من عكل. فلما أتي بهم ، قطع أيديهم وأرجلهم ،
وَسَمل أعينهم ، ولم يحسمهم ، وتركهم يتلقَّمون الحجارة بالحرَّة ، (4) فأنزل الله
جل وعز في ذلك : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، الآية. (5)
11816 - حدثني علي قال ، حدثنا الوليد ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب : أن
عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه
الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين ، وهم من بجيلة. قال أنس : فارتدوا عن الإسلام
، وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرج الحرام. (6)
__________
(1) " القافة " جمع " قائف " : وهو الذي يعرف آثار الأقدام
ويتبعها. " قاف الأثر يقوفه قيافة ، واقتافه اقتيافا " .
(2) " حسمه الدم يحسمه حسمًا " : أي قطعة بالكي بالنار.
(3) الأثر : 11814 - هذا الخبر رواه أحمد في مسند أنس من طريق يحيى بن أبي كثير ،
عن أبي قلابة الجرمي 3 : 198 ، من طريق أبي جعفر نفسها ، وفيه " قتلوا رعاتها
- أو رعاءها " ، وفيه زيادة " ولم يحسمهم حتى ماتوا ، وسمل أعينهم
" .
ورواه البخاري في صحيحه من طريق أيوب ، عن أبي قلابة (الفتح 1 : 289/6 : 108/7 :
352/12 : 99) ، ورواه أيضا من طريق أبي رجاء مولى أبي قلابة ، عن أنس (الفتح 8 :
206) واستوفى الحافظ الكلام في شرحه وبيانه.
ورواه مسلم في صحيحه من طرق 11 : 153 - 157.
ورواه أبو داود في سننه 1 : 185 ، 186 من طرق.
ورواه النسائي في سننه من طرق 7 : 93 - 95.
(4) " يتلقمون الحجارة " : أي يضعون الحجارة في أفواههم من العطش ، كي
تستدر الريق. وجاء مفسرًا في ألفاظ الحديث الأخرى. قال أنس : " فلقد رأيت
أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشًا " . يقال : " لقم الطعام وتلقمته والتقمه
" .
(5) الأثر : 11815 - انظر الأثرين السالفين رقم : 11808 ، 11809.
(6) الأثر : 11816 - انظر سنن النسائي 7 : 98 ، وقول أمير المؤمنين عبد الملك لأنس
وهو يحدثه حديث العرنيين : " بكفر أو بذنب ؟ " ، فقال أنس : " بكفر
" . وسيأتي هذا الخبر مطولا ، وقول أبي جعفر فيه ، وتخريجه هناك برقم :
11854.
(10/250)
11817 - حدثني موسى بن هارون قال ،
حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " إنما جزاء الذين
يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا " ، قال : أنزلت في سُودان
عرينة. قال : أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم الماءُ الأصفر ، فشكوا ذلك
إليه ، فأمرهم فخرجوا إلى إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقة ، فقال :
اشربوا من ألبانها وأبوالها! فشربوا من ألبانها وأبوالها ، حتى إذا صَحُّوا وبرأوا
، قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال : أنزل الله هذه الآية على
نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، معرِّفَه حكمه على من حارب الله ورسوله ، (1) وسعى في
الأرض فسادًا ، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيِّين ما
فعل.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك ، لأن القِصَص التي قصّها الله جل
وعزّ قبلَ هذه الآية وبعدَها ، من قَصَص بنى إسرائيل وأنبائهم ، فأن يكون ذلك
متوسِّطًا ، (2) من تعريف الحكم فيهم وفي نظرائهم ، (3) أولى وأحقّ.
وقلنا : كان نزول ذلك بعد الذي كان من فعلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالعرنيِّين ما فعل ، لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
* * *
وإذ كان ذلك أولى بالآية لما وصفنا ، فتأويلها : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل
، أنه من قتل نفسًا بغير نفس ، أو سعى بفسادٍ في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعًا
، ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا ولقد جاءتهم رُسُلنا
__________
(1) في المطبوعة : " معرفة حكمه " ، وهو خطأ.
(2) " متوسطًا " ، منصوب على الحال.
(3) في المطبوعة : " من يعرف الحكم " ، ومثلها في المخطوطة ، ولكنها غير
منقوطة ، ورجحت أن يكون صوابها ما أثبت.
(10/251)
بالبينات ثُمَّ إن كثيًرا منهم بعد ذلك
في الأرض لمسرفون - يقول : لساعون في الأرض بالفساد ، وقاتلوا النفوس بغير نفس ،
وغير سعي في الأرض بالفسادِ حربًا لله ولرسوله فمن فعل ذلك منهم ، يا محمد ، فإنما
جزاؤه : أن يقتَّلوا ، أو يصلَّبوا ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أو ينفوا
من الأرض.
* * *
فإن قال لنا قائل : وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال التي ذكرتَ : من حال
نقض كافرٍ من بني إسرائيل عهدَه ومن قولك إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل
الإسلام ، (1) دون أهل الحرب من المشركين ؟
قيل : جازَ أن يكون ذلك كذلك ، لأن حكم من حارب الله ورسوله وسَعى في الأرض فسادًا
من أهل ذمَّتنا وملَّتنا واحد. والذين عنوا بالآية ، كانوا أهل عهد وذِمَّة ، وإن
كان داخلا في حكمها كل ذمِّي وملِّي ، وليس يَبْطُل بدخول من دخل في حكم الآية من
الناس ، أن يكون صحيحًا نزولها فيمن نزلت فيه.
* * *
وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين.
فقال بعضهم : ذلك حكم منسوخ ، نسخَه نهيُه عن المثلة بهذه الآية أعني بقوله :
" إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا " الآية.
وقالوا : أنزلت هذه الآية عِتابًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل
بالعُرَنيين.
* * *
وقال بعضهم : بل فِعْلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ، حكمٌ ثابت في
نظرائهم أبدًا ، لم ينسخ ولم يبدّل. وقوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله " الآية ، حكمٌ من الله فيمن حارب وسَعى في الأرض فسادًا بالحِرَابة.
(2)
قالوا :
__________
(1) قوله : " ومن قولك " ، الواو واو الحال ، يعني : كيف يجوز ذلك ،
وأنت تقول كذا وكذا.
(2) " الحرابة " (بكسر الحاء) مصدر مثل " العبادة " و " الرعاية
" و " التجارة " ، يراد به معنى : " المحاربة لله ورسوله ،
والسعي في الأرض فسادًا " . وهو مصدر من قولهم : " حربه " أي سلبه
وأخذ ماله وتركه بلا شيء. وليس مصدر " حارب " ، فإن مصدر ذلك "
محاربة وحرابًا " مثل " قاتل مقاتلة وقتالا " . وهذا اللفظ على
كثرة دورانه في كتب الأئمة لم يرد له ذكر في كتب اللغة ، كأنهم عدوه مما استعمله
الفقهاء ، ولم تأت به رواية اللغة. وهو ، إن شاء الله ، عربي صحيح البناء.
(10/252)
والعرنيون ارتدُّوا ، وقتلوا ، وسرقوا
، وحاربوا الله ورسوله ، فحكمهم غير حكم المحارب الساعي في الأرض بالفساد من أهل
الإسلام أو الذمة. (1)
* * *
وقال آخرون : لم يسمُل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيِّين ، ولكنه كان أراد
أن يسمُل ، فأنزل الله جل وعز هذه الآية على نبيه ، يعرِّفه الحكم فيهم ، ونهاه عن
سمل أعينهم.
ذكر القائلين ما وصفنا :
11818 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : ذاكرت اللَّيث بن سعد
ما كان من سَمْل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعيُنهم ، وتركه حَسْمهم حتى ماتوا
، فقال : سمعت محمد بن عجلان يقول : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه
وسلم معاتبةً في ذلك ، وعلَّمه عقوبة مثلهم : من القطع والقتل والنفي ، ولم يسمل
بعدَهم غيرَهم. قال : وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو ، (2) فأنكر أن تكون نزلت
معاتبة ، وقال : بَلَى ، (3) كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ، ثم نزلت هذه الآية
في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم ، فرفع عنهم السمل.
11819 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتي بهم يعني العرنيين فأراد أن
يسمُل أعينهم ، فنهاه الله عن ذلك ، وأمره أن يقيم فيهم الحدود ، كما أنزلها الله
عليه. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " الإسلام والذمة " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) " أبو عمرو " يعني الأوزاعي.
(3) " بلى " استعملها هنا جوابًا في غير حجد سبقها. وقد سلفت قبل ذلك ،
انظر ما سلف ص 98 : تعليق : 4.
(4) انظر الاختلاف في نسخ هذه الآية في " الناسخ والمنسوخ " لأبي جعفر
النحاس : 123 - 128 ، فهو فصل مهم.
(10/253)
واختلف أهل العلم في المستحق اسم
" المحارب لله ورسوله " ، الذى يلزمه حكمُ هذه. فقال بعضهم : هو اللص
الذي يقطَع الطريق.
ذكر من قال ذلك :
11820 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة وعطاء الخراساني في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله
ويسعون في الأرض فسادًا " الآية ، قالا هذا ، اللص الذي يقطع الطريق ، (1)
فهو محارب.
* * *
وقال آخرون : هو اللص المجاهر بلصوصيته ، المكابرُ في المصر وغيره. (2)
وممن قال ذلك الأوزاعي.
11821 - حدثنا بذلك العباس ، عن أبيه عنه. (3)
* * *
وعنه ، وعن مالك ، والليث بن سعد ، وابن لهيعة.
__________
(1) في المطبوعة : " هذا هو اللص " ، زيادة لا خير فيها ، زادها من
نفسه.
(2) في المخطوطة : " المكاثر " بالثاء المثلثة. والذي في المطبوعة هو
الصواب : " كابره على حقه " جاحده وغالبه عليه. و " إنه لمكابر
عليه " ، إذا أخذ منه عنوة وقهرًا. وهي كثيرة في كتاب الأم للشافعي في هذا
الموضع من باب الفقه. انظر الأم 6 : 140 ، وغيرها.
(3) الأثر : 11821 - " العباس " ، يعني " العباس بن الوليد بن مزيد
العذري الآملي البيروتي " ، شيخ أبي جعفر ، مضى برقم : 891.
وأبوه : " الوليد بن مزيد العذري البيروتي " . روى عن الأوزاعي ، وروى
عنه ابنه العباس. ويروى عن الأوزاعي أنه قال : " ما عرض علي كتاب أصح من كتب
الوليد بن مزيد " . مترجم في التهذيب.
وكان في المخطوطة هنا : " حدثنا بذلك العباس ، عن أبيه وعنه عن مالك
والليث... " ، وهو خطأ لا شك. فإن " الوليد بن مزيد " لم تذكر له
رواية عن مالك أو الليث أو ابن لهيعة. والذي رواه عنهم هو : " الوليد بن مسلم
" الآتي في الآثار التالية. فمن أجل ذلك صح بعض ما في المطبوعة ، وصححت ما
تركه. ففي المطبوعة : " ... عن أبيه ، عنه وعن مالك... " ، فجعلته :
" وعنه وعن مالك... " لأنه سيروي في ذلك قول الأوزاعي أيضا من طريق
الوليد بن مسلم برقم : 11824 ، كما سيأتي. واستقام بذلك الكلام.
(10/254)
11822 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا
الوليد بن مسلم قال : قلت لمالك بن أنس : تكونُ محاربةٌ في المصر ؟ قال : نعم ،
والمحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مصرٍ أو خلاء ، فكان ذلك منه على
غير نائرة كانت بينهم ولا ذَحْل ولا عداوة ، (1) قاطعًا للسبيل والطريق والديار ،
مخيفًا لهم بسلاحه ، فقتل أحدًا منهم ، قتله الإمام كقِتْلة المحارب ، (2) ليس
لوليّ المقتول فيه عَفْوٌ ولا قَوَد.
11823 - حدثني علي قال ، حدثنا الوليد قال : وسألت عن ذلك الليث بن سعد وابن لهيعة
، قلت تكون المحاربة في دُور المصر والمدائن والقُرى ؟ فقالا نعم ، إذا هم دخَلوا
عليهم بالسيوف عَلانيةً ، أو ليلا بالنيران. (3) قلت : فقتلوا أو أخذُوا المال ولم
يقتلوا ؟ فقال : نعم هم المحاربون ، فإن قَتَلوا قُتِلوا ، وإن لم يَقْتُلوا
وأخذوا المال ، قُطِعوا من خلاف إذا هم خرجوا به من الدّار ، ليس من حارب المسلمين
في الخَلاء والسبيل ، بأعظم محاربةً مِمَن حاربهم في حَرِيمهم ودورهم!
11824 - حدثني علي قال ، حدثنا الوليد قال ، قال أبو عمرو : (4) وتكون المحاربة في
المصر ، شَهَر على أهله بسلاحه ليلا أو نهارًا قال علي ، قال الوليد : وأخبرني
مالك : أن قتل الغِيلة عنده بمنزلة المحاربة. قلت : وما قتل الغِيلَة ؟ قال : هو
الرجل يخدَع الرَّجل والصبيَّ ، فيدخِلُه بيتًا أو يخلُو به ، فيقتله ، ويأخذ
ماله. فالإمام وليّ قتل هذا ، وليس لولي الدم والجرح قَوَد ولا قصاص.
* * *
وهو قول الشافعي.
11825 - حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
__________
(1) " النائرة " : الفتنة الحادثة في عداوة وشحناء ، و " نار الحرب
" و " نائرتها " : شرها وهيجها. و " الذحل " : الثأر.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " كقتله المحارب " ، والمخطوطة غير منقوطة
، فهذا صواب قراءتها. و " القتلة " : هيأة القتل.
(3) قوله " قلت " هنا ، ليست في المخطوطة ، وزادها الناشر الأول ، وأحسن
في فعله.
(4) " الوليد بن مسلم " ، و " أبو عمرو " هو : الأوزاعي ،
انظر التعليق السالف ص : 254 ، رقم : 3.
(10/255)
وقال آخرون : " المحارب " ،
هو قاطع الطريق. فأما " المكابر في الأمصار " ، (1) فليس بالمحارب الذي
له حكم المحاربين. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه.
11826 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا بشر بن المفضل ، عن داود بن
أبي هند ، قال : تذاكرنا المحاربَ ونحن عند ابن هبيرة ، في أناس من أهل البصرة ،
فاجتمع رأيهم : أن المحارب ما كان خارجًا من المصر.
* * *
وقال مجاهد بما : -
11827 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض
فسادًا " قال : الزنا ، والسرقة ، وقتل الناس ، وإهلاك الحرث والنسل.
11828 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن
القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : " ويسعون في الأرض فسادًا " قال :
" الفساد " ، القتل ، والزنا ، والسرقة.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قولُ من قال : " المحارب لله ورسوله "
، من حارب في سابلة المسلمين وذِمَّتهم ، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حِرَابة.
(2)
وإنما قلنا : ذلك أولى الأقوال بالصواب ، لأنه لا خلاف بين الحجة أن من نصب حربًا
للمسلمين على الظلم منه لهم ، أنه لهم محارب ، ولا خلاف فيه. فالذي وصفنا صفته ،
لا شك فيه أنه لهم نَاصبٌ حربًا ظلمًا. وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء كان نصبه الحربَ
لهم في مصرهم وقُراهم ، أو في سُبلهم وطرقهم : في أنه لله ولرسوله محارب ، بحربه
من نَهَاه الله ورسوله عن حربه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المكابر " فيما سلف قريبًا ص : 254 ، تعليق : 2.
(2) انظر ما قلته في " الحرابة " فيما سلف ص : 252 ، تعليق : 2.
(10/256)
وأما قوله : " ويسعون في الأرض
فسادًا " ، فإنه يعني : ويعملون في أرض الله بالمعاصي : من إخافة سُبُل عباده
المؤمنين به ، أو سُبُل ذمتهم ، وقطعِ طرقهم ، وأخذ أموالهم ظلمًا وعدوانًا ،
والتوثُّب على حرمهم فجورًا وفُسُوقًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ما للذي حاربَ الله ورسوله ، وسعى في الأرض
فسادًا ، من أهل ملة الإسلام أو ذمتهم - إلا بعض هذه الخلال التي ذكرها جل ثناؤه.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في هذه الخلال ، أتلزم المحاربَ باستحقاقه اسم "
المحاربة " ، أم يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جُرْمه ، مختلفًا باختلاف
أجرامه ؟
[فقال بعضهم : تجب على المحارب العقوبة على قدر استحقاقه ، ويلزمه ما لزمه من ذلك
على قدر جُرْمه ، مختلفًا باختلاف أجرامه]. (2)
ذكر من قال ذلك :
11829 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله
__________
(1) انظر تفسير " الفساد في الأرض " فيما سلف ص : 232 ، تعليق : 2 ،
والمراجع هناك.
(2) هذه الزيادة بين القوسين ، لا بد منها ، فإن أبا جعفر سيذكر هذا القول ،
والقول الآخر ، فيما اختلفوا فيه. ومن دأبه أن يصدر كل قول قاله العلماء بترجمة
قولهم. فسقط من هذا الموضع ترجمة هذا الباب ، فاستظهرتها من سؤاله السالف ، ومن
معنى الآثار التالية ، ومن ترجيح أبي جعفر بين هذين التأويلين فيما سيأتي ص : 264
، والظاهر أن الناسخ سها ، واختلط عليه ختام جملة بختام جملة أخرى ، فأسقط
الترجمة.
(10/257)
ورسوله " إلى قوله : " أو
ينفوا من الأرض " ، قال : إذا حارب فقتَل ، فعليه القتل إذا ظُهِر عليه قبْلَ
توبته. (1) وإذا حارب وأخذ المال وقتل ، فعليه الصَّلب إن ظُهِر عليه قبل توبته.
وإذا حارب وأخذ ولم يقتل ، فعليه قطعُ اليدِ والرجل من خلافٍ إن ظُهِر عليه قبل
توبته. وإذا حارب وأخاف السبيل ، فإنما عليه النّفي.
11830 - حدثنا ابن وكيع وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن حماد ،
عن إبراهيم : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " قال : إذا خرج
فأخاف السبيل وأخذ المال ، قُطعت يده ورجله من خِلافٍ. وإذا أخاف السبيلَ ، ولم
يأخذ المال وقتل ، صُلب.
11831 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم -
فيما أرى - في الرجل يخرج محاربًا ، قال : إن قطع الطريق وأخذ المال ، قطعت يدُه
ورجله. وإن أخذ المال وقَتل ، قُتل ، وإن أخذ المال وقَتَل ومثَّل ، صُلب.
11832 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن عمران بن حدير ، عن أبي مجلز :
" إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية ، قال : إذا قتل وأخذ
المال وأخاف السبيل ، صُلب. وإذا قتل لم يعدُ ذلك ، قُتل. إذا أخذ المالَ لم يعدُ
ذلك ، قُطِع. وإذا كان يُفْسد نُفي.
11833 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سماك ، عن الحسن :
" إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى قوله : " أو ينفوا من
الأرض " قال : إذا أخافَ الطريق ولم يَقتُل ولم يأخذ المال ، نُفي.
11834 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن حصين قال :
كان يقال : من حارب فأخاف السبيل وأخذ المال ولم يقتُل ،
__________
(1) " ظهر عليه " (بالبناء للمجهول) : أي غلب فأخذ.
(10/258)
قطِعت يده ورجله من خلاف. وإذا أخذ
المال وقَتَل ، صُلب.
11835 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنه كان يقول
في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى قوله : "
أو ينفوا من الأرض " ، حدودٌ أربعة أنزلها الله. فأما من أصاب الدم والمال
جميعًا ، صلب. وأما من أصاب الدم وكفّ عن المال ، قُتل. ومن أصاب المال وكفَّ عن
الدم ، قُطع. ومن لم يصب شيئًا من هذا ، نفي.
11836 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : نهى الله نبيَّه عليه السلام عن أن يسمل أعينَ العرنيين الذين أغاروا
على لِقَاحه ، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها الله عليه. فنظر إلى من أخذ
المال ولم يقتل ، فقطَع يدَه ورجلَه من خلاف ، يدَه اليمنى ورجلَه اليسرى. ونظر
إلى من قتل ولم يأخذ مالا فقَتَله. ونظر إلى من أخذ المال وقتل ، فصلبه. وكذلك
ينبغي لكل من أخاف طريقَ المسلمين وقَطَع ، أن يصنع به إن أخِذ وقد أخَذ مالا قطعت
يده بأخذِه المال ، ورجلُه بإخافة الطريق. وإن قَتَل ولم يأخذ مالا قُتِل ، وإن
قتل وأخذ المال ، صُلِب.
11837 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا فضيل بن مرزوق قال :
سمعت السدي يسأل عطيّة العوفيّ ، عن رجل محاربٍ ، خرج فأخذ ولم يصبْ مالا ولم يهرق
دمًا. قال : النفي بالسيف ، (1) وإن أخذ مالا فيده بالمال ، ورجلُه بما أخاف
المسلمين. وإن هو قتل ولم يأخذ مالا قتل. وإن هو قتل وأخذ المال ، صُلب وأكبر ظني
أنه قال : تقطع يده ورجله.
11838 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن عطاء
الخراساني وقتادة في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله "
الآية ،
__________
(1) قوله : " النفي بالسيف " ، يعني أن يطارد حتى يخرج من الأرض ، حتى
يدخلوا مأمنهم وأرضهم ، كما سلف في الأثر رقم : 11810.
(10/259)
قال : هذا ، اللصُّ الذي يقطع الطريقَ
، فهو محارب. فإن قتل وأخذ مالا صُلب. وإن قتل ولم يأخذ مالا قُتِل. وإن أخذ مالا
ولم يقتل ، قطعت يده ورجله. (1) وإن أخِذ قبل أن يفعل شيئا ، من ذلك ، نفي.
11839 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن
سعيد بن جبير قال : من خرج في الإسلام محاربًا لله ورسوله فقتل وأصاب مالا فإنه
يقتل ويُصْلَب. ومن قتل ولم يصب مالا فإنه يقتل كما قَتَل. ومن أصاب مالا ولم يقتل
، فإنه يُقْطَع من خلاف. وإن أخاف سبيل المسلمين ، نُفي من بلده إلى غيره ، لقول
الله جل وعز : " أو ينفَوا من الأرض " .
11840 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن
أبيه ، عن الربيع في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ،
قال : كان ناس يسعون في الأرض فسادًا ، وقَتَلوا وقَطَعوا السبيل ، فصُلِب أولئك.
وكان آخرون حاربُوا واستحلُّوا المال ولم يعدُوا ذلك ، فقطعت أيديهم وأرجلهم.
وآخرون حارَبوا واعتزَلوا ولم يعدوا ذلك ، فأولئك أخْرجوا من الأرض.
11841 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن أبي هلال. قال ، حدثنا قتادة ، عن
مورِّق العجلي في المحارب قال : إن كان خرج فقتَل وأخذ المال ، صُلب. وإن كان قتل
ولم يأخذ المالَ ، قُتل. وإن كان أخذ المال ولم يقتل ، قُطع. وإن كان خرج مُشَاقًا
للمسلمين : نُفي.
11842 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن عطية العوفي ، عن ابن
عباس قال : إذا خرج المحاربُ وأخاف الطريق وأخذ المال ، قطعت يده
__________
(1) في المخطوطة : " وإن قتل ولم يأخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله " ،
وهو خطأ محض ، صوابه ما في المطبوعة بلا شك.
(10/260)
ورجله من خلاف. فإن هو خرج فقَتَل وأخذ
المال ، قطعت يده ورجله من خِلافٍ ثم صُلب. وإن خرج فقَتَل ولم يأخذ المال ،
قُتِل. وإن أخاف السبيل ولم يقْتُل ولم يأخذ المال ، نفي.
11843 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع بن يزيد قال
، حدثني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي وعن أبي معاوية ، عن سعيد بن جبير في هذه
الآية : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا
" قالا إن أخاف المسلمين فقَطَع المال ولم يسفك ، قُطِع. (1) وإذا سفك دمًا :
قتل وصُلب. وإن جمعهما فاقتطع مالا وسفك دمًا ، قُطع ثُمّ قتل ثم صلب ، كأن الصلب
مُثْلَةٌ ، وكأن القطع : " السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " ، (2)
وكأن القتل : " النفس بالنفس " . وإن امتنع ، فإن من الحقّ على الإمام
وعلى المسلمين أن يطلُبوه حتى يأخذوه ، فيقيموا عليه حكم كتاب الله : " أو
ينفوا من الأرض " ، من أرض الإسلام إلى أرضِ الكفر.
قال أبو جعفر : واعتلَّ قائلو هذه المقالة لقولهم هذا ، بأن قالوا : إن الله أوجبَ
على القاتل القوَد ، وعلى السارق القَطع. وقالوا : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" لا يحل دَمُ امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خِلال : رجل قتل فقتل ، ورجل زنى بعد
إحصان فرُجم ، ورجل كفر بعد إسلامه " . (3) قالوا : فحظر النبيُ صلى الله
عليه وسلم قتل رجل مسلم إلا بإحدى هذه الخلال الثلاث. فأما أن يقتل من أجل إخافته
السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالا فذلك تقدُّمٌ على الله ورسوله بالخلافِ عليهما
في الحكم. قالوا : ومعنى قول من قال : " الإمام فيه بالخيار ، إذا قَتَل
وأخاف السبيل وأخذ المال " ، فهنالك خيار الإمام في قولهم بين القتل ، أو
__________
(1) في المطبوعة : " فاقتطع المال " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهما بمعنى
واحد.
(2) في المخطوطة : " وكان السارق والسارقة... " ، والصواب ما في
المطبوعة. وهذا والذي بعده تضمين لآيتي الحكمين : في السرقة وقتل النفس.
(3) هذا حديث صحيح متفق على معناه ، رواه بغير إسناده. انظر مسلم 11 : 164 ، 165.
(10/261)
القتل والصلب ، أو قطع اليد والرجل من
خلاف. وأما صلبه باسم المحاربة ، من غير أن يفعل شيئًا من قتل أو أخذ مال ، فذلك
ما لم يقله عالم.
* * *
وقال آخرون : الإمام فيه بالخيار : أن يفعل أيَّ هذه الأشياء التي ذكرَها الله في
كتابه.
ذكر من قال ذلك :
11844 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا جويبر ، عن عطاء وعن القاسم بن
أبي بزة ، عن مجاهد في المحارب : أن الإمام مخير فيه ، أيَّ ذلك شاءَ فعل.
11845 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن عبيدة ، عن إبراهيم :
الإمام مخير في المحارب ، أيَّ ذلك شاء فعل. إن شاء قتل ، وإن شاء قطع ، وإن شاء
نفى ، وإن شاء صلب.
11846 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن الحسن في قوله : "
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ، إلى قوله : " أو ينفوا من
الأرض " ، قال : يأخذ الإمام بأيِّها أحب.
11847 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن الحسن : "
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " قال : الإمام مخيَّرٌ فيها.
11848 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ،
مثله.
11849 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد قال
، قال عطاء : يصنع الإمام في ذلك ما شاء. إن شاء قتل ، أو قطع ، أو نَفَى ، لقول
الله : " أن يقتَّلوا أو يصلبوا أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا
من الأرض " ، فذلك إلى الإمام الحاكم ، يصنع فيه ما شاء.
(10/262)
11850 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد
الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " إنما جزاء الذين
يحاربون الله ورسوله " الآية ، قال : من شَهَر السلاح في قُبّة الإسلام ، (1)
وأخاف السبيل ، ثم ظُفِر به وقدر عليه ، فإمام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله
، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجلَه.
11851 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة قال ، أخبرنا أبو هلال قال ، أخبرنا
قتادة ، عن سعيد بن المسيب : أنه قال في المحارب : ذلك إلى الإمام ، إذا أخذه يصنع
به ما شاء.
11852 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن أبي هلال قال ، حدثنا هارون ، عن
الحسن في المحارب قال : ذاك إلى الإمام ، يصنع به ما شاء.
11853 - حدثنا هناد قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن عاصم ، عن الحسن : " إنما
جزاءُ الذين يحاربون الله ورسوله " ، قال : ذلك إلى الإمام.
* * *
قال أبو جعفر : واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن قالوا : وجدنا العطوف التي بـ "
أو " في القرآن بمعنى التخيير ، في كل ما أوجب الله به فرضًا منها ، وذلك
كقوله في كفارة اليمين : ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
) [سورة المائدة : 89] ، وكقوله : ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ
أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) [سورة
البقرة : 196] ،
__________
(1) في المطبوعة : " في فئة الإسلام " ، ولا معنى لها ، ولم يحسن قراءة
المخطوطة ، لأنها غير منقوطة والصواب ما قرأت. و " قبة الإسلام " يعني
في ظله ، وحيث مستقر سلطانه. ولذلك سموا " البصرة " : قبة الإسلام ، قال
الشاعر : بَنَتْ قُبَّةَ الإِسْلامِ قَيْسٌ لأَهْلِهَا ... وَلَوْ لَمْ
يُقِيمُوهَا لَطَالَ الْتِوَاؤُهَا
وأصل " القبة " : خيمة من أدم مستديرة. وذلك كقولهم أيضا : " دار
الإسلام " بهذا المعنى الذي بينته.
(10/263)
وكقوله : ( فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ
الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )
[سورة المائدة : 95]. قالوا : فإذا كانت العُطوفُ التي بـ " أو " في
القرآن ، في كل ما أوجب الله به فرضًا منها في سائر القرآن ، بمعنى التخيير ،
فكذلك ذلك في آية المحاربين الإمام مخير فيما رأى الحكم به على المحارب إذا قَدَر
عليه قبل التوبة.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا ، تأويلُ من أوجب على
المحارب من العقوبة على قدر استحقاقه ، وجعل الحكم على المحاربين مختلِفًا باختلاف
أفعالهم. فأوجب على مُخيف السبيل منهم إذا قُدِر عليه قبل التوبة ، وقبل أخذ مالٍ
أو قتل النفيَ من الأرض. و إذا قُدر عليه بعد أخذ المال وقتل النفس المحرم قتلُها
الصلب ، لما ذكرت من العلة قبل لقائلي هذه المقالة.
* * *
فأما ما اعتلّ به القائلون : إنّ الإمام فيه بالخيار ، من أن " أو " في
العطف تأتي بمعنى التخيير في الفرض ، فقولٌ لا معنى له ، (1) لأن " أو "
في كلام العرب قد تأتي بضروب من المعاني ، لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها
، وقد بينت كثيرًا من معانيها فيما مضى ، وسنأتي على باقيها فيما يستقبل في
أماكنها إن شاء الله. (2)
فأما في هذا الموضع ، فإن معناها التعقيب ، وذلك نظير قول القائل : " إن
__________
(1) في المطبوعة : " فنقول : لا معنى له " . وهو كلام متهالك ، صوابه ما
في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 1 : 336 ، 337/2 : 235 - 237/4 : 75 ، 76/6 : 513/7 : 194.
(10/264)
جزاء المؤمنين عند الله يوم القيامة أن
يدخلهم الجنة ، أو يرفع منازلهم في علِّيين ، أو يسكنهم مع الأنبياء والصديقين
" ، فمعلوم أن قائل ذلك غير قاصد بقيله إلى أن جزاء كل مؤمن آمن بالله ورسوله
، فهو في مرتبة واحدة من هذه المراتب ، ومنزلة واحدة من هذه المنازل بإيمانه ، بل
المعقول عنه أن معناه : أن جزاء المؤمن لن يخلُو عند الله عز ذكره من بعض هذه
المنازل. فالمقتصد منزلته دون منزلة السابق بالخيرات ، والسابق بالخيرات أعلى منه
منزلة ، والظالم لنفسه دونهما ، (1)
وكلٌّ في الجنة كما قال جل ثناؤه : ( جنات عدن يدخلونها ) [سورة فاطر : 33]. فكذلك
معنى العطوف بـ " أو " في قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله " ، الآية ، إنما هو التعقيب.
فتأويله : إن الذي يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادًا ، لن يخلو من أن يستحق
الجزاءَ بإحدى هذه الخلال الأربع التي ذكرها الله عز ذكره لا أن الإمام محكم فيه
ومخيَّرٌ في أمره كائنةً ما كانت حالته ، عظمت جريرته أو خفَّتْ ، (2) لأن ذلك لو
كان كذلك ، لكان للإمام قتل من شَهر السلاح مخيفًا السبيلَ وصلْبُه ، وإن لم يأخذ
مالا ولا قتل أحدًا ، وكان له نفيُ من قَتَل وأخذَ المال وأخافَ السبيل. وذلك قولٌ
إن قاله قائل ، خلافُ ما صحّت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله
: " لا يحل دَمُ امرئ ٍمسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل قتل رجلا فقتل به ، أو زنى
بعد إحصان فرجم ، أو ارتَدّ عن دينه " (3) وخلاف قوله :
__________
(1) اقرأ آية " سورة فاطر " : 32 {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ
الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}.
(2) في المطبوعة : " وعظمت " بواو لا مكان لها هنا.
(3) انظر تخريج هذا الخبر فيما سلف قريبًا ص : 261 ، تعليق : 3.
(10/265)
" القطعُ في رُبْع دينارٍ فصاعدًا
" ، (1) وغيرُ المعروف من أحكامه. (2)
* * *
فإن قال قائل : فإن هذه الأحكام التي ذكرتَ ، كانت عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في غير المحارب ، وللمحارب حكم غير ذلك منفرد به.
قيل له : فما الحكم الذي انفرد به المحارب في سننه ؟
فإن ادَّعى عنه صلى الله عليه وسلم حكمًا خلاف الذي ذكرنا ، أكذبه جميعُ أهل العلم
، لأن ذلك غير موجود بنقلِ واحدٍ ولا جماعة.
وإن زعم أن ذلك الحكم هو ما في ظاهر الكتاب ، قيل له : فإن أحسن حالاتك إن سُلِّم
لك ، (3) أن ظاهر الآية قد يحتمل ما قلت وما قاله من خالفك فما برهانك على أنّ
تأويلك أولى بتأويل الآية من تأويله ؟
وبعد ، فإذ كان الإمام مخيَّرًا في الحكم على المحارب ، من أجل أنّ " أو
" بمعنى التخيير في هذا الموضع عندك ، أفله أن يصلبه حيًّا ، ويتركه على
الخشبة مصلوبًا حتى يموت من غير قتله.
فإن قال : " ذلك له " ، خالف في ذلك الأمة.
وإن زعم أنَّ ذلك ليس له ، وإنما له قتله ثم صلبه ، أو صلبه ثم قتله ترك علّته من
أنّ الإمام إنما كان له الخيار في الحكم على المحارب من أجل أن " أو "
تأتي بمعنى التخيير.
وقيل له : فكيف كان له الخيار في القتل أو النفي أو القطع ، ولم يكن له الخيار في
الصلب وحده ، حتى تجمع إليه عقوبة أخرى ؟
__________
(1) هذا خبر مجمع عليه في الصحاح ، انظر فتح الباري 12 : 89 - 91 ، وسيأتي تخريجه
برقم : 11912.
(2) قوله : " وغير المعروف من أحكامه " ، معطوف على ما سلف : "
وذلك قول إن قاله قائل : خلاف ما صححت به الآثار عن رسول الله... " .
(3) في المطبوعة : " أن يسلم لك " ، غير ما في المخطوطة ، وهو محض
الصواب.
(10/266)
وقيل له : هل بينك وبين من جعل الخيار
حيث أبيت ، وأبى ذلك حيث جعلته له فرقٌ من أصلٍ أو قياس ؟ (1) فلن يقول في أحدهما
قولا إلا ألزم الآخر مثله.
* * *
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح ما قلنا في ذلك ، بما في إسناده
نظر ، وذلك ما " -
11854 - حدثنا به علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد
بن أبي حبيب : أنّ عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية ،
فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين ، وهم من بجيلة.
قال أنس : فارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، وساقوا الإبل ، وأخافوا السبيل ،
وأصابُوا الفرجَ الحرام. قال أنس : فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه
السلام عن القضاء فيمن حارب ، فقال : من سَرَق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ،
ورجلَه بإخافته. ومن قتل فاقتله. ومن قتل وأخاف السبيل واستحلَّ الفرج الحرام ،
فاصلبه. (2)
* * *
__________
(1) السياق : " هل بينك وبين من جعل الخيار.... فرق من أصل أو قياس " .
(2) الأثر : 11854 - " الوليد بن مسلم الدمشقي القرشي " ، ثقة حافظ متقن
، من شيوخ أحمد سلفت ترجمته مرارًا منها : 2184 ، 6611.
" ابن لهيعة " هو : " عبد الله بن لهيعة " ، تكلموا فيه
كثيًرا ، ووثقه أخي السيد أحمد فيما سلف رقم : 160 ، 2941 ، وبعضهم يقول : "
لا يحتج بحديثه " .
و " يزيد بن أبي حبيب المصري " ، ثقة أخرج له الجماعة ، مضى برقم : 4348
، 5418 ، 5493.
وعلة هذا الخبر ، ضعف ابن لهيعة ، عند من يرى ضعفه وترك الاحتجاج بحديثه. ثم إن
يزيد بن أبي حبيب لم يدرك أن يسمع من أنس ، ولم يذكر أنه سمع منه.
وقد مضى صدر هذا الخبر فيما سلف برقم : 11816 ، فانظر التعليق عليه هناك. وسيأتي
في الأثر : 11885 ، أن رواية يزيد بن أبي حبيب لهذا الخبر ، عن كتاب أنس بن مالك
إلى عبد الملك بن مروان.
(10/267)
وأما قوله : " أو تقطع أيديهم
وأرجلهم من خلاف " ، فإنه يعني به جل ثناؤه : أنه تقطع أيديهم مخالِفًا في
قطعها قَطْع أرجلهم. وذلك أن تقطع أيْمُن أيديهم ، وأشمُلُ أرجلهم. فذلك "
الخلاف " بينهما في القطع.
ولو كان مكان " من " في هذا الموضع " على " أو " الباء
" ، فقيل : " أو تقطع أيديهم وأرجلهم على خلاف أو : بخلاف " ،
لأدَّيا عما أدّت عنه " من " من المعنى.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى " النفي " الذي ذكر الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم : هو أن يطلب حتى يقدر عليه ، أو يهرب من دار الإسلام.
ذكر من قال ذلك :
11855 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : يطلبهم الإمام بالخيل
والرّجال حتى يأخذهم فيقيم فيهم الحكم ، أو ينفوا من أرض المسلمين.
11856 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قال ، نفيُه : أن يطلب.
11857 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس : " أو ينفوا من الأرض " ، يقول : أو يهربوا حتى
يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب.
11858 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، أخبرني عبد الله بن
لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن كتاب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان : أنه
كتب إليه : " ونفيه ، أن يطلبه الإمام حتى يأخذه ، فإذا أخذه أقام عليه إحدى
هذه المنازل التي ذكر الله جل وعز بما استحل " . (1)
__________
(1) الأثر : 11858 - انظر التعليق السالف على الأثر : 11854.
(10/268)
11859 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا
الوليد قال : فذكرت ذلك لليث بن سعد فقال : نفيُه ، طلبُه من بلد إلى بلد حتى يؤخذ
، أو يخرجه طلبُه من دار الإسلام إلى دار الشرك والحرب ، إذا كان محاربًا مرتدًّا
عن الإسلام قال الوليد : وسألت مالك بن أنس ، فقال مثله.
11860 - حدثني علي قال ، حدثنا الوليد قال : قلت لمالك بن أنس والليث بن سعد :
وكذلك يطلب المحاربُ المقيم على إسلامه ، يضطرّه بطلبه من بلد إلى بلد حتى يصير
إلى ثغر من ثغور المسلمين أو أقصى حَوْزِ المسلمين ، (1) فإن هم طلبوه دخل دار
الشرك ؟ قالا لا يُضْطَرّ مسلم إلى ذلك.
11861 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : " أو
ينفوا من الأرض " قال : أن يطلبوه حتى يعجزوا.
11862 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : حدثني عبيد بن سليمان
قال ، سمعت الضحاك يقول ، فذكر نحوه.
11863 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن عاصم ، عن الحسن : " أو
ينفوا من الأرض " ، قال : ينفى حتى لا يُقْدَر عليه.
11864 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن أبيه ، عن
الربيع بن أنس في قوله : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : أخرجوا من
الأرض. أينما أدركوا أخْرجوا حتى يلحقوا بأرض العدّو.
11865 - حدثنا الحسن قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، حدثنا معمر ،
__________
(1) في المطبوعة : " حتى يصير إلى ثغر من ثغور المسلمين أو أقصى جوار
المسلمين " وصواب ذلك " حتى " ، و " أو أقصى حوز المسلمين
" ، كما في المخطوطة.
و " الحوز " من الأرض (بفتح فسكون) : أن يتخذها رجل ، ويبين حدودها
فيستحقها ، فلا يكون لأحد حق معه ، فذلك " الحوز " . ومنه " حوز
الدار " ، ومنه أيضًا " حوزة الإسلام " ، أي حدوده ونواحيه ، وفي
الحديث : " فحمى حوزة الإسلام " .
(10/269)
عن الزهري في قوله : " أو ينفوا
من الأرض " ، قال : نفيه : أن يُطلب فلا يُقْدر عليه ، كلَّما سُمع به في أرض
طُلِب.
11866 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، أخبرني سعيد ، عن
قتادة : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : إذا لم يَقْتُل ولم يأخذ مالا
طُلب حتى يُعْجِز.
11867 - حدثني ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرني نافع بن يزيد قال
، حدثني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي وعن أبي معاوية ، عن سعيد بن جبير :
" أو ينفوا من الأرض " ، من أرض الإسلام إلى أرض الكفر.
* * *
وقال آخرون : معنى " النفي " في هذا الموضع : أن الإمام إذا قدر عليه
نفاه من بلدته إلى بلدةٍ أخرى غيرها.
ذكر من قال ذلك :
11868 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن قيس بن سعد ، عن سعيد بن جبير : " أو ينفوا من الأرض " ، قال : من
أخاف سبيل المسلمين ، نُفي من بلده إلى غيره ، لقول الله جل وعز : " أو ينفوا
من الأرض " .
11869 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني يزيد بن
أبي حبيب وغيره ، عن حيَّان بن سُرَيج : أنه كتب إلى عمر بن عبدْ العزيز في اللصوص
، ووصف له لصوصيتهم ، وحبَسهم في السجون ، قال : قال الله في كتابه : " إنما
جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو
تقطع أيديهم وأرجلهم من خِلاف " ، وترك : " أو ينفوا من الأرض " .
فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : " أما بعد ، فإنك كتبت إليّ تذكر قول الله جل
وعزّ : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا
(10/270)
أن يقتّلوا أو يصِلَّبوا أو تقطع
أيديهم وأرجلهم من خلافٍ " ، وتركت قول الله : " أو ينفوا من الأرض
" ، فنبيٌّ أنت ، يا حيّان!! لا تحرّك الأشياء عن مواضِعها ، أتجرَّدت للقتل
والصَّلب كأنك عبدُ بني عقيل ، (1) من غير ما أُشبِّهك به ؟ إذا أتاك كتابي هذا ،
فانفهم إلى شَغْبٍ " .
11870 - حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني الليث ، عن يزيدَ وغيره ،
بنحو هذا الحديث غير أن يونس قال في حديثه : " كأنك عبد بني أبي عقال ، (2)
من غير أن أشبهك به " .
11871 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي
حبيب ، أن الصَّلت ، كاتب حيَّان بن سُرَيج ، أخبرهم : أن حيّان كتب إلى عمر بن
عبد العزيز : " أن ناسًا من القبط قامت عليهم البيَّنة بأنهم حاربوا الله
ورسوله وسعوا في الأرض فسادًا ، وأن الله يقول : " إنما جزاء الذين يحاربون
الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا " فقرأ حتى بلغ ، " وأرجلهم من خلاف
" ، وسكت عن النفي. وكتب إليه : " فإن رأى أمير المؤمنين أن يُمْضي
قضاءَ الله فيهم ، فليكتب بذلك " . فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه قال :
لقد اجتزأ حيان! ثم كتب إليه : " إنه قد بلغني كتابك وفهمته ، ولقد اجتزأتَ ،
كأنما كتبتَ بكتاب يزيد بن أبي مسلم ، أو عِلْج صاحبِ العراق ، (3) من غير أن
أشبهك بهما ، فكتبت
__________
(1) " تجرد للأمر " : جد فيه جدا بالغًا ، وتفرغ له وشمر فيه ، كما
يتجرد المرء من ثيابه وينضوها عنه لكيلا تعوقه. يقال : " تجرد فلان للعبادة
" ، وقال الأخطل : وَأَطْفَأْتُ عَنِّي نَارَ نُعْمَانَ بَعْدَ مَا ...
أَعَدَّ لأَمْرٍ فَاجِرٍ وَتَجَرَّدَا
وقال ابن قيس الرقيات : تَجَرَّدُوا يَضْرِبُونَ بَاطِلَهُمْ ... بِالحقِّ حَتَّى
تَبَيَّنَ الْكَذِبُ
و " عبد بني عقيل " ، الصواب أن يقال " عبد بني أبي عقيل " ،
فإن أبا عقيل ، هو جد " الحجاج ابن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود
الثقفي " . وذلك أن ثقيفا جد الحجاج الأعلى ، كان فيما يقولون ، هو : "
قسى (ثقيف) بن منبه بن النبيت بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار
" ، وأنه ليس كما جاء في نسب ثقيف أنه من " مضر بن نزار " ، وأن
ثقيفًا ، فيما يروي عن ابن عباس : كان عبدًا لامرأة نبي الله صالح ، فوهبته لصالح
، وأنه هو " أبو رغال " الذي يرجم قبره. يقول حسان بن ثابت في هجاء ثقيف
(ديوانه : 341 ، 342) : إِذَا الثَّقَفِيُّ فَاخَرَكُمْ فَقُولُوا : ... هَلُمَّ
نَعُدُّ أُمَّ أَبِي رِغَالِ
أَبُوكُمْ أَخْبَثُ الآبَاءِ طُرًّا ... وأَنْتُمْ مُشْبِهُوهُ عَلَى مِثالِ
وفي هذا الشعر زعم حسان أن ثقيفًا كان عبدًا للفرز ، وهو سعد بن زيد مناة بن تميم
، فقال : عَبِيدُ الْفِزْرِ أَوْرَثَهُمْ بَنِيِه ... وَآلَى لا يَبِيعُهُمُ
بِمَالِ
وَمَا لِكَرَامَةٍ حُبِسُوا ، وَلَكِنْ ... أَرَادَ هَوَانَهُمْ أُخْرَى
اللَّيَالِي
وأما هجاء الحجاج بأنه " عبد من إياد " ، فيقول مالك بن الريب (الكامل 1
: 302) : فَمَاذَا تَرَى الحجَّاجَ يَبْلُغُ جُهْدُهُ ... إِذَا نَحْنُ جَاوَزْنَا
حَِيرَ زِيادِ
فَلَوْلا بَنُوا مَرْوَانَ كَانَ ابْنُ يُوسُفٍ ... كَمَا كَانَ ، عَبْدًا مِنْ
عَبِيدِ إيَادِ
زَمَانَ هُوَ الْعَبْدُ الْمُقِرُّ بِذِلَّةٍ ... يُرَاوِحُ صِبْيَانَ الْقُرَى
وَيُغَادِي
فإن الحجاج كان معلمًا بالطائف ، وكان يهجى بذلك. فهذا تفسير " عبد بني أبي
عقيل " . وكان الحجاج ، كما تعلم ، مسرفًا في القتل ، فلذلك قال عمر رضي الله
عنه ما قال.
(2) لم أجد وجها لقوله : " عبد بن أبي عقال " ، فإن جده الذي ينسب إليه
هو " أبو عقيل " كما سلف في الأثر الماضي.
(3) " يزيد بن أبي مسلم " ، و " يزيد بن دينار " ، من موالي
ثقيف ، وليس مولى عتاقة ، وكان أخا الحجاج من الرضاعة. وكان من أصحاب الحجاج
وولاته ، وكان يتشبه به في سيرته ، وولي العراق وإفريقية. قال ابن عبد الحكم في
سيرة عمر بن عبد العزيز : 34 ، 35 : " وكان يظهر التأله ، والنفاذ لكل ما أمر
به السلطان ، مما جل أو صغر ، من السيرة بالجور ، والمخالفة للحق. وكان في هذا
يكثر الذكر والتسبيح ، ويأمر بالقوم فيكونون بين يديه يعذبون ، وهو يقول : سبحان
الله والحمد لله ، شد يا غلام موضع كذا وكذا - لبعض مواضع العذاب - وهو يقول : لا
إله إلا الله والله أكبر ، شد يا غلام موضع كذا وكذا. فكانت حالته شر تلك الحالات
" .
وكان يزيد يوم استخلف عمر بن عبد العزيز ، واليًا على إفريقية ، فلم يكد عمر يواري
جثة سليمان بن عبد الملك ، حتى عجل ودعا بقرطاس ودواة ، فكتب ثلاثة كتب ، لم يسعه
فيما بينه وبين الله عز وجل أن يؤخرها ، فأمضاها من فوره. فأخذ الناس يهمزون عمر
بن عبد العزيز ، لما رأوو من عجلته ، فقالوا : " ما هذه العجلة ؟ أما كان
يصبر إلى أن يرجع إلى منزله ؟ هذا حب السلطان! هذا الذي يكره ما دخل فيه!!. ولم
يكن بعمر عجلة ، ولا محبة لما صار إليه ، ولكنه حاسب نفسه ، ورأى أن تأخير ذلك لا
يسعه. فكان أحد هذه الكتب الثلاثة كتابه بعزل يزيد بن أبي مسلم. (سيرة عمر بن عبد
العزيز : 34 ، 35 / والوزراء للجهشياري : 42).
وأما " علج صاحب العراق " و " العلج " الرجل من كفار العجم
وغيرهم فإنه يعني الحجاج نفسه وكان واليًا على العراق ، وجعله " علجًا "
، كأنه مولى من الموالي غليظ ، كما سماه عبدا في الأثر السالف.
(10/271)
بأول الآية ، ثم سكتَّ عن آخرها ، وإن
الله يقول : " أو ينفوا من الأرض " ، فإن كانت قامت عليهم البينة بما
كتبتَ به ، فاعقد في أعناقهم حديدًا ، ثم غيّبهم إلى شَغْبٍ وبَدَا. " (1)
* * *
قال أبو جعفر : " شَغْبٌ و " بَدَا " ، موضعان. (2)
* * *
__________
(1) الآثار : 11869 - 11871 - " يزيد بن أبي حبيب المصري " ، مضى قريبًا
في الأثر رقم : 11854.
وأما " الصلت " ، فهو : " الصلت بن أبي عاصم " ، ولم أعثر له
على ترجمة ، ورأيت ذكره في كتاب فتوح مصر لابن عبد الحكم ص : 90.
وأما " حيان بن سريج المصري " ، فكان عاملا لعمر بن عبد العزيز على مصر.
ترجم له ابن أبي حاتم 1/2/ 247 ، والكبير للبخاري 2/1/52. وضبط " سريج "
بالسين غير معجمة ، والجيم في المؤتلف لعبد الغني بن سعيد الأزدي المصري ص : 76 ،
وقال ناشر التاريخ الكبير في تعليقه : " وكذا ضبطه ابن ماكولا في الإكمال....
ووقع هنا في الأصل : " شريح " .
وكذلك يقع في كثير من الكتب " شريح " ، وكذلك كان هنا في المطبوعة في
سائر المواضع ، أما المخطوطة ، فهي غير منقوطة. وتبعت ضبط الحافظ عبد الغني ، لأنه
مصري ، وهو أعلم بأنساب المصريين.
وكان في المطبوعة " حبان " بالباء الموحدة ، وهو خطأ محض.
(2) " شغب " (بفتح فسكون) : منهل بين طريق مصر والشام ، و " بدا
" : واد قرب أيلة ، من ساحل البحر ، وهما من ديار بني عذرة ، يقول كثير :
وَأَنْتِ الَّتيِ حَبَّبْتِ شَغْبًا إلَى بَدَا ... إلَيَّ ، وَأَوْطَانِي بِلادٌ
سِوَاهُمَا
ويقول عبد الله بن السائب : فَلَمَّا عَلَوْا شَغْبًا تَبَيَّنْتُ أَنَّهُ ...
تَقَطَّعَ مِنْ أَهْلِ الحِجَازِ عَلائِقِي
فقال ابنه : فَلا زِلْنَ حَسْرَى ظُلَّعًا ، لِمْ حَمَلْنَنَا ... إلَى بَلَدٍ
نَاءٍ قَلِيلِ الأَصَادِقِ!!
فهذا يؤيد أنها منفى بعيد لأهل الحجاز والشام ، كما جاء في هذا الخبر.
(10/273)
وقال آخرون : معنى " النفي من
الأرض " ، في هذا الموضع : الحبس.
ذكر من روى ذلك عنه :
وهو قول أبى حنيفة وأصحابه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قولُ من قال : معنى "
النفي من الأرض " ، في هذا الموضع ، هو نفيه من بلد إلى بلد غيره ، وحبْسُه
في السجن في البلد الذي نفي إليه ، حتى تظهر توبته من فسوقه ، ونزوعه عن معصيته
ربَّه.
وإنما قلتُ ذلك أولى الأقوال بالصحة ، لأن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك على
أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرت. وإذْ كان ذلك كذلك وكان معلومًا أن الله جل ثناؤه
إنما جعل جزاء المحارب : القتلَ أو الصلبَ أو قطعَ اليد والرجل من خلافٍ ، بعد
القدرة عليه ، لا في حال امتناعه كان معلومًا أنّ النفي أيضًا إنما هو جزاؤه بعد
القُدرة عليه ، لا قبلها. ولو كان هَرَبه من الطلب نفيًا له من الأرض ، (1) كان
قطع يده ورجله من خلافٍ في حال امتناعه وحربه على وجه القتال ، بمعنى إقامة الحدِّ
عليه بعد القدرة عليه. وفي إجماع الجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله
عز وجل حدًّا له بعد القدرة عليه ، [بطل أن يكون نفيُه من الأرض ، هربَهُ من
الطلب]. (2)
وإذْ كان كذلك ، فمعلوم أنه لم يبق إلا الوجهان الآخران ، وهو النفي من بلدة إلى
أخرى غيرها ، أو السَّجْن. فإذْ كان كذلك ، فلا شك أنه إذا
__________
(1) في المطبوعة : " هروبه " ، وفي المخطوطة : " هو به " ، و
" الهروب " ليس مصدرًا عربيًا ، وإن كان قد كثر استعماله في زماننا هذا
، وإنما المصدر " الهرب " (بفتحتين) ، فالصواب " هربه " كما
أثبت.
(2) هذه الزيادة بين القوسين ، زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام. وقد استظهرتها
من كلام أبي جعفر فيما سلف ، وما سيأتي بعده.
(10/274)
نُفي من بلدةٍ إلى أخرى غيرها ، فلم
ينف من الأرض ، بل إنما نفي من أرض دون أرض. وإذ كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه
إنما أمر بنفيه من الأرض كان معلومًا أنه لا سبيل إلى نفيه من الأرض إلا بحبسه في
بُقْعة منها عن سائرها ، فيكون منفيًّا حينئذ عن جميعها ، إلا مما لا سبيل إلى
نفيه منه.
* * *
وأما معنى " النفي " ، في كلام العرب ، فهو الطرد ، ومن ذلك قول أوس بن
حجر :
يُنْفَوْنَ عَنْ طْرُقِ الكِرَامِ كَمَا... تَنْفِي المَطَارِقُ مَا بَلِي
القَرَدُ (1)
ومنه قيل للدراهم الرديئة وغيرها من كل شيء : " النُّفَاية " . (2) وأما
المصدر من " نفيت " ، فإنه " النفي " " والنَّفَاية
" ، (3) ويقال : " الدلو ينفي الماء " ، ويقال لما تطاير من الماء
من الدلو : " النّفِيُّ " ، ومنه قول الراجز : (4)
__________
(1) شرح المفضليات : 827 ، وليس في ديوان أوس ، وهو من شعره ، من القصيدة الخامسة
التي أولها : أَبَنِي لُبَيْنَي لَسْتُمُ بِيَدٍ ... إِلا يَدٌ لَيْسِتْ لَهَا
عَضُدُ
ويهجوهم ، ورواية المفضليات " من طرق الكرام " . و " المطارق
" جمع " مطرقة " و " مطرق " وهو القضيب الذي يضرب به
الصوف أو القطن لينتفش ، وينفي منه القرد. و " القرد " (بفتحتين) : ما
تمعط من الوبر والصوف وتلبد وانعقدت أطرافه ، وهو نفاية الصوف ، ثم استعمل فيما
سواه من الوبر والشعر والكتان. وقوله : " ما يلي القرد " ، أي : ما وليه
القرد ، من قولهم " وليه يليه " ، أي : قاربه ودنا منه. يعني : ما قاربه
القرد وباشره ولصق به تعقده.
وكان في المطبوعة : " ما يلي الفردا " ، وهو خطأ ، ومخالفة للمخطوطة ،
وهي فيها منقوطة ، على خلاف العادة في مثلها.
(2) " النفاية " هنا (بضم النون) ، لا شك في ذلك. انظر التعليق التالي.
(3) و " النفاية " هنا (بكسر النون) ، لأنه عدها مصدرًا ، مثل : "
رعت الماشية رعيًا ورعاية " (بكسر الراء). هكذا استظهرته. وأما كتب اللغة فلم
تذكر في مصادر " نفي " إلا " نفيًا " و " نفيانًا "
فهذا مصدر يزاد عليها إن صح له شاهد من الشعر أو الآثار.
(4) هو الأخيل الطائي.
(10/275)
كأَنَّ مَتْنَيِه مِنَ النَّفِيِّ...
مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ (1)
ومنه قيل : " نَفىَ شَعَرُه " ، إذا سقط ، يقال : " حَال لونُك ،
ونَفىَ شعرُك " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ
فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ذلك " ، هذا الجزاء الذي جازيت
به الذين حاربوا الله ورسولَه ، وسعوا في الأرض فسادًا في الدنيا ، من قتلٍ أو
صلبٍ أو قطع يد ورجل من خلاف " لهم " ، يعني : لهؤلاء المحاربين "
خزي في الدنيا " ، يقول : هو لهم شرٌّ وعار وذلةٌ ، ونكال وعقوبة في عاجل
الدنيا قبل الآخرة.
* * *
يقال منه : " أخزيتُ فلانًا ، فَخَزِي هو خِزْيًا " . (3)
* * *
وقوله : " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " ، يقول عز ذكره : لهؤلاء الذين
حاربوا الله ورسولَه وسعوا في الأرض فسادًا ، فلم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا
في
__________
(1) سلف البيت وشرحه وتخريجه في 3 : 225/ 5 : 523 ، ولم أشر هناك إلى مجيئه في هذا
المكان في التفسير ، فأثبته هناك.
(2) هذا في خبر محمد بن كعب القرظي وعمر بن عبد العزيز لما استخلف فرآه شعثًا قال
:
" ...وكان عهدنا به بالمدينة أميًرا علينا ، حسن الجسم ، ممتلئ البضعة ،
فجعلت أنظر إليه نظرًا ، لا أكاد أصرف بصري عنه ، فقال : يا ابن كعب ، مالك تنظر
إلي نظرًا ما كنت تنظره إلي قبل ؟ قال فقلت : لعجبي! قال : ومما عجبك ؟ فقلت : لما
نحل من جسمك ، ونفى من شعرك ، وتغير من لونك ؟ قال : وكيف لو رأيتني بعد ثلاث في
قبري ، حين تقع عيناي على وجنتي ، ويسيل منخري وفمي دودًا وصديدًا ، لكنت لي أشد
نكرة منك اليوم! " .
" نفى الشعر " : ثار وذهب وشعث وتساقط.
(3) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف 2 : 314 ، 525/7 : 479.
(10/276)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
الآخرة ، (1) مع الخزي الذي جازيتهم به
في الدنيا ، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها " عذاب عظيم " ، يعني :
عذاب جهنم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم : معنى ذلك : إلا الذين تابوا من شركهم ومناصَبتهم الحربَ لله ولرسوله
والسَّعيِ في الأرض بالفساد ، بالإسلام والدخولِ في إلإيمان ، من قبل قُدرة
المؤمنين عليهم ، فإنه لا سبيل للمؤمنين عليهم بشيء من العقوبات التي جعلَها الله
جزاء لِمَنْ حارَبه ورسوله وسَعى في الأرض فسادًا ، من قتلٍ ، أو صلب ، أو قطع يد
ورجل من خلاف ، أو نفي من الأرض فلا تِباعَةَ قِبَله لأحدٍ فيما كان أصاب في حال
كفره وحربه المؤمنين ، (3) في مالٍ ولا دم ولا حرمةٍ. قالوا : فأما المسلم إذا
حارب المسلمين أو المعاهدين ، وأتى بعض ما يجب عليه العقوبة ، فلن تضع توبته عنه
عقوبةَ ذنبه ، بل توبته فيما بينه وبين الله ، وعلى الإمام إقامةُ الحدّ الذي
أوجبه الله عليه ، وأخذُه بحقوق الناس.
ذكر من قال ذلك :
11872 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد
النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا قوله : " إنما جزاء
__________
(1) السياق : " لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسوله.... في الآخرة... " .
(2) انظر تفسير " عذاب عظيم " فيما سلف من فهارس اللغة (عذب) (عظم).
(3) " التبعة " (بفتح التاء وكسر الباء) ، و " التباعة "
(بكسر التاء) : ما فيه إثم يتبع به مرتكبه. يقال : " ما عليه من الله في هذا
تبعة ، ولا تباعة " .
(10/277)
الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في
الأرض " إلى قوله : " فاعلموا أنّ الله غفور رحيم " ، نزلت هذه
الآية في المشركين ، فمن تاب منهم من قبل أن يُقدر عليه ، لم يكن عليه سبيل. وليس
تُحْرِز هذه الآية الرجلَ المسلم من الحدِّ إن قتل ، أو أفسد في الأرض ، أو حارب
الله ورسوله ، ثم لحق بالكفار قبل أن يُقْدر عليه. ذلك يقام عليه الحدّ الذي أصاب.
(1)
11873 - حدثنا بشار قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور
رحيم " ، قال : هذا لأهل الشرك ، إذا فعلوا شيئًا في شركهم ، فإن الله غفور
رحيمٌ ، إذا تابوا وأسْلموا.
11874 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا
" الزنا ، (2) والسرقة ، وقتل النفس ، وإهلاك الحرث والنسل " إلا الذين
تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " ، على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
11875 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن
الضحاك قال : كان قوم بينهم وبين الرَّسول صلى الله عليه وسلم ميثاقٌ ، فنقضوا
العهدَ وقطعوا السبيل ، وأفسدوا في الأرض ، فخيرَّ الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم
فيهم : فإن شاء قتل ، وإن شاء صلب ، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. فمن تاب
من قبل أن تقدروا عليه ، قُبِلَ ذلك منه.
11876 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس قوله : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " ،
__________
(1) الأثر 11872 - مضى برقم : 11806 ، وانظر التعليق عليه.
(2) في المطبوعة : " بالزنا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب.
(10/278)
الآية فذكر نحو قول الضحاك ، إلا أنه
قال : فإن جاء تائبًا فدخل في الإسلام ، قُبل منه ، ولم يؤاخذ بما سلَف.
11877 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إلا
الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " ، قال : هذا لأهل الشرك ، إذا فعلوا
شيئًا من هذا في شركهم ، ثم تابوا وأسلموا ، فإن الله غفور رحيم.
11878 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن
عطاء الخراساني وقتادة : أما قوله : " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا
عليهم " ، فهذه لأهل الشرك. فمن أصاب من المشركين شيئًا من المسلمين وهو لهم
حَرْب ، فأخذ مالا وأصاب دمًا ، ثم تاب قبل أن تقدروا عليه ، أُهْدِر عنه ما
مَضَى.
* * *
وقال آخرون : بل هذه الآية معنيٌّ بالحكم بها ، المحاربون اللهَ ورسوله :
الحُرَّابُ من أهل الإسلام ، (1) من قطع منهم الطريق وهو مقيم على إسلامه ، ثم
استأمن فأُومن على جناياته التي جناها ، وهو للمسلمين حرب ومَن فعل ذلك منهم
مرتدًّا عن الإسلام ، (2) ثم لحق بدار الحرب ، ثم استأمن فأومن. قالوا : فإذا
أمَّنه الإمام على جناياته التي سلفت ، لم يكن قِبَله لأحد تَبِعة في دمٍ ولا مالٍ
أصابه قبل توبته ، وقبلَ أمان الإمام إيَّاه.
ذكر من قال ذلك :
11879 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد قال ، أخبرني أبو أسامة ،
__________
(1) " الحراب " جمع " حارب " ، و " الحارب " : هو
الغاصب الناهب الذي يعري الناس ثيابهم. وكأنه عنى به هنا : صفة " المحارب لله
ورسوله " ، وإفساده في الأرض. وانظر ما سيأتي ص : 282 ، تعليق : 2.
(2) قوله : " ومن فعل... " معطوف على قوله : " الحراب من أهل
الإسلام... " يعني : هذا وهذا.
(10/279)
عن أشعث بن سوار ، عن عامر الشعبي : أن
حارثة بن بَدْرٍ خرج محاربًا ، فأخاف السبيل ، وسفَك الدمَ ، وأخذ الأموال ، ثم
جاء تائبًا من قبل أن يُقْدرَ عليه ، فقبل علي بن أبي طالب عليه السلام توبته ،
وجعل له أمانًا منشورًا على ما كان أصاب من دٍم أو مال.
11880 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن مجالد ، عن
الشعبي : أن حارثة بن بدرٍ حاربَ في عهد علي بن أبي طالب ، فأتى الحسن بن علي
رضوان الله عليهما ، فطلبَ إليه أن يستأمن له من عليّ ، فأبى. ثم أتى ابن جعفر ،
فأبى عليه. (1) فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأمَّنه ، وضمّه إليه. وقال له :
استأمِنْ لِي أميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب. (2) قال : فلما صلى عليٌّ الغداة ،
(3) أتاه سَعيد بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين ، ما جزاء الذين يحارِبون الله
ورسوله ؟ قال : أن يقتَّلوا ، أو يصلبوا ، أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أو
ينفوا من الأرض. قال : ثم قال : " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم
" . قال سعيد : وإن كان حارثة بن بدر ؟ قال : وإن كان حارثة بن بدر! قال :
فهذا حارثة بن بدر قد جاء تائبًا ، فهو آمن ؟ قال : نعم! قال : فجاء به فبايعه ،
وقبل ذلك منه ، وكتب له أمانًا.
11881 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ، عن
مجالد ، عن الشعبي قال : كان حارثة بن بدر قد أفسد في الأرض وحارب ، ثم تاب.
وكُلِّم له عليّ فلم يُؤْمنه. فأتى سعيدَ بن قيس فكلّمه ، فانطلق سعيدُ بن قيس إلى
علي فقال : يا أمير المؤمنين ، ما تقولُ فيمن حارب الله ورسوله ؟ فقرأ الآية كلها
فقال : أرأيت من تابَ من قبل أن تقدِر عليه ؟
__________
(1) يعني عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " استأمن إلى " ، والصواب ما أثبت.
(3) " الغداة " ، يعني صلاة الفجر.
(10/280)
قال : أقول كما قال الله. قال : فإنه
حارثة بن بدر! قال : فأمَّنه علي ، فقال حارثة :
أَلا أَبْلِغَا هَمْدَانَ إِمَّا لَقِيتَها... عَلَى النَّأيِ لا يَسْلَمْ عَدُوٌّ
يَعِيبُهَا
لَعَمْرُ أَبِيهَا إنَّ هَمَدَانَ تَتَّقِي... الإلهَ وَيَقْضِي بِالْكِتَابِ
خَطِيبُهَا (1)
11882 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " ، وتوبته من
قبل أن يُقْدر عليه : أن يكتُب إلى الإمام يَستأمنه على ما قَتل وأفسدَ في الأرض :
" فإن لم يؤمني على ذلك ، ازددت فسادًا وقتلا وأخذًا للأموال أكثر مما
__________
(1) الآثار : 11879 - 11881 - " عبد الرحمن بن مغراء الدوسي " ، ثقة ،
متكلم فيه ، مضى برقم : 1614.
وأما " حارثة بن بدر بن حصين الغداني " ، من بني غدانة بن يربوع ، كان
من فرسان بني تميم ووجوهها وساداتها. وكان فاتكًا صاحب شراب. وكان فصيحًا بليغًا
عارفًا بأخبار الناس وأيامهم ، حلوًا شاعرًا ذا فكاهة ، فكان زياد يأنس به طول
حياته (الأغاني 21 : 25).
وأما " سعيد بن قيس الهمداني " ، فهو من بني عمرو بن السبيع. وكان سيد
همدان في زمانه.
ولما أمن علي رضي الله عنه حارثه بن بدر ، وقف على المنبر فقال : " أيها
الناس ، إني كنت نذرت دم حارثة بن بدر ، فمن لقيه فلا يعرض له " . فانصرف
سعيد بن قيس إلى حارثة ، وأعلمه ، وحمله وكساه وأجازه بجائزة سنية. فلما أراد
حارثة الانصراف إلى البصرة شيعه سعيد بن قيس في ألف راكب ، وحمله وجهزه.
وأما البيتان ، فهما في تاريخ ابن عساكر 3 : 430 ، مع اختلاف يسير في روايتهما.
وأما قوله : " ويقضي بالكتاب خطيبها " ، فكأنه عنى بخطيب همدان الفقيه
الجليل : " مسروق بن الأجدع الهمداني " ، صاحب ، على وعبد الله بن مسعود
رضي الله عنهما. وكأنه يشير بهذا البيت إلى ما روي عن مسروق أنه أتى يوم صفين ،
فوقف بين الصفين ثم قال :
أيها الناس ، أنصتوا. ثم قال : أرأيتم لو أن مناديًا ناداكم من السماء فسمعتم
كلامه ورأيتموه فقال : إن الله ينهاكم عما أنتم فيه ، أكنتم مطيعيه ؟ قالوا : نعم!
قال : فوالله لقد نزل بذلك جبرئيل على محمد صلى الله عليه وسلم. فما زال يأتي من
هذا - أي : يقول مثل هذا - ثم تلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكمْ
رَحِيمًا).
ثم انساب في الناس فذهب. (ابن سعد 6 : 52).
(10/281)
فعلت ذلك قبل " . فعلى الإمام من
الحقّ أن يؤمنه على ذلك. فإذا أمّنه الإمام جاء حتى يضع يده في يد الإمام ، فليس
لأحد من الناس أن يتّبِعه ، ولا يأخذه بدَم سفكه ، ولا مال أخذه. وكل مالٍ كان له
فهو له ، لكيلا يقتل المؤمنين أيضًا ويفسد. فإذا رجع إلى الله جل وعزّ فهو وليُّه
، يأخذه بما صنع ، وتوبته فيما بينه وبين الإمام والناس. فإذا أخذه الإمام ، وقد
تابَ فيما يزعُم إلى الله جل ثناؤه قبل أن يُؤمنه الإمام ، فليقم عليه الحدّ.
11883 - حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن عبد العزيز ،
أخبرني مكحول ، أنه قال : (1) إذا أعطاه الإمام أمانًا ، فهو آمن ، ولا يقام عليه
حدُّ ما كان أصاب.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : كلُّ من جاء تائبًا من الحُرَّاب قبل القُدْرة عليه ، (2)
استأمن الإمام فأمَّنه أو لم يستأمنه ، بعدَ أن يجيء مستسلمًا تاركًا للحرب.
ذكر من قال ذلك :
11884 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن أشعث ، عن
عامر قال : جاء رجل من مُرادٍ إلى أبي موسى ، وهو على الكوفة في إمرة عثمان ، بعد
ما صلَّى المكتوبة فقال : يا أبا موسى ، هذا مَقَام العائذِ بك ، أنا فلان بن فلان
المرادِيّ ، كنت حاربتُ الله ورسوله ، وسعيتَ في الأرض ، وإني تبتُ من قبل أن
تَقْدر عليّ! فقام أبو موسى فقال : هذا فلان ابن فلان ، وإنه كان حاربَ الله
ورسوله ، وسعَى في الأرض فسادًا ، وإنه تاب قبل أن يُقْدَر عليه ، فمن لقيه فلا
يعرض له إلا بخير. فأقام الرجل ما شاءَ الله ، ثم إنه خرج فأدركه الله جل وعزّ
بذُنوبه فقَتَله.
__________
(1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة : " أخبرني مكحول أنه قال " ، وأرجح : أن
الصواب " عن مكحول أنه قال " ، وانظر الأسانيد السالفة رقم : 3997 ،
4129 ، 5359 ، 8966.
(2) " الحراب " جمع " حارب " ، انظر تفسيرها فيما سلف ص : 279
، تعليق : 1.
(10/282)
11885 - حدثني الحارث بن محمد قال ،
حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل السدي ، عن الشعبي قال : جاء رجل
إلى أبي موسى ، فذكر نحوه.
11886 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : قلت لمالك : أرأيت هذا
المحارب الذي قد أخاف السبيل ، وأصابَ الدم والمال ، فلحق بدار الحرْب ، أو تمنَّع
في بلاد الإسلام ، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه ؟ قال : تقبل توبته. قال
قلت : فلا يُتَّبع بشيء من أحداثه ؟ قال : لا إلا أن يوجد معه مالٌ بعينه فيردّ
إلى صاحبه ، أو يطلبه وليُّ من قَتل بدم في حَرْبه يثبت ببيّنَةٍ أو اعترافٍ فيقاد
به. وأما الدماء التي أصابها ولم يطلبها أولياؤها ، فلا يتَّبعه الإمام بشيء قال
علي ، قال الوليد : فذكرت ذلك لأبي عمرو ، فقال : تقبل توبته إذا كان محاربًا
للعامة والأئمة ، قد آذاهم بحَرْبه ، فشهر سلاحه ، وأصاب الدماء والأموال ، فكانت
له مَنْعة أو فِئة يلجأ إليهم ، أو لحق بدار الحرب فارتدَّ عن الإسلام ، أو كان
مقيمًا عليه ، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقدرَ عليه ، قُبلت توبته ، ولم يتَّبَع
بشيء منه.
11887 - حدثني علي قال ، حدثنا الوليد قال ، قال أبو عمرو : سمعت ابن شهاب الزهريّ
يقول ذلك.
11888 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد قال : فذكرت قول أبي عمرو ومالك لليث
بن سعد في هذه المسألة ، فقال : إذا أعلن بالمحاربة العامة والأئمة ، (1) وأصابَ
الدماء والأموال ، فامتنع بمحاربته من الحكومة عليه ، (2) أو لحق بدار الحرب ، ثم
جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه ، قبلت توبته ، ولم يتَّبَع بشيء من أحْدَاثه في
حربه من دم خاصةٍ ولا عامة ، وإن طلبه وليه.
__________
(1) في المطبوعة : " للعامة " ، والصواب من المخطوطة.
(2) " الحكومة عليه " يعني : القضاء عليه.
(10/283)
11889 - حدثني علي قال ، حدثنا الوليد
قال ، قال الليث وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدنيّ ، وهو الأمير عندنا : أن
عليًّا الأسديّ حاربَ وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال ، فطلبته الأئمة والعامة ،
فامتنع ولم يُقْدر عليه حتى جاء تائبًا ، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية : (
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ ) [سورة الزمر : 53]. الآية ، فوقف عليه فقال : يا عبد الله ،
أعد قراءَتها. فأعادها عليه ، فغَمَد سيفه ، ثم جاء تائبًا ، حتى قَدِم المدينة من
السَّحَر ، فاغتسل ، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح ، ثم
قعد إلى أبي هريرة في غِمار أصحابه. فلما أسفر عرفه الناس وقاموا إليه ، فقال : لا
سبيل لكم عليّ ، جئت تائبًا من قبلِ أن تَقْدروا عليَّ! فقال أبو هريرة : صدق.
وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بنَ الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية
، فقال : هذا عليٌّ ، جاء تائبًا ، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال ، فترك من ذلك
كله. (1) قال : وخرج عليَّ تائبًا مجاهدًا في سبيل الله في البحر ، فلقُوا الروم ،
فقرَّبوا سفينته إلى سفينة من سفنهم ، فاقتحم على الرُّوم في سفينتهم ، فهُزِموا
منه إلى سفينتهم الأخرى ، فمالت بهم وبه ، فغرقوا جميعًا. (2)
11890 - حدثني أحمد بن حازم قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا مطرف بن معقل قال ،
سمعت عطاء قال في رجل سرق سرقة فجاء بها تائبًا من غير أن يُؤخَذ ، فهل عليه حدٌّ
؟ قال : لا! ثم قال : " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدِروا عليهم " ،
الآية. (3)
__________
(1) قوله : " فترك " بالبناء للمجهول ، كأنه يعني أنه لم يؤخذ بشيء من
كل أحداثه التي أتاها وهو في محاربته لله ولرسوله.
(2) الأثر : 11889 - " موسى بن إسحق المدني ، الأمير " ، لم أعرف من
يكون. و " علي الأسدي " ، لم أعرفه أيضا.
وكأني قد مر بي مثل هذا الإسناد فيما سلف ، ولكن سقط علي تقييده ، فمن وجده فليثبته
هنا. فلعله يكشف عن هذا الأمير المذكور في هذا الخبر.
(3) الأثر : 11890 - " مطرف بن معقل الشقري السعدي " ويقال : "
الباهلي " ، أبو بكر.
روى عن الحسن ، والشعبي ، وابن سيرين ، وقتادة ، وعطاء. قال أحمد : " كان ثقة
وزيادة " . مترجم في الكبير 4/1/397 ، وابن أبي حاتم 4/1/315 ، ولسان الميزان
6 : 48.
(10/284)
11891 - حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا
ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع بن يزيد قال ، حدثني أبو صخرٍ ، عن محمد بن كعب
القرظي وعن أبي معاوية عن سعيد بن جبير قالا إن جاء تائبًا لم يقتطع مالا ولم يسفك
دمًا ، تُرك. فذلك الذي قال الله : " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم
" ، يعني بذلك أنه لم يسفك دمًا ولم يقتطع مالا. (1)
* * *
وقال آخرون : بل عنى بالاستثناء في ذلك ، التائبَ من حربه اللهَ ورسولَه والسعيِ
في الأرض فسادًا بعد لحاقه في حربه بدار الكفر. فأما إذا كانت حِرَابته وحربُه وهو
مقيم في دار الإسلام ، (2) وداخلٌ في غمار الأمة ، فليست توبته واضعة عنه شيئًا من
حدود الله جل وعز ، ولا من حقوق المسلمين والمعاهدين ، بل يؤخذ بذلك.
ذكر من قال ذلك :
11892 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، أخبرني إسماعيل ، عن
هشام بن عروة : أنه أخبره أنهم سألوا عروة عمن تلصّص في الإسلام فأصاب حدودًا ثم
جاء تائبًا ، فقال : لا تقبل توبته ، لو قبل ذلك منهم اجترأوا عليه ، وكان فسادًا
كبيرًا. ولكن لو فرّ إلى العدوّ ، ثم جاء تائبًا ، لم أر عليه عقوبة.
* * *
__________
(1) الأثر : 11891 - " أبو صخر " هو " حميد بن زياد بن أبي المخارق
، الخراط " ، مضى برقم : 4325 ، 5386 ، 8391 - وكان في المطبوعة والمخطوطة
هنا " أبو صخرة " ، بالتاء في آخره ، وقد مضى على الصواب قريبًا برقم :
11867.
و " أبو معاوية " هو " عمار بن معاوية الدهني " ، مضى أيضًا
برقم : 909 ، 4325 ، 5386.
(2) انظر ما قلته في " الحرابة " ص : 252 ، تعليق : 2 ، وص : 256 ،
تعليق : 2.
(10/285)
وقد روي عن عروة خلاف هذا القول ، وهو
ما : -
11893 - حدثني به علي قال ، حدثنا الوليد قال ، أخبرني من سمع هشام بن عروة ، عن
عروة قال ، يقام عليه حدُّ ما فر منه ، ولا يجوز لأحدٍ فيه أمان يعني ، الذي يصيب
حدًّا ، ثم يفرُّ فيلحق الكفار ، ثم يجيء تائبًا.
* * *
وقال آخرون : إن كانت حِرَابته وحربه في دار الإسلام ، (1) وهو في غير مَنْعة من
فئة يلجأ إليها ، ثم جاء تائبًا قبل القدرة عليه ، فإن توبته لا تضع عنه شيئا من
العقوبة ولا من حقوق الناس. وإن كانت حِرَابته وحَرْبه في دار الإسلام ، أو هو
لاحقٌ بدار الكفر ، غير أنه في كل ذلك كان يلجأ إلى فئة تمنعه ممن أراده من سلطان
المسلمين ، ثم جاء تائبًا قبل القدرة عليه ، فإن توبته تضع عنه كل ما كان من أحْداثه
في أيام حِرابته تلك ، إلا أن يكون أصاب حدًّا أو أمَرَ الرُّفقة بما فيه عقوبة ،
(2) أو غُرْم لمسلم أو معاهد ، وهو غير ملتجئ إلى فئة تمنعه ، فإنه يؤخذ بما أصاب
من ذلك وهو كذلك ، ولا يضع ذلك عنه توبتُه.
ذكر من قال ذلك :
11894 - حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد قال ، قال أبو عمرو : إذا قطع الطريق
لصٌّ أو جماعة من اللصوص ، فأصابوا ما أصابوا من الدماء والأموال ، ولم يكن لهم
فئة يلجأون إليها ولا مَنْعة ، ولا يأمنون إلا بالدخول في غِمَار أمتهم وسوادِ
عامّتهم ، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه ، لم تُقبل توبته ، وأقيم عليه
حدهّ ما كان.
11895 - حدثني علي قال ، حدثنا الوليد قال : ذكرت لأبي عمرو قول عُروة : "
يقام عليه حدّ ما فرّ منه ، ولا يجوز لأحد فيه أمان " ، فقال أبو عمرو : إن
فرّ من حَدَثه في دار الإسلام ، فأعطاه إمامٌ أمانًا ، لم يجزْ أمانُه. وإن هو
__________
(1) انظر ص : 285 ، تعليق : 2.
(2) " الرفقة " ، يعني أصحابه الذين يرافقهم ويلجأ إليهم وهم فئته.
(10/286)
لحق بدار الحرب ، ثم سأل إمامًا أمانًا
على أحداثه ، لم ينبغ للإمام أن يعطيه أمانًا. وإن أعطاه الإمام أمانًا وهو غير
عالم بأحداثه ، فهو آمن. وإن جاء أحدٌ يطلبه بدم أو مال رُدّ إلى مأمنه ، فإن أبى
أن يَرجع فهو آمن ولا يُتَعَرَّض له. قال : وإن أعطاه أمانًا على أحداثه وهو
يعرفها ، فالإمام ضامنٌ واجب عليه عَقْلُ ما كان أصاب من دم أو مال ، (1) وكان
فيما عطّل من تلك الحدود والدماء آثمًا ، وأمره إلى الله جل وعز. قال : وقال أبو
عمرو : فإذا أصاب ذلك ، وكانت له مَنْعة أو فئة يلجأ إليها ، أو لحق بدار الحرب
فارتدّ عن الإسلام ، أو كان مقيمًا عليه ، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه ،
قُبِلت توبته ، ولم يُتَّبع بشيء من أحداثه التي أصابها في حربه ، إلا أن يوجد معه
شيءٌ قائم بعينه فيردّ إلى صاحبه.
11896 - حدثني علي قال ، حدثنا الوليد قال ، أخبرني ابن لهيعة ، عن ربيعة قال :
تقبل توبتُه ، ولا يتَّبع بشيء من أحداثِه في حربه ، إلا أن يطلبه أحد بدم كان
أصابه في سِلْمه قبل حربه ، فإنه يقاد به.
11897 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا معمر الرقي قال ، حدثنا
الحجاج ، عن الحكم بن عتيبة قال : قاتل الله الحجاج! إن كان ليفقَهُ! أمَّن رجلا
من محاربته ، فقال ، انظروا هل أصاب شيئا قبل خروجه ؟
* * *
وقال آخرون : تضع توبته عنه حدَّ الله الذي وجب عليه بمحاربته ، ولا يسقط عنه حقوق
بني آدم.
وممن قال ذلك الشافعي.
11898 - حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب عندي ، قولُ من قال : توبة
المحارب الممتنع بنفسه أو بجماعة معه قبل القُدرة عليه ، تضع عنه تَبِعات الدنيا
__________
(1) " العقل " ، دية الجناية.
(10/287)
التي كانت لزمته في أيام حربه
وحِرَابته ، (1) من حدود الله ، وغُرْم لازم ، وقَوَدٍ وقصاص ، إلا ما كان قائمًا
في يده من أموال المسلمين والمعاهدين بعينه ، فيردّ على أهله لإجماع الجميع على أن
ذلك حكم الجماعة الممتنعة المحاربة لله ولرسوله ، الساعيةِ في الأرض فسادًا على
وجه الردة عن الإسلام. فكذلك حكم كل ممتنع سَعَى في الأرض فسادًا ، جماعةً كانوا
أو واحدًا.
فأمَّا المستخفي بسرقته ، والمتلصِّصُ على وجه اغتفال من سرقه ، (2) والشاهرُ
السلاحَ في خلاء على بعض السابلة ، وهو عند الطلب غير قادر على الامتناع ، فإن حكم
الله عليه تاب أو لم يتب ماضٍ ، وبحقوق من أخذ ماله ، أو أصاب وليَّه بدم أو
خَتْلٍ مأخوذ ، وتوبته فيما بينه وبين الله جل وعز قياسًا على إجماع الجميع على
أنه لو أصاب شيئًا من ذلك وهو للمسلمين سِلْمٌ ، ثم صار لهم حربًا ، أن حربه إياهم
لن يضعَ عنه حقًا لله عز ذكره ، ولا لآدمي ، فكذلك حكمه إذا أصاب ذلك في خلاء أو
باستخفاء ، وهو غير ممتنع من السلطان بنفسه إن أراده ، ولا له فئة يلجأ إليها
مانعةٌ منه.
وفي قوله : " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " ، دليل واضح لمن
وُفِّق لفهمه ، أنّ الحكم الذي ذكره الله جل وعزّ في المحاربين ، يجري في المسلمين
والمعاهدين ، دون المشركين الذين قد نصبُوا للمسلمين حربًا ، وذلك أن ذلك لو كان
حكمًا في أهل الحرب من المشركين ، دون المسلمين ودون ذمتهم ، لوجب أن
__________
(1) انظر " الحرابة " فيما سلف ص : 285 ، تعليق : 2.
(2) " اغتفل الرجل " ، يعني : اهتبل غفلته فأخذ ما أخذ. وهذا حرف لم
تقيده كتب اللغه ، بل قيدوا : " تغفله " (بتشديد الفاء) ، و "
استغفلته " ، أي : تحينت غفلته. وهذا الذي استعمله أبو جعفر صحيح في القياس
والعربية ، وقد رأيت أبا الفرج الأصفهاني ، صاحب الأغاني ، يستعمله أيضا ، فجاء في
الأغاني 2 : 99 ، في أخبار عدي بن زيد الشاعر ، فذكر جده " زيد بن أيوب
" ومقتله ، فكان مما قال : " ثم إن الأعرابي اغتفل زيد بن أيوب ، فرماه
بسهم فوضعه بين كتفيه ، ففلق قلبه " .
وكان في المطبوعة هنا : " على وجه إغفال من سرقة " ، وليس هذا صحيحًا في
قياس العربية ، حتى يغير ما كان في المخطوطة. وهو في المخطوطة غير منقوط ، وهذا
صواب قراءته.
(10/288)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
لا يُسْقِطَ إسلامُهم عنهم إذا أسلموا
أو تابوا بعد قدرتنا عليهم ما كان لهم قبل إسلامهم وتوبتهم من القتل ، وما
للمسلمين في أهل الحرب من المشركين. وفي إجماع المسلمين أنّ إسلام المشرك الحربيِّ
يضع عنه ، بعد قدرة المسلمين عليه ، ما كان واضعَه عنه إسلامه قبل القدرة عليه ما
يدلّ على أن الصحيح من القول في ذلك قول من قال : " عنى بآية المحاربين في
هذا الموضع ، حُرَّاب أهل الملة أو الذمة ، (1) دون من سواهم من مشرِكي أهل الحرب
" .
* * *
وأما قوله : " فاعلموا أن الله غفور رحيم " ، فإن معناه : فاعلموا أيها
المؤمنون ، أن الله غير مؤاخذٍ من تاب من أهل الحرب لله ولرسوله ، الساعين في الأرض
فسادًا ، وغيرهم بذنوبه ، ولكنه يعفو عنه فيسترها عليه ، ولا يفضحه بها بالعقوبة
في الدنيا والآخرة رحيم به في عفوه عنه ، وتركه عقوبته عليها. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله فيما
أخبرهم ووعَد من الثواب وأوعدَ من العقاب (3) " اتقوا الله " يقول :
أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم بالطاعة له في ذلك ، وحقِّقوا إيمانكم وتصديقكم
ربَّكم ونبيَّكم
__________
(1) " الحراب " جمع " حارب " ، وقد سلف القول فيها في ص : 279
، تعليق : 1 ، فراجعه. وكان في المطبوعة : " حراب أهل الإسلام " ، وفي
المخطوطة : " أهل المسلة " ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) انظر تفسير " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) في المطبوعة : " ووعدهم من الثواب " ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو
صواب محض.
(10/289)
بالصالح من أعمالكم (1) " وابتغوا
إليه الوسيلة " ، يقول : واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه. (2)
* * *
و " الوسيلة " : هي " الفعيلة " من قول القائل : " توسلت
إلى فلان بكذا " ، بمعنى : تقرَّبت إليه ، ومنه قول عنترة :
إنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ... إِنْ يَأْخُذُوكِ ، تكَحَّلِي
وتَخَضَّبي (3)
يعني بـ " الوسيلة " ، القُرْبة ، ومنه قول الآخر : (4)
إِذَا غَفَلَ الوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا... وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالوَسَائِلُ
(5)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
11899 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " اتقوا " فيما سلف من فهارس اللغة (وقى).
(2) انظر تفسير " ابتغى " فيما سلف 9 : 480 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(3) أشعار الستة الجاهليين : 396 ، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 165 ، والخزانة 3 :
11 ، وغيرها ، من أبيات له قالها لامرأته ، وكانت لا تزال تذكر خيله ، وتلومه في
فرس كان يؤثره على سائر خيله ويسقيه ألبان إبله ، فقال : لا تَذْكُرِي مُهْرِي
وَمَا أَطْعَمْتُهُ ... فَيَكُونَ جِلْدُكِ مِثْلَ جِلْدِ الأَجْرَبِ
إِنَّ الْغَبُوقَ لَهُ ، وَأَنْتِ مَسُوءَةٌ ، ... فَتَأَوَّهِي مَا شِئْتِ ثُمَّ
تَحَوَّبِي
كَذَبَ الْعَتِيقُ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٌ ... إنْ كُنْتِ سَائِلَتِي غَبُوقًا
فَاذْهَبي
إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَيَكُونَ مَرْكَبُكِ القَعُودُ وَحِدْجُهُ ... وَابْنُ النَّعَامَةِ يَوْمَ
ذَلِكَ مَرْكَبِي!
ينذرها بالطلاق إن هي ألحت عليه بالملامة في فرسه ، فإن فرسه هو حصنه وملاذه. أما
هي فما تكاد تؤسر في حرب ، حتى تتكحل وتتخضب لمن أسرها. يقول : إن أخذوك تكحلت
وتخضبت لهم.
(4) لم أعرف قائله.
(5) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 164.
(10/290)
سفيان ح ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
زيد بن الحباب ، عن سفيان عن منصور ، عن أبي وائل : " وابتغوا إليه الوسيلة
" ، قال : القربة في الأعمال.
11900 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ح ، وحدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي عن طلحة ،
عن عطاء : " وابتغوا إليه الوسيلة " ، قال : القربة.
11901 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي :
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة " ، قال : فهي
المسألة والقربة. (1)
11902 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "
وابتغوا إليه الوسيلة " ، أي : تقربوا إليه بطاعته والعملِ بما يرضيه.
11902 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " وابتغوا إليه الوسيلة " ، القربة إلى الله جل وعزّ.
11903 - حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق قال ، خبرنا معمر
، عن الحسن في قوله : " وابتغوا إليه الوسيلة " ، قال : القربة.
11904 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد
الله بن كثير قوله : " وابتغوا إليه الوسيلة " ، قال : القربة.
11905 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
وابتغوا إليه الوسيلة " ، قال : المحبّة ، تحبّبوا إلى الله. وقرأ : ( أُولَئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) [سورة الإسراء :
57].
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " هي المسألة " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/291)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه للمؤمنين به وبرسوله : وجاهدوا ، أيها المؤمنون ،
أعدائي وأعداءَكم في سبيلي ، يعني في دينه وشَرِيعته التي شرعها لعباده ، وهي
الإسلام. (1) يقول : أتْعِبُوا أنفسكم في قتالهم وحملهم على الدخول في الحنيفية
المسلمة ، (2) " لعلكم تفلحون " ، يقول : كيما تنجحوا ، فتدركوا البقاء
الدَّائم والخلود في جناته.
* * *
وقد دللنا على معنى " الفلاح " فيما مضى بشواهده ، بما أغنى عن إعادته
في هذا الموضع. (3)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا
فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) }
قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : إن الذين جحدوا ربوبية ربّهم وعبدوا غيرَه ، من بني
إسرائيل الذين عبدوا العجل ، ومن غيرهم الذين عبدوا الأوثان والأصنام ، وهلكوا على
ذلك قبل التوبة لو أن لهم مِلك ما في الأرض كلِّها وضعفَه معه ، ليفتدوا به من
عقاب الله إياهم على تركهم أمرَه ، وعبادتهم غيره يوم القيامة ، فافتدوا بذلك كله
، ما تقبَّل الله منهم ذلك فداءً وعِوضًا من عذابهم وعقابهم ، بل هو معذّبهم في
حَمِيم يوم القيامة عذابًا موجعًا لهم.
__________
(1) انظر تفسير " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " جاهد " فيما سلف 4 : 318.
(3) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف 1 : 249 ، 250/3 : 561/7 : 91 ، 509
(10/292)
وإنما هذا إعلامٌ من الله جل ثناؤه
لليهود الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنَّهم
وغيرهم من سائر المشركين به ، سواءٌ عنده فيما لهم من العذاب الأليم والعقاب
العظيم. وذلك أنهم كانوا يقولون : ( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً
) ، اغترارًا بالله جل وعزّ وكذبًا عليه. فكذبهم تعالى ذكره بهذه الآية وبالتي
بعدها ، وحَسَم طمعهم ، فقال لهم ولجميع الكفرة به وبرسوله : " إن الذين
كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعًا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما
تُقُبّل منهم ولهم عذابٌ أليم. يُريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها
ولهم عذاب مقيم " ، يقول لهم جل ثناؤه : فلا تطمعوا أيُّها الكفرة في قَبُول
الفدية منكم ، ولا في خروجكم من النار بوسَائل آبائكم عندي بعد دخولكموها ، إن
أنتم مُتّم على كفركم الذي أنتم عليه ، ولكن توبوا إلى الله توبةً نَصُوحًا. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/293)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يريدون أن يخرجوا من النار " ،
يريد هؤلاء الذين كفروا بربهّم يوم القيامة ، أن يخرجوا من النار بعد دخولها ، وما
هم بخارجين منها " لهم عذاب مقيم " ن يقول : لهم عذابٌ دائم ثابت لا
يزول عنهم ولا ينتقل أبدًا ، كما قال الشاعر : (1)
فَإنَّ لَكُمْ بِيَوْمِ الشِّعْبِ مِنِّي... عَذَابًا دَائِمًا لَكُمُ مُقِيمَا
(2)
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 165.
(10/293)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل
التأويل.
ذكر من قال ذلك :
11906 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن
يزيد النحوي ، عن عكرمة : أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رحمه الله : أعمى البصر
أعمى القلب ، يزْعُم أن قومًا يخرجون من النار ، (1) وقد قال الله جل وعز : "
وما هم بخارجين منها " ؟ فقال ابن عباس : ويحك ، أقرأ ما فوقها! هذه للكفّار.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (38) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : ومن سرقَ من رجل أو امرأة ، فاقطعوا ، أيها الناس
، يَدَه ولذلك رفع " السارق والسارقة " ، لأنهما غير معيّنين. ولو أريد
بذلك سارقٌ وسارقة بأعيانهما ، لكان وجه الكلام النّصب.
* * *
وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك : ( والسارقون والسارقات ).
11907 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن ابن عون ، عن إبراهيم قال
: في قراءتنا قال : وربما قال : في قراءة عبد الله( والسارقون والسارقات فاقطعوا
أيمانهما ).
__________
(1) في المطبوعة : " يا أعمى البصر أعمى القلب ، تزعم. . . . " كأن
نافعًا يوجه الحديث إلى ابن عباس ، وهذا عجيب أن يكون من نافع ، مع اجترائه
وسلاطته! وكان في المخطوطة : " ما عمي البصار أعمى القلب ، برعم " ،
هكذا غير منقوطة ، فرأيت أن أقرأها كما أثبتها ، على أنه إخبار لابن عباس عمن يقول
ذلك.
(10/294)
11908 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
ابن علية ، عن ابن عون ، عن إبراهيم : في قراءتنا : ( والسارقون والسارقات فاقطعوا
أيمانهما ).
* * *
وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من معناه ، وصحة الرفع فيه ، وأن " السارق
والسارقة " مرفوعان بفعلهما على ما وصفت ، للعلل التي وصفت.
* * *
وقال تعالى ذكره : " فاقطعوا أيديهما " ، والمعنى : أيديهما اليمنى ،
كما : -
11909 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فاقطعوا أيديهما " اليمنى.
11910 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر قال : في
قراءة عبد الله : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما ).
* * *
ثم اختلفوا في " السارق " الذي عناه الله عز ذكره.
فقال بعضهم : عنى بذلك سارقَ ثلاثة دراهم فصاعدًا. وذلك قول جماعة من أهل المدينة
، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله. واحتجّوا لقولهم ذلك ، بأنّ : -
11911 - رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، قطَع في مِجَنّ قيمته ثلاثةُ دَرَاهم.
(1)
* * *
وقال آخرون : بل عنى بذلك سارق رُبع دينار أو قيمته. وممن قال ذلك ، الأوزاعيّ ومن
قال بقوله. واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي رُوي عن عائشة أنها قالت :
11912 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القطعُ في ربع دِينارٍ فصاعدًا. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 11911 - رواه بغير إسناد. رواه مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر
في الموطأ : 831 ، ورواه البخاري من طريق مالك (الفتح 2 : 93 - 94) ، ورواه مسلم
من طريقه أيضًا ، في صحيحه 11 : 184 ، 185.
و " المجن " : الترس ، لأنه يجن صاحبه ، أي يواريه.
(2) الأثر : 11912 - ساقه هنا بغير إسناد أيضًا ، وقد مضى ص : 266 ، تعليق رقم :
1.
وهذا الخبر رواه البخاري بأسانيده (الفتح 12 : 89 - 91) ، ومسلم بأسانيده في صحيحه
11 : 180 - 183.
(10/295)
وقال آخرون : بل عنى بذلك سارقَ عشرة
دراهم فصاعدًا. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه. واحتجوا في ذلك بالخبر الذي روي
عن عبد الله بن عمرو ، وابن عباس :
11913 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قَطَع في مِجَنّ قيمته عَشْرة دراهم. (1)
* * *
وقال آخرون : بل عني بذلك سارقَ القليل والكثير. واحتجوا في ذلك بأن الآية على
الظاهر ، وأنْ ليس لأحد أنَ يخُصَّ منها شيئًا ، إلا بحجة يجب التسليم لها. (2)
وقالوا : لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ بأن ذلك في خاصّ من
السُرَّاق. قالوا : والأخبار فيما قَطَع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربة
مختلفة ، ولم يروِ عنه أحد أنه أتي بسارق درهمٍ فَخلَّى عنه ، وإنما رووا عنه أنه
قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم. قالوا : وممكن أن يكون لو أتى بسارق ما قيمته دانقٌ
أن يَقْطع. قالوا : وقد قطع ابن الزبير في دِرْهم.
* * *
وروي عن ابن عباس أنه قال : الآيةُ على العموم.
11914 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبد المؤمن ، عن
نجدة الحنفي قال : سألت ابن عباس عن قوله : " والسارق والسارقة " ،
أخاصّ أم عام ؟ فقال : بل عام. (3)
* * *
__________
(1) الأثر : 11913 - خبر ابن عباس رواه الطحاوي في معاني الآثار 2 : 93. وكان في
المخطوطة والمطبوعة أن هذا الخبر مروي أيضًا عن " عبد الله بن عمر " ،
ولم أجد الرواية بذلك عن " ابن عمر بل الرواية التي احتجوا بها في كتب أصحاب
أبي حنيفة هي ما قاله " عبد الله بن عمرو " ، رواها عنه " عمرو بن
شعيب ، عن أبيه عن جده " . رواه أحمد في المسند برقم : 6900 ، وانظر تخريج
أخي السيد أحمد هناك. وانظر معاني الآثار للطحاوي 1 : 93 ، وأحكام القرآن للجصاص 2
: 417 ، فلذلك صححت ما قبل هذا الأثر " عبد الله بن عمرو " ، لا كما كان
في المطبوعة والمخطوطة " ابن عمر " .
(2) في المطبوعة : " وأنه ليس لأحد " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الأثر : 11914 - " عبد المؤمن بن خالد الحنفي المروزي " ، قاضي مرو.
قال أبو حاتم : " لا بأس به " ، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في
التهذيب.
و " نجدة بن نفيع الحنفي " . روى عن ابن عباس. مترجم في التهذيب.
(10/296)
قال أبو جعفر : والصواب من القول في
ذلك عندنا ، قولُ من قال : " الآية معنيّ بها خاصٌّ من السراق ، وهم سُرَّاق
ربع دينار فصاعدًا أو قيمته " ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال : " القطعُ في ربع دينار فصاعدًا " . وقد استقصيت ذكر أقوال
المختلفين في ذلك مع عللهم التي اعتلّوا بها لأقوالهم ، والبيانَ عن أولاها
بالصواب ، بشواهده ، (1) في كتابنا " كتاب السرقة " ، فكرهنا إطالة
الكتاب بإعادة ذلك في هذا الموضع.
* * *
وقوله : " جزاء بما كسبا نكالا من الله " ، يقول : مكافأةً لهما على
سرقتهما وعملهما في التلصصّ بمعصية الله (2) " نكالا من الله " يقول :
عقوبة من الله على لُصُوصيتهما. (3)
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك ما : -
11915 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
قوله : " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله
والله عزيز حكيم " ، لا تَرْثُوا لهم أن تقِيموا فيهم الحدود ، (4) فإنه
والله ما أمر الله بأمرٍ قَطُّ إلا وهو صلاحٌ ، ولا نهى عن أمرٍ قَطُّ إلا وهو
فساد. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " والتلميح عن أولاها بالصواب " ، والطبري لا يقول
مثل هذا أبدًا. وفي المخطوطة : " والسارق عن أولاها بالصواب " ، وهو تحريف
قبيح من عجلة الناسخ ، صواب قراءته ما أثبت.
(2) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (جزى).
وتفسير " كسب " فيما سلف 9 : 196 ، تعليق : 1 والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " النكال " فيما سلف 2 : 176 ، 177/ 8 : 580.
(4) " رثى له يرثى " : رحمه ورق له.
(5) ولكننا قد أظلنا زمان عطلت فيه الحدود ، بزعم الرثاء لمن أصاب حدًا من حدود
الله. وطالت ألسنة قوم من أهل الدخل ، فاجترأوا على الله بافترائهم ، وزعموا أن
الذي يدعونه من الرحمة لأهل الحدود هو الصلاح ، وأن ما أمر الله به هو الفساد!!
فاللهم نجنا من زمان تبجح فيه الأشرار بسلطانهم ، وتضاءل فيه أهل الإيمان
بمعاصيهم.
(10/297)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
وكان عمر بن الخطاب يقول : "
اشتدُّوا على السُّرَّاق ، فاقطعوهم يدًا يدًا ، ورجلا رجلا " .
* * *
وقوله : " والله عزيز حكيم " يقول جل ثناؤه : " والله عزيزٌ "
في انتقامه من هذا السارق والسارقةِ وغيرهما من أهل معاصيه " حكيم " ،
في حكمه فيهم وقضائه عليهم. (1)
يقول : فلا تفرِّطوا أيها المؤمنون ، في إقامة حكمي على السرَّاق وغيرهم من أهل
الجرائم الذين أوجبت عليهم حدودًا في الدنيا عقوبةً لهم ، فإني بحكمتي قضيت ذلك
عليهم ، (2) وعلمي بصلاح ذلك لهم ولكم.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ
فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : " فمن تاب " ، من هؤلاء السراق ، يقول :
من رجع منهم عمَّا يكرهه الله من معصيته إيَّاه ، إلى ما يرضاه من طاعته (3)
" من بعد ظلمه " ، و " ظلمه " ، هو اعتداؤه وعمله ما نهاه
الله عنه من سرقة أموال الناس (4) " وأصلح " ، (5) يقول : وأصلح نفسه
بحملها على مكروهها في طاعة الله ،
__________
(1) انظر تفسير " عزيز " فيما سلف 9 : 378 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
وتفسير " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " فإني بحكمي قضيت... " ، والأجود هنا ما
أثبت.
(3) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس الغة.
(5) زدت قوله تعالى : " وأصلح " ، ليتم سياق أبي جعفر ، كما جرى عليه في
تفسيره ، ولم تكن في المخطوطة ولا المطبوعة.
(10/298)
والتوبة إليه ممَّا كان عليه من معصيته.
(1)
وكان مجاهد - فيما ذكر لنا - يقول : توبته في هذا الموضع ، الحدُّ الذي يقام عليه.
............................................................................
...................................... (2)
* * *
11916 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح " ، فتاب عليه ، يقول
: الحدُّ. (3)
11917 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا موسى بن داود قال ، حدثنا ابن لهيعة ، عن
حُيَيّ بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو قال :
سرقت امرأة حُليًّا ، فجاء الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله ، سرقتنا هذه
المرأة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقطعوا يدها اليمنى. فقالت المرأة :
هل من توبة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتِ اليومَ من خطيئتك كيوم
ولدتك أمك! قال : فأنزل الله جل وعز : " فمن تاب من بعد ظُلمه وأصلح فإن الله
يتوب عليه " . (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإصلاح " فيما سلف 9 : 340 ، تعليق : 5 ، والمراجع
هناك.
(2) وضعت هذه النقط ، لأني قدرت أن قول مجاهد قد سقط من الناسخ ، أو من أبي جعفر
نفسه. وذلك أن الخبر الآتي بعده عن ابن عباس ، لا عن مجاهد.
(3) في المطبوعة : " يقول : فتاب عليه بالحد " ، وأثبت ما في المخطوطة ،
فهو صواب. يعني أن توبة الله عليه بعد الحد الذي يقام عليه لتوبته.
(4) الأثر : 11917 - " موسى بن داود الضبي " ، ثقة من شيوخ أحمد ، مضى
برقم : 10190 و " ابن لهيعة " ، مضى مرارًا.
و " حيي بن عبد الله بن شريح المعافري الحبلي المصري " . روى له الأربعة
، ثقة. تكلم فيه أحمد وقال : " عنده مناكير " . وقال البخاري : "
فيه نظر " . وقال ابن معين " ليس به بأس " وقال ابن عدي : "
أرجو أنه لا بأس به إذا روى عنه ثقة " . وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في
التهذيب.
و " أبو عبد الرحمن الحبلي " هو " عبد الله بن يزيد المعافري
" ، تابعي ثقة. مضى برقم : 6657 ، 9483.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده برقم : 6657 ، من طريق حسن بن موسى عن ابن لهيعة ،
عن حيي ، مطولا مفصلا ، وخرجه أخي السيد أحمد هناك وقال : " إسناده صحيح
" .
ونقله ابن كثير في تفسيره 3 : 152 ، ثم نقل رواية أحمد ، ثم قال : " وهذه
المرأة ، هي المخزومية التي سرقت ، وحديثها ثابت في الصححين ، من رواية الزهري ،
عن عروة ، عن عائشة " . ثم انظر فتح الباري (12 : 76 - 86) ، وصحيح مسلم 11 :
186 - 188.
والمرأة التي سرقت هي : " فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله
بن عمر بن مخزوم " (ابن سعد 8 : 192) ، وقد استوفى الحافظ ابن حجر خبرها في
شرح هذا الحديث في الفتح.
(10/299)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
وقوله : " فإن الله يتوب عليه
" ، يقول : فإن الله جل وعز يُرْجعه إلى ما يحبّ ويرضى ، عما يكرَه ويسخط من
معصيته. (1)
* * *
وقوله : " إن الله غفور رحيم " يقول : إن الله عز ذكره ساترٌ على من تاب
وأناب عن معاصيه إلى طاعته ذنوبَه ، بالعفو عن عقوبته عليها يوم القيامة ، وتركه
فضيحتَه بها على رءوس الأشهاد " رحيم " به وبعباده التائبين إليه من
ذنوبهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم يعلم هؤلاء
[يعني القائلين] : " لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة " ، الزاعمين
أنهم أبناء الله وأحباؤه (3) أن الله مدبِّر ما في السموات وما في الأرض ، ومصرفه
وخالقه ، لا
__________
(1) في المطبوعة : " عما يكرهه.... " وأثبت الصواب من المخطوطة.
(2) انظر تفسير " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) كان في المطبوعة : " ألم يعلم هؤلاء القائلون...الزاعمون " ، وفي
المخطوطة : " ألم يعلم هؤلاء القائلين... الزاعمين " ، فأثبت ما في
المخطوطة ، وزدت " يعني " بين قوسين ، فإني أرجح أنها سقطت من الناسخ.
(10/300)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
يمتنع شيء مما في واحدة منهما مما
أرادَه ، لأن كل ذلك ملكه ، وإليه أمره ، ولا نسب بينه وبين شيء مما فيهما ولا مما
في واحدة منهما ، فيحابيه بسبب قرابته منه ، فينجيه من عذابه ، وهو به كافر ،
ولأمره ونهيه مخالف أو يدخله النار وهو له مطيع لبعد قرابته منه ، ولكنه يعذّب من
يشاء من خلقه في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والمسخ وغير ذلك من صنوف عذابه ،
ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتّوبة عليه من كفره ومعصيته ، فينقذه من الهلكة
، وينجيه من العقوبة " والله على كل شيء قدير " ، يقول : والله جل وعز
على تعذيب من أرَاد تعذيبه من خلقه على معصيته ، وغفرانِ ما أراد غفرانه منهم
باستنقاذه من الهلكة بالتوبة عليه وغير ذلك من الامور كلها قادرٌ ، لأن الخلق
خلقُه ، والملك ملكه ، والعباد عباده.
* * *
وخرج قوله : " ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض " ، (1) خطابًا
له صلى الله عليه وسلم ، والمعنيُّ به من ذكرتُ من فرق بني إسرائيل الذين كانوا
بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حَوَاليها. وقد بيَّنا استعمال العرب
نظيرَ ذلك في كلامها بشواهده فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ
يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ
وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم : نزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر ، بقوله لبني قريظة حين حاصرهم
النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إنما هو الذَّبح ، فلا تنزلوا على حكم سعد
" .
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من نظائرها ، في فهارس اللغة.
(2) انظر ما سلف 2 : 484 - 488.
(10/301)
ذكر من قال ذلك :
11918 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم
تؤمن قلوبهم " ، قال : نزلت في رجل من الأنصار زعموا أنه أبو لبابة أشارت
إليه بنو قريظة يوم الحصار ، ما الأمر ؟ وعلام ننزل ؟ فأشار إليهم أنه الذَّبح.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت في رجل من اليهود سأل رجلا من المسلمين يسألُ رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن حُكمه في قتِيلٍ قتله.
ذكر من قال ذلك :
11919 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بشر ، عن زكريا ، عن عامر : " لا
يحزنك الذين يسارعون في الكفر " ، قال : كان رجل من اليهود قتله رجل من أهل
دينه ، فقال القاتل لحلفائهم من المسلمين : سلوا ليِ محمدًا صلى الله عليه وسلم ،
فإن بُعِثَ بالدية اختصمنا إليه ، (1) وإن كان يأمرنا بالقتل لم نأته. 11920 -
حدثنا المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن زكريا ، عن عامر ،
نحوه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فإن كان يقضي بالدية " ، غير ما في المخطوطة ، وهو
ما أثبته. ويعني بقوله : " بعث بالدية " (بالبناء للمجهول) : أنه قد
أوتي في رسالته وبعثته أن يحكم في مثل ذلك بالدية دون القصاص.
(10/302)
وقال آخرون : بل نزلت في عبد الله بن
صوريا ، وذلك أنه ارتدّ بعد إسلامه.
ذكر من قال ذلك :
11921 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني
الزهري قال : سمعت رجلا من مزينة يحدث ، عن سعيد بن المسيب : أن أبا هريرة حدّثهم
: أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة ، (1) وقد زنَى رجل منهم بعد إحصانه ، بامرأة من يهود قد أحصنت ، فقالوا ،
انطلقوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فاسألوه كيف الحكم
فيهما ، وولُّوه الحكم عليهما ، (2) فإن عمل فيهما بعملكم من التجبيه (3) وهو
الجلد بحبل من ليف مطليٍّ بقار ، ثم تُسوَّد وجوههما ، ثم يحملان على حمارين ،
وتحوَّل وجوههما من قبل دُبُر الحمار فاتبعوه ، فإنما هو ملكٌ. وإن هو حكم فيهما بالرجم
، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه. (4) فأتوه فقالوا : يا محمد ، هذا الرجل
قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت ، فاحكم فيهما ، فقد وليناك الحكم فيهما. فمشى
رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) " بيت المدراس " ، هو البيت الذي كان اليهود يدرسون فيه كتبهم.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " فولوه الحكم " بالفاء ، وأثبت أجودهما من
سيرة ابن هشام.
(3) في المطبوعة : " بعملكم من التحميم ، وهو الجلد " ، لم يحسن قراءة
المخطوطة ، وهي غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت ، وهي كما أثبتها في سيرة ابن
هشام.
(4) في سيرة ابن هشام : " وإن هو حكم فيهما بالرجم ، فإنه نبي ، فاحذروه ...
" .
(10/303)
وسلم حتى أتى أحبارهم إلى بيت المدراس
، (1) فقال : " يا معشر اليهود ، أخرجوا إليّ أعلمكم! " فأخرجوا إليه
عبد الله بن صوريا الأعور وقد روى بعض بني قريظة ، (2) أنهم أخرجوا إليه يومئذ مع
ابن صوريا ، أبا ياسر بن أخطب ، ووهب بن يهوذا ، فقالوا : هؤلاء علماؤنا! فسألهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حصَّل أمرهم ، إلى أن قالوا لابن صوريا : هذا
أعلم من بقي بالتوراة (3) فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان غلامًا
شابًّا من أحدثهم سنًّا ، فألظَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألةَ ، (4)
يقول : يا ابن صوريا ، أنشُدك الله واذكِّرك أياديه عند بني إسرائيل ، هل تعلم أنّ
الله حكم فيمن زنىَ بعد إحصانه بالرجم في التوراة ؟ فقال : اللهم نعم! أما والله
يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبيٌّ مرسلٌ ، ولكنهم يحسدونك! فخرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فأمر بهما فرجما عند باب مسجده ، في بني غنم بن مالك بن النجار.
(5) ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا ، فأنزل الله جل وعز : " يا أيها الرسول لا
يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم
" . (6)
11922 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ح ، وحدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ،
عن الأعمش ح ، وحدثنا هناد قال ، حدثنا عبيدة بن حميد عن الأعمش ، عن عبد الله بن
مرة ، عن البراء بن عازب قال : مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيهوديٍّ محمَّم مجلود
، (7) فدعا النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من علمائهم
__________
(1) في المطبوعة : " في بيت المدراس " ، كما في سيرة ابن هشام ، وأثبت
ما في المخطوطة ، فإنه صواب المعنى أيضا.
(2) في ابن هشام : " وقد حدثني بعض بني قريظة " .
(3) قال ابن هشام في سيرته : من قوله : " وحدثني بعض بني قريظة " ، إلى
" أعلم من بقى بالتوراة " ، من قول ابن إسحق. وما بعده ، من الحديث الذي
قبله فلذلك وضعت ذلك كله بين خطين.
(4) " ألظ به المسألة " : ألح في سؤاله. " لظ بالشيء " و
" ألظ به " ، لزمه وثابر عليه.
(5) في المطبوعة والمخطوطة : " في بني عثمان بن غالب بن النجار " ، وهو
خطأ صرف ، صوابه ما أثبته من سيرة ابن هشام وغيرها. وليس للنجار ولد يقال له
" غالب " ، ولا لمالك بن النجار ولد يقال له " عثمان " .
(6) الأثر : 11921 - سيرة ابن هشام 2 : 213 ، 214 ، وهو فيها تال للأثر السالف هنا
رقم : 11616.
وهذا الخبر رواه أحمد مختصرا. ورواه أبو داود في سننه 4 : 216 - 218 ، رقم : 4450
، 4451 ، بغير هذا اللفظ والبيهقي في السنن 8 : 246 ، 247. انظر تفسير ابن كثير 3
: 156 ، وسيأتي برقم : 11923 ، 11924.
(7) في المطبوعة : " مر على النبي ... " ، بزيادة " على " كما
في الروايات الأخرى ، وأثبت ما كان في المخطوطة.
و " المحمم " : المسود الوجه " حمم الرجل تحميما " : سخم وجهه
بالحمم ، وهو الفحم.
(10/304)
فقال : أهكذا تجِدُون حدَّ الزاني فيكم
؟ قال : نعم! قال : فأنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حدّ الزنى فيكم
؟ قال : لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أحدِّثك ، ولكن الرجم ، ولكن كثرُ الزنا في
أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ،
فقلنا : " تعالوا نجتمع فنضع شيئًا مكان الرجم ، فيكون على الشريف والوضيع
" ، فوضعنا التحميم والجلد مكان الرجم! فقال النبى صلى الله عليه وسلم : أنا
أوّل من أحيي أمرك إذ أماتوه! (1) فأمر به فرجم ، فأنزل الله : " لا يحزنك
الذين يسارعون في الكفر " الآية. (2)
11923 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر
، عن الزهري قال : كنت جالسًا عند سعيد بن المسيب ، وعند سعيد رجل يوقِّره ، فإذا
هو رجل من مزينة كان أبوه شَهِد الحديبية ، وكان من أصحاب أبي هريرة قال : قال أبو
هريرة : كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
11924 - ح ، وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث قال ، حدثني الليث قال
، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني رجل من مزينة
__________
(1) في المطبوعة : " اللهم إني أنا أول ... " ، وأثبت ما في المخطوطة ،
وبمثله في الناسخ والمنسوخ : 130.
(2) الأثر : 11922 - رواه أبو جعفر من ثلاث طرق ، عن الأعمش. وسيرويه بعد برقم :
12034 ، 12036 من طريق القاسم ، عن الحسين ، عن أبي معاوية ، ومن طريق هناد عن أبي
معاوية.
و " عبيدة بن حميد بن صهيب التيمي " ، مضى برقم : 2781 ، 2998 ، 8783 ،
وكان في المطبوعة : " عبيدة بن عبيد " ، والصواب من المخطوطة.
و " عبد الله بن مرة الهمداني الخارفي " ، مضى برقم : 8208.
وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه 11 : 209 ، 210 ، وأحمد في مسنده 4 : 286 ،
والبيهقي في السنن 8 : 246 ، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ : 130 وأبو داود
في سننه 4 : 215 ، رقم : 4448 ، وقال ابن كثير في تفسيره ، بعد أن ساق خبر أحمد :
" انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ، وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، من غير
وجه عن الأعمش ، به " .
وانظر تتمه هذا الأثر فيما سيأتي رقم : 11939 ، ورقم : 12022.
(10/305)
ممن يَتَّبع العلمَ ويعيه ، حدَّث عن
سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة قال : بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ
جاءه رجل من اليهود ، وكانوا قد تشاوروا في صاحب لهم زنى بعد ما أحصن ، (1) فقال
بعضهم لبعض : إن هذا النبي قد بعث ، وقد علمتم أنْ قد فُرِض عليكم الرجْم في
التوراة فكتمتموه ، واصطلحتم بينكم على عقوبة دونه ، فانطلقوا نسأل هذا النبي ، (2)
فإن أفتانا بما فرض علينا في التوراة من الرجم ، تركنا ذلك ، فقد تركنا ذلك في
التوراة ، فهي أحق أن تُطَاع وتصدَّق! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا
: يا أبا القاسم إنه زنى صاحبٌ لنا قد أحصن ، فما ترى عليه من العقوبة ؟ قال أبو
هريرة : فلم يَرْجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام وقمنا معه ،
فانطلق يؤمُّ مِدْراس اليهود ، حتى أتاهم فوجدهم يتدارسون التوراة في بيت المدراس
، فقال لهم : يا معشر اليهود ، أنشُدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، ماذا
تجدون في التوراة من العُقوبة على من زنى وقد أحصن ؟ قالوا : إنا نجده يحمَّم
ويُجْلَد! وسكت حَبْرهم في جانب البيت ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
صَمته ، ألظَّ يَنْشُدُه ، فقال حبرهم : اللهم إذْ نَشَدتنا فإنا نجد عليهم الرجم!
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : فماذا كان أوّلُ ما ترخَّصتم به أمرَ الله
" ؟ قال : زنى ابن عم ملك فلم يرجمه ، ثم زنى رجل آخر في أسرة من الناس ،
فأراد ذلك الملك رجمه ، فقام دونه قومُه فقالوا : والله لا ترجمه حتى ترجُم فلانًا
ابن عم الملك! فاصطلحوا بينهم عقوبة دون الرجم وتركوا الرجم. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : فإني أقضي بما في التوراة! فأنزل الله في ذلك : " يا أيها
الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " إلى قوله : " ومن لم يحكم بما
أنزل الله فأولئك هم الكافرون " . (3)
* * *
وقال آخرون : بل عُني بذلك المنافقون.
ذكر من قال ذلك :
11925 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد
الله بن كثير في قوله : " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من
الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم " ، قال : هم المنافقون.
11926 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " آمنا بأفواههم " قال يقول : هم المنافقون "
سماعون لقوم آخرين " ، قال : هم أيضًا سماعون لليهود. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " قد أشاروا في صاحب لهم " ، وفي المخطوطة : "
شاوروا " ، وهي ضعيفة هنا ، ورأيت أن أقرأها " تشاوروا " .
(2) في المطبوعة : " فانطلقوا ، فنسأل " وفي المخطوطة : " فسل
" غير منقوطة ، فرأيت أن أقرأها كما أثبتها.
(3) الأثران : 11923 ، 11924 - خبر الزهري هذا ، رواه أبو جعفر فيما سلف من طريق
ابن إسحق عن الزهري برقم : 11921.
وستأتي روايته أيضا بغير هذا اللفظ ، برقم : 12008.
ورواه أبو داود في سننه 4 : 4450 ، من طريق معمر عن الزهري ، وبرقم : 4451 ، من
طريق ابن إسحق ، عن الزهري.
ورواه أحمد في مسنده مختصرا ، برقم 7747 ، من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن
الزهري ، عن رجل من مزينة ، وسيروي أبو جعفر هذا الخبر من طريق عبد الرازق فيما
يلي برقم : 12008 ، فقال أخي السيد أحمد في شرحه : " إسناده منقطع ، لإبهام
الرجل من مزينة الذي روى عن الزهري " . ثم أشار في تخريجه إلى رواية الطبري
رقم : 11921 ، ولم يشر إلى هذين الخبرين رقم : 11923 ، 11924 ، ولا إلى الخبر الآتي
رقم : 12008 ، ثم ساق رواية عبد الرزاق عن مصر بنصها. ثم قال : " وهذا الرجل
من مزينة ، المجهول ، وصفه الزهري ، في رواية أبي داود ، من طريق يونس ابن يزيد
الأيلي عن الزهري : أنه ممن يتبع العلم ويعيه " ، كما في إسنادنا هذا رقم :
11924 ، وفاته ما في الإسناد رقم 11923 : أنه رجل من مزينة " كان أبوه شهد
الحديبية " . ومع كل ذلك ، فالرجل لا يزال مجهولا لم يعرف.
فائدة : راجع ما سلف في أخبار الرجم من رقم : 11609 - 11611.
(4) الأثر : 11926 - حذف في المطبوعة من أول قوله : " سماعون لقوم آخرين
" ، إلى آخر الخبر ، وهو ثابت في المخطوطة كأنه استنكر ذكره هنا ، مع أنه آت
في تتمة الآية ، ولم يذكر فيها قول مجاهد هناك. وهذا عبث لا معنى له.
(10/306)
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في
ذلك عندي بالصواب ، (1) أن يقال : عني بقوله : (2) " لا يحزنك الذين يسارعون
في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم " ، قومٌ من
المنافقين. وجائزٌ أن يكون كان ممن دخل في هذه الآية ابنُ صوريا وجائز أن يكون أبو
لبابة وجائز أن يكون غيرُهما ، غير أن أثبت شيء روي في ذلك ، ما ذكرناه من الرواية
قبلُ عن أبي هريرة والبراء بن عازب ، لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وإذا كان ذلك كذلك ، كان الصحيحُ من القول فيه أن يقال : عُنِي به
عبد الله بن صوريَا.
وإذا صحّ ذلك ، كان تأويل الآية : يا أيُّها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في
جحود نبوّتك ، والتكذيبِ بأنك لي نبي ، من الذين قالوا : " صدَّقنا بك يا
محمد أنك لله رسول مبعوث ، وعلمنا بذلك يقينًا ، بوجودنا صِفَتك في كتابنا "
. (3)
وذلك أن في حديث أبي هريرة الذي رواه ابن إسحاق عن الزهري : (4) أن ابن صُوريا قال
لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما والله يا أبا القاسم ، إنهم ليعلمون
أنك نبى مُرسْل ، ولكنهم يحسدونك " . فذلك كان على هذا الخبر من ابن صوريا
إيمانًا برسول الله صلى الله عليه وسلم بفيه ، ولم يكن مصدِّقًا لذلك بقلبه. فقال
الله جل وعزّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، مُطْلِعَه على ضمير ابن صوريا وأنه
لم يؤمن بقلبه ، يقول : ولم يصدِّق قلبه بأنك لله رسول مرسل. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وأولى الأقوال " ، حذف " هذه " ، وهي
ثابتة في المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " عني بذلك " ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(3) قوله : " بوجودنا صفتك " ، أي : بأننا نجد صفتك ...
(4) في الأثر رقم : 11921.
(5) انظر تفسير " حزن " فيما سلف 7 : 234 ، 418 وتفسير " سارع
" فيما سلف 7 : 130 ، 207 ، 418 وانظر تفسير " من أفواههم " فيما
سلف 7 : 145 - 147 وتفسير " يقولون بأفواههم " 7 : 378 ، 379.
(10/308)
القول في تأويل قوله عز وجلّ : {
وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ
لَمْ يَأْتُوكَ }
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيها الرسولُ لا
يحزنك تسرُّع من تسرَّع من هؤلاء المنافقين الذين يظهارون بألسنتهم تصديقَك ، وهم
معتقدون تكذيبك إلى الكفر بك ، ولا تسرُّعُ اليهود إلى جحود نبوّتك. (1) ثم وصف جل
وعزّ صفتهم ، (2)
ونعتهم له بنعوتهم الذَّميمة وأفعالهم الرديئة ، وأخبره مُعزّيًا له على ما يناله
من الحزن بتكذيبهم إياه ، مع علمهم بصدقه ، أنَّهم أهلُ استحلال الحرامِ والمآكل
الرديئة والمطاعم الدنيئة من الرُّشَى والسُّحْت ، (3) وأنهم أهل إفكٍ وكذبٍ على
الله ، وتحريف لكتابه. (4) ثم أعلمه أنه مُحِلٌّ بهم خزيَه في عاجل الدنيا ،
وعقابه في آجل الآخرة. فقال : هم " سماعون للكذب " ، يعني هؤلاء
المنافقين من اليهود ، يقول : هم يسمعون الكذب ، و " سمعهم الكذب " ،
سمعُهم قول أحبارهم : أنّ حكم الزاني المحصن في التوراة ، التحميمُ والجلد "
سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " ، يقول : يسمعون لأهل الزاني الذين أرادوا
الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم القوم الآخرون الذين لم يكونوا
أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا مصرِّين على أن يأتوه ، كما قال مجاهد
: -
11927 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال
مجاهد : " سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " ، مع من أتوك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " هاد " فيما سلف 2 : 143 ، 507/9 : 391.
(2) في المطبوعة : " ثم وصف جل ذكره صفتهم " ، غير ما في المخطوطة لغير
طائل.
(3) يعني ما سيأتي في الآية : 42.
(4) في المطبوعة : " وتحريف كتابه " ، وفي المخطوطة : " أهل الإفك
، وكذب على الله ، وتحريف كتابه " ، ورأيت السياق يقتضي أن تكون "
وتحريف لكتابه " ، فأثبتها.
(10/309)
واختلف أهل التأويل في " السماعين
للكذب السماعين لقوم آخرين " . (1)
فقال بعضهم : " سماعون لقوم آخرين " ، يهود فَدَك. و " القوم
الآخرون " الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يهوُد المدينة. (2)
ذكر من قال ذلك :
11928 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن
عيينة قال ، حدثنا زكريا ومجالد ، عن الشعبي ، عن جابر في قوله : " ومن الذين
هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين " ، قال : يهود المدينة " لم
يأتوك يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه " ، قال : يهود فدك ، يقولون ليهود المدينة
: " إن أوتيتم هذا فخذوه " .
* * *
وقال آخرون : المعنيّ بذلك قوم من اليهود ، كان أهل المرأة التي بَغَتْ ، بعثوا
بهم يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم فيها. والباعثون بهم هم "
القوم الآخرون " ، وهم أهل المرأة الفاجرة ، لم يكونوا أتوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك :
11929 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " ومن الذين هادوا سمَّاعون للكذب سمَّاعون لقوم آخرين لم يأتوك
يحرفون " ، فإنّ بني إسرائيل أنزل الله عليهم : (3) " إذا زنى منكم أحد
فارجموه " ، فلم يزالوا بذلك حتى زنى رجل من خيارهم ، فلما اجتمعت بنو
إسرائيل يرجمونه ، قام الخيار والأشراف فمنعوه. ثم زنى رجل من الضعفاء ،
__________
(1) في المطبوعة : " في السماعون للكذب السماعون لقوم آخرين " ، غير ما
في المخطوطة بلا معنى ، بل بفساد.
(2) الظاهر أن في هذه الترجمة خطأ من أبي جعفر ، وكأن صوابها : " فقال بعضهم
: " سماعون لقوم آخرين ، يهود المدينة. والقوم الآخرون الذين لم يأتوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، يهود فدك " . والخبر نفسه بعد ، دال على صحة ما
ذهبت إليه.
(3) في المطبوعة : " كان بنو إسرائيل ... " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/310)
فاجتمعوا ليرجموه ، فاجتمعت الضعفاء
فقالوا : لا ترجموه حتى تأتُوا بصاحبكم فترجمونهما جميعًا! فقالت بنو إسرائيل : إن
هذا الأمر قد اشتد علينا ، فتعالوا فلنصلحه! فتركوا الرجم ، وجعلوا مكانه أربعين
جَلْدة بحبل مقيَّر ، ويحملونه على حمار ووجهه إلى ذنبه ، (1) ويسوِّدون وجهه ،
ويطوفون به. فكانوا يفعلون ذلك حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة ،
فزنت امرأة من أشراف اليهود يقال لها : " بسرة " ، فبعث أبوها ناسًا من
أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : سلوه عن الزنا وما نزل إليه فيه ،
فإنا نخاف أن يفضحنا ويُخْبرنا بما صنعنا ، فإن أعطاكم الجلد فخذُوه ، وإن أمركم
بالرجم فاحذروه! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه ، فقال : الرجم! فأنزل
الله عز وجل : " ومن الذين هادوا سمَّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرِّفون
الكلم من بعد مواضعه " ، حين حرَّفوا الرجم فجعلوه جلدًا.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قولُ من قال : إن "
السماعين للكذب " ، هم " السماعون لقوم آخرين " . (2)
وقد يجوز أن يكون أولئك كانوا من يهود المدينة ، والمسموعُ لهم من يَهُود فدك
ويجوز أن يكون كانوا من غيرهم. غير أنه أيّ ذلك كان ، فهو من صفة قوٍم من يهود ،
سَمِعوا الكذب على الله في حكم المرأة التي كانت بغت فيهم وهي محصنة ، وأن حكمها
في التوراة التحميم والجلد ، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم اللازم
لها ، وسمعوا ما يقول فيها قوم المرأة الفاجرة قَبْل أن يأتوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم محتكمين إليه فيها. وإنما سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك
__________
(1) في المطبوعة : " ويحممونه ويحملونه على حمار " ، زاد "
ويحممونه " ، ولا معنى لزيادتها ، فإنه سيأتي بعد ما هو بمعناها ، وهو قوله :
" ويسودون وجهه " . وأثبت ما في المخطوطة ، وإن كان فيها " ويحملوه
على حمار " .
(2) في المطبوعة : " إن السماعون... " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/311)
لهم ، ليُعْلموا أهل المرأة الفاجرة ما
يكون من جوابه لهم. فإن لم يكن من حكمه الرجم رَضُوا به حَكَمًا فيهم. وإن كان من
حكمه الرّجم ، حذِروه وتركوا الرضَى به وبحكمه.
* * *
وبنحو الذي قلنا كان ابن زيد يقول.
11930 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين " ، قال : لقوم آخرين لم يأتوه من أهل الكتاب
، (1) هؤلاء سماعون لأولئك القوم الآخرين الذين لم يأتوه ، يقولون لهم الكذب :
" محمد كاذبٌ ، وليس هذا في التوراة ، فلا تؤمنوا به " . (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " لم ياتوك " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) عند هذا الموضع ، انتهى جزء من التقسيم القديم للمخطوطة التي نقلت عنها
نسختنا. وفي مخطوطتنا هنا ما نصه :
" يتلوهُ إن شاء الله تعالى :
القولُ في تاويل قوله : (يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ من بَعْد مَوَاضِعِهِ يَقُولُون
إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإنْ لَمْ تُأْتَوْهُ فَاحْذَرُوا).
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا " .
ثم يبدأ بعده :
" بِسمْ الله الرَّحمن الرحيمِ
رَبِّ يَسِّرْ "
(10/312)
القول في تأويل قوله عزّ وجلّ : {
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا
فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يحرف هؤلاء السمَّاعون للكذب ، السماعون لقوم
آخرين منهم لم يأتوك بعدُ من اليهود " الكلم " (1) . وكان تحريفُهم ذلك
، تغييرَهم حكم الله تعالى ذكره الذي أنزله في التوراة في المحصَنات والمحصَنين من
الزناة بالرجم إلى الجلد والتحميم. فقال تعالى ذكره : " يحرّفون الكلم "
، يعني : هؤلاء اليهود ، والمعنيُّ حكم الكَلِم ، فاكتفى بذكر الخبر من "
تحريف الكلم " عن ذكر " الحكم " ، لمعرفة السامعين لمعناه. وكذلك
قوله : " من بعد مواضعه " ، والمعنى : من بعد وضْع الله ذلك مواضعه ،
فاكتفى بالخبر من ذكر " مواضعه " ، عن ذكر " وضع ذلك " ، كما
قال تعالى ذكره : ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
) [سورة البقرة : 177] ، والمعنى : ولكن البِرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر.
(2)
* * *
وقد يحتمل أن يكون معناه : يحرفون الكلم عن مواضعه فتكون " بعد " وضعت
موضع " عن " ، كما يقال : " جئتك عن فراغي من الشغل " ، يريد
: بعد فراغي من الشُّغل.
* * *
ويعني بقوله : " إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا " ، يقول
هؤلاء الباغُون السمَّاعون للكذب : إن أفتاكم محمد بالجلد والتحميم في صاحبنا
" فخذوه " ، يقول : فاقبلوه منه ، وإن لم يفتكم بذلك وأفتاكم بالرجم ،
فاحذروا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير " تحريف الكلم عن مواضعه " فيما سلف 2 : 248/8 : 430 -
432/10 : 129
(2) انظر ما سلف 3 : 336 - 339.
(10/313)
ذكر من قال ذلك :
11931 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق قال ، حدثني
الزهري قال : سمعت رجلا من مزينة يحدِّث سعيد بن المسيب : أن أبا هريرة حدثهم في
قصة ذكرها " ومن الذين هادوا سمَّاعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك
" ، قال : [أي الذين بعثوا منهم مَنْ] بعثوا وتخلفوا ، (1) وأمروهم بما
أمرُوهم به من تحريف الكلم عن مواضعه ، فقال : " يحرِّفون الكلم من بعد
مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه " ، للتجبيه (2) " وإن لم تؤتوه
فاحذروا " ، أي الرجم. (3)
11932 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " إن أوتيتم هذا " ، إن وافقكم هذا
فخذوه. يهودُ تقولُه للمنافقين.
11933 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، " إن أوتيتم هذا فخذوه " ، إن وافقكم هذا فخذوه ، وإن لم
يوافقكم فاحذروه. يهود تقوله للمنافقين.
11934 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " يحرفون الكلم من بعد مواضعه " ، حين حرفوا الرجم فجعلوه جلدًا
" يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا " .
11935 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن
عيينة قال ، حدثنا زكريا ومجالد ، عن الشعبي ، عن جابر : " يحرفون الكلم من
بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه " ، يهود فدك ، يقولون ليهود
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام.
(2) في المطبوعة : " للتحميم " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وانظر شرح ذلك
فيما سلف في الأثر : 11921 ص : 303 ، تعليق : 3.
(3) الأثر : 11931 - سيرة ابن هشام 2 : 214 ، وهو تتمة الأثر السالف رقم : 11921.
(10/314)
المدينة : إن أوتيتم هذا الجلد فخذوه ،
وإن لم تؤتوه فاحذروا الرَّجم. (1)
11936 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه
فاحذروا " ، هم اليهودُ ، زنت منهم امرأة ، وكان الله قد حكم في التوراة في
الزّنا بالرجم ، فنَفِسوا أن يرجموها ، (2) وقالوا : انطلقوا إلى محمد ، فعسى أن
يكون عنده رُخْصة ، فإن كانت عنده رخصة فاقبلوها! فأتَوْه ، فقالوا : يا أبا
القاسم ، إنّ امرأة منّا زنت ، فما تقول فيها ؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم
: كيف حُكم الله في التوراة في الزاني ؟ فقالوا : دعنا من التوراة ، ولكن ما عندك
في ذلك ؟ فقال : ائتوني بأعلمكم بالتوراة التي أنزلت على موسى! فقال لهم : بالذي
نجاكم من آل فرعون ، وبالذي فَلَق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون ، إلا
أخبرتموني ما حُكْم الله في التوراة في الزاني ؟! قالوا : حكمه الرَّجْم! فأمر بها
رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت. (3)
11937 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
قوله : " لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه
وإن لم تؤتوه فاحذروا " ، ذكر لنا أن هذا كان في قتيلٍ من بني قريظة ، قتلته
النضير. فكانت النضير إذا قتلت من بني قريظة لم يُقِيدوهم ، إنما يعطونهم الدية
لفضلهم عليهم. وكانت قريظة إذا قتلت من النضير قتيلا لم يرضوا إلا بالقَوَد لفضلهم
عليهم في أنفسهم تعزُّزًا. فقدم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة على
تَفِئَةِ قتيلهم هذا ، (4) فأرادوا أن يرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
__________
(1) الأثر : 11935 - انظر الأثر السالف رقم : 11928.
(2) " نفس عليه الشيء " و " نفس به عليه " (بكسر الفاء فيهما)
: ضن به وبخل ، يعني أنهم رقوا لها وضنوا بها على الرجم والموت.
(3) قوله : " فأمر بها رسول الله " ، إلى آخر الجملة ، ليس في المخطوطة.
وكأنه زاده من نص الدر المنثور 2 : 282.
(4) في المطبوعة : " على هيئة فعلهم هذا " ، ولا معنى لها. وفي المخطوطة
: " على نصه فصلهم هذا " ، غير منقوطة ، وهذا صواب قراءتها. يقال :
" أتيته على تفئة ذلك " ، أي : على حينه وزمانه. وانظر مثل ذلك في الأثر
رقم : 7941 ، ج 7 : 253 ، تعليق : 1.
وأما " فعلهم هذا " ، كما في المطبوعة ، و " فصلهم هذا " كما
في المخطوطة ، فصواب قراءته " قتيلهم هذا " ، كما هو واضح من السياق.
(10/315)
فقال لهم رجل من المنافقين : إن قتيلكم
هذا قتيل عَمْدٍ ، متى ما ترفعونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم أخشى عليكم القَوَد
، فإن قبل منكم الدية فخذوه ، وإلا فكونوا منه على حَذَرٍ!
11938 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
يحرفون الكلم من بعد مواضعه " ، يقول : يحرّف هؤلاء الذين لم يأتوك الكلم عن
مواضعه ، لا يضعونه على ما أنزله الله. قال : وهؤلاء كلهم يهود ، بعضهم من بعضٍ.
11939 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية وعبيدة بن حميد ، عن الأعمش ، عن عبد
الله بن مرة ، عن البراء بن عازب : " يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإذ لم
تؤتوه فاحذروا " ، يقولون : ائتوا محمدًا ، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه
، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز : { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ
لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا }
قال أبو جعفر : وهذا تسلية من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم
من حزنه على مسارعة الذين قصَّ قصتهم من اليهود والمنافقين في هذه الآية. يقول له
تعالى ذكره : لا يحزنك تسرُّعهم إلى جحود نبوَّتك ، فإني قد حَتَمْتُ عليهم أنهم
__________
(1) الأثر : 11939 - هذا تتمة الأثر السالف رقم : 11922 ، فانظر التعليق عليه
هناك.
(10/316)
لا يتوبون من ضلالتهم ، (1) ولا يرجعون
عن كفرهم ، للسابق من غضبي عليهم. وغير نافعهم حزنك على ما ترى من تسرُّعهم إلى ما
جعلته سببًا لهلاكهم واستحقاقِهم وعيدي.
* * *
ومعنى " الفتنة " في هذا الموضع : الضلالة عن قصد السبيل. (2)
* * *
يقول تعالى ذكره : ومن يرد الله ، يا محمد ، مَرْجعه بضلالته عن سبيل الهدى ، (3)
فلن تملك له من الله استنقاذًا مما أراد الله به من الحيرة والضلالة. (4) فلا تشعر
نفسك الحزنَ على ما فاتك من اهتدائه للحق ، كما : -
11940 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدى : " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا " .
............................................. (5)
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ
عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا يحزُنك الذين
يسارعون في الكفر من اليهودِ الذين وصفت لك صفتهم. وإن مسارعتهم إلى ذلك ، أنّ
الله قد أراد فتنتهم ، وطَبَع على قلوبهم ، ولا يهتدون أبدًا " أولئك الذين
لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " ، يقول : هؤلاء الذين لم يرد الله أن يطهِّر من
دنس
__________
(1) " حتم عليه " : قضى عليه وأوجب الحكم.
(2) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف 9 : 123 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(3) هكذا في المخطوطة والمطبوعة : " مرجعه بضلالته " ، كأنه يعني :
انصرافه بضلالته عن سبيل الهدى ، وأخشى أن يكون اللفظ محرفًا.
(4) انظر تفسير " ملك " فيما سلف ص : 147 ، 187
(5) سقط بقية هذا الأثر من المخطوطة والمطبوعة ، فوضعت النقط تنبيهًا على هذا
الخرم.
(10/317)
الكفر ووَسخ الشرك قُلوبَهم ، بطهارة
الإسلام ونظافة الإيمان ، (1) فيتوبوا ، بل أراد بهم الخزي في الدنيا وذلك الذلّ
والهوان (2) وفي الآخرة عذابُ جهنم خالدين فيها أبدًا. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى " الخزي " ، روي القول عن عكرمة.
11941 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن علي بن
الأقمر وغيره ، عن عكرمة ، أولئك الذين لم يرد الله أن يطهِّر قلوبهم لهم في
الدنيا خزي " ، قال : مدينة في الروم تُفْتح فَيُسْبَوْن. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " طهر " فيما سلف 3 : 38 - 40 ، 393 ، وفهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف ص : 276 تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير سائر ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) الأثر : 11941 - " علي بن الأقمر بن عمرو بن الحارث الهمداني " ،
أبو الوازع الكوفي. روى له الأئمة. ثقة حجة. مترجم في التهذيب.
و " سفيان " هو الثوري.
وكان في المطبوعة : " علي بن الأرقم " ، وهو خطأ محض ، صوابه في
المخطوطة.
(10/318)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
القول في تأويل قوله : { سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : هؤلاء اليهود الذين وصفتُ لك ، يا محمد ، صفتَهم
، سَمَّاعون لقِيل الباطل والكذب ، ومن قيل بعضهم لبعض : " محمد كاذب ، ليس
بنبي " ، وقيل بعضهم : " إن حكم الزاني المحصن في التوراة الجلد
والتحميم " ، وغير ذلك من الأباطيل والإفك ويقبلون الرُّشَى فيأكلونها على
كذبهم على الله وفريتهم عليه ، (1) كما : -
11942 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا أبو عقيل
__________
(1) في المخطوطة : " فيأكلوها " ، والصواب ما في المطبوعة.
(10/318)
قال ، سمعت الحسن يقول في قوله :
" سماعون للكذب أكَّالون للسحت " ، قال : تلك الحكام ، سمعوا كِذْبَةً
وأكلوا رِشْوَةً.
11943 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
: " سماعون للكذب أكالون للسحت " ، قال : كان هذا في حكّام اليهودِ بين
أيديكم ، كانوا يسمعون الكذب ويقبلون الرُّشَى.
11944 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " أكالون للسحت " ، قال : الرشوة في
الحكم ، وهم يهود.
11945 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي وإسحاق
الأزرق وحدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن عن سفيان ، عن عاصم ، عن زر ،
عن عبد الله : " أكالون للسحت " ، قال : " السُّحت " ،
الرشوةُ.
11946 - حدثنا سفيان بن وكيع وواصل بن عبد الأعلى قالا حدثنا ابن فضيل ، عن الأعمش
، عن سلمة بن كهيل ، عن سالم بن أبي الجعد قال : قيل لعبد الله : ما السحت ؟ قال :
الرشوة. قالوا : في الحكم ؟ قال : ذاك الكفر.
11947 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا غندر ووهب بن جرير ، عن شعبة ، عن منصور ، عن
سالم بن أبي الجعد ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : " السحت " ، الرشوة.
11948 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن حريث ،
عن عامر ، عن مسروق قال : قلنا لعبد الله : ما كنا نرى " السحت " إلا
الرشوة في الحكم! قال عبد الله : ذاك الكُفْر.
11949 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن
منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن مسروق ، عن عبد الله قال :
(10/319)
" السحت " ، الرُّشَى ؟ قال
: نعم. (1)
11950 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن عمار
الدُّهني ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن مسروق قال : سألت عبد الله عن " السحت
" ، فقال : الرجل يطلب الحاجةَ للرجل فيقضيها ، فيهدي إليه فيقبلُها.
11951 - حدثنا سوّار قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا شعبة ، عن منصور
وسليمان الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن مسروق ، عن عبد الله أنه قال : "
السحت " ، الرشى.
11952 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا المحاربي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زر ، عن
عبد الله : " السحت " ، قال : الرشوة في الدِّين.
11953 - حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن خيثمة قال ،
قال عمر : [ما كان] من " السحت " ، الرشى ومهر الزانية. (2)
11954 - حدثني سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم قال :
" السحت " ، الرشوة.
11955 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة قوله : " أكالون للسحت " ، قال : الرشى.
11956 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثني أبي عن طلحة ،
عن أبي هريرة قال : مهر البغي سُحْت ، وعَسْبُ الفحل سحت ، (3) وكسْبُ الحجَّام
سحت ، وثمن الكلب سُحْت.
__________
(1) لعل الصواب " قيل : السحت ، الرشى " أو " سئل " .
(2) ما بين القوسين ثابت في المخطوطة والمطبوعة ، وأنا في شك منه ، ولذلك وضعته
بين قوسين ، فإن الكلام بغيره مستقيم. وأخشى أن يكون تحريفًا لشيء لم أستطع أن
أستظهر صوابه. أو لعله سقط من الخبر شيء. بعد قوله : [ما كان]. وانظر الآثار رقم :
11956 ، 11964 ، 11965 ، فربما كان ما سقط هنا : " ما كان يعطي الكهان في
الجاهلية " ، كما في رقم : 11964.
(3) " عسب الفحل " : طرق الفحل وضرابه. يقال : " عسب الفحل الناقة
يعسبها عسبًا " ، و " فحل شديد العسب " . و " العسب "
بعد ذلك هو : الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل. وقد جاء في الحديث النهي عن عسب
الفحل ، وهو كراء عسب الفحل. أما إعارة الفحل للضراب ، فأمر مندوب إليه.
(10/320)
11957 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : " السحت " ، الرشوة في
الحكم.
11958 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو غسان قال ، حدثنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير
، عن سالم بن أبي الجعد ، عن مسروق قال : سألت ابن مسعود عن " السحت " ،
قال : الرشى. فقلت : في الحكم ؟ قال : ذاك الكفر.
11959 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل ، قال ، حدثنا أسباط ،
عن السدي : " أكالون للسحت " ، يقول : للرشى.
11960 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك
بن أبي سليمان ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسروق ، وعلقمة : أنهما سألا ابن مسعود عن
الرشوة ، فقال : هي السحت. قالا في الحكم ؟ قال : ذاك الكفر! تم تلا هذه الآية : (
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (1)
[سورة المائدة : 44].
11961 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن المسعودي ، عن
بكير بن أبي بكير ، عن مسلم بن صبيح قال : شفع مسروق لرجل في حاجة ، فأهدى له
جارية ، فغضب غضبًا شديدًا وقال : لو علمت أنك تفعل هذا ما كلَّمت في حاجتك ، ولا
أكلم فيما بقي من حاجتك ، سمعت ابن مسعود يقول : " من شفع شفاعة ليردّ بها
حقًّا ، أو يرفع بها ظلمًا ، فأهدِيَ له
__________
(1) الأثر : 11960 - " علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي " ، صاحب ابن
مسعود ، وكان أعلم الناس بحديث ابن مسعود. مترجم في التهذيب.
و " مسروق " هو : " مسروق بن الأجدع " ، مضى برقم : 4242 ،
7216 ، وغيرهما. وكان في المخطوطة والمطبوعة : " عن مسروق ، عن علقمة "
، والصواب ما أثبت ، فإن مسروقًا وعلقمة ، من كبار أصحاب عبد الله بن مسعود.
والسياق يدل على صواب ما أثبت.
(10/321)
فقبل ، فهو سحت " ، فقيل له : يا
أبا عبد الرحمن ، ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم! قال : الأخذُ على الحكم
كفر. (1)
11962 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " سماعون للكذب أكالون للسحت " ، وذلك أنهم أخذوا
الرشوة في الحكم ، وقضوا بالكذب.
11963 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبيدة ، عن عمار ، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق قال
: سألت ابن مسعود عن " السحت " ، أهو الرشى في الحكم ؟ فقال : لا من لم
يحكم بما أنزل الله فهو فاسق. ولكن " السحت " ، يستعينك الرجل على
المظلمة فتعينه عليها ، فيهدي لك الهدية فتقبلُها.
11964 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الله بن
هبيرة السَّبائي قال : من السحت ثلاثة : مهرُ البغي ، والرشوة في الحكم ، وما كان
يُعطى الكُهان في الجاهلية. (2)
11965 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن مطيع ، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء الخراساني ،
عن ضمرة ، عن علي بن أبي طالب : أنه قال في كسب الحجام ،
__________
(1) الأثر : 11961 - " بكير بن أبي بكير " ، لم أجد له ذكرًا في كتب
التراجم التي بين يدي. وأخشى أن يكون تحريفًا كالذي يليه.
وأما " مسلم بن صبيح الهمداني " ، فهو : " أبو الضحى " ، وقد
سلفت ترجمته مرارًا ، منها : 5424 ، 7216 ، 8206. ثقة كثير الحديث ، يروي عن مسروق
بن الأجدع. وانظر الأثر التالي : 11963.
وكان في المخطوطة : " هشام بن صبيح " ، وفي المطبوعة : " هاشم بن
صبيح " ، وكلاهما خطأ محض ، والذي في المخطوطة تحريف " مسلم " .
(2) الأثر : 11964 - " يحيى بن سعيد " ، أظنه " يحيى بن سعيد بن
حيان التيمي " ، " أبو حيان " ، روى عنه ابن فضيل. مضى برقم : 5382
، 5383.
و " عبد الله بن هبيرة السبائي " ، ثقة. مضى برقم 1914 ، 5493 ، وكان في
المطبوعة والمخطوطة هنا " عبيد الله بن هبيرة " ، وهو خطأ محض.
(10/322)
ومهر البغيّ ، وثمن الكلب ،
والاستجْعَال في القضية ، (1) وحلوان الكاهن ، (2) وعسب الفحل ، (3) والرشوة في
الحكم ، وثمن الخمر ، وثمن الميتة : من السحت. (4)
11966 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
أكالون للسحت " ، قال : الرشوة في الحكم.
11967 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الموال ،
عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
كُلُّ لحم أنبَته السُّحت فالنار أولى به. قيل : يا رسول الله ، وما السحت ؟ قال :
الرشوة في الحكم. (5)
11968 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الجبار بن عمر ، عن
الحكم بن عبد الله قال : قال لي أنس بن مالك : إذا انقلبت إلى أبيك فقل له : إياك
والرشوة ، فإنها سحت وكان أبوه على شُرَط المدينة. (6)
11969 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سالم ،
__________
(1) " الاستجعال " ، يعني : أخذ الجعل (بضم فسكون) ، وهو الأجر ،
واشتراطه لقضاء الحاجة. ولم يذكر هذا الحرف من الاشتقاق في معاجم اللغة. وإنما
قالوا : " اجتعل " فهو " مجتعل " أي : أخذ جعلا. و "
فلان يجاعل فلانًا " ، أي : يصانعه برشوة.
(2) " الحلوان " : ما يعطاه الكاهن عن كهانته أجرة.
(3) " عسب الفحل " ، مضى تفسيره ص : 320 ، تعليق : 3 ، وفي المطبوعة :
" عسيب الفحل " ، وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة.
(4) الأثر : 11965 - " ضمرة " الذي يروي هنا عن علي بن أبي طالب ، لم
أعرف من يكون. وأخشى أن يكون فيه تحريف.
(5) الأثر : 11967 - " عبد الرحمن بن أبي الموال " ، ويقال : " عبد
الرحمن بن زيد بن أبي الموال " ، ويقال " بن أبي الموالي " ، ثقة.
مترجم في التهذيب.
و " عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب " ، ثقة. مضى توثيقه برقم
: 7819. وهذا خبر مرسل ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 284 ، ونسبه لعبد بن
حميد ، وابن مردويه مرفوعًا من حديث ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(6) الأثر : 11968 - " عبد الحبار بن عمر الأيلي " ، ضعيف الحديث ، ليس
محله الكذب. ووثقه ابن سعد. مضى برقم : 4608 ، 9057.
أما " الحكم بن عبد الله " ، وأبوه " عبد الله " الذي كان على
شرط المدينة ، فلم أعلم من يكونان ؟
(10/323)
عن مسروق ، عن عبد الله قال : الرشوة
سُحت. قال مسروق : فقلنا لعبد الله : أفي الحكم ؟ قال : لا ثم قرأ : ( وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) [سورة المائدة :
44] ، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ ) [سورة المائدة : 45] ، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [سورة المائدة : 47].
* * *
وأصل " السحت " : كَلَبُ الجوع ، يقال منه : " فلان مسحُوت
المَعِدَة " ، إذا كان أكولا لا يُلْفَى أبدًا إلا جائعًا ، وإنما قيل للرشوة
: " السحت " ، تشبيهًا بذلك ، كأن بالمسترشي من الشَّره إلى أخذ ما
يُعطاه من ذلك ، مثل الذي بالمسحوت المعدة من الشَّرَه إلى الطعام. يقالُ منه :
" سحته وأسحته " ، لغتان محكيتان عن العرب ، ومنه قول الفرزدق بن غالب :
وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَع... مِنَ الْمَالِ إلا مُسْحَتًا
أَوْ مُجَلَّفُ (1)
يعني بِ " المسحت " ، الذي قد استأصله هلاكًا بأكله إياه وإفساده ، ومنه
قوله تعالى : ( فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ) [سورة طه : 61]. وتقول العرب للحالق :
" اسحت الشعر " ، أي : استأصله.
* * *
__________
(1) ديوانه : 556 ، والنقائض : 556 ، وطبقات فحول الشعراء : 19 ، والخزانة 2 : 347
، واللسان (سحت) (جلف) ، وسيأتي في التفسير 16 : 135 ، وفي غيرها كثير. والبيت من
قصيدته المشهورة ، وقبل البيت : إِلَيْكَ أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَمَتْ بِنَا ...
هُمُومُ الْمُنَى والْهَوْجَلُ الْمُتَعَسَّفُ
" الهوجل " : البطن الواسع من الأرض. و " المتعسف " : المسلوك
بلا علم ولا دليل ، فهو يسير فيها بالتعسف. ويروى : " أو مجرف " ، وهو
الذي جرفه الدهر ، أي : اجتاح ماله وأفقره. ويروى في " إلا مسحت أو مجلف
" بالرفع فيهما (كما سيأتي في 16 : 135 ، من التفسير). وقد تجرف النحاة هذا
البيت إعرابًا وتأويلا.
(10/324)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ
عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرضْ
عنهم " ، إن جاء هؤلاء القوم الآخرون الذين لم يأتوك بعد وهم قومُ المرأة
البغيّة محتكمين إليك ، فاحكم بينهم إن شئت بالحقِّ الذي جعله الله حُكمًا له فيمن
فعل فِعْل المرأة البغيَّة منهم أو أعرض عنهم فدع الحكم بينهم إن شئت ، والخيار
إليك في ذلك.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
11970 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " أو أعرض عنهم " ، يهودُ ، زنى رجل منهم له نسبٌ
حقير فرجموه ، ثم زنى منهم شريف فحمَّمُوه ، ثم طافوا به ، ثم استفتوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليوافقهم. قال : فأفتاهم فيه بالرجم ، فأنكروه ، فأمرهم أن
يدعوا أحبارهم ورهبانهم ، فناشدهم بالله : أتجدونه في التوراة ؟ فكتموه ، إلا رجلا
من أصغرهم أعْوَرَ ، فقال : كذبوك يا رسول الله ، إنه لفي التوراة!
11971 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث ، عن ابن
شهاب : أنّ الآية التي في " سورة المائدة " ، " فإن جاءوك فاحكم
بينهم " ، كانت في شأن الرجم.
11972 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قال : إنهم أتوه يعني اليهود
(10/325)
في امرأة منهم زنت ، يسألونه عن
عقوبتها ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تجدونه مكتوبًا عندكم في
التوراة ؟ فقالوا : نؤمر برجم الزانية! فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فرجمت ، وقد قال الله تبارك وتعالى : " وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن
حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " .
11973 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد
الله بن كثير قوله : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، قال :
كانوا يحدُّون في الزنا ، إلى أن زنى شاب منهم ذو شرف ، (1) فقال بعضهم لبعض : لا
يدعكم قومه ترجمونه ، ولكن اجلدوه ومثِّلوا به! فجلدوه وحملوه على حمارِ إكافٍ ،
(2) وجعلوا وجهه مستقبِلَ ذنب الحمار إلى أن زنى آخر وضيع ليس له شرف ، فقالوا :
ارجموه! ثم قالوا : فكيف لم ترجموا الذى قبله ؟ ولكن مثل ما صنعتم به فاصنعوا
بهذا! فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : سلوه ، لعلكم تجدون عنده رخصة!
فنزلت : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " إلى قوله : " إنّ
الله يحب المقسطين " .
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في قتيل قُتل في يهودَ منهم ، قتله بعضهم.
ذكر من قال ذلك :
11974 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن
إسحاق قال ، حدثني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن الآيات في "
المائدة " ، قوله : " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، إلى قوله :
" المقسطين " ، إنما نزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة ، وذلك أن
قتلى بني النضير ، وكان لهم شرف ، (3) تؤدِّي الدية كاملة ، وإن قريظة كانوا يؤدون
__________
(1) في المخطوطة : " إلى أن زنى الشاب منهم " ، والذي في المطبوعة أرجح.
(2) " الإكاف " مركب من المراكب ، مثل الرحال والأقتاب.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " كان لهم شرف " ، بغير واو ، فأثبتها من
سيرة ابن هشام.
(10/326)
نصف الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم على الحقّ في ذلك ، فجعل الدية في ذاك سواءً والله أعلم أيُّ ذلك كان. (1)
11975 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن علي بن صالح ، عن سماك
، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير ، وكان النضيرُ أشرفَ من قريظة
، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير ، قُتِل به. وإذا قتل رجلٌ من النضير
رجلا من قريظة ، أدَّى مئة وَسْقَ تمرٍ. (2) فلما بُعِث رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، قَتَل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا! فقالوا : بيننا
وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فنزلت " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط
" . (3)
11976 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : كان في حكم حيي بن
أخطب : للنّضِيريِّ ديتان ، (4) والقرظيّ دية لأنه كان من النضير. قال : وأخبر
الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما في التوراة ، (5) قال : ( وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) [سورة المائدة : 45] ، إلى آخر
الآية. قال : فلما رأت ذلك قريظة ، لم يرضوا بحكم ابن أخطب ، فقالوا : نتحاكم
__________
(1) الأثر : 11974 - سيرة ابن هشام 2 : 215 ، 216 ، وفي سيرة ابن هشام بين أن قوله
" والله أعلم أي ذلك كان " ، من كلام ابن إسحق.
ورواه أحمد في المسند رقم : 3434 ، مختصرًا.
(2) " الوسق " (بفتح الواو وكسرها ، وسكون السين) : هو حمل بعير ، وهو
ستون صاعًا بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) الأثر : 11975 - " عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي " ، مضى
مرارا. انظر رقم : 2092 ، 2219 ، وغيرها إلى : 9456. وكان في المطبوعة والمخطوطة
" عبد الله بن موسى " ، وهو خطأ محض.
و " علي بن صالح بن صالح بن حي الهمداني " ، ثقة. مضى برقم : 178. وانظر
خبرًا بمعنى بعضه فيما سلف رقم : 9896 ، ومسند أحمد رقم : 3212 ، 3434.
(4) في المطبوعة : " للنضري " ، والصواب من المخطوطة.
(5) في المخطوطة : " وأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في التوراة " ،
وما في المطبوعة أصح.
(10/327)
إلى محمد! فقال الله تبارك وتعالى :
" فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، فخيرّه " وكيف يحكمونك
وعندهم التوراة فيها حكم الله " ، الآية كلها. وكان الشريف إذا زنى بالدنيئة
رجموها هي ، وحمَّموا وجهَ الشريف ، وحملوه على البعير ، وجَعلوا وجهه من قِبَل
ذنب البعير. وإذا زنى الدنيء بالشريفة رجموه ، وفعلوا بها هي ذلك. فتحاكموا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فرجمها. قال : وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم :
من أعلمكم بالتوراة ؟ قالوا : فلان الأعور! فأرسل إليه فأتاه ، فقال : أنت أعلمهم
بالتوراة ؟ قال : كذاك تزعم يهودُ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك
بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طُور سَيْنَاء ، ما تجد في التوراة في
الزانيين ؟ فقال : يا أبا القاسم ، يرجمون الدنيئة ، ويحملون الشريف على بعير ،
ويحمِّمون وجهه ، ويجعلون وجهه من قبل ذنَبِ البعير ، ويرجمون الدنيء إذا زنى
بالشريفة ، ويفعلون بها هي ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أنشدك
بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طُور سَيْناء ، ما تجد في التوراة ؟
فجعل يروغ ، والنبي صلى الله عليه وسلم يَنْشُده بالله وبالتوراة التي أنزلها على
موسى يوم طور سيناء ، حتى قال : يا أبا القاسم ، " الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما البتة " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهو ذاك ، اذهبوا
بهما فارجموهما. قال عبد الله : (1) فكنت فيمن رجمهما فما زال يُجْنِئُ عليها ،
(2) ويقيها الحجارة بنفسه حتّى مات. (3)
* * *
__________
(1) كأنه يعني " عبد الله بن عمر " ، وإن لم يذكر في الخبر ، كما سيأتي
في التخريج.
(2) " جنأ عليه " و " أجنأ عليه " و " جانأ عليه "
و " تجانأ عليه " : أكب عليها ومال ليقيها. وهي في المطبوعة " يجني
عليها " ، وهي صواب أيضًا ، والمخطوطة غير منقوطة. " جنا عليه يجني
" انثنى ، وحنى ظهره. وجاء الحديث باللفظين.
(3) الأثر : 11976 - خبر عبد الله بن عمر في رجم اليهودي اليهودية ، رواه مسلم في
صحيحه 11 : 208 ، 209 والبخاري ، في صحيحه (الفتح 12 : 148 - 152) وشرحه الحافظ
شرحًا وافيًا ، وفي سنن أبي داود 4 : 214 ، رقم : 4446.
(10/328)
ثم اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية
، هل هو ثابت اليوم ؟ وهل للحكام من الخيار في الحكم والنظر بين أهل الذمّة والعهد
إذا احتكموا إليهم ، مثلُ الذي جعَل لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ، أم
ذلك منسوخ ؟
فقال بعضهم : ذلك ثابتٌ اليوم ، لم ينسخه شيء ، وللحكام من الخيار في كلّ دهر بهذه
الآية ، مثلُ ما جعَله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك :
11977 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن
مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي : إنْ رفع إليك أحد من المشركين في قَضَاءٍ ، فإن شئت
فاحكم بينهم بما أنزل الله ، وإن شئت أعرضت عنهم. (1)
11978 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي وإبراهيم قالا
إذا أتاك المشركون فحكَّموك ، فاحكم بينهم أو أعرض عنهم. وإن حكمت فاحكم بحكم
المسلمين ، ولا تعدُهُ إلى غيره.
11979 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي وحدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع عن سفيان ،
عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم
" ، قال : إن شاء حكم ، وإن شاء لم يحكم.
11980 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن
عطاء قال : إن شاء حكم ، وإن شاء لم يحكم.
11981 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن محمد بن سالم ، عن الشعبي قال : إذا
أتاك أهل الكتاب بينهم أمر ، فاحكم بينهم بحكم المسلمين ، أو خَلِّ عنهم وأهلَ
دينهم يحكمون فيهم ، إلا في سرقة أو قتل.
11982 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق عن ابن
__________
(1) في المطبوعة : " أعرض عنهم " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/329)
جريج قال ، قال لي عطاء ، نحن مخيَّرون
، إن شئنا حكمنا بين أهل الكتاب ، وإن شئنا أعرضنا فلم نحكم بينهم. وإن حكمنا
بينهم حكمنا بحكمنا بيننا ، أو نتركهم وحكمهم بينهم قال ابن جريج : وقال مثل ذلك
عمرو بن شعيب. وذلك قوله : " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " .
11983 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة وحدثني المثنى قال ،
حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن مغيرة عن إبراهيم والشعبي في قوله :
" فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، قالا إذا جاءوا إلى حاكم
المسلمين ، فإن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم. وإن حكم بينهم ، حكم بينهم بما
في كتاب الله.
11984 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
قوله : " فإن جاءوك فاحكم بينهم " ، يقول : إن جاءوك فاحكم بينهم بما
أنزل الله ، أو أعرض عنهم. فجعل الله له في ذلك رُخْصة ، إن شاء حكم بينهم ، وإن
شاء أعرض عنهم.
11985 - حدثنا هناد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي قالا إذا
أتاك المشركون فحكَّموك فيما بينهم ، فاحكم بينهم بحكم المسلمين ولا تعدُه إلى
غيره ، أو أعرض عنهم وخلِّهم وأهلَ دينهم.
* * *
وقال آخرون : بل التخيير منسوخٌ ، وعلى الحاكم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكُم
بينهم بالحق ، وليس له ترك النظر بينهم.
ذكر من قال ذلك :
11986 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن
يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم
" ، نسخت بقوله : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ). [سورة
المائدة : 49].
(10/330)
11987 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبي ، عن سفيان ، عن السدي قال : سمعت عكرمة يقول : نسختها( وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ).
11988 - حدثنا ابن وكيع ومحمد بن بشار قالا حدثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن السدي
قال : سمعت عكرمة يقول : نسختها : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ
اللَّهُ ).
11989 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم
، عن مجاهد : لم ينسخ من " المائدة " إلا هاتان الآيتان : " فإن
جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، نسختها : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) [سورة المائدة : 49] ، وقوله
: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا
الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ ) [سورة المائدة : 2] ،
نسختها : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) [سورة التوبة : 5].
(1)
11990 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن
الحكم ، عن مجاهد قال : نسختها : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ
اللَّهُ ).
11991 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج بن منهال قال ، حدثنا همام ، عن قتادة قوله
: " فان جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، يعني اليهود ، فأمر الله
نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم ، ورخَّص له أن يُعْرض عنهم إن شاء ، ثم
أنزل الله تعالى ذكره الآية التي بعدها : ( وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ) إلى
قوله : ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
) [سورة المائدة : 48]. فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل
الله بعد ما رخَّص له ، إن شاء ، أن يُعْرض عنهم.
__________
(1) الأثر : 11989 - انظر الأثر التالي رقم : 11996 ، والتعليق عليه.
(10/331)
11992 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ،
أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزريّ : أن عمر بن عبد
العزيز كتب إلى عديّ بن عديّ : " إذا جاءك أهل الكتاب فاحكم بينهم " .
11993 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن
السدي ، عن عكرمة قال : نسخت بقوله : ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ
) [سورة المائدة : 48].
11994 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن
الزهري قوله : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، قال : مضت
السنة أن يُرَدُّوا قي حقوقهم ومواريثهم إلى أهلِ دينهم ، إلا أن يأتوا راغبين في
حدٍّ ، يحكم بينهم فيه بكتاب الله.
11995 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : لما نزلت : " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، كان النبي صلى
الله عليه وسلم : إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم ، ثم نسخها فقال : (
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) ، وكان
مجبورًا على أن يحكم بينهم.
11996 - حدثنا محمد بن عمار قال ، حدثنا سعيد بن سليمان قال ، حدثنا عباد بن
العوّام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد قال : آيتان نسختا من هذه
السورة يعني " المائدة " ، آية القلائد ، وقوله : " فاحكم بينهم أو
أعرض عنهم " ، فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم مخَّيرًا ، إن شاء حكم ، وإن
شاء أعرض عنهم ، فردّهم إلى احتكامهم ، (1) أن يحكم بينهم بما في كتابنا. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فردهم إلى أن يحكم بينهم " ، حذف ما كان في
المخطوطة : " فردهم إلى أحكامهم أن يحكم بينهم " ، وصواب قراءته ما
أثبت.
(2) الأثر : 11996 - " سعيد بن سليمان الضبي " ، هو " سعدويه
" ، ثقة مأمون من شيوخ البخاري ، مضى برقم : 611 ، 2168.
و " عباد بن العوام الواسطي " ، ثقة ، من شيوخ أحمد ، مضى برقم : 2853 ،
5433.
و " سفيان بن حسين الواسطي " ، ثقة ، تكلموا في روايته عن الزهري. مضى
برقم : 3471 ، 6462 ، 10723.
و " الحكم " ، هو " الحكم بن عتيبة " ، تابعي ثقة فقيه مشهور
، مضى مرارًا كثيرة.
وهذا الخبر رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ ، من طريق سعيد بن سليمان
بمثله ، مرفوعًا إلى ابن عباس ، ثم قال : " وهذا إسناد مستقيم ، وأهل الحديث
يدخلونه في المسند " .
(10/332)
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك
عندي بالصواب ، قول من قال : إن حكم هذه الآية ثابتٌ لم ينسخ ، وأن للحكَّام من
الخِيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا ، وتركِ الحكم بينهم
والنظر ، مثلُ الذي جعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك في هذه الآية.
وإنما قلنا ذلك أولاهما بالصواب ، لأن القائلين إن حكم هذه الآية منسوخ ، زَعموا
أنه نسخ بقوله : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ) [سورة
المائدة : 49] وقد دللنا في كتابنا : " كتاب البيان عن أصول الأحكام " :
أن النسخ لا يكون نسخًا ، إلا ما كان نفيًا لحكمٍ غَيْرِه بكلِّ معانيه ، حتى لا
يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعًا على صِحّته بوجه من الوجوه بما أغنى عن إعادته
في هذا الموضع. (1)
وإذْ كان ذلك كذلك وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال : " وأن احكم بينهم بما
أنزل الله " ، ومعناه : وأن أحكم بينهم بما أنزل الله إذا حكمت بينهم ، باختيارك
الحكم بينهم ، إذا اخترت ذلك ، ولم تختر الإعراض عنهم ، إذ كان قد تقدَّم إعلام
المقول له ذلك من قائِله : إنّ له الخيار في الحكم وترك الحكم (2) كان معلومًا
بذلك أن لا دلالة في قوله : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " ، أنه
ناسخٌ قوله : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك
شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " ، لما وصفنا من احتمال ذلك ما بَيَّنَّا
، بل هو
__________
(1) انظر قوله في " النسخ " فيما سلف 8 : 12 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك.
(2) السياق : و " إذ كان ذلك كذلك ، وكان غير مستحيل... كان معلوما " .
(10/333)
دليل على مثل الذي دلَّ عليه قوله :
" وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " .
وإذْ لم يكن في ظاهر التنزيل دليلٌ على نسخ إحدى الآيتين الأخرى ، ولا نفي أحد
الأمرين حكم الآخر ولم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبٌر يصحُّ بأن أحدهما
ناسخ صاحبَه ولا من المسلمين على ذلك إجماعٌ (1) صحَّ ما قلنا من أن كلا الأمرين
يؤيِّد أحدهما صاحبه ، ويوافق حكمُه حكمَه ، ولا نسخ في أحدهما للآخر.
* * *
وأما قوله : " وإن تُعْرِض عنهم فلن يضروك شيئًا " ، فإن معناه : وإن
تعرض يا محمد ، عن المحتكمين إليك من أهل الكتاب ، فتدَع النظر بينهم فيما احتكموا
فيه إليك ، فلا تحكم فيه بينهم (2) " فلن يضروك شيئًا " ، يقول : فلن
يقدِرُوا لك على ضُرَّ في دين ولا دنيا ، فدع النظر بينهم إذا اخترت ترك النظر
بينهم. (3)
* * *
وأما قوله : " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " ، فإن معناه : وإن اخترت
الحكم والنَظَر ، يا محمد ، بين أهل العهدِ إذا أتوك " فاحكم بينهم بالقسط
" ، وهو العدل ، (4) وذلك هو الحكم بما جعله الله حكمًا في مثله على جميع
خلقِه من أمة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
11997 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ،
__________
(1) السياق : " وإذ لم يكن في ظاهر التنزيل دليل... صح ما قلنا " ، وما
بينهما عطف على صدر الكلام.
(2) انظر تفسير " الإعراض " . فيما سلف 9 : 310 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " الضر " فيما سلف 7 : 157.
(4) انظر تفسير " القسط " فيما سلف ص : 95 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(10/334)
عن إبراهيم والشعبي : " وإن حكمت
فاحكم بينهم بالقسط " ، قالا إن حكم بينهم ، حكم بما في كتاب الله.
11998 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوَّام بن حوشب ، عن
إبراهيم : " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " ، قال : أمر أن يحكم فيهم
بالرجم.
11999 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن العوّام ،
عن إبراهيم التيمي في قوله : " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " ، قال :
بالرجم.
21000 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " بالقسط " بالعدل.
12001 - حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم ، عن العوام بن حوشب ، عن إبراهيم التيمي في
قوله : " فاحكم بينهم بالقسط " ، قال : أمر أن يحكم بينهم بالرجم.
* * *
وأما قوله : " إن الله يحب المقسطين " ، فمعناه : إن الله يحب العادلين
في حكمهم بين الناس ، (1) القاضين بينهم بحكم الله الذي أنزله في كتابه وأمْرِه
أنبياءَه صلوات الله عليهم. (2)
* * *
يقال منه : " أقسط الحاكم في حكمه " ، (3) إذا عدل وقضى بالحق ، "
يُقْسِط
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " العاملين في حكمه بين الناس " ، وهو كلام
فارغ المعنى. وصواب قراءته ما أثبت ، إنما حرفه الناسخ بلا ريب.
(2) في المطبوعة : " وأمر أنبياءه " ، وهو اختلال في السياق ، صوابه من
المخطوطة ، وصواب ضبطه ما رسمت ، " وأمره " مصدر معطوف على قوله :
" في كتابه " .
(3) انظر تفسير " أقسط " و " قسط " فيما سلف 6 : 77 ، 270/7 :
541/9 : 301/10 : 95 ، 325
(10/335)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
إقساطًا " وأما " قسط "
، فمعناه : الجور ، (1) ومنه قول الله تعالى ذكره : ( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ
فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) [سورة الجن : 15] ، يعني بذلك : الجائرين عن
الحق.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ
فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ (43) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : وكيف يحكمك هؤلاء اليهود ، يا محمد ، بينهم ،
فيرضون بك حكمًا بينهم " وعندهم التوراة " التي أنزلتها على موسى ، التي
يقرُّون بها أنها حق ، وأنها كتابي الذي أنزلته إلى نبيي ، (2) وأن ما فيه من حكم
فمن حكمي ، يعلمون ذلك لا يتناكرونه ، ولا يتدافعونه ، ويعلمون أن حكمي فيها على
الزاني المحصن الرجم ، وهم مع عملهم بذلك " يتولون " ، يقول : يتركون
الحكم به ، بعد العلم بحكمي فيه ، جراءة عليّ وعصيانًا لي. (3)
وهذا ، وإن كان من الله تعالى ذكره خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فإنه تقريعٌ
منه لليهود الذين نزلت فيهم هذه الآية. يقول لهم تعالى ذكره : كيف تقرّون ، أيها
اليهود ، بحكم نبيّي محمد صلى الله عليه وسلم ، مع جحودكم نبوته وتكذيبكم إياه ،
وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون به أنه حق عليكم واجبٌ ، جاءكم به موسى من عند الله
؟ يقول : فإذْ كنتم تتركون حكمي الذي جاءكم به موسى الذي تقرّون
__________
(1) قوله : " وأما " قسط " ، فمعناه " الجور " ، هذه
الجملة ليست في المخطوطة ، ولكن لا غنى عنها ، فلذلك رجحت إثباتها كما هي في
المطبوعة. وفي المطبوعة " وإقساطا به " ، بزيادة " به " ، ولا
معنى لها ، وليست في المخطوطة.
(2) في المطبوعة : على " نبيي " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر تفسير " تولى " فيما سلف 9 : 18 ، تعليق 1 ، والمراجع هناك.
(10/336)
بنبوّته في كتابي ، فأنتم بترك حكمي
الذي يخبركم به نبيِّي محمد أنه حكمي - أحْرَى ، مع جحودكم نبوَّته.
* * *
ثم قال تعالى ذكره مخبرًا عن حال هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية عنده
، وحال نظرائهم من الجائرين عن حكمه ، الزائلين عن محجّة الحق " وما أولئك
بالمؤمنين " ، يقول : ليس من فعل هذا الفعل - أي : من تولّى عن حكم الله ،
الذي حكم به في كتابه الذي أنزله على نبيه ، في خلقه (1) بالذي صدَّق الله ورسوله
فأقرّ بتوحيده ونبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم ، لأن ذلك ليس من فِعل أهل الإيمان.
* * *
وأصل " التولى عن الشيء " ، الانصرافُ عنه ، كما : -
12002 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد
الله بن كثير : " ثم يتولون من بعد ذلك " ، قال : " توليهم "
، ما تركوا من كتاب الله.
12003 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها
حكم الله " ، يعني : حدود الله ، فأخبر الله بحكمه في التوراة.
12004 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" وعندهم التوراة فيها حكم الله " ، أي : بيان الله ما تشاجروا فيه من
شأن قتيلهم " ثم يتولون من بعد ذلك " ، الآية.
12005 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال ، قال يعني الرب تعالى ذكره يعيِّرهم : " وكيف يحكمونك وعندهم
التوراة فيها حكم الله " ، يقول : الرجم.
* * *
__________
(1) السياق : " ... الذي حكم به في كتابه... في خلقه " .
(10/337)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إنا أنزلنا التوراة فيها بيانُ ما سألك هؤلاء
اليهود عنه من حكم الزانيين المحصنين (1)
" ونور " ، يقول : فيها جلاء ما أظلم عليهم ، وضياءُ ما التبس من الحكم
(2) " يحكم " بها النبيون الذين أسلموا " ، يقول : يحكم بحكم
التوراة في ذلك ، أي : فيما احتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه من أمر
الزانيين " النبيون الذين أسلموا " ، وهم الذين أذعنوا لحكم الله
وأقرُّوا به. (3)
* * *
وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك نبيّنا محمدا صلى الله عليه وسلم ، في حكمه على
الزانيين المحصنين من اليهود بالرجم ، وفي تسويته بين دم قتلى النّضير وقريظة في
القِصاص والدِّية ، ومَنْ قبل محمد من الأنبياء يحكم بما فيها من حكم الله ، كما :
-
12006 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا
" ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
12007 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
قال : ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية :
نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان.
12008 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
الزهري ، قال ، حدثنا رجل من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب ،
__________
(1) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " نور " فيما سلف 5 : 424/9 : 428/10 : 145
(3) انظر تفسير " الإسلام " فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/338)
عن أبي هريرة قال : زنى رجل من اليهود
وامرأة ، (1) فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي ، فإنه نبي بُعِث بتخفيف
، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا : "
فُتْيَا نبي من أنبيائك " !! قال : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس
في المسجد في أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا
؟ فلم يكلمهم كلمة ، حتى أتى بيت مِدْراسهم ، (2) فقام على الباب فقال : أنشدُكم
بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟
قالوا : يحمّم ويجبَّه ويجلد " والتجبيه " ، أن يحمل الزانيان على حمار
، تُقَابل أقفيتهما ، ويطاف بهما وسكت شابٌّ [منهم] ، (3) فلما رآه سكت ، ألظَّ به
النِّشْدَةَ ، (4) فقال : اللهم إذ نشدتَنا ، فإنا نجد في التوراة الرجْمَ! فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : فما أوّل ما ارْتَخَصْتم أمر الله ؟ (5) قال : زنى رجل
ذو قرابة من ملك من ملوكنا ، فأخَّر عنه الرجم. (6) ثم زنى رجل في أسْوة من الناس
، (7) فأراد رَجْمَه ، فحال قومه دونه وقالوا : لا ترجمْ صاحبنا حتى تجيء بصاحبك
فترجمه! فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإني أحكم
بما في التوراة! فأمر بهما فرجما قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم :
" إنا أنزلنا التوراة فيها هدًى ونورٌ يحكم بها النبيون الذين أسلموا "
، فكان النبيُّ منهم. (8)
12009 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
عكرمة قوله : " يحكم بها النبيون الذين أسلموا " ، النبي صلى الله عليه
وسلم ومَنْ قبله من الأنبياء ، يحكمون بما فيها من الحق.
__________
(1) في المطبوعة : " بامرأة " ، وأثبت ما كان هنا في المخطوطة ، وهو
مطابق لما في تفسير عبد الرزاق. انظر التخريج.
(2) في المطبوعة " بيت المدراس " ، وفي المخطوطة : " بيت مدراس
" ، وفوق " مدراس " حرف " ط " ، دلالة على الخطأ ، وما
أثبته هو الصواب ، من تفسير عبد الرزاق. وقد مضى تفسير " بيت المدراس "
فيما سلف ص : 303 ، تعليق : 1.
(3) ما بين القوسين زيادة من تفسير عبد الرزاق.
(4) " ألظ به " ، ألح عليه ، وقد مضى تفسيرها في ص : 304 : تعليق : 2. و
" النشدة " : الاستحلاف بالله. يقال : " نشدتك الله نشدة ونشدة
" (بفتح النون وكسرها) و " نشدانًا " (بكسر النون) : استحلفتك
بالله.
وفيما نقله أخي السيد أحمد من تفسير عبد الرزاق (المخطوط) : " النشيد " ؛
وقال أخي : " في أبي داود : النشدة " ، وفي رواية أبي جعفر عن عبد
الرزاق ، اختلاف آخر عنه. و " النشيد " : رفع الصوت ، هكذا قالوا. وعندي
أنه مصدر " نشدتك الله " ، يزاد على مصادره.
(5) في المطبوعة : " ما ارتخص أمر الله " ، وفي المخطوطة : ما يحصص
" [محذوفة النقط] ، وهو خطأ لاشك فيه ، وأثبت ما في تفسير عبد الرزاق.
(6) قوله : " فأخر عنه الرجم " ؛ أي : أسقط عنه الحد ، كأنه أبعده عنه
وصرفه أن يلحقه. وفي الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر : " أخر
عني يا عمر " ، قالوا في معناه : " معناه : أخر عني رأيك أو نفسك ،
فاختصر إيجازا وبلاغة " . فقصروا في شرحه ، وإنما أراد معنى صرفه وإبعاده.
وهو في هذا الخبر بالمعنى الذي فسرته. وهو مما يزاد على كتب اللغة ، أو على بيانها
على الأصح.
(7) في المطبوعة : " في أسرة من الناس " ، وهي بمثل ذلك في مخطوطة تفسير
عبد الرزاق ، ثم هي كذلك في سنن أبي داود وغيره. وفسروها فقالوا " الأسرة :
عشيرة الرجل وأهل بيته ، لأنه يتقوى بهم " .
بيد أني أثبت ما هو واضح في المخطوطة : " في أسوة " بالواو ، والواو
هناك واضحة جدا ، كبيرة الرأس ، وما أظن الناسخ وضعها كذلك من عند نفسه ، بل أرجح
أنه وجد " الواو " ظاهرة في نسخة التفسير العتيقة التي نقل عنها ،
فأثبتها واضحة لذلك. فلو صح ما في المخطوطة ، فهو عندي أرجح من رواية " في
أسرة " . وبيانها أنهم يقولون : " القوم أسوة في هذا الأمر " ، أي
: حالهم فيه واحدة. فأراد بقوله : " في أسوة من الناس " ، أي : حاله حال
سائر الناس ، ليس من أشرافهم ، أو من أهل بيت المملكة منهم ، فهو يعامل كما يعامل
سائر العامة. وقد جاء في أخبار رجم اليهوديين : " كنا إذا أخذنا الشريف
تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد " (انظر ما سلف رقم : 11922).
فهو يعني بقوله : " في أسوة من الناس " ، أنه من ضعفائهم وعامتهم. وهذا
أرجح عندي من " في أسرة من الناس " ، فإنه يوشك أن يكون " في أسرة
من الناس " ، مما يوحي بأن له عشيرة يحمونه ويدفعون عنه ويتقوى بهم ، وهو
خلاف ما يدل عليه سياق هذا الخبر.
ولولا أني لا أجد في يدي البرهان القاطع ، لقلت إن الذي في المخطوطة هو الصواب.
وذلك أني أذكر أني قرأت مثل هذا التعبير في غير هذا الموضع ، وجهدت أن أجده ، فلم
أظفر بطائل. فإذا وجدته في مكان آخر أثبته إن شاء الله ، وكان حجة في المعنى الذي
فسرته ، وفوق كل ذي علم عليم.
(8) الأثر : 12008 - انظر تخريج هذا الخبر فيما سلف في التعليق على الأثرين ، رقم
: 11923 ، 11924.
وقد نقله أخي السيد أحمد في مسند أحمد في التعليق على الخبر رقم : 7747 ، من
مخطوطة تفسير عبد الرزاق ، ولم يشر إلى موضعه هنا من تفسير الطبري. وقد بينت
الاختلاف بين الروايتين فيما سلف من التعليقات.
(10/339)
12010 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عمرو
بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : " يحكم بها النبيون
الذين أسلموا " ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم " للذين هادوا " ،
يعني اليهود ، (1) فاحكم بينهم ولا تخشهم.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويحكم بالتوراة وأحكامها التي أنزل الله فيها في
كل زمان - على ما أمر بالحكم به فيها - مع النبيين الذين أسلموا " الربانيون
والأحبار " .
* * *
و " الربانيون " جمع " رَبَّانيّ " ، وهم العُلماء الحكماء
البُصراء بسياسة الناس ، وتدبير أمورهم ، والقيام بمصالحهم و " الأحبار
" ، هم العلماء.
* * *
وقد بينا معنى " الربانيين " فيما مضى بشواهده ، وأقوالَ أهل التأويل
فيه. (2)
* * *
وأما " الأحبار " ، فإنهم جمع " حَبْر " ، وهو العالم المحكم
للشيء ، ومنه قيل لكعْب : " كعب الأحبار " .
وكان الفراء يقول : أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد " الأحبار " ،
" حِبْر " بكسر " الحاء " . (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " هاد " فيما سلف ص : 309 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الربانيون " فيما سلف 6 : 540 ، 544 ، وفيه بيان لا
يستغني عن معرفته بصير باللغة.
(3) انظر تفسير " الأحبار " فيما سلف 6 : 541 ، 542 (الأثر : 7312) ، ثم
ص : 544.
(10/341)
وكان بعض أهل التأويل يقول : عُنِي بـ
" الربانيين والأحبار " في هذا الموضع : ابنا صوريا اللذان أقرَّا لرسول
الله صلى الله عليه وسلم بحكم الله تعالى ذكره في التوراة على الزانيين المحصنين.
ذكر من قال ذلك :
12011 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : كان رجلان من اليهود أخوان ، يقال لهما ابنا صُوريا ، وقد اتبعا
النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يسلما ، وأعطياه عهدًا أن لا يسألهما عن شيء في
التوراة إلا أخبراه به. وكان أحدُهما رِبِّيًّا ، والآخر حَبْرًا. وإنما اتَّبعا
النبى صلى الله عليه وسلم يتعلمان منه. فدعاهما ، فسألهما ، فأخبراه الأمر كيف كان
حين زَنَى الشريف وزنى المسكين ، وكيف غيَّروه ، فأنزل الله : " إنا أنزلنا
التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا " ، يعني
النبي صلى الله عليه وسلم " والربانيون والأحبار " ، هما ابنا صوريا ،
للذين هادوا. ثم ذكر ابني صوريا فقال : " والربانيون والأحبار بما
استُحْفِظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر
أنّ التوراة يحكم بها مسلمو الأنبياء لليهود ، والربانيون من خلقه والأحبار. وقد
يجوز أن يكون عُني بذلك ابنا صوريا وغيرهما ، غير أنه قد دخل في ظاهر التتزيل
مسلمو الأنبياء وكل رَبَّاني وحبر. ولا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه معنيٌّ به
خاص من الربانيين والأحبار ، ولا قامت بذلك حجة يجب التسليم لها. فكل رباني وحبر
داخلٌ في الآية بظاهر التنزيل.
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل " الأحبار " ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
(10/342)
12012 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ،
حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك : " الربانيون " و " الأحبار
" ، قُرّاؤهم وفقهاؤهم.
12013 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص ، عن أشعث ، عن الحسن : " الربانيون
والأحبار " ، الفقهاء والعلماء.
12014 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد :
" الربانيون " ، العلماء الفقهاء ، وهم فوق " الأحبار " . (1)
12015 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
الربانيون " ، فقهاء اليهود " والأحبار " ، علماؤهم.
12016 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا سنيد بن داود قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ،
عن عكرمة : " والربانيون والأحبار " ، كلهم يحكم بما فيها من الحق.
12017 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد " الربانيون
" ، الولاة ، " والأحبار " ، العلماء.
* * *
وأما قوله : " بما استحفظوا من كتاب الله " ، فإن معناه : يحكم النبيون
الذين أسلموا بحكم التوراة ، والربانيون والأحبار يعني العلماء بما استُودعوا علمه
من كتاب الله الذي هو التوراة.
* * *
و " الباء " في قوله : " بما استحفظوا " ، من صلة "
الأحبار " .
* * *
وأما قوله : " وكانوا عليه شهداء " ، فإنه يعني : أن الربانيين والأحبار
بما استودعوا من كتاب الله ، يحكمون بالتوراة مع النبيين الذين أسلموا للذين هادوا
، وكانوا على حكم النبيين الذين أسلموا للذين هادوا شهداء أنهم قضوا عليهم بكتاب
الله الذي أنزله على نبيه موسى وقضائه عليهم ، (2) كما : -
__________
(1) الأثر : 12014 - انظر قوله مجاهد بإسناد آخر رقم : 7312.
(2) انظر تفسير " الشهداء " فيما سلف من فهارس اللغة (شهد).
(10/343)
12018 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني
أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وكانوا
عليه شهداء " ، يعني الربانيين والأحبار ، هم الشهداء لمحمد صلى الله عليه
وسلم بما قال ، أنه حق جاء من عند الله ، فهو نبي الله محمد ، أتته اليهود. فقضى
بينهم بالحق.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا
تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لعلماء اليهود وأحبارهم : لا تخشوا الناس في تنفيذ
حكمي الذي حكمت به على عبادي ، وإمضائه عليهم على ما أمرت ، فإنهم لا يقدرون لكم
على ضر ولا نفع إلا بإذني ، ولا تكتموا الرجمَ الذي جعلته حُكمًا في التوراة على
الزانيين المحصنين ، ولكن اخشوني دون كل أحدٍ من خلقي ، فإن النفع والضر بيدي ،
وخافوا عقابي في كتمانكم ما استُحفِظتم من كتابي. (1) كما : -
12019 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فلا تخشوا الناس واخشون " ، يقول : لا تخشوا الناس فتكتموا ما
أنزلت.
* * *
وأما قوله : " ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا " يقول : ولا تأخذوا بترك
الحكم بآيات كتابي الذي أنزلته على موسى ، أيها الأحبار ، عوضًا خسِيسًا وذلك هو
" الثمن القليل " . (2)
__________
(1) انظر تفسير " الخشية " فيما سلف 9 : 517 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " الاشتراء " فيما سلف 8 : 542 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك وتفسير " الثمن القليل " فيما سلف 7 : 500 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(10/344)
وإنما أراد تعالى ذكره ، نهيَهم عن أكل
السحت على تحريفهم كتاب الله ، وتغييرهم حكمه عما حكم به في الزانيين المحصنين ،
وغير ذلك من الأحكام التي بدَّلوها طلبًا منهم للرشَى ، كما : -
12020 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا
تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا " ، قال : لا تأكلوا السحت على كتابي وقال مرة
أخرى ، قال قال ابن زيد في قوله : " ولا تشتروا بآياتي ثمنًا " قال : لا
تأخذوا به رشوة. (1)
12021 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا " ، ولا تأخذوا طَمَعًا قليلا
على أن تكتموا ما أنزلت. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون (44) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن كتم حُكم الله الذي أنزله في كتابه وجعله
حكمًا يين عباده ، فأخفاه وحكم بغيره ، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه
والتحميم ، وكتمانهم الرجم ، (3) وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف
الدية ، وفي الأشراف بالقِصاص ، وفي الأدنياء بالدية ، وقد سوَّى الله بين جميعهم
في الحكم عليهم في التوراة " فأولئك هم الكافرون " ، يقول :
__________
(1) في المخطوطة : " في قوله : لا تشتر ثمنًا ، قال : لا تأخذ به رشوة "
، وتركت ما في المطبوعة على حاله.
(2) في المطبوعة : " طعمًا قليلا " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو
الموافق لما في الآثار السالفة. انظر ما سلف الآثار رقم : 821 ، 2498 ، 8333.
(3) " التجبيه " ، و " التحميم " ، مضى تفسيره في الآثار
والتعليقات السالفة.
(10/345)
هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله
في كتابه ، ولكن بدَّلوا وغيروا حكمه ، وكتموا الحقَّ الذي أنزله في كتابه "
هم الكافرون " ، يقول : هم الذين سَتَروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينُه
، وغطَّوه عن الناس ، وأظهروا لهم غيره ، وقضوا به ، لسحتٍ أخذوه منهم عليه. (1)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل " الكفر " في هذا الموضع.
فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك ، من أنه عنى به اليهود الذين حَرَّفوا كتاب الله
وبدَّلوا حكمه.
ذكر من قال ذلك :
12022 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة
، عن البراء بن عازب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " ومن لم يحكم
بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [سورة المائدة : 45] ، ( وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [سورة المائدة :
47] ، في الكافرين كلها. (2)
12023 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد بن القاسم قال ، حدثنا
أبو حيان ، عن أبي صالح قال : الثلاث الآيات التي في " المائدة " ،
" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ( فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ ) ، ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ، ليس في أهل الإسلام منها
شيءٌ ، هي في الكفار. (3)
__________
(1) انظر تفسير " الكافر " فيما سلف من فهارس اللغة (كفر).
(2) الأثر : 12022 - مضى تخريج هذا الأثر ، مطولا فيما سلف رقم : 11922 ، وتتمته
برقم : 11939 ، ورواه أبو جعفر هناك مختصرًا ، وهذا تمامه هنا.
(3) الأثر : 12023 - " أبو حيان " هو : " يحيى بن سعيد بن حيان
التيمي " ، سلف برقم : 5382 ، 5383 ، 6318 ، 8155. وكان في المخطوطة هنا :
" أبو حباب " ، وفي الأثر التالي ، أيضا وكأن الراجح هو ما أثبت في
المطبوعة. وانظر التعليق على الأثر التالي.
(10/346)
12024 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبي ، عن أبي حيان ، عن الضحاك : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون " ، و " الظالمون " و " الفاسقون " ، قال :
نزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب. (1)
12025 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، سمعت عمران
بن حدير قال ، أتى أبا مجلز ناسٌ من بني عمرو بن سدوس ، فقالوا : يا أبا مجلز ،
أرأيت قول الله : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ،
أحق هو ؟ قال : نعم! قالوا : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ، أحق هو ؟ قال : نعم! قالوا : ( وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ، أحق هو ؟ قال :
نعم! قال فقالوا : يا أبا مجلز ، فيحكم هؤلاء بما أنزل الله ؟ قال : هو دينهم الذي
يدينون به ، وبه يقولون ، وإليه يدْعون ، فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد
أصابوا ذنبًا! فقالوا : لا والله ، ولكنك تَفْرَقُ! (2) قال : أنتم أولى بهذا مني!
لا أرى ، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرَّجُون ، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى
وأهل الشرك أو نحوًا من هذا.
12026 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد ، عن عمران بن حدير قال :
قعد إلى أبي مجلز نفرٌ من الإبَاضيَّة ، قال فقالوا له : يقول الله : " ومن
لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ، " فأولئك هم الظالمون
" ، " فأولئك هم الفاسقون " ! قال أبو مجلز : إنهم يعملون بما
يعلمون يعني الأمراء ويعلمون أنه ذنب! (3) قال : وإنما أنزلت هذه الآية في اليهود!
والنصارى قالوا :
__________
(1) الأثر : 12024 - " أبو حبان " ، " يحيى بن سعيد بن حيان التيمي
" ، انظر التعليق على الأثر السالف ، و " أبو حيان التيمي " ، يروي
عن الضحاك. وكان في المطبوعة هنا أيضا " أبي حباب " . وانظر التعليق على
الأثر السالف.
(2) في المطبوعة : " ولكنك تعرف " ، وهو خطأ صرف ، صوابه في المخطوطة.
" فرق يفرق فرقًا " : فرغ وجزع.
(3) في المطبوعة : " إنهم يعملون ما يعملون " ، وفي المخطوطة : "
إنه يعملون بما يعملون " ، وصواب القراءة ما أثبت.
(10/347)
أما والله إنك لتعلم مثل ما نعلم ،
ولكنك تخشاهم! قال : أنتم أحق بذلك منّا! أمّا نحن فلا نعرف ما تعرفون! [قالوا] :
(1) ولكنكم تعرفونه ، ولكن يمنعكم أن تمضوا أمركم من خشيتهم! (2)
12027 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان وحدثنا ابن وكيع
قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي البختري ، عن حذيفة في
قوله : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ، قال : نعم
الإخوة لكم بنو إسرائيل ، إن كانت لكم كل حُلْوة ، ولهم كل مُرَّة!! ولتسلُكُنَّ
طريقَهم قِدَى الشِّراك. (3)
__________
(1) ظاهر السياق يقتضي زيادة ما زدت بين القوسين ، فهو منهم تقريع لأبي مجلز وسائر
من يقول بقوله ، ويخالف الإباضية.
(2) الأثران : 12025 ، 12026 - اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة. وبعد ، فإن أهل
الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا ، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في
ترك الحكم بما أنزل الله ، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة
الله التي أنزلها في كتابه ، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام.
فلما وقف على هذين الخبرين ، اتخذهما رأيًا يرى به صواب القضاء في الأموال
والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله ، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا
تكفر الراضي بها ، والعامل عليها.
والناظر في هذين الخبرين لا محيص له عن معرفة السائل والمسئول ، فأبو مجلز (لاحق
بن حميد الشيباني السدوسي) تابعي ثقة ، وكان يحب عليا رضي الله عنه. وكان قوم أبي
مجلز ، وهم بنو شيبان ، من شيعة علي يوم الجمل وصفين. فلما كان أمر الحكمين يوم
صفين ، واعتزلت الخوارج ، كان فيمن خرج على علي رضي الله عنه ، طائفة من بني شيبان
، ومن بني سدوس بن شيبان بن ذهل. وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز ، ناس من بني عمرو
بن سدوس (كما في الأثر : 12025) ، وهم نفر من الإباضية (كما في الأثر : 12026) ،
والإباضية من جماعة الخوارج الحرورية ، هم أصحاب عبد الله بن إباض التيمي (انظر
هذا التفسير 7 : 152 - 153 ، تعليق : 1) ، وهم يقولون بمقالة سائر الخوارج في
التحكيم ، وفي تكفير علي رضي الله عنه إذ حكم الحكمين ، وأن عليًا لم يحكم بما
أنزل الله ، في أمر التحكيم. ثم إن عبد الله بن إباض قال " إن من خالف
الخوارج كافر ليس بمشرك ، فخالف أصحابه ، وأقام الخوارج على أن أحكام المشركين
تجري على من خالفهم.
ثم افترقت الإباضية بعد عبد الله بن إباض الإمام افتراقًا لا ندري معه - في أمر
هذين الخبرين - من أي الفرق كان هؤلاء السائلون ، بيد أن الإباضية كلها تقول : إن
دور مخالفيهم دور توحيد ، إلا معسكر السلطان فإنه دار كفر عندهم. ثم قالوا أيضًا :
إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان ، وأن كل كبيرة فهي كفر نعمة ، لا
كفر شرك ، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها.
ومن البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية ، إنما كانوا يريدون أن يلزموه
الحجة في تكفير الأمراء ، لأنهم في معسكر السلطان ، ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا
بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه. ولذلك قال لهم في الخبر الأول (رقم : 12025) :
" فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا " ، وقال لهم في
الخبر الثاني " إنهم يعملون بما يعملون ويعلمون أنه ذنب " .
وإذن ، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا ، من القضاء في الأموال والأعراض
والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام ، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام
، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ، ورغبة عن دينه ، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم
الله سبحانه وتعالى ، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير
القائل به والداعي إليه.
والذي نحن فيه اليوم ، هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء ، وإيثار أحكام غير
حكمه في كتابه وسنة نبيه ، وتعطيل لكل ما في شريعة الله ، بل بلغ الأمر مبلغ
الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع ، على أحكام الله المنزلة ، وادعاء
المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا ، ولعلل وأسباب انقضت
، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها. فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز ، والنفر من
الإباضية من بني عمرو بن سدوس!!
ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز ، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم
من أحكام الشريعة. فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكما وجعله شريعة
ملزمة للقضاء بها. هذه واحدة. وأخرى ، أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم
الله فيها ، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل ، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة.
وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية ، فهذا ذنب تناوله التوبة ، وتلحقه المغفرة. وإما
أن يكون حكم به متأولا حكمًا خالف به سائر العلماء ، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد
تأويله من الإقرار بنص الكتاب ، وسنة رسول الله.
وأما أن يكون كان في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر ، جاحدًا
لحكم من أحكام الشريعة ، أو مؤثرًا لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام ، فذلك
لم يكن قط. فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه. فمن احتج بهذين الأثرين
وغيرهما في غير بابها ، وصرفها إلى غير معناها ، رغبة في نصرة سلطان ، أو احتيالا
على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده ، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد
لحكم من أحكام الله : أن يستتاب ، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله ، ورضى بتبديل
الأحكام فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين. واقرأ كلمة أبي جعفر
بعد ص : 358 ، من أول قوله : " فإن قال قائل " . ففيه قول فصل. وتفصيل
القول في خطأ المستدلين بمثل هذين الخبرين ، وما جاء من الآثار هنا في تفسير هذه
الآية ، يحتاج إلى إفاضة ، اجتزأت فيها بما كتبت الآن ، وكتبه محمود محمد شاكر.
(3) الأثر : 12027 - " حبيب بن أبي ثابت الأسدي " ، ثقة صدوق. مضى برقم
: 9012 ، 9035 ، 10423.
و " أبو البختري " ، هو " سعيد بن فيروز الطائي " ، تابعي ثقة
، يرسل الحديث عن عمر وحذيفة وسلمان وابن مسعود. قال ابن سعد في الطبقات 6 : 204 :
" وكان أبو البختري كثير الحديث ، يرسل حديثه ، ويروي عن أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، ولم يسمع من كبير أحد. فما كان من حديثه سماعًا فهو حسن ، وما
كان " عن " ، فهو ضعيف " . ومضى برقم : 175 ، 1497 ، فهو حديث
منقطع ، لأن أبا البختري لم يسمع من حذيفة.
وقوله : " قدى " (بكسر القاف وفتح الدال). يقال : " هو مني قيد رمح
" (بكسر القاف) و " قاد رمح " و " قدى رمح " بمعنى ،
واحد : أي : قدر رمح ، قال هدبة بن الخشرم : وَإِنِّي إِذَا مَا المَوْتُ لَمْ
يَكُ دُونَهُ ... قِدَى الشِّبْرِ ، أَحْمِي الأنْفَ أَنْ أَتَأَخَّرَا
و " الشراك " : سير النعل ، ويضرب به المثل في الصغر والقصر. يريده
تشبونهم : لا يكاد أمركم يختلف إلا قدر كذا وكذا.
وكان في المطبوعة هنا : " قدر الشراك " ، وأثبت ما في المخطوطة ، في هذا
الأثر ، وفي رقم : 12030.
وخبر حذيفة ، رواه الحاكم في المستدرك 2 : 312 ، 313 ، من طريق جرير ، عن الأعمش ،
عن إبراهيم ، عن همام ، قال : " كنا عند حذيفة ، فذكروا : " ومن لم يحكم
لما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ، فقال رجل من القوم : إن هذه في بني
إسرائيل! فقال حذيفة : نعم الإخوة بنو إسرائيل ، إن كان لكم الحلو ، ولهم المر!
كلا ، والذي نفسي بيده ، حتى تحذوا السنة بالسنة حذو القذة بالقذة " . وقال
الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " ، ووافقه
الذهبي. " السنة " : الطريقة المتبعة. و " القذة " : ريش
السهم ، يقدر الريش بعضه على بعض ليخرج متساويا.
(10/348)
12028 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبي ، عن أبي حيان ، عن الضحاك : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون " ، و " الظالمون " و " الفاسقون " ، قال :
نزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب.
12029 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ،
عن أبي البختري قال : قيل لحذيفة : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون " ، ثم ذكر نحو حديث ابن بشار ، عن عبد الرحمن.
12030 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن
حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي البختري قال : سأل رجل حذيفة عن هؤلاء الآيات : "
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ، " فأولئك هم الظالمون
" " فأولئك هم الفاسقون " ، قال فقيل : ذلك في بني إسرائيل ؟ قال :
نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ، إن كانت لهم كل مُرَّة ، ولكم كل حلوة! كلا والله ،
لتسلكن طريقَهم قِدَى الشراك. (1)
__________
(1) الأثران : 12029 ، 12030 - طريقان أخريان للأثر السالف رقم : 12027 ، وكان في
الأثر الأخير هنا في المطبوعة : " قدر الشراك " ، وأثبت ما في المخطوطة.
انظر التعليق السالف.
(10/350)
12031 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ،
أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن عكرمة قال : هؤلاء الآيات في
أهل الكتاب.
12032 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ، ذكر لنا أن هؤلاء
الآيات أنزلت في قتيل اليهود الذي كان منهم. (1)
12033 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
عكرمة قوله : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ، و
" الظالمون " ، و " الفاسقون " ، لأهل الكتاب كلّهم ، لما
تركوا من كتاب الله.
12034 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن
عبد الله بن مرة ، عن البراء بن عازب قال : مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم
بيهوديّ محمَّم مجلود ، فدعاهم فقال : هكذا تجدون حدَّ من زنى ؟ قالوا : نعم! فدعا
رجلا من علمائهم فقال : أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى ، هكذا تجدون حدّ
الزاني في كتابكم ؟ قال : لا ولولا أنك أنشَدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حدَّه في
كتابنا الرجم ، ولكنه كثُر في أشرافنا ، فكُنا إذا أخذنا الشّريف تركناه ، وإذا
أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحدّ ، فقلنا : تعالوا فلنجتمع جميعًا على التحميم
والجلد مكانَ الرجْم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إنّي أول من
أحيَى أمرك إذْ أماتوه! فأمر به فرجم ، فأنزل الله : " يا أيها الرسول لا
يحزنك الذين يسارعون في الكفر " إلى قوله : " ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون " ، يعني اليهود : " فأولئك هم الظالمون " ،
يعني اليهود : " فأولئك هم الفاسقون " ، للكفار كلها. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " في قيل اليهود " ، وفي المخطوطة : " في قبيل
اليهود " ، والصواب ما أثبت. وقد مضى خبر هذا القتيل مرارًا ، وسيأتي قريبًا
برقم : 12037.
(2) الأثر : 12034 - مضى تخريج هذا الأثر برقم : 11922 ، من طرق أخرى وسيأتي برقم
: 12036.
(10/351)
12035 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال
، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون " ، قال : من حكم بكتابه الذي كتب بيده ، وترك كتاب الله
، وزعم أن كتابه هذا من عند الله ، فقد كفر.
12036 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن
البراء بن عازب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحو حديث القاسم ، عن الحسن غير
أن هنادًا قال في حديثه : فقلنا : تعالوا فلنجتمع في شيء نقيمه على الشريف والضعيف
، فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم - وسائر الحديث نحو حديث القاسم. (1)
12037 - حدثنا الربيع قال ، حدثنا ابن وهب قال ، حدثنا ابن أبي الزناد ، عن أبيه
قال : كنا عند عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، فذكر رجل عنده : "
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ، " ومن لم يحكم بما
أنزل الله فأولئك هم الظالمون " ، " ومن ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الفاسقون " ، فقال عبيد الله : أمَا والله إن كثيرًا من الناس
يتأوَّلون هؤلاء الآيات على ما لم ينزلنَ عليه ، وما أُنزلن إلا في حيين من يهود.
ثم قال : هم قريظة والنضير ، وذلك أنّ إحدى الطائفتين كانت قد غزت الأخرى وقهرتها
قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل
قتيل قتلته العزيزةُ من الذليلة ، فديته خمسون وَسْقًا ، (2) وكل قتيل قتلته
الذَّليلة من العزيزة ، فدِيَته مئة وَسْق. فأعطوهم فَرَقًا وضيمًا. (3) فقدم
النبي صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك ، فذلَّت الطائفتان بمقدَم النبي صلى الله
عليه وسلم ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يظهر عليهما. فبيْنا هما على
__________
(1) الأثر : 12034 - مضى تخريجه برقم : 11922 ، ورقم : 12034.
(2) " الوثق " (بفتح الواو كسرها) : حمل بعير ، أو ستون صاعًا ، وهو
مكيال لهم.
(3) " الفرق " (بفتحتين) الفزع ، والجزع. و " الضيم " :
الظلم. يقول : فقبلوا ذلك خوفًا من بطشهم وجزعًا ، ورضى بالظلم منهم.
(10/352)
ذلك ، أصابت الذليلة من العزيزة قتيلا
فقالت العزيزة : أعطونا مائة وسق! فقالت الذليلة : وهل كان هذا قط في حَيَّين
دينهما واحد ، وبلدهما واحد ، ديةُ بعضهم ضعفُ دية بعض! إنما أعطيناكم هذا فَرَقًا
منكم وضيمًا ، فاجعلوا بيننا وبينكم محمدًا صلى الله عليه وسلم. فتراضيا على أن
يجعلوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بينهم. ثم إن العزيزة تذاكرت بينها ، (1) فخشيت
أن لا يعطيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أصحابها ضعف ما تعطِي أصحابها منها ،
فدسُّوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إخوانهم من المنافقين ، فقالوا لهم :
اخبرُوا لنا رأيَ محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن أعطانا ما نريد حكَّمناه ، وإن لم
يعطنا حذرناه ولم نحكمه! فذهب المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأعلم الله
تعالى ذكره النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما أرادوا من ذلك الأمر كله قال عبيد الله
: فأنزل الله تعالى ذكره فيهم : " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يُسَارعون
في الكفر " ، هؤلاء الآيات كلهن ، حتى بلغ : " وليحكُم أهل الإنجيل بما
أنزل الله فيه " إلى " الفاسقون " قرأ عبيد الله ذلك آيةً آيةً ،
وفسَّرها على ما أُنزل ، حتى فرَغ [من] تفسير ذلك لهم في الآيات. (2) ثم قال : إنما
عنى بذلك يهود ، وفيهم أنزلت هذه الصفة.
* * *
وقال بعضهم : عنى بـ " الكافرين " ، أهل الإسلام ، وب " الظالمين
" اليهود ، وب " الفاسقين " النصارى.
ذكر من قال ذلك :
12038 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن زكريا ، عن عامر قال : نزلت "
الكافرون " في المسلمين ، و " الظالمون " في اليهود ، و "
الفاسقون " في النصارى.
__________
(1) في المخطوطة : * " نكرت " غير منقوطة ، والذي في المطبوعة موافق
للمعنى ، ولم أعرف لقراءة ما في المخطوطة وجهًا إلا " فكرت بينها " ،
وهي سقيمة.
(2) الذي بين القوسين ، زيادة لا بد منها فيما أرى.
(10/353)
12039 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي السفر ، عن الشعبي ، قال : " الكافرون
" ، في المسلمين ، و " الظالمون " في اليهود ، و " الفاسقون
" ، في النصارى.
12040 - حدثنا ابن وكيع وأبو السائب وواصل بن عبد الأعلى قالوا ، حدثنا ابن فضيل ،
عن ابن شبرمة ، عن الشعبي قال : آيةٌ فينا ، وآيتان في أهل الكتاب : " ومن لم
يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ، فينا ، وفيهم : " ومن لم
يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " ، و " الفاسقون " في أهل
الكتاب.
12041 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، مثل
حديث زكريَّا عنه. (1)
12042 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا
شعبة ، عن ابن أبي السفر ، عن الشعبي : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك
هم الكافرون " ، قال : هذا في المسلمين " ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الفاسقون " ، قال : النصارى.
12043 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا بن أبي زائدة
، عن الشعبي قال ، في هؤلاء الآيات التي في " المائدة " : " ومن لم
يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ، قال : فينا أهلَ الإسلام "
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " ، قال : في اليهود "
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " ، قال : في النصارى.
12044 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان ،
عن زكريا بن أبي زائدة ، عن الشعبي في قوله : " ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون " ، قال : نزلت الأولى في المسلمين ، والثانية في اليهود
، والثالثة في النصارى.
__________
(1) يعني رقم : 12038.
(10/354)
12045 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ،
أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن زكريا ، عن الشعبي ، بنحوه.
12046 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يعلى ، عن زكريا ، عن عامر ، بنحوه.
* * *
وقال آخرون : بل عنى بذلك : كفرٌ دون كفر ، وظلمٍ دون ظلم ، وفسقٌ دون فسق.
ذكر من قال ذلك :
12047 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن
جريج ، عن عطاء قوله : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
" ، " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " ، "
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " ، قال : كفر دون كفر ، وفسق
دون فسق ، وظلم دون ظلم.
12048 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن
أيوب ، عن عطاء ، مثله.
12049 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد ، عن أيوب بن أبي تميمة
، عن عطاء بن أبي رباح ، بنحوه.
12050 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء
، بنحوه.
12051 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ،
بنحوه.
12052 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان ،
عن سعيد المكي ، عن طاوس : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون "
، قال : ليس بكفرٍ ينقل عن الملّة.
12053 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان ،
عن معمر بن راشد ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن
(10/355)
عباس : " ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الكافررن " ، قال : هي به كفر ، وليس كفرًا بالله وملائكته
وكتبه ورسله. (1)
12054 - حدثني الحسن قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن معمر ، عن ابن طاوس ،
عن أبيه قال : قال رجل لابن عباس في هذه الآيات : " ومن لم يحكم بما أنزل
الله " ، فمن فعل هذا فقد كفر ؟ قال ابن عباس : إذا فعل ذلك فهو به كفر ،
وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر ، وبكذا وكذا.
12055 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن ابن
طاوس ، عن أبيه قال : سئل ابن عباس عن قوله : " ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون " ، قال هي به كفر قال : ابن طاوس : وليس كمن كفر بالله
وملائكته وكُتُبه ورسله.
12056 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن
رجل ، عن طاوس : " فأولئك هم الكافرون " ، قال : كفر لا ينقل عن الملة
قال وقال عطاء : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق.
* * *
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآيات في أهل الكتاب ، وهى مرادٌ بها جميعُ الناس ،
مسلموهم وكفارهم.
ذكر من قال ذلك :
12057 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن
منصور ، عن إبراهيم قال : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ، ورَضي لهذه الأمّة
بها.
__________
(1) الأثر : 12053 - خبر طاوس عن ابن عباس ، رواه الحاكم في المستدرك (2 : 313) من
طريق سفيان بن عيينة ، عن هشام بن ججير ، عن طاوس ، عن ابن عباس : " إنه ليس
بالكفر الذي يذهبون إليه ، إنه ليس كفرًا ينقل عنه الملة " ومن لم يحكم بما
أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ، كفر دون الكفر " ، هذا لفظه ، ثم قال
: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " ، وقال الذهبي : " صحيح
" .
(10/356)
12058 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : " ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون " ، قال : نزلت في بني إسرائيل ، ورضى لكم بها.
12059 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن
إبراهيم في هذه الآية : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
" ، قال : نزلت في بني إسرائيل ، ثم رضى بها لهؤلاء.
12060 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن عوف ، عن
الحسن في قوله : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ،
قال : نزلت في اليهود ، وهي علينا واجبةٌ.
12061 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك بن أبي
سليمان ، عن سلمة بن كهيل ، عن علقمة ومسروق : أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة ،
فقال : من السحت. قال فقالا أفي الحكم ؟ قال : ذاك الكُفْر! ثم تلا هذه الآية :
" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " .
12062 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ومن لم يحكم بما أنزل الله " ، يقول : ومن لم يحكم بما أنزلتُ
، فتركه عمدًا وجار وهو يعلم ، فهو من الكافرين.
* * *
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به. فأما " الظلم
" و " الفسق " ، فهو للمقرِّ به.
ذكر من قال ذلك :
12063 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك
هم الكافرون " ، قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر. ومن أقرّ به ولم يحكم ،
فهو ظالم فاسقٌ.
(10/357)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي
بالصواب ، قولُ من قال : نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب ، لأن ما قبلها وما
بعدها من الآيات ففيهم نزلت ، وهم المعنيُّون بها. وهذه الآيات سياقُ الخبر عنهم ،
فكونُها خبرًا عنهم أولى.
* * *
فإن قال قائل : فإن الله تعالى ذكره قد عمَّ بالخبر بذلك عن جميع منْ لم يحكم بما
أنزل الله ، فكيف جعلته خاصًّا ؟
قيل : إن الله تعالى عَمَّ بالخبر بذلك عن قومٍ كانوا بحكم الله الذي حكم به في
كتابه جاحدين ، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكمَ ، على سبيل ما تركوه ، كافرون.
وكذلك القولُ في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به ، هو بالله كافر ، كما قال
ابن عباس ، لأنه بجحوده حكم الله بعدَ علمه أنه أنزله في كتابه ، نظير جحوده نبوّة
نبيّه بعد علمه أنه نبيٌّ.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ
وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك ، يا
محمد ، وعندهم التوراة فيها حكم الله.
ويعني بقوله : " وكتبنا " ، وفرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النَّفس إذا
قتلت نفسًا بغير حق (1) " بالنفس " ، يعني : أن تقتل النفس القاتلة
بالنفس المقتولة ،
__________
(1) انظر تفسير " كتب " فيما سلف ص : 232 تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(10/358)
" والعين بالعين " ، يقول :
وفرضنا عليهم فيها أن يفقأوا العين التي فقأ صاحبها مثلَها من نفس أخرَى بالعين
المفقوءة ويجدع الأنف بالأنف وتقطع الأذن بالأذن وتقلع السنّ بالسنّ ويُقْتَصَّ من
الجارِح غيره ظلمًا للمجروح. (1)
وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود وتعزية
منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوته ، وإدباره عنه بعد إقباله وتعريفٌ
منه له جراءتهم قديمًا وحديثًا على ربِّهم وعلى رسل ربِّهم ، وتقدُّمهم على كتاب
الله بالتحريف والتبديل.
يقول تعالى ذكره له : وكيف يرضى هؤلاء اليهود ، يا محمد ، بحكمك ، إذا جاءوا
يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرُّون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى
الله عليه وسلم ، فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصنين ، وقضائي بينهم أن من قتَل
نفسًا ظلمًا فهو بها قَوَدٌ ، ومن فقأ عينًا بغير حق فعينه بها مفقوءة قِصَاصًا ،
ومن جدع أنفًا فأنفه به مجدوع ، ومن قلع سنًّا فسنّه بها مقلوعة ، ومن جرح غيره
جرحًا فهو مقتصٌّ منه مثل الجرح الذي جرحه ؟ ثم هم مع الحكم الذي عندهم في التوراة
من أحكامي ، يتولون عنه ويتركون العمل به ، يقول : فهم بترك حكمك ، وبسخط قضائك
بينهم ، أحرَى وأولَى.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12064 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال :
لما رأت قريظة النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم ، وكانوا يخفونه في
كتابهم ، نهضت قريظة فقالوا : يا محمد ، اقضِ بيننا وبين إخواننا
__________
(1) انظر تفسير " القصاص " فيما سلف 3 : 357 - 366/ثم 3 : 579 تعليق :
1.
(10/359)
بني النضير وكان بينهم دمٌ قبلَ قدوم
النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت النضير يتعزَّزون على بني قريظة ، ودياتهم على
أنصاف ديات النضير ، وكانت الدِّية من وُسُوق التمر : أربعين ومئة وسق لبني النضير
، وسبعين وسقًا لبني قريظة فقال : دمُ القرظيّ وفاءٌ من دم النضيريّ! (1) فغضب بنو
النضير وقالوا : لا نطيعك في الرَّجم ، ولكن نأخذ بحدودنا التي كنَّا عليها! فنزلت
: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) [سورة المائدة : 50] ونزل : "
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " ، الآية.
12065 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين
والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص " ، قال : فما بالهم
يخالفون ، يقتلون النفسين بالنفس ، ويفقأون العينين بالعين ؟
12066 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا خلاد الكوفي قال ، حدثنا
الثوري ، عن السدي ، عن أبي مالك قال : كان بين حيين من الأنصار قتالٌ ، فكان
بينهم قتلى ، وكان لأحد الحيين على الآخر طَوْلٌ ، (2) فجاء النبي صلى الله عليه
وسلم ، فجعل يجعَلُ الحرَّ بالحرِّ ، والعبدَ بالعبد ، والمرأة بالمرأة ، فنزلت :
( الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ) [سورة البقرة : 178] قال سفيان :
وبلغني عن ابن عباس أنه قال : نسختها : " النفس بالنفس " . (3)
12067 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " فيها
__________
(1) قوله : " وفاء من دم النضيري " ، أي يعادله ويساويه. يقال : "
وفى الدرهم المثقال " أي : عادله.
(2) " الطول " (بفتح فسكون) : العلو والفضل والعزة.
(3) الأثر : 12066 - مضى خبر السدي عن أبي مالك بإسناد آخر رقم : 2564.
(10/360)
في التوراة - " والعين بالعين
" حتى : " والجروح قصاص " ، قال مجاهد عن ابن عباس قال : كان على
بني إسرائيل القصاصُ في القتلى ، ليس بينهم دية في نفسٍ ولا جُرْحٍ. قال : وذلك
قول الله تعالى ذكره : " وكتبنا عليهم فيها " في التوراة ، فخفف الله عن
أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، فجعل عليهم الدية في النَّفس والجِراح ، وذلك
تخفيف من ربكم ورحمة " فمن تصدَّق به فهو كفارة له " .
12068 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وكتبنا عليهم فيها أن النفس
بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسن والجروح قصاص
" ، قال : إن بني إسرائيل لم تُجعل لهم ديةٌ فيما كتب الله لموسى في التوراة
من نفس قتلت ، أو جرح ، أو سنّ ، أو عين ، أو أنف. إنما هو القصاصُ ، أو العفو.
12069 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" وكتبنا عليهم فيها " ، أي في التوراة " أن النفس بالنفس " .
12070 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
وكتبنا عليهم فيها " ، أي في التوراة ، بأن النفس بالنفس.
12071 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " حتى بلغ " والجروح قصاص " ،
بعضها ببعض.
12072 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أن النفس بالنفس " ، قال يقول :
تقتل النفس بالنفس ، وتفقأ العين بالعين ، ويقطع الأنف بالأنف ، وتنزع السنّ بالسن
، وتقتصّ الجراح بالجراح.
* * *
(10/361)
قال أبو جعفر : فهذا يستوي فيه أحرار
المسلمين فيما بينهم ، رجالهم ونساؤهم ، إذا كان في النفس وما دون النفس ويستوي
فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم ، إذا كان عمدًا في النفس وما دون النفس.
(1)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنيِّ به : " فمن تصدق به فهو كفارة
له " .
فقال بعضهم : عنى بذلك المجروحَ ووليَّ القتيل.
ذكر من قال ذلك :
12073 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن قيس بن
مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو : " فمن
تصدق به فهو كفارة له " ، قال : يُهْدَم عنه يعني المجروح مثلُ ذلك من ذنوبه.
12074 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن
شهاب ، عن الهيثم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو ، بنحوه.
12075 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن قيس
بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود أبي العُرْيان قال : رأيت معاوية
قاعدًا على السرير ، وإلى جنبه رجلٌ أحمر كأنه مَوْلىً وهو
__________
(1) من أول قوله : " فهذا يستوي ... " إلى آخر الكلام ، يشبه عندي أن
يكون من كلام أبي جعفر ، فلذلك ، فصلته عن خبر ابن عباس ، وكتبت قبله : " قال
أبو جعفر " .
(10/362)
عبد الله بن عمرو فقال في هذه الآية :
" فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : يُهْدَم عنه من ذنوبه مثل ما
تصدّق به. (1)
12076 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم
في قوله : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : للمجروح.
12077 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا
شعبة ، عن عمارة بن أبي حفصة ، عن أبي عقبة ، عن جابر بن زيد : " فمن تصدق به
فهو كفارة له " ، قا ل : للمجروح. (2)
12078 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثني حَرِميّ بن عمارة قال ، حدثنا
__________
(1) الآثار : 12073 - 12075 - ثم يأتي أيضًا من طريق أخرى برقم : 12085.
" سفيان " ، هو الثوري.
و " قيس بن مسلم الجدلي العدواني " ، ثقة ، مضى برقم : 9744.
و " طارق بن شهاب الأحمسي " ، ثقة ، مضى برقم : 9744 ، 11682.
و " الهيثم بن الأسود النخعي " ، " أبو العريان " ، أدرك
عليًا ، وروى عن معاوية وعبد الله بن عمرو. ثقة من خيار التابعين ، كان خطيبًا
شاعرًا. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر رواه في السنن 8 : 54 ، بمثله. وذكره ابن كثير في تفسيره 3 : 167 ، من
تفسير ابن أبي حاتم ، من طريق أبي داود الطيالسي ، عن شعبة. وخرجه السيوطي في الدر
المنثور 2 : 288 ، وزاد نسبته للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبي
الشيخ ، وابن مردويه.
وقوله : " وإلى جنبه رجل أحمر كأنه مولى " ، " الأحمر " عندهم
: الأبيض ، لأن بياض الناس تشوبه الحمرة ، ولذلك سموا العجم " الحمراء "
، لبياضهم ، ولغلبة الشقرة عليهم. وقد ذكر ابن سعد (4/2/11) صفة عبد الله بن عمرو
، عن " العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي " قال : " وفدت مع أبي
إلى يزيد بن معاوية ، فجاء رجل طوال أحمر ، عظيم البطن ، فسلم وجلس. فقال أبي : من
هذا ؟ فقيل : عبد الله بن عمرو " . وروي أيضا عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ،
أنه وصف عبد الله بن عمرو فقال : " رجل أحمر عظيم البطن طوال " . وعنى
بقوله : " كأنه مولى " ، كأنه من العجم أو الفرس.
وكان في المطبوعة والمخطوطة : " وإلى جنبه رجل آخر " ، وهو خطأ صرف كما
ترى.
(2) الأثر : 12077 - " عمارة بن أبي حفصة العتكي " ، ثقة ، مضى برقم :
8513.
و " أبو عقبة " ، لم أجد له ذكرا ، ولم أعرف من هو.
و " جابر بن زيد الأزدي اليحمدي " ، " أبو الشعثاء " ، ثقة ،
كان من أعلم الناس بكتاب الله. مضى برقم : 5136 ، 5472.
(10/363)
شعبة قال ، أخبرني عمارة ، عن رجل قال
حرميّ : نسيت اسمه عن جابر بن زيد ، بمثله. (1)
12079 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم :
" فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : للمجروح.
12080 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن يونس بن أبي
إسحاق ، عن أبي السفر قال : دفع رجلٌ من قريش رجلا من الأنصار فاندقَّتْ ثنيَّتُه
، فرفعه الأنصاري إلى معاوية. فلما ألحَّ عليه الرجل قال معاوية : شأنَكَ وصاحبَك!
قال : وأبو الدرداء عند معاوية ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : ما من مسلم يُصَاب بشيء من جسده فيَهبُه ، إلا رفعه الله به درجةً
وحطّ عنه به خطيئة. فقال له الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
؟ قال : سمعته أذناي ووَعاه قلبي! فخلَّى سبيلَ القرشيّ ، فقال معاوية : مروا له
بمالٍ. (2)
12081 - حدثنا محمود بن خداش قال ، حدثنا هشيم بن بشير قال ،
__________
(1) الأثر : 12078 - " حرمي بن عمارة بن أبي حفصة العتكي " ، مضى هو
وأبوه " عمارة بن أبي حفصة " فيما سلف رقم : 5813.
والرجل الذي نسيه " حرمي " ، هو " أبو عقبة " المذكور في
الأثر السالف.
(2) الأثر : 12080 - " يونس بن أبي إسحق السبيعي " ، ثقة. مضى برقم :
3018.
و " أبو السفر " ، هو : " سعيد بن يحمد الثوري " تابعي ثقة ،
يروي عن متوسطي الصحابة كابن عباس وابن عمر. مضى برقم : 3010.
وهذا الإسناد منقطع ، لأن أبا السفر لم يسمع أبا الدرداء.
وروى الخبر أحمد في مسنده 6 : 448 ، من طريق وكيع عن يونس بن أبي إسحق ، بمثله.
ورواه البيهقي في السنن 8 : 55 ، من طريق شيبان بن عبد الرحمن ، عن يونس بن أبي
إسحق ، بمثله. ورواه ابن ماجه في سننه ص : 898 ، رقم : 2693.
ورواه الترمذي في " أبواب الديات " ، " باب ما جاء في العفو "
، من طريق عبد الله بن المبارك ، عن يونس بن أبي إسحق. ثم قال الترمذي : "
هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ولا أعرف لأبي السفر سماعًا من أبي
الدرداء " .
وخرجه ابن كثير في تفسيره 3 : 168 ، وزاد نسبته لابن ماجه.
(10/364)
أخبرنا مغيرة ، عن الشعبي قال ، قال
ابن الصامت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من جُرِح في جسده جراحةً
فتصدَّق بها ، كُفّر عنه ذنوبه بمثل ما تصدّق به. (1)
12082 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن
الحسن في قوله : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : كفارة للمجروح.
12083 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن زكريا قال : سمعت عامرًا يقول :
كفارة لمن تصدَّق به.
12084 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" فمن تصدق به فهو كفارة له " ، يقول : لوليّ القتيل الذي عفا.
12085 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني شبيب بن سعيد ، عن شعبة بن
الحجاج ، عن قيس بن مسلم ، عن الهيثم أبي العريان قال : كنت بالشأم ، وإذا برجل مع
معاوية قاعدٍ على السرير كأنه مولًى ، قال : " فمن تصدق به فهو كفارة له
" ، قال : فمن تصدق به هدَم الله عنه مثلَه من ذنوبه فإذا هو عبد الله بن
عمرو. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 12081 - " ابن الصامت " ، هو " عبادة بن الصامت "
، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الخبر ، إسناد صحيح إلى الشعبي ، رواه أحمد في مسنده 5 : 316 ، من طريق سريج
بن النعمان ، عن هشيم ، بمثله ، ثم رواه ابنه عبد الله في 5 : 329 ، من طريق شجاع
بن محمد ، عن هشيم ، بمثله ثم رواه عبد الله أيضا 5 : 330 ، من طريق إسمعيل بن أبي
معمر الهذلي ، عن جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن ابن الصامت بلفظ : " من
تصدق عن جسده بشيء ، كفر الله تعالى عنه بقدر ذنوبه " .
ورواه البيهقي بغير هذا اللفظ من طريق أبي داود ، عن محمد بن أبان ، عن علقمة بن
مرثه ، عن الشعبي " ، وقال : " هو منقطع " ، وذلك أن الشعبي ، لم
يسمع من عبادة بن الصامت.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 3 : 168 ، وزاد نسبته للنسائي ، عن علي بن حجر ، عن جرير
بن عبد الحميد.
(2) الأثر : 12085 - " شبيب بن سعيد التميمي الحبطي " ، ثقة ، مضى برقم
: 6613.
وهذا الأثر مضى قبل ذلك بالأسانيد رقم 12073 - 12075 ، ولا أدري أسقط من الناسخ
هنا " عن طارق بن شهاب " ، كما في سائر الأسانيد ، أم هكذا رواه ابن وهب
عن شبيب بن سعيد. ولذلك تركته على حاله ، ولكن لا شك أن الراوي عن الهيثم ، هو
طارق بن شهاب.
وأما قوله " الهيثم أبي العريان " فقد كان في المخطوطة والمطبوعة :
" الهيثم بن العريان " ، وهو خطأ لا شك فيه ، صوابه ما أثبت. وقد مضى
ذكره في الأسانيد السالفة ، انظر التعليق هناك.
(10/365)
وقال آخرون : عنى بذلك الجارحَ. وقالوا
: معنى الآية : فمن تصدق بما وجب له من قَود أو قصاصٍ على من وجب ذلك له عليه ،
فعفا عنه ، فعفوه ذلك عن الجاني كفّارة لذنب الجاني المجرم ، كما القِصاص منه
كفَّارة له. قالوا : فأما أجْر العافِي المتصدِّق ، فعلى الله.
ذكر من قال ذلك :
12086 - حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن عطاء بن
السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فمن تصدق به فهو كفارة له "
، قال : كفارة للجارح ، وأجر الذي أُصِيب على الله.
12087 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا يونس ، عن أبي إسحاق
، قال سمعت مجاهدًا يقول لأبي إسحاق : " فمن تصدّق به فهو كفارة له " ،
يا أبا إسحاق ، [لمن] ؟ (1) قال أبو إسحاق : للمتصدق فقال مجاهد : للمذنب الجارح.
12088 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، قال مغيرة ، قال مجاهد :
للجارح.
12089 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، مثله.
12090 - حدثنا هناد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم
ومجاهد : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قالا للذي تُصُدِّق عليه ،
__________
(1) ما زدته بين القوسين ، لا بد من زيادته أو ما بشبهه.
(10/366)
وأجرُ الذي أصيب على الله قال هناد في
حديثه ، قالا كفارة للذي تُصُدِّق به عليه.
12091 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد بن حميد ، عن منصور ، عن مجاهد ، بنحوه.
12092 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بشر ، عن زكريا ، عن عامر قال : كفارة
لمن تُصُدِّق به عليه.
12093 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد
وإبراهيم قالا كفارة للجارح ، وأجر الذي أصيب على الله.
12094 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان قال : سمعت زيد بن أسلم يقول :
إن عفا عنه ، أو اقتص منه ، أو قبل منه الدية ، فهو كفّارة له.
12095 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد قال : كفارة للجارح ، وأجرٌ للعافي ، لقوله : (1) ( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) [سورة الشورى : 40].
12096 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فمن تصدّق به فهو كفارة له "
، قال : كفارة للمتصدَّقِ عليه.
12097 - حدثني المثنى قال ، حدثنا معلى بن أسد قال ، حدثنا خالد قال ، حدثنا حصين
، عن ابن عباس : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : هي كفارة للجارح.
12098 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان ، عن
__________
(1) في المخطوطة : " إلى قوله : فمن عفا... " ، وفي الهامش حرف (ط)
دلالة على الخطأ ، والذي في المطبوعة هو الصواب.
(10/367)
عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس قال : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، قال : فالكفارة للجارح ،
وأجر المتصدِّق على الله.
12099 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن عبد الله بن
كثير ، عن مجاهد أنه كان يقول : " فمن تصدق به فهو كفارة له " ، يقول : للقاتل
، وأجرٌ للعافي.
12100 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عمران بن ظبيان ، عن عديّ بن
ثابت قال ، هُتِم رجل على عهد معاوية ، (1) فأعطي دية فلم يقبل ، ثم أعطي ديتين
فلم يقبل ، ثم أعطي ثلاثًا فلم يقبل. فحدَّث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فمن تصدّق بدمٍ فما دونه ، كان
كفّارة له من يوم تَصدَّق إلى يوم وُلد " . قال : فتصدَّق الرجل. (2)
12101 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له " ،
يقول : من جرح فتصدَّق بالذي جُرِح به على الجارح ،
__________
(1) " هتم الرجل " (بالبناء للمجهول) : انكسر مقدم أسنانه. " هتم
فاه يهتمه هتمًا " متعديا و " هتم هتما " (على وزن سكر) فهو "
أهتم " ، و " تهتمت ثناياه " .
(2) الأثر : 12100 - " عمران بن ظبيان الحنفي " . قال البخاري : "
فيه نظر " ، وقال أبو حاتم : " يكتب حديثه " ، ثم اختلف في أمره
ابن حبان ، فذكره في الثقات ، ثم عاد فذكره في الضعفاء ، وقال " فحش خطؤه ،
حتى بطل الاحتجاج " ، وضعفه العقيلي وابن عدي. وكان يميل إلى التشيع.
وأما " عدي بن ثابت الأنصاري " ، فهو ثقة صدوق ، كان إمام مسجد الشيعة
وقاصهم. وروى له الأئمة ، مضى برقم : 11726.
وهذا الخبر ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 1 : 288 ، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور
، وابن مردويه. ولفظ الخبر عن رسول الله : " من تصدق بدم فما دونه ، فهو
كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت " . وساقه بلفظه هذا ابن كثير في تفسيره 3
: 168 ، عن ابن مردويه ، قال " حدثنا دعلج بن أحمد ، حدثنا محمد بن علي بن
زيد ، عن سعيد بن منصور ، عن سفيان ، عن عمران بن ظبيان " . وكأن الصواب هو
هذا اللفظ ، وما في التفسير أنا في شك من صحة لفظه ، ولكني تركته على حاله ، ولو
كان : " من يوم ولد إلى يوم تصدق " ، لكان أقوم لفظًا ومعنى.
(10/368)
فليس على الجارح سبيلٌ ولا قَوَدٌ ولا
عَقْلٌ ، ولا حَرَج عليه ، (1) من أجل أنه تصدق عليه الذي جُرِح ، فكان كفارة له
من ظلمه الذي ظَلَم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قولُ من قال : عني به :
" فمن تصدّق به فهو كفارة له " ، المجروحَ (2) فلأن تكون " الهاء
" في قوله : " له " عائدةً على " مَنْ " ، أولى من أن
تكون مِنْ ذِكْر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح ، وأحرَى ، إذ الصدقة
هي المكفِّرة ذنبَ صاحبها دون المتصدَّق عليه في سائر الصدقات غير هذه ، فالواجب
أن يكون سبيلُ هذه سبيلَ غيرها من الصدَّقات.
* * *
فإن ظنّ ظانّ أن القِصاصَ إذْ كان يكفّر ذنب صاحبه المقتصّ منه الذي أتاه في قتل
من قتله ظلمًا ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذ أخذ البيعة على أصحابه (3)
" أن لا تقتلوا ولا تزنُوا ولا تسرقوا " ثم قال : " فمن فَعَل من
ذلك شيئًا فأقيم عليه حدُّه فهو كفارته " (4) فالواجب أن يكونَ عفوُ العافي
المجنيِّ عليه ، أو ولي المقتول عنه نظيرَه ، (5) في أن ذلك له كفارة. فإن ذلك لو
وجب أن يكون كذلك ، لوجب أن يكون عفوُ المقذوفِ عن قاذفه بالزنا ، وتركِه أخذه
__________
(1) في المطبوعة : " ولا جرح عليه " ، والصواب ما أثبت ، والمخطوطة غير
منقوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " عنى به فمن تصدق... " ، والسياق يقتضي ما
أثبت.
(3) في المطبوعة : " كقول النبي صلى الله عليه وسلم " ، والصواب ما
أثبت.
(4) هذا الخبر رواه أبو جعفر مختصرًا غير مسند ، وهو خبر صحيح. انظر صحيح مسلم 11
: 222 - 224.
(5) السياق : " فإن ظن ظان أن القصاص ، إذ كان يكفر ذنب صاحبه... فالواجب أن
يكون عفو العافي... نظيره.
(10/369)
بالواجب له من الحدِّ ، وقد قذفه
قاذِفُه وهو عفيفٌ مسلم مُحْصَن ، كفَّارةً للقاذف من ذنبه الذى ركبه ، ومعصيته
التي أتاها. وذلك ما لا نعلم قائلا من أهل العلم يقوله.
فإذْ كان غير جائز أن يكون تركُ المقذوف الذي وصفنا أمره أخذَ قاذفه بالواجب له من
الحدّ كفارةً للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح
أخذَ الجارح بحقِّه من القصاص ، كفَّارةً للجارح من ذنبه الذي ركبه.
* * *
فإن قال قائل : أو ليس للمجروح عندك أخْذُ جارحه بدية جرحه مكانَ القِصاص ؟
قيل له : بلى!
فإن قال : أفرأيت لو اختار الدّية ثم عفا عنها ، أكانت له قِبَله في الآخرة
تَبِعةٌ ؟
قيل له : هذا كلام عندنا محالٌ. وذلك أنه لا يكون عندنا مختارًا لديةٍ إلا وهو لها
آخذٌ. فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غيرِ هذا ،
بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع (1) إلا أن يكون مرادًا بذلك هِبتُها لمن أخذت
منه بعد الأخذ. مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صَحَّ ، لم يكن في صحة
ذلك ما يوجب أن يكون المعفوُّ له عنها بريئًا من عقوبة ذنبه عند الله; لأن الله
تعالى ذكره أوعد قاتلَ المؤمن بما أوعده به إن لم يتُبْ من ذنبه ، والدية مأخوذة
منه ، أحبَّ أم سخط. والتوبة من التَائب إنما تكون توبةً إذا اختارها وأرادَها
وآثرها على الإصرار.
* * *
فإن ظنّ ظانّ أن ذلك وإن كان كذلك ، فقد يجب أن يكون له كفارةً ، كما كان القصاص
له كفارة ، (2) فإنَّا إنما جعلنا القِصاص له كفارة مع ندمه وبَذْله نفسَه لأخذ
الحق منها تنصُّلا من ذنبه ، بخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر ما سلف 3 : 371 ، وما قبلها.
(2) في المطبوعة : " كما جاز القصاص " ، وفي المخطوطة " كان "
إلا أنه كتب جيما ثم وضع عليها شرطة الكاف ، وأما الحرف الأخير فهو " نون
" ، فصحيح قراءته ما أثبت ، وهو حق السياق أيضًا.
(10/370)
فأما الدية إذا اختارها المجروحُ ثم
عفا عنها ، فلم يُقْض عليه بحدّ ذنبه ، فيكون ممن دخل في حكم النبي صلى الله عليه
وسلم وقوله : " فمن أقيم عليه الحد فهو كفارته " . ثم مما يؤكد صحة ما
قلنا في ذلك ، الأخبارُ التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله :
" فمن تصدّق بدمٍ " ، (1) وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل.
* * *
وقد يجوز أن يكون القائلون إنه عنى بذلك الجارحَ ، أرادوا المعنى الذي ذُكر عن
عروة بن الزبير الذي : -
12102 - حدثني به الحارث بن محمد قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، (2) حدثنا حجاج
، عن ابن جريج قال ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : إذا أصاب رجل رجلا
ولا يعلم المُصاب من أصابه ، فاعترف له المصيب ، فهو كفارة للمُصيب. قال : وكان
مجاهد يقول عند هذا : أصاب عروة ابن الزبير عينَ إنسان عند الركن فيما يستلمون ،
(3) فقال له : يا هذا ، أنا عروة بن الزبير ، فإن كان بعينك بأس فأنَا بها!
* * *
وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعلٍ على غير عمدٍ ، ثم
اعترف للذي أصابه بما أصابه ، فعفا له المصاب بذلك عن حقِّه قبله ، فلا تبعة له
حينئذٍ قَبِل المُصيب في الدنيا ولا في الآخرة. لأن الذى كان وجب له قبله مالٌ لا
قِصاص ، وقد أبرأه منه : فإبراؤه منه ، كفَّارة للمبرَّأ من حقه
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة. " فمن تصدق به " ، والصواب ما أثبته ، وهو
نص الأثر السالف رقم : 12100.
(2) في المطبوعة : " قال حدثنا ابن سلام " ، وفي المخطوطة : " قال
حدثنا القاسم الحارث بن سلام " ثم ضرب على " القاسم " و "
الحارث " ثم وضع بجوار " القاسم " علامة التصحيح وهي (صح).
(3) في المخطوطة : " فيما يسلمون " ، وتركت ما في المطبوعة على حاله ،
وهو قريب الاستقامة. وفي تفسير أبي حيان 3 : 497 ، " وهم يستلمون " ،
وهي أجود.
(10/371)
الذي كان له أخذه به ، (1) فلا طَلِبة
له بسبب ذلك قِبَله في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه
إلى من أصابه ، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به ، فيكون بفعله آثمًا يستحق به
العقوبة من ربه ، (2) لأن الله عز وجل قد وضع الجُناح عن عباده فيما أخطأوا فيه
ولم يتعمّدوه من أفعالهم ، فقال في كتابه : ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا
أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ). (3) [سورة الأحزاب :
5]
* * *
و " التصدق " ، في هذا الموضع ، بالدم ، العفو عنه. (4)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوارة من قَوَدِ
النفس القاتلة قِصاصًا بالنفس المقتولة ظلمًا. ولم يفقأ عين الفاقئ بعين المفقوء
ظلمًا ، قِصاصًا ممن أمره الله به بذلك في كتابه ، ولكن أقاد من بعضٍ ولم يُقِدْ
من
__________
(1) في المطبوعة : " كفارة له من حقه " ، وفي المخطوطة " كفارة
*لمتزامر[محذوفة النقط] من حقه " ، والذي أثبته هو صواب قراءتها.
(2) في المطبوعة : " فيكون بفعله إنما يستحق العقوبة " ، وهو كلام فارغ
المعنى ، و * " انما " هكذا في المخطوطة غير منقوطة ، وصواب قراءتها ما
أثبت.
(3) في المخطوطة والمطبوعة ، كتب الآية هكذا : " ولا جناح عليكم فيما أخطأتم...
" ، وليس فيما نتلو آية كهذه ، وإنما هي آية الأحزاب كما أثبتها.
(4) في المطبوعة : " وقد يراد في هذا الموضع بالدم العفو عنه " ، وهو
كلام لا معنى له ولا ضابط. وفي المخطوطة : " وا * في هذا الموضع بالدم ،
العفو عنه " ، بين الكلامين بياض وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ ،
فاستظهرت صواب الكلام من سياق تفسير هذه الآية.
(10/372)
بعض ، أو قتل في بعض اثنين بواحد ،
فإنّ من يفعل ذلك من " الظالمين " (1) يعني : ممن جارَ عن حكم الله ،
(2) ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعًا. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " وإن من يفعل ذلك " ، والسياق يقتضي ما
أثبت.
(2) في المطبوعة : " جار على حكم الله " ، والصواب من المخطوطة.
(3) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/373)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ (46) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وقفينا على آثارهم " ، (1)
أتبعنا. يقول : أتبعنا عيسى ابن مريم على آثار النبيين الذين أسلموا من قبلك ، يا
محمد ، فبعثناه نبيًّا مصدّقا لكتابنا الذي أنزلناه إلى موسى من قبله أنّه حق ،
وأن العمل بما لم ينسخه الإنجيل منه فرضٌ واجب " وآتيناه الإنجيل " ،
يقول : وأنزلنا إليه كتابنا الذي اسمه " الإنجيل " " فيه هدى ونور
" يقول : في الإنجيل " هدًى " ، وهو بيان ما جهله الناس من حكم
الله في زمانه " ونور " ، يقول : وضياء من عَمَى الجهالة " ومصدقًا
لما بين يديه " ، يقول : أوحينا إليه ذلك وأنزلناه إليه بتصديق ما كان قبله
من كتب الله التي كان أنزلها على كل أمة أُنزل إلى نبيِّها كتاب للعمل بما أنزل
إلى نبيهم في ذلك الكتاب ، من تحليل ما حلّل ، وتحريم ما حرّم
" وهدى وموعظة " ، يقول : أنزلنا الإنحيل إلى عيسى مصدِّقا للكتب التي
قبله ، وبيانًا لحكم الله الذي ارتضاه لعباده المتَّقين في زمان عيسى ، "
وموعظة " ، لهم يقول : وزجرًا لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبُّه من الأعمال ،
وتنبيهًا لهم عليه.
__________
(1) انظر تفسير " قفى " فيما سلف 2 : 318.
(10/373)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
و " المتقون " ، هم الذين
خافوا الله وحَذِروا عقابه ، فاتقوه بطاعته فيما أمرهم ، وحذروه بترك ما نهاهم عن
فعله. وقد مضى البيان عن ذلك بشواهده قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عزّ ذكره : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنزلَ
اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ (47) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : " وليحكم أهل الإنجيل " .
فقرأته قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين : (2) " وَلْيَحْكُمْ "
بتسكين " اللام " ، على وجه الأمر من الله لأهل الإنجيل : أن يحكموا بما
أنزل الله فيه من أحكامه. وكأنّ من قرأ ذلك كذلك ، أراد : وآتيناه الإنجيل فيه هدى
ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة ، وأمرنا أهْلَه أن يحكموا بما أنزل الله
فيه فيكون في الكلام محذوف ، ترك استغناءً بما ذكر عما حُذِف.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ ) بكسر "
اللام " ، من " ليحكم " ، بمعنى : كي يحكم أهل الإنجيل. وكأنّ معنى
من قرأ ذلك كذلك : وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة
، كي يحكم أهله بما فيه من حكم الله.
* * *
والذي نقول به في ذلك ، (3) أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، فبأيِّ ذلك
قرأ قارئ فمصيبٌ فيه الصوابَ.
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة : " فقرأ قراء الحجاز... " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " والذي يتراءى في ذلك " ، وفي المخطوطة : "
وللذي يترك [محذوفة النقط] به في ذلك " ، وأرجح أن صواب قراءتها ما أثبت.
(10/374)
وذلك أن الله تعالى لم ينزل كتابًا على
نبيٍّ من أنبيائه إلا ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه ، ولم ينزله
عليهم إلا وقد أمرهم بالعمل بما فيه ، فللعمل بما فيه أنزله ، وأمرًا بالعمل بما
فيه أنزله. (1) فكذلك الإنجيل ، إذ كان من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ،
فللعمل بما فيه أنزله على عيسى ، وأمرًا بالعمل به أهلَه أنزله عليه. (2) فسواءٌ
قرئ على وجه الأمر بتسكين " اللام " ، أو قرئ على وجه الخبر بكسرها ،
لاتفاق معنييهما.
* * *
وأما ما ذكر عن أبيّ بن كعب من قراءته ذلك( وأن ليحكم ) على وجه الأمر ، فذلك مما
لم يَصِحّ به النقل عنه. ولو صحّ أيضا ، لم يكن في ذلك ما يوجب أن تكون القراءة
بخلافه محظورةً ، إذ كان معناها صحيحًا ، وكان المتقدّمون من أئمة القرأة قد قرأوا
بها.
* * *
وإذ كان الأمر في ذلك على ما بيَّنَّا ، فتأويل الكلام ، إذا قرئ بكسر "
اللام " من " ليحكم " : وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدًى ونورٌ
ومصدقًا لما بين يديه من التوراة وهدًى وموعظة للمتقين ، وكيْ يحكم أهلُ الإنجيل
بما أنزلنا فيه ، فبدّلوا حكمه وخالفوه ، فضلُّوا بخلافهم إياه إذ لم يحكموا بما
أنزل الله فيه وخالفوه " فأولئك هم الفاسقون " ، يعني : الخارجين عن أمر
الله فيه ، المخالفين له فيما أمرهم ونهاهم في كتابه.
* * *
فأما إذا قرئ بتسكين " اللام " ، فتأويله : وآتينا عيسى ابن مريم
الإنجيل ، فيه هدى ونورٌ ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وأمرنا أهله أن يحكُموا
بما أنزلنا
__________
(1) في المطبوعة : " وأمر بالعمل بما فيه أهله " ، فغير ما في المخطوطة
تغييرًا مفسدًا للمعنى ، مزيلا لقصد أبي جعفر من هذه الجملة التي احتج بها في
تقارب معنى القراءتين. وهذا عجب من سوء التصرف. وكذلك سيفعل في الجملة التالية ،
كما سترى في التعليق.
(2) في المطبوعة ، أسقط قوله : " أنزله عليه " وكتب " وأمر بالعمل
به أهله " ، فأخل بمقصد أبي جعفر ، كما فعل بالجملة السالفة. انظر التعليق
السالف.
(10/375)
فيه ، فلم يطيعونا في أمرنا إياهم بما
أمرناهم به فيه ، ولكنهم خالفوا أمرنا ، فالذين خالفوا أمرنا الذي أمرناهم به فيه
، هم الفاسقون.
* * *
وكان ابن زيد يقول : " الفاسقون " ، في هذا الموضع وفي غيره ، هم
الكاذبون.
12103 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله
: " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك
هم الفاسقون " ، قال : ومن لم يحكم من أهل الإنجيل أيضًا بذلك " فأولئك
هم الفاسقون " ، قال : الكاذبون. بهذا قال. وقال ابن زيد : كل شيء في القرآن
إلا قليلا " فاسق " فهو كاذب. وقرأ قول الله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ) [سورة الحجرات : 6] قال : "
الفاسق " ، ههنا ، كاذب.
* * *
وقد بينا معنى " الفسق " بشواهده فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا
الموضع. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف ص : 189 تعليق : 4 ، والمراجع هناك.
وعند هذا الموضع ، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه مخطوطتنا ، وفيها ما
نصه :
" يتلوه القول في تأويل قوله :
{وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بِيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عليه}.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم كثيرًا " .
ثمّ يتلوه ما نصه :
" بسم الله الرحمن الرحيم "
(10/376)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ }
قال أبو جعفر : وهذا خطابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى ذكره : أنزلنا إليك ، يا محمد ، " الكتاب " ، وهو القرآن
الذى أنزله عليه ويعني بقوله : " بالحق " ، بالصدق ولا كذب فيه ، ولا شك
أنه من عند الله (1) " مصدقًا لما بين يديه من الكتاب " ، يقول :
أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التى أنزلها إلى أنبيائه
" ومهيمنًا عليه " ، يقول : أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك ، يا محمد
، مصدّقًا للكتب قبله ، وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله ، أمينًا عليها ، حافظا
لها.
* * *
وأصل " الهيمنة " ، الحفظ والارتقاب. يقال ، إذا رَقَب الرجل الشيء
وحفظه وشَهِده : " قد هيمن فلان عليه ، فهو يُهَيمن هيمنة ، وهو عليه مهيمن
" .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، إلا أنهم اختلفت عباراتهم عنه.
فقال بعضهم : معناه : شهيدًا.
ذكر من قال ذلك :
12103م - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ومهيمنًا عليه " ، يقول :
شهيدًا.
12104 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ومهيمنًا عليه " ، قال : شهيدًا عليه.
__________
(1) انظر تفسير " الحق " فيما سلف 7 : 97/9 : 227.
(10/377)
12105 - حدثني بشر بن معاذ قال ، حدثنا
يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا
لما بين يديه من الكتاب " ، يقول : الكتب التي خلت قبله " ومهيمنًا عليه
" ، أمينًا وشاهدًا على الكتب التي خلت قبله.
* * *
12106 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد : " ومهيمنًا عليه " ، مؤتمنًا على القرآن ، وشاهدًا ومصدِّقًا
وقال ابن جريج : وقال : آخرون (1) القرآن أمين على الكتب فيما إذا أخبرنا أهل
الكتاب في كتابهم بأمرٍ ، إن كان في القرآن فصدقوا ، وإلا فكذبوا.
* * *
وقال بعضهم : معناه : أمينٌ عليه.
ذكر من قال ذلك :
12107 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن وحدثنا هناد بن السري قال ،
حدثنا وكيع جميعًا ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : "
ومهيمنًا عليه " ، قال : مؤتمنًا عليه.
12108 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن
التميمي ، عن ابن عباس في قوله : " ومهيمنًا عليه " ، قال : مؤتمنًا
عليه.
12109 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا سفيان وإسرائيل ، عن أبي
إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله.
12110 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ،
بإسناده ، عن ابن عباس ، مثله.
12111 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عطية قال ، حدثنا إسرائيل ،
__________
(1) في المطبوعة : " وقال ابن جريج وآخرون " ، والصواب من المخطوطة.
(10/378)
عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن
عباس ، مثله.
12112 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي
، عن ابن عباس ، مثله.
12113 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن
رجل من تميم ، عن ابن عباس ، مثله. (1)
12114 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " ومهيمنًا عليه " ، قال :
والمهيمن الأمين : قال : القرآن أمين على كلِّ كتاب قبله.
12115 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقًا لما بين
يديه من الكتاب " ، وهو القرآن ، شاهد على التوراة والإنجيل ، مصدقًا لهما
" ومهيمنًا عليه " ، يعني : أمينًا عليه ، يحكم على ما كان قبله من
الكتب.
12116 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن قيس ، عن أبي إسحاق ،
عن التميمي ، عن ابن عباس : " ومهيمنًا عليه " ، قال : مؤتمنًا عليه.
12117 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن زهير ، عن أبي إسحاق ، عن
رجل من بني تميم ، عن ابن عباس : " ومهيمنًا عليه " ، قال : مؤتمنًا
عليه.
__________
(1) الآثار 12107 - 12113 - " التميمي " و " رجل من تميم " ،
هو " أربدة التميمي " ، يروي التفسير عن ابن عباس ، رواه عنه أبو إسحق
السبيعي ، مضى برقم : 1928 ، 1929 ، ولكن كتب أخي السيد أحمد على الأثر رقم : 2095
، ثم كتبت أنا على الآثار من رقم : 3986 - 3989 ، أنه رجل مجهول من تميم ، ولكن
الصواب أنه معروف وهو " أربدة التميمي " ، وهو تابعي ثقة. ثم انظر
الآثار الآتية من رقم : 12116 - 12118.
(10/379)
12118 - حدثني المثنى قال ، حدثنا يحيى
الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله. (1)
12119 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان
وإسرائيل ، عن علي بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير : " ومهيمنًا عليه " قال
: مؤتمنًا على ما قبله من الكتب.
12120 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء قال : سألت الحسين عن
قوله : " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب
ومهيمنًا عليه " ، قال : مصدقًا لهذه الكتب ، وأمينا عليها. وسئل عنها عكرمة
وأنا أسمع فقال : مؤتمنًا عليه.
* * *
وقال آخرون : معنى " المهيمن " ، المصدق.
ذكر من قال ذلك :
12121 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
ومهيمنًا عليه " ، قال : مصدِّقًا عليه. كل شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل
أو زَبُورٍ ، فالقرآن مصدِّق على ذلك. وكل شيء ذكر الله في القرآن ، فهو مصدِّقٌ
عليها وعلى ما حُدِّث عنها أنه حق.
* * *
وقال آخرون : عنى بقوله : " مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه
" ، نبي الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك :
12122 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن
__________
(1) الآثار : 12116 - 12118 - " التميمي " ، و " رجل من بني تميم
" ، هو " أربدة التميمي " ، انظر التعليق السالف.
(10/380)
ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "
ومهيمنًا عليه " ، محمد صلى الله عليه وسلم ، مؤتمنٌ على القرآن.
12123 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد : " ومهيمنًا عليه " ، قال : محمد صلى الله عليه وسلم ،
مؤتمنٌ على القرآن.
* * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام على ما تأوّله مجاهد : وأنزلنا الكتاب مصدقًا الكتبَ
قبله إليك ، مهيمنا عليه فيكون قوله : " مصدقًا " حالا من " الكتاب
" وبعضًا منه ، ويكون " التصديق " من صفة " الكتاب " ، و
" المهيمن " حالا من " الكاف " التي في " إليك " ،
وهي كناية عن ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم ، و " الهاء " في قوله :
" عليه " ، عائدة على الكتاب.
* * *
وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب ، بل هو خطأ. وذلك أنّ " المهيمن
" عطفٌ على " المصدق " ، فلا يكون إلا من صفة ما كان "
المصدِّق " صفةً له. ولو كان معنى الكلام ما روي عن مجاهد ، لقيل : "
وأنزلنا إليك الكتاب مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب مهيمنًا عليه " (1)
لأنه لم يتقدم من صفة " الكاف " التي في " إليك " بعدَها شيءٌ
يكون " مهيمنًا عليه " عطفًا عليه ، (2) وإنما عطف به على " المصدق
" ، لأنه من صفة " الكتاب " الذي من صفته " المصدق " .
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ومهيمنًا " بالواو ، والصواب إسقاطها ،
لأنه أراد إسقاط العطف ، إذ كان " مهيمنًا " حالا من " الكاف
" في " إليك " ، غير معطوف على شيء قبله ، كما ترى في بقية كلامه.
(2) في المطبوعة : " لأنه متقدم من صفة الكاف التي في إليك وليس بعدها شئ...
" ، فزاد " وليس " ، وليست في المخطوطة ، وجعل " يتقدم "
" متقدم " ، إذ كان في المخطوطة خطأ ، فأساء الفهم ، وأساء التصرف!! كان
في المخطوطة كما أثبت إلا أنه كتب " لأنه يتقدم من صفة الكاف " سقط من
الناسخ " لم " ، فأثبتها ، واستقام الكلام على وجهه.
(10/381)
فإن ظن ظان أن " المصدق "
على قول مجاهد وتأويلهِ هذا من صفة " الكاف " التي في " إليك
" ، فإن قوله : " لما بين يديه من الكتاب " ، يبطل أن يكون تأويل
ذلك كذلك ، وأن يكون " المصدق " من صفة " الكاف " التي في
" إليك " . لأن " الهاء " في قوله : " بين يديه " ،
كناية اسم غير المخاطب ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " إليك "
. (1) ولو كان " المصدق " من صفة " الكاف " ، لكان الكلام :
وأنزلنا إليك الكتاب مصدِّقًا لما بين يديك من الكتاب ، (2) ومهيمنا عليه فيكون
معنى الكلام حينئذٍ كذلك. (3)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ }
قال أبو جعفر : وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن
يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهلِ الملل بكتابه الذي أنزله إليه ،
وهو القرآن الذي خصّه بشريعته. يقول تعالى ذكره : احكم ، يا محمد ، بين أهل الكتاب
والمشركين بما أُنزل إليك من كتابي وأحكامي في كل ما احتمكوا فيه إليك ، من الحدود
والجُرُوح والقَوَد والنفوس ، فارجم الزاني المحصَن ، واقتل النفسَ القاتلةَ
بالنفس المقتولة ظلمًا ، وافقأ العين بالعين ، واجدع الأنف بالأنف ، فإني أنزلت
إليك القرآن مصدِّقًا في ذلك ما بين يديه من الكتب ، ومهيمنًا عليه رقيبًا ، يقضي
على ما قبله من سائر الكتب قبلَه ، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين
__________
(1) في المخطوطة : " والنبي صلى الله عليه... " بإسقاط " هو "
، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المخطوطة : " لما بين يديه " ، والصواب ما في المطبوعة.
(3) في المخطوطة : " فيكون معنى الكلام حينئذ يكون كذلك " ، بزيادة
" يكون " ، والصواب ما في المخطوطة ، إلا أن يكون الناسخ أسقط من الكلام
شيئًا. ومع ذلك ، فالذي في المطبوعة مستقيم.
(10/382)
يقولون : إن أوتيتم الجلدَ في الزاني
المحصن دون الرجم ، وقتلَ الوضيع بالشريف إذا قتله ، وتركَ قتل الشريف بالوضيع إذا
قتله ، فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا (1) عن الذي جاءك من عند الله من الحق ، وهو
كتاب الله الذي أنزله إليك. يقول له : اعمل بكتابي الذي أنزلته إليك إذا احتكموا
إليك فاخترتَ الحكم عليهم ، (2) ولا تتركنَّ العمل بذلك اتباعًا منك أهواءَهم ،
وإيثارًا لها على الحق الذي أنزلته إليك في كتابي ، كما : -
12124 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فاحكم بينهم بما أنزل الله " ،
يقول : بحدود الله " ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق " .
12125 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن عامر ، عن
مسروق : أنه كان يحلف اليهوديَّ والنصراني بالله ، ثم قرأ : ( وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ ) [سورة المائدة : 49] ، (3) وأنزل الله : ( أَلا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) [سورة الأنعام : 151].
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لكل قوم منكم جعلنا شرعةً. (4)
* * *
__________
(1) السياق : " ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود... عن الذي جاءك من عند الله...
" .
(2) في المطبوعة : " فاختر الحكم " ، والصواب ما في المخطوطة ، لأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم مخير في الحكم بينهم وفي ترك الحكم ، كما سلف ص : 333.
(3) في المخطوطة : " ثم قرأ : فإن جاءوك فاحكم بينهم بما أنزل الله " ،
وصواب الاستدلال في هذه الآية من المائدة ، أما آية المائدة الأخرى (42) ،
فتلاوتها : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، وليس فيها الدليل
الذي تطلبه في استحلافهم بالله عز وجل.
(4) انظر تفسير " كل " فيما سلف 3 : 193/6 : 209/8 : 269.
(10/383)
و " الشرعة " هي "
الشريعة " بعينها ، تجمع " الشرعة " " شِرَعًا " ، (1)
" والشريعة " " شرائع " . ولو جمعت " الشرعة "
" شرائع " ، كان صوابًا ، لأن معناها ومعنى " الشريعة " واحد
، فيردّها عند الجمع إلى لفظ نظيرها. وكل ما شرعت فيه من شيء فهو " شريعة
" . ومن ذلك قيل : لشريعة الماء " شريعة " ، لأنه يُشْرع منها إلى
الماء. ومنه سميت شرائع الإسلام " شرائع " ، لشروع أهله فيه. ومنه قيل
للقوم إذا تساووا في الشيء : " هم شَرَعٌ " ، سواءٌ.
* * *
وأما " المنهاج " ، فإنّ أصله : الطريقُ البيِّن الواضح ، يقال منه :
" هو طريق نَهْجٌ ، وَمنهْجٌ " ، بيِّنٌ ، كما قال الراجز : (2)
مَنْ يكُ فِي شَكٍّ فَهذَا فَلْجُ... مَاءٌ رَوَاءٌ وَطَرِيقٌ نَهْجُ (3)
ثم يستعمل في كل شيء كان بينًا واضحًا سهلا.
* * *
فمعنى الكلام : لكل قوم منكم جعلنا طريقًا إلى الحق يؤمُّه ، وسبيلا واضحًا يعمل
به.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " تجمع الشرعة شراعًا " ، وهذا خطأ من
الناسخ لاشك فيه ، فإن جمع " فعلة " (بكسر فسكون) إنما يكسر على "
فعل " (بكسر ففتح) ، في الصحيح وفي غيره مثل " كسر " ، و "
لحى " . وقد جاء في " فعلة " " فعال " ، وهو قليل ، كجمع
" لقحة " و " لقاح " ، و " حقة " ، و " حقاق
" . فجائز أن يكون " شراع " جمعًا عزيزًا للشرعة ، ولكن الأقرب في
مثل ذلك أن يذكر الجمع الذي أطبق عليه القياس.
(2) كأنه راجز من بني العنبر بن عمرو بن تميم.
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 168 ، ومعجم ما استعجم : 1027 ، واللسان (روي) ،
وروايتهم جميعًا : " من يك ذا شك " . ولكن هكذا جاء في المخطوطة
والمطبوعة.
و " فلج " (بفتح فسكون) : ماءه لبني العنبر بن عمرو بن تميم ، يكثر ذكره
في شعر بني تميم ، ويمتدحون ماءه ، قال بعض الأعراب : أَلا شَرْبَةٌ مِنْ مَاءٍ
مُزْنٍ عَلَى الصَّفَا ... حَدِيثَهُ عَهْد بالسَّحَاب المُسَخَّرِ
إلَى رَصَفٍ مِنْ بَطْنِ فَلْجٍ ، كأَنَّهَا ... إذَا ذُقْتَهَا بَيُّوتَةً مَاءُ
سُكَّرِ
و " ماء رواء " (بفتح الراء) : الماء العذب الذي فيه للواردين ري.
(10/384)
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيِّ
بقوله : " لكل جعلنا منكم " .
فقال بعضهم : عنى بذلك أهلَ الملل المختلفة ، أي : أن الله جعل لكل مِلّةٍ شريعة
ومنهاجًا.
ذكر من قال ذلك :
12126 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا " يقول : سبيلا وسُنّة. والسنن مختلفة :
للتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ، يحلُّ الله فيها ما يشاء ،
ويحرِّم ما يشاء بلاءً ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا
يقبل غيره : التوحيدُ والإخلاصُ لله ، الذي جاءت به الرسل.
12127 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا " ، قال : الدينُ واحد ،
والشريعةُ مختلفة.
12128 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن هاشم قال أخبرنا
سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي قال : الإيمان منذُ بَعث الله
تعالى ذكره آدم صلى الله عليه وسلم : شهادةُ أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما
جاء من عند الله ، لكلّ قوم ما جاءَهم من شرعة أو منهاج ، فلا يكون المقرُّ تاركًا
، ولكنه مُطِيع. (1)
* * *
وقال آخرون : بل عنى بذلك أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم. وقالوا : إنما معنى
الكلام : قد جعلنا الكتاب الذي أنزلناه إلى نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم ،
__________
(1) الأثر : 12128 - " عبد الله بن هاشم " ، لم أعرف من يكون. وقد مضى
في الإسنادين رقم : 7329 ، 7938 ، في مثل هذا الإسناد نفسه.
و " سيف بن عمر التميمي " ، مضى برقم : 7329 ، 7938 ، وهو ساقط الرواية.
وكان في المطبوعة هنا أيضا ، كما في الإسنادين المذكورين : " سيف بن عمرو
" ، وهو خطأ محض.
(10/385)
أيها الناس ، لكُلِّكم أي لكل من دخل
في الإسلام وأقرّ بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه لي نبيٌّ شرعةً ومنهاجا.
ذكر من قال ذلك :
12129 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا " قال : سنة ، "
ومنهاجًا " ، السبيل " لكلكم " ، من دخل في دين محمد صلى الله عليه
وسلم ، فقد جعل الله له شرعة ومنهاجًا. يقول : القرآن ، هو له شرعة ومنهاج.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قولُ من قال : معناه : لكل
أهل ملة منكم ، أيها الأمم جعلنا شِرعةً ومنهاجًا.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لقوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ
أُمَّةً وَاحِدَةً ) ولو كان عنى بقوله : " لكل جعلنا منكم " ، أمة محمد
، وهم أمّة واحدةٌ ، لم يكن لقوله : " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة "
، وقد فعل ذلك فجعلهم أمة واحدة معنىً مفهوم. ولكن معنى ذلك ، على ما جرى به
الخطاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أنه ذكر ما كتب على بني إسرائيل
في التوراة ، وتقدم إليهم بالعمل بما فيها ، ثم ذكر أنه قفَّي بعيسى ابن مريم على
آثار الأنبياء قبله ، وأنزل عليه الإنجيل ، وأمر من بَعثه إليه بالعمل بما فيه. ثم
ذكر نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وأخبره أنه أنزل إليه الكتابَ مصدِّقًا
لما بين يديه من الكتاب ، وأمره بالعمل بما فيه ، والحكم بما أنزل إليه فيه دون ما
في سائر الكتب غيره وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعةً غيرَ شرائع الأنبياء
والأمم قبلَه الذين قصَّ عليهم قصصَهم ، وإن كان دينه ودينهم - في توحيد الله ،
والإقرار بما جاءهم به من عنده ، والانتهاء إلى أمره ونهيه - واحدًا ، فهم مختلفو
الأحوال فيما شرع لكم واحد منهم ولأمته فيما أحلّ لهم وحرَّم عليهم.
* * *
(10/386)
وبنحو الذي قلنا في " الشرعة
" و " المنهاج " من التأويل ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12130 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا مسعر ، عن أبي
إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا "
قال : سنةً وسبيلا.
12131 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن
التميمي ، عن ابن عباس : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا " ، قال : سنة
وسبيلا.
12132 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان وإسرائيل وأبيه ، عن أبي إسحاق
، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله.
12133 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو يحيى الرازي ، عن أبي سنان ، عن أبي إسحاق ،
عن يحيى بن وثَّاب قال : سألت ابن عباس عن قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة
ومنهاجًا " ، قال : سنة وسبيلا. (1)
12134 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق
، عن التميمي ، عن ابن عباس : " شرعة ومنهاجًا " ، قال : سنة وسبيلا.
12135 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن
رجل من بني تميم ، عن ابن عباس ، بمثله.
__________
(1) الأثر : 12133 - " أبو يحيى الرازي " أو " أبو يحيى العبدي
" هو : " إسحق بن سلمان الرازي " ، ثقة. مضى برقم : 6456.
و " أبو سنان " هو : " سعيد بن سنان البرجمي " . روى عن أبي
إسحق السبيعي ، وروى عنه إسحق بن سليمان أبو يحيى الرازي. مضى برقم : 175 ، 11240.
وكان في المطبوعة : " أبو شيبان " ، وهو خطأ صرف.
و " يحيى بن وثاب الأسدي " المقرئ. روى عن ابن عمر ، وابن عباس. وروى
عنه أبو إسحق السبيعي. قال ابن سعد : " كان ثقة قليل الحديث صاحب قرآن "
. ومضى برقم : 11488.
(10/387)
12136 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا
حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله.
12137 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا " يعني :
سبيلا وسنةً.
12138 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين قال : سمعت
الحسن يقول : " الشرعة " ، السنة.
12139 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي يحيى
القتات ، عن مجاهد قال : سنة وسبيلا. (1)
12140 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : " شرعة ومنهاجًا " ، قال :
" الشرعة " ، السنة " ومنهاجًا " ، قال : السبيل.
12141 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، بنحوه.
12142 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا
" ، يقول : سبيلا وسنة.
12143 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحوضي قال ، حدثنا شعبة قال ، حدثنا أبو إسحاق
قال : سمعت رجلا من بني تميم ، عن ابن عباس ، بنحوه. (2)
12144 - حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن المفضل قال ،
__________
(1) الأثر : 12139 - " أبو يحيى القتات الكناني " ، مختلف في اسمه. وهو
ضعيف متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر : 12143 - " الحوضي " هو " حفص بن عمر بن الحارث بن
سخبرة النمري " أبو عمر الحوضي ، ثقة ثبت متقن. مضى برقم : 11449.
(10/388)
حدثنا أسباط ، عن السدي : " شرعة
ومنهاجًا " ، يقول : سبيلا وسنة.
12145 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : السنَّة والسبيل.
12146 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا " ، يقول : سبيلا وسنة.
12147 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، أخبرني
عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " شرعة ومنهاجًا " ،
قال : سبيلا وسنةً.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } "
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولو شاء ربُّكم لجعل شرائعكم واحدة ، ولم يجعل
لكل أمة شريعةً ومنهاجًا غيرَ شرائع الأمم الأخر ومنهاجهم ، فكنتم تكونون أمة
واحدةً لا تختلف شرائعكم ومنهاجكم ، ولكنه تعالى ذكره يعلم ذلك ، فخالف بين
شرائعكم ليختبركم ، فيعرف المطيع منكم من العاصي ، والعاملَ بما أمره في الكتاب
الذي أنزله إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم من المخالف.
* * *
و " الابتلاء " : هو الاختيار ، وقد أبنتُ ذلك بشواهده فيما مضى قبلُ.
(1)
* * *
وقوله : " فيما آتاكم " ، يعني : فيما أنزل عليكم من الكتب ، كما : -
__________
(1) انظر تفسير " الابتلاء " فيما سلف 2 : 49/3 : 7/7 : 574 ، تعليق : 1
، والمراجع هناك.
وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا : " وقد ثبت ذلك " ، وليس بشيء ، أخطأ
الناسخ ، صوابها ما أثبت.
(10/389)
12148 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا
الحسين ، قال ، ثني حجاح ، عن ابن جريج : (ولكن ليبلوكم فيما آتاكم) قال عبد الله
بن كثير : لا أعلمه إلا قال ، ليبلوكم فيما آتاكم من الكتب.
* * *
فإن قال قائل : وكيف قال : " ليبلوكم فيما آتاكم " ، ومن المخاطب بذلك ؟
وقد ذكرت أنّ المعنيَّ بقوله : " لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا " نبيُّنا
مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممِهم ، والذين قبل نبيّنا صلى الله عليه وسلم على
حِدَةٍ ؟ (1)
قيل : إن الخطاب وإن كان لنبينا صلى الله عليه وسلم : فإنه قد أريد به الخبر عن
الأنبياء قبله وأممهم. ولكن العرب من شأنها إذا خاطبت إنسانًا وضمَّت إليه غائبًا
، فأرادت الخبر عنه ، أن تغلِّب المخاطب ، فيخرج الخبرُ عنهما على وجه الخطاب ،
فلذلك قال تعالى ذكره : " لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا " .
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فبادروا أيها الناس ، إلى الصالحات من الأعمال ،
والقُرَب إلى ربكم ، بإدمان العمل بما في كتابكم الذي أنزله إلى
__________
(1) كانت هذه الجملة في المطبوعة : " وقد ذكرت أن المعنى : لكل جعلنا منكم
شرعة ومنهاجًا. لكل نبي من الأنبياء الذين مضوا قبله وأممهم الذين قبل نبينا صلى
الله عليه وسلم ، والمخاطب النبي وحده " . غير ما في المخطوطة ، وحذف منه
وزاد فيه. و في المخطوطة : " وقد ذكرت أن المعنى : لكل جعلنا منكم شرعة
ومنهاجًا نبيا مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممهم ، والذين قبل نبينا صلى الله
عليه وسلم حده " . وهو سياق لا يستقيم ، ورجحت أن الناسخ أسقط " قوله
" قبل الآيه ، وأسقط " على " من قوله : " على حدة " .
لأن مراد أبي جعفر أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يدخل في خطابه خطاب
الأنبياء الذين قبله هم وأممهم. وأما الذي في المطبوعة ، فهو تصرف جاوز حده.
(10/390)
نبيكم ، فإنه إنما أنزله امتحانًا لكم
وابتلاءً ، ليتبين المحسن منكم من المسيء ، فيجازي جميعكم على عمله جزاءَه عند
مصيركم إليه ، فإن إليه مصيركم جميعًا ، فيخبر كلَّ فريق منكم بما كان يخالف فيه
الفرقَ الأخرى ، فيفْصَل بينهم بفصل القضاء ، وتُبِينُ المحقَّ مجازاته إياه
بجناته ، (1) من المسيء بعقابه إياه بالنار ، فيتبين حينئذ كل حزب عيانًا ،
المحقَّ منهم من المبطل. (2)
* * *
فإن قال قائل : أو لم ينبئنا ربُّنا في الدنيا قبل مرجعنا إليه ما نحن فيه مختلفون
؟
قيل : إنه بيَّن ذلك في الدنيا بالرسل والأدلة والحجج ، دون الثواب والعقاب عيانًا
، فمصدق بذلك ومكذِّب. وأما عند المرجع إليه ، فإنه ينبئهم بذلك بالمجازاة التي لا
يشكُّون معها في معرفة المحق والمبطل ، ولا يقدرون على إدخال اللبس معها على
أنفسهم. فكذلك خبرُه تعالى ذكره أنه ينبئنا عند المرجع إليه بما كنَّا فيه نختلف
في الدنيا. وإنما معنى ذلك : إلى الله مرجعكم جميعًا ، فتعرفون المحقَّ حينئذ من
المبطل منكم ، كما : -
12149 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن حباب ، عن أبي سنان قال : سمعت الضحاك
يقول : " فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعًا " ، قال : أمة محمد
صلى الله عليه وسلم ، البرُّ والفاجر. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " ويبين المحق بمجازاته إياه... " ، أساء قراءة
المخطوطة ، فتصرف فيها.
(2) انظر تفسير " استبق " فيما سلف 3 : 196 وتفسير " الخيرات
" فيما سلف 3 : 196 وتفسير " المراجع " فيما سلف 6 : 464 وتفسير
" أنبأ " و " النبأ " فيما سلف 1 : 488 ، 489/6 : 259 ،
404/10 : 201
(3) الأثر : 12149 - " أبو سنان " هو : " سعيد بن سنان " ،
مضى قريبا برقم : 12133.
(10/391)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله
" ، وأنزلنا إليك ، يا محمد ، الكتابَ مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ، وأنِ
احكم بينهم فـ " أن " في موضع نصب بـ " التنزيل " .
* * *
ويعني بقوله : " بما أنزل الله " ، بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه.
* * *
وأما قوله : " ولا تتبع أهواءهم " ، فإنه نهيٌ من الله نبيَّه محمدًا
صلى الله عليه وسلم أن يتّبع أهواء اليهود الذين احتكموا إليه في قتيلهم
وفاجِرَيْهم ، (1) وأمرٌ منه له بلزوم العمل بكتابه الذي أنزله إليه.
* * *
وقوله : " واحذرهم أن يفتِنُوك عن بعض ما أنزل الله إليك " ، يقول تعالى
ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم : واحذر ، يا محمد ، هؤلاء اليهود الذين
جاءوك محتكمين إليك " أن يفتنوك " ، فيصدُّوك عن بعض ما أنزل الله إليك
من حكم كتابه ، فيحملوك على ترك العمل به واتّباع أهوائهم. (2)
* * *
وقوله : " فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " ،
يقول تعالى ذكره : فإن تولى هؤلاء اليهود الذين اختصموا إليك عنك ، فتركوا العمل
بما حكمت به
__________
(1) قوله : " وفاجريهم " ، يعني اليهودي واليهودية اللذان زنيا ، فرجمها
صلى الله عليه وسلم.
(2) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف 10 : 317 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(10/392)
عليهم وقضيت فيهم (1) " فاعلم
أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " ، يقول : فاعلم أنهم لم يتولوا عن
الرضى بحكمك وقد قضيت بالحقّ ، إلا من أجل أن الله يريد أن يتعجّل عقوبتهم في عاجل
الدنيا ببعض ما قد سلف من ذنوبهم (2) " وإن كثيرًا من الناس لفاسقون " ،
يقول : وإن كثيرًا من اليهود " لفاسقون " ، يقول : لتاركُو العمل بكتاب
الله ، ولخارجون عن طاعته إلى معصيته. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الروايةُ عن أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12150 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني
محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن
عباس قال : قال كعب بن أسد ، وابن صوريا وشأس بن قيس ، (4) بعضُهم لبعضٍ : اذهبوا
بنا إلى محمد ، لعلّنا نفتنه عن دينه! فأتوه فقالوا : يا محمد ، إنك قد عرفت أنَّا
أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وأنَّا إن اتّبعناك اتّبعنا يهود ولم يخالفونا ،
وأن بيننا وبين قومِنا خصومة ، فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، ونؤمن لك
ونصدقك! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله فيهم : " وأنِ احكم
بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتِنُوك عن بعض ما أنزل الله
إليك " ، إلى قوله : " لقوم يوقنون " . (5)
12151 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "
واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " ، قال : أن يقولوا : " في
__________
(1) انظر تفسير " تولى " فيما سلف 10 : 336 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف 8 : 514 ، 538 ، 540 ، 555.
(3) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف 10 : 393 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(4) في ابن هشام : " وابن صلوبا ، وعبد الله بن صوريا " .
(5) الأثر : 12150 - سيرة ابن هشام 2 : 216 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 11974.
(10/393)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
التوراة كذا " ، وقد بينَّا لك ما
في التوراة. وقرأ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ) [سورة المائدة : 45] ، بعضُها ببعضٍ.
12152 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، قال : دخل المجوسُ
مع أهل الكتاب في هذه الآية : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " .
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أيبغي هؤلاء اليهود الذين احتكموا إليك ، فلم
يرضوا بحكمك ، (1) إذ حكمت فيهم بالقسط (2) " حكم الجاهلية " ، يعني :
أحكام عبَدة الأوثان من أهل الشرك ، وعندهم كتاب الله فيه بيان حقيقة الحكم الذي
حكمت به فيهم ، وأنه الحق الذي لا يجوزُ خلافه.
ثم قال تعالى ذكره موبِّخا لهؤلاء الذين أبوا قَبُول حكم رسول الله صلى الله عليه
وسلم عليهم ولهم من اليهود ، ومستجهلا فعلَهم ذلك منهم : ومَنْ هذا الذي هو أحسن
حكمًا ، أيها اليهود ، من الله تعالى ذكره عند من كان يوقن بوحدانية الله ، ويقرُّ
بربوبيته ؟ يقول تعالى ذكره : أيّ حكم أحسن من حكم الله ، إن كنتم موقنين أن لكم
ربًّا ، وكنتم أهل توحيدٍ وإقرار به ؟
* * *
__________
(1) انظر تفسير " بغى " و " ابتغى " فيما سلف 10 : 290 ،
تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة : " وقد حكمت " ، وفي المخطوطة : " أو حكمت "
، وصوابها ما أثبت.
(10/394)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال مجاهد.
12153 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " أفحكم الجاهلية يبغون " ، قال : يهود.
12154 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " أفحكم الجاهلية يبغون " ، يهود.
12155 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا شيخ ، عن مجاهد : "
أفحكم الجاهلية يبغون " ، قال : يهود.
* * *
(10/395)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
القول في تأويل قوله عز ذكره : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بهذه الآية ، وإن كان مأمورًا بذلك
جميع المؤمنين.
فقال بعضهم : عنى بذلك عبادة بن الصامت ، وعبد الله بن أبي ابن سلول ، في براءة
عُبَادة من حلف اليهود ، وفي تمسك عبد الله بن أبي ابن سلول بحلف اليهود ، بعد ما
ظهرت عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وأخبره الله أنه إذا تولاهم وتمسَّك
بحلفهم : أنه منهم في براءته من الله ورسوله كَبرَاءتهم منهما.
ذكر من قال ذلك :
12156 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أبي ، عن عطية بن سعد
قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج ، إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال : يا رسول الله ، إن لي موالي من يهود كثيرٌ
(10/395)
عدَدُهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله
من وَلاية يهود ، وأتولَّى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي : إنّي رجل أخاف
الدَّوائر ، لا أبرأ من ولاية مواليّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد
الله ابن أبيّ : يا أبا الحباب ، ما بخلتَ به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت
فهو إليك دونه ؟ (1) قال : قد قبلتُ. فأنزل الله : " يا أيها الذين آمنوا لا
تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضُهم أولياء بعض " إلى قوله : " فترى
الذين في قلوبهم مرض " .
12157 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثني عثمان بن عبد الرحمن ،
عن الزهري قال : لما انهزم أهلُ بدر ، قال المسلمون لأوليائهم من يهود : آمنوا قبل
أن يصيبكم الله بيوٍم مثل يوم بدر! فقال مالك بن صيف : غرَّكم أن أصبتم رهطًا من
قريش لا علم لهم بالقتال!! أما لو أمْرَرْنَا العزيمة أن نستجمع عليكم ، (2) لم
يكن لكم يدٌ أن تقاتلونا! فقال عبادة : يا رسول الله ، إن أوليائي من اليهود كانت
شديدةً أنفسهم ، كثيًرا سلاحهم ، شديدةً شَوْكتُهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى
رسوله من وَلايتهم ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبيّ : لكني
لا أبرأ من ولاء يهود ، إنّي رجل لا بدَّ لي منهم! فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " يا أبا حُباب ، أرأيت الذي نَفِست به من ولاء يهود على عبادة ، فهو
لك دونه ؟ قال : إذًا أقبلُ! فأنزل الله تعالى ذكره : " يا أيها الذين آمنوا
لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعض أولياء بعض " إلى أن بلغ إلى قوله :
" والله يعصمك من الناس " . (3)
12158 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس قال ، حدثنا ابن إسحاق قال ،
__________
(1) في المخطوطة : " فهو إلى دونه " ، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة : " أسررنا العزيمة " ، وهو خطأ ، والصواب من المخطوطة.
" أمر الحبل يمره إمرارًا " : فتله فتلاً محكمًا قويًا. يعني : أجمعنا
عزيمتنا.
(3) الأثر : 12157 - " عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري
" ، ضعيف متروك الحديث. مضى برقم : 5754.
(10/396)
حدثني والدي إسحاق بن يسار ، عن عبادة
بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، تشبَّث بأمرهم عبد الله بن أبيّ وقام دونهم ، ومشى عبادة بن الصامت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحد بني عوف بن الخزرج ، له من حلفهم مثلُ الذي
لهم من عبد الله بن أبيّ فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ إلى
الله وإلى رسوله من حلفهم ، وقال : يا رسول الله ، أتبرَّأ إلى الله وإلى رسوله من
حلفهم ، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف الكُفّار وَولايتهم! ففيه
وفي عبد الله بن أبيّ نزلت الآيات في " المائدة " : " يا أيها
الذين آمنوا لا تتْخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعضٍ " ، الآية.
(1)
* * *
وقال آخرون : بل عُني بذلك قومٌ من المؤمنين كانوا هَمُّوا حين نالهم بأحُدٍ من
أعدائهم من المشركين ما نالهم أن يأخذوا من اليهود عِصَمًا ، (2) فنهاهم الله عن
ذلك ، وأعلمهم أنّ من فعل ذلك منهم فهو منهم.
ذكر من قال ذلك :
12159 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم
أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ، قال : لما كانت وقعة أحُدٍ ، اشتدّ
على طائفة من الناس ، وتخوَّفوا أن يُدَال عليهم الكفَّار ، (3) فقال رجل لصاحبه :
أمَّا أنا فألحق بدهلك اليهوديّ ، فآخذ منه أمانًا وأتهَوّد معه ، (4) فإني أخاف
أن تُدال علينا اليهود. وقال الآخر : أمَّا أنا فألحق بفلانٍ النصراني ببعض أرض
__________
(1) الأثر : 12158 - سيرة ابن هشام 3 : 52 ، 53.
(2) " العصم " جمع " عصمة " : وهي الحبال والعهود ، تعصمهم
وتمنعهم من الضياع.
(3) " أديل عليه " (بالبناء للمجهول) : أي كانت له الدولة والغلبة.
(4) " دهلك اليهودي " لم أجد له ذكرًا فيما بين يدي من الكتب. وأخشى أن
يكون اسمه تحريف.
(10/397)
الشأم ، فآخذ منه أمانًا وأتنصَّر معه
، فأنزل الله تعالى ذكره ينهاهما : " يا آيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودَ
والنصارَى أولياءَ بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي
القوم الظالمين " .
* * *
وقال آخرون : بل عُني بذلك أبو لبابة بن عبد المنذر ، في إعلامه بني قريظة إذ
رَضُوا بحكم سعدٍ : أنه الذَّبح.
ذكر من قال ذلك :
12160 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
عكرمة قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم
أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم أبا لُبابة بن عبد المنذر ، من الأوس وهو من بني عمرو بن عوف فبعثه إلى قريظة
حين نَقَضت العهد ، فلما أطاعوا له بالنزول ، (1) أشار إلى حلقه : الذَّبْحَ الذَّبْحَ.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهَىَ
المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاءَ على أهل الإيمان بالله
ورسوله وغيرَهم ، (2) وأخبر أنه من اتخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًّا من دون الله
ورسوله والمؤمنين ، فإنه منهم في التحزُّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين ، وأن
الله ورسوله منه بريئان. وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد
الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود ويجوز أن تكون نزلت في أبي لبابة بسبب
فعله في بني قريظة ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرَّجلين اللذين ذكر السدي أن
أحدَهما همَّ باللحاق بدهلك اليهودي ، والآخر بنصرانيّ بالشأم ولم
__________
(1) في المخطوطة : " أطاعوا الله بالنزول " ، والجيد ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة ، حذف قوله : " وغيرهم " .
(10/398)
يصحّ بواحدٍ من هذه الأقوال الثلاثة
خبرٌ تثبت بمثله حجة ، فيسلّم لصحته القولُ بأنه كما قيل.
فإذْ كان ذلك كذلك ، فالصواب أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عمَّ ، ويجوز
ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه. غير أنه لا شك أن
الآية نزلت في منافق كان يوالي يهودًا أو نصارى خوفًا على نفسه من دوائر الدهر ،
لأن الآية التي بعد هذه تدلّ على ذلك ، وذلك قوله : ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا
دَائِرَةٌ ) الآية.
وأما قوله : " بعضهم أولياء بعض " ، فإنه عنى بذلك : أن بعض اليهود
أنصار بعضهم على المؤمنين ، ويد واحدة على جميعهم وأن النصارى كذلك ، بعضهم أنصار
بعض على من خالف دينهم وملتهم معرِّفًا بذلك عباده المؤمنين : أنّ من كان لهم أو
لبعضهم وليًّا ، فإنما هو وليهُّم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين ، كما اليهود
والنصارى لهم حَرْب. فقال تعالى ذكره للمؤمنين : فكونوا أنتم أيضًا بعضكم أولياء
بعض ، ولليهوديّ والنصراني حربًا كما هم لكم حرب ، وبعضهم لبعض أولياء ، لأن من
والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحربَ ، ومنهم البراءة ، وأبان قطع وَلايتهم. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " ولي " و " أولياء " فيما سلف 9 : 319 ،
تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(10/399)
القول في تأويل قوله عز ذكره : {
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ومن يتولهم منكم فإنه منهم "
، ومن يتولَّ اليهود والنصارى دون المؤمنين ، فإنه منهم. يقول : فإن من تولاهم
ونصرَهم على المؤمنين ، فهو من أهل دينهم وملتهم ، فإنه لا يتولى متولً أحدًا إلا
وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ. وإذا رضيه ورضي دينَه ، فقد عادى ما خالفه
وسَخِطه ، وصار حكُمه حُكمَه ، (1) ولذلك حَكَم مَنْ حكم من أهل العلم لنصارى بني
تغلب في ذبائحهم ونكاح نسائهم وغير ذلك من أمورهم ، بأحكام نصَارَى بني إسرائيل ،
لموالاتهم إياهم ، ورضاهم بملتهم ، ونصرتهم لهم عليها ، وإن كانت أنسابهم لأنسابهم
مخالفة ، وأصل دينهم لأصل دينهم مفارقًا.
* * *
وفي ذلك الدلالةُ الواضحة على صحة ما نقول ، من أن كل من كان يدين بدينٍ فله حكم
أهل ذلك الدين ، كانت دينونته به قبل مجيء الإسلام أو بعده. إلا أن يكون مسلمًا من
أهل ديننا انتقل إلى ملّة غيرِها ، فإنه لا يُقَرُّ على ما دان به فانتقل إليه ،
ولكن يقتل لردَّته عن الإسلام ومفارقته دين الحق ، إلا أن يرجع قبل القَتْل إلى
الدين الحق (2) وفسادِ ما خالفه من قول من زعم : أنه لا يحكم بحكم أهل الكتابين
لمن دان بدينهم ، إلا أن يكون إسرائيليًّا أو منتقلا إلى دينهم من غيرهم قبل نزول
الفرقان. فأما من دان بدينهم بعد نزول الفُرْقان ، ممن لم يكن منهم ، ممن خالف
نسبُه نسبهم وجنسه جنسهم ، فإنه حكمه لحكمهم مخالفٌ. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف 9 : 319 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(2) قوله : " وفساد ما خالفه " ، مجرور معطوف على قوله آنفا : "
وفي ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما نقول " .
(3) انظر ما سلف 9 : 573 - 587
(10/400)
ذكر من قال بما قلنا من التأويل.
12161 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرُّؤَاسي ، عن ابن أبي
ليلى ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير قال : سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب ،
فقرأ : " ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم " . (1)
12162 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا
تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم "
، أنها في الذبائح. من دخل في دين قوم فهو منهم.
12163 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس قال : كلوا من ذبائح بني تغلب ، وتزوّجوا من نسائهم ، فإن
الله بقول في كتابه : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى
أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ، ولو لم يكونوا منهم
إلا بالولاية لكانوا منهم.
12164 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة ، عن هشام قال : كان
الحسن لا يرى بذبائح نصارى العرب ولا نكاح نسائهم بأسًا ، وكان يتلو هذه الآية :
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودَ والنصارَى أولياء بعضهم أولياء بعض
ومن يتولهَّم منكم فإنه منهم " . (2)
12165 - حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد ، قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن
__________
(1) الأثر : 12161 - " حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي " ، ثقة. مضى برقم :
178 ، 886 ، 5347.
(2) الأثر : 12164 - " حسين بن علي بن الوليد الجعفي " ، مضى مرارًا ،
منها : 29 ، 174 ، 441 ، 4415 ، 7287 ، 7499 ، 11463 ، وكان في المطبوعة "
حسن بن علي " ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة غير منقوط.
و " زائدة " ، هو : " زائدة بن قدامة الثقفي " ، مضى برقم :
29 ، 4897 ، 7287.
(10/401)
هارون بن إبراهيم قال : سئل ابن سيرين
عن رجل يبيع دارَه من نصارَى يتخذونها بِيعَةً ، قال : فتلا هذه الآية : " لا
تتَّخِذوا اليهود والنصارى أولياء " .
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : إن الله لا يوفِّق من وضع الولاية في غير
موضعها ، فوالى اليهود والنصارى مع عداوتهم الله ورسوله والمؤمنين على المؤمنين ،
وكان لهم ظهيًرا ونصيرًا ، لأن من تولاهم فهو لله ولرسوله وللمؤمنين حَرْبٌ.
وقد بينا معنى " الظلم " في غير هذا الموضع ، وأنه وضع الشيء في غير
موضعه ، بما أغنى عن إعادته.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ
فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية.
فقال بعضهم : عنى بها عبد الله بن أبي ابن سلول.
ذكر من قال ذلك :
12166 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أبي ، عن عطية بن سعد :
" فترى الذين في قلوبهم مرض " ، عبد الله بن أبي " يسارعون
(10/402)
فيهم " ، في ولايتهم "
يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة " ، إلى آخر الآية : " فيصبحوا على ما
أسرُّوا في أنفسهم نادمين " .
12167 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا ابن إسحاق قال ، حدثني
والدي إسحاق بن يسار ، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت : " فترى الذين
في قلوبهم مرض " ، يعني عبد الله بن أبي " يسارعون فيهم يقولون نخشى أن
تصيبنا دائرة " ، لقوله : إني أخشى دائرةً تُصِيبني! (1)
* * *
وقال آخرون : بل عُني بذلك قومٌ من المنافقين كانوا يُناصِحون اليهود ويغشون
المؤمنين ، ويقولون : " نخشى أن تكون الدائرة لليهود على المؤمنين " !
(2)
ذكر من قال ذلك :
12168 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : " فترى الذين في قلوبهم مرض
يسارعون فيهم " ، قال : المنافقون ، في مصانعة يهود ، ومناجاتهم ، واسترضاعهم
أولادَهم إياهم وقول الله تعالى ذكره : " نخشى أن تصيبنا دائرة " ، قال
يقول : نخشى أن تكون الدَّائرة لليهود.
12169 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
12170 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة
قوله : " فترى الذين في قلوبهم مرض " إلى قوله : " نادمين " ،
أُناسٌ من المنافقين كانوا يوادُّون اليهود ويناصحونهم دون المؤمنين.
12171 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ،
__________
(1) الأثر : 12167 - سيرة ابن هشام 3 : 53 ، مختصرًا وهو تابع الأثر السالف رقم :
12158.
(2) في المطبوعة : " أن تكون دائرة " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/403)
حدثنا أسباط ، عن السدي : " فترى
الذين في قلوبهم مرض " ، قال : شك " يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا
دائرة " ، و " الدائرة " ، ظهور المشركين عليهم.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن ذلك من الله خبر عن
ناس من المنافقين كانوا يوالون اليهودَ والنصارى ويغشُّون المؤمنين ، ويقولون :
نخشى أن تدور دوائر إما لليهود والنصارى ، وإما لأهل الشرك من عبدة الأوثان ، أو
غيرهم على أهل الإسلام ، أو تنزل بهؤلاء المنافقين نازلةٌ ، فيكون بنا إليهم حاجة.
وقد يجوز أن يكون ذلك كان من قول عبد الله بن أبي ، ويجوز أن يكون كان من قول غيره
، غير أنه لا شك أنه من قول المنافقين.
* * *
فتأويل الكلام إذًا : فترى ، يا محمد ، الذين في قلوبهم شكٌّ ، (1) ومرضُ إيمانٍ
بنبوّتك وتصديق ما جئتهم به من عند ربك (2) " يسارعون فيهم " ، يعني في
اليهود والنصارى ويعني بمسارعتهم فيهم : مسارعتهم في مُوالاتهم ومصانعتهم (3)
" يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة " ، يقول هؤلاء المنافقون : إنما نسارع
في موالاة هؤلاء اليهود والنصارى ، خوفًا من دائرة تدور علينا من عدوّنا. (4)
* * *
ويعني بـ " الدائرة " ، الدولة ، كما قال الراجز : (5)
تَرُدُّ عَنْكَ القَدَرَ المَقْدُورَا... وَدَائِرَاتِ الدَّهْرِ أَنْ تَدُورَا
(6)
__________
(1) في المطبوعة : " في قلوبهم مرض وشك إيمان " ، غير ما في المخطوطة
وهو الصواب المحض. لأنه يريد : أن المرض قد دخل إيمانهم وتصديقهم ، بعد ذكر "
الشك " .
(2) انظر تفسير " المرض " فيما سلف 1 : 278 - 281.
(3) انظر تفسير " المسارعة " فيما سلف 7 : 130 ، 207 ، 418/10 : 301 وما
بعدها.
(4) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف ص : 1393 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(5) هو حميد الأرقط.
(6) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 169 ، ولم أجد سائر الرجز.
(10/404)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
يعني : أن تدول للدهر دولة ، فنحتاج
إلى نصرتهم إيانا ، فنحن نواليهم لذلك. فقال الله تعالى ذكره لهم : " فعسى
الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين
" .
* * *
القول في تأويل قوله : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ
مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
}
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر
من عنده " ، فلعل الله أن يأتي بالفتح. (1)
* * *
ثم اختلفوا في تأويل " الفتح " في هذا الموضع.
فقال بعضهم : عُنى به ههنا ، القضاء.
ذكر من قال ذلك :
12172 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
فعسى الله أن يأتي بالفتح " ، قال : بالقضاء.
* * *
وقال آخرون : عني به فتح مكة.
ذكر من قال ذلك :
12173 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " فعسى الله أن يأتي بالفتح " ، قال : فتح مكة.
* * *
و " الفتح " في ، كلام العرب ، هو القضاء ، كما قال قتادة ، ومنه قول
الله تعالى
__________
(1) انظر تفسير " عسى " فيما سلف 4 : 298/8 : 579.
(10/405)
ذكره : ( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ) [سورة الأعراف : 89].
وقد يجوز أن يكون ذلك القضاء الذي وعدَ الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله
: " فعسى الله أن يأتي بالفتح " فتح ، مكة ، لأن ذلك كان من عظيم قضاءِ
الله ، وفَصْل حُكمه بين أهل الإيمان والكفر ، ومقرِّرًا عند أهل الكفر والنفاق ،
(1) أن الله معلي كلمته وموهن كيد الكافرين. (2)
* * *
وأما قوله : " أو أمر من عنده " ، فإن السدي كان يقول في ذلك ، ما : -
12174 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " أو أمر من عنده " قال : " الأمر " ، الجزية.
* * *
وقد يحتمل أن يكون " الأمر " الذي وعد الله نبيه محمدًا صلى الله عليه
وسلم أن يأتي به هو الجزية ، ويحتمل أن يكون غيرها. (3) غير أنه أيّ ذلك كان ، فهو
مما فيه إدالة المؤمنين على أهل الكفر بالله وبرسوله ، ومما يسوء المنافقين ولا
يسرُّهم. وذلك أن الله تعالى ذكره قد أخبر عنهم أنّ ذلك الأمر إذا جاء ، أصبحوا
على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين.
* * *
وأما قوله : " فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين " ، فإنه يعني
هؤلاء المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود والنصارى. يقول تعالى ذكره : لعل الله
أن يأتي بأمرٍ من عنده يُديل به المؤمنين على الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم
من أهل الكفر ، فيصبح هؤلاء المنافقون على ما أسرُّوا في أنفسهم من مخالّة اليهود
والنصارى ومودّتهم ، وبغْضَة المؤمنين ومُحَادّتهم ، " نادمين " ، كما :
-
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " ويقرر " ، وكأن الصواب ما أثبت.
(2) انظر تفسير " الفتح " فيما سلف 2 : 254 ، 332/9 : 323 ، 324.
(3) في المخطوطة : " أن يكون إلى غيرها " ، وكأنه خطأ من الناسخ.
(10/406)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
12175 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد
قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين
" ، من موادّتهم اليهود ، ومن غِشِّهم للإسلام وأهله.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : " ويقول الذين آمنوا " .
فقرأتها قرأة أهل المدينة : ( فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين يقول الذين
آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله ) بغير " واو " .
* * *
وتأويل الكلام على هذه القراءة : فيصبح المنافقون ، إذا أتى الله بالفتح أو أمرٍ
من عنده ، على ما أسروا في أنفسهم نادمين ، يقول المؤمنون تعجُّبًا منهم ومن
نفاقهم وكذبهم واجترائهم على الله في أيمانهم الكاذبة بالله : أهؤلاء الذين
أقسمُوا لنا بالله إنهم لمعنا ، وهم كاذبون في أيمانهم لنا ؟ وهذا المعنى قصَد
مجاهد في تأويله ذلك ، الذي : -
12176 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد : " فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده " ، حينئذ ، "
يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد إيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم
فأصبحوا خاسرين " .
* * *
(10/407)
وكذلك ذلك في مصاحف أهل المدينة بغير
" واو " . (1)
وقرأ ذلك بعض البصريين : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ) بالواو ، ونصب "
يقول " عطفًا به على " فعسى الله أن يأتي بالفتح " . وذكر قارئ ذلك
أنه كان يقول : إنما أريد بذلك : فعسى الله أن يأتي بالفتح ، وعسى أن يقولَ الذين
آمنوا ومحالٌ غير ذلك ، لأنه لا يجوز أن يقال : " وعسى الله أن يقول الذين
آمنوا " ، وكان يقول : ذلك نحو قولهم : " أكلت خبزًا ولبنًا " ،
كقول الشاعر :
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الوَغَى... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (2)
* * *
فتأويل الكلام على هذه القراءة : فعسى الله أن يأتي بالفتح المؤمنين ، أو أمر من
عنده يُديلهم به على أهل الكفر من أعدائهم ، فيصبح المنافقون على ما أسرُّوا في
أنفسهم نادمين وعسى أن يقول الذين آمنوا حينئذ : أهؤلاء الذين أقسموا بالله كذبًا
جهدَ أيمانهم إنهم لمعكم ؟
* * *
وهي في مصاحف أهل العراق بالواو : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا )
* * *
وقرأ ذلك قرأة الكوفيين( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ) بالواو ، ورفع " يقول
" ، بالاستقبال والسلامة من الجوازم و النواصب.
* * *
وتأويل من قرأ ذلك كذلك : فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم يندمون ، ويقول الذين
آمنوا فيبتدئ " يقول " فيرفعها.
* * *
قال أبو جعفر : وقراءتنا التي نحن عليها " وَيَقُولُ " بإثبات "
الواو " في
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 313.
(2) مضى تخريجه في 1 : 140 ، 265/6 : 423.
(10/408)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
" ويقول " ، لأنها كذلك هي
في مصاحِفِنا مصاحف أهل المشرق ، بالواو ، وبرفع " يقول " على الابتداء.
* * *
فتأويل الكلام إذْ كانت القراءة عندنا على ما وصفنا (1) : فيصبحوا على ما أسرُّوا
في أنفسهم نادمين ، ويقولُ المؤمنون : أهؤلاء الذين حَلَفوا لنا بالله جهد أيمانهم
كَذِبًا إنهم لمعنا ؟
* * *
يقول لله تعالى ذكره ، مخبرًا عن حالهم عنده بنفاقهم وخبث أعمالهم " حبطت
أعمالهم " ، يقول : ذهبت أعمالهم التي عملوها في الدنيا باطلا لا ثواب لها
ولا أجر ، لأنهم عملوها على غير يقين منهم بأنها عليهم لله فرضٌ واجب ، ولا على
صِحّة إيمان بالله ورسوله ، وإنما كانوا يعملونها ليدفعوا المؤمنين بها عن أنفسهم
وأموالهم وذراريهم ، فأحبط الله أجرَها ، إذ لم تكن له (2) " فأصبحوا خاسرين
" ، يقول : فأصبح هؤلاء المنافقون ، عند مجيء أمر الله بإدالة المؤمنين على
أهل الكفر ، قد وُكِسوا في شرائهم الدنيا بالآخرة ، وخابت صفقتهم ، وهَلَكوا. (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ
عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله وبرسوله : " يا أيها الذين
آمنوا " ، أي : صدّقوا لله ورسوله ، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيُّهم محمد صلى
الله عليه وسلم " من يرتد منكم عن دينه " ، يقول : من يرجع منكم عن دينه
الحق الذي
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " إذ كان القراءة " ، والجيد ما أثبت.
(2) انظر تفسير " حبط " فيما سلف 9 : 592 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " خسر " فيما سلف ص : 224 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(10/409)
هو عليه اليوم ، فيبدِّله ويغيره
بدخوله في الكفر ، إما في اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من صنوف الكفر ، (1)
فلن يضر الله شيئا ، وسيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، يقول : فسوف يجيء الله بدلا
منهم ، المؤمنين الذين لم يبدِّلوا ولم يغيروا ولم يرتدوا ، بقومٍ خير من الذين
ارتدُّوا وابدَّلوا دينهم ، يحبهم الله ويحبون الله. (2)
وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتدُّ بعد وفاةِ نبيّه محمد صلى
الله عليه وسلم. وكذلك وعدُه من وعدَ من المؤمنين ما وعدَه في هذه الآية ، لمن سبق
له في علمه أنه لا يبدّل ولا يغير دينه ، ولا يرتدّ. فلما قَبَض الله نبيَّه صلى
الله عليه وسلم ، ارتدّ أقوام من أهل الوبَرِ ، وبعضُ أهل المَدَر ، فأبدل الله
المؤمنين بخيرٍ منهم كما قال تعالى ذكره ، ووفى للمؤمنين بوعده ، وأنفذ فيمن ارتدَّ
منهم وعيدَه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12177 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الله بن عياش ، عن أبي
صخر ، عن محمد بن كعب : أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يومًا ، وعمر أمير المدينة
يومئذ ، فقال : يا أبا حمزة ، آية أسهرتني البارحة! قال محمدٌ : وما هي ، أيها
الأمير ؟ قال : قول الله : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه
" حتى بلغ " ولا يخافون لومة لائم " . فقال محمد : أيها الأمير ،
إنما عنى الله بالذين آمنوا ، الولاةَ من قريش ، من يرتدَّ عن الحق. (3)
__________
(1) انظر تفسير " ارتد " فيما سلف ص : 170 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) سياق هذه العبارة : " فسوف يجي الله... المؤمنين... بقوم... " .
(3) الأثر : 12177 - " عبد الله بن عياش بن عباس القتباني " ، ليس
بالمتين ، وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
و " أبو صخر " هو " حميد بن زياد الخراط " ، مضى مرارًا ،
منها برقم : 4280 ، 4325 ، 5386 ، 8391 ، 11867 ، 11891.
ثم انظر الأثر التالي برقم : 12199.
(10/410)
ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم
الذين أتى الله بهم المؤمنين ، وأبدل المؤمنين مكانَ من ارتدَّ منهم.
فقال بعضهم : هو أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة حتى أدخلوهم من
الباب الذي خرجوا منه.
ذكر من قال ذلك :
12178 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن الفضل بن دلهم ، عن
الحسن في قوله : " يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله
بقوم يحبهم ويحبونه " ، قال : هذا والله أبو بكر وأصحابه. (1)
12179 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الفضل بن دلهم ، عن الحسن ، مثله.
12180 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن جويبر ، عن سهل ، عن الحسن في
قوله : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، قال : أبو بكر وأصحابه.
12181 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين بن علي ، عن أبي موسى قال : قرأ الحسن :
" فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، قال : هي والله لأبي بكر
وأصحابه. (2)
12182 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال ، حدثنا أحمد بن بشير ، عن هشام ،
__________
(1) الأثر : 12178 - " الفضل بن دلهم الواسطي القصاب " . مختلف في أمره.
مضى برقم : 4928.
(2) الأثر : 12181 - " حسين بن علي بن الوليد الجعفي " ، مضى قريبًا :
12164.
و " أبو موسى " ، هو : " إسرائيل بن موسى البصري " ، نزيل
الهند. روى عن الحسن البصري. ثقة لا بأس به. مترجم في التهذيب.
(10/411)
عن الحسن في قوله : " فسوف يأتي
الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، قال : نزلت في أبي بكر وأصحابه. (1)
12183 - حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد
المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون
لومة لائم " ، قال : هو أبو بكر وأصحابه. لما ارتد من ارتدَّ من العرب عن
الإسلام ، جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردَّهم إلى الإسلام.
12184 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، إلى قوله :
" والله واسع عليم " ، أنزل الله هذه الآية وقد علم أن سيرتدُّ مرتدُّون
من الناس ، فلما قبض الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم ، ارتدّ عامة العرب عن
الإسلام إلا ثلاثة مساجد : أهل المدينة ، وأهل مكة ، وأهل البحرين من عبد القيس
قالوا : نصلي ولا نزكِّي ، والله لا تُغصب أموالنا! (2) فكُلِّم أبو بكر في ذلك
فقيل له : إنهم لو قد فُقِّهوا لهذا أعطوها أو : أدَّوها (3) فقال : لا والله ، لا
أفرق بين شيء جمع الله بينه ، ولو منعوا عِقالا مما فرضَ الله ورسوله لقاتلناهم
عليه! (4)
__________
(1) الأثر : 12182 - " نصر بن عبد الرحمن الأزدي " ، هكذا جاء هنا أيضًا
في المخطوطة والمطبوعة : " الأودي " ، وقد سلف أن تكلم عليه أخي السيد
أحمد ، وصححه " الأزدي " كما أثبته هنا ، ولكني في شك من تصحيح ذلك كذلك
، لكثرة إثباته في التفسير في كل مكان " الأودي " انظر ما سلف : 423 ،
875 ، 2859 ، 8783.
و " أحمد بن بشير القرشي المخزومي " ، أبو بكر الكوفي. مضى برقم : 7819.
و " هشام " هو : " هشام بن عروة بن الزبير بن العوام " ، مضى
برقم : 2889 ، 8461.
(2) القائلون : " نصلي ولا نزكي " ، هم الذين ارتدور من عامة العرب.
(3) في المطبوعة : " أعطوها أو زادوها " ، وهو تخليط فاحش ، وصوابه من
المخطوطة وقوله : " أو : أدوها " ، كأنه قال : روى بدل " أعطوها
" ، " أدوها " . و " الهاء " فيهما راجعة إلى "
الزكاة " التي منعوها.
(4) " العقال " (بكسر العين) : زكاة عام من الإبل والغنم. يقال : "
أخذ منهم عقال هذا العام " ، أي زكاته وصدقته. وقد فسره آخرون بأنه الحبل
الذي كان تعقل به الفريضة التي كانت تؤخذ في الصدقة. وذلك أنه كان على صاحب الإبل
أن يؤدي مع كل فريضة عقالا تعقل به ، و " رواء " أي : حبلا. ويروي الخبر
" لو منعوني عناقًا " . و " العناق " : الأنثى من أولاد المعز
، إذا أتت عليها سنة.
(10/412)
فبعث الله عصابة مع أبي بكر ، فقاتل
على ما قاتل عليه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، حتى سبَى وقتل وحرق بالنيران
أناسًا ارتدّوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة ، فقاتلهم حتى أقرّوا بالماعون وهي
الزكاة صَغرة أقمياء. (1) فأتته وفود العرب ، فخيَّرهم بين خُطَّة مخزية أو حرب
مُجْلية. فاختاروا الخطة المخزية ، وكانت أهون عليهم أن يقرُّوا : أن قتلاهم في
النار ، وأن قتلى المؤمنين في الجنة ، (2) وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردّوه
عليهم ، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال.
12185 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله :
" يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
ويحبونه " ، قال ابن جريج : ارتدوا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فقاتلهم أبو بكر.
12186 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن هشام
__________
(1) " صغرة " جمع " صاغر " : وهو الراضي بالذل والضيم. و
" أقمياء " جمع " قمئ " : وهو الذليل الضارع المتضائل. والذي
في كتب اللغة من جمع " قمئ " " قماء " (بكسر القاف) و "
قماء " (بضمها). وقد مر في الأثر رقم : 4221 " قمأة " في المخطوطة
، وانظر التعليق عليه هناك. و " أقمياء " جمع عزيز هنا ، فإن "
فعيلا " الصفة ، يجمع قياسا على " أفعلاء " ، إذا كان مضاعفًا ،
مثل " شديد " و " أشداء " ، وكذلك إذا كان ناقصا واويًا أو
يائيًا ، نحو " غني " و " أغنياء " ، و " شقي " و
" أشقياء " . أما الصحيح ، فقليل جمعه على " أفعلاء " ، مثل
" صديق " و " أصدقاء " . فإذا صحت رواية " أقمياء "
في هذا الخبر ، فهو صحيح في العربية إن شاء الله ، لهذه العلة ولغيرها أيضا.
(2) في المطبوعة : " أن يستعدوا أن قتلاهم في النار " ، وفي المخطوطة
مثلها غير منقوطة ، ولم أجد لها تحريفًا أقرب مما أثبت ، استظهرته من الخبر الذي
رواه الشعبي ، عن ابن مسعود وهو : قوله : " فوالله ما رضى لهم إلا بالخطة
المخزية ، أو الحرب المجلية. فأما الخطة المخزية فأن أقروا بأن من قتل منهم في
النار ، وأن ما أخذوا من أموالنا مردود علينا. وأما الحرب المجلية ، فأن يخرجوا من
ديارهم " (فتوح البلدان للبلاذري : 101).
(10/413)
قال ، أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق
، عن الضحاك ، عن أبي أيوب ، عن علي في قوله : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد
منكم عن دينه " ، قال : عَلِم الله المؤمنين ، ووقع معنى السوء على الحَشْو
الذي فيهم من المنافقين ومن في علمه أن يرتدُّوا ، (1) قال : " يا أيها الذين
آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله " ، المرتدَّة في دورهم (2)
" بقوم يحبهم ويحبونه " ، بأبي بكر وأصحابه. (3)
* * *
وقال آخرون : يعني بذلك قومًا من أهل اليمن. وقال بعض من قال ذلك منهم : هم رهط
أبي موسى الأشعري ، عبد الله بن قيس. (4)
ذكر من قال ذلك :
12188 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن
سماك بن حرب ، عن عياض الأشعري قال : لما نزلت هذه الآية ، " يا أيها الذين
آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ،
__________
(1) في المطبوعة : " وأوقع معنى السوء " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وأنا
في شك من العبارة كلها ، وإن كان لها وجه ومعنى.
(2) في المطبوعة : " المرتدة عن دينهم " ، وفي المخطوطة : " في
دينهم " ، والصواب ما أثبته من الأثر التالي رقم : 12201.
(3) الأثر : 12186 - في المطبوعة : " سيف بن عمرو " ، وهو خطأ ، صوابه
ما أثبت من المخطوطة. وقد مضى مثل هذا الأثر برقم : 12128 وفيه " عبد الله بن
هشام " . وقد ذكرت هنالك أني لم أعرفه. وسقط من الترقيم ؛ رقم : 12187 سهوًا.
(4) عن هذا الموضع ، انتهى جزء من تقسيم قديم ، وفي المخطوطة ما نصه :
" يتلوه : ذكر من قال ذلك.
وصلى الله على محمد " .
ثم يتلوه ما نصه :
" بسم الله الرحمن الرحيم
رَبِّ يَسِّرْ برحمتك " .
(10/414)
قال : أومأ رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى أبي موسى بشيء كان معه ، فقال : هم قومُ هذا!
12189 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا أبو الوليد قال ، حدثنا شعبة ، عن سماك بن
حرب ، قال : سمعت عياضًا يحدّث عن أبي موسى : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه
الآية : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، قال : يعني قوم أبي
موسى.
12190 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن شعبة قال أبو
السائب : قال أصحابنا : هو : " عن سماك بن حرب " ، وأنا لا أحفظ "
سماكًا " عن عياض الأشعريّ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هم قوم هذا
يعني أبا موسى.
12191 - حدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا ابن إدريس ، عن شعبة ، عن سماك ، عن عياض
الأشعري ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى : هم قوم هذا في قوله : "
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " .
12192 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا شعبة ، عن سماك بن حرب
قال : سمعت عياضًا الأشعري يقول : لما نزلت : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
ويحبونه " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هم قومك يا أبا موسى! أو قال
: هم قوم هذا يعني أبا موسى. (1)
__________
(1) الآثار : 12188 - 12192 - " عياض الأشعري " ، هو " عياض بن
عمرو الأشعري " ، تابعي ، مختلف في صحبته ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
مرسلا. رأى أبا عبيدة بن الجراح ، وعمر بن الخطاب ، وأبا موسى الأشعري ، وغيرهم.
قال ابن سعد 6 : 104 : " كان قليل الحديث " . روى عنه الشعبي ، وسماك بن
حرب. مترجم في التهذيب ، وأسد الغابة ، والإصابة ، والاستيعاب : 498 ، والكبير
للبخاري 4/ 1/ 19.
وهذا الخبر رواه ابن سعد في الطبقات 4/ 1/ 79 ، من طريق عبد الله بن إدريس ، وعفان
بن مسلم ، عن شعبة ، عن سماك ، عن عياض. والحاكم في المستدرك 2 : 313 ، من طريق
وهب بن جرير ، وسعيد بن عامر ، عن شعبة ، عن سماك ، عن عياض ، وقال : " هذا
حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي. وخرجه الهيثمي في
مجمع الزوائد 7 : 16 ، وقال : " رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح " .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 292 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة في مسنده ،
وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ،
وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل. وذكره ابن كثير في تفسيره 3 : 179 ، 180 ، عن
ابن أبي حاتم ، عن عمر بن شبة ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن شعبة.
(10/415)
12193 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبو سفيان الحميري ، عن حصين ، عن عياض أو : ابن عياض " فسوف يأتي الله بقوم
يحبهم ويحبونه " ، قال : هم أهل اليمن. (1)
12194 - حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا أبو المغيرة قال ، حدثنا صفوان قال ، حدثنا
عبد الرحمن بن جبير ، عن شريح بن عبيد قال : لما أنزل الله : " يا أيها الذين
آمنوا من يرتد منكم عن دينه " إلى آخر الآية ، قال عمر : أنا وقومي هم ، يا
رسول الله ؟ قال : " لا بل هذا وقومه! يعني أبا موسى الأشعري. (2)
* * *
__________
(1) الأثر : 12193 - " وأبو سفيان الحميري " ، هو " سعيد بن يحيى
بن مهدي الحميري " الحذاء ، الواسطي. صدوق ، وقال الدارقطني : " متوسط
الحال ليس بالقوي " . مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2/ 1/ 477 ، وابن أبي
حاتم 2/ 1/ 74.
و " حصين " هو " حصين بن عبد الرحمن السلمي " ، ثقة ، من كبار
الأئمة. مضى برقم : 579 ، 2986.
و " عياض " هو الأشعري كما سلف في الآثار السابقة. وأما " ابن عياض
" ، فلم أجد من ذكر ذلك ، وكأنه شك من أبي سفيان الحميري ، أو سفيان بن وكيع.
وانظر تخريج الآثار السالفة.
(2) الأثر : 12194 - " محمد بن عوف بن سفيان الطائي " ، شيخ الطبري ،
ثقة حافظ ، مضى برقم : 5445.
و " أبو المغيرة " هو : " عبد القدوس بن الحجاج الخولاني " ،
" أبو المغيرة الحمصي " ثقة ، صدوق. مضى برقم : 10371.
و " صفوان " ، هو : " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي " ، سمع
عبد الرحمن بن جبير ، مضى برقم : 7009. وهو مترجم في التهذيب ، والكبير للبخاري 2/
2/ 309 ، وابن أبي حاتم 2/ 1/ 422 ، وفي ترجمته في التهذيب خطأ بين ، ذكر أنه مات
سنة (100) والصواب سنة (155) ، كما في التاريخ الكبير وغيره.
و " عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي " ، تابعي ثقة. مضى برقم : 186
، 187.
و " شريح بن عبيد بن شريح الحضرمي " تابعي ثقة ، مضى برقم : 5445. و
" صفون بن عمرو " يروي عن شريح مباشرة ، ولكنه روى هنا عنه بواسطة
" عبد الرحمن بن جبير " .
وهذا الأثر خرجه السيوطي في الدّرّ المنثور 2 : 292 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(10/416)
وقال آخرون منهم : بل هم أهل اليمن
جميعًا.
ذكر من قال ذلك :
12195 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " يحبهم ويحبونه " ، قال : أناسٌ من أهل
اليمن.
12196 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
12197 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد قال : هم قوم
سَبَأ.
12198 - حدثنا مطر بن محمد الضبي قال ، حدثنا أبو داود قال ، أخبرنا شعبة قال ،
أخبرني من سمع شهر بن حوشب قال : هم أهل اليمن. (1)
12199 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الله بن عياش ، عن أبي
صخر ، عن محمد بن كعب القرظي : أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يومًا ، وهو أمير
المدينة ، يسأله عن ذلك : فقال محمد : " يأتي الله بقوم " ، وهم أهل
اليمن! قال عمر : يا ليتني منهم! قال : آمين! (2)
* * *
وقال آخرون : هم أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك :
12200 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ،
__________
(1) الأثر : 12198 - " مطر بن محمد الضبي " ، شيخ الطبري ، لم أجد له
ترجمة ولا ذكرًا. وفيمن اسمه " مطر " : " مطر بن محمد بن نصر
التميمي الهروي " ، مترجم في تاريخ بغداد 3 : 275. و " مطر بن محمد بن
الضحاك السكري " ، يروي عن يزيد بن هرون. مترجم في لسان الميزان 6 : 49. ولا
أظنه أحدهما ، وأخشى أن يكون دخل اسمه بعض التحريف.
(2) الأثر : 12199 - انظر الأثر السالف رقم : 12177 ، والتعليق عليه.
(10/417)
حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا
أيها الذين آمنوا من يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه
" ، يزعم أنهم الأنصار.
* * *
وتأويل الآية على قول من قال : عنى الله بقوله : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
ويحبونه " ، أبا بكر وأصحابه في قتالهم أهل الرِّدَّة بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم : يا أيها الذين آمنوا ، من يرتدَّ منكم عن دينه فلن يضر الله شيئًا ،
وسيأتي الله من ارتد منكم عن دينه بقوم يحبهم ويحبونه ، ينتقم بهم منهم على
أيديهم. وبذلك جاء الخبر والرواية عن بعض من تأول ذلك كذلك :
12201 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن هشام قال ،
أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي في قوله : " يا أيها
الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم " ، قال يقول :
فسوف يأتي الله المرتدَّةَ في دورهم (1) " بقوم يحبهم ويحبونه " ، بأبي
بكر وأصحابه. (2)
* * *
وأما على قول من قال : عنى الله بذلك أهل اليمن ، فإن تأويله : يا أيها الذين
آمنوا ، من يرتد منكم عن دينه ، فسوف يأتي الله المؤمنين الذين لم يرتدوا ، بقوم
يحبهم ويحبونه ، أعوانًا لهم وأنصارًا. وبذلك جاءت الرواية عن بعض من كان يتأول
ذلك كذلك.
12202 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " يا أيها الذين
__________
(1) قوله : في دورهم " ، هو الصواب ، وقد كان في المخطوطة والمطبوعة ، في
الأثر السالف رقم : 12186 " في دينهم " و " عن دينهم " ،
والصواب هو الذي هنا. انظر التعليق السالف ص : 414 تعليق : 2.
(2) الأثر : 10201 - هو بعض الأثر السالف رقم : 12186 ، وكان في هذا الموضع أيضًا
" سيف بن عمرو " ، وهو خطأ ، كما بينته هناك.
(10/418)
آمنوا من يرتد منكم عن دينه "
الآية ، وعيدٌ من الله أنه من ارتدّ منكم ، أنه سيستبدل خيًرا منهم.
* * *
وأما على قول من قال : عنى بذلك الأنصار ، فإن تأويله في ذلك نظير تأويل من
تأوَّله أنه عُنِي به أبو بكر وأصحابه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، ما رُوي به الخبر عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم : أنهم أهل اليمن ، قوم أبي موسى الأشعري. ولولا الخبر
الذي روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر الذي روي عنه ، ما كان
القول عندي في ذلك إلا قول من قال : " هم أبو بكر وأصحابه " . وذلك أنه
لم يقاتل قومًا كانوا أظهروا الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
ارتدوا على أعقابهم كفارًا ، غير أبي بكر ومن كان معه ممن قاتل أهل الردة معه بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنا تركنا القول في ذلك للخبر الذي رُوي فيه عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنْ كان صلى الله عليه وسلم مَعْدِن البيان عن
تأويل ما أنزل الله من وحيه وآيِ كتابه. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل : فإن كان القومُ الذين ذكر الله أنه سيأتي بهم عند ارتداد من
ارتد عن دينه ، ممن كان قد أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل
اليمن ، فهل كان أهل اليمن أيام قتال أبي بكر رضي الله عنه أهل الردة أعوانَ أبي
بكر على قتالهم ، فتستجيز أن توجِّه تأويل الآية إلى ما وجِّهت إليه ؟ (2)
__________
(1) " المعدن " (بفتح الميم ، وسكون العين ، وكسر الدال) : مكان كل شيء
يكون فيه أصله ومبدؤه. ومنه قيل : " معدن الذهب والفضة " ، وهو الذي
نسميه اليوم " المنجم " ، حيث أنبت الله سبحانه وتعالى جوهرهما ،
وأثبتهما فيه. ومنه في المجاز ، ما جاء في الخبر : " فعن معادن العرب تسألوني
؟ قالوا : نعم " يعني : أصولها التي ينسبون إليها ، ويتفاخرون بها.
(2) في المطبوعة : " حتى تستجيز " ، وفي المخطوطة : " تستجير
" بغير " حتى " ، فآثرت قراءتها كما أثبتها.
(10/419)
أم لم يكونوا أعوانًا له عليهم ، فكيف
استجزت أن توجه تأويل الآية إلى ذلك ، وقد علمت أنه لا خُلْفَ لوعد الله ؟
قيل له : إن الله تعالى ذكره لم يعدِ المؤمنين أن يبدِّلهم بالمرتدِّين منهم يومئذ
، خيرًا من المرتدين لقتال المرتدين ، وإنما أخبر أنه سيأتيهم بخيرٍ منهم بدلا
منهم ، فقد فعل ذلك بهم قريبًا غير بعيد ، (1) فجاء بهم على عهد عمر ، فكان موقعهم
من الإسلام وأهله أحسن موقع ، وكانوا أعوان أهل الإسلام وأنفعَ لهم ممن كان ارتدَّ
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من طَغَام الأعراب وجُفاة أهل البوادي الذين
كانوا على أهل الإسلام كلا لا نفعًا ؟ (2)
* * *
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : " يا أيها الذين آمنوا من
يرتد منكم عن دينه " .
فقرأته قرأة أهل المدينة : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه ) ،
بإظهار التضعيف ، بدالين ، مجزومة " الدال " الآخرة. وكذلك ذلك في
مصاحفهم.
وأما قرأة أهل العراق ، فإنهم قرأوا ذلك : ( مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
) بالإدغام ، بدالٍ واحدة ، وتحريكها إلى الفتح ، بناء على التثنية ، لأن المجزوم
الذي يظهر تضعيفه في الواحد ، إذا ثنيّ أدغم. ويقال للواحد : " اردُدْ يا
فلان إلى فلان حقه " ، فإذا ثنى قيل : " ردّا إليه حقه " ، ولا
يقال : " ارددا " ، وكذلك في الجمع : " ردّوا " ، ولا يقال :
" ارددوا " ، فتبني العرب أحيانًا الواحد على الاثنين ، وتظهر
__________
(1) في المطبوعة : " يعد فعل ذلك " ، وهو لا معنى له ، والصواب ما في
المخطوطة.
(2) " الطغام " (بفتح الطاء) : أوغاد الناس وأراذلهم. و " الكل
" (بفتح الكاف) : العيال والثقل على صاحبه أو من يتولى أمره.
(10/420)
أحيانًا في الواحد التضعيفَ لسكون لام
الفعل. وكلتا اللغتين فصيحةٌ مشهورة في العرب. (1)
* * *
قال أبو جعفر : والقراءة في ذلك عندنا على ما هو به في مصاحفنا ومصاحف أهل المشرق
، بدال واحدة مشدّدة ، بترك إظهار التضعيف ، وبفتح " الدال " ، للعلة
التي وصفت.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " أذلة على المؤمنين " ،
أرقَّاء عليهم ، رحماءَ بهم.
* * *
من قول القائل : " ذلَّ فلان لفلان " . إذا خضع له واستكان. (2)
* * *
ويعني بقوله : " أعزة على الكافرين " ، أشداء عليهم ، غُلَظاء بهم.
* * *
من قول القائل : " قد عزّني فلان " ، إذا أظهر العزة من نفسه له ، وأبدى
له الجفوة والغِلْظة. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12203 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن هاشم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " في العرف " ، وآثرت قراءتها كما أثبتها ،
وهو الصواب.
(2) وانظر تفسير " الذل " فيما سلف 2 : 212/7 : 171.
(3) انظر تفسير " العزة " فيما سلف 9 : 319 ، تعليق : 5 ، والمراجع
هناك.
(10/421)
قال ، أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق
، عن أبي أيوب ، عن علي في قوله : " أذلة على المؤمنين " ، أهل رقة على
أهل دينهم " أعزة على الكافرين " ، أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. (1)
12204 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين
" ، يعني بالأذلة : الرحماء. (2)
12205 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج في
قوله : " أذلة على المؤمنين " ، قال : رحماء بينهم " أعزة على
الكافرين " ، قال : أشداء عليهم.
12206 - حدثنا الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، قال سفيان : سمعت
الأعمش يقول في قوله : " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " ، ضعفاء
عن المؤمنين. (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ
لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ (54) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " يجاهدون في سبيل الله " ،
هؤلاء المؤمنين الذين وعد الله المؤمنين أن يأتيهم بهم إن ارتدّ منهم مرتدّ ، بدلا
منهم ،
__________
(1) الأثر : 12203 - انظر أسانيد الآثار السالفة رقم : 12186 ، 12201 ، والتعليق
عليها. وفي المخطوطة والمطبوعة : " سفيان بن عمر " مكان " سيف بن
عمر " ، وهو خطأ فاحش.
(2) في المخطوطة : " يعني بالأذلة : الرحمة " ، وفي المطبوعة : "
يعني بالذلة الرحمة " ، وآثرت ما كتبت ، وهو تصحيف قريب.
(3) في المطبوعة : " ضعفاء على المؤمنين " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو
صواب جيد.
(10/422)
يجاهدون في قتال أعداء الله على النحو
الذي أمر الله بقتالهم ، والوجه الذي أذن لهم به ، ويجاهدون عدوَّهم. فذلك
مجاهدتهم في سبيل الله (1) " ولا يخافون لومة لائم " ، يقول : ولا
يخافون في ذات الله أحدًا ، ولا يصدُّهم عن العمل بما أمرهم الله به من قتال عدوهم
، لومةُ لائم لهم في ذلك.
* * *
وأما قوله : " ذلك فضل الله " ، فإنه يعني هذا النعتَ الذي نعتهم به
تعالى ذكره من أنهم أذلة على المؤمني ، أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله
ولا يخافون في الله لومة لائم فضلُ الله الذي تفضل به عليهم ، (2) والله يؤتي فضله
من يشاء من خلقه مِنّةً عليه وتطوّلا (3) " والله واسع " ، يقول : والله
جواد بفضله على من جادَ به عليه ، (4) لا يخاف نَفاد خزائنه فتَتْلف في عطائه (5)
" عليم " ، بموضع جوده وعطائه ، فلا يبذله إلا لمن استحقه ، ولا يبذل
لمن استحقه إلا على قدر المصلحة ، لعلمه بموضع صلاحه له من موضع ضرّه. (6)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " يجاهد " فيما سلف 4 : 318/10 : 292
وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل).
(2) سياق الجملة : " هذا النعت الذي نعتهم به... فضل الله... " .
(3) انظر تفسير " الفضل " فيما سلف من فهارس اللغة (فضل).
(4) انظر تفسير " واسع " فيما سلف 9 : 294 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(5) في المطبوعة : " فكيف من عطائه " ، غير ما في المخطوطة ، لأنه لم
يحسن قراءته إذ كان غير منقوط. وهذا صواب قراءته.
(6) انظر تفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم).
(10/423)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
القول في تأويل قوله : { إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " إنما وليكم الله ورسوله والذين
آمنوا " ، ليس لكم ، أيها المؤمنون ، ناصر إلا الله ورسوله ، والمؤمنون الذين
صفتهم ما ذكر تعالى ذكره. (1) فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تبرأوا من
وَلايتهم ، ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء ، فليسوا لكم أولياء لا نُصرَاء ، بل
بعضهم أولياء بعض ، ولا تتخذوا منهم وليًّا ولا نصيرًا.
* * *
وقيل إن هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت ، في تبرُّئه من ولاية يهود بني قينقاع
وحِلفهم ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
ذكر من قال ذلك :
12207 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا ابن إسحاق قال
، حدثني والدي إسحاق بن يسار ، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : لما
حاربت بنو قينقاع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، مشى عبادة بن الصامت إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وكان أحد بني عوف بن الخزرج فخلعهم إلى رسول الله ، (2)
وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حِلفهم ، وقال : أتولى الله ورسوله والمؤمنين ،
وأبرأ من حِلف الكفار ووَلايتهم! ففيه نزلت : " إنما وليكم الله ورسوله
والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " لقول عبادةَ :
" أتولى الله ورسوله والذين آمنوا " ، وتبرئه من بني قينقاع ووَلايتهم
إلى
__________
(1) انظر تفسير " ولي " فيما سلف ص : 399 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) في المخطوطة : " فجعلهم إلى رسول الله " ، والصواب ما في المطبوعة ،
مطابقًا لما سلف ، ولما في سيرة ابن هشام.
(10/424)
قوله : " فإن حزب الله هم
الغالبون " . (1)
12208 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أبي ، عن عطية بن سعد
قال : جاء عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر نحوه.
12209 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إنما وليكم الله ورسوله والذين
آمنوا " ، يعني : أنه من أسلم تولى الله ورسوله.
* * *
وأما قوله : " والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون
" ، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيِّ به.
فقال بعضهم : عُنِي به علي بن أبي طالب.
* * *
وقال بعضهم : عني به جميع المؤمنين.
ذكر من قال ذلك :
12210 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : ثم أخبرهم بمن يتولاهم فقال : " إنما وليكم الله ورسوله والذين
آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " ، هؤلاء جميع المؤمنين
، ولكن علي بن أبي طالب مرَّ به سائل وهو راكع في المسجد ، فأعطاه خاتَمَه.
12211 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا عبدة ، عن عبد الملك ، عن أبي جعفر قال :
سألته عن هذه الآية : " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
__________
(1) الأثر : 12207 - سيرة ابن هشام 3 : 52 ، 53 ، وهو مطول الأثر السالف رقم :
12158 ، وتابع الأثر رقم : 12167.
وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا : " حدثني والدي إسحق بن يسار ، عن عبادة بن
الصامت " ، أسقط ما أثبت من السيرة ، ومن إسناد الأثرين المذكورين آنفًا.
(10/425)
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون " ، قلت : (1) من الذين آمنوا ؟ قال : الذين آمنوا! (2) قلنا : بلغنا
أنها نزلت في علي بن أبي طالب! قال : عليٌّ من الذين آمنوا.
12212 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن عبد الملك قال : سألت أبا جعفر
عن قول الله : " إنما وليكم الله ورسوله " ، وذكر نحو حديث هنّاد ، عن
عبدة.
12213 - حدثنا إسماعيل بن إسرائيل الرملي قال ، حدثنا أيوب بن سويد قال ، حدثنا
عتبة بن أبي حكيم في هذه الآية : " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
" ، قال : علي بن أبي طالب. (3)
12214 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا غالب بن عبيد الله قال :
سمعت مجاهدًا يقول في قوله : " إنما وليكم الله ورسوله " ، الآية ، قال
: نزلت في علي بن أبي طالب ، تصدَّق وهو راكع. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " قلنا " ، والصواب الجيد ما أثبت.
(2) هذا ليس تكرارًا ، بل هو تعجب من سؤاله عن شيء لا عن مثله.
(3) الأثر : 12213 - " إسمعيل بن إسرائيل الرملي " ، مضى برقم : 10236.
و " أيوب بن سويد الرملي " ، مضى برقم : 5494.
و " عتبة بن أبي حكيم الهمداني ، ثم الشعباني " ، أبو العباس الأردني.
ضعفه ابن معين ، وكان أحمد يوهنه قليلا ، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في
التهذيب.
(4) الأثر : 12214 - " غالب بن عبيد الله العقيلي الجزري " ، منكر
الحديث متروك. مترجم في لسان الميزان ، والكبير للبخاري 4/1/101 ، وابن أبي حاتم
3/2/48.
هذا ، وأرجح أن أبا جعفر الطبري قد أغفل الكلام في قوله تعالى : " وهم راكعون
" ، وفي بيان معناها في هذا الموضع ، مع الشبهة الواردة فيه ، لأنه كان يحب
أن يعود إليه فيزيد فيه بيانًا ، ولكنه غفل عنه بعد.
وقد قال ابن كثير في تفسيره 3 : 182 : " وأما قوله : " وهم راكعون
" ، فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله : " ويؤتون
الزكاة " ، أي : في حال ركوعهم. ولو كان هذا كذلك ، لكان دفع الزكاة في حال
الركوع أفضل من غيره ، لأنه ممدوح. وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ، ممن
نعلمه من أئمة الفتوى. وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرًا عن علي بن أبي طالب أن هذه
الآية نزلت فيه... " ثم ، ساق الآثار السالفة وما في معناها من طرق مختلفة.
وهذه الآثار جميعًا لا تقوم بها حجة في الدين. وقد تكلم الأئمة في موقع هذه الجملة
، وفي معناها. والصواب من القول في ذلك أن قوله : " وهم راكعون " ، يعني
به : وهم خاضعون لربهم ، متذللون له بالطاعة ، خاضعون له بالأنقياد لأمره في إقامة
الصلاة بحدودها وفروضها من تمام الركوع والسجود ، والصلاة والخشوع ، ومطيعين لما
أمرهم به من إيتاء الزكاة وصرفها في وجوهها التي أمرهم بصرفها فيها. فهي بمعنى
" الركوع " الذي هو في أصل اللغة ، بمعنى الخضوع انظر تفسير " ركع
" فيما سلف 1 : 574.
وإذن فليس قوله : " وهم راكعون " حالا من " ويؤتون الزكاة " .
وهذا هو الصواب المحض إن شاء الله.
(10/426)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
القول في تأويل قوله : { وَمَنْ
يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْغَالِبُونَ (56) }
قال أبو جعفر : وهذا إعلامٌ من الله تعالى ذكره عبادَه جميعًا الذين تبرأوا من حلف
اليهود وخلعوهم رضًى بولاية الله ورسوله والمؤمنين ، (1) والذين تمسكوا بحلفهم
وخافوا دوائر السوء تدور عليهم ، فسارعوا إلى موالاتهم أنّ مَن وثق بالله وتولى
الله ورسوله والمؤمنين ، (2) ومن كان على مثل حاله من أولياء الله من المؤمنين ،
لهم الغلبة والدوائر والدولة على من عاداهم وحادّهم ، لأنهم حزب الله ، وحزبُ الله
هم الغالبون ، دون حزب الشيطان ، كما : -
12215 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قال : أخبرهم يعني الرب تعالى ذكره مَنِ الغالب ، فقال : لا تخافوا الدولة
ولا الدائرة ، فقال : " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم
الغالبون " ، و " الحزب " ، هم الأنصار.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " الذين تبرأوا من اليهود وحلفهم رضى بولاية الله...
" ، غير ما في المخطوطة إذ لم يحسن قراءته ، والذي أثبت هو صواب القراءة.
(2) في المطبوعة : " بأن من وثق بالله... " ، وفي المخطوطة مكان ذلك كله
: " ووثقوا بالله " . والذي أثبت هو صواب المعنى.
(10/427)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
ويعني بقوله : " فإن حزب الله
" ، فإن أنصار الله ، (1) ومنه قول الراجز : (2)
وَكَيْفَ أَضْوَى وَبِلالٌ حِزْبِي! (3)
يعني بقوله : " أضوى " ، أستضْعَفُ وأضام من الشيء " الضاوي "
. (4) ويعني بقوله : " وبلال حزبي " ، يعني : ناصري.
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (57) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم :
" يا أيها الذين آمنوا " ، أي : صدقوا الله ورسوله " لا تتخذوا
الذين اتخذوا دينكم هُزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " ، يعني
اليهود والنصارى الذين
__________
(1) انظر تفسير " الحزب " فيما سلف 1 : 244. وهذا التفسير الذي هنا لا
تجده في كتب اللغة.
(2) هو رؤبة بن العجاج.
(3) ديوانه : 16 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 169 ، من أرجوزة يمدح بها بلال ابن
أبي بردة ، ذكر في أولها نفسه ، ثم قال يذكر من يعترضه ويعبي له الهجاء والذم :
ذَاكِ ، وإن عَبَّى لِيَ المُعَبِّي ... وَطِحْطَحَ الجِدُّ لِحَاءَ القَشْبِ
أَلَقَيتُ أَقْوَالَ الرِّجَالِ الكُذْبِ ... فَكَيْفَ أَضْوَى وَبِلالٌ حِزْبِي!
ورواية الديوان : " ولست أضوي " . وفي المخطوطة : " وكيف أضرى
" ، وهو تصحيف " طحطح الشيء " : فرقه وبدده وعصف به فأهلكه. و
" اللحاء " : المخاصمة. و " القشب " ، (بفتح فسكون) : الكلام
المفترى : ولو قرئت " القشب " (بكسر فسكون) ، فهو الرجل الذي لا خير
فيه.
(4) " الضاوي " : الضعيف من الهزال وغيره. " ضوى يضوي ضوى " :
ضعف ورق. وكان في المخطوطة : " أضرى " و " الضاري " ، وهو خطأ
وتصحيف.
(10/428)
جاءتهم الرسل والأنبياء ، وأنزلت عليهم
الكتب من قبل بَعْث نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومن قبل نزول كتابنا " أولياء
" ، يقول : لا تتخذوهم ، أيها المؤمنون ، أنصارًا أو إخوانًا أو حُلفاء ، (1)
فإنهم لا يألونكم خَبَالا وإن أظهروا لكم مودّة وصداقة.
* * *
وكان اتخاذ هؤلاء اليهود الذين أخبر الله عنهم المؤمنين أنهم اتخذوا دينهم هُزُوًا
ولعبًا بالدين على ما وصفهم به ربنا تعالى ذكره ، (2) أن أحدهم كان يظهر للمؤمنين
الإيمان وهو على كفره مقيم ، ثم يراجع الكفر بعد يسير من المدة بإظهار ذلك بلسانه
قولا بعد أن كان يُبدي بلسانه الإيمان قولا وهو للكفر مستبطن تلعبًا بالدين
واستهزاءً به ، كما أخبر تعالى ذكره عن فعل بعضهم ذلك بقوله : ( وَإِذَا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا
إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) [سورة البقرة : 14 ، 15].
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن ابن عباس.
12216 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثني ابن
إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير أو
عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا
الإسلام ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادُّونهما ، فأنزل الله فيهما :
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم
__________
(1) في المطبوعة : " أنصار وإخوانا وحلفاء " ، وفي المخطوطة : "
أنصارًا أو إخوانًا وحلفاء " ، وأجريتها جميعا بأو ، كما ترى.
(2) في المطبوعة : " ولعبًا الدين على ما وصفهم " ، وهو غير مستقيم ،
وفي المخطوطة : " ولعبا الذين على ما وصفهم " ، وهو أشد التواء ،
والصواب ما أثبت ، كما سيأتي بعد " تلعبًا بالدين واستهزاء به " .
(10/429)
هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم والكفار أولياء " إلى قوله : " والله أعلم بما كانوا يكتمون
" . (1)
* * *
فقد أبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا ، من أنّ اتخاذ من اتخذ دين الله هزوًا ولعبًا
من أهل الكتاب الذين ذكرهم الله في هذه الآية ، إنما كان بالنفاق منهم ، وإظهارهم
للمؤمنين الإيمان ، واستبطانهم الكفر ، وقيلهم لشياطينهم من اليهود إذا خلوا بهم :
" إنا معكم " ، فنهى الله عن موادَّتهم ومُخَالّتهم ، (2) والتمسك
بحلفهم ، والاعتداد بهم أولياء وأعلمهم أنهم لا يألونهم خبالا وفي دينهم طعنًا ،
وعليه إزراء.
* * *
وأمّا " الكفار " الذين ذكرهم الله تعالى ذكره في قوله : " من
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء " ، فإنهم المشركون من عبدة
الأوثان. نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من أهل الكتاب ومن عبدة الأوثان وسائر أهل
الكفر ، أولياءَ دون المؤمنين.
* * *
وكان ابن مسعود فيما : -
12217 - حدثني به أحمد بن يوسف قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج ، عن
هارون ، عن ابن مسعود يقرأ : ( مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ).
* * *
ففي هذا بيان صحة التأويل الذي تأوَّلناه في ذلك.
* * *
__________
(1) الأثر : 12216 - سيرة ابن هشام 2 : 217 ، 218.
(2) في المطبوعة : " ومحالفتهم " ، لم يحسن قراءة المخطوطة إذ كانت غير
منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت.
(10/430)
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة من أهل الحجاز والبصرة والكوفة : ( وَالْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ ) بخفض
" الكفار " ، بمعنى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم
هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، ومن الكفارِ ، أولياءَ.
* * *
وكذلك ذلك في قراءة أبيّ بن كعب فيما بلغنا : ( من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
ومن الكفار أولياء ).
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة : ( وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ) بالنصب ،
بمعنى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا والكفارَ
عطفًا بـ " الكفار " على " الذين اتخذوا " .
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان متفقتا المعنى ،
صحيحتا المخرج ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرأة ، فبأي ذلك قرأ القارئ
فقد أصاب. لأن النهيَ عن اتخاذ ولي من الكفار ، نهيٌ عن اتخاذ جميعهم أولياء.
والنهي عن اتخاذ جميعهم أولياء ، نهيٌ عن اتخاذ بعضهم وليًّا. وذلك أنه غير مشكل
على أحدٍ من أهل الإسلام أنّ الله تعالى ذكره إذا حرّم اتخاذ وليّ من المشركين على
المؤمنين ، أنه لم يبح لهم اتخاذ جميعهم أولياء ولا إذا حرَّم اتخاذ جميعهم أولياء
، أنه لم يخصص إباحة اتخاذ بعضهم وليًّا ، فيجب من أجل إشكال ذلك عليهم ، طلبُ
الدليل على أولى القراءتين في ذلك بالصواب. وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء قرأ القارئ
بالخفض أو بالنصب ، لما ذكرنا من العلة.
* * *
وأما قوله : " واتقوا الله إن كنتم مؤمنين " ، فإنه يعني : وخافوا الله
، أيها المؤمنون ،
(10/431)
في هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا
ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب ومن الكفار ، أن تتخذوهم أولياء ونصراء ، وارهبوا
عقوبته في فعل ذلك إن فعلتموه بعد تقدُّمه إليكم بالنهي عنه ، إن كنتم تؤمنون
بالله وتصدِّقونه على وعيده على معصيته. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " كفار " و " أولياء " و " اتقى "
فيما سلف من فهارس اللغة ، (كفر) و(ولى) و(وقى).
(10/432)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا
نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإذا أذن مؤذنكم ، أيها المؤمنون بالصلاة ، سخر
من دعوتكم إليها هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين ، ولعبوا من ذلك
" ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " ، يعني تعالى ذكره بقوله : " ذلك
" ، فعلهم الذي يفعلونه ، وهو هزؤهم ولعبهم من الدعاء إلى الصلاة ، إنما
يفعلونه بجهلهم بربهم ، وأنهم لا يعقلون ما لهم في إجابتهم إن أجابوا إلى الصلاة ،
وما عليهم في استهزائهم ولعبهم بالدعوة إليها ، ولو عَقَلوا ما لمن فعل ذلك منهم
عند الله من العقاب ، ما فعلوه.
* * *
وقد ذكر عن السدي في تأويله ما : -
12218 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوًا ولعبًا " ، كان رجل من
النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي : " أشهد أن محمدًا رسول الله "
، قال : " حُرِّق الكاذب " ! فدخلت خادمه ذات ليلة من الليالي بنار وهو
نائم وأهله نيام ، فسقطت شرارة فأحرقت البيت ، فاحترق هو وأهله.
* * *
(10/432)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
القول في تأويل قوله : { قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا
أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
}
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل ، يا محمد ، لأهل
الكتاب من اليهود والنصارى : يا أهل الكتاب ، هل تكرهون منا أو تجدون علينا في شيء
إذ تستهزئون بديننا ، وإذ أنتم إذا نادينا إلى الصلاة اتخذتم نداءنا ذلك هزوًا
ولعبًا (1) " إلا أن آمنا بالله " ، يقول : إلا أن صدقنا وأقررنا بالله
فوحدناه ، وبما أنزل إلينا من عند الله من الكتاب ، وما أنزل إلى أنبياء الله من
الكتب من قبل كتابنا " وأن أكثركم فاسقون " ، يقول : وإلا أن أكثركم
مخالفون أمر الله ، خارجون عن طاعته ، تكذبون عليه. (2)
* * *
والعرب تقول : " نقَمتُ عليك كذا أنقِم " وبه قرأه القرأة من أهل الحجاز
والعراق وغيرهم و " نقِمت أنقِم " ، لغتان (3) ولا نعلم قارئًا قرأ بهما
(4) بمعنى وجدت وكرهت ، (5) ومنه قول عبد الله بن قيس الرقيات : (6)
مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلا... أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا
(7)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " أو تجدون علينا حتى تستهزئوا بديننا إذ أنتم إذا نادينا
إلى الصلاة " ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، فحذف وغير وبدل ، وأساء غاية
الإساءة.
(2) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف ص : 393 تعليق : 3 ، والمراجع هناك.
(3) اللغة الأولى " نقم " (بفتحتين) " ينقم " (بكسر القاف)
واللغة الثانية " نقم " (بفتح فكسر) " ينقم " (بكسر القاف
أيضا).
(4) في المطبوعة : " قرأ بها " بالإفراد ، والصواب ما في المخطوطة ،
ويعني " نقمت " ، أنقم. من اللغة الثانية.
(5) " وجدت " من قولهم : " وجد عليه يجد وجدًا وموجدة " :
غضب.
(6) مختلف في اسمه يقال : " عبد الله " ويقال : " عبيد الله "
بالتصغير ، وهو الأكثر.
(7) ديوانه : 70 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 170 ، واللسان (نقم) ، من قصيدته
التي قالها لعبد الملك بن مروان ، في خبر طويل ذكره أبو الفرج في الأغاني 5 : 76 -
80 ، وبعد البيت : وأنَّهُمْ مَعْدِنَ المُلُوكِ ، فَلا ... تَصْلُحُ إلا
عَلَيْهِمُ العَرَبُ
إِن الفَنِيق الَّذِي أَبُوهُ أَبُو ... العَاصِي ، عَلَيْهِ الوَقَارُ والحُجُبُ
خَلِيفَةُ اللهِ فَوْقَ مِنْبَرِه ... جَفَّتْ بِذَاكَ الأقْلامُ والكُتُبُ
يَعْتَدِلُ التَّاجُ فَوْقَ مَفْرِقِهِ ... عَلَى جَبِينٍ كأَنّهُ الذَّهَبُ
(10/433)
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من
اليهود.
ذكر من قال ذلك :
12219 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا محمد بن إسحاق
، قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير أو
عكرمة ، عن ابن عباس قال : أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ من اليهود فيهم
أبو ياسر بن أخطب ، ورافع بن أبي رافع ، وعازر ، (1) وزيد ، وخالد ، وأزار بن أبي
أزار ، وأشيع ، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ؟ قال : أومن بالله وما أنزل إلينا
وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى وما
أوتي النبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. (2) فلما ذكر عيسى
جحدوا نبوته وقالوا : لا نؤمن بمن آمن به! (3) فأنزل الله فيهم : " قل يا أهل
الكتاب هل تنقمون منا إلا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم
فاسقون " . (4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " عازي " ، وصوابه من المراجع الآتي ذكرها.
(2) هذا تضمين آية سورة البقرة : 136.
(3) في المخطوطة : " لا نؤمن آمن به " ، أسقط " بمن " .
(4) الأثر : 12219 - سيرة ابن هشام 2 : 216 ، ومضى بالإسنادين رقم 2101 ، 2102
(10/434)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
عطفًا بها على " أن " التي
في قوله : " إلا أن آمنا بالله " ، (1) لأن معنى الكلام : هل تنقمون منا
إلا إيمانَنا بالله وفسقكم.
* * *
القول في تأويل قوله : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً
عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " قل "
، يا محمد ، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم والكفار " هل أنبئكم " ، يا معشر أهل الكتاب ، بشر من ثواب ما
تنقِمون منا من إيماننا بالله وما أنزل إلينا من كتاب الله ، وما أنزل من قبلنا من
كتبه ؟ (2)
* * *
[و " مثوبة " ، تقديرها مفعولة " ] ، غير أن عين الفعل لما سقطت
نقلت حركتها إلى " الفاء " ، (3) وهي " الثاء " من "
مثوبة " ، فخرجت مخرج " مَقُولة " ، و " مَحُورة " ، و
" مَضُوفة " ، (4)
كما قال الشاعر : (5)
__________
(1) يعني قوله : " وأن أكثركم فاسقون " ، فتح الألف من " وأن
" ، عطفًا بها على " أن " التي في قوله : " إلا أن آمنا بالله
" .
(2) انظر تفسير " مثوبة " فيما سلف 2 : 458 ، 459.
(3) كان في المطبوعة : " غير أن العين لما سكنت نقلت حركتها إلى الفاء...
" ، سقط صدر الكلام ، فغير ما كان في المخطوطة ، فأثبت ما أثبته بين القوسين
، استظهارًا من إشتقاق الكلمة. والذي كان في المخطوطة : " غير أن الفعل لما
سقط نقلت حركتها إلى الفاء " ، سقط أيضًا صدر الكلام الذي أثبته بين القوسين
، وسقط أيضًا " عين " من قوله : " عين الفعل " . وأخشى أن
يكون سقط من الكلام غير هذا. انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 170 ، وذلك قراءة من
قرأ " مثوبة " (بفتح فسكون ففتح).
(4) في المطبوعة : " محوزة " بالحاء والزاي وفي المخطوطة : " محوره
ومصرفه " غير منقوطة. والصواب ما أثبت. ويأتي في بعض الكتب كالقرطبي 6 : 243
" مجوزة " بالجيم والزاي ، وكل ذلك خطأ ، صوابه ما أثبت. و "
المحورة " من " المحاورة " ، مثل " المشورة " و "
المشاورة " يقال : " ما جاءتني عنه محورة " ، أي : ما رجع إليّ عنه
خبر. وحكى ثعلب : " اقض محورتك " ، أي الأمر الذي أنت فيه. ويقال فيها
أيضًا : " محورة " (بفتح الميم وسكون الحاء) ومنه قول الشاعر :
لِحَاجَةِ ذي بَثٍّ ومَحْوَرةٍ لَهُ ، ... كَفَى رَجْعُهَا مِنْ قِصَّةِ
المُتَكَلِّمِ
(5) هو أبو جندب الهذلي.
(10/435)
وَكنْتُ إذَا جَارِي دَعَا
لِمَضُوفةٍ... أُشَمِّر حَتَّى يَنْصُفَ السَّاقُ مِئْزَرِي (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12220 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله " ، يقول : ثوابًا
عند الله.
12221 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " هل
أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله " قال : " المثوبة " ، الثواب ،
" مثوبة الخير " ، و " مثوبة الشر " ، وقرأ : ( خَيْرٌ
ثَوَابًا ) [سورة الكهف : 44]. (2)
* * *
__________
(1) أشعار الهذليين 3 : 92 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 170 ، واللسان (ضيف)
(نصف) وغيرها كثير ، وبعده : وَلَكِنَّنيِ جَمْرُ الغَضَا من وَرَائِهِ ...
يُخَفِّرُنِي سَيْفِي إذَا لَمْ أُخَفَّرِ
أَبَى النَّاسُ إلا الشَّرَّ مِنِّي ، فَدَعْهُمُ ... وَإيّايَ مَا جَاءُوا إلَيَّ
بِمُنْكَرِ
إذَا مَعْشَرٌ يَوْمًا بَغَوْنِي بَغَيْتُهُمُ ... بِمُسْقِطَةِ الأحْبَالِ
فَقْمَاءَ قِنْطِرِ
و " المضوفة " و " المضيفة " و " المضافة " : الأمر
يشفق منه الرجل. وبها جميعًا روى البيت. " ضاف الرجل وأضاف " : خاف. و
" نصف الإزار ساقه " : إذا بلغ نصفها. يريد بذلك اجتهاده في الدفاع عمن
استجار به. وقوله : " ولكني جمر الغضا... " ، يقول : أتحرق في نصرته
تحرقًا كأنه لهب باق من جمر الغضا. وقوله : " يخفرني سيفي... " . يقول :
سيفي خفيري إذا لم أجد لي خفيرًا ينصرني. وقوله : " مسقطة الأحبال " :
يريد : أعمد إليهم بداهية تسقط الحبالي من الرعب. و " فقماء " . وصف
للداهية المنكرة ، يذكر بشاعة منظرها يقال : " امرأة فقماء " : وهي التي
تدخل أسنانها العليا إلى الفم ، فلا تقع على الثنايا السفلى ، وهي مع ذلك مائلة
الحنك. و " قنطر " هي الداهية ، وجاء بها هنا وصفًا ، وكأن معناها عندئذ
أنها داهية تطبق عليه إطباقًا ، كالقنطرة التي يعبر عليها تطبق على الماء. ولم
يذكر أصحاب اللغة هذا الاشتقاق ، وإنما هو اجتهاد مني في طلب المعنى.
وكان صدر البيت الشاهد في المخطوطة : " وكنت إذا جاي دعالم " ، ولم يتم
البيت ، وأتمته المطبوعة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " شر ثوابا " ، وليس في كتاب الله آية فيها
" شر ثوابا " ، فأثبت آية الكهف التي استظهرت أن يكون قرأها ابن زيد في
هذا الموضع. ونقل السيوطي في الدر المنثور 2 : 295 ، وكتب : " وقرئ : بشر
ثوابًا " ، ولم أجد هذه القراءة الشاذة ، فلذلك استظهرت ما أثبت. هذا ، وقد
سقط من الترقيم رقم : 12222 سهوا.
(10/436)
وأما " مَنْ " في قوله :
" من لعنه الله " ، فإنه في موضع خفض ، ردًّا على قوله : " بشرّ من
ذلك " . فكأن تأويل الكلام ، إذ كان ذلك كذلك : قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك
مثوبة عند الله ، بمن لعنه الله.
ولو قيل : هو في موضع رفع ، لكان صوابًا ، على الاستئناف ، بمعنى : ذلك من لعنه
الله أو : وهو من لعنه الله.
ولو قيل : هو في موضع نصب ، لم يكن فاسدًا ، بمعنى : قل هل أنبئكم من لعنه الله
(1) فيجعل " أنبئكم " عاملا في " من " ، واقعًا عليه. (2)
* * *
وأما معنى قوله : " من لعنه الله " ، فإنه يعني : من أبعده الله
وأسْحَقه من رحمته (3) " وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير " ، يقول
: وغضب عليه ، وجعل منهم المُسوخَ القردة والخنازير ، غضبًا منه عليهم وسخطًا ،
فعجَّل لهم الخزي والنكال في الدنيا. (4)
* * *
__________
(1) انظر هذا كله في معاني القرآن للفراء 1 : 314.
(2) في المطبوعة : " فيجعل " أنبئكم " على ما في " من "
واقعًا عليه " ، وفي المخطوطة : " فيجعل " أنبئكم " علامًا
فيمن واقعًا عليه " ، وكلاهما فاسد ، وصواب قراءة ما أثبت ، ولكن أخطأ الناسخ
كعادته في كتابته أحيانًا. و " الوقوع " التعدي ، كما سلف مرارًا ، انظر
فهارس المصطلحات في الأجزاء السالفة.
(3) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف 9 : 213 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(4) انظر تفسير " غضب الله " فيما سلف 1 : 188 ، 189/2 : 138 ، 345/7 :
116/9 : 57.
(10/437)
وأما سبب مَسْخ الله من مَسخ منهم قردة
، فقد ذكرنا بعضه فيما مضى من كتابنا هذا ، وسنذكر بقيته إن شاء الله في مكان غير
هذا. (1)
* * *
وأما سبب مسخ الله من مَسخ منهم خنازير ، فإنه كان فيما : -
12223 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ، عن عُمرَ بن
كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ، قال : حدِّثت أن المسخ في بني إسرائيل من
الخنازير ، كان أن امرأة من بني إسرائيل كانت في قرية من قرى بني إسرائيل ، وكان
فيها مَلِك بني إسرائيل ، وكانوا قد استجمعوا على الهلكة ، إلا أنّ تلك المرأة
كانت على بقية من الإسلام متمسكة به ، فجعلت تدعو إلى الله ، (2) حتى إذا اجتمع
إليها ناس فتابعوها على أمرها قالت لهم : إنه لا بد لكم من أن تجاهدوا عن دين الله
، وأن تنادوا قومكم بذلك ، فاخرجوا فإني خارجة. فخرجت ، وخرج إليها ذلك الملك في
الناس ، فقتل أصحابها جميعًا ، وانفلتت من بينهم. قال : ودعت إلى الله حتى تجمَّع
الناس إليها ، حتى إذا رضيت منهم ، أمرتهم بالخروج ، فخرجوا وخرجت معهم ، وأصيبوا
جميعًا وانفلتت من بينهم. ثم دعت إلى الله حتى إذا اجتمع إليها رجال واستجابوا لها
، أمرتهم بالخروج ، فخرجوا وخرجت ، فأصيبوا جميعًا ، وانفلتت من بينهم ، فرجعت وقد
أيست ، وهي تقول : سبحان الله ، لو كان لهذا الدين وليٌّ وناصرٌ ، لقد أظهره
بَعْدُ! قال : فباتت محزونة ، وأصبح أهل القرية يسعون في نواحيها خنازيرَ ، قد
مسخهم الله في ليلتهم تلك ، فقالت حين أصبحت ورأت ما رأت : اليوم أعلم أن الله قد
أعزَّ دينه وأمر دينه! قال : فما كان مسخ الخنازير في بني إسرائيل إلا على يديْ
تلك المرأة. (3)
__________
(1) انظر ما سلف 2 : 167 - 172/8 : 447 ، 448/ وما سيأتي في التفسير 9 : 63 - 70
(بولاق).
(2) في المخطوطة : " تدعوا الله " بحذف " إلى " ، والصواب ما
في المطبوعة ، بدليل ما سيأتي بعد . وأما قوله : " واستجمعوا على الهلكة
" فإنه يعني : قد أشرفت جمعاتهم على الهلاك بكفرهم.
(3) الأثر : 12223 - " عمر بن كثير بن أفلح ، مولى أبي أيوب الأنصاري "
، روى عن كعب بن مالك ، وابن عمر ، وسفينة ، وغيرهم. وذكره ابن حبان في الثقات ،
في أتباع التابعين. وقال ابن سعد : " كان ثقة ، له أحاديث " . وقال ابن
أبي حاتم : " روى عنه محمد بن بشر العبدي ، وحماد بن خالد الخياط ، وأبو عون
الزيادي " ، غير أن أبا عون قال : " عمرو بن كثير بن أفلح " ، وهو
وهم منه " . وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا " عمرو بن كثير " ،
فتابعت ابن أبي حاتم. وهو مترجم في التهذيب " عمر " ، وابن أبي حاتم
3/1/130.
(10/438)
12224 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا
أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وجعل
منهم القردة والخنازير " ، قال : مسخت من يهود.
12225 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد ، مثله.
وللمسخ سبب فيما ذكر غير الذي ذكرناه ، سنذكره في موضعه إن شاء الله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ
عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة الحجاز والشأم والبصرة وبعض الكوفيين : ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ،
بمعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت ، بمعنى : " عابد "
، فجعل " عبد " ، فعلا ماضيًا من صلة المضمر ، ونصب " الطاغوتَ
" ، بوقوع " عبَدَ " عليه.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين : ( وَعَبُدَ الطَّاغُوتَ ) بفتح " العين "
من " عبد " وضم بائها ، وخفض " الطاغوت " بإضافة " عَبُد
" إليه. وعنوا بذلك : وخدَمَ الطاغوت.
12226 - حدثني بذلك المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد
قال ، حدثني حمزة ، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب أنه قرأ : ( وَعُبَدَ الطَّاغُوتِ
) يقول : خدم قال عبد الرحمن : وكان حمزة كذلك يقرأها.
__________
(1) لم أعرف مكانه فيما سيأتي من التفسير ، فإذا عثرت عليه أثبته إن شاء الله.
ولعل منه ما سيأتي في الآثار رقم : 12301 - 12304. وانظر رقم : 7110.
(10/439)
12227 - حدثني ابن وكيع وابن حميد قالا
حدثنا جرير ، عن الأعمش : أنه كان يقرأها كذلك.
* * *
وكان الفَرَّاء يقول : إن تكن فيه لغة مثل " حَذِرٍ " و " حَذُر
" ، و " عجِلٍ " ، و " وعَجُلٍ " ، فهو وجه ، والله أعلم
وإلا فإن أراد قول الشاعر : (1)
أَبَنِي لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُمُ... أَمَةٌ وَإنَّ أَبَاكُمُ عَبُدُ (2)
فإن هذا من ضرورة الشعر ، وهذا يجوز في الشعر لضرورة القوافي ، وأما في القراءة
فلا. (3)
* * *
وقرأ ذلك آخرون : ( وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ ) ذكر ذلك عن الأعمش.
* * *
وكأنَّ من قرأ ذلك كذلك ، أراد جمع الجمع من " العبد " ، كأنه جمع
" العبد " " عبيدًا " ، ثم جمع " العبيد " "
عُبُدًا " ، مثل : " ثِمَار وُثُمر " . (4)
* * *
وذكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرأه : (5) ( وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ ).
12228 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن قال : كان أبو
جعفر النحويّ يقرأها : ( وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ ) ، كما يقول : " ضُرِب عبدُ
الله " .
* * *
__________
(1) هو أوس بن حجر.
(2) ديوانه ، القصيدة : 5 ، البيت : 4 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 314 ، 315 ،
واللسان (عبد) ، وقد مضى منها بيت فيما سلف ص : 275 ، وقبل البيت : أَبَنِي
لُبَيْنِيَ لَسْتُ مُعْترِفًا ... لِيَكُونَ أَلأَمَ مِنْكُمُ أَحَدُ
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 314 ، 315.
(4) كان الأجود أن يقول : " كأنه جمع العبد عبادًا ، ثم جمع العباد عبدًا ،
مثل ثمار وثمر " ، وهو ظاهر مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 314.
(5) في المطبوعة : " أنه يقرؤه " بحذف " كان " ، وأثبت ما في
المخطوطة.
(10/440)
قال أبو جعفر : وهذه قراءة لا معنى لها
، لأن الله تعالى ذكره ، إنما ابتدأ الخبر بذمّ أقوام ، فكان فيما ذمَّهم به
عبادُتهم الطاغوت. وأما الخبر عن أن الطاغوت قد عُبد ، فليس من نوع الخبر الذي
ابتدأ به الآية ، ولا من جنس ما ختمها به ، فيكون له وجه يوجَّه إليه في الصحة.
(1)
* * *
وذكر أن بُريدة الأسلمي كان يقرأه : ( وعابد الطاغوت ). (2)
12229 - حدثني بذلك المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا
شيخ بصري : أن بريدة كان يقرأه كذلك.
* * *
ولو قرئ ذلك : ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، بالكسر ، كان له مخرج في العربية صحيح ،
وإن لم أستجز اليوم القراءة بها ، إذ كانت قراءة الحجة من القرأة بخلافها. ووجه
جوازها في العربية ، أن يكون مرادًا بها " وعَبَدَة الطاغوت " ، ثم حذفت
" الهاء " للإضافة ، كما قال الراجز : (3)
قَامَ وُلاهَا فَسَقَوْهُ صَرْخَدَا (4)
يريد : قام وُلاتها ، فحذف " التاء " من " ولاتها " للإضافة.
(5)
* * *
قال أبو جعفر : وأما قراءة القرأة ، فبأحد الوجهين اللذين بدأت بذكرهما ،
__________
(1) في المطبوعة : " من الصحة " ، والصواب ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة : " وعابد الشيطان " ، وهو خطأ لا شك فيه ، صححته
المطبوعة ، وانظر القراءات الشاذة لابن خالويه : 34.
(3) لم أعرف الراجز.
(4) معاني القرآن للفراء 1 : 314 ، وقوله : " صرخد " جعلها الخمر
الصرخدية نفسها. وأما أصحاب اللغة ، فيقولون : " صرخد " ، موضع بالشأم ،
من عمل حوران ، تنسب إليه الخمر الجيدة.
(5) انظر ما سلف جميعه في معاني القرآن للفراء 1 : 314 ، 315.
(10/441)
وهو : ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، بنصب
" الطاغوت " وإعمال " عبد " فيه ، وتوجيه " عبد "
إلى أنه فعل ماض من " العبادة " .
والآخر : (وعبد الطاغوت) ، على مثال " فَعُلٍ " ، وخفض " الطاغوت
" بإضافة " عَبُدٍ " إليه.
فإذ كانت قراءة القرأة بأحد هذين الوجهين دون غيرهما من الأوجه التي هي أصح مخرجًا
في العربية منهما ، فأولاهما بالصواب من القراءة ، قراءة من قرأ ذلك( وَعَبَدَ
الطَّاغُوتَ ) ، بمعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت ، لأنه ذكر
أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب وابن مسعود : ( وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، بمعنى : والذين عبدوا الطاغوت ففي ذلك
دليل واضحٌ على صحة المعنى الذي ذكرنا من أنه مراد به : ومَن عبد الطاغوت ، وأن
النصب بـ " الطاغوت " أولى ، على ما وصفت في القراءة ، لإعمال "
عبد " فيه ، إذ كان الوجه الآخر غير مستفيض في العرب ولا معروف في كلامها.
على أن أهل العربية يستنكرون إعمال شيء في " مَنْ " و " الذي
" المضمرين مع " مِنْ " و " في " إذا كفت " مِنْ
" أو " في " منهما ويستقبحونه ، حتى كان بعضهم يُحيل ذلك ولا
يجيزه. وكان الذي يحيل ذلك يقرأه : ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، فهو على قوله خطأ
ولحن غير جائز.
وكان آخرون منهم يستجيزونه على قبح. فالواجب على قولهم أن تكون القراءة بذلك
قبيحة. وهم مع استقباحهم ذلك في الكلام ، قد اختاروا القراءة بها ، وإعمال و
" جعل " في " مَنْ " ، وهي محذوفة مع " مِن " .
ولو كنا نستجيز مخالفة الجماعة في شيء مما جاءت به مجمعة عليه ، لاخترنا القراءة
بغير هاتين القراءتين ، غير أن ما جاء به المسلمون مستفيضًا فيهم لا يتناكرونه ،
(1) فلا نستجيز الخروجَ منه إلى غيره. فلذلك لم نستجز القراءة بخلاف إحدى
القراءتين
__________
(1) في المطبوعة : " فهم لا يتناكرونه " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/442)
اللتين ذكرنا أنهم لم يعدُوهما.
* * *
وإذ كانت القراءة عندنا ما ذكرنا ، فتأويل الآية : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة
عند الله ، من لعنه الله وغضب عليه ، وجعل منهم القردة والخنازير ، ومن عبد
الطاغوت.
* * *
وقد بينا معنى " الطاغوت " فيما مضى بشواهده من الروايات وغيرها ، فأغنى
ذلك عن إعادته ههنا. (1)
* * *
وأما قوله : " أولئك شر مكانًا وأضلُّ عن سواء السبيل " ، فإنه يعني بقوله
: " أولئك " ، هؤلاء الذين ذكرهم تعالى ذكره ، وهم الذين وصفَ صفتهم
فقال : " من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت
" ، وكل ذلك من صفة اليهود من بني إسرائيل.
يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه صفتهم " شر مكانًا " ، في عاجل
الدنيا والآخرة عند الله ممن نَقَمتم عليهم ، يا معشر اليهود ، إيمانَهم بالله ،
وبما أنزل إليهم من عند الله من الكتاب ، وبما أنزل إلى من قبلهم من الأنبياء
" وأضل عن سواء السبيل " ، يقول تعالى ذكره : وأنتم مع ذلك ، أيها
اليهود ، أشد أخذًا على غير الطريق القويم ، وأجورُ عن سبيل الرشد والقصد منهم.
(2)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا من لَحْنِ الكلام. (3) وذلك أن الله تعالى ذكره إنما
__________
(1) انظر تفسير " الطاغوت " فيما سلف 5 : 416 - 419/8 : 461 - 465 ، 507
- 513 ، 546.
(2) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف من فهارس اللغة.
وتفسير " سواء السبيل " فيما سلف 10 : 124 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(3) " اللحن " هنا بمعنى التعريض والإيماء ، عدولا عن تصريح القول. قال
ابن بري : " للحن ستة معان : الخطأ في الإعراب ، واللغة ، والغناء ، والفطنة
، والتعريض ، والمعنى " .
(10/443)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
قصد بهذا الخبر إخبارَ اليهود الذين
وصف صفتهم في الآيات قبل هذه ، بقبيح فعالهم وذميم أخلاقهم ، واستيجابهم سخطه
بكثرة ذنوبهم ومعاصيهم ، حتى مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير ، خطابًا منه لهم بذلك
، تعريضًا بالجميل من الخطاب ، ولَحَن لهم بما عَرَفوا معناه من الكلام بأحسن
اللحن ، (1) وعلَّم نبيه صلى الله عليه وسلم من الأدب أحسنه فقال له : قل لهم ، يا
محمد ، أهؤلاء المؤمنون بالله وبكتبه الذين تستهزئون منهم ، شرٌّ ، أم من لعنه
الله ؟ وهو يعني المقولَ ذلك لهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا
بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا
يَكْتُمُونَ (61) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإذا جاءكم ، أيها المؤمنون ، هؤلاء المنافقون
من اليهود قالوا لكم : " آمنا " : أي صدّقنا بما جاء به نبيكم محمد صلى
الله عليه وسلم واتبعناه على دينه ، وهم مقيمون على كفرهم وضلالتهم ، قد دخلوا
عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم ويُضمرونه في صدورهم ، وهم يبدون كذبًا
التصديق لكم بألسنتهم " وقد خرجوا به " ، يقول : وقد خرجوا بالكفر من
عندكم كما دخلوا به عليكم ، لم يرجعوا بمجيئهم إليكم عن كفرهم وضلالتهم ، يظنون أن
ذلك من فعلهم يخفى على الله ، جهلا منهم بالله " والله أعلم بما كانوا يكتمون
" ، يقول : والله أعلم بما كانوا - عند قولهم لكم بألسنتهم : " آمنا
بالله وبمحمد وصدّقنا بما جاء
__________
(1) أي : عرض لهم بأحسن التعريض والإيماء.
(10/444)
به " - يكتمون منهم ، بما يضمرونه
من الكفر ، بأنفسهم. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12230 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" وإذا جاءوكم قالوا آمنا " الآية ، أناسٌ من اليهود ، كانوا يدخلون على
النبيّ صلى الله عليه وسلم فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به ، وهم متمسكون
بضلالتهم والكفر. وكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند نبي الله صلى الله عليه
وسلم.
12231 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " ،
قال : هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يهود. يقول : دخلوا كفارًا ، وخرجوا كفارًا.
12232 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد
خرجوا به " ، وإنهم دخلوا وهم يتكلمون بالحق ، وتُسرُّ قلوبهم الكفر ، فقال :
" دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " .
12233 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله
: " وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " (
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) في المطبوعة : " مما يضمرونه " ، والصواب من المخطوطة " بما
" . وسياق هذه الجملة بعد إسقاط الجمل المعترضة المفسرة : والله أعلم بما
كانوا... يكتمون منهم... بأنفسهم " أي : أعلم منهم بأنفسهم. وقوله : "
بما يضمرون من الكفر " ، متعلق بقوله : " والله أعلم بما كانوا يكتمون
" تفسيرًا لقوله : " بما كانوا يكتمون " .
وانظر تفسير " الكتمان " فيما سلف 2 : 228 ، 229.
(10/445)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ، [سورة آل عمران : 72]. فإذا رجعوا إلى كفارهم من أهل
الكتاب وشياطينهم ، رجعوا بكفرهم. وهؤلاء أهل الكتاب من يهود.
12234 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد
الله بن كثير : " وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " ، أي : إنه من
عندهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " وترى
" يا محمد " كثيرًا " ، من هؤلاء اليهود الذين قصصت عليك نبأهم من
بني إسرائيل " يسارعون في الإثم والعدوان " ، يقول : يعجلون بمواقعة
الإثم. (1)
* * *
وقيل : إن " الإثم " في هذا الموضع ، معنيّ به الكفر. (2)
12235 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي في قوله : " وترى كثيًرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان " ، قال
: " الإثم " ، الكفر.
12236 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" وترى كثيًرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان " ، وكان هذا في حُكّام
اليهود بين أيديكم. (3)
__________
(1) انظر تفسير " المسارعة " فيما سلف 10 : 404 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " الإثم " فيما سلف 9 : 196 ، 197 ، ثم سائر فهارس اللغة.
(3) في المطبوعة : " في أحكام اليهود " ، والصواب من المخطوطة.
(10/446)
12237 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن
وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " يسارعون في الإثم والعدوان " ، قال :
هؤلاء اليهود " لبئس ما كانوا يعملون " ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ ) ، إلى قوله : ( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ، قال :
" يصنعون " و " يعملون " واحد. قال : لهؤلاء حين لم ينهوا ،
كما قال لهؤلاء حين عملوا.
قال : وذلك الإدهان. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن السدي ، وإن كان قولا غير مدفوع جوازُ
صحته ، فإن الذي هو أولى بتأويل الكلام : أن يكون القوم موصوفين بأنهم يسارعون في
جميع معاصي الله ، لا يتحاشون من شيء منها ، لا من كفر ولا من غيره. لأن الله
تعالى ذكره عمَّ في وصفهم بما وصفهم به من أنهم يسارعون في الإثم والعدوان ، من
غير أن يخصّ بذلك إثمًا دون إثم.
* * *
وأما " العدوان " ، فإنه مجاوزة الحدّ الذي حدَّه الله لهم في كل ما
حدَّه لهم. (2)
* * *
وتأويل ذلك : أن هؤلاء اليهود الذين وصفهم في هذه الآيات بما وصفهم به تعالى ذكره
، يسارع كثير منهم في معاصي الله وخلاف أمره ، ويتعدَّون حدودَه التي حدَّ لهم فيما
أحلّ لهم وحرّم عليهم ، في أكلهم " السحت " وذلك الرشوة التي يأخذونها
من الناس على الحكم بخلاف حكم الله فيهم. (3)
* * *
يقول الله تعالى ذكره : " لبئس ما كانوا يعملون " ، يقول : أقسم لَبئس
العمل ما كان هؤلاء اليهود يعملون ، في مسارعتهم في الإثم والعدوان ، وأكلهم
السحت.
* * *
__________
(1) قوله : " وذلك الإدهان " حذفت من المطبوعة ، وهي في المخطوطة سيئة
الكتابة هكذا : " قال : وذلك الإركان " ، وصواب قراءته ما أثبت. و
" الإدهان " : اللين والمصانعة ، في الدين وفي كل شيء ، وفي التنزيل :
" ودوا لو تدهن فيدهنون " .
(2) انظر تفسير " العدوان " فيما سلف 9 : 362 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(3) انظر تفسير " السحت " فيما سلف 10 : 317 - 324.
(10/447)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
القول في تأويل قوله : { لَوْلا
يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان
وأكل الرشى في الحكم ، من اليهود من بني إسرائيل ، (1) ربانيوهم وهم أئمتهم
المؤمنون ، وساستهم العلماء بسياستهم (2) وأحبارهم ، وهم علماؤهم وقوادهم (3)
" عن قولهم الإثم " يعني : عن قول الكذب والزور ، وذلك أنهم كانوا
يحكمون فيهم بغير حكم الله ، ويكتبون كتبًا بأيديهم ثم يقولون : " هذا من حكم
الله ، وهذا من كتبه " . يقول الله : ( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ
أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) [سورة البقرة : 79].
* * *
وأما قوله : " وأكلهم السحت " ، فإنه يعني به الرشوة التي كانوا
يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به.
* * *
وقد بينا معنى " الربانيين " و " الأحبار " ومعنى "
السحت " ، بشواهد ذلك فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4)
* * *
" لبئس ما كانوا يصنعون " ، وهذا قسم من الله أقسم به ، يقول تعالى ذكره
: أقسم : لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار ، في تركهم نهيَ الذين
يسارعون منهم في الإثم والعدوان وأكل السحت ، عما كانوا يفعلون من ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " لولا " بمعنى : " هلا " ، فيما سلف 2 : 552
، 553.
(2) انظر تفسير " الربانيون " فيما سلف 5 : 540 - 544/10 : 341 - 343
(3) انظر تفسير " الأحبار " فيما سلف 6 : 543 ، 544/10 : 341 - 343
(4) انظر التعليقات السالفة قريبًا.
(10/448)
وكان العلماء يقولون : ما في القرآن
آية أشدَّ توبيخًا للعلماء من هذه الآية ، ولا أخوفَ عليهم منها.
12238 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الله بن داود قال ، حدثنا سلمة بن
نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم في قوله : " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن
قولهم الإثم " قال : ما في القرآن آية ، أخوف عندي منها : أَنَّا لا ننهى.
(1)
12239 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن عطية قال ، حدثنا قيس ، عن العلاء بن
المسيب ، عن خالد بن دينار ، عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية أشدَّ توبيخًا من
هذه الآية : ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس
ما كانوا يعملون ) قال : كذا قرأ. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12240 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سلمة بن
نبيط ، عن الضحاك : " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم
السحت " [قال : " الربانيون والأحبار " ، فقهاؤهم وقراؤهم
وعلماؤهم. قال : ثم يقول الضحاك : وما أخوفني من هذه الآية!]. (3)
__________
(1) الأثر : 12238 - " عبد الله بن داود بن عامر بن الربيع الهمداني " ،
أبو عبد الرحمن الخريبي. كان ثقة عابدًا ، وكان عسرًا في الرواية. مترجم في
التهذيب.
(2) الأثر : 12239 - " ابن عطية " هو : " الحسن بن عطية بن نجيح
القرشي " ، أبو علي البزار مضى برقم : 1939 ، 4962 ، 7535 ، 8961 ، 8962. وهو
الذي يروي عنه أبو كريب ويقول : " ابن عطية " ، وكان في المطبوعة
والمخطوطة : " أبو عطية " . وهو خطأ.
و " قيس " ، هو " قيس بن الربيع الأسدي " ، مضى برقم : 159 ،
4842 ، 5413 ، 6892 ، 7535.
و " العلاء بن المسيب بن رافع الأسدي " ، مضى برقم : 3789.
و " خالد بن دينار التميمي السعدي " مضى برقم : 44 ، ولم يدرك ابن عباس.
(3) الأثر : 12240 - كان في المطبوعة " ... وأكلهم السحت لبئس ما كانوا
يصنعون " ، أتم الآية ، وليس للخبر تتمة. أما المخطوطة ، فليس فيها تتمة
الآية ولا تتمة الخبر ، والذي أثبته من الدر المنثور 1 : 296 قال : " وأخرج
عبد بن حميد من طريق سلمة بن نبيط... " ، وساق الأثر كما أثبته.
(10/449)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
12241 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد
الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله
: " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما
كانوا يصنعون " ، يعني : الربانيين ، أنهم : لبئس ما كانوا يصنعون.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ
أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ
كَيْفَ يَشَاءُ }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة اليهود على ربهم ، ووصفهم
إياه بما ليس من صفته ، توبيخًا لهم بذلك ، وتعريفًا منه نبيَّه صلى الله عليه
وسلم قديمَ جهلهم واغترارهم به ، وإنكارهم جميع جميل أياديه عندهم ، وكثرة صفحه
عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم واحتجاجًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه له
نبيٌّ مبعوث ورسول مرسل : أنْ كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفيِّ
علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود ، فضلا
عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرأوا كتابًا ، ولاوَعَوْا من علوم أهل الكتاب
علمًا ، فأطلع الله على ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم ، ليقرر عندهم صدقه ،
ويقطع بذلك حجتهم.
* * *
يقول تعالى ذكره : " وقالت اليهود " ، من بني إسرائيل " يد الله
مغلولة " ، يعنون : أن خير الله مُمْسَك وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم ، كما
قال تعالى
(10/450)
ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم
: ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ
الْبَسْطِ ) [سورة الإسراء : 29].
* * *
وإنما وصف تعالى ذكره " اليد " بذلك ، والمعنى العَطاء ، لأن عطاء الناس
وبذلَ معروفهم الغالبَ بأيديهم. فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضًا ، إذا
وصفوه بجود وكرم ، أو ببخل وشحّ وضيق ، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى
يديه ، كما قال الأعشى في مدح رجل :
يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ ، فَكَفٌ مُفِيدَةٌ... وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالزَّادِ
تُنْفِقُ (1)
فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى " اليد " . ومثل ذلك من
كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يُحْصى. فخاطبهم الله بما يتعارفونه
ويتحاورونه بينهم في كلامهم فقال : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " ،
يعني بذلك : أنهم قالوا : إن الله يبخل علينا ، ويمنعنا فضله فلا يُفْضِل ،
كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطَها بعطاء ولا بذلِ معروف ، تعالى الله عما
قالوا ، أعداءَ الله! (2)
__________
(1) ديوانه : 150 ، وغيره. من قصيدته الغالية التي رفعت المحلق وطارت بذكره في
الآفاق ، يقول له : لَعَمْرِي لَقَدْ لاحَتْ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ ... إلَى ضَوْءِ
نارٍ في يَفَاٍع تُحَرَّقُ
تُشَبُّ لمقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهِا ... وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى
والمحَلَّقُ
رَضِيعَيْ لِبَانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَحَالفَا ... بِأَسْحَمَ عَوْضَ الدَّهْرِ لا
نَتَفَرَّقُ
تَرَى الجُودَ يَجْرِيِ ظَاهِرًا فَوْقَ وَجْهِهِ ... كَمَا زَانَ مَتْنَ
الهُنْدُوَانِيِّ رَوْنَقُ
يَدَاهُ يَدَا صِدْقٍ ، فَكفٌّ مُفِيدَةٌ ... وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ
تُنْفِقُ
هذه رواية مخطوطة ديوانه التي صورتها حديثًا ، ورواية هذه المخطوطة تخالف الرواية
المطبوعة في أشياء كثيرة ، ولا سيما في ترتيب أبيات الشعر.
(2) في المطبوعة : " عما قال أعداء الله " ، وأثبت ما في المخطوطة ،
وقوله : " أعداء الله " منصوب على الذم.
(10/451)
فقال الله مكذِّبَهم ومخبرَهم بسخَطه
عليهم : " غلت أيديهم " ، يقول : أمسكت أيديهم عن الخيرات ، وقُبِضت عن
الانبساط بالعطيات " ولعنوا بما قالوا " ، وأبعدوا من رحمة الله وفضله
بالذي قالوا من الكفر ، وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب والإفك (1)
" بل يداه مبسوطتان " ، يقول : بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق
عباده وأقوات خلقه ، غيُر مغلولتين ولا مقبوضتين (2) " ينفق كيف يشاء "
، يقول : يعطي هذا ، ويمنع هذا فيقتِّر عليه. (3)
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12242 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت
أيديهم ولعنوا بما قالوا " ، قال : ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقةٌ ،
ولكنهم يقولون : إنه بخيل أمسك ما عنده ، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيًرا.
12243 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " يد الله مغلولة " ، قالوا : لقد
تَجَهَّدنا الله يا بني إسرائيل ، (4) حتى
__________
(1) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف 10 : 437 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " البسط " فيما سلف 5 : 288 ، 290 ، 313.
(3) انظر تفسير " الإنفاق " فيما سلف 7 : 134 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك ، ثم سائر فهارس اللغة.
(4) في المطبوعة ، حذف ما وضعته بين الخطين ، وكان في المخطوطة : " لقد
تجهدنا الله ، أي تجهدنا الله يا بني إسرائيل " ، ورجحت أن صوابها كما
أثبتها. ولم يذكر في كتب اللغة " تجهد " (مشددة الهاء) بمعنى : ألح عليه
في السؤال حتى أفنى ما عنده ، وكأنه من أجل ذلك فسره بقوله (كما قرأته) : "
أي جهدنا الله " من قولهم " جهد الرجل " (ثلاثيا) : إذا ألح عليه
في السؤال. هذا ما رأيته ، وفوق كل ذي علم عليم. وانظر الأثر التالي.
(10/452)
جعل الله يده إلى نحره! وكذبوا!
12244 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " يد الله مغلولة " ، قال : اليهود تقوله : (1) لقد تجهَّدنا
الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب ، (2) حتى إن يده إلى نحره " بل يداه
مبسوطتان ، ينفق كيف يشاء " .
12245 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " إلى " والله
لا يحب المفسدين " ، أما قوله : " يد الله مغلولة " ، قالوا : الله
بخيل غير جواد! قال الله : " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " .
12246 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه
مبسوطتان ينفق كيف يشاء " ، قالوا : إن الله وضع يده على صدره ، فلا يبسطها
حتى يردّ علينا ملكنا.
* * *
وأما قوله : " ينفق كيف يشاء " ، يقول : يرزق كيف يشاء.
12247 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ،
قال عكرمة : " وقالت اليهود يد الله مغلولة " الآية ، نزلت في فنْحاص
اليهوديّ.
12248 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن
سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم قوله : " يد الله مغلولة " ، يقولون : إنه
__________
(1) في المطبوعة : " اليهود تقول " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر التعليق السالف ص : 452 ، رقم : 4.
(10/453)
بخيل ليس بجواد! قال الله : " غلت
أيديهم " ، أمسكت أيديهم عن النفقة والخير. ثم قال يعني نفسه : " بل
يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " . وقال : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً
إِلَى عُنُقِكَ ) [سورة الإسراء : 29] ، يقول : لا تمسك يدك عن النفقة.
* * *
قال أبو جعفر : واختلف أهل الجدل في تأويل قوله : " بل يداه مبسوطتان "
. (1) فقال بعضهم : عنى بذلك : نِعمتاه. وقال : ذلك بمعنى : " يد الله على
خلقه " ، وذلك نعمه عليهم. وقال : إن العرب تقول : " لك عندي يد "
، يعنون بذلك : نعمةٌ.
* * *
وقال آخرون منهم : عنى بذلك القوة. وقالوا : ذلك نظير قول الله تعالى ذكره : (
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي )
[سورة ص : 45].
* * *
وقال آخرون منهم : بل " يده " ، ملكه. وقال : معنى قوله : " وقالت
اليهود يد الله مغلولة " ، ملكه وخزائنه.
قالوا : وذلك كقول العرب للمملوك : " هو ملك يمينه " ، و " فلان
بيده عُقدة نكاح فلانة " ، أي يملك ذلك ، وكقول الله تعالى ذكره : (
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) ، [سورة المجادلة : 12].
* * *
وقال آخرون منهم : بل " يد الله " صفة من صفاته ، هي يد ، غير أنها ليست
بجارحة كجوارح بني آدم.
قالوا : وذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ عن خصوصه آدم بما خصّه به من خلقه إياه
بيده. (2)
__________
(1) هذه أول مرة يذكر فيها أبو جعفر أصحاب الكلام ويسميهم " أهل الجدل "
.
(2) في المطبوعة : " عن خصوصية آدم " ، وأعاد " خصوصية "
بالنسب في جميع ما سيأتي ، وهو عبث من المصحح ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/454)
قالوا : ولو كان [معنى " اليد
" ، النعمة ، أو القوة ، أو الملك ، ما كان لخصوصِه] آدم بذلك وجه مفهوم ،
(1) إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته ، ومشيئتُه في خلقه تعمةٌ ، وهو لجميعهم
مالك.
قالوا : وإذ كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقَه إياه بيده دون غيره من عباده ،
كان معلومًا أنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق.
قالوا : وإذا كان ذلك كذلك ، بطل قول من قال : معنى " اليد " من الله ،
القوة والنعمة أو الملك ، في هذا الموضع.
قالوا : وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون أن : " يد الله " في قوله
: " وقالت اليهود يد الله مغلولة " ، هي نعمته ، لقيل : " بل يده
مبسوطة " ، ولم يقل : " بل يداه " ، لأن نعمة الله لا تحصى كثرة.
(2) وبذلك جاء التنزيل ، يقول الله تعالى : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ
لا تُحْصُوهَا ) [سورة إبراهيم : 34\ وسورة النحل : 18]
قالوا : ولو كانت نعمتين ، كانتا محصاتين.
قالوا : فإن ظن ظانٌّ أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة ، فذلك منه خطأ ، وذلك أنّ
العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه ، وذلك كقول الله
تعالى ذكره : ( وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) [سورة العصر : 1 ، 2]
وكقوله( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ ) ، [سورة الحجر : 26] وقوله : ( وَكَانَ
الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ) [سورة الفرقان : 55] ، قال : فلم يُرَدْ بـ
" الإنسان " و " الكافر " في هذه الأماكن إنسان بعينه ، ولا
كافر مشار إليه حاضر ، بل عني به جميع الإنس وجميع الكفار ، ولكن الواحد أدَّى عن
جنسه ، كما تقول العرب :
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين زيادة يقتضيها الكلام ، استظهرتها من سياق هذه الحجج
ما استطعت ، وإسقاطها مفسد للكلام.
(2) في المطبوعة : " لا تحصى بكثرة " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/455)
" ما أكثر الدرهم في أيدي الناس
" ، وكذلك قوله : ( وَكَانَ الْكَافِرُ ) معناه : وكان الذين كفروا.
قالوا : فأما إذا ثنَّى الاسم ، فلا يؤدي عن الجنس ، ولا يؤدّي إلا عن اثنين
بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما. (1)
قالوا : وخطأ في كلام العرب أن يقال : " ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس
" ، بمعنى : ما أكثر الدراهم في أيديهم.
قالوا : وذلك أن الدرهم إذا ثنِّي لا يؤدي في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما.
قالوا : وغيرُ محال : " ما أكثر الدرهم في أيدي الناس " ، و " ما
أكثر الدراهم في أيديهم " ، لأن الواحد يؤدي عن الجميع.
قالوا : ففي قول الله تعالى : " بل يداه مبسوطتان " ، مع إعلامه عبادَه
أن نعمه لا تحصى ، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤدّيان
عن الجميع ما ينبئ عن خطأ قول من قال : معنى " اليد " ، في هذا الموضع ،
النعمة وصحةِ قول من قال : إن " يد الله " ، هي له صفة.
قالوا : وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال به العلماء
وأهل التأويل.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن هذا الذي
أطلعناك عليه من خفيِّ أمور هؤلاء اليهود ، مما لا يعلمه إلا علماؤهم وأحبارهم ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " فلا يؤدي إلا عن اثنين " ، وهو لا يستقيم
بالفاء ، إنما يستقيم بالواو كما أثبته.
(10/456)
احتجاجًا عليهم لصحة نبوتك ، وقطعًا
لعذر قائلٍ منهم أن يقول : " ما جاءنا من بشير ولا نذير " : "
ليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا " . يعني بـ "
الطغيان " : الغلو في إنكار ما قد علموا صحته من نبوة محمد صلى الله عليه
وسلم والتمادي في ذلك " وكفرًا " ، يقول : ويزيدهم مع غلوِّهم في إنكار
ذلك ، جحودَهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته ، بأن ينسبوه إلى البخل ، ويقولوا
: " يد الله مغلولة " . وإنما أعلم تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه
وسلم أنهم أهل عتوّ وتمرُّدٍ على ربهم ، وأنهم لا يذعنون لحقّ وإن علموا صحته ،
ولكنهم يعاندونه ، يسلِّي بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الموجِدة بهم في
ذهابهم عن الله ، وتكذيبهم إياه.
* * *
وقد بينت معنى " الطغيان " فيما مضى بشواهده ، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12249 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وليزيدن
كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا " ، حملهم حسدُ محمد صلى
الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به ، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الطغيان " فيما سلف 1 : 308 ، 309/5 : 419.
(10/457)
القول في تأويل قوله : { وَأَلْقَيْنَا
بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء
إلى يوم القيامة " ، بين اليهود و النصارى ، كما : -
12250 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " ،
اليهود والنصارى.
* * *
فإن قال قائل : وكيف قيل : " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء " ، جعلت
" الهاء والميم " في قوله : " بينهم " ، كناية عن اليهود
والنصارى ، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر ؟
قيل : قد جرى لهم ذكر ، وذلك قوله : ( لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) ، [سورة المائدة : 51] ، جرى الخبر
في بعض الآي عن الفريقين ، وفي بعضٍ عن أحدهما ، إلى أن انتهى إلى قوله : "
وألقينا بينهم العداوة والبغضاء " ، ثم قصد بقوله : " ألقينا بينهم
" ، الخبرَ عن الفريقين.
* * *
القول في تأويل قوله : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا
اللَّهُ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : كلما جمع أمرهم على شيء فاستقام واستوى ،
فأرادوا مناهضة من ناوأهم ، شتته الله عليهم وأفسده ، لسوء فعالهم وخُبْثِ نياتهم
، (1) كالذي : -
__________
(1) انظر تفسير " أوقد " فيما سلف 1 : 320 ، 380/6 : 222.
(10/458)
12251 - حدثني المثنى قال ، حدثنا
إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : (
لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا
جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ثُمَّ رَدَدْنَا
لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ) [سورة الإسراء : 4 - 6] ، قال : كان الفساد الأول
، فبعث الله عليهم عدوًّا فاستباحوا الديار ، واستنكحوا النساء ، واستعبدوا
الولدان ، وخرَّبوا المسجد. فغَبَرُوا زمانًا ، (1) ثم بعث الله فيهم نبيًّا وعاد
أمرهم إلى أحسن ما كان. ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء ، حتى قتلوا يحيى بن
زكريا ، فبعث الله عليهم بُخْت نصَّر ، فقتل من قتل منهم ، وسبى من سبى ، وخرب
المسجد. فكان بخت نصر الفسادَ الثاني قال : و " الفساد " ، المعصية ثم
قال ، ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا
الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) إلى قوله : ( وَإِنْ عُدْتُمْ
عُدْنَا ) [سورة الإسراء : 7 ، 8] فبعث الله لهم عُزَيْرًا ، وقد كان علم التوراة
وحفظها في صدره وكتبها لهم. فقام بها ذلك القرن ، ولبثوا فنسوا. (2) ومات عزير ،
وكانت أحداثٌ ، ونسوا العهد وبَخَّلوا ربهم ، وقالوا : " يد الله مغلولة
غُلَّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " ، وقالوا
في عزير : " إن الله اتخذه ولدًا " ، وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في
قولهم في المسيح ، فخالفوا ما نَهَوْا عنه ، وعملوا بما كانوا يكفِّرون عليه ،
فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لن يظهروا على عدوٍّ آخرَ الدهر ، (3) فقال :
" كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب
المفسدين " ، فبعث الله عليهم المجوس الثالثةَ أربابًا ، (4) فلم يزالوا كذلك
والمجوس
__________
(1) في المطبوعة : " فغيروا " بالياء ، وهو خطأ. " غبروا زمانا
" : لبثوا زمانًا.
(2) في المطبوعة : " ونسوا " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " لم يظهروا " ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(4) في المطبوعة : " المجوس الثلاثة أربابًا " ، والصواب ما في المخطوطة
، ويعني وعد الآخرة ، وهي المرة الثالثة.
(10/459)
على رقابهم ، وهم يقولون : " يا
ليتنا أدركنا هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا ، عسى الله أن يفكَّنا به من
المجوس والعذاب الهون " ! فبعث محمدًا صلى الله عليه وسلم واسمه " محمد
" ، واسمه في الإنجيل " أحمد " فلما جاءهم وعرفوا ، (1) كفروا به ،
قال : ( فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [سورة البقرة : 89] ، وقال : (
فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ) ، بسورة البقرة : 90]. (2)
12252 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله " ، هم اليهود.
12253 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " كلما
أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا " ، أولئك أعداء الله
اليهود ، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ، فلن تلقَى اليهود ببلد إلا وجدتهم
من أذلّ أهله. لقد جاء الإسلام حين جاء ، وهم تحت أيدي المجوس أبغضِ خلقه إليه.
12254 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله " ، قال : كلما
أجمعوا أمرهم على شيء فرَّقه الله ، وأطفأ حَدَّهم ونارهم ، (3) وقذف في قلوبهم
الرعب.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فلما جاءهم ما عرفوا... " كنص آية البقرة : 89 ،
وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب أيضًا ، لا يريد الآية ، بل أراد معناها.
(2) الأثر : 12251 - هذا الأثر ، لم يذكره أبو جعفر في تفسير آيات " سورة
الإسراء : 4 - 8 " في تفسيره 15 : 17 - 35 (بولاق). وهذا أحد الأدلة على
اختصار التفسير.
(3) " الحد " : البأس والنفاذ. و " حد الظهيرة " : شدة
توقدها.
(10/460)
وقال مجاهد بما : -
12255 - حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد قوله : " كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله " ، قال : حربُ
محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ (64) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله ،
فيكفرون بآياته ويكذبون رسله ، ويخالفون أمره ونهيه ، وذلك سعيُهم فيها بالفساد
" والله لا يحب المفسدين " ، يقول : والله لا يحب من كان عامِلا بمعاصيه
في أرضه. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفساد في الأرض " فيما سلف : 287 ، 416/ ثم 10 : 257
تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
وتفسير " السعي " فيما سلف 4 : 238 ، وفي سائر فهارس اللغة.
(10/461)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ أَنَّ
أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " ولو أن أهل الكتاب " ، وهم اليهود
والنصارى " آمنوا " بالله وبرسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فصدَّقوه
واتبعوه وما أنزل عليه " واتقوا " ما نهاهم الله عنه فاجتنبوه "
لكفرنا عنهم سيئاتهم " ، يقول : محوْنا عنهم ذنوبَهم فغطينا عليها ، ولم
نفضحهم بها (1)
" ولأدخلناهم
__________
(1) انظر تفسير " التكفير " فيما سلف 7 : 482 ، 490/8 : 254 وتفسير
" السيئات " فيما سلف من فهارس اللغة (سوأ).
(10/461)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
جنات النعيم " ، يقول :
ولأدخلناهم بساتِين ينعَمون فيها في الآخرة. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12256 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ولو
أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا " ، يقول : آمنوا بما أنزل الله ، واتقوا ما حرم
الله ، " لكفرنا عنهم سيئاتهم " .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ
وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ولو أنهم أقامُوا التوراة
والإنجيلَ " ، ولو أنهم عملوا بما في التوراة والإنجيل (2) " وما أنزل
إليهم من ربهم " ، يقول : وعملوا بما أنزل إليهم من ربهم من الفرقانِ الذي
جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
فإن قال قائل : وكيف يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه
وسلم ، مع اختلاف هذه الكتب ، ونسخِ بعضها بعضًا ؟
قيل : إنها وإن كانت كذلك في بعض أحكامها وشرائعها ، فهي متَّفِقة في الأمر
بالإيمان برُسُل الله ، والتصديق بما جاءت به من عند الله. فمعنى إقامتهم التوراةَ
والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم : تصديقُهُم بما فيها ، والعملُ
__________
(1) انظر تفسير " الجنة " فيما سلف 8 : 448 ، تعليق : 3 ، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " الإقامة " فيما سلف من فهارس اللغة (قوم) مثل "
إقامة الصلاة " .
(10/462)
بما هي متفقة فيه ، وكل واحد منها في
الحين الذي فرض العمل به. (1)
* * *
وأما معنى قوله : " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، فإنه يعني :
لأنزل الله عليهم من السماء قَطْرَها ، فأنبتت لهم به الأرض حبها ونباتها ، فأخرج
ثمارَها.
* * *
وأما قوله : " ومن تحت أرجلهم " ، فإنه يعني تعالى ذكره : لأكلوا من
برَكة ما تحت أقدامِهم من الأرض ، وذلك ما تخرجه الأرض من حَبِّها ونباتها
وثمارِها ، وسائرِ ما يؤكل مما تخرجه الأرض.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12257 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما
أنزل إليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم " ، يعني : لأرسل السماءَ عليهم مدرارًا
" ومن تحت أرجلهم " ، تخرج الأرض برَكتها.
12258 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولو
أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت
أرجلهم " ، يقول : إذًا لأعطتهم السماء برَكتها والأَرْضُ نَباتها.
12259 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا
من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، يقول : لو عملوا بما أنزل إليهم
__________
(1) في المطبوعة : " وكل واحد منهما في الخبر الذي فرض العمل به " ، وهي
جملة لا معنى لها ، صوابها من المخطوطة.
(10/463)
مما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم
، لأنزلنا عليهم المطرَ ، فلأنبت الثَّمر. (1)
12260 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم
" ، أمّا " إقامتهم التوراة " ، فالعمل بها وأما " ما أنزل
إليهم من ربهم " ، فمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه. يقول : "
لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، أما " من فوقهم " ، فأرسلت
عليهم مطرًا ، وأما " من تحت أرجلهم " ، يقول : لأنبتُّ لهم من الأرض من
رزقي ما يُغْنيهم.
12261 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد قوله : " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، قال : بركات السماء
والأرض قال ابن جريج : " لأكلوا من فوقهم " ، المطر " ومن تحت أرجلهم
" ، من نبات الأرض.
12262 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " من فوقهم ومن تحت أرجلهم " ، يقول : لأكلوا
من الرزق الذي ينزل من السماء " ومن تحت أرجلهم " ، يقول : من الأرض.
* * *
وكان بعضهم يقول (2) إنما أريد بقوله : " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
" ، التَّوْسِعَة ، كما يقول القائل : " هو في خير من قَرْنه إلى قدمه
" . (3)
وتأويل أهل التأويل بخلاف ما ذكرنا من هذا القول ، وكفى بذلك شهيدًا على فساده.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " فأنبتت الثمر " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب
محض.
(2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1 : 315.
(3) في المطبوعة : " من فرقه إلى قدمه " ، وأثبت ما في المخطوطة ،
ومعاني القرآن للفراء و " القرن " : حد الرأس وجانبها ، ورأس كل عال
قرنه.
(10/464)
القول في تأويل قوله : { مِنْهُمْ
أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " منهم أمة " ، منهم جماعة (1)
" مقتصدة " ، يقول : مقتصدة في القول في عيسى ابن مريم ، قائلةٌ فيه
الحقَّ أنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، لا غاليةٌ قائلةٌ : إنه
ابن الله ، تعالى الله عما قالوا من ذلك ، ولا مقصرة قائلةٌ : هو لغير رِشْدَة
" وكثير منهم " ، يعني : من بني إسرائيل من أهل الكتابِ اليهودِ
والنصارى " ساء ما يعملون " ، يقول : كثير منهم سيئ عملهم ، (2) وذلك
أنهم يكفرون بالله ، فتكذب النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتزعُم أن المسيحَ
ابن الله وتكذِّب اليهود بعيسى وبمحمد صلى الله عليهما. فقال الله تعالى فيهم
ذامًّا لهم : " ساء ما يعملون " ، في ذلك من فعلهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12264 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد : " منهم أمة مقتصدة " ، وهم مسلمة أهل الكتاب " وكثير
منهم ساءَ ما يعملون " . (3)
12265 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل قال ، حدثنا عبد الله
بن كثير ، أنه سمع مجاهدًا يقول : تفرَّقت بنو إسرائيل فِرَقًا ، فقالت
__________
(1) انظر تفسير " أمة " فيما سلف 7 : 106 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " ساء " فيما سلف 9 : 205 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك.
(3) سقط من الترقيم ، رقم : 12263 سهوًا.
(10/465)
فرقة : " عيسى هو ابن الله "
، وقالت فرقة : " هو الله " ، وقالت فرقة : " هو عبد الله وروحه
" ، وهي المقتصدة ، وهي مسلمةُ أهل الكتاب.
12266 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله :
" منهم أمة مقتصدة " ، يقول : على كتابه وأمره. ثم ذمّ أكثر القوم فقال
: " وكثير منهم ساء ما يعملون " .
12267 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " منهم أمة مقتصدة " ، يقول : مؤمنة.
12268 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " منهم
أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون " قال : المقتصدة ، أهلُ طاعة الله. قال
: وهؤلاء أهل الكتاب.
12269 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن
أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما
يعملون " ، قال : فهذه الأمة المقتصدة ، الذين لا هم جَفَوا في الدين ولا هم
غلوا. (1) قال : و " الغلو " ، الرغبة [عنه] ، و " الفسق " ،
التقصير عنه. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " الذين لا هم فسقوا في الدين " ، وهي كذلك في الدر
المنثور 2 : 297 ، والذي في المخطوطة هو ما أثبته ، وهو الصواب إن شاء الله ، وفي
الحديث : " وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي " ، وفيه أيضا :
" اقرأوا القرآن ولا تجفوا عنه " ، أي تعاهدوه ولا تبعدوا عن تلاوته.
(2) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، استظهرتها من الأثر السالف رقم : 10853
، من تفسير الربيع بن أنس أيضا لآية سورة النساء : 171.
(10/466)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) }
قال أبو جعفر : وهذا أمر من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم ،
(1) بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قصَّ تعالى ذكره قَصَصهم
في هذه السورة ، وذكر فيها معايبهم وخُبْثَ أديانهم ، واجتراءَهم على ربهم ،
وتوثُّبهم على أنبيائهم ، وتبديلَهم كتابه ، وتحريفَهم إياه ، ورداءةَ مطاعِمهم
ومآكلهم وسائرِ المشركين غيرِهم ، (2) ما أنزل عليه فيهم من معايبهم ، والإزراء
عليهم ، والتقصير بهم ، والتهجين لهم ، وما أمرهم به ونهاهم عنه ، وأن لا يُشْعر
نفسَه حذرًا منهم أن يُصيبوه في نفسه بمكروهٍ ما قام فيهم بأمر الله ، (3) ولا
جَزعًا من كثرة عددهم وقلّة عدد من معه ، وأن لا يتّقى أحدًا في ذات الله ، فإن
الله تعالى ذكره كافيه كلَّ أحد من خلقه ، ودافعٌ عنه مكروهَ كل من يبغي مكروهه.
(4) وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصَّر عن إبلاغ شيء مما أنزل إليه إليهم ، فهو في تركه
تبليغ ذلك وإن قلّ ما لم يبلّغ منه فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذَّنب بمنزلته لو
لم يبلِّغ من تنزيله شيئًا.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
__________
(1) في المطبوعة : " لنبيه محمد " ، غير ما في المخطوطة على غير طائل.
(2) قوله : " وسائر المشركين " مجرور معطوف على قوله : " بإبلاغ
هؤلاء اليهود والنصارى ... " ومفعول قوله : " بإبلاغ هؤلاء ... "
هو : " ما أنزل عليه فيهم " .
(3) في المطبوعة : " أن يصيبه في نفسه مكروه " ، غير ما في المخطوطة على
غير طائل.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " كل من يتقي مكروهه " ، وهو فاسد جدًا ،
صوابه ما أثبت.
(10/467)
12270 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد
الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله :
" يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته
" ، يعني : إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك ، لم تبلِّغ رسالاتي. (1)
12271 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " ، الآية ، أخبر الله نبيَّه صلى
الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس ، ويعصمه منهم ، وأمره بالبلاغ. ذكر لنا أن نبيَّ
الله صلى الله عليه وسلم قيل له : لو احتجبت! فقال : والله لأبديَنَّ عَقِبي للناس
ما صاحبتهم. (2)
12272 - حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان الثوري ،
عن رجل ، عن مجاهد قال : لما نزلت : " بلغ ما أنزل إليك من ربك " ، قال
: إنما أنا واحد ، كيف أصنع ؟ تجَمَّع عليّ الناس! (3) فنزلت : " وإن لم تفعل
فما بلغت رسالته " ، الآية.
12273 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن ثعلبة ، عن جعفر ، عن سعيد بن
جبير قال : لما نزلت : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل
فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: لا تحرسوني ، إنّ ربّي قد عَصَمني. (4)
__________
(1) في المطبوعة : " رسالتي " ، غير ما في المخطوطة.
(2) قوله : " احتجبت " ، أي : احتجبت عن الناس حتى لا يدرك منه من يبغيه
الغوائل. و " العقب " هنا " عقب القدم " ، وهي مؤخرها ، وهي
مؤنثة. يعني بذلك : لأظهرن لهم سائرًا بينهم لا أحتجب. وكل من خرج إلى الناس ، فقد
بدا لهم عقبه ، وهو يسير بينهم. وهذه كناية حسنة. وقوله : " ما صاحبتهم
" ، للتأييد ، كأنه قال : " ما عشت " .
(3) في المطبوعة : " تجتمع على الناس " ، وأثبت ما في المخطوطة. ومعنى
قوله : " تجمع على الناس " ، أي : تألبوا عليه وعادوه من جراء دعوته إلى
دين الله. وهذا تعجب.
(4) الأثر : 12273 - " جرير " ، هو " جرير بن عبد الحميد الضبي
" ، مضى مرارًا كثيره.
و " ثعلبة " هو " ثعلبة بن سهيل التميمي الطهوي " ، كان
متطببًا ، ثقة ، لا بأس به ، مترجم في التهذيب.
و " جعفر " هو " جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي " ، مضى برقم :
87 ، 617 ، 4347 ، 7269.
وهذا خبر مرسل. انظر تفسير ابن كثير 3 : 196.
(10/468)
12274 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن
وكيع قالا حدثنا ابن علية ، عن الجُريريّ ، عن عبد الله بن شقيق : أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يعتقِبه ناسٌ من أصحابه ، فلما نزلت : " والله يعصمك
من الناس " ، خرج فقال : يا أيها الناس ، الحقوا بملاحِقِكم ، فإنّ الله قد
عصمني من الناس. (1)
12275 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن عاصم بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي
قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحارسه أصحابه ، فأنزل الله تعالى ذكره :
" يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته
" ، إلى آخرها.
12276 - حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال ، حدثنا الحارث بن عبيدة
أبو قدامة الإيادي قال ، حدثنا سعيد الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عائشة
قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس ، حتى نزلت هذه الآية : " والله
يعصمك من الناس " ، قالت : فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة
فقال : " أيها الناس ، انصرفوا ، فقد عصمني الله. (2)
__________
(1) الأثر : 12274 - " الجريري " ، هو " سعيد بن إياس الجريري
" ، مضى برقم : 196.
و " عبد الله بن شقيق العقيلي " ، تابعي ثقة ، مضى برقم : 196 ، وهذا
الخبر مرسل أيضًا ، وسيأتي موصولا برقم : 12276
وقوله : " يعتقبه ناس من أصحابه " : أي يتناوبون حراسته ويتداولونها ،
من " العقبة " وهي النوبة ، يقال : " جاءت عقبة فلان " ، أي
نوبته.
وقوله : " ألحقوا بملاحقكم " ، يأمرهم أن يوافوا أماكنهم التي يرجعون
إليها إذا آبوا. ولم أجد هذا التعبير في غير هذا الخبر ، ولا قيده أصحاب غريب
الحديث. و " الملاحق " جمع " ملحق " (بفتح الميم وسكون اللام
وفتح الحاء) : أي الموضع الذي ينزلونه عند مرجعهم.
(2) الأثر : 12276 - " الحارث بن عبيد الإيادي " ، " أبو قدامة
" ، قال أحمد : " مضطرب الحديث " ، وقال ابن معين : " ضعيف
" ، وقال أبو حاتم : " ليس بالقوي ، يكتب حديثه ولا يحتج به " .
وقال ابن حبان : " كان ممن كثر وهمه ، حتى خرج عن جملة من يحتج به إذا انفرد
" . مترجم في التهذيب. والكبير 1/ 2/ 273.
وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير وقال : " هذا حديث غريب ، وروى بعضهم
هذا الحديث عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، ولم يذكر فيه عائشة " .
ورواه الحاكم في المستدرك 2 : 313 ، من هذه الطريق نفسها ثم قال : " هذا حديث
صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي.
وكان في المطبوعة : " فإن الله قد عصمني " ، خالف نص المخطوطة لغير شيء.
وما في المخطوطة هو المطابق لروايته في الترمذي والمستدرك.
(10/469)
12277 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال
، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن القرظيّ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال
يُحْرَس ، حتى أنزل الله : " والله يعصمك من الناس " .
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية.
فقال بعضهم : نزلت بسب أعرابيّ كان همَّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فكفاه الله إياه.
ذكر من قال ذلك :
12278 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن
كعب القرظي وغيره قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له
أصحابه شجرة ظليلة ، فيَقِيل تحتها. فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال (1) من يمنعك
مني ؟ قال : الله! فرُعِدت يد الأعرابيّ وسقط السيف منه ، (2) قال : وضرب برأسه
الشجرة حتى انتثر دُماغه ، فأنزل الله : " والله يعصمك من الناس " . (3)
* * *
__________
(1) " اخترط السيف " : سله من غمده.
(2) هكذا جاءت الرواية " فرعدت يد الأعرابي " بالبناء للمجهول ، ولم أجد
من " الرعدة " ثلاثيًا " رعد " بالبناء للمجهول ، بل الذي
رووه وأطبقوا عليه " أرعد " (بالبناء للمجهول). فإن صح هذا الخبر ،
فالثلاثي المبني للمجهول مما يزاد على مادة اللغة.
(3) الأثر : 12278 - انظر خبر هذا الأعرابي فيما سلف رقم : 11565 ، والتعليق عليه
هناك ، وليس فيه أنه ضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه.
(10/470)
وقال آخرون : بل نزلت لأنه كان يخاف
قريشًا ، فأومن من ذلك.
ذكر من قال ذلك :
12279 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال :
كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشًا ، فلما نزلت : " والله يعصمك من
الناس " ، استلقى ثم قال : " من شاء فليخذلني مرتين أو ثلاثًا.
12280 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن ابن أبي خالد ، عن عامر ، عن مسروق قال
، قالت عائشة : من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من الوحي فقد
كذب! ثم قرأت : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك " ، الآية. (1)
12281 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن المغيرة ، عن الشعبي قال ، قالت
عائشة : من قال إن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم ، فقد كذبَ وأعظم الفرية على
الله! قال الله تعالى ذكره : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك
" الآية.
12282 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية قال : أخبرنا داود بن أبي
هند ، عن الشعبي ، عن مسروق قال ، قالت عائشة : من زعم أنّ محمدًا صلى الله عليه
وسلم كتم شيئًا من كتاب الله ، فقد أعظم على الله الفرية! والله يقول : " يا
أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " ، الآية. (2)
12283 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني
خالد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن محمد بن الجهم ،
__________
(1) الأثر : 12280 - " ابن أبي خالد " ، هو : " إسمعيل بن أبي خالد
الأحمسي " . وكان في المخطوطة والمطبوعة : " عن أبي خالد " ، وهو
خطأ لا شك فيه ، فإن البخاري رواه من طريق وكيع ، عن إسمعيل بن أبي خالد ، عن عامر
، عن مسروق ، مطولا (الفتح 8 : 466) ، وليس فيمن روى عنه وكيع هذا الخبر من يسمى
" أبا خالد " .
وهذا الخبر رواه أبو جعفر من أربع طرق ، سيأتي تخريجها بعد.
(2) الأثر : 12282 - رواه مسلم مطولا في صحيحه ، من طريق إسماعيل بن علية ، عن
داود.
وهذه الأخبار الثلاثة السالفة ، خبر واحد بأسانيد ثلاثة. رواه البخاري (الفتح 8 :
206) من طريق سفيان ، عن إسمعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن مسروق. ثم رواه من
هذه الطريق ، ومن طريق أبي عامر العقدي ، عن شعبة ، عن إسمعيل بن أبي خالد ، عن
الشعبي (الفتح 13 : 422) ، مختصرا.
(10/471)
عن مسروق بن الأجدع قال : دخلت على
عائشة يومًا فسمعتها تقول : لقد أعظمَ الفرية من قال إنّ محمدًا كتم شيئًا من
الوحي! والله يقول : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " . (1)
* * *
ويعني بقوله : " والله يعصمك من الناس " ، يمنعك من أن ينالوك بسوء.
وأصله من " عِصَام القربة " ، وهو ما تُوكىَ به من سير وخيط ، (2)
ومنه قول الشاعر : (3)
وَقُلْتُ : عَلَيْكُمْ مَالِكًا ، إنَّ مَالِكًا... سَيَعْصِمُكُمُ ، إنْ كَانَ
فِي النَّاسِ عَاصِمُ (4)
يعني : يمنعكم.
* * *
وأما قوله : " إن الله لا يهدي القوم الكافرين " ، فإنه يعني : إن الله
لا يوفِّق للرُّشْد من حاد عن سبيل الحق ، وجار عن قصد السبيل ، وجحد ما جئته به
من عند الله ، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه. (5)
* * *
__________
(1) الأثر : 12283 - " الليث " هو " الليث بن سعد " الإمام.
و " خالد " ، هو : " خالد بن يزيد الجمحي المصري " ، الفقيه
المفتي ، ثقة ، مضى برقم : 3965 ، 5465 ، 9185 ، 9507.
و " سعيد بن أبي هلال الليثي المصري " ، ثقة. مضى برقم : 1495 ، 3965 ،
5465.
(2) انظر تفسير " عصم " و " عصام " فيما سلف 7 : 62 ، 63 ،
70/9 : 341.
(3) لم أعرف قائله.
(4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 171. و " عليك " اسم فعل للإغراء ، يقال
: " عليك زيدًا " و " عليك بزيد " .
(5) انظر تفسير " هدى " فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/472)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
القول في تأويل قوله : { قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ
وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ }
قال أبو جعفر : وهذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم
بإبلاغ اليهود والنصارى الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَره. يقول تعالى ذكره له :
" قل " ، يا محمد ، لهؤلاء اليهود والنصارى " يا أهل الكتاب "
، التوراة والإنجيل " لستم على شيء " ، مما تدَّعون أنكم عليه مما جاءكم
به موسى صلى الله عليه وسلم ، معشرَ اليهود ، ولا مما جاءكم به عيسى ، معشرَ
النصارى " حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم " ، مما
جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم من الفرقان ، فتعملوا بذلك كله ، وتؤمنوا بما
فيه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، وتقرُّوا بأن كل ذلك من عند
الله ، فلا تكذِّبوا بشيء منه ، ولا تفرِّقوا بين رسل الله فتؤمنوا ببعض وتكفروا
ببعض ، فإن الكفر بواحد من ذلك كفر بجميعه ، لأنّ كتب الله يصدِّق بعضها بعضًا ،
فمن كذَّب ببعضها فقد كذَّب بجميعها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر.
12284 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا محمد
بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد
بن جبير ، عن ابن عباس قال : جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رافعُ بن حارثة
وسَلام بن مِشْكم ، (1) ومالك بن الصيف ، ورافع بن حريملة ، (2) فقالوا : يا محمد
، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " سلام بن مسكين " ، ولم أجد هذا الاسم
فيمن كان من يهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعروف هو ما أثبته
وهو الموجود في هذا الخبر في سيرة ابن هشام.
(2) في المطبوعة : " ... بن حرملة " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو مطابق
لما في سيرة ابن هشام.
(10/473)
وتؤمن بما عندنا من التوراة ، وتشهد
أنها من الله حق ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بلى ، ولكنكم
أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخِذَ عليكم من الميثاق ، وكتمتم منها ما أمرتم أن
تبيِّنوه للناس ، وأنا بريء من أحداثكم! قالوا : فإنا نأخذ بما في أيدينا ، فإنا
على الحق والهدى ، ولا نؤمن بك ، ولا نتبعك! فأنزل الله تعالى ذكره : " قل يا
أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم
" إلى : " فلا تأس على القوم الكافرين " . (1)
12285 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " قل
يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم
" ، قال : فقد صرنا من أهل الكتاب " التوراة " ، لليهود ، و "
الإنجيل " ، للنصارى ، " وما أنزل إليكم من ربكم " ، وما أنزل
إلينا من ربنا أي : " لستم على شيء حتى تقيموا " ، حتى تعملوا بما فيه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(68) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وليزيدن كثيًرا منهم ما أنزل إليك
من ربك طغيانًا وكفرًا " ، وأقسم : ليزيدن كثيرًا من هؤلاء اليهود والنصارى
الذين قص قصصهم في هذه الآيات ، الكتابُ الذي أنزلته إليك ، يا محمد (2) "
طغيانًا " ، يقول : تجاوزًا وغلوًّا في التكذيب لك ، على ما كانوا عليه لك من
ذلك قبل نزول
__________
(1) الأثر : 12284 - سيرة ابن هشام 2 : 217 ، وهو تابع الآثار التي مضت رقم : 2101
، 2102 ، 12219.
(2) " الكتاب " فاعل قوله : " ليزيدن كثيرًا من هؤلاء اليهود...
" .
(10/474)
الفرقان " وكفرًا " يقول :
وجحودًا لنبوتك. (1)
وقد أتينا على البيان عن معنى " الطغيان " ، فيما مضى قبل. (2)
* * *
وأما قوله : " فلا تأس على القوم الكافرين " ، يعني بقوله : (3) "
فلا تأس " ، فلا تحزن.
* * *
يقال : " أسِيَ فلان على كذا " ، إذا حزن " يأسَى أسىً " ، ،
ومنه قول الراجز : (4)
وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى (5)
* * *
يقول تعالى ذكره لنبيه : لا تحزن ، يا محمد ، على تكذيب هؤلاء الكفار من اليهود
والنصارى من بني إسرائيل لك ، فإن مثلَ ذلك منهم عادة وخلق في أنبيائهم ، فكيف فيك
؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير " الكفر " فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير " الطغيان " فيما سلف ص : 457 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(3) في المطبوعة : " يعبي يقول " ، والصواب من المخطوطة.
(4) هو العجاج.
(5) ديوانه : 31 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 171 ، والكامل 1 : 352 ، واللسان
(حلب) (كرس) ، وهو من رجزه المشهور ، مضى أوله في هذا التفسير 1 : 509 ، يقول :
يَا صَاحِ ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا? ... قَالَ : نَعَمْ! أَعْرِفُهُ!
وَأَبْلَسَا
وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى
ومضى شرح البيتين الأولين. و " انحلبت عيناه " و " تحلبتا " :
سال دمعهما وتتابع. وكان في المطبوعة : " وأنحلت " ، خالف ما في
المخطوطة ، لأنها غير منقوطة ، فأتى بما لا يعرف. فجاء بعض من كتب على هذا البيت
وصححه فكتب " وأبخلت " وقال : " معنى : أبخلت : وجدتا بخيلتين
بالدمع لغلبة الحزن عليه ، أي أنه من شدة حزنه لم يبك ، وإنما جمدت عيناه " ،
فأساء من وجوه : ترك مراجعة الشعر ومعرفته ، واجتهد في غير طائل ، وأتى بكلام سخيف
جدًا! والله المستعان.
(10/475)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
* ذكر من قال ذلك :
12286 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " وليزيدن كثيًرا منهم ما أنزل إليك من
ربك طغيانًا وكفرًا " ، قال : الفرقان يقول : فلا تحزن.
12287 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي قوله : " فلا تأس على القوم الكافرين " ، قال : لا تحزن.
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ
صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إن الذين صدّقوا الله ورسوله ، وهم أهل الإسلام
" والذين هادوا " ، وهم اليهود (1) والصابئون " ، وقد بينا أمرهم
(2) " والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر " ، فصدّق بالبعث بعد
الممات " وعمل " ، من العمل " صالحًا " لمعاده " فلا خوف
عليهم " ، فيما قَدِموا عليه من أهوال القيامة " ولا هم يحزنون " ،
على ما خلَّفوا وراءهم من الدنيا وعيشها ، بعد معاينتهم ما أكرمهم الله به من جزيل
ثوابه. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " هاد " فيما سلف ص : 341 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الصابئون " فيما سلف 2 : 145 - 147.
(3) انظر تفسير " عمل صالحًا " فيما سلف 2 : 148 (وفهارس اللغة).
وتفسير " اليوم الآخر " ، فيما سلف من فهارس اللغة (أخر).
وتفسير " لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " فيما سلف 2 : 150 ، وسائر فهارس
اللغة.
(10/476)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
وقد بينا وجه الإعراب فيه فيما مضى قبل
، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا
إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ
فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أقسم : لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل على الإخلاص
في توحيدنا ، (2) والعمل بما أمرناهم به ، والانتهاء عما نهيناهم عنه وأرسلنا
إليهم بذلك رسلا ووعدناهم على ألسن رسلنا إليهم على العمل بطاعتنا الجزيلَ من
الثواب ، وأوعدناهم على العمل بمعصيتنا الشديدَ من العقاب كلما جاءهم رسول لنا بما
لا تشتهيه نفوسهم ولا يوافق محبَّتهم ، كذّبوا منهم فريقًا ، ويقتلون منهم فريقًا
، نقضًا لميثاقنا الذي أخذناه عليهم ، وجرأة علينا وعلى خلاف أمرنا. (3)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 3 : 352 - 354/ ثم انظر الموضع الذي أشار إليه 9 : 395 - 399. ثم
انظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1 : 105 - 108 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 172
، ومشكل القرآن لابن قتيبة : 36 - 39.
(2) في المطبوعة : " وتوحيدنا " ، وفي المخطوطة : " الإخلاص
توحيدنا " ، وكأن الصواب ما أثبت.
(3) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
وعند هذا الموضع ، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه مخطوطتنا ، وفيها ما
نصه :
" يتلوهُ : القول في تأويل قوله :
{ وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا }
وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم كثيرًا " .
ثمّ ما يتلوه نصه :
" بسم الله الرحمن الرحيم
رَبِّ يَسِّر "
(10/477)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
القول في تأويل قوله : { وَحَسِبُوا
أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ
عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى : وظن هؤلاء الإسرائيليون (1) الذين وصف تعالى ذكره
صفتهم : أنه أخذ ميثاقهم : وأنه أرسل إليهم رسلا وأنهم كانوا كلما جاءهم رسولٌ بما
لا تهوى أنفسهم كذّبوا فريقًا وقتلوا فريقًا أن لا يكون من الله لهم ابتلاء
واختبارٌ بالشدائد من العقوبات بما كانوا يفعلون (2)
" فعموا وصموا " ، يقول : فعموا عن الحق والوفاء بالميثاق الذي أخذته
عليهم ، من إخلاص عبادتي ، والانتهاء
__________
(1) انظر تفسير " حسب " فيما سلف 7 : 384 ، 421.
(2) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص : 392 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(10/478)
إلى أمري ونهيي ، والعمل بطاعتي ،
بحسبانهم ذلك وظنهم " وصموا " عنه ثم تبت عليهم. يقول : ثم هديتهم بلطف
مني لهم حتى أنابوا ورجعوا عما كانوا عليه من معاصيَّ وخلاف أمري والعمل بما أكرهه
منهم ، إلى العمل بما أحبه ، والانتهاء إلى طاعتي وأمري ونهيي " ثم عموا
وصموا كثير منهم " ، (1) يقول : ثم عموا أيضًا عن الحق والوفاء بميثاقي الذي
أخذته عليهم : من العمل بطاعتي ، والانتهاء إلى أمري ، واجتناب معاصيَّ "
وصموا كثير منهم " ، يقول : عمى كثير من هؤلاء الذين كنت أخذت ميثاقهم من بني
إسرائيل ، باتباع رسلي والعمل بما أنزلت إليهم من كتبي (2) عن الحق وصموا ، بعد
توبتي عليهم ، واستنقاذي إياهم من الهلكة " والله بصير بما يعملون " ،
يقول " بصير " ، فيرى أعمالهم خيرَها وشرَّها ، فيجازيهم يوم القيامة
بجميعها ، إن خيرًا فخيرًا ، وإن شرًّا فشرًّا. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12288 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "
وحسبوا أن لا تكون فتنة " ، الآية ، يقول : حسب القوم أن لا يكون بلاءٌ
" فعموا وصموا " ، كلما عرض بلاء ابتلوا به ، هلكوا فيه.
12289 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا " ، يقول : حسبوا أن لا
يبتلوا ، فعموا عن الحق وصمُّوا.
12290 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مبارك ، عن الحسن : " وحسبوا أن
لا تكون فتنة " ، قال : بلاء.
12291 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن
عباس : " وحسبوا أن لا تكون فتنة " ، قال : الشرك.
12292 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ،
عن مجاهد في قوله : " وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا " ، قال :
اليهود.
__________
(1) انظر تفسير " العمى " و " الصمم " ، فيما سلف 1 : 328 -
331/3 : 315.
(2) انظر القول في رفع " كثير " في معاني القرآن للفراء 1 : 316 ، ومجاز
القرآن لأبي عبيدة 1 : 174.
(3) انظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/479)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
12293 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " فعموا وصموا " ،
قال : يهود قال ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير قال : هذه الآية لبني إسرائيل. قال
: و " الفتنة " ، البلاء والتَّمحيص.
* * *
القول في تأويل قوله : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا
اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصَارٍ (72) }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن بعض ما فَتَن به الإسرائيلين الذين
أخبر عنهم أنهم حسبوا أن لا تكون فتنة. يقول تعالى ذكره : فكان مما ابتليتهم
واختبرتهم به ، فنقضوا فيه ميثاقي ، وغيَّروا عهدي الذي كنت أخذته عليهم بأن لا
يعبدوا سواي ، ولا يتخذوا ربًّا غيري ، وأن يوحِّدوني ، وينتهوا إلى طاعتي عبدي
عيسى ابن مريم ، فإني خلقته ، وأجريت على يده نحوَ الذي أجريت على يد كثير من رسلي
، فقالوا كفرًا منهم : " هو الله " . (1)
وهذا قول اليعقوبيّة من النصارى عليهم غضب الله.
يقول الله تعالى ذكره : فلما اختبرتهم وابتليتهم بما ابتليتهم به ، أشركوا بي ،
وقالوا لخلق من خلقي ، وعبدٍ مثلهم من عبيدي ، وبشر نحوهم معروفٍ نسبه وأصله ،
مولود من البشر ، يدعوهم إلى توحيدي ، ويأمرهم بعبادتي وطاعتي ،
__________
(1) انظر تفسير " المسيح " فيما سلف 10 : 146 ، تعليق : 4 ، والمراجع
هناك.
(10/480)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
ويقرّ لهم بأني ربه وربهم ، وينهاهم عن
أن يشركوا بي شيئًا : " هو إلههم " ، جهلا منهم بالله وكفرًا به ، ولا
ينبغي لله أن يكون والدًا ولا مولودًا.
ويعني بقوله : " وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم " ،
يقول : اجعلوا العبادة والتذلل للذي له يَذِلّ كل شيء ، وله يخضع كل موجود (1)
" ربيّ وربكم " ، يقول : مالكي ومالككم ، وسيدي وسيدكم ، الذي خلقني
وإياكم (2) " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة " ، أن يسكنها
في الآخرة " ومأواه النار " ، يقول : ومرجعه ومكانه - الذي يأوي إليه
ويصير في معاده ، من جعل لله شريكًا في عبادته - نارُ جهنم (3) " وما
للظالمين " ، يقول : وليس لمن فعل غير ما أباح الله له ، وعبد غير الذي له
عبادة الخلق (4) " من أنصار " ، ينصرونه يوم القيامة من الله ، فينقذونه
منه إذا أورده جهنم. (5)
* * *
القول في تأويل قوله : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ
ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا
يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) }
قال أبو جعفر : وهذا أيضًا خبر من الله تعالى ذكره عن فريق آخر من الإسرائيليين
الذين وصف صفتهم في الآيات قبل : أنه لما ابتلاهم بعد حِسْبَانهم أنهم لا يُتبلون
ولا يفتنون ، قالوا كفرًا بربهم وشركًا : " الله ثالث ثلاثة " .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " العبادة " فيما سلف من فهارس اللغة (عبد).
(2) انظر تفسير " الرب " فيما سلف 1 : 142 ، ثم فهارس اللغة فيما سلف.
(3) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف 9 : 225 ، تعليق : 4 ، والمراجع
هناك.
(4) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(5) انظر تفسير " الأنصار " فيما سلف 9 : 339 ، تعليق 3 ، والمراجع
هناك.
(10/481)
وهذا قولٌ كان عليه جماهير النصارى قبل
افتراق اليعقوبية والملكية والنَّسطورية. (1) كانوا فيما بلغنا يقولون : "
الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم : أبًا والدًا غير مولود ، وابنًا
مولودًا غير والد ، وزوجًا متتبَّعة بينهما " .
* * *
يقول الله تعالى ذكره ، مكذّبًا لهم فيما قالوا من ذلك : " وما من إله إلا
إله واحد " ، يقول : ما لكم معبود ، أيها الناس ، إلا معبود واحد ، وهو الذي
ليس بوالد لشيء ولا مولود ، بل هو خالق كل والد ومولود " وإن لم ينتهوا عما
يقولون " ، يقول : إن لم ينتهوا قائلو هذه المقالة عما يقولون من قولهم :
" الله ثالث ثلاثة " (2) " ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم
" ، يقول : ليمسن الذين يقولون هذه المقالة ، والذين يقولون المقالة الأخرى :
" هو المسيح ابن مريم " ، لأن الفريقين كلاهما كفرة مشركون ، فلذلك رجع
في الوعيد بالعذاب إلى العموم ، (3) ولم يقل : " ليمسنَّهم عذابٌ أليم "
، لأن ذلك لو قيل كذلك ، صار الوعيد من الله تعالى ذكره خاصًّا لقائل القول الثاني
، وهم القائلون : " الله ثالث ثلاثة " ، ولم يدخل فيهم القائلون :
" المسيح هو الله " . فعمّ بالوعيد تعالى ذكره كلَّ كافر ، ليعلم
المخاطبون بهذه الآيات أنّ وعيد الله قد شمل كلا الفريقين من بني إسرائيل ، ومن
كان من الكفار على مثل الذي هم عليه.
* * *
فإن قال قائل : وإن كان الأمر على ما وصفت ، فعلى مَنْ عادت " الهاء والميم
" اللتان في قوله : " منهم " ؟
قيل : على بني إسرائيل.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " والملكانية " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " انتهى " فيما سلف 3 : 569/ 6 : 14.
(3) انظر تفسير " مس " فيما سلف 7 : 414 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك.
(10/482)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
فتأويل الكلام ، إذْ كان الأمر على ما
وصفنا : وإن لم ينته هؤلاء الإسرائيليون عما يقولون في الله من عظيم القول ،
ليمسنَّ الذين يقولون منهم : " إن المسيح هو الله " ، والذين يقولون :
" إن الله ثالث ثلاثة " ، وكل كافر سلك سبيلهم عذابٌ أليم ، بكفرهم
بالله. (1)
* * *
وقد قال جماعة من أهل التأويل بنحو قولنا ، في أنه عنى بهذه الآيات النصارى.
ذكر من قال ذلك :
12294 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " لقد كفر الذين قالوا : إنّ الله ثالث ثلاثة " ، قال : قالت
النصارى : " هو والمسيح وأمه " ، فذلك قول الله تعالى : ( أَأَنْتَ
قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) [سورة
المائدة : 116].
12295 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ،
قال مجاهد : " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " ، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله : { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أفلا يرجع هذان الفريقان الكافران (2) القائل
أحدهما : " إن الله هو المسيح ابن مريم " ، والآخر القائل : " إن
الله ثالث ثلاثة " عما قالا من ذلك ، ويتوبان مما قالا ونطقا به من كفرهما ،
(3) ويسألان
__________
(1) انظر تفسير " عذاب أليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم).
(2) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة (توب).
(3) في المطبوعة : " وقطعا به من كفرهما " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو
الصواب.
(10/483)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
ربهما المغفرة مما قالا " والله
غفور " ، لذنوب التائبين من خلقه ، المنيبين إلى طاعته بعد معصيتهم "
رحيم " بهم ، في قبوله توبتَهم ومراجعتهم إلى ما يحبّ مما يكره ، فيصفح بذلك
من فعلهم عما سلَف من أجرامهم قبل ذلك. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ }
قال أبو جعفر : وهذا [خَبَرٌ] من الله تعالى ذكره ، (2) احتجاجًا لنبيِّه محمد صلى
الله عليه وسلم على فِرَق النصارى في قولهم في المسيح.
يقول مكذِّبًا لليعقوبية في قِيلهم : " هو الله " والآخرين في قيلهم :
" هو ابن الله " : ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح ، ولكنه
ابن مريم ولدته ولادةَ الأمهات أبناءَهن ، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر
، وإنما هو لله رسولٌ كسائر رسله الذين كانوا قبلَه فمضوا وخَلَوْا ، أجرى على يده
ما شاء أن يجريه عليها من الآيات والعِبر ، حجةً له على صدقه ، وعلى أنه لله رسول
إلى من أرسله إليه من خلقه ، كما أجرى على أيدي من قبله من الرسل من الآيات
والعِبر ، حجةً لهم على حقيقةِ صدقهم في أنهم لله رسلٌ (3) " وأمه صِدّيقة
" ، يقول تعالى ذكره وأمّ المسيح صِدِّيقةٌ.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " استغفر " و " غفور " فيما سلف من فهارس
اللغة (غفر) وتفسير " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (رحم).
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام.
(3) انظر تفسير " المسيح " فيما سلف ص : 480 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(10/484)
و " الصِدِّيقة " "
الفِعِّيلة " ، من " الصدق " ، وكذلك قولهم : " فلان صِدِّيق
" ، " فِعِّيل " من " الصدق " ، ومنه قوله تعالى ذكره :
( وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ ). [سورة النساء : 70]. (1)
وقد قيل إن " أبا بكر الصدّيق " رضي الله عنه إنما قيل له : "
الصّدّيق " لصدقه.
وقد قيل : إنما سمي " صديقًا " ، لتصديقه النبي صلى الله عليه وسلم في
مسيره في ليلة واحدةٍ إلى بيت المقدس من مكة ، وعودِه إليها.
* * *
وقوله : " كانا يأكلان الطعام " ، خبٌر من الله تعالى ذكره عن المسيح
وأمّه : أنهما كانا أهل حاجةٍ إلى ما يَغْذُوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم
والمشارب كسائر البشر من بني آدم ، فإنّ من كان كذلك ، فغيرُ كائنٍ إلهًا ، لأن
المحتاج إلى الغذاء قِوَامه بغيره. وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه ، دليلٌ
واضحٌ على عجزه. والعاجز لا يكون إلا مربوبًا لا ربًّا.
* * *
القول في تأويل قوله : { انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ
أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : انظر يا محمد ،
كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى " الآيات " ، وهي الأدلَّةُ
، والأعلام والحُجج على بُطُول ما يقولون في أنبياء الله ، (2) وفي فريتهم على
الله ، وادِّعائهم له ولدًا ، وشهادتهم لبعض خلقه بأنه لهم ربٌّ وإله ، ثم لا
يرتدعون عن كذبهم وباطل قِيلهم ، ولا ينزجرون عن فريتهم على ربِّهم وعظيم جهلهم ،
مع ورود الحجج القاطعة عذرَهم عليهم. يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه
__________
(1) انظر تفسير " الصديق " فيما سلف 8 : 530 - 532.
(2) انظر تفسير " الآيات " فيما سلف (أيي).
(10/485)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
وسلم : " ثم انظر " ، يا محمد
" أنَّى يؤفكون " ، يقول : ثم انظر ، مع تبييننا لهم آياتنا على بُطول
قولهم ، أيَّ وجه يُصرَفون عن بياننا الذي نبيِّنه لهم ؟ (1) وكيف عن الهدى الذي
نهديهم إليه من الحق يضلُّون ؟
* * *
والعرب تقول لكل مصروف عن شيء : " هو مأفوك عنه " . يقال : " قد
أفَكت فلانًا عن كذا " ، أي : صرفته عنه ، " فأنا آفِكه أفْكًا ، وهو
مأفوك " . و " قد أُفِكت الأرض " ، إذا صرف عنها المطر. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ
لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) }
قال أبو جعفر : وهذا أيضًا احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم
على النصارى القائلين في المسيح ما وصف من قِيلهم فيه قبلُ.
يقول تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم : " قل " ، يا محمد ، لهؤلاء
الكفرة من النصارى ، الزاعمين أن المسيح ربهم ، والقائلين إن الله ثالث ثلاثة
أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم ، وهو الذي خلقكم ورزقكم ، وهو يحييكم
ويميتكم شيئًا لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا ؟ يخبرهم تعالى ذكره أن المسيح الذي
زعم من زعم من النصارى أنه إله ، والذي زعم من زعم منهم أنه لله ابنٌ ، لا يملك
لهم ضرًّا يدفعه عنهم إن أحلَّه الله بهم ، ولا نفعًا يجلبه إليهم إن لم يقضه الله
لهم. يقول تعالى ذكره : فكيف يكون ربًّا وإلهًا من كانت هذه صفته ؟ بل الربُّ
__________
(1) المطبوعة : " بينته لهم " ، والصواب من المخطوطة ، وهي غير منقوطة.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 174 ، 175.
(10/486)
المعبودُ : الذي بيده كل شيء ، والقادر
على كل شيء. فإياه فاعبدوا وأخلصوا له العبادة ، دون غيره من العجزة الذين لا
ينفعونكم ولا يضرون.
* * *
وأما قوله : " والله هو السميع العليم " فإنه يعني تعالى ذكره بذلك :
" والله هو السميع " ، لاستغفارهم لو استغفروه من قِيلهم ما أخبر عنهم
أنهم يقولونه في المسيح ، ولغير ذلك من منطقهم ومنطق خلقه " العليم " ،
بتوبتهم لو تابوا منه ، وبغير ذلك من أمورهم. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة.
(10/487)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
القول في تأويل قوله : { قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا
أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ
سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) }
قال أبو جعفر : وهذا خطابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى ذكره : " قل " ، يا محمد ، لهؤلاء الغالية من النصارى في
المسيح " يا أهل الكتاب " ، يعني بـ " الكتاب " ، الإنجيل
" لا تغلوا في دينكم " ، يقول : لا تفرِطوا في القول فيما تدينون به من
أمر المسيح ، فتجاوزوا فيه الحقَّ إلى الباطل ، (1) فتقولوا فيه : " هو الله
" ، أو : " هو ابنه " ، ولكن قولوا : " هو عبد الله وكلمته
ألقاها إلى مريم وروح منه " " ولا تتبعوا أهواءَ قوم قد ضلوا من قبل
وأضلوا كثيرًا " ، يقول : ولا تتبعوا أيضًا في المسيح أهواء اليهود الذين قد
ضلوا قبلكم عن سبيل الهدى في القول فيه ، فتقولون فيه كما قالوا : " هو لغير
رَشْدة " ، وتبهتوا أمَّه كما بَهَتُوها
__________
(1) انظر تفسير " غلا " فيما سلف 9 : 415 - 417.
(10/487)
بالفرية وهي صدِّيقة (1) " وأضلوا
كثيرًا " ، يقول تعالى ذكره : وأضل هؤلاء اليهود كثيرًا من الناس ، فحادوا
بهم عن طريق الحق ، وحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح
" وضلوا عن سواء السبيل " ، يقول : وضلَّ هؤلاء اليهود عن قصد الطريق ،
وركبوا غير محجَّة الحق. (2)
وإنما يعني تعالى ذكره بذلك ، كفرَهم بالله ، وتكذيبَهم رسله : عيسى ومحمدًا صلى
الله عليه وسلم ، وذهابَهم عن الإيمان وبعدَهم منه. وذلك كان ضلالهم الذي وصفهم
الله به.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12296 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " وضلوا عن سواء السبيل " ، قال : يهود.
12297 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا " ، فهم
أولئك الذين ضلُّوا وأضلوا أتباعهم " وضلوا عن سواء السبيل " ، عن عَدْل
السبيل.
* * *
__________
(1) المطبوعة : " كما يبهتونها " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف من فهارس اللغة.
وتفسير " سواء السبيل " فيما سلف ص : 443 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(10/488)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
القول في تأويل قوله : { لُعِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، قل لهؤلاء
النصارى الذين وصفَ تعالى ذكره صفتهم : لا تغلوا فتقولوا في المسيح غير الحق ، ولا
تقولوا فيه ما قالت اليهود الذين قد لعنهم الله على لسان أنبيائه ورسله ، داود
وعيسى ابن مريم. (1)
* * *
وكان لعن الله إياهم على ألسنتهم ، كالذي : -
12298 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود
وعيسى ابن مريم " قال : لعنوا بكل لسان : لعنوا على عهد موسى في التوراة ،
ولعنوا على عهد داود في الزبور ، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل ، ولعنوا على عهد
محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن.
12299 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل
على لسان داود وعيسى ابن مريم " ، يقول : لعنوا في الإنجيل على لسان عيسى ابن
مريم ، ولعنوا في الزبور على لسان داود.
12300 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل ، عن أبيه ، عن خصيف ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى
ابن مريم " ، قال : خالطوهم بعد النهي في تجاراتهم ،
__________
(1) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف ص : 452 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
وتفسير " الاعتداء " فيما سلف ص : 447 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(10/489)
فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض ، فهم
ملعونون على لسان داود وعيسى ابن مريم.
12301 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن حصين ، عن مجاهد : " لعن الذين
كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " ، قال : لعنوا على لسان
داود فصاروا قردة ، ولُعنوا على لسان عيسى فصاروا خنازيرَ.
12302 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ،
قال ابن عباس ، قوله : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل " ، بكل لسان
لُعِنوا : على عهد موسى في التوراة ، وعلى عهد داود في الزبور ، وعلى عهد عيسى في
الإنجيل ، ولعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن قال ابن جريج : وقال
آخرون : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود " ، على عهده ،
فلعنوا بدعوته. قال : مرَّ داود على نفر منهم وهم في بيت فقال : من في البيت ؟
قالوا : خنازير. قال : " اللهم اجعلهم خنازير! " فكانوا خنازير. قال : ثم
أصابتهم لعنته ، ودعا عليهم عيسى فقال : " اللهم العن من افترى عليّ وعلى أمي
، واجعلهم قردة خاسئين " !
12303 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" لعن الذين كفروا من بني إسرائيل " الآية ، لعنهم الله على لسان داود
في زمانه ، فجعلهم قردة خاسئين وفي الإنجيل على لسان عيسى ، فجعلهم خنازير.
12304 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا أبو محصن حصين بن نمير ، عن
حصين يعني : ابن عبد الرحمن ، عن أبي مالك قال : " لعن الذين كفروا من بني
إسرائيل على لسان داود " ، قال : مسخوا على لسان داود قردة ، وعلى لسان عيسى
خنازير. (1)
__________
(1) الأثر : 12304 - " أبو محصن الضرير " : " حصين بن نمير الواسطي
" ، ثقة ، ولكن كان يحمل على علي رضي الله عنه ، فقال الحاكم : " ليس
بالقوي عندهم " . مترجم في التهذيب.
(10/490)
12305 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم
قال ، أخبرنا حصين ، عن أبي مالك ، مثله.
12306 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن العلاء بن
المسيب ، عن عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن سالم الأفطس ، عن أبي عبيدة ، عن ابن
مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا
رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرًا ، (1) فإذا كان من الغدِ لم يمنعه ما رأى منه
أن يكون أكيله وخليطه وشَرِيبَه. (2) فلما رأى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ،
ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم " ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون "
، قال : والذي نفسي بيده ، لتأمُرنَّ بالمعروف ، ولتنهَوُنَّ عن المنكر ،
ولتأخُذُنَّ على يدي المسيء ، ولتُؤَطِّرُنَّه على الحقّ أطْرًا ، (3) أو ليضربنَّ
الله قلوب بعضكم على بعض ، وليلعنَّنكم كما لعنهم. (4)
__________
(1) في المطبوعة : " تعزيرًا " ، وهو خطأ محض ، صوابه من المخطوطة ،
وتفسير ابن كثير. و " التعذير " : أن يفعل الشيء غير مبالغ في فعله.
وتعذير بني إسرائيل : أنهم لم يبالغوا في نهيهم عن المعاصي ، وداهنوا العصاة ، ولم
ينكروا أعمالهم بالمعاصي حق الإنكار ، فنهوهم نهيًا قصروا فيه ولم يبالغوا.
(2) " الأكيل " : الذي يصاحبك في الأكل. و " الشريب " : الذي
يصاحبك في الشراب. و " الخليط " : الذي يخالطك. كل ذلك " فعيل
" بمعنى " مفاعل " .
(3) في المطبوعة : " ولا تواطئونه على الخواطر " ، وهو من عجيب الكلام ،
فضلا عن أنه عبث وتحريف لما كان في المخطوطة!! وكان في المخطوطة : " ولواطونه
على الحواطرا " ، غير منقوطة ، فلعب بها ناشر المطبوعة لعبًا كما شاء. وصواب
قراءة ما كان في المخطوطة هو ما أثبت. وبمثل ذلك سيأتي في الأخبار التالية.
إلا أني قرأت المخطوطة : " ولتؤطرنه " (بتشديد الطاء) من قولهم في ماضيه
: " أطره " (بتشديد الطاء) أي : عطفه. ورواية الآثار الآتية ، ثلاثية
الفعل : " حتى تأطروه " من قولهم في الثلاثي : " أطره يأطره أطرًا
" : وذلك إذا قبض على أحد طرفي العود مثلا ، فعطفه عطفًا.
(4) الأثر : 12306 - " عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي " ، ثقة ،
مضى برقم : 221 ، 875.
و " العلاء بن المسيب بن رافع الأسدي " ، ثقة مأمون ، مضى برقم : 3789.
و " عبد الله بن عمرو بن مرة المرادي " ، روى عنه أبيه ، وعن محمد بن
سوقة ، وعاصم ابن بهدلة.
و " سالم الأفطس " ، هو : " سالم بن عجلان الجزري الحراني " ،
روى عنه عمرو بن مرة. وهو من أقرانه. وذكر الحافظ في التهذيب : " ويقال : عبد
الله بن عمرو بن مرة " .
ويمثل هذا الإسناد من رواية المحاربي أي : " عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن
سالم الأفطس " ، رواه أبو داود في سننه 4 : 172 ، وابن أبي حاتم في تفسيره ،
فيما نقله ابن كثير في تفسيره 3 : 205 ، وعقب عليه بقوله : " ورواه خالد
الطحان هو : خالد بن عبد الله الواسطي عن العلاء ، عن عمرو بن مرة " ، ورواه
قبله برقم : 4337 ، من طريق خلف بن هشام ، عن أبي شهاب الحناط ، عن العلاء بن
المسيب ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم الأفطس " . فالذي هنا هو رواية المحاربي ،
لا شك أنها : " عبد الله بن عمرو بن مرة " ، وكأنه خطأ من المحاربي ،
فسائر الرواة على أنه " عن عمرو بن مرة ، عن سالم الأفطس " .
و " عمرو بن مرة المرادي الجملي " ، " أبو عبد الله الأعمى "
، ثقة صدوق. وهو يروي عن أبي عبيدة مباشرة ، فرواه هنا عن أحد أقرانه " سالم
الأفطس " ، عن أبي عبيدة " ، ورواه خالد الطحان ، عن العلاء ، عن عمرو
بن مرة ، عن أبي عبيدة مباشرة ، دون واسطة " سالم الأفطس " .
وهذا إسناد ضعيف على كل حال ، لانقطاعه.
(10/491)
12307 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا
الحكم بن بشير بن سَلمان قال ، حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، عن علي بن بذيمة ، عن
أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لما فشا المنكر في بني إسرائيل ، جعل الرجل يلقَى
الرجل فيقول : يا هذا ، اتق الله! ثم لا يمنعه ذلك أن يؤاكله ويشاربه. فلما رأى
الله ذلك منهم ، ضرب بقلوب بعضهم على بعض ، ثم أنزل فيهم كتابًا : " لعن
الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون كانوا لا يتناهَوْن عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " . وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم مُتَّكئًا ، فجلس وقال : كلا والذى نفسي بيده ، حتى
تأطِرُوا الظالم على الحق أطْرًا " . (1)
__________
(1) الأثر : 12307 - خبر علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، رواه أبو جعفر من خمس طرق.
سيأتي تخريجها مفصلا ، ثم انظر آخرها رقم : 12311.
" الحكم بن بشير بن سلمان النهدي " ، ثقة مضى برقم : 1497 ، 2872 ، 3014
، 6171 ، 9646. وكان في المطبوعة هنا : " ابن سليمان " ، وهو خطأ مر
مثله.
و " عمرو بن قيس الملائي " ، مضى برقم : 886 ، 1497 ، 3956 ، 6171 ،
9646. و " علي بن بذيمة الجزري " ، ثقة ، مضى برقم : 629.
وهذا الخبر ، لم أجده بهذا الإسناد إلى علي بن بذيمة.
(10/492)
12308 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال ،
حدثنا المؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثنا علي بن بذيمة ، عن أبي
عبيدة ، أظنه عن مسروق ، عن عبد الله قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن
بني إسرائيل لما ظهر منهم المنكر ، جعل الرجل يرى أخاه وجارَه وصاحبَه على المنكر
، فينهاه ، ثم لا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشَرِيبَه ونديمه ، فضرب الله قلوبَ
بعضهم على بعض ، ولعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم " ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون " ، إلى " فاسقون " ، قال عبد الله : وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم متكئا ، فاستوى جالسًا ، فغضب وقال : لا والله ، حتى تأخذوا على
يَدَيِ الظالم فتأطِرُوه على الحق أطرًا. (1)
12309 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن علي بن بذيمة
، عن أبي عبيدة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بني إسرائيل لما وقع
فيهم النقصُ ، كان الرجل يرى أخاه على الرَّيْبِ فينهاه عنه ، فإذا كان الغدُ ، لم
يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه ، فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض ،
ونزل فيهم القرآن فقال : " لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود
وعيسى ابن مريم " حتى بلغ " ولكن كثيًرا منهم فاسقون " ،
__________
(1) الأثر : 1308 - " مؤمل بن إسمعيل العدوي " ، ثقة ، مضى برقم : 2057
، 3337 ، 5728 ، 8356 ، 8367.
و " سفيان " هو الثوري.
وطريق سفيان ، عن علي بن بذيمة ، يأتي أيضا برقم : 12309 ، 12311 ، مرسلا ، "
عن أبي عبيدة قال قال رسول الله " ، ليس فيه ذكر " عبد الله بن مسعود
" . وهو المعروف من رواية سفيان. روى الترمذي في السنن (في كتاب التفسير) :
" قال عبد الله بن عبد الرحمن ، قال يزيد بن هرون : وكان سفيان الثوري لا
يقول فيه : " عبد الله " يعني أنه مرسل من خبر أبي عبيدة. فأفادنا
الطبري هنا أن سفيان الثوري ، رواه مرة أخرى ، " عن أبي عبيدة ، أظنه عن
مسروق ، عن عبد الله " ، فلم يذكر " عبد الله " فحسب ، بل شك في أن
أبا عبيدة رواه عن مسروق عن عبد الله ، فإذا صح ظن سفيان هذا ، فإن حديث صحيح
الإسناد ، غير منقطع ولا مرسل.
ولم أجد هذه الرواية بهذا الإسناد في مكان آخر.
(10/493)
قال : وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم متكئًا فجلس ، وقال : لا حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطروه على الحق
أطرًا. (1)
12310 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو داود قال : أملاه عليَّ قال ، حدثنا محمد
بن أبي الوضاح ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم بمثله. (2)
12311 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ،
عن سفيان ، على علي بن بذيمة قال : سمعت أبا عبيدة يقول : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فذكر نحوه غير أنهما قالا في حديثهما : وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم متكئًا فاستوى جالسًا ، ثم قال : كلا والذي نفسي بيده حتى تأخذوا على يَدَيِ
الظالم فتأطروه على الحق أطرًا " . (3)
__________
(1) الأثر : 12209 - وهذا الإسناد الثالث من أسانيد خبر علي بن بذيمة ، عن أبي
عبيدة ، والثاني من خبر سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، من طريق عبد
الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، رواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) من طريق محمد
بن بشار ، بمثله. ورواه ابن ماجه رقم : 4006 أيضا ، بمثله.
(2) الأثر : 12310 - " محمد بن أبي الوضاح " منسوب إلى جده ، وهو :
" محمد بن مسلم ابن أبي الوضاح القضاعي " . روى عنه أبو داود الطيالسي.
ثقة مستقيم الحديث. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر بهذا الإسناد ، رواه الترمذي في السنن في (كتاب التفسير) ، وابن ماجه
في السنن ، تابع رقم : 4006 ، بمثله.
(3) الأثر : 12311 - هذا هو الإسناد الثالث من أسانيد " سفيان ، عن علي بن
بذيمة " . وهو خبر مرسل.
وخبر علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، روى من طرق أخرى.
رواه أحمد في المسند رقم : 3713 ، من طريق يزيد بن هرون ، عن شريك بن عبد الله ،
عن علي بن بذيمة ، بلفظ آخر مثله. ورواه الترمذي في (كتاب التفسير) من طريق عبد
الله بن عبد الرحمن ، عن يزيد بن هرون ، بمثل رواية أحمد.
ورواه أبو داود في سننه 4 : 172 ، رقم : 4336 ، من طريق عبد الله بن محمد النفيلي
، عن يونس بن راشد ، عن علي بن بذيمة ، بمثله ، بلفظ آخر.
وهذه الآثار كلها ، من منقطعة أو مرسلة ، ولم يوصل الخبر إلا في الإسناد رقم :
12308. وقال الترمذي بعد روايته : " هذا حديث حسن غريب " .
انظر تفسير ابن كثير 3 : 205 ، 206 ، والدر المنثور 2 : 300.
(10/494)
12312 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن
وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان
داود وعيسى ابن مريم " ، قال فقال : لعنوا في الإنجيل وفي الزبور وقال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ رَحَى الإيمان قد دارت ، فدُوروا مع القرآن
حيث دار [*فإنه... قد فرغ الله مما افترض فيه]. (1) [وإن ابن مرح] كان أمة من بني
إسرائيل ، (2) كانوا أهل عدل ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فأخذه قومهم
فنشروهم بالمناشير ، وصلبوهم على الخشب ، وبقيت منهم بقية ، فلم يرضوا حتى داخلوا
الملوك وجالسوهم ، ثم لم يرضوا حتى واكلوهم ، (3) فضرب الله تلك القلوب بعضها ببعض
فجعلها واحدة. فذلك قول الله تعالى : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على
لسان داود " إلى : " ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ، ماذا كانت
معصيتهم ؟ قال : " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون
" .
* * *
فتأويل الكلام إذًا : لَعَن الله الذين كفروا من اليهود بالله على لسان داود وعيسى
ابن مريم ، ولُعن والله آباؤهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ، بما عصوا الله
فخالفوا أمره " وكانوا يعتدون " ، يقول : وكانوا يتجاوزون حدودَه. (4)
* * *
__________
(1) كان في المطبوعة : " ... حيث دار ، فإنه قد فرغ الله مما افترض فيه
" ، ساق الكلام سياقًا واحدًا بعد تغييره ، والذي في المخطوطة هو ما أثبته ،
وبين الكلامين بياض بقدر كلمة أو كلمتين ، وضعت مكانهما نقطًا ، تركته حتى يعثر
على الخبر فيتمه وجدانه.
(2) وهذا الذي بين القوسين ، هو الثابت في المخطوطة ، ولا أدري ما هو ، ولكن ناشر
المطبوعة الأولى جعل الكلام هكذا : " وإنه كانت أمة من بني إسرائيل " ،
فرأيت أن أثبت ما في المخطوطة على حاله ، حتى إذا وجد الخبر في مكان آخر صحح. وكان
هذا والذي قبله في المخطوطة في سطر واحد ، وأمام السطر حرف (ط) بالأحمر دلالة على
الخطأ.
(3) هكذا في المطبوعة والمخطوطة " فلم يرضوا " و " ثم لم يرضوا
" في الموضعين ، وأنا في شك منها ، وأرجح أنها : " فلم يريموا " ،
و " ثم لم يريموا " ، أي : لم يلبثوا.
(4) انظر تفسير " الاعتداء " فيما سلف قريبا ص : 489 ، تعليق : 1 ،
والمراجع هناك.
(10/495)
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
القول في تأويل قوله : { كَانُوا لا
يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : كان هؤلاء اليهود الذين لعنهم الله " لا
يتناهون " ، يقول : لا ينتهون عن منكر فعلوه ، ولا ينهى بعضهم بعضًا. (1)
ويعني بـ " المنكر " ، المعاصي التي كانوا يعصون الله بها. (2)
* * *
فتأويل الكلام : كانوا لا ينتهون عن منكر أتوه " لبئس ما كانوا يفعلون "
. وهذا قسم من الله تعالى ذكره يقول : أقسم : لبئس الفعل كانوا يفعلون ، في تركهم
الانتهاء عن معاصي الله تعالى ذكره ، وركوب محارمه ، وقتل أنبياء الله ورسله ، (3)
كما : -
12313 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه " ، لا تتناهى أنفسهم بعد أن وقعوا في الكفر.
* * *
القول في تأويل قوله : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " ترى " ، يا محمد ، كثيرًا من بني
إسرائيل " يتولون الذين كفروا " ، يقول : يتولون المشركين من عَبَدة
الأوثان ،
__________
(1) انظر تفسير " انتهى " فيما سلف قريبًا ص : 482 ، تعليق : 2 ،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المنكر " فيما سلف 7 : 91 ، 105 ، 130.
(3) انظر تفسير " بئس " فيما سلف 2 : 338 ، 393/ 3 : 56/ 7 : 459.
(10/496)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
ويعادون أولياء الله ورسله (1) "
لبئس ما قدمت لهم أنفسهم " ، يقول تعالى ذكره : أُقسم : لبئس الشيء الذي قدمت
لهم أنفسهم أمامهم إلى معادهم في الآخرة (2) " أنْ سخط الله عليهم " ،
يقول : قدّمت لهم أنفسهم سخط الله عليهم بما فعلوا.
* * *
و " أن " في قوله : " أنْ سخط الله عليهم " ، في موضع رفع ،
ترجمةً عن " ما " ، الذي في قوله : " لبئس ما " . (3)
* * *
" وفي العذاب هم خالدون " ، يقول : وفي عذاب الله يوم القيامة " هم
خالدون " ، دائم مُقامهم ومُكثهم فيه. (4)
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا
أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
فَاسِقُونَ (81) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني
إسرائيل " يؤمنون بالله والنبي " ، يقول : يصدِّقون الله ويقرُّون به
ويوحِّدونه ، ويصدقون نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه لله نبي مبعوث ،
ورسول مرسل " وما أنزل إليه " ، يقول : ويقرُّون بما أنزل إلى محمد صلى
الله عليه وسلم من عند الله من آي الفرقان
" ما اتخذوهم أولياء " ، يقول : ما اتخذوهم أصحابًا وأنصارًا من دون
المؤمنين (5) " ولكن كثيرًا منهم فاسقون " ، يقول : ولكن كثيرًا منهم
أهل خروج
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى).
(2) انظر تفسير " قدم " فيما سلف 2 : 368/7 : 447/8 : 514.
(3) " الترجمة " : البدل ، انظر ما سلف من فهارس المصطلحات.
(4) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد).
(5) انظر تفسير " الأولياء " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي).
(10/497)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
عن طاعة الله إلى معصيته ، وأهلُ
استحلال لما حرَّم الله عليهم من القول والفعل. (1)
* * *
وكان مجاهد يقول في ذلك بما : -
12314 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد قوله : " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما
اتخذوهم أولياء " ، قال : المنافقون.
* * *
القول في تأويل قوله : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ
آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً
لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ
قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمدّ صلى الله عليه وسلم : لتجدن ، يا محمد
، أشدَّ الناس عداوةً للذين صدَّقوك واتبعوك وصدّقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام
" اليهودَ والذين اشركوا " ، يعني : عبدة الأوثان الذين اتخذوا الأوثان
آلهة يعبدونها من دون الله " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا " ، يقول :
ولتجدن أقربَ الناس مودةًّ ومحبة.
* * *
و " المودة " " المفعلة " ، من قول الرجل : " ودِدْت كذا
أودُّه وُدًّا ، ووِدًّا ، ووَدًّا ومودة " ، إذا أحببته. (2)
* * *
" للذين آمنوا " ، يقول : للذين صدّقوا الله ورسوله محمدًا صلى الله
عليه وسلم " الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا
يستكبرون " ،
__________
(1) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف من فهارس اللغة (فسق).
(2) انظر تفسير " ود " فيما سلف 2 : 470/5 : 542/6 : 500/8 : 371/9 : 17
(10/498)
عن قبول الحق واتباعه والإذعان به.
* * *
وقيل : إن هذه الآية والتي بعدها نزلت في نفرٍ قدِموا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم من نصارى الحبشة ، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
* * *
وقيل : إنها نزلت في النجاشيّ ملك الحبشة وأصحابٍ له أسلموا معه.
ذكر من قال ذلك :
12315 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد
قال ، حدثنا خصيف ، عن سعيد بن جبير قال : بعث النجاشيّ وفدًا إلى النبي صلى الله عليه
وسلم ، فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا. قال : فأنزل الله تعالى فيهم
: " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا " ، إلى
آخر الآية. قال : فرجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه ، فأسلم النجاشي ، فلم يزل مسلمًا
حتى مات. قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ أخاكم النجاشيَّ قد مات ،
فصلُّوا عليه! فصلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، والنجاشي
ثَمَّ.
12316 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي
نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين
قالوا إنا نصارى " ، قال : هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض
الحبشة.
12317 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولتجدن أقربهم مودَّة للذين آمنوا الذين
قالوا إنا نصارى " ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة خاف
على أصحابه من المشركين ، فبعث جعفرَ بن أبي طالب ، وابن
(10/499)
مسعود وعثمان بن مظعون ، في رهط من
أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة. فلما بلغ ذلك المشركين ، بعثوا عمرو بن العاص في رهط
منهم ، ذُكر أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشيّ ، فقالوا ،
إنه خرج فينا رجل سفَّه عقول قريش وأحلامها ، زعم أنه نبيُّ! وإنه بعث إليك رهطًا
ليفسدوا عليك قومك ، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال : إن جاءوني نظرت فيما
يقولون! فقدم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمُّوا بابَ النجاشي ، (1)
فقالوا : استأذن لأولياء الله! (2) فقال ، ائذن لهم ، فمرحبًا بأولياء الله! فلما
دخلوا عليه سلَّموا ، فقال له الرهط من المشركين : ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك
؟ لم يحيوك بتحيَّتك التي تحيَّا بها! فقال لهم : ما منعكم أن تحيوني بتحيتي ؟
فقالوا : إنا حيَّيناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة! قال لهم : ما يقول صاحبكم
في عيسى وأمه ؟ قال يقول : " هو عبد الله ، وكلمةٌ من الله ألقاها إلى مريم ،
وروح منه " ، ويقول في مريم : " إنها العذراء البتول " . قال :
فأخذ عودًا من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود!
فكره المشركون قوله ، وتغيَّرت وجوههم. قال لهم : هل تعرفون شيئًا مما أنزل عليكم
؟ قالوا : نعم! قال : اقرأوا! فقرأوا ، وهنالك منهم قسيسون ورهبانٌ وسائرُ النصارى
، فعرفت كلَّ ما قرأوا وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. قال الله تعالى ذكره :
" ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى
الرسول " الآية.
12318 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن
السدي : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ،
الآية. قال : بعث النجاشيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى
__________
(1) في المطبوعة : " فأقاموا بباب النجاشي " ، والصواب المحض من
المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " فقالوا : أتأذن " ، والصواب من المخطوطة. يعني :
قالوا لحاجب باب النجاشي ، ولذلك جاء الجواب : " فقال : ائذن لهم " .
(10/500)
عشر رجلا من الحبشة ، سبعة قسيسين
وخمسة رهبانًا ، ينظرون إليه ويسألونه. فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بَكَوْا
وآمنوا ، فأنزل الله عليه فيهم : " وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى
الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع
الشاهدين " ، فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشيّ ، فهاجر النجاشي معهم فمات في
الطريق ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له.
12319 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال
عطاء في قوله : " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى
" الآية ، هم ناس من الحبشة آمنوا ، إذ جاءتهم مهاجِرَةُ المؤمنين.
* * *
وقال آخرون : بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان ، فلما بعث الله
تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم آمنوا به.
ذكر من قال ذلك :
12320 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله :
" ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا " ، فقرأ حتى بلغ : " فاكتبنا مع
الشاهدين " ، أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعةٍ من الحق مما جاء به عيسى ،
يؤمنون به وينتهون إليه. فلما بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم ، صدَّقوا
به وآمنوا به ، وعرفوا الذي جاء به أنه الحق ، فأثنى عليهم ما تسمعون.
* * *
قال أبو جعفر : والصواب في ذلك من القول عندي : أنّ الله تعالى وصف صفة قوم قالوا
: " إنا نصارى " ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقربَ الناس
وِدادًا لأهل الإيمان بالله ورسوله ، ولم يسمِّ لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون
أريد بذلك أصحابُ النجاشي ويجوز أن يكون أريد به قومٌ كانوا على شريعة
(10/501)
عيسى ، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما
سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق ، ولم يستكبروا عنه.
* * *
وأما قوله تعالى : " ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهبانًا " ، فإنه يقول :
قَرُبت مودَّة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين ، من أجل أنّ منهم قسيسين
ورهبانًا.
* * *
و " القسيسون " جمع " قسيس " . وقد يجمع " القسيس "
، " قسوسًا " ، (1) لأن " القَسّ " و " القسيس " ،
بمعنى واحد.
* * *
وكان ابن زيد يقول في " القسيس " بما : -
12321 - حدثنا يونس قال ، حدثنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : " القسيس "
، عبَّادُهم. (2)
* * *
وأما الرهبان ، فإنه يكون واحدًا وجمعًا. فأما إذا كان جمعًا ، فإن واحدهم يكون
" راهبًا " ، ويكون " الراهب " ، حينئذ " فاعلا "
من قول القائل : " رَهب الله فلان " ، بمعنى خافه ، " يرهبه
رَهَبًا ورَهْبَا " ، ثم يجمع " الراهب " ، " رهبان "
مثل " راكب " و " ركبان " ، و " فارس " و "
فرسان " . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعًا قول الشاعر : (3)
رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأَوْكِ تَنزلُوا... والْعُصْمُ مِنْ شَعَفِ الْعَقُولِ
الفَادِرِ (4)
__________
(1) في المطبوعة : " قسوس " ، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة : " القسيسين " ، بالجمع ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو
صواب ، ولا بأس هنا بشرح المفرد بالجمع.
(3) هو جرير ، ونسبه ياقوت في معجم البلدان لكثير عزة ، وأدخله في شعره جامع
ديوانه ص : 240 ، والصواب أنه لجرير.
(4) ديوانه : 305 ، وسيأتي في التفسير 20 : 34 (بولاق) وديوان كثير 1 : 240 ،
واللسان (رهب) ومعجم البلدان (مدين) ، من قصيدة هجا فيها الأخطل والفرزدق ، يقول
قبله : يَا أُمَّ طَلْحَةَ ، مَا لَقِينَا مِثْلكُمْ ... فِي الْمُنْجِدِينَ ولا
بغَوْرِ الغَائِرِ
و " مدين " مدينه شعيب عليه السلام ، على بحر القلزم ، تجاه تبوك ، بين
المدينة والشام ، ذكرها كثير أيضًا في شعره فقال : اللهُ يَعْلَمُ لَوْ أَرَدْتُ
زِيَادَةً ... في حُبِّ عَزَّةَ ما وجدْتُ مَزِيدَا
رُهْبَانُ مَدْيَنَ وَالَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ ... يَبْكُونَ مِنْ حَذَر العَذَابِ
قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلامَها ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا
وَسُجُودَا
و " العقول " عندي بفتح العين ، من قولهم : " عقل الوعل يعقل عقولا
" ، امتنع برأس الجبل ، فهو " عاقل " وبذلك سمي ، والقياس يقبل
أيضًا " فهو عقول " (بفتح العين). وفي الديوان ، ضبط بالقلم "
العقول " (بضم العين) ، جمع " عقل " (بفتح فسكون) : وهو المعقل
والحصن. ولست أرضى ذلك هنا ، وروى صاحب المعجم " والعصم في شعف الجبال "
، وهي موافقة في المعنى لمن ضبط " العقول " بضم العين ، وأرجح أن صواب
إنشاده في المعجم " من شعف الجبال " . و " الشعف " جمع "
شعفة " (بفتحتين) : وهي رأس الجبل. و " الفادر " : الوعل العاقل
الممتنع في رأس الجبل ، وهو حينئذ مسن معتقل في رأس جبله. و " العصم "
جمع " أعصم " : وهو الوعل. سمى بالصفة الغالبة ، لأن في إحدى يديه
بياضًا. وذلك أن " العصم " و " العصمة " : البياض في الذراعين
أو إحداهما.
ولما كان " العصم " جمعًا ، أنفت أن أجعل " الفادر " من صفته
، لو قرئ " العقول " (بضم العين) بمعنى : الحصون والملاجئ ، بل جعلتها
بفتح العين ، بمعنى أن العصم غير المسنة تنزلت أيضا من المعقل الذي يعقل إليه مسن
الوعول امتناعًا من الصيد ، لقلة احتفاله بمفارقة معقله ، كاحتفال شواب الوعول.
(10/502)
وقد يكون " الرهبان "
واحدًا. وإذا كان واحدًا كان جمعه " رهابين " مثل " قربان " و
" قرابين " ، و " جُرْدان " . و " جرادين " . (1)
ويجوز جمعه أيضًا " رهابنة " إذا كان كذلك. ومن الدليل على أنه قد يكون
عند العرب واحدا قول الشاعر : (2)
لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في الْقُلَلْ... لانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَمْشِي
وَنزل (3)
* * *
__________
(1) " الجردان " : ما يستحى من ذكره من الإنسان وغيره.
(2) لم أعرف هذا الراجز.
(3) تفسير القرطبي 6 : 258 ، مع اختلاف شديد في الرواية. " عاين الشيء معاينة
وعيانًا " : نظر إليه بعينيه مواجهة. ومنه قيل : " رأيت فلانًا عيانًا
" أي : مواجهة. وحق شرح هذا اللفظ هنا أن يقال : لو رمتهم بعينيها مواجهة. و
" القلل " : جمع " قلة " : وهي رأس الجبل ، وإنما عنى بذلك
صوامع الرهبان في الجبال.
(10/503)
واختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله
: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا " .
فقال بعضهم : عُني بذلك قوم كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم ، واتَّبعوه
على شريعته.
ذكر من قال ذلك :
12321م - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن حصين ، عمن حدثه ، عن ابن
عباس في قوله : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا " ، قال : كانوا
نَوَاتِيَّ في البحر يعني : ملاحين (1) قال : فمر بهم عيسى ابن مريم ، فدعاهم إلى
الإسلام فأجابوه : قال : فذلك قوله : " قسيسين ورهبانًا " .
* * *
وقال آخرون : بل عني بذلك ، القوم الذين كان النجاشي بعثهم إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك :
12322 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم قال ، حدثنا عنبسة ، عمن حدثه ،
عن أبي صالح في قوله : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا " ، قال : ستة
وستون ، أو سبعة وستون ، أو ثمان وستون ، (2) من الحبشة ، كلهم
__________
(1) في ابن الأثير ثم في لسان العرب " كانوا نَوَّاتِين ، أي ملاحين - تفسيره
في الحديث " وكذلك نقله عنهما صاحب تاج العروس. وأنا أخشى أن يكون خطأ من
النساخ ، وأن صوابه " كانوا نواتى ، أي ملاحين " ، كما جاء هنا وفي
المخطوطة أيضا. ولم أجد أحدًا ذكره كذلك : " نواتا " (بفتح النون وتشديد
الواو) ، ولو كان كذلك لتعرض له أصحاب اللغة ، ولكنهم لم يذكروه إلا فيما نقلوه عن
ابن الأثير ، وواحد " النواتى " (بفتح النون والواو المفتوحة غير
المشددة) " نوتى " (بضم النون ، آخره ياء مشددة). والذي في مخطوطة
الطبري يرجح أن الذي كتبه ابن الأثير ، خطأ ، أو سهو في قراءة الحرف. وابن الأثير
وحده ، لا يحتج برواية كتابه غير مقيدة مضبوطة بإسنادها ومصدرها. ثم وجدته بعد أن
كتبت هذا ، في مجمع الزوائد 7 : 17 ، كما جاء في ابن الأثير واللسان : "
نواتين ، يعني ملاحين " . وذكر هناك الخبر بطوله ، وقال : " رواه
الطبراني في الأوسط والكبير ، وفيه العباس بن الفضل الأنصاري ، وهو ضعيف " .
وهو إسناد غير إسناد أبي جعفر بلا شك ، وانظر ابن كثير 3 : 212 ، 213.
(2) هكذا في المطبوعة : " أو اثنان وستون " ، وفي المخطوطة : "
اثنان وستون " بغير " أو " ، وغير منقوطة ، فأرجح أن صواب قراءتها
: " أو ثمان وستون " ... وهو الذي يدل عليه السياق ، ولذلك أثبتها كذلك.
(10/504)
صاحب صَوْمعة ، عليهم ثيابُ الصوف.
12323 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن سالم ، عن
سعيد بن جبير : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا " ، قال : بعث النجاشيّ
إلى النبي صلى الله عليه وسلم خمسين أو سبعين من خيارهم ، فجعلوا يبكون ، فقال :
هم هؤلاء!
12324 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس ، عن سالم الأفطس ،
عن سعيد بن جبير : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا " ، قال : هم رُسُل
النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه ، كانوا سبعين رجلا اختارهم الخيِّرَ
فالخيِّرَ ، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم : ( يس
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) [سورة يس : 1 ، 2] ، فبكوا وعرفوا الحق ، فأنزل الله
فيهم : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون " ، وأنزل
فيهم : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ
) إلى قوله : ( يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ) [سورة القصص :
53 ، 54].
* * *
قال أبو جعفر : والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبرَ
عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله ، أن
ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهلَ اجتهاد في العبادة ، وترهُّب في الديارات
والصوامع ، (1) وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها ، فهم لا يبعدون من المؤمنين
لتواضعهم للحق إذا عرفوه ، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبيّنوه ، لأنهم
__________
(1) في المطبوعة : " وترهيب " ، وفي المخطوطة : " وترهب " غير
منقوطة ، وصواب قراءتها ما أثبت ، فإنه لا يقال : " رهب ترهيبًا " ،
وإنما يقال : " ترهب ترهبًا " ، إذا صار راهبًا يخشى الله ، ويتعبد في
صومعته.
(10/505)
أهل دين واجتهاد فيه ، ونصيحة لأنفسهم
في ذات الله ، وليسوا كاليهود الذين قد دَرِبُوا بقتل الأنبياء والرسل ، ومعاندة
الله في أمره ونهيه ، وتحريفِ تنزيله الذي أنزله في كتبه. (1)
* * *
__________
(1) قال الجصاص في أحكام القرآن 2 : 451 : " ومن الجهال من يظن أن في هذه
الآية مدحًا للنصارى ، وإخبارًا بأنهم خير من اليهود. وليس ذلك كذلك ، لأن ما في
الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول. يدل عليه ما ذكر في نسق
التلاوة ، من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله والرسول. ومعلوم عند كل ذي فطنة
صحيحة أمعن النظر في مقالتي هاتين الطائفتين ، أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة
، وأظهر فسادًا من مقالة اليهود. لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة ، وإن كان
فيها مشبهة تنقض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه " .
ونقل هذا : أبو حيان في تفسيره (4 : 4 ، 5) ، ثم قال : " والظاهر ما قاله
المفسرون وغيرهم من أن النصارى على الجملة أصلح حالا من اليهود. وقد ذكر المفسرون
فيما تقدم ، ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق ، والدخول في الإسلام
سريعًا. وليس الكلام واردا بسبب العقائد ، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين. وأما
قوله : " لأن ما في الآية من ذلك ، إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول
" ، ليس كما ذكر ، بل صدر الآية يقتضي العموم ، لأنه قال : " ولتجدن
أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " ، ثم أخبر أن من هذه
الطائفة علماء وزهادًا متواضعين ، وسريعي استجابة للإسلام ، وكثيري بكاء عند سماع
القرآن. واليهود بخلاف ذلك. والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين ، وبعد اليهود
" .
وهذا كلام فيه نظر يطول ، ليس هذا موضع تفصيله ، وإنما نقلته لك لتتأمله وتتدبره.
(10/506)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
القول في تأويل قوله : { وَإِذَا
سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ
مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ (83) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا : " إنا
نَصَارى " الذين وصفت لك ، يا محمد ، صفتهم أنك تجدهم أقرب الناس مودة للذين
آمنوا (1) ما أنزل إليك من الكتاب يُتْلى " ترى أعينهم تفيض من الدمع "
.
* * *
__________
(1) سياق الكلام : " إذا سمع هؤلاء... ما أنزل إليك من الكتاب يتلى " ،
وما بين الفعل ومفعوله فصل طويل.
(10/506)
و " فيض العين من الدمع " ،
امتلاؤها منه ، ثم سيلانه منها ، كفيض النهر من الماء ، وفيض الإناء ، وذلك سيلانه
عن شدة امتلائه ، ومنه قول الأعشى :
ففَاضَتْ دُمُوعِي ، فَظَلَّ الشُّئُونُ : ... إمَّا وَكِيفًا ، وَإِمَّا
انْحِدَارَا (1)
وقوله : " مما عرفوا من الحق " ، يقول : فيض دموعهم ، لمعرفتهم بأنّ
الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حقٌّ ، كما : -
12325 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا أسباط بن نصر
الهمداني ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السديّ قال : بعث النجاشي إلى النبيّ صلى
الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا يسألونه ويأتونه بخبره ، فقرأ عليهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم القرآن ، فبكوا. وكان منهم سبعة رهبانٍ وخمسة
__________
(1) ديوانه : 35. من قصيدته في قيس بن معد يكرب الكندي ، وقبل البيت ، وهو أولها :
أَأَزْمَعْتَ مِنْ آلِ لَيْلَى ابْتِكَارَا ... وَشَطَّتْ عَلَى ذِي هَوًى أن
تُزَارَا
وَبَانَتْ بِهَا غَرَبَاتُ النَّوَى ... وَبُدِّلْتُ شَوْقًا بِهَا وَادِّكَارَا
فَفَاضَتْ دْمُوعِي........... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كَمَا أَسْلَمَ السِّلْكُ مِنْ نَظْمِهِ ... لآلِئَ مُنْحَدِرَاتٍ صِغَارَا
وكان البيت في المخطوطة والمطبوعة : " ففاضت دموعي فطل الشئون داما حدارًا
" ، وهو خطأ محض. " والشئون " جمع " شأن " ، وهو مجرى
الدمع إلى العين ، وهي عروقها. ورواية الديوان : " كفيض الغروب " ، و
" الغروب " جمع " غرب " (بفتح فسكون) ، وهو الدلو الكبير الذي
يستقى به على السانية. وقوله : " فظل " بالظاء المعجمة ، لا بالطاء. وقد
أفسد وأخطأ من جعله بالطاء المهملة ، وشرحه على ذلك. وهو غث جدًا. و " الوكيف
" : أن يسيل الدمع قليلا قليلا ، إنما يقطر قطرًا. " وكف الدمع يكف
وكفًا ووكيفًا " . وأما " انحدار الدمع " ، فهو سيلانه متتابعا ،
كما ينصب الماء من حدور.
(10/507)
قسيسين (1) أو : خمسة رهبان ، وسبعة
قسيسين (2) فأنزل الله فيهم : " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم
تفيض من الدمع " ، إلى آخر الآية.
12326 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عمر بن علي بن مقدّم قال ، سمعت هشام بن
عروة يحدث ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت في النجاشي وأصحابه :
" وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " . (3)
12327 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه في
قوله : " ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق " ، قال : ذلك في
النجاشي.
12328 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه
قال : كانوا يُرَوْن أن هذه الآية أنزلت في النجاشي : " وإذا سمعوا ما أنزل
إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " .
12329 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، قال ابن إسحاق : سألت الزهري
عن الآيات : " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما
أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " الآية ، وقوله : ( وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) [سورة الفرقان : 63]. قال : ما زلت
أسمع علماءنا يقولون : نزلت في النجاشي وأصحابه. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وخمسة قسيسون " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب
محض.
(2) في المخطوطة : " أو سبعة " دون ذكر " قسيسين " ، ولكنها
زيادة لا غنى عنها. وصوابها أيضا " وسبعة " بالواو.
(3) الأثر : 12326 - " عمر بن علي بن مقدم " ، هو : " عمر بن علي
بن عطاء بن مقدم المقدمي " . ثقة ، ولكنه كان يدلس. قال ابن سعد : " كان
ثقة ، وكان يدلس تدليسًا شديدا ، يقول : سمعت ، وحدثنا ، ثم يسكت فيقول : هشام بن
عروة ، والأعمش. وقال : كان رجلا صالحًا ، ولم يكونوا ينقمون عليه غير التدليس ،
وأما غير ذلك فلا ، ولم أكن أقبل منه حتى يقول حدثنا " . مترجم في التهذيب.
(4) الأثر : 12329 - سيرة ابن هشام 2 : 33 ، ولكن ليس فيه ذكر آية سورة الفرقان
التي ذكرها أبو جعفر في هذه الرواية عن ابن إسحق. ثم إن أبا جعفر لم يذكر هذا
الخبر في تفسير الآية من سورة الفرقان 19 : 21 ، 22 (بولاق) ، ولا أشار إلى أنها
نزلت في أحد ، لا النساشي وأصحابه ولا غيرهم.
(10/508)
وأما قوله : " يقولون " ،
فإنه لو كان بلفظ اسم ، كان نصبًا على الحال ، لأن معنى الكلام : وإذا سمعوا ما
أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، قائلين : "
ربنا آمنا " .
* * *
ويعني بقوله تعالى ذكره : " يقولون ربنا آمنا " ، أنهم يقولون : يا ربنا
، صدَّقنا لما سمعنا ما أنزلته إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من كتابك ،
وأقررنا به أنه من عندك ، وأنه الحق لا شك فيه.
* * *
وأما قوله : " فاكتبنا مع الشاهدين " ، فإنه روي عن ابن عباس وغيره في
تأويله ، ما : -
12330 - حدثنا به هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي وابن
نمير جميعًا ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : "
اكتبنا مع
الشاهدين " ، قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
12331 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "
فاكتبنا مع الشاهدين " ، مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
12332 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فاكتبنا مع الشاهدين " ، يعنون بـ "
الشاهدين " ، محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّته.
12333 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " فاكتبنا مع الشاهدين " ، قال : محمد
صلى الله عليه وسلم وأمته ، إنهم شهدوا أنه قد بلَّغ ، وشهدوا أن الرسل قد بلغت.
(10/509)
12334 - حدثنا الربيع قال ، حدثنا أسد
بن موسى قال ، حدثنا يحيى بن زكريا قال ، حدثني إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن
ابن عباس ، مثل حديث الحارث بن عبد العزيز غير أنه قال : وشهدوا للرسل أنهم قد
بلَّغوا. (1)
* * *
قال أبو جعفر : فكأنّ متأوِّل هذا التأويل ، قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله
تعالى ذكره : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) [سورة البقرة : 143].
فذهب ابن عباس إلى أن " الشاهدين " ، هم " الشهداء " في قوله
: " لتكونوا شهداء على الناس " ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
وإذا كان التأويل ذلك ، كان معنى الكلام : " يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع
الشاهدين " ، الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة ، أنهم قد بلغوا أممهم
رسالاتك.
* * *
ولو قال قائل : معنى ذلك : " فاكتبتا مع الشاهدين " ، الذين يشهدون أن
ما أنزلته إلى رسولك من الكتب حق كان صوابًا. لأن ذلك خاتمة قوله : " وإذا
سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا
آمنا فاكتبنا مع الشاهدين " ، وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم لما
سمعوا من كتاب الله ، فتكون مسألتهم أيضا اللهَ أن يجعلهم ممن صحَّت عنده
__________
(1) الآثار : 12330 - 12334 - رواه الحاكم في المستدرك 2 : 313 ، من طريق يحيى بن
آدم عن إسرائيل ، بمثله ، ثم قال : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه
" ووافقه الذهبي. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 18 ، وقال : " رواه
الطبراني عن شيخه عبد الله بن أبي مريم ، وهو ضعيف " ، ولكن هذه أسانيد صحاح
، رواها الطبري وغيره.
(2) انظر ما سلف من تفسير آية سورة البقرة 3 : 141 - 155.
(10/510)
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
شهادتهم بذلك ، ويُلْحقهم في الثوابِ
والجزاء منازلَهُم.
ومعنى " الكتاب ، " في هذا الموضع : الجَعْل. (1)
* * *
يقول : فاجعلنا مع الشاهدين ، وأثبتنا معهم في عِدَادهم.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ
الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
}
قال أبو جعفر : وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء القوم الذين وصَف صفتهم في
هذه الآيات ، أنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من كتابه
، آمنوا به وصدّقوا كتاب الله ، وقالوا : " ما لنا لا نؤمن بالله " ،
يقول : لا نقرّ بوحدانية الله " وما جاءَنا من الحق " ، يقول : وما
جاءنا من عند الله من كتابه وآي تنزيله ، ونحن نطمَعُ بإيماننا بذلك أن يدخلنا
ربُّنا مع القوم الصالحين.
* * *
يعني بـ " القوم الصالحين " ، المؤمنين بالله ، المطيعين له ، الذين
استحقُّوا من الله الجنة بطاعتهم إياه. (2)
وإنما معنى ذلك : ونحن نطمعُ أن يدخلَنا ربُّنا مع أهل طاعته مداخلَهم من جنته يوم
القيامة ، ويلحق منازلَنا بمنازلهم ، ودرجاتنا بدرجاتهم في جنَّاته.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12335 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال
__________
(1) انظر تفسير " الكتاب " فيما سلف من فهارس اللغة ، (كتب).
(2) انظر تفسير " الصالح " فيما سلف 8 : 532 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(10/511)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
ابن زيد في قوله : " وما لنا لا
نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " ،
قال : " القومُ الصالحون " ، رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ
(85) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فجزاهم الله بقولهم : " ربنا آمنا فاكتبنا
مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءَنا من الحق ونطمع أن يدخلَنا ربَّنا مع
القوم الصالحين "
" جنات تجري من تحتها الأنهار " ، يعني : بساتين تجري من تحت أشجارها
الأنهار " خالدين فيها " ، يقول : دائمًا فيها مكثهم ، لا يخرجون منها
ولا يحوَّلون عنها
" وذلك جزاء المحسنين " ، يقول : وهذا الذي جَزَيتُ هؤلاء القائلين بما
وصفتُ عنهم من قيلهم على ما قالوا ، من الجنات التي هم فيها خالدون ، جزاءُ كل
محسنٍ في قِيله وفِعله.
* * *
و " إحسان المحسن " في ذلك ، أن يوحِّد الله توحيدًا خالصًا محضًا لا
شرك فيه ، ويقرّ بأنبياء الله وما جاءت به من عند الله من الكتب ، ويؤدِّي فرائضَه
، ويجتنب معاصيه. (1) فذلك كمال إحسان المحسنين الذين قال الله تعالى ذكره :
" جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " . (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإحسان " فيما سلف 8 : 334 ، تعليق : 2 ، والمراجع
هناك.
(2) أخشى أن يكون صواب العبارة : " الذين قال الله تعالى ذكره أنه أثابهم بما
قالوا جنات... " ، ولكني تركت ما في المخطوطة والمطبوعة على حاله.
(10/512)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
القول في تأويل قوله : { وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وأما الذين جَحَدوا توحيدَ الله ، وأنكروا
نبوّةَ محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذبوا بآيات كتابه ، فإن أولئك " أصحاب
الجحيم " . يقول : هم سكّانها واللابثون فيها. (1)
* * *
و " الجحيم " : ما اشتدّ حرُّه من النار ، وهو " الجَاحِم "
" والجحيم " . (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا
طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ (87) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله ، وأقرُّوا
بما جاءهم به نبيُّهم صلى الله عليه وسلم أنه حق من عند الله " لا تحرّموا
طيبات ما أحل الله لكم " ، يعني بـ " الطيبات " ، اللذيذات التي
تشتهيها النفوس ، وتميل إليها القلوب ، (3)
فتمنعوها إيّاها ، كالذي فعله القسِّيسون والرُّهبان ، فحرَّموا على أنفسِهم
النساءَ والمطاعمَ الطيَّبة ، والمشاربَ اللذيذة ، وحَبس في الصَّوامع بعضُهم
أنفسَهم ، وساحَ في الأرض بعضهم. يقول تعالى ذكره : فلا تفعلوا أيُّها المؤمنون ،
كما فعل أولئك ، ولا تعتدُوا حدَّ الله الذي حدَّ لكم فيما أحلَّ لكم وفيما حرم
عليكم ،
__________
(1) انظر تفسير " أصحاب النار " فيما سلف ص : 217 ، تعليق : 2 ،
والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الجحيم " فيما سلف 2 : 562.
(3) انظر تفسير " الطيبات " فيما سلف ص : 84 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(10/513)
فتجاوزوا حدَّه الذي حدَّه ، فتخالفوا
بذلك طاعته ، فإن الله لا يحبُّ من اعتدى حدَّه الذي حدّه لخلقه ، فيما أحل لهم
وحرَّم عليهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
12336 - حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال ، حدثنا عبثر أبو زبيد قال ،
حدثنا حصين ، عن أبي مالك في هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا
طيّبات ما أحل الله لكم " الآية ، قال : عثمان بن مظعون وأناسٌ من المسلمين ،
حرَّموا عليهم النساءَ ، وامتنعوا من الطَّعام الطيّب ، وأراد بعضهم أن يقطع
ذَكَره ، فنزلت هذه الآية. (1)
12337 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثني خالد الحذاء ،
عن عكرمة قال : كان أناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم همُّوا بالخصاء
وتَرْك اللحم والنساء ، فنزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا
طيّباتِ ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " .
12338 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة : أن رجالا أرادوا
كذا وكذا ، وأرادوا كذا وكذا ، وأن يختَصُوا ، فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا
لا تحرّموا طيّبات ما أحلَّ الله لكم " إلى قوله : " الذي أنتم به
مؤمنون " .
12339 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " يا
أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيِّبات ما أحل الله لكم " ، قال : كانوا
حَرَّموا
__________
(1) الأثر : 12336 - " أبو حصين " : " عبد الله بن أحمد بن يونس
" هو : " عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي " ، شيخ
الطبري ، روى عن أبيه ، وروى هو وأبوه عن عبثر بن القاسم. روى عنه الترمذي
والنسائي وأبو حاتم ، وغيرهم ، ثقة صدوق. مترجم في التهذيب.
و " عبثر بن القاسم الزبيدي " ، " أبو زبيد " . ثقة صدوق.
وقال ابن معين : " ثقة سنيّ " . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/94 ،
وابن أبي حاتم 3/2/ 43. وكان في المخطوطة وحدها : " عبثر بن زبيدة " ،
وهو خطأ محض.
و " حصين " ، هو " حصين بن عبد الرحمن السلمي " ، مضى برقم :
579 ، 2986.
(10/514)
الطيِّب واللحمَ ، فأنزل الله تعالى
هذا فيهم.
12340 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال ، حدثنا خالد ، عن
عكرمة : أن أناسًا قالوا : " لا نتزوَّج ، ولا نأكل ، ولا نفعل كذا وكذا
" ! فأنزل الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيِّبات ما
أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين " .
12341 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب
، عن أبي قلابة ، قال : أراد أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفُضُوا
الدنيا ، ويتركوا النساء ، ويترهَّبوا ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فغَلَّظ فيهم المقالة ، ثم قال : إنما هَلَك من كان قبلكم بالتشديد ، شدَّدوا على
أنفسهم فشدَّد الله عليهم ، فأولئك بقايَاهم في الدِّيار والصوامع! (1) اعبدُوا
الله ولا تشركوا به شيئًا ، وحجُّوا ، واعتمروا ، واستقيموا يَسْتَقِم لكم. قال :
ونزلت فيهم : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم
" ، الآية.
12342 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن
قتادة في قوله : " لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم " ، قال : نزلت في
أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أرادوا أن يتخلَّوا من الدُّنيا ، (2)
ويتركوا النساء ويتزهدوا ، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون.
12343 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن زياد بن فياض ، عن أبي
عبد الرحمن قال : قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : لا آمرُكم أن تكونُوا قسِّيسين
ورهبانًا " .
__________
(1) " الديار " جمع " دير " ، والذي ذكره أصحاب معاجم اللغة
أن جمعه " أديار " ، واقتصروا على هذا الجمع ، وذكر ياقوت في معجم
البلدان (دير) ، جموعًا كثيرًا ، ليس هذا منها ، ولكنه نقل أن الجوهري قال :
" دير النصارى أصله الدار " فإن كان ذلك كذلك ، فجمعه على " ديار
" لا شك في صحته وقياسه. وانظر " الدور " أيضا في الأثر رقم :
12344. ص : 516 ، تعليق : 2.
(2) في المطبوعة : " أن يتخلوا من اللباس " ، وهو كلام ملفق ، وفي
المخطوطة : " ويتحلوا من اللبسا " ، غير مبينة ، صوابها ما أثبت من الدر
المنثور 2 : 308.
(10/515)
12344 - حدثنا بشر بن مُعاذ قال ،
حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : "
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، الآية ، ذكر لنا
أنّ رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رَفَضوا النساء واللحم ، وأرادوا أن
يتّخذوا الصوامع. فلما بلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس في ديني
تركُ النساء واللحم ، ولا اتِّخاذُ الصوامع وخُبِّرنا أن ثلاثة نفرٍ على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم اتَّفقوا ، فقال أحدهم : أمَّا أنا فأقوم الليل لا أنام!
وقال أحدهم : أمَّا أنا فأصوم النهار فلا أفطر! وقال الآخر : أما أنا فلا آتي
النساء! فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : ألم أُنَبَّأْ أنكم
اتّفقتم على كذا ؟ قالوا : بلى! يا رسول الله ، وما أردنا إلا الخير! قال : لكني
أقومُ وأنامَ ، وأصوم وأفطر ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سُنَّتِي فليس منِّي وكان
في بعض القراءة : ( من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل عن سواء السبيل ). (1)
وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأناسٍ من أصحابه : إن مَنْ قبلكم
شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم ، فهؤلاء إخوانهم في الدُّورِ والصوامع! (2)
اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان
، وحُجُّوا واعتمروا ، واستقيموا يستقم لكم. (3)
__________
(1) في المطبوعة : " عن سواء السبيل " ، بزيادة " عن " ،
وليست في المخطوطة.
(2) " الدور " ، يعني جمع " دير " ، وقد ذكرت القول فيه في ص
: 515 ، تعليق : 1.
(3) الأثر : 12344 - " بشر بن معاذ العقدي " مضى برقم : 352 ، 2616.
أما " جامع بن حماد " ، فلم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المراجع. وهذه
أول مرة يأتي إسناد بشر بن معاذ في روايته عن يزيد بن زريع بواسطة " جامع بن
حماد " . أما إسناد : " بشر بن معاذ ، عن يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن
قتادة " فهو إسناد دار في التفسير من أوله إلى هذا الموضع ، برواية "
بشر بن معاذ " عن " يزيد بن زريع " مباشرة.
وسيأتي هذا الإسناد الجديد بعد هذا مرارا ، برقم : 12367 ، 12423 ، 12507 ، 12524.
وفي هذا الإسناد الأخير ، نص صريح على أنه روى الخبر مرة بواسطة " جامع بن
حماد " هذا ، ثم رواه مرة أخرى عن " يزيد بن زيع " مباشرة.
(10/516)
12345 - حدثني محمد بن الحسين قال ،
حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا لا
تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين " ، وذلك
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يومًا فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم على
التَّخويف. فقال أناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة ، منهم
علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون : ما خِفْنا إن لم نُحْدِث عملا! (1) فإنّ
النصارى قد حرَّموا على أنفسهم ، فنحن نحرِّم! فحرَّم بعضهم أكل اللَّحم والوَدَك
، وأن يأكل بالنهار ، (2) وحرَّم بعضهم النوم ، وحرَّم بعضهم النساء. فكان عثمان
بن مظعون ممَّن حرم النساءَ ، وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه. فأتت امرأتُه
عائشةَ ، وكان يقال لها : " الحولاء " ، فقالت لها عائشة ومن عندها من
نساءِ النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما بالُك ، يا حولاءُ متغيِّرةَ اللون لا
تمتشِطين ولا تطيَّبين ؟ فقالت : وكيف أتطيَّب وأمتشط ، وما وقع عليّ زوجي ، ولا
رفع عني ثوبًا ، منذ كذا وكذا! فجعلن يَضحكن من كلامها. فدخل رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهنّ يضحكن ، فقال : ما يضحككن ؟ قالت : يا رسول الله ، الحولاءُ ،
سألتها عن أمرها فقالت : " ما رفع عني زوجي ثوبًا منذ كذا وكذا " !
فأرسل إليه فدعاه فقال : ما بالك يا عثمان ؟ قال : إني تركته لله لكي أتخلَّى
للعبادة! وقَصَّ عليه أمره. وكان عثمان قد أراد أن يَجُبَّ نفسه ، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أقسمتُ عليك إلا رجعت فواقعتَ أهلك! فقال : يا رسول الله إني
صائم! قال : أفطر! فأفطر ، وأتى أهله. فرجعت الحولاءُ إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت
وتطيَّبت. فضحكت عائشة ، فقالت : ما بالك يا حولاء ؟ فقالت : إنه أتاها أمس! فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) في المطبوعة : " ما حقنا " ، وفي المخطوطة : " ما حفنا "
، وصواب قراءته ما أثبت. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفهم عقاب الله ،
فقالوا : لم نبلغ من الخوف مبلغًا يرضاه ربنا ، إن لم نعمل عملا يدل على شدة
المخافة.
(2) " الودك " (بفتحتين) : دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.
(10/517)
ما بالُ أقوامٍ حرَّموا النساء ،
والطعامَ ، والنومَ ؟ ألا إني أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، وأنكح النساء ، فمن رغب
عن سُنَّتي فليس مني! فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما
أحل الله لكم ولا تعتدوا " ، يقول لعثمان : لا تَجُبَّ نفسك. فإن هذا هو
الاعتداء وأمرهم أن يكفِّروا أيْمانهم ، فقال : " لا يؤاخذكم الله باللَّغو
في أيمانكم ولكن يُؤَاخذكم بما عقّدتم الأيمان " .
12346 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ،
عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم
" ، قال : هم رهطٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : نقطَعُ
مذاكيرَنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان! فبلغ ذلك
النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأرسل ، إليهم ، فذكر ذلك لهم فقالوا : نعم! فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : لكنيّ أصوم وأفطر ، وأصلِّي وأنام ، وأنكح النساء ، فمن
أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مِني.
12347 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل
الله لكم " ، وذلك أن رجالا من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، منهم عثمان
بن مظعون ، حرَّموا النساء واللحمَ على أنفسهم ، وأخذوا الشِّفَار ليقطعوا
مذاكيرهم ، لكي تنقطع الشهوة ويتفرَّغوا لعبادة ربهم. فأخبر بذلك النبيُّ صلى الله
عليه وسلم فقال : ما أردتم ؟ فقالوا : أردنا أن تنقطع الشهوة عنا ، (1) ونتفرغ
لعبادة ربنا ، ونلهو عن النساء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم أومر بذلك
، ولكني أمرت في ديني أن أتزوَّج النساء! فقالوا ، نطيعُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم. فأنزل الله تعالى ذكره : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما
أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين " ، إلى قوله : "
الذي أنتم به مؤمنون " .
__________
(1) في المطبوعة : " أن نقطع " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/518)
12348 - حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين
قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : أراد رجالٌ ، منهم عثمان بن
مظعون وعبد الله بن عمرو ، أن يتبتَّلوا ، ويخصُوا أنفسهم ، ويلبسوا المُسُوح ،
(1) فنزلت هذه الآية إلى قوله : " واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون "
قال ابن جريج ، عن عكرمة : أن عثمان بن مظعون ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود ،
والمقداد بن الأسود ، وسالمًا مولى أبي حذيفة في أصحابٍ ، تبتَّلوا ، فجلسوا في
البيوت ، واعتزَلوا النساءَ ، ولبسوا المسوحَ ، وحرَّموا طيبات الطعام واللِّباس
إلا ما أكل ولبس أهل السِّيَاحة من بني إسرائيل ، وهمُّوا بالإخصَاء ، (2)
وأجمعُوا لقيام الليلِ وصيام النهار ، فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا
تحرِّموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " ،
يقول : لا تَسِيروا بغير سُنّة المسلمين ، (3) يريد : ما حرموا من النساء والطعام
واللباس ، وما أجمعوا له من صيام النهار وقيامِ الليل ، وما همُّوا به من الإخصاء.
(4) فلما نزلت فيهم ، بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ لأنفسكم
حقًّا ، وإنَّ لأعيُنِكم حقًّا! صوموا وأفطروا ، وصلّوا وناموا ، فليس منا من ترك
سُنَّتنا! فقالوا : اللهم أسلمنا واتَّبعنا ما أنزلت!
12349 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد في قوله :
" يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ، قال ، قال
أبي : ضَافَ عبدَ الله بن رواحة ضيفٌ ، فانقلبَ ابن رواحة ولم يتعشَّ ، فقال
__________
(1) " المسوح " جمع " مسح " (بكسر فسكون) : وهو كساء من شعر
يلبسه الرهبان.
(2) " الإخصاء " ، يعني الخصاء ، وانظر ما كتبته آنفا في 9 : 215 ،
تعليق : 1 ، وإنكار أهل اللغة لها ، وإتيانها في آثار كبيرة ، يضم إليها هذا الأثر
في موضعين. وكان في المطبوعة هنا " بالاختصاء " ، وأثبت ما في المخطوطة
، ولكن ستأتي مرة أخرى ، وتتفق فيها المطبوعة والمخطوطة : " الاختصاء "
.
(3) في المطبوعة : " لا تستنوا بغير سنة المسلمين " ، وأثبت ما في
المخطوطة ، وهي غير منقوطة. وهذا صواب قراءتها.
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " هموا له " ، وكأن الصواب ما أثبت.
(10/519)
لأهله : ما عَشَّيْتِه ؟ فقالت : كان
الطعام قليلا فانتظرت أن تأتي! قال : فحبستِ ضيفي من أجلي! فطعامُك عليَّ حرام إن
ذُقْته! فقالت هي : وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذقه! وقال الضيف : هو عليَّ حرام
إن ذقتُه إن لم تذُوقوه! فلما رأى ذلك قال ابن رواحة : قرِّبي طعامَكِ ، كلوا بسم
الله! وغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : قد أحسنتَ! فنزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا
طيبات ما أحلَّ الله لكم " ، وقرأ حتى بلغ : " لا يؤاخذكم الله باللغو
في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان " ، إذا قلت : " والله لا
أذوقه " ، فذلك العقد.
12350 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عثمان بن سَعْد قال ،
حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس : أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا
رسول الله ، إنيّ إذا أصبتُ من اللحم انتشرتُ ، وأخذتني شهوتي ، فحرَّمت اللحم ؟
فأنزل الله تعالى ذكره : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل
الله لكم ولا تعتدُوا إن الله لا يحبُّ المعتدين " . (1)
12351 - حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا خالد الحذاء ، عن
عكرمة قال : هَمَّ أناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الأثر : 12350 - هذا الأثر أخرجه الترمذي في كتاب التفسير بإسناده ولفظه ، ثم
قال : " هذا حديث حسن غريب. ورواه بعضهم من غير حديث عثمان بن سعد مرسلا ،
ليس فيه : عن ابن عباس ، ورواه خالد الحذاء ، عن عكرمة ، مرسلا " ، يعني
الترمذي الأثر التالي : 12351.
و " عثمان بن سعد التميمي ، الكاتب المعلم " ، ثقة. مضى برقم : 2155.
وكان في المطبوعة هنا " عثمان بن سعيد " ، وهو خطأ محض ، وكان في
المخطوطة مثله ، إلا أنه ضرب على نقطتي الياء ، وأراد وصل العين بالدال ، فأخطأ
الناشر في قراءة ذلك.
هذا ، وانظر ما جاء من الأخبار في الخصاء والتبتل في صحيح البخاري (الفتح 9 : 100
- 103) ، وما علق عليه الحافظ ابن حجر. ثم ما جاء فيه أيضا (الفتح 8 : 207) ،
وتفسير ابن كثير 3 : 213 - 217 ، وطبقات ابن سعد 3/1/286 - 288 في ترجمة "
عثمان بن مظعون " .
(10/520)
بترك النساء والخِصَاء ، فأنزل الله
تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم "
الآية.
* * *
واختلفوا في معنى " الاعتداء " الذي قال تعالى ذكره : " ولا تعتدوا
إنّ الله لا يحبُّ المعتدين " .
فقال بعضهم : " الاعتداء " الذي نهى الله عنه في هذا الموضع : هو ما كان
عثمان بن مظعون همَّ به من جَبِّ نفسه ، فنهى عن ذلك ، وقيل له : " هذا هو
الاعتداء " .
وممن قال ذلك السدي.
12352 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ،
عنه. (1)
* * *
وقال آخرون : بل ذلك هو ما كان الجماعةُ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
هَمُّوا به من تحريمِ النساء والطعام واللباس والنوم ، فنهوا أن يفعلوا ذلك ، وأن
يستَنَّوا بغير سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. وممن قال ذلك عكرمة.
12353 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عنه.
(2)
* * *
وقال بعضهم : بل ذلك نهيٌ من الله تعالى ذكره أن يتجاوَزَ الحلالَ إلى الحرام.
ذكر من قال ذلك :
12354 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، عن عاصم ، عن الحسن : " يا
أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا " ، قال : لا
تعتدوا إلى ما حُرِّم عليكم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " عنه به " في الموضعين ، وأثبت ما في المخطوطة ،
بحذفها.
(2) في المطبوعة : " عنه به " في الموضعين ، وأثبت ما في المخطوطة ،
بحذفها.
(10/521)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
وقد بينا أن معنى " الاعتداء
" ، تجاوز المرءِ ماله إلى ما ليس له في كل شيء ، فيما مضى ، بما أغنى عن
إعادته. (1)
قال أبو جعفر : وإذ كان ذلك كذلك وكان الله تعالى ذكره قد عمَّ بقوله : " لا
تعتدوا " ، النهيَ عن العدوان كُلّه كان الواجبُ أن يكون محكومًا لما عمَّه
بالعُموم حتى يخصَّه ما يجب التسليم له. وليس لأحدٍ أن يتعدَّى حدَّ الله تعالى في
شي من الأشياء مما أحلَّ أو حرَّم ، فمن تعدَّاه فهو داخل في جملة من قال تعالى
ذكره : " إن الله لا يحب المعتدين " .
وغير مستحيل أن تكون الآية نزلت في أمر عثمان بن مظعون والرهطِ الذين همُّوا من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما همُّوا به من تحريم بعض ما أحلّ الله لهم
على أنفسهم ، ويكون مرادًا بحكمها كلُّ من كان في مثل مَعْناهم ممَّن حرّم على
نفسه ما أحلَّ الله له ، أو أحلَّ ما حرّم الله عليه ، أو تجاوز حدًّا حدَّه الله
له. وذلك أن الذين همُّوا بما همُّوا به من تحريم بعض ما أحلَّ لهم على أنفسهم ،
إنما عوتبوا على ما همُّوا به من تجاوزهم ما سَنَّ لهم وحدَّ ، إلى غيره.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، لهؤلاء المؤمنين الذين نهَاهم أن يحرِّموا طيبات
ما أحلّ الله لهم : كُلوا ، أيها المؤمنون ، من رزق الله الذي رَزقكم وأحله لكم ،
حلالا طيِّبًا ، (2) كما : -
__________
(1) انظر تفسير " الاعتداء " فيما سلف ص : 489 ، تعليق : 1 ، والمراجع
هناك.
(2) انظر تفسير " حلال طيب " فيما سلف 3 : 300 ، 301
(10/522)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
12355 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : " وكلوا مما رزقكم الله
حلالا طيبًا " يعني : ما أحل الله لهم من الطعام.
* * *
وأما قوله : " واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون " ، فإنه يقول : وخافوا
، أيها المؤمنون ، أن تعتدوا في حدوده ، فتُحلُّوا ما حُرِّم عليكم ، وتُحرِّموا
ما أحِلَّ لكم ، واحذروه في ذلك أن تخالفوه ، فينزل بكم سَخَطُه ، أو تستوجبوا به
عقوبته (1) " الذي أنتم به مؤمنون " ، يقول : الذي أنتم بوحدانيّته
مقرُّون ، وبربُوبيته مصدِّقون.
* * *
القول في تأويل قوله : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، للذين كانوا حرَّموا على أنفسهم الطيّبات من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا حرَّموا ذلك بأيمانٍ حَلَفوا بها ،
فنهاهم عن تحريمها وقال لهم : لا يُؤَاخذكم ربُّكم باللغو في أيمانكم ، (2) كما :
-
12356 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قال ، لما نزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا
طيبات ما أحل الله لكم " ، في القوم الذين كانوا حرَّموا النساء واللحمَ على
أنفسهم ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلَفنا عليها ؟ فأنزل
الله تعالى ذكره : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، الآية.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " اتقى " فيما سلف من فهارس اللغة (وقى).
(2) انظر تفسير " المؤاخذة " فيما سلف 4 : 427 ، وما بعدها/6 : 132 ، وما
بعدها.
(10/523)
فهذا يدلُّ على ما قلنا ، من أن القوم
كانوا حرَّموا ما حرَّموا على أنفسهم بأيمان حَلَفُوا بها ، فنزلت هذه الآية
بسبَبهم.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز وبعض البصريين : ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ
الأيْمَانَ ) بتشديد " القاف " ، بمعنى : وكّدتم الأيمانَ ورَدَّدتموها.
* * *
وقرأه قَرَأةُ الكوفيين : ( بِمَا عَقَدْتُمُ الأيْمَانَ ) (1)
بتخفيف " القاف " ، بمعنى : أوجبتموها على أنفسكم ، وعَزَمتْ عليها
قلوبكم.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك ، قراءةُ من قرأ بتخفيف "
القاف " . وذلك أن العرب لا تكاد تستعمل " فعَّلت " في الكلام ،
إلا فيما يكون فيه تردُّدٌ مرة بعد مرةٍ ، مثل قولهم : " شدَّدت على فلان في
كذا " ، إذا كُرِّر عليه الشدّة مرة بعد أخرى. (2) فإذا أرادوا الخبر عن فعلِ
مرّة واحدةٍ قيل : " شَدَدت عليه " ، بالتخفيف.
وقد أجمع الجميع لا خِلافَ بينهم : أن اليمين التي تجب بالحِنْث فيها الكفارة ،
تلزم بالحنث في حلف مرة واحدة ، وإن لم يكرّرها الحالف مرات. وكان معلومًا بذلك
أنّ الله مؤاخذٌ الحالفَ العاقدَ قلبَه على حلفه ، وإن لم يكرِّره ولم يردِّدْه.
(3)
وإذا كان ذلك كذلك ، لم يكن لتشديد " القاف " من " عقّدتم " ،
وجه مفهومٌ.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وقراء الكوفيين " ، وفي المخطوطة : " وقراه
الكوفيين " ، وصواب العبارة أن يزاد فيها : " وقرأه " كما فعلت.
(2) في المطبوعة : " عليه الشد " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة : " ولم يردده " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(10/524)
فتأويل الكلام إذًا : لا يؤاخذكم الله
، أيها المؤمنون ، من أيمانكم بما لغوتم فيه ، ولكن يؤاخذكم بما أوجبتموه على
أنفسكم منها ، وعَقَدَت عليه قلوبكم.
* * *
وقد بينا اليمين التي هي " لغو " والتي اللهُ مؤاخذٌ العبدَ بها ، والتي
فيها الحِنْث ، والتي لا حنث فيها فيما مضى من كتابنا هذا ، فكرهنا إعادة ذلك في
هذا الموضع. (1)
* * *
وأما قوله : " بما عقدتم الأيمان " ، (2) فإن هنادًا :
12357 - حدثنا قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "
ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، قال : بما تعمدتم.
12358 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
، مثله.
12359 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن :
" ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، يقول : ما تعمَّدت فيه المأثَم ،
فعليك فيه الكفارة.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في " الهاء " التي في قوله : "
فكفارته " ، على ما هي عائدة ، ومن ذكر ما ؟
فقال بعضهم : هي عائدة على " ما " التي في قوله : " بما عقدتم
الأيمان " .
ذكر من قال ذلك :
12360 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ،
__________
(1) انظر تفسير " اللغو " ، وما قال فيه فيما سلف 4 : 427 - 455.
(2) انظر تفسير " عقد الأيمان " فيما سلف 8 : 272 - 274.
(10/525)
عن الحسن في هذه الآية " لا
يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو أن تحلف على الشيء وأنت يخيَّل
إليك أنه كما حلفت وليس كذلك ، فلا يؤاخذكم الله ، فلا كفارة. ولكن المؤاخذة
والكفارة ، فيما حلفتَ عليه على علمٍ. (1)
12361 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مغيرة ، عن
الشعبي قال : اللغو ليس فيه كفارة " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ،
قال : ما عُقِدت فيه يمينه ، (2) فعليه الكفارة.
12362 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين ، عن أبي مالك قال :
الأيمان ثلاثٌ : يمين تكفّر ، ويمين لا تُكَفَّر ، ويمين لا يؤاخذ بها صاحُبها.
فأما اليمين التي تكفَّر ، فالرجل يحلِف على الأمر لا يفعله ، ثم يفعله ، فعليه
الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفّر : فالرجل يحلف على الأمر يتعمّد فيه الكذِبَ ،
فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها ، فالرجل يحلف على الأمر
يَرَى أنه كما حلَف عليه ، فلا يكون كذلك ، فليس عليه فيه كفارة. وهو " اللغو
" . (3)
12363 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا ابن أبي ليلى ، عن عطاء قال :
قالت عائشة : لغوُ اليمين ، ما لم يعقد عليه الحالِفُ قلبه.
12364 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا هشام قال ، حدثنا حماد ، عن
إبراهيم قال : ليس في لغو اليمين كفّارة.
12365 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس ، عن
ابن شهاب : أن عروة حدّثه : أن عائشة قالت : أيمانُ
__________
(1) الأثر : 12360 - " عوف " ، هو الأعرابي : " عوف بن أبي جميلة
العبدي الهجري " ، مضى كثيًرا ، آخره رقم : 5473 - 5477. وكان في المطبوعة
والمخطوطة هنا ، " ابن أبي عدي ، عن عدي ، عن الحسن " ، وهو خطأ محض ،
وقد مضى هذا الأثر بإسناده كما أثبته وبنصه برقم : 4406.
(2) في المطبوعة : " ما عقد فيه يمينه " ، وأثبت ما في المخطوطة. وهو
صواب. " عقدت " بالبناء للمجهول.
(3) الأثر : 12362 - مضى مختصرًا برقم : 4427.
(10/526)
الكفارة ، كلّ يمين حلف فيها الرجل على
جدٍّ من الأمور في غضب أو غيره : " ليفعلن ، ليتركنّ " ، فذلك عقد
الأيمان التي فَرض الله فيها الكفارة ، وقال تعالى ذكره : " لا يؤاخذكم الله
باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " .
12366 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن يحيى
بن سعيد ، وعن علي بن أبي طلحة قالا ليس في لغو اليمين كفارة. (1)
12367 - حدثنا بشر قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ،
عن قتادة ، عن الحسن : " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، يقول : ما
تعمدتَ فيه المأثم ، فعليك فيه الكفارة. قال ، وقال قتادة : أمّا اللغو ، فلا
كفارة فيه. (2)
12368 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن قال : لا
كفارة في لغو اليمين.
12369 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو العنقزيّ ، عن أسباط ، عن السدي : ليس في
لغو اليمين كفارة. (3)
* * *
قال أبو جعفر : فمعنى الكلام على هذا التأويل : " لا يؤاخذكم الله باللغو في
أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " ، فكفارة ما عقدتم منها إطعامُ
عَشَرة مساكين.
* * *
__________
(1) الأثر : 12366 - " معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي " ، مضى مرارًا
كثيرة ، آخرها : 8472.
و " يحيى بن سعيد الأنصاري " الإمام القاضي ، مضى مرارًا كثيرة ، آخرها
رقم : 8870 ، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا : " يحيى بن سعد " ، وهو
خطأ محض.
(2) الأثر : 12367 - " جامع بن حماد " ، انظر التعليق على الأثر السالف
رقم : 12344.
(3) الأثر : 12369 - " عمرو العنقزي " ، هو : " عمرو بن محمد
العنقزي " ، مضى برقم : 6139 ، في المطبوعة : " العبقري " وهو خطأ.
وهو في المخطوطة غير منقوط.
(10/527)
وقال آخرون : " الهاء " في
قوله : " فكفارته " ، عائدة على " اللغو " ، وهي كناية عنه.
(1) قالوا : وإنما معنى الكلام : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم إذا كفَّرتموه
، ولكن يؤاخذكم إذا عقدتم الأيمان فأقمتم على المضيّ عليه بترك الحِنْث والكفارة
فيه. والإقامةُ على المضيّ عليه ، غير جائزةٍ لكم. فكفارةُ اللغو منها إذا حنثتم
فيه ، إطعامُ عشرة مساكين.
ذكر من قال ذلك :
12370 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في
أيمانكم " ، فهو الرجل يحلف على أمرِ ضِرارٍ أن يفعلَه فلا يفعله ، (2) فيرى
الذي هو خير منه ، فأمره الله أن يكفّرَ عن يمينه ويأتي هو خير وقال مرة أخرى :
قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " إلى قوله : " بما
عقدتم الأيمان " ، قال : واللغو من الأيمان ، (3) هي التي تُكفّر ، لا يؤاخذ
الله بها. ولكن من أقام على تحريم ما أحلّ الله له ، ولم يتحوَّل عنه ، ولم يكفِّر
عن يمينه ، فتلك التي يُؤْخَذ بها. (4)
12371 - حدثنا هناد قال ، حدثنا حفص بن غياث ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن
جبير قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو الذي
يحلف على المعصية فلا يفي ، فيكفِّر. (5)
12372 - حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود ، عن سعيد
بن جبير : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو
__________
(1) " الكناية " ، الضمير. انظر ما سلف من فهارس المصطلحات.
(2) في المطبوعة : " قال : هو الرجل يحلف... " ، وأثبت ما في المخطوطة ،
وهو محض صواب.
(3) في المطبوعة : " واللغو من اليمين " ، وكان ناسخ المخطوطة قد كتب
" اليمين " ، ثم عاد على الكلمة بالقلم ليجعلها " الأيمان " ،
فاختلطت. وهذا صواب قراءتها.
(4) في المطبوعة : " يؤاخذ بها " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) الأثر : 12371 - سلف مطولا برقم : 4436.
(10/528)
الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه
الله تعالى ذكره ، يكفّر عن يمينه ، ويأتي الذي هو خير " ولكن يؤاخذكم بما
عقدتم الأيمان " ، الرجل يحلف على المعصية ثم يقيم عليها ، فكفارته إطعام
عشرة مساكين. (1)
12373 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا داود ، عن سعيد بن جبير ،
قال في لغو اليمين : هي اليمين في المعصية ، فقال : أولا تقرأ فتفهم ؟ قال :
" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان "
. قال : فلا يؤاخذه بالإلغاء ، ولكن يؤاخذه بالتَّمَام عليها ، (2) قال وقال : (
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ ) [سورة البقرة : 224]. (3)
12374 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير في
قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : هو الرجل يحلف
على المعصية ، فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها. قلت : وكيف يصنع ؟ قال : يكفر
يمينه ويترك المعصية. (4)
12375 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : "
اللغو " ، يمين لا يؤاخذ بها صاحبها ، وفيها كفارة. (5)
12376 - حدثني يحيى بن جعفر قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا جويبر ، عن
الضحاك في قوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، قال : اليمين
المكفَّرة. (6)
* * *
__________
(1) الأثر : 12372 - مضى مختصرًا برقم : 4440.
(2) في المطبوعة : " بالمقام عليها " . والصواب ما كان في المخطوطة ،
وهو المطابق لروايته فيما مضى ، كما سيأتي في التخريج. وتم على الأمر تمامًا
" : استمر عليه وأنفذه وأمضاه.
(3) الأثر : 12373 - مضى هذا الأثر بإسناده ولفظه ، برقم : 4445.
(4) الأثر : 12374 - مضى بإسناده ولفظه ، برقم : 4443.
(5) الأثر : 12375 - كان هذا في المطبوعة بعد الذي يليه مؤخرًا ، فقدمته كما في
المخطوطة.
(6) الأثر : 12376 - مضى أيضا برقم : 4464.
(10/529)
قال أبو جعفر : والذي هو أولى عندي
بالصواب في ذلك ، أن تكون " الهاء " في قوله : " فكفارته "
عائدة على " ما " التي في قوله : " بما عقدتم الأيمان " ، لما
قدَّمنا فيما مضى قبل (1) أنّ من لزمته في يمينه كفّارة وأُوخذ بها ، غيرُ جائز أن
يقال لمن قد أوخذ : " لا يؤاخذه الله باللغو " . وفي قوله تعالى :
" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، دليلٌ واضح أنه لا يكون
مؤاخذًا بوجه من الوجوه ، مَنْ أخبرنا تعالى ذكره أنه غيرُ مؤاخذه.
فإن ظنّ ظان أنه إنما عنى تعالى ذكره بقوله : " لا يؤاخذكم الله باللغو في
أيمانكم " ، بالعقوبة عليها في الآخرة إذا حنثْتُم وكفَّرتم إلا أنه لا
يؤاخذهم بها في الدنيا بتكفير فإن إخبار الله تعالى ذكره وأمرَه ونهيَه في كتابه ،
على الظاهر العامّ عندنا بما قد دللنا على صحّة القول به في غير هذا الموضع ،
فأغنى عن إعادته (2) دون الباطن العامِّ الذي لا دلالة على خصوصه في عقل ولا خبر.
ولا دلالة من عقل ولا خبرٍ أنه عنى تعالى ذكره بقوله : " لا يؤاخذكم الله
باللغو في أيمانكم " ، بعضَ معاني المؤاخذة دون جميعها.
وإذ كان ذلك كذلك ، وكان من لزمته كفّارة في يمينٍ حنث فيها مؤاخذًا بها بعقوبة في
ماله عاجلة ، كان معلومًا أنه غيرُ الذي أخبرنا تعالى ذكره أنه لا يؤاخذه بها.
* * *
وإذْ كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا بالذي عليه دللنا ، فمعنى الكلام إذًا
: لا يؤاخذكم الله أيها الناس ، بلغوٍ من القول والأيمان ، إذا لم تتعمدوا بها
معصية الله تعالى ذكره ولا خلافَ أمره ، ولم تقصدوا بها إثمًا ، ولكن يؤاخذكم بما
تعمَّدتم به الإثم ، وأوجبتموه على أنفسكم ، وعزمتْ عليه قلوبكم ، ويكفر ذلك
__________
(1) انظر ما سلف 4 : 447 ، 448.
(2) انظر ما سلف 2 : 539/ 3 : 37/ 4 : 134/ 5 : 40 ، 130 ، ومواضع غيرها ، اطلبها
في الفهارس.
(10/530)
عنكم ، فيغطِّي على سيِّئ ما كان منكم
من كذبٍ وزُور قولٍ ، ويمحوه عنكم فلا يتبعكم به ربكم (1) " إطعامُ عشرة
مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " .
* * *
القول في تأويل قوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ،
من أعدله ، كما : -
12377 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا ابن جريج قال سمعت عطاء
يقول في هذه الآية : " من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم " ، قال عطاء
: " أوسطه " ، أعدله.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " .
فقال بعضهم : معناه : من أوسط ما يُطْعِم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهلُ بلد
المكفّر ، أهاليهم. (2)
ذكر من قال ذلك :
12378 - حدثنا هناد قال ، أخبرنا شريك ، عن عبد الله بن حنش ، عن الأسود قال :
سألته عن : " أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : الخبز ، والتمر ، والزيت
، والسمن ، وأفضلُه اللحم. (3)
__________
(1) انظر تفسير " الكفارة " و " التكفير " فيما سلف ص : 461 ،
تعليق : 2 ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الوسط " فيما سلف 3 : 141 - 145 /5 : 227.
(3) الأثر : 12378 - " عبد الله بن حنش الأودي " . روى عن البراء ، وابن
عمر ، والأسود بن يزيد ، وغيرهم. روى عنه الثوري ، وشريك ، وشعبة ، وأبو عوانة.
قال ابن معين : " ثقة " ، قال أبو حاتم : " لا بأس به " .
مترجم في ابن أبي حاتم 2/2/39.
و " الأسود " ، هو : الأسود بن يزيد بن قيس النخعي " ، مضى برقم :
3299 ، 4888 ، 8267.
(10/531)
12379 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع
وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان ، عن عبد الله بن حنش قال : سألت الأسود
بن يزيد عن ذلك فقال : الخبز والتمر زاد هناد في حديثه ، والزيت. قال : وأحسبه ،
الخلّ.
12380 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو الأحوص ، عن عاصم الأحول ، عن ابن
سيرين ، عن ابن عمر في قوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : من
أوسط ما يطعم أهلَه : الخبزَ والتمرَ ، والخبز والسمن ، والخبزَ والزيت. ومن أفضل
ما تُطْعمهم : الخبزَ واللحم.
12381 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن ليث ، عن ابن سيرين ، عن
ابن عمر : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، الخبزَ واللحم ، والخبز
والسمن ، والخبز والجبن ، (1) والخبز والخلَّ.
12382 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله
بن حنش ، (2) قال : سألت الأسود بن يزيد عن " أوسط ما تطعمون أهليكم " ،
قال : الخبز والتمر.
12383 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى قال ، حدثنا سفيان قال ، حدثنا عبد الله
بن حنش قال : سألت الأسود بن يزيد ، فذكر مثله.
12384 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن ،
عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ،
قال : الخبز والسمن.
12385 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سعيد بن
عبد الرحمن ، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن ذلك ، فذكر مثله.
__________
(1) في المخطوطة ، غير بينة بل مختلطة الكتبة ، وممكن أن تقرأ : " الخبر
واللبن " وانظر رقم : 12388.
(2) في المخطوطة : " عبد الله بن حدس " ، وهو تحريف وسهو من الناسخ ،
انظر الإسنادين السالفين : 12378 ، 12379 ، والإسناد التالي : 12383.
(10/532)
12386 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا
أزهر قال ، أخبرنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة : " من أوسط ما
تطعمون أهليكم " ، الخبز والسمن. (1)
12387 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن يزيد بن
إبراهيم ، عن ابن سيرين قال : كانوا يقولون : أفضله الخبز واللحم ، وأوسطه الخبز
والسمن ، وأخسُّه الخبز والتمر.
12388 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن الربيع ،
عن الحسن قال : خبز ولحم ، أو خبز وسمن ، أو خبز ولبن.
12389 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا عمر بن هارون ، عن أبي مصلح ، عن الضحاك
في قوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : الخبز واللحم
والمرَقَة. (2)
12390 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا زائدة ، عن يحيى بن
حَيّان الطائي قال : كنت عند شُريح ، فأتاه رجل فقال : إني حلفت على يمين فأثِمْتُ
؟ قال شريح : ما حملك على ذلك ؟ قال : قُدِّر عليّ ، فما أوسط ما أطعم أهلي ؟ قال
له شريح : الخبز والزيت ، والخل طيّبٌ. قال : فأعاد عليه ، فقال له شريح ذلك ثلاث
مرارٍ ، لا يزيده شريح على ذلك. فقال له : أرأيت إن أطعمت الخبزَ واللحم ؟ قال :
ذاك أرفعُ طعام أهلِك وطعامِ الناس. (3)
__________
(1) الأثر : 12386 - " أزهر " هو : " أزهر بن سعد السمان " ،
مضى برقم : 4774.
(2) الأثر : 12389 - " عمر بن هرون بن يزيد الثقفي البلخي " ، "
أبو حفص " . قال البخاري : " تكلم فيه يحيى بن معين " . قال يحيى
بن معين : " كذاب ، قدم مكة وقد مات جعفر بن محمد ، فحدث عنه " . وقال
أحمد : " كتبت عنه حديثًا كثيرًا ، وما أقدر أن أتعلق عليه بشيء. فقيل له :
تروي عنه ؟ قال : قد كنت رويت عنه شيئًا " . والطعن فيه شديد. مترجم في
التهذيب.
و " أبو مصلح " الخراساني ، اسمه : " نصر بن مشارس " . روى عن
الضحاك بن مزاحم وصحبه. قال أبو حاتم : " شيخ " ، وذكره ابن حبان في
الثقات. مترجم في التهذيب.
(3) الأثر : 12390 - " يحيى بن حيان الطائي " ، أبو هلال. روى عن شريح.
روى عنه سفيان الثوري ، وزائدة ، وموسى بن محمد الأنصاري ، والقاسم بن مالك المزني
، وابن عيينة ، وشريك ثقة. مترجم في الكبير 4/2/268 ، وابن أبي حاتم 4/2/136.
(10/533)
12391 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو
خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال ، في كفارة اليمين
: يغدِّيهم ويعشيهم خبزًا وزيتًا ، أو خبزًا وسمنًا. أو خلا وزيتًا.
12392 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو أسامة ، عن زبرقان ، عن أبي رزين :
" من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، خبز وزيت وخلّ.
12393 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن هشام بن محمد قال : أكلة واحدة
، خبز ولحم. قال : وهو " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، وإنكم لتأكلون
الخَبِيص والفاكهة. (1)
12394 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى وحدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة
عن هشام ، عن الحسن قال في كفارة اليمين : يجزيك أن تطعم عَشَرة مساكين أكلة واحدة
، خبزًا ولحمًا. فإن لم تجد ، فخبزًا وسمنًا ولبنًا. فإن لم تجد ، فخبزًا وخلا
وزيتًا حتى يشبعوا.
12395 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير ، عن زبرقان قال : سألت أبا رزين عن
كفارة اليمين ما يطعم ؟ قال : خبزًا وخلا وزيتًا : " من أوسط ما تطعمون
أهليكم " ، وذلك قدر قوتهم يومًا واحدًا.
* * *
ثم اختلف قائلو ذلك في مبلغه.
فقال بعضهم : مبلغ ذلك ، نصفُ صاع من حنطة ، أو صاعٌ من سائر الحبوب غيرها.
ذكر من قال ذلك :
12396 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن عبد الله
بن عمرو بن مرة ، عن أبيه ، عن إبراهيم ، عن عمر قال : إني
__________
(1) " الخبيص " : ضرب من الحلواء المخبوصة ، أي المخلوطة.
(10/534)
أحلف على اليمين ، ثم يبدو لي ، فإذا
رأيتَني قد فعلت ذلك ، فأطعم عشرة مساكين ، لكل مسكين مُدَّين من حنطة . (1)
12397 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ويعلى ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن يسار
بن نمير قال قال عمر : إنيّ أحلف أن لا أعطى أقوامًا ، ثم يبدو لي أن أعطيَهم.
فإذا رأيتَني فعلتُ ذلك ، فأطعم عني عشَرة مساكين ، بين كل مسكينين صاعًا من برٍّ
، أو صاعًا من تمر. (2)
12398 - حدثنا هناد ومحمد بن العلاء قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن علي قال :
كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من حنطة. (3)
12399 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " من
أوسط ما تطعمون أهليكم " ، نصف صاع برّ كلّ مسكين.
__________
(1) الأثر : 12396 - " عبد الله بن عمرو بن مرة المرادي " . قال ابن
معين : " ليس به بأس " ، وقال النسائي : " ضعيف " . وقال
الحاكم : " هو من ثقات الكوفيين ممن يجمع حديثه ، ولا يزيد ما أسنده على عشرة
" . وذكره العقيلي في الضعفاء. مترجم في التهذيب. وانظر ما سلف رقم : 12306 ،
والتعليق عليه.
أبوه : " عمرو بن مرة المرادي " ، مضى ذكره في رقم : 12306 ، ثقة. مترجم
في التهذيب.
وفي المخطوطة : " عن إبراهيم ، عن عمرو " ، وهو خطأ ، صوابه ما في
المطبوعة.
وفي المخطوطة أيضًا : " لكل مسكين مدين من حنطة " ، وهو صحيح ، وفي
المطبوعة : " مدان " . والخطاب في هذا الخبر لخازنه " يسار بن نمير
" كما سيأتي في هذا الأثر رقم : 12397 الآتي.
(2) الأثر : 12397 - " شقيق " ، هو " شقيق بن سلمة " ، مضى
مرارًا.
و " يسار بن نمير " ، مولى عمر بن الخطاب ، وخازنه. مترجم في التهذيب ،
والكبير 4/2/420 ، وابن أبي حاتم 4/2/307. وكان في المخطوطة : " بشار "
، وهو خطأ محض.
والخبر رواه البيهقي في السنن 10 : 55 ، 56 من طريق سعدان بن نصر ، عن أبي معاوية
، بمثله.
(3) الأثر : 12398 - " عبد الله بن سلمة المرادي الكوفي " . روى عن عمر
، ومعاذ ، وعلي ، وابن مسعود ، وغيرهم. وروى عنه أبو إسحق السبيعي ، وعمرو بن مرة.
ثقة. ولكن قال البخاري : " لا يتابع في حديثه " . وقال أبو حاتم :
" يعرف وينكر " . وذكر شعبة ، عن عمرو بن مرة قال : " كان عبد الله
بن سلمة يحدثنا ، فنعرف وننكر. كان قد كبر " . مترجم في التهذيب.
(10/535)
12400 - حدثنا هناد قال ، حدثنا حفص ،
عن عبد الكريم الجزري قال : قلت لسعيد بن جبير : أجمعُهم ؟ قال : لا أعطهم مدّين
مدَّين من حنطة ، مدًّا لطعامه ، ومدًَّا لإدامه.
12401 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن
سفيان ، عن عبد الكريم الجزري ، قال : قلت لسعيد ، فذكر نحوه.
12402 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو زبيد ، عن حصين قال : سألت الشعبي عن كفارة
اليمين فقال : مَكُّوكين ، مكوكًا لطعامه ، ومكوكًا لإدامه. (1)
12403 - حدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا هشام ، عن عطاء ، عن
ابن عباس قال : لكل مسكين مُدَّين.
12404 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن عطاء ، عن ابن عباس ،
قال : لكل مسكين مدّين من برّ في كفارة اليمين.
12405 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان
، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : مدَّان من طعام لكل مسكين.
12406 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا سعيد بن يزيد أبو مسلمة قال
: سألت جابر بن زيد عن إطعام المسكين في كفارة اليمين ، فقال : أكلة. قلت : فإن
الحسن يقول : مكُّوك برّ ومكوك تمر ، فما ترى في مكُّوك بر ؟ فقال : إن مكوك برّ!!
(2) قال يعقوب قال ، ابن علية : وقال أبو مسلمة
__________
(1) الأثر : 12402 - " أبو زبيد " ، هو " عبثر بن القاسم " ،
مضى قريبًا في رقم : 12336. وكان في المطبوعة : " أبو زيد " ، وهو خطأ ،
صوابه في المخطوطة ، وهي غير منقوطة.
و " المكوك " ، مكيال قديم معروف ، لأهل العراق ، ويراد به " المد
" . وانظر تفسيره في لسان العرب (مكك).
(2) في المطبوعة : " فما ترى في مكوك بر ؟ فقال : إن مكوك بر لا ، أو مكوك
تمر لا ، قال يعقوب... " ، وفي المخطوطة : " فما ترى في مكوك بر ؟ فقال
إن مكوك بر لا أو مكوك بر لا. قال يعقوب " . وأراد ناشر المطبوعة أن يصحح ،
فصحح!! ولكن بقى الكلام كله لا معنى له ، هو خلط يضرب في خلط. وذلك أن ناسخ
المخطوطة ، رأى في النسخة التي نقل عنها " لا أو مكوك بر لا " ، وكانت
" لا " في الموضعين بلا شك ، فوق الكلام ، فوق " أو " قبلها
" ، وفوق " بر " بعدها وذلك معناه حذف ما بين " لا "
الأولى ، و " لا " الثانية ، فأدخلهما في الكلام ، فأخرج الكلام من أن
يكون كلامًا مفهومًا.
وذلك أن جابر بن زيد قال : " إن مكوك بر " ، وقطع الكلام ، وأشار بيده
إلى أنه حسن كاف.
(10/536)
بيده ، (1) كأنه يراه حسنًا ، وقلب أبو
بشر يده. (2)
12407 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن : أنه كان يقول في
كفارة اليمين : فيما وجب فيه الطعام ، مكُّوك تمر ومكوك برّ لكل مسكين.
12408 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن قال
، قال : إن جمعهم أشبعهم إشباعةً واحدة. وإن أعطاهم ، أعطاهم مكُّوكًا مكوكًا. (3)
12409 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس قال : كان الحسن يقول : وحسبه
، (4) فإن أعطاهم في أيديهم ، فمكوك بر ومكوك تمر.
__________
(1) " قال بيده " : أشار وأومأ. يريد أشار بيده أن ذلك كاف مجزئ.
(2) الأثر 12406 - " ابن علية " ، هو : " إسمعيل بن إبراهيم بن
مقسم الأسدي " ، " أبو بشر " ، مضى مرارًا ، آخرها : 9913.
و " أبو مسلمة " البصري هو : " سعيد بن يزيد بن مسلمة الأزدي
" ، مضى برقم : 797 ، 5559 ، 5561. وكان في المطبوعة : " سعد بن يزيد
أبو سلمة " . ثم أيضًا " أبو سلمة " ، وكله خطأ ، وصوابه من
المخطوطة.
و " جابر بن زيد الأزدي اليحمدي " ، قال له ابن عمر : " يا جابر ،
إنك من فقهاء أهل البصرة " ، كان من أعلم الناس بكتاب الله. مضى برقم : 5136.
ثم كان في المطبوعة هنا : " وقلب أبو سلمة يده " ، غير ما في المخطوطة ،
وهو ما أثبته ، لأنه لم ير في الإسناد ذِكرًا لأبي بشر!! وإنما " أبو بشر
" هو : " ابن علية " نفسه ، هذه كنيته.
(3) الأثر : 12408 - " وكيع بن الجراح بن مليح " ، مضى مرارا كثيرة :
" وأبوه : " الجراح بن مليح الرؤاسي " ، مضى برقم : 4488 ، 5727.
و " الربيع " ، هو : " الربيع بن صبيح السعدي " مضى برقم :
6403 ، 6404.
(4) قوله : " وحسبه " ، ثابتة في المخطوطة ، وحذفها ناشر المطبوعة.
(10/537)
12410 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك في كفارة اليمين : نصف صاع لكل
مسكين.
12411 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبيه ، عن الحكم ، في قوله :
" إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : طعام نصف صاع
لكل مسكين. (1)
12412 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا زائدة ، عن مغيرة ، عن
إبراهيم ، قال : " أوسط ما تطعمون أهليكم " ، نصف صاع.
12413 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا
عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " فكفارته إطعام
عشرة مساكين " ، قال : الطعام ، لكل مسكين نصف صاع من تمر أو برٍّ.
* * *
وقال آخرون : بل مبلغ ذلك من كل شيء من الحبوب ، مُدٌّ واحد.
*ذكر من قال ذلك :
12414 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال ، حدثنا أبي
عن هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن زيد بن ثابت أنه قال
في كفارة اليمين : مدٌّ من حنطة لكل مسكين. (2)
12415 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن
ابن عباس قال في كفارة اليمين : مدٌّ من حنطة لكل مسكين ، رُبْعُه إدامُه.
12416 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن
__________
(1) في المطبوعة : " إطعام نصف صاع " ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو
صواب.
(2) الأثر : 12414 - رواه البيهقي في السنن 10 : 55 ، من طريق أبي نعيم ، عن هشام
، بمثله.
(10/538)
داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن
عباس ، نحوه. (1)
12417 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن ابن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر :
" إطعام عشرة مساكين " ، لكل مسكين مُدٌّ.
12418 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع قال ، حدثنا العمري ، عن نافع ، عن
ابن عمر قال : مدٌّ من حنطة لكل مسكين. (2)
12419 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن يحيى بن سعيد ، عن نافع ، عن ابن
عمر : أنه كان يكفّر اليمين بعشرة أمداد ، بالمُدّ الأصغر.
12420 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي ، عن حماد بن سلمة ، عن عبيد الله ،
عن القاسم وسالم في كفارة اليمين ، ما يطعم ؟ قالا مدٌّ لكل مسكين.
12421 - حدثنا هناد ، قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن
يسار قال : كان الناس إذا كفَّر أحدهم ، كفَّر بعشرة أمداد بالمدّ الأصغر. (3)
12422 - حدثنا هناد ، قال ، حدثنا عمر بن هارون ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله :
" إطعام عشرة مساكين " ، قال : عشرة أمداد لعشرة مساكين.
12423 - حدثنا بشر ، قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد
، عن قتادة ، عن الحسن : " إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم
" ، قال : كان يقال : البرُّ والتمر ، لكل مسكين مد من تمر ، ومدّ من برّ.
(4)
__________
(1) الأثران : 12415 ، 12416 - رواه البيهقي في السنن 10 : 55 : من طريق علي بن
حرب ، عن عبد الله بن إدريس ، عن ابن أبي هند ، بمثله.
(2) الأثران : 12417 ، 12418 - رواه البيهقي في السنن 10 : 55 ، من طريق ابن وهب ،
عن مالك بن أنس ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، مطولا ، بمثل لفظه.
(3) الأثر : 12421 - رواه البيهقي في السنن 10 : 55 ، من طريق ابن بكير ، عن مالك
، عن يحيى بن سعيد ، بنحو لفظه.
(4) الأثر : 12423 - " جامع بن حماد " انظر ما سلف : 12344 ، 12367 ،
وما قلته في هذا الإسناد.
(10/539)
12424 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا
حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مالك بن مغول ، عن عطاء ، قال :
مد لكل مسكين.
12425 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " من
أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : من أوسط ما تعُولونهم. قال : وكان المسلمون
رأوا أوسط ذلك : مدًّا بمدِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنطة. قال ابن زيد :
(1) هو الوسط مما يقوت به أهله ، ليس بأدناه ولا بأرفعه.
12426 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ،
عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ،
قال : مدٌّ. (2)
* * *
وقال آخرون : بل ذلك غَداء وعشاء.
*ذكر من قال ذلك :
12427 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن
الحارث ، عن علي قال ، في كفارة اليمين : يغدِّيهم ويعشيهم. (3)
12428 - حدثنا هناد ، قال ، حدثنا عمر بن هارون ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن
كعب القرظي في كفارة اليمين قال : غداء وعشاء.
12429 - حدثنا هناد ، قال ، حدثنا وكيع وحدثنا أبن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان
، عن يونس ، عن الحسن قال : يغديهم ويعشيهم.
* * *
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، من أوسط
ما يطعم المكفِّر أهله. قال : إن كان ممن يشبع أهله ، أشبع المساكين
__________
(1) في المطبوعة : " قال أبو زبد " ، أساء قراءة المخطوطة.
(2) الأثر : 12426 - " يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن
الخطاب " . ثقة. مضى في بعض الأسانيد ، ولم أذكر ترجمته ، رقم : 4120 ،
11812. مترجم في التهذيب.
(3) الأثر : 12427 - مضى مطولا برقم : 12391.
(10/540)
العشرة. وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه
عن ذلك ، أطعم المساكين على قدر ما يفعلُ من ذلك بأهله في عسره ويُسره.
ذكر من قال ذلك :
12430 - حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " فكفارته إطعام عشرة مساكين من
أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : إن كنت تشبع أهلك فأشبع المساكين ، وإلا
فعلى ما تطعم أهلك بقَدَره.
12431 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس : " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم
" ، وهو أن تطعم كل مسكين من نحو ما تطعم أهلَك من الشبع ، أو نصفَ صاع من
برّ.
12432 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن
جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس ، قال : مِن عسرهم ويُسرهم.
12433 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر قال : من عسرهم
ويُسرهم.
12434 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن مهدي قال ، حدثنا سفيان ، عن سليمان بن
أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال :
قوتهم.
12435 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن
سفيان ، عن سليمان العبسي ، عن سعيد بن جبير في قوله : " من أوسط ما تطعمون
أهليكم " ، قال : قوتهم.
12436 - حدثنا أبو حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم قال ، حدثنا عنبسة ، عن سليمان بن
عبيد العبسي ، عن سعيد بن جبير في قوله : " من أوسط
(10/541)
ما تطعمون أهليكم " ، قال : كانوا
يفضلون الحرَّ على العبد ، والكبير على الصغير ، فنزلت : " من أوسط ما تطعمون
أهليكم " . (1)
12439 - حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن سالم
الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال ، كانوا يطعمون الكبير ما لا يطعمون الصغير ،
ويطعمون الحرّ ما لا يطعمون العبد ، فقال ، " من أوسط ما تطعمون أهليكم
" .
12438 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم قال ، حدثنا جويبر ، عن الضحاك في قوله :
" من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : إن كنت تشبع أهلك فأشبعهم. وإن
كنت لا تشبعهم ، فعلى قدر ذلك. (2)
12439 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا شيبان النحوي ، عن جابر
، عن عامر ، عن ابن عباس : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، قال : من
عسرهم ويسرهم.
12440 - حدثنا يونس قال ، حدثنا سفيان ، عن سليمان ، عن سعيد بن
__________
(1) الأثران : 12435 ، 12436 - " سليمان العبسي " في الإسناد الأول ،
ظاهر أنه هو الذي في الإسناد الثاني " سليمان بن عبيد العبسي " . ولم
أجد في الرواة " سليمان بن عبيد العبسي " ، مترجما. وسيأتي برقم :
12440. " سليمان " مجردًا من النسبة ، وانظر التعليق عليه هناك.
ولكن الذي يروي عن سعيد بن جبير ، ويروي عنه سفيان الثوري ، كما في الأثر الأول
" سليمان العبسي " ، فإنه " سليمان بن أبي المغيرة العبسي الكوفي
" روى عن سعيد بن جبير ، وعلي بن الحسين بن علي ، والقاسم بن محمد ، وعبد
الرحمن بن أبي نعم ، وإسمعيل بن رجاء. روى عن سفيان بن عيينة ، وسفيان الثوري ،
وأبو عوانة ، وشعبة ، وعبد الملك بن أبي سليمان. مترجم في التهذيب ، والكبير
للبخاري 2/2/38 ، وابن أبي حاتم 2/1/145. لم يذكر البخاري فيه جرحًا ، ووثقه أحمد
وابن معين. وروى له ابن ماجه حديثًا ، سيأتي برقم : 12440 ، فانظره هناك.
هذا ، ولم يذكروا اسم أبيه " أبي المغيرة " ، فإن صح أنه هو هو ،
المذكور في خبري أبي جعفر فإن " أبا المغيرة " هو " عبيد " ،
ويكون إسنادا أبي جعفر هذان ، قد أفادانا اسم " أبي المغيرة " . وأنا
أرجح هذا ، وأرجو أن يكون صوابًا إن شاء الله ، وعسى أن يأتي في سائر أسانيد أبي
جعفر ما يهدي إلى وجه الصواب. وكتبه محمود محمد شاكر.
(2) في المطبوعة : " فكل قدر ذلك " ، وهو خطأ سخيف جدًا ، وأساء الناشر
الأول قراءة المخطوطة ، لما في كتابتها من المجمجة.
(10/542)
جبير قال ، قال ابن عباس : كان الرجل
يقوت بعض أهله قوتًا دونًا وبعضهم قوتًا فيه سعة ، فقال الله : " من أوسط ما
تطعمون أهليكم " ، الخبز والزيت. (1)
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل قوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم
" عندنا ، قول من قال : " من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلَّة والكثرة
" . وذلك أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفارات كلِّها بذلك
وردت. وذلك كحكمه صلى الله عليه وسلم في كفارة الحلق من الأذى بفَرَق من طعام بين
ستة مساكين ، (2) لكل مسكين نصف صاع (3) وكحكمه في كفارة الوطء في شهر رمضان بخمسة
عشر صاعًا بين ستين مسكينًا ، لكل مسكين ربُعْ صاع. (4) ولا يُعْرف له صلى الله عليه
وسلم شيء من الكفارات ، أمر بإطعام خبز وإدام ، ولا بغداء وعشاء. (5)
فإذْ كان ذلك كذلك ، وكانت كفارة اليمين إحدى الكفارات التي تلزم من لزمته ، كان
سبيلُها سبيلَ ما تولَّى الحكم فيه صلى الله عليه وسلم : من أن الواجب على
مكفِّرها من الطعام ، مقدّرًا للمساكين العشرة محدودًا بكيل ، (6)
__________
(1) الأثر : 12440 - " سليمان " ، هو " سليمان بن أبي المغيرة
العبسي " ، الذي مضى ذكره في التعليق على الأثرين : 12435 ، 12436. وهذا
الخبر رواه ابن ماجه رقم : 2113.
(2) " الفرق " (بفتح أوله وثانيه ، أو فتح أوله وسكون ثانيه) : مكيال
لأهل المدينة ، وهو ثلاثة آصع.
(3) انظر ما سلف الآثار : 3334 - 3359 في الجزء الرابع : 58 - 69.
(4) انظر السنن الكبرى للبيهقي 4 : 221 - 228.
(5) في المخطوطة : " أمرا بالطعام خبز وإدام " ، والذي في المطبوعة أمضى
على السياق.
(6) في المطبوعة : " من الطعام مقدار للمساكين العشرة محدود بكيل " ،
والصواب من المخطوطة. وأخطأ فهم كلام أبي جعفر ، فإنه عنى بقوله : " الطعام
" : البر ، أو التمر. قال ابن الأثير : " الطعام عام في كل ما يقتات به
من الحنطة والشعير والتمر ، وغير ذلك " . وأهل الحجاز إذا أطلقوا لفظ "
الطعام " عنوا به البر خاصة. وفي حديث أبي سعيد : " كنا نخرج صدقة الفطر
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام ، أو صاعًا من شعير " .
قيل : أراد به البر ، وقيل التمر. قالوا : وهو أشبه ، لأن البر كان عندهم قليلا لا
يتسع لإخراج زكاة الفطر.
(10/543)
دون جمعهم على غداء أو عشاء مخبوز
مأدوم ، إذ كانت سنته صلى الله عليه وسلم في سائر الكفارات كذلك.
* * *
فإذ كان صحيحًا ما قلنا بما به استشهدنا ، (1) فبيِّنٌ أن تأويل الكلام : ولكن
يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أعدل إطعامكم أهليكم وأن
" ما " التي في قوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، بمعنى
المصدر ، لا بمعنى الأسماء.
وإذا كان ذلك كذلك ، فأعدل أقوات الموسِّع على أهله مُدَّان ، وذلك نصف صاع في
رُبعه إدامه ، وذلك أعلى ما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم في كفارة في إطعام
مساكين. وأعدلُ أقوات المقتِّر على أهله ، مُدٌّ ، وذلك ربع صاع ، وهو أدنى ما حكم
به في كفارة في إطعام مساكين.
* * *
وأما الذين رأوا إطعام المساكين في كفارة اليمين ، الخبزَ واللحمَ وما ذكرنا عنهم
قبل ، والذين رأوا أن يغدّوا أو يعشوا ، والذين رأوا أن يغدوا ويعشوا ، فإنهم ذهبوا
إلى تأويل قوله : " من أوسط ما تطعمون أهليكم " ، من أوسط الطعام الذي
تطعمونه أهليكم ، فجعلوا " ما " التي في قوله : " من أوسط ما
تطعمون أهليكم " ، اسمًا لا مصدرًا ، فأوجبوا على المكفِّر إطعامَ المساكين
من أعدل ما يُطعم أهله من الأغذية. وذلك مذهبٌ لولا ما ذكرنا من سنن رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الكفارات غيرها ، التي يجب إلحاق أشكالها بها ، وأن كفارة
اليمين لها نظيرة وشبيهة يجب إلحاقها بها. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " مما به استشهدنا " ، والصواب من المخطوطة.
(2) انظر تفسير
" المساكين " فيما سلف 8 : 334 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك.
(10/544)
القول في تأويل قوله : { أَوْ
كِسْوَتُهُمْ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : فكفارة ما عقدتم من الأيمان : إطعام عشرة
مساكين ، أو كسوتهم. يقول : إما أن تطعموهم أو تكسوهم. والخيار في ذلك إلى المكفِّر.
* * *
واختلف أهل التأويل في " الكسوة " التي عنى الله تعالى ذكره بقوله :
" أو كسوتهم " . (1)
فقال بعضهم : عنى بذلك : كسوة ثوب واحد.
ذكر من قال ذلك :
12441 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في
كسوة المساكين في كفارة اليمين : أدناه ثوبٌ.
12442 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان ،
عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : أدناه ثوب ، وأعلاه ما شئتَ.
12443 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع ، عن الربيع ، عن الحسن قال في
كفارة اليمين في قوله : " أو كسوتهم " ، ثوبٌ لكل مسكين.
12444 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي ، عن وهيب ، عن ابن طاوس ، عن أبيه :
" أو كسوتهم " ، قال : ثوبٌ. (2)
12445 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبيدة وحدثنا ابن حميد وابن وكيع
__________
(1) انظر تفسير " الكسوة " فيما سلف 5 : 44 ، 480 / 7 : 572.
(2) الأثر : 12444 - " وهيب " ، هو " وهيب بن خالد بن عجلان
الباهلي " ، ثقة. مضى برقم : 4345.
(10/545)
قالا حدثنا جرير جميعًا ، عن منصور ،
عن مجاهد في قوله : " أو كسوتهم " ، قال : ثوب.
12446 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله :
" أو كسوتهم " ، قال : ثوب ثوب قال منصور : القميص ، أو الرِّداء ، أو
الإزار.
12447 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن
إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر في قوله : " أو كسوتهم " ، قال : كسوة
الشتاء والصيف ، ثوبٌ ثوبٌ.
12448 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عمر بن هارون ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله :
" أو كسوتهم " ، قال : ثوب ثوب لكل مسكين.
12449 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن أبي
معشر ، عن إبراهيم في قوله : " أو كسوتهم " ، قال : إذا كساهم ثوبًا
ثوبًا أجزأ عنه.
12450 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي ، عن أبي سنان ، عن
حماد قال : ثوب أو ثوبان ، (1) وثوب لا بدّ منه. (2)
12451 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قال : ثوب ثوب لكل إنسان. وقد كانت العباءة تقضى
يومئذ من الكسوة. (3)
__________
(1) في المخطوطة : " ثوب أو ثوبين " ، ولا يكون ذلك حتى تكون الأولى :
" ثوبًا " ، ولذلك تركت ما في المطبوعة على حاله.
(2) الأثر : 12450 - " إسحاق بن سليمان الرازي " ، مضى برقم : 6456 ،
12133.
و " أبو سنان " هو : " سعيد بن سنان البرجمي " . مضى برقم :
175 ، 11240 ، 12133. وكان في المطبوعة : " ابن سنان " لم يحسن قراءة
المخطوطة.
(3) قوله : " تقضى " ، هكذا في الدر المنثور 2 : 313 ، وفي المخطوطة :
" يعصى " غير منقوطة ، وأنا في ريب من هذا الحرف. ولعله أراد "
تقضي " بمعنى : تجزئ منها.
(10/546)
12452 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد
الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " أو
كسوتهم " ، قال : " الكسوة " ، عباءة لكل مسكين ، أو شِمْلة.
12453 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن السدي ، عن
أبي مالك قال : ثوب ، أو قميصٌ ، أو رداء ، أو إزار.
12454 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن
أبيه ، عن ابن عباس قال : إن اختار صاحبُ اليمين الكسوة ، كسا عشرة أناسيَّ ، كل
إنسان عباءة.
12455 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، سمعت عطاء
يقول في قوله : " أو كسوتهم " ، الكسوة : ثوبٌ ثوبٌ.
وقال بعضهم : عنى بذلك : الكسوةَ ثوبين ثوبين.
ذكر من قال ذلك :
12456 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبيدة وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية
جميعًا ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب في قوله : " أو كسوتهم
" ، قال : عباءة وعمامة.
12457 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ،
عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب قال : عمامة يلفُّ بها رأسه ،
وعباءة يلتحف بها.
12458 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، عن أشعث ، عن
الحسن وابن سيرين قالا ثوبين ثوبين. (1)
__________
(1) الأثر : 12458 - " محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري " ، ثقة مضى
برقم : 5438.
وكان في المطبوعة : " قال : ثوبين... " ، والصواب من المخطوطة. خطأ في
الطباعة.
(10/547)
12459 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن قال : ثوبين. (1)
12460 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن ، مثله.
12461 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن يونس بن عبيد ، عن
الحسن قال : ثوبان ثوبان لكل مسكين.
12462 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن ابن سيرين ، عن
أبى موسى : أنه حلف على يمين ، فكسا ثوبين من مُعَقَّدة البحرين. (2)
12463 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن ابن
سيرين : أن أبا موسى كسا ثوبين من مُعَقَّدة البحرين. (3)
12464 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن محمد بن عبد الأعلى : أن
أبا موسى الأشعري حلف على يمين ، فرأى أن يكفِّر ففعل ، وكسا عشرة ثوبين ثوبين.
12465 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن هشام ، عن محمد : أن أبا موسى
حلف على يمين فكفَّر ، فكسا عشرة مساكين ثوبين ثوبين.
12466 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب
قال : عباءة وعمامة لكل مسكين.
12467 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله.
__________
(1) في المطبوعة : " قالا " ، والصواب من المخطوطة. خطأ في الطباعة.
(2) الأثران : 12462 ، 12463 - أخرجه البيهقي في السنن 10 : 56 ، من طريق أخرى ،
من طريق سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، بغير هذا اللفظ مطولا.
و " المعقد " (بتشديد القاف المفتوحة) : ضرب من برود هجر ، لم أجد صفته.
(3) الأثران : 12462 ، 12463 - أخرجه البيهقي في السنن 10 : 56 ، من طريق أخرى ،
من طريق سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، بغير هذا اللفظ مطولا.
و " المعقد " (بتشديد القاف المفتوحة) : ضرب من برود هجر ، لم أجد صفته.
(10/548)
12468 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن
علية قال ، حدثنا داود بن أبي هند قال : قال رجل عند سعيد بن المسيب : ( أو
كَأُسْوَتِهِمْ ) ، (1) فقال سعيد : لا إنما هي : " أو كسوتهم " ، قال
قلت : يا أبا محمد ، ما كسوتهم ؟ قال : لكل مسكين عباءة وعمامة : عباءة يلتحف بها
، وعمامة يشدّ بها رأسه.
12469 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا
عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " أو كسوتهم " ، قال :
الكسوة ، لكل مسكين رداء وإزار ، كنحو ما يجد من الميسرة والفاقة.
* * *
وقال آخرون : بل عنى بذلك كسوتهم " ثوب جامع " ، كالملحفة والكساء ،
والشيء الذي يصلح للّبس والنوم.
ذكر من قال ذلك :
12470 - حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن
إبراهيم قال : الكسوة ثوبٌ جامع.
12471 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا ابن فضيل ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في
قوله : " أو كسوتهم " ، قال : ثوب جامع. قال وقال مغيرة : و "
الثوب الجامع " : الملحفة أو الكساء أو نحوه ، ولا نرى الدِّرع والقميصَ
والخِمار ونحوه " جامعًا " .
12472 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال :
ثوب جامع.
__________
(1) هذه قراءة شاذة ، قرأ بها سعيد بن جبير ، ومحمد بن السميقع اليماني. وقد ذكرها
ابن خالويه في شواذ القراءات : 34 ، ونسبها إلى سعيد بن المسيب ، لا سعيد بن جبير
، وهو خطأ منه ، وهذا الخبر دال على ذلك فقد أنكرها سعيد بن المسيب. وذكر نسبتها
على الصواب ، القرطبي في تفسيره 6 : 279 ، وأبو حيان في تفسيره 4 : 11.
(10/549)
12473 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا
ابن إدريس ، عن أبيه ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : ثوب جامع.
12474 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " أو
كسوتهم " ، قال : ثوب جامع لكل مسكين.
12475 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان وشعبة ، عن
المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " أو كسوتهم " ، قال : ثوب جامع.
12476 - حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن المغيرة ، مثله.
* * *
وقال آخرون : عنى بذلك : كسوة إزار ورداء وقميص.
ذكر من قال ذلك :
12477 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الأعلى ، عن بردة ، عن رافع ، عن ابن عمر
قال في الكسوة : في الكفارة إزار ورداء وقميص. (1)
* * *
وقال آخرون : كل ما كسا فيجزئ ، والآية على عمومها.
ذكر من قال ذلك :
12478 - حدثنا هناد قال ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن ليث ، عن مجاهد قال : يجزئ
في كفارة اليمين كل شيء إلا التُّبَّان. (2)
12479 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع
__________
(1) الأثر : 12477 - " بردة " ، لم أجد له ذكرًا ، وكأنه محرف.
و " رافع " لم أعرف من يكون ، وهكذا هو في المخطوطة ، وكان في المطبوعة
" نافع " مغيرًا بغير دليل. وأثبت الإسناد كما هو في المخطوطة ، حتى
يهتدي إلى صوابه من يقوم له.
(2) " التبان " (بضم التاء وتشديد الباء) : سراويل صغير مقدار شبر ،
يستر العورة المغلظة فقط ، يكون للملاحين.
(10/550)
قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أشعث
، عن الحسن قال : يجزئ عمامة في كفارة اليمين.
12480 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن
أويس الصيرفي ، عن أبي الهيثم ، قال قال سلمان : نعم الثوبُ التُّبَّان. (1)
12481 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن الشيباني ،
عن الحكم قال : عمامة يلف بها رأسه.
* * *
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة وأشبهها بتأويل القرآن ، قولُ
من قال : عنى بقوله : " أو كسوتهم " ، ما وقع عليه اسم كسوة ، مما يكون
ثوبًا فصاعدًا لأن ما دون الثوب ، لا خلافَ بين جميع الحجة أنه ليس مما دخل في حكم
الآية ، فكان ما دون قدر ذلك ، خارجًا من أن يكون الله تعالى عناه ، بالنقل
المستفيض. (2) والثوبُ وما فوقه داخل في حكم الآية ، إذ لم يأت من الله تعالى وحي
، ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم خبر ، ولم يكن من الأمة إجماع بأنه غير داخل في
حكمها. وغير جائز إخراج ما كان ظاهرُ الآية محتملَه من حكم الآية ، إلا بحجة يجب
التسليم لها. ولا حجة بذلك.
* * *
__________
(1) الأثر : 12480 - " أويس الصيرفي " لم أجده ، ولم أعرفه.
و " أبو الهيثم " ، لم أستطع أن أستبين أيهم يكون ممن يكنى " أبا
الهيثم " .
و " سلمان " أيضًا لم أستطع تحديده في هذا الإسناد.
(2) السياق : " لا خلاف بين جميع الحجة ... بالنقل المستفيض " .
(10/551)
القول في تأويل قوله : { أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أو فكّ عبد من أسر العبودة وذلها.
وأصل " التحرير " ، الفك من الأسر ، (1) ومنه قول الفرزدق بن غالب :
أَبنِي غُدَانَةَ ، إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ ... فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ
جِعَالِ (2)
يعني بقوله : " حرّرتكم " ، فككت رقابكم من ذلّ الهجاء ولزوم العار.
* * *
وقيل : " تحرير رقبة " ، والمحرَّر ذو الرقبة ، (3) لأن العربَ كان من
شأنها إذا أسرت أسيرًا أن تجمع يديه إلى عنقه بقِدٍ أو حبل أو غير ذلك ، (4) وإذا
أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلَّتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة. فجرى
الكلام
__________
(1) انظر " تحرير رقبة " فيما سلف 9 : 30 ، وما بعدها ، ولم يشرحها أبو
جعفر هناك وشرحها هنا. وهذا ضرب من اختصاره في هذا التفسير.
(2) ديوانه 726 ، النقائض : 275 ، وطبقات فحول الشعراء : 424 ، من قصيدته في هجاء
جرير.
و " بنو غدانة " هم : بنو غدانة بن يربوع ، أخو " كليب بن يربوع
" ، جد جرير. و " عطية بن جعال بن قطن بن مالك بن غدانة بن يربوع "
، وكان عطية من سادة بني غدانة ، وكان صديقًا للفرزدق وخليلا له. فلما بلغ عطية
هذا الشعر قال : " جزى الله خليلي عني خيرًا!! ما أسرع ما رجع خليلي في
هبته!! " ، لأنه هجاهم ، وهو يزعم أنه وهب أعراضهم لصاحبه ، يقول بعده :
فَوَهَبْتُكُمْ لأَحَقِّكُمْ بِقَدِيمُكُمْ ... قِدْمًا ، وَأَفْعَلِهِ لِكُلِّ
نَوَالِ
لَوْلا عَطِيَّةُ لاجْتَدَعْتُ أُنُوفَكُمْ ... مِنْ بَيْنِ أَلأَمِ آنُفٍ
وَسِبَالِ
إِنِّي كَذَاكَ ، إِذَا هَجَوْتُ قَبِيلَةً ... جَدَّعْتُهُمْ بِعَوَارِمِ
الأمْثَالِ
(3) في المطبوعة : " صاحب الرقبة " ، لم يحسن قراءة المخطوطة.
(4) في المطبوعة : " بقيد أو حبل " ، وهو خطأ ، صوابه في المخطوطة. و
" القد " (بكسر القاف والدال المشددة) : سير يقد (أي : يشق طولا) من جلد
غير مدبوغ. وأما " القيد " ، فأكثر ما يكون في الرجلين.
(10/552)
عند إطلاقهم الأسير ، بالخبر عن فك
يديه عن رقبته ، وهم يريدون الخبرَ عن إطلاقه من أسره ، (1) كما يقال : "
قبضَ فلان يده عن فلان " ، إذا أمسك يده عن نواله " وبسط فيه لسانه
" ، (2) إذا قال فيه سوءًا فيضافُ الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل
دون فاعله ، لاستعمال الناس ذلك بينهم ، وعلمهم بمعنى ذلك. فكذلك ذلك في قول الله
تعالى ذكره : " أو تحرير رقبة " ، أضيف " التحرير " إلى
" الرقبة " ، وإن لم يكن هناك غُلٌّ في رقبته ولا شدُّ يَدٍ إليها ،
وكان المراد بالتحرير نفسَ العبد ، بما وصفنا ، من جَرّاء استعمال الناس ذلك بينهم
لمعرفتهم بمعناه. (3)
* * *
فإن قال قائل : أفكلّ الرقاب معنيٌّ بذلك أو بعضه ؟ (4)
قيل : بل معنيّ بذلك كل رقبة كانت سليمة من الإقعاد ، (5) والعمَى والخرس ، وقطع
اليدين أو شللهما والجنون المطبق ، ونظائر ذلك. فإن من كان به ذلك أو شيء منه من
الرقاب ، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزئ في كفارة اليمين. فكان معلومًا
بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية. فأما الصغير والكبير
والمسلم والكافر ، فإنهم معنيون به.
* * *
__________
(1) انظر تفسير : " وفي الرقاب " فيما سلف 3 : 347. وتفسير ذلك هناك
مختصر ، وهو هنا مفصل. وهذا باب من أبواب اختصار أبي جعفر في تفسيره هذا.
(2) انظر ما سلف في مثل ذلك في تفسير قوله تعالى : " بل يداه مبسوطتان "
ص : 451 وما قبله في تفسير : " بما قدمت أيديهم " 2 : 368.
(3) في المطبوعة والمخطوطة : " من جرى استعمال... " ، وصواب قراءتها
" من جراء " وكذلك كتبتها ، فإن الذي في كلام الطبري هو " جرى
" المقصورة من " جراء " . فلذلك كتبها بالياء. يقال : " فعلت
ذلك من جراك ، ومن جرائك " ، أي : من أجلك ، وقد جمعتا في شعر واحد : أَمِنْ
جَرَّا بَنِي أَسَدٍ غَضِبْتُمُ ... وَلَوْ شِئْتُمْ لَكَانَ لَكُمْ جِوَارُ
وَمنْ جَرَّائِنَا صِرْتُمْ عَبِيدًا ... لِقَوْمٍ ، بَعْدَ مَا وُطِئَ الخِيَارُ
(4) في المطبوعة : " أو بعضها " ، والذي في المخطوطة صواب محض.
(5) " الإقعاد " و " القعاد " (بضم القاف) : داء يقعد. "
أقعد الرجل فهو مقعد " ، إذا أصابه القعاد فحال بينه وبين المشي.
(10/553)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من
أهل العلم.
ذكر من قال ذلك :
12482 - حدثنا هناد... قال ، حدثنا مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان يقول : من كانت
عليه رقبة واجبة ، فاشترى نَسَمة ، قال : إذا أنقذها من عمل أجزأته ، ولا يجوز عتق
من لا يعمل. فأما الذي يعمل ، كالأعور ونحوه. وأما الذي لا يعمل فلا يجزئ ، الأعمى
والمقعد. (1)
12483 - حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن قال : كان يكره عتق
المخَبَّل في شيء من الكفارات. (2)
12484 - حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان لا يرى
عتقَ المغلوب على عقله يجزئ في شيء من الكفارات.
* * *
وقال بعضهم : لا يجزئ في الكفارة من الرقاب إلا صحيح ، ويجزئ الصغير فيها.
ذكر من قال ذلك :
12485 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : لا
يجزئ في الرقبة إلا صحيح.
12486 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال :
يجزئ المولودُ في الإسلام من رقبة.
12487 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : ما كان
في القرآن من " رقبة مؤمنة " ، فلا يجزئ إلا ما صام وصلى. وما كان ليس
بمؤمنة ، فالصبي يجزئ. (3)
__________
(1) الأثر : 12482 - " هناد بن السرى " لا يروي عن مغيرة ، بينهما في
الإسناد رجل أو رجلان وانظر الأثرين السالفين قريبًا : 12470 ، 12471 ، وما يأتي
رقم : 12484.
وكان في المطبوعة : " كالأعمى " ، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) " المخبل " (بتشديد الباء) : المجنون ، من " الخبل "
(بسكون الباء) : وهو الفالج ، أو فساد الأعضاء ، أو فساد العقل.
(3) الأثر : 12487 - مضى بإسناده ولفظه برقم : 10096.
(10/554)
وقال بعضهم : لا يقال للمولود "
رقبة " ، إلا بعد مدة تأتي عليه.
ذكر من قال ذلك :
12488 - حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن
محمد بن شعيب بن شابور ، عن النعمان بن المنذر ، عن سليمان قال : إذا ولد الصبي
فهو نسمة ، وإذا انقلبَ ظهرًا لبطن فهو رقبة ، وإذا صلى فهو مؤمنة. (1)
* * *
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال ، إن الله تعالى عمَّ بذكر
" الرقبة " كل رقبة ، فأيَّ رقبة حرّرها المكفر يمينَه في كفارته ، فقد
أدّى ما كُلِّف ، إلا ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى ذكره ، لم يعنه
بالتحرير ، فذلك خارج من حكم الآية ، وما عدا ذلك فجائز تحريرُه في الكفارة بظاهر
التنزيل.
والمكفِّر مخيَّر في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي
سماها الله في كتابه ، وذلك : إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله ، أو كسوتهم
، أو تحرير رقبة بإجماع من الجميع ، لا خلاف بينهم في ذلك. فإن ظنّ ظان أنّ ما
قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع ، ليس كما قلنا ، لما : -
12489 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال ، حدثنا عبد الواحد بن زياد
قال ، حدثنا سليمان الشيباني قال ، حدثنا أبو الضحى ، عن مسروق ، قال : جاء معقل
بن مقرن إلى عبد الله فقال : إني آليتُ من النساء والفراش! فقرأ عبد الله هذه
الآية : ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) [سورة المائدة : 87]. قال فقال معقل :
إنما سألتك أنْ أتيتُ
__________
(1) الأثر : 12488 - " محمد بن شعيب بن شابور الأموي " ، أحد الكبار ،
كان يسكن بيروت. روى عن الأوزاعي ، ويزيد بن أبي مريم ، والنعمان بن المنذر. ثقة
ثبت ، روى له الأربعة. مترجم في التهذيب.
و " النعمان بن المنذر الغساني ، اللخمي " ، " أبو الوزير " .
روى عن عطاء ، ومجاهد ، والزهري ، وطاوس ، ومكحول. ثقة. مترجم في التهذيب.
و " سليمان " ، كأنه " سليمان بن طرخان التيمي " ، ولست
أحققه.
(10/555)
على هذه الآية الليلة ؟ فقال عبد الله
: ائت النساء ونَمْ ، وأعتق رقبة ، فإنك موسر. (1)
12490 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثني جرير بن حازم : أن سليمان
الأعمش حدثه ، عن إبراهيم بن يزيد النخعي ، عن همام بن الحارث : أن نعمان بن
مقرِّن سأل عبد الله بن مسعود فقال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة ؟ فقال
ابن مسعود : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم "
، كفّر عن يمينك ، ونم على فراشك! قال : بم أكفِّر عن يميني ؟ قال : أعتق رقبة ،
فإنك موسر. (2)
* * *
ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما ، فإنّ ذلك منهم كان
على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه به بالتكفير من
__________
(1) الأثر : 12479 - " محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب " ، ثقة مضى
برقم : 6256 ، 8136.
و " عبد الواحد بن زياد العبدي " ، أحد الأعلام ، مضى برقم : 2616 ،
3136.
" وسليمان الشيباني " هو : " سليمان بن أبي سليمان " ، "
أبو إسحق الشيباني " . ثقة. مضى كثيرًا ، آخره رقم : 8869.
و " أبو الضحى " ، و " مسروق " ، مضيًا كثيرًا.
و " معقل بن مقرن المزني " ، أبو عمرة ، قال البغوي : " سكن الكوفة
، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث " . مترجم في الاستيعاب ، وأسد
الغابة ، والإصابة ، وابن سعد 6 : 11 ، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 285 ، وهو أخو
" النعمان بن مقرن " . وكان في المطبوعة هنا : " النعمان بن مقرن
" ، مكان " معقل بن مقرن " ، غير الاسم لغير طائل ، لأنه أخذه من
الذي يليه ، مع أنهما روايتان مختلفتان.
وكان في المطبوعة أيضًا : " إنما سألتك لكوني أتيت على هذه الآية ، فقال عبد
الله " ، تصرف في العبارة تصرفًا فاسدًا عاميًا ، والصواب من المخطوطة ، ولكنه
كتب هناك " سألتك عن " ثم وضع " أ " في وسط عين " عن
" ، لتقرأها " أن " ، وكذلك أثبتها.
وهذا الأثر أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2 : 309 ، عن معقل بن مقرن ، وقال :
" أخرجه ابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
والطبراني من طرق ، عن ابن مسعود " .
(2) الأثر : 12490 - انظر التعليق على الأثر السالف ، ولكنه هنا نسب القصة إلى
" النعمان بن مقرن " ، أخي " معقل بن مقرن " .
(10/556)
الرقاب ، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم
التكفير للموسر إلا بالرقبة ، لأنه لم ينقل أحدٌ عن أحد منهم أنه قال : لا يجزئ
الموسرَ التكفيرُ إلا بالرقبة. والجميعُ من علماء الأمصار ، قديمهم وحديثهم ،
مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائزٌ للموسر. ففي ذلك مكتفًى عن الاستشهاد على
صحة ما قلنا في ذلك بغيره.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " فمن لم يجد " ، لكفارة يمينه التي
لزمه تكفيرُها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفِّرها به على ما فرضنا عليه
وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم " فصيام ثلاثة
أيام " ، يقول : فعليه صيام ثلاثة أيام.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله : " فمن لم يجد " ، ومتى يستحقُّ
الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة ، اسم " غير واجد " ، حتى يكون
ممن له الصيام في ذلك.
فقال بعضهم : إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله
يومَه وليلته ، فإنّ له أن يكفر بالصيام. فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت
عياله يومه وليلته ، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم ، لزمه التكفيرُ
بالإطعام أو الكسوة ، ولم يجزه الصيام حينئذ.
وممن قال ذلك الشافعي :
12491 - حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
وهذا القولَ قصدَ إن شاء الله مَنْ أوجب الطعام على من كان عنده درهمان ،
(10/557)
مَنْ أوجبه على من عنده ثلاثة دراهم.
(1) وبنحو ذلك : -
12492 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الكريم ،
عن سعيد بن جبير ، قال : إذا لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم قال : يعني في
الكفارة.
12493 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني معتمر بن سليمان قال : قلت
لعمر بن راشد : الرجل يحلف ولا يكون عنده من الطعام إلا بقدر ما يكفر ، قال : كان
قتادة يقول : يصوم ثلاثة أيام. (2)
12494 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال ،
حدثنا يونس بن عبيد ، عن الحسن قال ، إذا كان عنده درهمان.
12495 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا معتمر ، عن حماد ، عن عبد
الكريم أبي أمية ، عن سعيد بن جبير قال : ثلاثة دراهم. (3)
* * *
وقال آخرون : جائزٌ لمن لم يكن عنده مائتا درهم أن يصوم ، وهو ممن لا يجد.
* * *
وقال آخرون : جائزٌ لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرف به لمعاشه ما يكفر به
بالإطعام ، أن يصوم ، إلا أن يكون له كفاية ، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه ، ومن
الفضل عن ذلك ما يكفرّ به عن يمينه. وهذا قولٌ كان يقوله بعض متأخري المتفقهة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة ، غير هذه الجملة : " ممن أوجب الطعام ... وممن أوجبه على من
عنده " ، فاختل الكلام ، والصواب ما في المخطوطة. وقد ضبطت الكلام بالشكل
ليتبين معناه ويتيسر.
(2) الأثر : 12493 - " عمر بن راشد " ، كأنه يعني : " عمر بن راشد
السلمي " . روى عن الشعبي ، وعنه سفيان الثوري. مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1
/ 107.
(3) الأثر : 12495 - " عبد الكريم " ، " أبو أمية " ، هو :
" عبد الكريم. أبي المخارق " ، مضى برقم : 9679. وكان في المطبوعة :
" عبد الكريم بن أبي أمية " ، وهو خطأ محض ، وتغيير لما في المخطوطة
عبثًا.
(10/558)
قال أبو جعفر : والصواب من القول في
ذلك عندنا ، أنّ من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله
يومه وليلته ، لا فضل له عن ذلك ، يصوم ثلاثة أيام ، وهو ممن دخل في جملة من لا
يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق. وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت
عياله يوَمه وليلته ، ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين ، أو يعتق رقبة ، فلا يجزيه
حينئذ الصوم ، لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذ من إطعام أو كسوة أو عتق ، حق قد
أوجبه الله تعالى ذكره في ماله وجوبَ الدين. وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرّق
ماله بين غرمائه : أنه لا يترك ذلك اليوم إلا ما لا بدَّ له من قوته وقوت عياله
يوَمه وليلته. فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى ذكره في ماله بسبب
الكفارة التي لزمت ماله.
* * *
واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين. فقال بعضهم :
صفته أن يكون مواصلا بين الأيام الثلاثة غير مفرِّقها.
ذكر من قال ذلك :
12496 - حدثنا محمد بن العلاء قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد
قال : كل صوم في القرآن فهو متتابع ، إلا قضاء رمضان ، فإنه عدة من أيام أخر. (1)
12497 - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ،
عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس قال : كان أبيّ ابن كعب يقرأ : ( فصيام ثلاثة أيام
متتابعات ).
12498 - حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال ، حدثنا عبيد الله بن
__________
(1) قوله : " فإنه عدة من أيام أخر " ، ليس في المخطوطة ، وهو في الدر
المنثور 2 : 314 ، أخشى أن يكون نقله من هناك.
(10/559)
موسى ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع
بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، أنه كان يقرأ : ( فصيام ثلاثة أيام
متتابعات ).
12499 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن قزعة ، عن سويد ، عن سيف
بن سليمان ، عن مجاهد ، قال : في قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ).
(1)
12500 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن عون ، عن إبراهيم قال : في
قراءتنا : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ).
12501 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن إبراهيم ، مثله.
12502 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قراءة أصحاب
عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ).
12503 - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر قال
: في قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ).
12504 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد ، عن معمر ، عن أبي إسحاق في
قراءة عبد الله : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ). (2)
12505 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن حميد ، عن معمر ،
__________
(1) الأثر : 12499 - " قزعة بن سويد بن جحير الباهلي " ، مضى برقم :
8141 وأبوه " سويد بن جحير الباهلي " مضى : 8281 ، 8283 ، 9372.
وكان في المطبوعة : " قزعة بن سويد " ، وأثبت ما في المخطوطة ، و "
قزعة " ، يروي عن أبيه.
و " سليف بن سليمان المخزومي " ، مضى برقم : 3345.
(2) الأثر : 12504 - " محمد بن حميد اليشكري المعمري " " أبو سفيان
المعمري " ، مضى برقم : 1787 ، 8829.
و " معمر بن راشد الأزدي " ، مضى مرارًا رقم : 1787 ، 2095 ، 8885
و " أبو إسحق " ، هو " أبو إسحق السبيعي " من شيوخ معمر. وكان
في المطبوعة والمخطوطة : " ابن إسحق " ، وهو خطأ محض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق