اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 مايو 2022

مجلد 5. و 6 من كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح المعافى بن زكريا


مجلد 5. من كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح
المؤلف : المعافى بن زكريا

هجوت بحيراً ثم إني مدحته ... كذاك بنو الأحرار تهجو وتمدح
كيف يفعل مع هذا الأنف؟
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري، قال: حدثنا عبد الله بن محمود، قال: رأيت قاضي القضاة يحيى بن أكثم بمكة وقد وقف يلاحظ حجاماً عليه أنف كأنه أزجٌ، فقلت له: أيها القاضي! ما هذا الوقوف، فقال لي: ذرني فإني أريد أنظر إلى هذا كيف يستوي له مص المحجمة مع هذا الأنف؟ وقد كان رجلٌ جالسٌ بين يدي الحجام ففطن به الحجام، فقال له: مالك قائم تنظر إلي؟ ليس ونور الله أضرب في قفا هذا بمعولي وأنت واقف، فتوارينا عنه فإذا هو يعطف أنفه بيده اليسرى ويمسك المحجمة بيده اليمنى ويمص بفيه، فقال يحيى: أما هكذا فنعم، قال عبد الله: وكان يحيى بن أكثم أعور.
شعر مكتوب على حائطحدثنا محمد بن القاسم الأنباري أبو بكر، حدثنا أبو علي العنزي الحسن بن عليل، قال: حدثنا علي بن الحسين الدرهمي، قال: كنا عند محمد بن عبيد الطنافسي، فقال: قرأت على حائطٍ بالحيرة منذ أربعين سنة:
إن البلية أن تحب ... ولا يحبك من تحبه
فيصد عنك بوجهه ... وتلح أنت فلا تغبه
أقلل زيارتك الصدي ... ق يراك كالثوب استجده
إن الصديق يمله ... إلا يزال يراك عنده
قال أبو بكر: هذا مما لا يعاب فيه الشاعر.
قال القاضي أبو الفرج: في هذا الشعر موضعان فيهما قوله " يراك " ، وذاك أن وجه الكلام يرك بالجزم، لأنه جواب الأمر، وهو قوله: أقلل، ولو أنشد يراك على من يقول هو يرآني كما قال الشاعر:
أري عيني ما لم ترأياه ... كلانا عالمٌ بالترهات
لكان جيداً وزحافه جائزاً، وما " يزال " فإنه لم يحذف فيه الألف، على رده إلى الأصل في التقدير، وله نظائر في الكلام وقد قرأ بعض القراء في غير موضع من القرآن على هذه اللغة، وقد ذكرنا في بعض مجالس كتابنا من هذا الباب، وما أتى فيه من شواهد الشعر ما لا طائل في إعادته، وروينا هذا لأبياتٍ عمن ذكر أن الشافعي تمثل بها، وأما الوجه الآخر فإن منه ما قد جاء مثله، وهو من عيوب الشعر المعروفة ومنه ما لا يجوز البتة.
1 12 - /المجلس السادس والخمسون
فضل رسول الله وبني هاشمأخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن المنادي حدثنا أبو بكرٍ محمد بن أحمد بن أبي العوام الرياحي حدثنا بهلول بن المورق أبو غسان الشامي حدثنا موسى بن عبيد ة حدثني عمرو بن عبد الله بن نوفل من بني عدي بن سعد الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال لي جبريل: قلبتُ الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل منك يا محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم.
قال القاضي أبو الفرج: فالحمد لله الذي فضل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء، وفضل بني أبيه على سائر بني الآباء، وجعلنا من أمته التي هي خير أمةٍ أخرجت للناس وهدانا لتصديقه والإيمان به، ووفقنا لاتباعه، وأباننا ممن عانده وجحده، وبغى عليه وحسده، وعصمنا من أن ننفس على رهطه وأسرته وأقربيه وعترته، بما آتاهم الله من فضله وكرامته، وحباهم به من شريف نعمته، وذلك بحسن توفيقه وجميل عصمته، وفضلناب على كثير من أنسبائه الراصدين لمحاربته، والجادين في مخالفته، فقد هلك كثير منهم بمشاقته؛ ألا تسمعون إلى ما أنزل الله في أبي لهب وإن كان أحد الهاشميين، وإلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو من العجم الاجنبيين إذ قال: سلمان منا أهل البيت؛ وقال الله تعالى: " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين " آل عمران:86 " .
نجا إبراهيم بن عبد الله بحيلة عجيبة
حدثنا أحمد بن أبي العلاء الأضاحي المعروف بحرمي قال حدثنا عبد الله يعني ابن شبيب قال أخبرني جعفر بن محمد قال حدثني إبراهيم بن رياح قال أخبرني محمد بن حيان أبو عبد الله الحراني قال: كان إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن قد صار إلى مدينة الموصل في تواريه، وصح ذلك عند أبي جعفر فكتب إلى الوالي هناك يعلمه أنه قد صح عنده أبن إبراهيم في مدينة الموصل، ويأمره إذا ورد عليه كتابه أن يتحفظ في بقية يومه فإذا هو أمسى غلقت أبواب المدينة فلم يخرج منها أحد ولم يدخل، ثم استقبل التفتيش لغد فإنك ستجده. وكان مع إبراهيم يومئذ من أهل الجزيرة ومن الزيدية قوم لهم بصائر وأموال وغناء عناية به، وكانت لهم عيون قد أذكوها على السلطان، فبلغهم خبر الكتاب وما عزم عليه الوالي فاشتروا بغلين وحذفوهما كما يعمل ببغال البريد، عملت لهما لجم وأداة على حسب ما يعمل بدواب البريد، وخرج أحدهم إلى بعض القرى التي تقرب من الموصل، فلما كان وقت العشاء الآخرة وأغلقت الأبواب ركب إبراهيم بن عبد الله أحد البغلين، وركب الآخر رجل بتشبه با لفرانق، وخرج الرجل على البغل يصيح كما يصيح الفرانق، ومعه خريطة، واتبعه إبراهيم حتى إذا صار إلى الباب صاح ففتح له الباب على أنه من قبل الوالي ثم مضيا فانتهيا إلى الرجل ومضيا. وصح الخبر على هذه الحكاية عند المنصور فكثر منه تعجبه واشتد عليه تأسفه.
وصية حكيم لابنهحدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال، قال بعض الحكماء لابنه: يا بني أقبل عهدي ووصيتي: إن سرعة ائتلاف قلوب الأبرار حين يلتقون كسرعة اختلاط قطر المطر بماء الأنهار، وبعد الفجار من الائتلاف وإن طال تعاشرهم كبعد البهائم من التعاطف وإن طال اعتلافها على آري واحد. كن يا بني بصالح الوزراء أعنى منك بكثرة عددهم، فإن اللؤلؤة خفيف محملها كثير ثمنها، والحجر فادح حمله قليل غناؤه عنك.
علي يرسل إلى معاوية في أمر البيعةحجثنا محمد بن مزيد الخزاعي قال حدثنا الزبير بن بكار حدثنا محمد بن يحيى قال حدثني عمران عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عون قال: بلغني أن جرير بن عبد الله البجلي قال: بعثني علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان يأمره أن يبايع هو ومن قبله؛ قال: فخرجت لا أرى أحداً سبقني إليه، حتى قدمت على معاوية، فإذا هو يخطب الناس وهم حوله يبكون حول قميص عثمان رضي الله عنه وهو معلق في رمح، فدفعت إليه كتاب علي، ومثل رجل إلى جنبي كان يسير بمسيري ويقيم بمقامي لا أشعر به، فقال لمعاوية:
إن بني عمك عبد المطلب ... هم قتلوا شيخكم غير كذب
وأنت أولى الناس بالوثب فثب ... واغضب معاوي للإله وارتقب
بادر بخيل الأمة الغاب النشب ... بجمع أهل الشام ترشد وتصب
وسر مسير المحزئل المتلئب ... وهزهز الصعدة للشأس الشغب
قال: ثم دفع إليه كتاباً من الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمه، فإذا فيه:
معاويَ إنّ الملك قد جُبَّ غاربُهْ ... وأنت بما في كفَّكّ اليومَ صاحبُهْ
أتاك كتابٌ من علّيٍ بِخَصْلةٍ ... هي الفصلُ فاخترْ سَلْمَهُ أَو تحاربُهُ
وإن كنتَ تنوي أن تجيبَ كتابهُ ... فقبحَ ممليهِ وقبحَ كاتبهْ
وإن كنت تنوي ترك رجع جوابه ... فأنت بأمرٍ لا محالةً راكبهْ
فألق إلى الحي اليمانين كلمةً ... تنالُ بها الأمر الذي أنت طالبهْ
تقولُ أمير المؤمنين أصابه ... عدو ومالا هم عليه أقاربه
وكنت أميراً قبلُ بالشام فيكمُ ... وحسبي من الحق الذي هو اجبهْ
يجيبوا ومن أرسى ثبيراً مكانه ... تدافع بحر لا ترد غواربه
فأكثر أو أقلل مالها الدهر صاحب ... سواك فصرح لست ممن تواربه
قال، فقال: أقم فإن الناس قد نفروا عنه لمقتل عثمان حتى يسكنوا؛ قال: فأقمتُ أربعة أشهرٍ، ثم جاءه كتابٌ آخر من الوليد بن عقبة فيه:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فإنك من أخي ثقةٍ مُليمُ
قطعتَ الدهرَ كالسَّدِمِ المعَّنى ... تُهَدَّرُ في دمشقَ وما تَريم
فإنك والكتابَ إلى عليًّ ... كدابغةٍ وقد حَلَمَ الأديمُ
فلو كنتَ القتيلَ وكان حيّاً ... لَشَمَّرَ لا أَلفُّ ولا سؤومُ
فلما جاءه كتابه وصل ما بين طومارين ثمَّ طواهما أبيضين وكتب عنوانهما: من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب، ودفعهما إليَّ وبعث معي رجلاً من عبسٍ ولا أدري ما مع العبسي؛ قال: فخرجنا حتى قدمنا الكوفة، فاجتمع الناسُ إلى علي في المسجد ولا يشكون أنها بيعةُ أهل الشام، فلما فتح الكتاب لم يوجد فيه بشيء، وقام العبسي فقال: من هاهنا من أفناء قيس؟ إني أخص من قيسٍ غطفان وأخص من غطفان عبساً ، وإني أحلفُ بالله لقد تركتُ تحت قميص عثمان رضي الله عنه أكثر من خمسين ألف شيخ خاضبين لحاهم بدموع أعينهم، متعاقدين متحالفين ليقتلن قتلته، وإني أحلف بالله ليقتحمنها عليكم ابنُ أبي سفيان بأكثر من أربعة آلاف من خصيان الخيل فما ظنكم بعد بما فيها من الفحول؟ فقال له قيس بن سعدٍ: يا أخا عبسٍ لا نبالي بخصيان خيلك ولا ببكاء كهولك، ولا يكون بكاؤهم بكاء يعقوب على يوسف. ثم دفع العبسي كتاباً من معاوية فيه:
أتاني أمر فيه للناس غمة ... وفيهب اجتداع للأنوفٍ أصيلً
مصاب أمير المؤمنين وهدة ... تكادُ لها صمُّ الجبالٍ تزولُ
فلّله عينا من رأى مثلَ هالكٍ ... أُصيبَ بلا ذنبٍ وذاك جليلُ
دعاهم فَضَمُّوا عنه عند دعائه ... وذاك على ما في النفوسِ دليل
ندمتُ على ما كان من تَبَع الهوى ... وحسبيَ منه حسرةُ وعويلُ
سأنعَى أَبا عمروٍ بكلَّ مهنَّدٍ ... وبيضٍ لها في الدَّارعين صليلُ
فأَمَّا التي فيها المودةُ بيننا ... فليس إليها ما حييتُ سبيلُ
سأُلْقحُها حرباً عَواناً مُلِحَّةً ... وإني بها من عامها لكفيلُ
قال: فأمر علي عليه السلام قيس بن سعد أن يجيبه عن كتابه، فكتب إليه قيس:
معاوي لا تعجلْ علينا معاويا ... فقد هجتَ بالرّأي السفيهِ الأفاعيا
وحرّكتَ منا كلَّ شيءٍ كرهته ... وأبقيتَ حَزَّاتِ النفوسِ كما هيا
بعثتَ بقرطاسين صفْرين ضَلَّةَ ... إلى خير من يمشي بنعلٍ وحافيا
مضى أبو بَقى بعد النبيّ محمدٍ ... عليه سلامُ الله عَوْداً وبادياً
أَلا ليت شعري والأمانُّي ضلَّةٌ ... على أيِّ ما تنوي أردتَ الأمانيا
أّلا ليت شعري والأمانُّي ضلَّةٌ ... على أيِّ ما تنوي أردتَ الأمانيا
على أن فينا للموارب مطمعاً ... وإنك متروكٌ بشامك عاصيا
أبى الله إلا أنّ ذا غير كائن ... فَدَعْ عنك ما مَنَّتْك نفسُكَ خاليا
وأكثرْ وأقللُ إنّ شامَكَ شحمةٌ ... تَعَجَّلها طاهٍ يبادِرُ شاويا
من العام أو من قابلٍ كلُ كائنٍ ... قريبٌ، وأبْعدْ بالذي ليس جائيا
؟شروح وتعليقات قال القاضي أبو الفرج قوله: الغابُ النشب؛ الغابُ جمع غابةٍ وهي الغيضة، والنشب المشتبك الذي قد انتشب، يقال: قد نشبت الخصومةُ بين فلانٍ وفلانٍ، ويروى الأشب ، وأراه أصح في الرواية، وهو الاختلاط، والأشابة: الأخلاط؛ قال الشاعر:
أولئك قومي لم يكونوا أشابةً ... وهل يعظ الضليلَ إلا أولئكا
وقوله: المحزئل المتلئب: المحزئل: المنحاز الناهض المجتمع، قال الشاعر:
واستطربت ظعنهم لما احزأل بهم ... مع الضحى ناشط من داعيات
والمتلئب: المستقيم المستتب، وقوله: وهزهز الصعدة يعني هز القناة، واستثقل الإدغام فأظهر التضعيف وكرر كما قالوا قد كركر كلامه وكمكم قال الله تعالى : " فكبكبوا فيها " الشعراء: 94 أي كبوا. وهذا كثيرٌ في العربية جداً . والشأس: الشديدُ المستصعب الشرس. وقول قيس بن سعدٍ في شعره مضى أو بقى يقال: إن بقى ولقى بمعنى بقي ولقي لغة طيء ، قال الشاعر:
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقى ... على الأرض قيسي يسوقُ الأباعرا
وقال آخر:
حتى لقى الله على بغيه ... والله من ذي البغي قد ينصف
وقد ذكر عن الحسن أنه قرأ: " ولا أدراكم به " يونس: 16 بمعنى أدريتكم، فحمله بعضهم على هذه اللغة. وطيء تنحو هذا النحوَ في الأسماء فتقول في جارية: جاراة، ويقولون في ناصية: ناصاه، كما قال الشاعر:
ألا آذنت أهل اليمامة طيء ... بحربٍ كناصاة الأغر المشقر
وقد زعم بعضُ المحققين في علل النحو واللغة في قولهم أبى يأبى من هذه اللغة، وذاك أنه أنكر أن يكون في العربية فعل يفعل مما ليست عينه ولا لامه من حروف الحلق، وأن سيبويه لم يحك غير هذه الكلمة، وإن كان غيره قد حكى في هذا الباب حروفاً عدةً. وزعم من حكينا قوله أن أصل يابى يأبى ثم استعمل على هذه اللغة، ومن الفاشي في رواية الكوفيين قلى يقلى وقد حكي قلي يقلى والأفصح قلى يقلي.
أبو الأسود يعوذ من جمالهحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أبو الهيثم الغنوي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي عن أبي مهدية قال أخبرني أبو عفير الدؤلي وكان شاعراً قال: كنت عند عبد الملك بن مروان إذ دخل أبو الأسود الدؤلي وكان أحول دميماً قبيح المنظر، فقال له عبد الملك يمازحه: يا أبا الأسود لو علقت عليك عوذة تدفع عنك العين، فقال: إن لك جواباً يا أمير المؤمنين، وأنشد:
أفنى الجديد الذي فارقتُ جدتهُ ... كرُّ الجديدين من آتٍ ومنطلق
لم يتركا ليَ في طولِ اختلافهما ... شيئاً يخافُ عليه لذعةُ الحدق
أما والله لئن كانت أبلتني السنون، وأسرعتْ إلي المنون، لما أبلت ذلك إلا في موضعه، ولرب يوم كنتُ فيه إلى الآنسات البيض أشهى منك إليهن في يومك هذا على عجبك بنفسك، وإني اليوم لكما قال امرؤ القيس:
أراهن لا يحببن من قل ماله ... ولا من رأين الشيب فيه وقوسا
ولقد كنت كما قال أيضاً:
يرعن إلى صوتي إذا ما سمعنه ... كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا
قال له عبد الملك: قاتلك الله من شيخٍ ما أعظم همتك.
؟شرح قال القاضي أبو الفرج: العيط: جمع عيطاء، وهي الناقة الطويلة العنق والأعيس: فحل أبيض تعلوه شقرة؛ ومن العيط قول ذي الرمة:
وعيطٍ كأسراب الحدوج تشوفت ... معاصيرها والعاتقات العوانس
؟؟
يحرض على بيعة القاسم بن الرشيدحدثنا أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني عمر بن محمد بن حمزة الكوفي قال حدثني سليمان بن سعد قال حدثني إسماعيل بن صالح بن علي بن عبد الله، وكان انقطاعه إلى الرشيد، قال: دخلتُ على الرشيد وقد عهد إلى محمد والمأمون في من يهنئه من ولد صالح بن علي، فأنشأت أقول:
يا أيها الملك الذي ... لو كان نجماً كان سعدا
اعقد لقاسم بيعة ... واقدح له في الملك زندا
الله فرد واحد ... فاجعل ولاة العهد فردا
قال: فاستضحك هارون، وبعثت إلي أم جعفر: كيف تحبنا وأنت شآم؟ وبعثت إلي أم المأمون: كيف تحبنا وأنت أخو عبد الملك بن صالح؟ وبعثت إلي أم القاسم بعشرة آلاف درهم، فاشتريت بها ضيعتي بأرتاح.
يحيى بن أكثم وقاعة في الناسحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني يعقوب بن بنان الكاتب قال حدثني علي بن يحيى قال: كان يحيى بن أكثم وقاعة في الناس وكان شريراً، وكان يغري المأمون بالناس ويقع فيهم عنده، وكان يثني على عمرو بن مسعدة ويقرظه عنده، ولا يزال يذكر فراهته ونصيحته وحسن صناعته؛ فبلغ ذلك عمراً فدخل على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن يحيى بن أكثم يثني علي عندك، وأنا أسألك بالله يا أمير المؤمنين أن تريه أنك قبلت شيئاً من قوله في، فإنه إنما قدم الثناء علي لوقيعةٍ يريد أن يوقعها بي لديك لتصدقه فيما يقول، قال: فضحك المأمون منه وقال: قد أمنت من ذلك فلا تخفه مني.
كيف يسمي يحيى بن أكثم الثقلاء
حدثنا محمد بن السحن بن زياد المقري قال أخبرنا أحمد بن يحيى ثعلب قال أخبرنا أبو العالية الشامي مؤدب ولد المأمون قال، قال المأمون ذات يوم ليحيى بن أكثم القاضي: أريد منك أن تسمي لي ثقلاء أهل عسكري وحاشيتي، فقال له: يا أمير المؤمنين اعفني فإني لست أذكر أحداً منهم وهم لي على ما تعلم، فكيف إن جرى مثل هذا؟ قال له: فإن كنت لا تفعل فاضطجع حتى أفتل لك مخراقاً دبيقياً وأضربك به وأسمي مع كل ضربة رجلاً، فإن كان ثقيلاً تأوهت، وإن يك غير ذلك سكت، فأكون أنا على معرفة منهم ويقين من ثقلائهم. فاضطجع له يحيى وقال: أرأيت قاضي قضاة وأميراً ووزيراً يعمل به مثل ذا؟ فلف له مخراقاً دبيقياً وضربه به ضربة وذكر له رجلاً ثقيلاً فصاح يحيى: آه آه يا أمير المؤمنين في المخراق آجرة، فضحك المأمون منه حتى كاد يغشى عليه وأعفاه من الباقين.
من أكرم الناس أباً وأماً وجدة و
حدثنا الحسن بن علي بن المرزبان النحوي قال: أخبرنا عبد الله بن هارون النحوي قال أخبرنا الحسن بن علي قال أخبرنا أبو عثمان قال: سمعت أبا الحسن المدائني يقول، قال معاوية وعنده عمرو بن العاص وجماعة من الأشراف: من أكرم الناس أباً وأماً وجداً وجدةً وخالاً وخالةً وعماص وعمةً؟ فقام النعمان بن العجلان الزرقي فأخذ بيد الحسن عليه السلام فقال: هذا، أبوه علي، وأمه فاطمة، وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدته خديجة، وعمه جعفر، وعمته أم هانئ بنت أبي طالبٍ، وخاله القاسم، وخالته زينب. فقال عمرو بن العاص: فحب بني هاشمٍ دعاك إلى ما عملت؟ فقال ابن العجلان: يا ابن العاص أما علمت أنه من التمس رضى مخلوقٍ بسخط الخالق حرمه الله تعالى أمنيته وختم له بالشقاء في آخر عمره؟ بنو هاشم أنضر قريشٍ عوداً، وأقعدها سلفاً، وأفضل أحلاماً.
يشتم عمر بن ذرحدثنا محمد بن أحمد بن هارون العسكري قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله ابن عبد الحميد قال حدثني رجل قال: جاء رجل إلى عمر بن ذرٍ وهو في مجلسه فشتمه، فلما سكت أقبل عمر على أصحابه فقال: ما علم الله فستر، أكثرُ مما قال هذا وأظهر.
حين عفا المنصور عن أهل الشامحدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن خلف السكري قال حدثنا أبو يعلى زكرياء بن يحيى بن خلاد المنقري البصري الصيرفي قال حدثنا الأصمعي عمن أخبره أن أبا جعفر المنصور حين عفا عن أهل الشام قال له رجل: يا أمير المؤمنين، الانتقام عدل، والتجاوز فضل، والمتفضل قد جاوز حد المنصف، فنحن نعيذ أمير المؤمنين بالله من أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين وأن لا يرتفع إلى أعلى الدرجتين.
ابن الرومي يجود بنفسهحدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي قال: رأيت علي بن العباس بن جريج الرومي يجود بنفسه فقلت له: ما حالك؟ فأنشد:
غلطَ الطبيبُ عليَّ مُوردٍ ... عجزتْ مواردُهُ عن الإصدارِ
والناسُ يَلْحَوْنَ الطبيبَ وإنما ... غَلَطُ الطبيبِ إصابةُ المقدارِ
في من صرف عن عملهقال القاضي أبو الفرج: جرت بيني وبين بعض إخواننا من أهل الأدب مذاكرة جرى فيها قطعة مما مدح به من صرف عن عمل كان يتولاه، وما روي عن بعض أهل الأدب أنه قال: شيعوا المعزول واستقبلوا الوالي؛ وذكرتُ ما في هذا من الحكمة وإرهاص المنزلة والاحتراس من الظنة وإيثار حسن المحالفة وتمكين المودة، فأنشدني هذا الأخ أبياتاً ذكر أنها لجعيفران في إبراهيم بن المدبر وقد عزل عن البصرة، ثم أخبرني صديقنا أبو الحسن بن حوزان أنه وجدها في شعر سوار بن أبي شراعة وأن الأخفش أنشده إياها لسوار أيضاً وهي هذه:
يا أبا إسحاقَ سِرْ في دعةٍ ... وامضِ مصحوباً فما منكَ خَلَفْ
ليت شعري أيَّ أرضٍ أجدبت ... فأغيثتْ بك من هذا العجفْ
نزل الرحمُ من الله لهم ... وَحُرمْناكَ لذنبٍ قد سلف
إنّما أنت ربيعٌ باكرٌ ... حيث ما صرَّفَهُ الله انصرف
الأحنف يتستر على معاوية
حدثنا محمد بن سهل بن الفضل الكاتب قال حدثنا أبو زيدٍ يعني عمر بن شبة قال: حدثت أن الأحنف بن قيسٍ كان عند معاوية وليس عنده غيره، فغنت جارية من جواري معاوية في جانب الدار، فأقبل على الأحنف فقال: يا أبا بحرٍ لا ترم حتى أعود إليك، إني لأطلب خلوة هذه الجارية فلا أكاد أقدر على ذلك، ثم قام في أثرها فكأنما كانت لابنة قرظة امرأة معاوية عين على معاوية، فأقبلت به فلبيته، فقلت لها: أكرمي أسراكم فقالت: اسكت يا قواد.
وصية المهلب لابنه يزيدحدثنا عبد الله بن أحمد المعروف بابن النحوى قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال وحدثني محمد بن الحسن الأحول قال حدثنا المدائني قال: أوصى المهلب ابنه يزيد فقال: إياك يا بني والسرعة عند مسألةٍ بنعم، فإن أولها سهل وآخرها ثقيل في فعلها، واعمل أن لا وإن قبحت فربما روحت، فإن كنت من أمرٍ تسأله على ثقة فأطمع ولا توجب، ثم افعل، وإن علمت أن لا سبيل إليه، فاعتذر، فإنه من لا يعتذر بالعذر فنفسه ظلم.
ما بين نعم ولاقال أبو عبد الله وأنشدنا ثعلب قال، أنشدني ابن الأعرابي:
لا تتبعن نعم لا طائعاً أبداً ... فإن لا أفسدت من بعدها نعم
إن قلت يوماً نعم بدءاً فتم بها ... فإن إمضاءها صنف من الكرم
قال القاضي رحمه الله: قد أنشدنا هذين البيتين جماعة من شيوخنا عن ثعلب عن ابن الأعرابي، قال وأنشدنا أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش لرجل من طيءٍ هذه الأبيات:
والله والله لولا أنني فرق ... من الأمير لعاتبت ابن نبراس
في موعدٍ قاله لي ثم أخلفني ... غداً غداً ضرب أخماس لأسداس
حتى إذا نحن ألجانا مواعده ... إلى الطبيعة في حفز وإبساس
أجلت مخيلته عن لا فقلت له ... لو ما بدأت بها ما كان من باس
وليس يرجع في لا بعدما سلفت ... منه نعم طائعاً حر من الناس
قال القاضي أبو الفرج: وقد روينا في جهات نعم ولا أشياء كثيرة من ملح الأخبار ولطيف الأشعار ومن فنون الآداب الغريبة وفوائد العلم النبيهة مما يطول ولا يتسع مجلس من مجالس كتابنا له، ولكنا نذكر فيما هاهنا طرفاً منه وفيما نستأنفه من مجالسنا هذه ما نعثر أولاً أولاً عليه.
وحضرني في باب نعم ولا شيء كنت نظمته وهو:
لا في مقدمة اللأواء مؤذنة ... بالجحد والنفي والحرمان والعدم
وقد رأينا نعم في أصل بنيتها ... صيغت مناسبة النعماء والنعم
ومما أنشدوناه في ذم لا قول الذي قال:
قبحت لا فإنها ... خلقت خلقة الجلم
تذهب العرف والجمي؟ ... ل وتأتي على الكرم
؟اللغات في نعم وفي نعم لغتان مشهورتان ولغة شاذة، فأشهر المشهورتين منهما نعم بفتح العين، وعليها قراءة الجمهور من أهل الحجار والشام والعراقيين؛ وقرأ باللغة الثانية عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما روي عنه وهي نعم، بكسر العين، وهي قراءة أبي وائل شقيق بن سلمة، واختارها الكسائي فقرأ بها في القرآن كله كقوله " قال نعم وإنكم لمن المقربين " الأعراف: 114و " قال نعم وإنكم إذن لمن المقربين " الشعراء:42 واللغة الشاذة نعام وبالقراءة الأولى نقرأ لاستفاضتها في الخاصة والعامة لغة وتلاوة. وقد ذكر عن أبي وائل أنه كان إذا سمع قارئاً يقرأ نعم بالفتح قال له: نعم وشاء، يعني إبلاً وغنماً؛ كما قال زهير.
فيوم منك خير من أناس ... كثيرٍ حولهم نعم وشاء
ويقال للإبل والبقر والغنم نعم وأنعام. وقال بعض أهل اللغة يقال للإبل على انفرادها نعم، ولا يقال ذلك للبقر والغنم إلا إذ كانت مع الإبل.
وأما الأنعام فيستوي كل نوع من ذلك في التسمية به نعم، قال ذلك الأصمعي. وقال بعضهم أنا عيم لجماعة الإبل، يقال: نعم ثم أنعام ثم أنا عيم قال ذو الرمة:
دانى له القيدُ في ديمومةٍ قذفٍ ... قينيه وانحسرتْ عنه الأناعيمُ
؟نعم ولا فيما يتصل بالفقه
ومما في نعم ولا مما يتصل بعلم الفقه قول الرجل للآخر: اعطني سرج بغلي هذا أو لجام دابتي هذه فقال: نعم أولا، ولم يصله بأعطيكه، فإن شيخنا أبا جعفر ذهب إلى أن هذا إقرار منه بالسرج واللجام. وحكي هذا عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، واحتج بأن قوله نعم إنعام بالفعل، لا إباء له، وهذا عندي كما قال. وحكي عن أبي ثور أنه قال: قوله نعم إقرار وقوله لا ليس بإقرار، وبين فساد قوله بنحو ما قدما بيانه.
؟؟
المجلس السابع والخمسون
رسول الله يعرض نفسه على القبائلأخبرنا المعافى بن زكرياء قال أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم المعروف بحرمي الأضاحي قال حدثنا عبد الله بن شبيبٍ قال حدثني إسماعيل بن مهران قال حدثني أحمد بن محمد بن أبي نصرٍ عن أبان بن عثمان عن ابان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال حدثني علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكرٍ، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر وكان رجلاً نسابة فسلم فردوا السلام فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: من هامتها أو من لهازمها، قالوا: بل من هامتها العظمى قال: وأي هامتها العظمى؟ قالوا: ذهل الأكبر، قال: فمنكم عوف الذي كان يقال: لا حر بوادي عوفٍ؟ قالوا: لا، قال: فمنكم بسطام أبو اللواء ومنتهى الاحياء؟ قالوا: لا، قال: فمنكم حسان بن ربيعة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أصهار الملوك من لخمٍ؟ قالوا: لا، قال: فلستم أنتم ذهل الأكبر أنتم ذهل الأصغر. فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له دعفل حين بقل وجهه، فقال:
إن على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله
يا هذا إنك قد سألتنا فلم نكتمك شيئاً، فممن الرجل؟ قال: من قريش، قال: بخٍ بخٍ أهل الشرف والرئاسة، فمن أي قريشٍ أنت؟ قال: من بني تيم بن مرة، قال: أمكنت والله الرامي من صفا الثغرة، فمنكم قصي بن كلاب الذي جمع الله به القبائل من فهرٍ فكان يدعى مجمعاً؟ قال: لا، قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف؟ قال: لا، قال: فمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء الذي كأن وجهه قمر يضيء ليلة الظلام الداجي؟ قال: لا، قال: أفمن المفيضين بالناس أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الندوة؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الحجابة؟ قال: لا، قال: أفمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا، قال: فاجتذب أبنو بكرٍ رضي الله عنه زمام ناقته فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال دغفل:
صادف درء السيل درءاً يدفعه ... يهضبه يرفعه أو يصدعه
وايم الله لو بثت لأخبرتك أنك من زمعات قريش أو ما أنا بدغفل . قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال علي فقلت: يا أبا بكرٍ وقعت من الأعرابي على باقعةٍ، قال: أجل. إن فوق كل ذي طامةٍ طامةً والبلاء موكل بالمنطق. قال علي عليه السلام: ثم دفعنا إلى مجلسٍ آخر عليه السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر، فسلم، فردوا عليه السلام، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ليس بعد هؤلاء عز في قومٍ. وكان في القوم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن يزيد. وكان مفروق بن عمروٍ قد علاهم جمالاً ولساناً، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته، وكان أدنى القوم إلى أبي بكر فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ قال: إنا لنزيد على ألفٍ ولن نغلب عن قلة، قال: فكيف المنعة فيكم؟ قال: علينا الجهد ولكل قوم حد، قال: فكيف الحربُ بينكم وبين عدوكم؟ قال: إنا أشد ما نكون غضباً حين نلقى وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا نؤثر جيادنا على أولادنا، والسلاح على اللقاح، النصر من عند الله تعالى يديلنا لنا وعلينا، لعلك أخو قريش؟ قال: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هوذا في الرحل، قال: قد بلغنا أنه يقول ذلك. قالوا: فإلى ما تدعو يا أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن تؤووني وتنصروني، فإن قريشاً قد ظاهروا على أمر الله وكذبوا رسله، واستغنوا بالباطل عن الحق، وهو الله الغني الحميد، قال فإلى ما تدعو أيضاً؟ قال:( فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً " إلى قوله: " ذلكم وصاكم به " " الأنعام:151 " قالوا: وإلى ما تدعو أيضاص؟ قال: فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي " النحل: 90 الآية. فقال مفروق بن عمروٍ: دعوت والله إلى محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق ولقد أفك قوم ظاهروا عليك وكذبوك. وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال وهذا هانئ بن قبيضة، وهو شيخنا وصاحب حبنا، فتكلم هانئ بن قبيصة فقال: يا أخا قريش قد سمعتُ مقالتك، وإن لنرى تركنا ديننا واتباعنا دينك لمجلس جلسته منا لم ننظر في أمرك ولم نتثبت في عاقبة ما تدعو إليه ولها في الرأي وإعجالاً في النظر، والولة يكون مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن تعقد عليهم عقداً، ولكن نرجع وترجع، وننظر وتنظر. وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا شيخنا وكبيرنا وصاحب حربنا، فتكلم المثنى فقال: يا أخا قريش قد سمعت مقالتك، فأما الجواب فهو جواب هانئ بن قبيصة، وأما أن نؤويك وننصرك فإنا نزلنا بين صيرين: اليمامة السمامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما هذان الصيران؟ فقال: مياه العرب وأنهار كسرى، فأما ما كان مما يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول، وأما ما يلي أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثاً، ولسنا نأمن أن يكون هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما يكره الملوك، فإن أحببت أن تؤويك مما يلي مياه العرب آويناك ونصرناك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، وليس يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يمنحكم الله عز وجل أموالهم ويفرشكم نساءهم يورثكم ديارهم، أتسبحون الله تعالى وتقدسونه؟ فقال النعمان: هذا لك، فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً " البقرة: 119 " وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً " الأحزاب: 46 ووثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي وقال: يا علي، أي أحلامٍ في الجاهلية بها يكف الله بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون في هذه الدنيا؟!
تعليقات على الخبرقال القاضي أبو الفرج: قول أبي بكرٍ رضي الله عنه: من لهازمها، اللهازم: نواحي العنق وجوانبه، قال الراجز:
يا خاز باز أرسل اللهازما
وقوله: من صفا الثغرة: الصفا الحجر الأملس ومنه " إن الصفا والمروة " البقرة: 158 قال جرير:
هبت شمالاً فذكرى ما ذكرتكم ... إلى الصفاة التي شرقي حورانا
وقال أبو ذؤيب:
حتى كأني للحوادث صخرة ... بصفا المشقر كل يومٍ تقرع
ويروى بقفا المشقر، ويروى المشرق؛ وذكرت أبياتاً عن لي في بعضها ذكر الصفا وقرعها وهي:
حلفت يميناً برةً وشفعتها ... فهل أنت مني باليمينين قانع
فما نازعت نفسي إلى ما كرهته ... ولا خلتها يوماً إليه تنازع
ولا حل من قلبي هواك محلة ... من الناس ممن أصطفي وأشايع
لقد قرع الواشي بأهون سعيه ... صفاة قديماً أخطأتها القوارع
فأزعجني في ضعفه وهو ساكن ... وشرد عن عيني الكرى وهو هاجع
وأما الثغرة فهي اللبة، قال عنترة:
ما زلت أرميهم بثغرة نحره ... ولبانه حتى تسربل بالدم
وروي ثغرة وجهه. وقال ثابت: الثغرة: الهزمة التي بين الترقوتين. وقوله: الهضبة: الدفعة من المطر تجمع هضباً، قال ذو الرمة:
فبات يشئزه ثأد ويسهره ... تذوب الريح والوسواس والهضب
وأما قول هاني بن قبيصة: وله في الراي الوله: الحيرة القلق، ولعله قال: وهل، فمن ها هنا اشتبه. والوهل: الخطأ والغلط والزلل.
وأما قول المثنى بن حارثة: فإنا نزلنا بين صيرين فإن الصير: الجانب والناحية والحد. قال زهير:
وقد كنتُ من سلمى سنين ثمانياً ... على صير أمرٍ ما يمر ولا يحلو
؟شاهك يا أبا مسلم حدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال حدثني رجل من أهل خراسان عن أبيه قال: كنت أطلب العلم فر آتي موضعاً إلا وجدت أبا مسلمٍ قد سبقني إليه، فألفني فدعاني إلى منزله، ودعا بما حضر فأكلت، ثم قال: كيف لعبك بالشطرنج؟ فقلت: إني لاعب بها، فدعا بشطرنجه، فتناولت السواد فوضعته بين يدي، فتناولها من بين يدي وأعطاني البياض، فأشفت شاهه على القتل، فداخله أمر عظيم، فاغتممت له، ثم قال لي: العب فقد فرج الله ، فخلص شاهه وجعل يقول:
ذروني ذروني ما قدرت فإنني ... متى ما أهج حرباً تضق بكم أرضي
وأبعث في سود الحديد إليكم ... كتائب سوداً طالما انتظرت نهضي
قال: فكنت ألاعبه ويلهو بهذين البيتين حتى بلغني خروجه.
وجوه الأعراب في وأبعث
قال القاضي أبو الفرج وأبعث فيه من جهة الأعراب ثلاثة أوجه: الجزم على العطف إلا أنه لا يستعمل في هذا الموضع لإقامة وزن البيت، والرفع على الاستئناف، والنصب بإضمار أن والتقدير: يكون مني هيج فأبعث، فلا يعطف أبعث على هيج لأن هيج مصدر وأبعث فعل فتقدر أن إذ هي والفعل مصدر، فيصح حينئذ عطف الثاني على الأول لأنه عطف اسمٍ على اسمٍ، ويسمي الكوفيون هذا الوجه الصرف لأنه صرف عن الجزم؛ وقد جاء هذا كثيراً في القرآن والشعر؛ قال الله تعالى: " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " محمد: 7 فجزم الثاني على العطف. قال تعالى: " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " البقرة: 284 فقرىء فيغفر ويعذب جزماً ورفعاً ونصباً، وقرأ القرأة: " أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير، ويعلم الذين " الشورى: 34،35 بالرفع والنصب في يعلم. وقرىء: " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " آل عمران:142 على النصب والجزم. وقولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن بالنصب إذ أريد به النهي عن الجمع بينهما دون الإفراد، وإن أريد النهي عن كل واحدٍ منهما فالجزم هو الكلام. وقد أتى كثير من هذا في الشعر، قال الشاعر:
فإن لم أصدق ظنكم بتيقن ... فلا سقت الأوصال مني الرواعد
ويعلم أكفائي من الناس أنني ... أنا الحافظ الحامي الذمار المداود
وقال الأعشى:
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلومٍ مجراً ومسحباً
وتدفن منه الصالحات وإن يسئ ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا
وقال النابغة:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والبلد الحرام
ونمسك بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام
ويروى بذناب دهر. الجزم في نمسك والرفع والنصب وجوه جائزة، وجاز في هذا البيت الجزم الذي لا يجوز فيما أنشدناه، قيل لعلةٍ أنا ذاكرها إن شاء الله.
وأقول مستعيناً بالله: إن بيت النابغة من النوع الذي يسميه العروضيون الوافر وهو أول أنواعه عند جمهورهم، وإذا روي بالرفع والنصب فلا زحاف فيه، ويسمى سالماً لسلامته من الزحاف، وإذا روي بالجزم سكنت لام مفاعلتن فصار مفاعلتن فنقلت إلى مفاعيلن ويسمى معصوباً. وبيت النابغة يروى على وجهين: أجب الظهر بالإضافة، ويصرف أجب فيكسر لإضافته، ويروى أجب الظهر فيفتح وهو في موضع جرٍ إذ هو صفة لعيش أو دهر لأنه لا ينصرف والتنوين مقدر في أصله. ومن هذا الباب زيد حسن الوجه. قال زهير:
أهوى لها أسفع الخدين مطرق ... ريش القوادم لم ينصب له الشرك
فالنصب في ريش القوادم كالنصب في زيد الحسن الوجه، والحسن الوجه أقوى عند البصريين من حسن الوجه وهما عند الكوفيين سواء. قال الحارث بن ظالم:
فما قومي بثعلبة بن سعدٍ ... ولا بفزارة الشعر الرقابا
وقال عدي بن زيدٍ:
من وليٍ أو أخي ثقةٍ ... والبعيد الشاحط الدارا
وهذا باب من النحو له شعب وفروع ولا ستقصائه موضع هو أولى به.
؟بين عريب وعلويه حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا الفضل بن العباس أبو الفضل الربعي قال حدثنا إبراهيم بن عيسى الهاشمي قال، قال علويه: أمرني المأمون وأصحابي أن نغدو عليه لنصطبح، فغدوت فلقيني عبد الله بن إسماعيل صاحب المراكب فقال: يا أيها الرجل الظالم المعتدي، أما ترحم ولا ترق ولا تستحي من عريب، هي هائمة بك وتحتلم عليك في كل ليلة ثلاث مرات؟ قال علوية: وكانت عريب أحسن الناس وجهاً وأظرف الناس وأفكه، وأحسن غناء مني ومن صاحبي مخارق؛ فقلت له: مر حتى أجيء معك. فحين دخلت قلت له : استوثق من الأبواب فإني أعرف الناس بفضول الحجاب. فأمر بالأبواب فأغلقت، ودخلت فإذا عريب جالسة على كرسي بين يديها ثلاث قدور زجاج، فلما رأتني قامت إلي فعانقتني وقبلتني وأدخلت لسانها في فمي، ثم قالت: ما تشتهي تأكل؟ قلت: قدراً من هذه القدور، فأفرغت قدراً منها بيني وبينها فأكلنا ثم دعت بالنبيذ فصبت رطلاً فشربت نصفه وسقتني نصفه، فما زلنا نشر حتى سكرنا. ثم قالت يا أبا الحسن، أخرجت البارحة شعر أبي العتاهية فاخترت منه شعراً، وقلت: ما هو؟ قالت: ؟
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه
عذيري من الإنسان لا إن جفوته ... صفا لي ولا إن كنت طوع يديه
فصيرناه مجلسنا، فقالت: بقي علي فيه شيء فأصلحه، قلت: ما فيه شيء، قالت: بلى في موضع كذا، فقلت: أنت أعلم، فصححناه جميعاً. ثم جاء الحجاب فكسروا الباب واستخرجت فأدخلت على المأمون، فأقبلت أرقص من أقصى الصحن وأصفق بيدي وأغني الصوت، فسمع وسمعوا مالم يعرفوه فاستظرفوه. فقال المأمون: ادن يا علويه، فدنوت فقال: رد الصوت، فرددته سبع مرات، فقال: أنت الذي تشتاق إلى ظل صاحب يروق ويصفوا إن كدرت عليه؟ فقلت: نعم، فقال: خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب بدلها. وسألني عن خبره فأخبرته فقال: قاتلها الله فهي أجل أبزار من أبا زير الدنيا.
؟
من الحكم السياسيةأخبرنا المعافى قال حدثنا محمد بن أبي الأزهر البوشنجي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا مبارك الطبري قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت أمير المؤمنين المنصور يقول: الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه.
في وصف الأحمقحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أحمد بن عبيد قال، قال الهيثم بن عدي قال وهب بن منبه: الأحمق إذا تكلم فضحه حمقه، وإذا سكت فضحه عيه، وإذا عمل أفسد وإذا ترك أضاع. لا علمه يغنيه، ولا علم غيره ينفعه، تود أمه لو أنها ثكلته، وتود امرأته لو أنها عدمته، ويتمنى جاره منه الوحدة، وتأخذ جليسه منه الوحشة؛ وأنشد لمسكين الدارمي في ذلك:
أتق الأحمق أن تصحبه ... إنما الأحمق كالثوب الخلق
كلما رقعت منه جانباً ... حركته الريح وهنا فانخرق
أو كصدع في زجاج فاحش ... هل ترى صدع زجاج يتفق
وإذا جالسته في مجلس ... أفسد المجلس منه بالخرق
وإذا نهنهته كي يرعوي ... زاد جهلاً وتمادى في الحمق
من جاد بماله وبنفسه فقد جاد بنفسيهقال المعافى: وحدثني أبو النضر العقيلي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أبو تمام حبيب بن أوس الطائي قال حدثني محمد بن خالد الشيباني قال، قال يزيد بن أبي يزيد الغساني: من جاد بنفسه عند اللقاء، وبماله عند العطاء، فقد جاد بنفسيه كليهما.
طوق بن مالك يستزير العتابيحدثنا عبد الله بن منصور الحارثي، قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثنا أبو دعامة الشاعر قال: كتب طوق بن مالك إلى العتابي يستزيره ويدعوه إلى أن يصل القرابة بينه وبينه، فرد عليه: إن قريبك من قرب منك خيره، وإن عمك من عمك نفعه، وإن عشيرتك من أحسن عشرتك، وإن أحب الناس إليك أجداهم بالمنفعة عليك، ولذلك أقول:
ولقد بلوت الناس ثم سبرتهم ... وخبرت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة أقرب الأنساب
ويدوى أكبر
المجلس الثامن والخمسون
خطبة لعمر رضي الله عنهأخبرنا المعافى بن زكريا قال حدثنا ابن أبي داود عبد الله بن سليمان في شعبان سنة ست عشرة وثمانمائة إملاًء من لفظه بتلقين ابنه أبي معمر إياه قال حدثنا المسيب بن واضح قال حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن سيعدٍ الجريري عن أبي نضرة عن أبي فراس قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال في خطبته: أيها الناس إنما كنا نعرفكم إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وكان ينزل عليه الوحي وإذ ينبئنا الله تعالى من أخباركم، ألا فقد مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي، وإنما نعرفكم بما نقول لكم: من أظهر منكم خيراً ظننا به خيراً وأحببناه على ذلك، ومن أظهر منكم شراً ظننا به شراً وأبغضناه عليه. أسراركم فيما بينكم وبين الله تعالى. ولقد أتى علي زمان وما أرى أحداً يقرأ القرآن يريد به إلا ما عند الله تعالى، وقد خيل إلي أن أناساً يقرأون القرآن يريدون به ما عند الناس، ألا فأريدوا الله بقراءتكم وأعمالكم ألا وإني لم أبعث عليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم ولا ليأكلوا أموالكم. ولكن بعثتم ليحجزوا بينكم ويقسموا فيكم فيئكم، فمن كانت له قبل أحدٍ منهم مظلمة فليقم. فما قام أحد غير رجل واحدٍ فقال: يا أمير المؤمنين إن عاملك ضربني مائة سوطٍ، فسأله عمر لم ضربه فاعتل له، فقال له عمر: قم فاستقد منه، فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن تفتح هذا على عمالك كبر عليهم وكانت سنة يأخذ بها من بعدك، فقال عمر: أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد من نفسه، قم فاستقد منه، فقال له عمرو بن العاص: أو فدعنا إذن فلنرضه، قال: دونكم فأرضوه. فافتدوا منه بمائة دينار، قال قلنا لعطاء يعين ابن عجلان: وكيف أقص رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه؟ قال: أقبل من منى يزور البيت حتى إذا كان في بعض الطريق عرض له إنسان، فكره أن يوطئه فضربه بمخصرته، فلما طاف بالبيت وصلى قال: يا أيها الناس إني أقبلت من منى فعرض لي إنسان فضربته بمخصرتي، فإن كان في الناس فليقم. فقام رجل فقال له: أنا، فقال له رسول لله صلى الله عليه وسلم: استقد فقال: بل أعفو يا رسول الله.
تعليق المؤلف على خطبة عمرقال القاضي أبو الفرج: قد ضمن عمر رضي الله عنه خطبته هذه من الحكم التي تتقبلها العقول ويشهد بصحتها المعقول ما فيه أكثر النفع لمن استمع إليه، وأجرى أمره في دينه عليه، وذكر أنه يحمل الناس في موالاتهم ومعاداتهم على ما أبدوه ويكلهم إلى ربهم عز وجل فيما أخفوه، ونصح الناس
في ما أمرهم به من أن يريدوا الله تعالى بتلاوة كتابه كما كان السلف الذين نزل الوحي بينهم، وأخبر أنه سيأتي من يريد بتلاوته الناس وحطام الدنيا، ويأتي بالتلاوة للسمعة والرياء، وذكر ما لم يكن عند أحد ممن سمعه رد له ولا مرية فيه من إنفاذه عماله على الناس للعدل فيهم وأداء حقوقهم إليهم، وأنه حكم بالقصاص ممن جنى منهم، وبإنصاف مظلومهم من ظالمهم، وها نحن في زمانٍ الجور فيه ظاهر غامر، والظالم قاهر، والمظلوم حائر؛ وأما تلاوة القرآن في زماننا فإن من يتلوه فيه تقرباً إلى ربه واعتباراً به، وتفكراً في حكمه، وتدبراً في آياته، وتفقهاً في دينه، فإنه في قلته ومهانته وذلته على حد عظيم في منزلته، وهو بمنزلة الكبريت الحمر في عزته، وبمنزلة الشامة البيضاء في الثور الأسود، إذا نظر في أمره في عدد أهله، ومعظم من يتلوه في وقتنا إما مباهٍ لأمثاله مفاخر، أو مبارٍ لأشكاله مكاثر، أو مستميحاً للحطام والسحت الحرام من ذوي البغي والضلالة، واللهو والبطالة، بالتغني لهم به على الوجه الذي زجر الله تعالى عنه ورسوله من ألحان اللاهين وترجيع اللعابين، قد جعل ذلك له طعمةً واتخذه لنفسه معيشة، ودرت عليه الهبات، والعطايا والصلات، من المغرورين، المسحورين منهم والمفتونين، المطبوع على قلوبهم، وتعلقوا عند العامة بادعاء التأويل في الخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: زينوا القرآن بأصواتكم، وبقوله: ليس منا من لم يتغن بالقرآن، فحملوه على غير وجهه ووجهوه إلى خلاف ما قصد له به، فكانوا في تلاوتهم للقرآن من الذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يتعجلونه ولا يتأجلونه، وضلوا عن سواء السبيل في ما يتأولونه.
وقد أتينا من الكلام في هذا المعنى بما ينتفع به الناظر فيه، إذا وقف على معانيه، ناصحاً لنفسه، مشفقاً من خشية ربه، في كتابنا المسمى: التذكير والتحذير وفي بعض ما مضى من مجالس كتابنا هذا وفي غيرهما.
تعال فاستقدومما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في معنى القصاص الذي ذكره عمر في خطبته ما حدثناه إبراهيم بن حماد في المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمائة قال حدثنا أبو موسى يعني محمد بن المثنى قال حدثنا وهب بن جرير قال حدثنا أبي قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب بن بكير بن عبد الله عن عبيدة بن مسافع عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم شيئاً إذا أكب عليه رجل فطعنه بعرجون كان في يده، فصاح الرجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاستقد، فقال الرجل: قد عفوت يا رسول الله.
قال القاضي أبو الفرج: وما روي في هذا النحو كثير، وإلى الله تعالى من زمان السوء المشتكى والمفر والملجأ، وغوثه المأمول المرتجى، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
اضرب ضرباً تقوى عليه
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد الأزدي قال، حدثنا أبو حاتم قال: ضرب رجل من ذوي السلطان رجلاً فأوجعه فقال له: أصلحك الله اضربني ضرباً تقوى عليه فإن القصاص أمامك.
الأشتر وجيداء
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا عبد الله بن موسى القرشي ابن أبي الدنيا قال حدثنا محمد بن صالح الحسني قال حدثني أبي عن نمير بن قحيف الهلالي قال: كان في بني هلال فتى يقال له بشر ويعرف بالأشتر، وكان سيداً حسن الوجه شديد القلب سخي النفس، وكان معجباً بجارية من قومه تسمى جيداء، وكانت الجارية بارعة الجمال، فاشتهر أمره وأمرها، ووقع الشر بينه وبين أهلها حتى قتلت بينهم القتلى وكثرت الجراحات، ثم افترقوا واصطلحوا على ألا ينزل أحد منهم بقرب الآخر، قال نمير بن قحيف: فلما طال على الأشتر البلاء والهجر جاءني في ذات يوم فقال: يا نمير، هل فيك من خير؟ قلت: عندي كل ما أحببت، قال: أسعدني على زيارة جيداء، فقد ذهب الشوق إليها بروحي وتنغصت علي حياتي، قلت: بالحب والكرامة، فانهض إذا شئت؛ فركب وركبتُ معه. فسرنا يومنا وليلتنا والغد، حتى إذا أن قريب من مغرب الشمس نظرنا إلى منازلهم ودخلنا شعباً خفياً فأنخنا راحلتينا وجلين، فجلس عند الراحلتين وقال: يا نمير اذهب بأبي أنت وأمي فادخل الحي، واذكر لمن لقيك أنك طالب ضالةٍ، ولا تعرضن بذكري بينب شفةٍ ولسان، فإن لقيت جاريتها فلانة الراعية فأقرها مني السلام، وسلها عن الخبر وأعلمها بمكاني. فخرجت لا أعذر في أمري حتى لقيت الجارية فأبلغتها الرسالة وأعلمتها بمكانه وسألتها عن الخبر، فقالت: هي والله مشدد عليها متحفظ منها، وعلى ذلك فموعد كما الليلة عند تلك الشجرات اللواتي عند أعقاب البيوت، فانصرفت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، ثم نهضنا نقود راحلتينا حتى جئنا الموعد، فلم نلبث إلا قليلاً إذا جيداء قد جاءت تمشي حتى دنت منا، فوثب إليها الأشتر فصافحها وسلم عليها وقمت مولياً عنهما، فقالا: إنا نقسم عليك إلا ما رجعت، فو الله ما بيننا ريبة ولا قبيح نخلو به دونك، فانصرفت راجعاً إليهما حتى جلست معهما، فتحدثا ساعة، ثم أرادت الانصراف فقال لها الأشتر: أما فيك حيلة يا جيداء، فنتحدث ليلتنا ويشكو بعضنا إلى بعض؟ قالت: والله ما إلى ذلك سبيل إلا أن نعود إلى الشر الذي تعلم، قال لها الأشتر: لا بد من ذلك ولو وقعت السماء على الأرض، قالت: هل في صديقك هذا من خير أو معه مساعدة لنا؟ قال: الخير كله، قالت: يا فتى هل فيك من خير؟ قلت: سلي ما بدا لك فإني منتهٍ إلى رأيك ولو كان في ذلك ذهاب روحي، فقامت فنزعت ثيابها فجعلتها علي فلبستها، ثم قالت: انزع ثيابك، فخلعتها فلبستها ثم قالت: اذهب إلى بيتي فادخل إلى خبائي فإن زوجي سيأتيك بعد ساعة أو ساعتين فيطلب إلى بيتي فادخل إلى خبائي فإن زوجي سيأتيك بعد ساعة أو ساعتين فيطلب منك القدح ليحلب فيه الإبل فلا تعطه إياه حتى يطيل طلبه ثم ارمه به رمياً ولا تعطه إياه من يدك فإني كذلك كنت أفعل به، فيذهب فيحلب، ثم يأتيك عند فراغه من الحلب والقدح ملآن لبناً فيقول: هاك غبوقك، فلا تأخذ منه حتى يطيل، نكداً عليه، ثم خذه أو دعه حتى يضعه، ثم لست تراه حتى يصبح إن شاء الله، قال: فذهبت ففعلت ما أمرتني به حتى إذا جاء بالقدح الذي فيه اللبن أمرني أن آخذه فلم آخذه حتى طال نكدي عليه، ثم أهويت لآخذه وأهوى ليضعه واختلفت يدي ويده، فانكفأ القدح واندفق ما فيه، فقال: إن هذا طماح مفرط، وضرب بيده إلى مقدم البيت فاستخرج منه سوطاً مفتولاً كمتن الثعبان المطوق ثم دخل علي فهتك الستر عني وقبض بشعري ثم اتبع ذلك السوط متني، فضربني تمام ثلاثين، ثم جاءت أمه وإخوته وأخت له فانتزعوني من يده، ولا والله ما أقلع حتى زايلني روحي وهممت أن أوجرة السكين وإن كان فيه الموت فلما. خرجوا عني وهو معهم شددت ستري وقعدت كما كنت، فلم ألبث إلا قليلاً حتى إذا أم جيداء قد دخلت علي تكلمني، فكلمتني وهي تحسبني ابنتها، فأتقيها بالسكات والبكاء، وتغطيت بثوبي دونها، فقالت: يا بنية اتقي الله ربك ولا تعرضي لمكروه زوجك، فذاك أولى بك، فأما الأشتر فلا أشتر لك آخر الدهر. ثم خرجت من عندي وقالت: سأرسل إليك أختك تونسك وتبيت عندك الليلة، فلبثت غير ما كثير، فإذا الجارية قد جاءت فجعلت بتكي وتدعو على من ضربني، وجعلت لا أكلمها، ثم اضطجعت إلى جانبي، فلما استمكنت منها شددت بيدي على فمها وقلت: يا هذه تلك أختك مع الأشتر، وقد قطع ظهري الليلة في سببها، وأنت أولى بالستر عليها، فاختاري لنفسك ولها، فو الله لئن تكلمت
بكلمةٍ لأصيحن بجهدي حى تكون الفضيحة شاملة. ثم رفعت يدي عنها فاهتزت الجارية كما تهتز القصبة من الزرع، ثم بات معي منها أملح رفيق رافقته وأعفه وأحسنه حديثاً فلم تزل تتحدث وتضحك مني ومما بليت به من الضرب حتى برق النور وإذا جيداء قد دخلت علينا من آخر البيت، فلما رأتنا ارتاعت وفزعت وقالت: ويلك من هذا عندك؟ قلت: أختك، قالت: وما السبب؟ قلت: هي تخبرك، ولعمر الله إنها لعالمة بما نزل بي، وأخذت ثيابي منها ومضيت إلى صاحبي فركبنا ونحن خائفان فلما اطمأننا حدثته بما أصابني وكشفت عن ظهري فإذا فيه ما غرس الله من ضربةٍ إلى جانب أخرى، كل ضربة تخرج الدم وحدها، فلما رأى ذلك قال: لقد عظمت صنيعتك ووجب شكرك إذ خاطرت بنفسك فبلغني الله مكافأتك.بكلمةٍ لأصيحن بجهدي حى تكون الفضيحة شاملة. ثم رفعت يدي عنها فاهتزت الجارية كما تهتز القصبة من الزرع، ثم بات معي منها أملح رفيق رافقته وأعفه وأحسنه حديثاً فلم تزل تتحدث وتضحك مني ومما بليت به من الضرب حتى برق النور وإذا جيداء قد دخلت علينا من آخر البيت، فلما رأتنا ارتاعت وفزعت وقالت: ويلك من هذا عندك؟ قلت: أختك، قالت: وما السبب؟ قلت: هي تخبرك، ولعمر الله إنها لعالمة بما نزل بي، وأخذت ثيابي منها ومضيت إلى صاحبي فركبنا ونحن خائفان فلما اطمأننا حدثته بما أصابني وكشفت عن ظهري فإذا فيه ما غرس الله من ضربةٍ إلى جانب أخرى، كل ضربة تخرج الدم وحدها، فلما رأى ذلك قال: لقد عظمت صنيعتك ووجب شكرك إذ خاطرت بنفسك فبلغني الله مكافأتك.
قال الكوكبي وحدثني أحمد بن جعفر المستملي قال حدثنا أبو يونس محمد بن نعيم الوراق حدثني محمد بن صالح مثله سواء.
هذا فزدي أنهحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أحمد بن الحارث قال، قال أبو عبد الله ابن الأعرابي: كان حاتم الطائي أسيراً في عنزة فقالت له امرأة منهم يوماً: قم فافصد لنا هذه الناقة، وكان الفصد عندهم أن يقطع عرق من عروق الناقة ثم يجمع الدم فيشوى، فقام حاتم إلى الناقة فنحرها فلطمته المرأة، فقال حاتم: لو غير ذات سوارٍ لطمتني. فذهب قوله مثلاً. وقالت له النسوة: إنما قلنا له افصدها، فقال: هكذا فصدي أنه. قال أبو بكر: يريد أنا وهي لغة طيء.
اللغات في أناقال أبو بكر وبغير هذا الإسناد: في أنا أربع لغات: أنا قائم بإثبات الألف في الوصل، وأنا قائم بإسقاط الألف في الوصل، وأنا قائم بإثبات الآلن في الوصل. وأنه بإدخال هاء السكت، والرابعة أخبرنا بها أبو العباس عن بعض النحويين عن العرب أن قائم بإسكان النون، يراد بها أنا قائم، قال الشاعر:
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني ... حميداً قد تذريت السناما
فنصب حميداً على المدح؛ وتذريت معناه ارتفعت إلى ذروة الحسب، وذكر السنام مثلاً.
تعليقات وتوضيحاتقال القاضي أبو الفرج: قد كان أهل الجاهلية فيما ذكر يشوون الدم مخلوطاً بالوبر ويأكلونه ويسمونه العلهز. ولما قال حاتم: لو غير ذات سوارٍ لطمتني فأرسلها مثلاً صارت كلمة يقولها القائل عند عدو الدقيق الحسب على من هو فوقه، وحين يهتضم الرفيع ذا القدر من هو دونه. ويروى أن حاتماً قال في هذا الخبر: هكذا فزدي أنه، وإشمام الصاد الساكنة الزاي إذا ولتيها الدال لغة للعرب معروفة جيدة قد قرأ بها في القرآن عدد من القرأة كقوله: يصدفون، ويصدر الناس، ويصدر الرعاء. والذي رواه لنا أبو بكر ابن الأنباري من اللغات في أنا كما روي، وقد قرأه بإثبات الألف في الوصل والوقف بعض قرأة المدينة في مواضع عدة. وممن روي عنه هذا نافع بن عبد الرحمن.
خالد بن صفوان يرد على مفاخر اليمنية
حدثنا أبحمد بنب العباس العسكري قال حدثنا عبد الله بن أبي سعدٍ قال حدثني أبو جعفرٍ محمد بن إبراهيم بن يعقوب بن داود قال حدثنا الهيثم بن عديٍ قال: كان أبو العباس يعجبه السمر ومنازعة الرجال، فحضره ذات ليلةٍ في سمره إبراهيم بن مخرمة الكندي وناس من بني الحارث بن كعب، وهم أخواله، وخالد بن صفوان بن إبراهيم التميمي فخاضوا في الحديث وتذاكروا مضر واليمن، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين إن اليمن هم العرب الذين دانت لهم الدنيا، وكانت لهم القرى، ولم يزالوا ملوكاً أرباباً، ورثوا ذلك كابراً عن كابرٍ وأولاً عن آخر، منهم النعمانيات والمنذريات والقابوسيات والتبابعة، ومنهم من حمت لحمه الدبر، ومنهم غسيل الملائكة، ومنهم من اهتز لموته العرش، ومنهم مكلم الذئب، ومنهم الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً، وليس شيء له خطر إلا وإليهم ينسب: من فرس رائع، أو سيفٍ قاطع، أو درعٍ حصينةٍ، أو حلةٍ مصونةٍ، أو درةٍ مكنونةٍ، إن سئلوا أعطوا، وإن سيموا أبوا، وإن نزل بهم ضيف قروا، لا يبلغهم مكاثر، ولا ينالهم مفاخر، هم العرب العاربة وغيرهم المتعربة. قال أبو العباس: ما أظن التميمي يرضى بقولك، ثم قال: ما تقول يا خالد؟ قال: إن أنت أذنت لي في الكلام وأمنتني من الموجدة تكلمت، قال: قد أذنت لك فتكلم ولا تهب أحداً، فقال: أخطأ يا أمير المؤمنين المتقحم بغير علمٍ، ونطق بغير صواب، فكيف يكون ما قال؟ القوم ليست لهم ألسن فصيحة، ولا لغة صحيحة، ولا حجة نزل بها كتاب، ولا جاءت بها سنة، وهم منا على منزلتين: إن جاروا عن قصدنا أكلوا، وان جازوا حكمنا قتلوا، يفخرون علينا بالنعمانيات والمنذريات وغير ذلك مما سنأتي عليه، ونفخر عليهم بخير الأنام، وأكرم الكرام، محمد عليه السلام، ولله عز جل علينا المنة به وعليهم، لقد كانوا أتباعه فبه عزوا وله أكرموا، فمنا النبي المصطفى، ومنا الخليفة المرتضى، ولنا البيت المعمور والمسعى وزمزم والمقام والمنبر والركن والحطيم والمشاعر والحجابة والبطحاء، مع مالا يخفى من المآثر، ولا يدرك من المفاخر، وليس يعدل بنا عادل، ولا يبلغ فضلنا قول قائل. ومنا الصديق والفاروق والوصي وأسد الله سيد الشهداء، وذو الجناحين وسيف الله، عرفوا الدين وأتاهم اليقين، فتمن زاحمنا زحمناه، ومن عادانا اصطلمناه. ثم التفت فقال: أعالم أنت بلغة قومك؟ قال: نعم. قال: فما اسم العين؟ قال: الجحمة قال: فما اسم السن؟ قال: الميزم. قال: فما اسم الأذن؟ قال: الصنارة، قال: فما اسم الأصابع؟ قال الشناتر، قال: فما اسم الأذن؟ قال: الزب، قال: فما اسم الذئب؟ قال: الكتع، قال فقال له: أفمؤمن أنت بكتاب الله تعالى؟ قال: نعم، قال: فإن الله تعالى يقول: " إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون " يوسف: 2 وقال: " بلسان عربي مبين " الشعراء :195 وقال: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " إبراهيم:4 فنحن العرب والقرآن بلساننا نزل؛ ألم تر أن الله عز وجل قال: " والعين بالعين " المائدة:45 ولم يقل: الجحمة بالجحمة. وقال: " والسن بالسن " المائدة: 45 ولم يقلك الميزم بالميزم وقال جل اسمه " والأذن بالأذن " المائدة:45 ولم يقل الصنارة بالصنارة. وقال: " يجعلون أصابعهم في آذانهم " البقرة:19 ولم يقل شناترهم في صناراتهم وقال تعالى: " لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " طه: 94 ولم يقل لا تأخذ بزبي. وقال: " فأكله الذئب " يوسف: 17 ولم يقل فأكله الكتع. ثم قال: أسألك عن أربع إن أنت أقررت بهن قهرت وإن جحدتهن كفرت. قال: وما هن؟ قال: الرسول منا أو منكم؟ قال: منكم، قال: والقرآن نزل علينا أو عليكم؟ قال: عليكم، قال: فالبيت الحرام لنا أبو لكم؟ قال: لكم، قال: فالخلافة فينا أو فيكم؟ قال فيكم. قال خالد فما كان بعد هذه الأربع فلكم.
المجلس التاسع والخمسون
رائحة عتبة بن فرقدأخبرنا المعافى قال حدثنا أبي قال حدثنا أحمد يعني ابن يحيى الحلواني قال حدثنا سعيد يعني ابن سليمان عن عباد عن حصين قال: أخبرتني أم عاصم امرأة عتبة بن فرقدٍ قالت: كنا عند عتبة نسوة نتطيب فيخرج وهو أطيبنا ريحاً، ما يزيد على أن يدهن، فقلنا: ما هذه الريح؟ قال: أخذني الشرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكوت ذلك إليه فأمرني أن ألبس علي ثوباً، قال: يعني يغطي فرجه، ثم تفل في يده ثم مسح بها ظهري وبطني.
قال القاضي أبو الفرج: وهذا مما أبان الله تعالى لعباده من فضائل نبيه عليه السلام وآياته وخصائصه وبركاته، ونحن نرجو إذ هدانا إلى الإيمان به أن نصل إلى شريف المنزلة بعد البعث ببركته صلوات الله عليه وسلامه.
بين معاوية وابن الزبيرحدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني محمد بن الحسين عن سليمان بن أحمد قال: حدثني عبد الله بن محمد بن حبيبٍ أن معاوية لما حج مر بالمدينة فلقيه عبد الله بن الزبير فقال: آدني على الوليد بن عتبة فقد تزايد خطله، وذهب به جهله إلى غايةٍ تقصر عنها الأنوق، ودون قرارها العيوق، فقال معاوية: والله ما يزال أحدكم يأتيني يغلي جوفه غلي المرجل على ابن عمه، فقال ابن الزبير: أما والله ما ذاك عن فرارٍ منه ولا جبنٍ عنه، ولقد علمت قريش أني لست بالفه الكهام ولا بالهلباجة النثر، فقال له معاوية: إنك لتهددني وقد عجزت عن غلامٍ من قريش لم يبر في سباقٍ ولا ضرب في سياق، وإن شئت خلينا بينك وبينه، فقال ابن الزبير: ما مثلي يهارش به، ولكن عندك من قريش والأنصار ومن ساكني الحجون والآطام من إن سألت حملك على محجةٍ أبين من ظهر الجفير، قال: ومن ذلك؟ قال: هذا، يعني أبا الجهم بن حذيفة، فقال معاوية: تكلم يا أبا الجهم. فقال: أعفني، قال: عزمت عليك لتقولن، قال: نعم أمك هند، وأمه أسماء بنت أبي بكرٍ، وأسماء خير من هند، وأبوك أبو سفيان وأبوه الزبير، ومعاذ الله أن يكون أبو سفيان مثل الزبير، وأما الدنيا فلك وأما الآخرة فله، إن شاء الله.
شرح النص السابققال القاضي أبو الفرج: قول ابن الزبير لمعاوية: آدني على الوليد معناه أعدني، وزعم بعضهم أن فلاناً يستأدي على فلان أفصح من يستعدي، وهما عندي سواء. وقد روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أعدني على رجل من أصحابك، وقوله: يقصر عنها الأنوق، يعني الرخم وهو يرتاد لبيضه شوامخ الجبال وحيث يبعد متناوله ويخفى مكانه، فلا يكاد إنسان يجده أو يصل إليه، والعرب تضرب المثل في من طلب ما يعز وجوده ويتعذر إدراكه ونيله فيقولون: إنه يطلب بيض الأنوق. وقد روي لنا أن رجلاً سأل معاوية حاجةً معتاصة مستثقلة فرده عنها، فسأله حاجة هي أيسر منها إلا أن فيها استصعاباً، فقال معاوية:
طلب الأبلق العقوق فلما ... لم ينله أراد بيض الأنوق
والأبلق: الفرس، والعقوق: ذات الحمل، وذلك في الذكر مستحيل. وبيض الأنوق ما فسرنا؛ فلما طلب هذا الرجل أمراً مستبعداً لا سبيل إليه، ثم طلب ما ينال على صعوبةٍ لما منع ما لا مطمع له فيه، ضرب معاوية هذا البيت مثلاً له. وهذا من المثال القريب والتشبيه المصيب. وأما العيوق فنجم عالٍ معروف. وأما قوله: لست بالفه: فمعنى الفهاهة في الكلام ما يأتي على غير استقامةٍ، ويقال: أتى فلان في قوله بفهةٍ، أي بقولٍ ساقطٍ في لفظه ومعناه. وأما الكهام فالكليل، يقال: سيف كهام إذا كان نابياً كليلاً. وأما الهلباجة فالأحمق. وأما النثر فذو الرأي السخيف واللب الضعيف. كما قال الشاعر:
هذريان هذر هذاءة ... موشك السقطة ذولب نثر
وأما قول معاوية: لم يبر في سباق: أي لم يسبق مجارياً فيفضله ويظهر غلبته إياه، يقال: أبر فلان على فلانٍ إذا غلبه وزاد في الفضل عليه، يبر إبراراً فهو مبر، كما قال ذو الرمة يمدح بلال بن أبي بردة:
أبر على الخصوم فليس خصم ... ولا خصمان يغلبه جدالا
ولبس بين أقوامٍ فكل ... أعد له الشغازب والمحالا
قال القاضي أبو الفرج: الشغازب: جمع شغزبةٍ وأصله أن يدخل الرجل رجله بين رجلي الرجل فيصرعه، يقال: صرعه شغزبيةً. والمحال الكيد والمكر، من قول الله تعالى: " وهو شديد المحال " الرعد:13 وأما قوله: ولا ضرب في سياق فمعناه أنه لم يرض فيحتنك ولم يؤخذ بالتثقيف ولذع التأديب فتستحكم عزيمته وتستحصد مرته. وأما قول ابن الزبير: " من ساكني الحجون والآطام " : فإن الحجون موضع بمكة معروف وإياه عنى الشاعر بقوله:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وقال آخر:
هيجتني إلى الحجون شجون ... ليته قد بدا لعيني الحجون
وأما الآطام فإنها جمع أطم، والعرب تسمي ما كان من البيوت مربعاً كعبة، وما كان مدوراً أطماً. وأما الجفير فإنه الكنانة، وجمعه جفر، قال الشماخ:
وخفت نواها من جنوبٍ عنيزةٍ ... كما خف من نبل المرامي جفيرها
وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو: الكنانة جعبة السهام، والكنانة هي الوفضة وجمعها وفاض؛ الكسائي مثله؛ الأحمر: الجفير والجشير جميعاً الوفضة أيضاً.
ابن أبي دواد يخرج عيناً على المعتصم
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني يعقوب بن بنان الكاتب قال حدثني أبو العباس ابن الفرات قال: كنا ليلةً في دار أبي الصقر إسماعيل بن بلبل فوافى يعقوب بن إسحاق الصائغ برسالةٍ من أبي القاسم عبيد الله بن سليمان في حاجةٍ له، فجلس معنا إلى أن يؤذن له على أبي الصقر، فجرى ذكر أحمد بن أبي دوادٍ فكل حدث عنه وعن أيامه بشيء. فحدثنا يعقوب بن الصائغ قال: لما وجه المأمون بأبي إسحاق المعتصم إلى مصر وعقد له من باب الأنبار إلى أقصى المغرب قال ليحيى بن أكثم: ينبغي أن ترتاد لي رجلاً حصيفاً لبيباً له علم وأمانة وثقة أنفذه مع أبي إسحاق، وأوليه المظالم في أعماله، وأتقدم إليه سراً بمكاتبتي سراً بأخباره وما تجري عليه أموره، وبما يظهر ويبطن، وما يرى من أمر قواده وخاصته، وكيف تدبيره في الأموال وغيرها، فإني لست أثق بأحدٍ ممن يتولى البريد، وما أحب أن أجشمه بتقليد صاحب البريد عليه فيكون معتمدي عليه وتكون كتبه سرية إليك لتقرئني إياها إذا وردت، فقال: يا أمير المؤمنين عندي رجل من أصحابي أثق بعقله ودينه ورأيه وأمانته وصدقه ونزاهته. فقال: جئني به في يوم كذا وكذا، فصار يحيى بن أكثم بأحمد بن أبي دوادٍ إلى المأمون في اليوم الذي حده له.
فكلمه المأمون فوجده فهماً راحجاً، فقال له: إني أريد إنفاذك مع أخي أبي إسحاق، وأريد أن تكتب بأخباره سراً، وتتفقد أحواله ومجاري أموره وتدبيراته وخبر خاصته وخلواته، وتنفذ كتبك بذلك إلى يحيى بن أكثم مع ثقاتك ومن تأمنه على دمك، فإني أشهر أمرك بتقليد المظالم في عسكره، وأتقدم إليه بمشورتك والأنس بك. فقال له أحمد: أبلغ لك يا أمير المؤمنين في ذلك فوق ما قدرته عندي وبي، وأنتهي إلى ما يرضي أمير المؤمنين ويزلف عنده. فجمع المأمون بين أحمد بن أبي دوادٍ وبين المعتصم وقال له: إنك تشخص في هذا العسكر وفيه أوباش الناس وجند وعجم وأخلاط من الرعية، ولا بد لعسكرك من صاحب مظالم يكون فيه لينظر في أمور الناس، وقد اخترت لك هذا الرجل فضمه إليك وأحسن صحبته وعشرته؛ فأخذه المعتصم معه، فلما بلغوا الأنبار وافت كتب أصحاب البريد بموافاة المعتصم الأنبار، فقال المأمون ليحيى: ترى ما كان من بغداد إلى الأنبار خبر يكتب به صاحبك إليك؟ قال فقال يحيى: لعله يا أمير المؤمنين لم يحدث خبر تحسن المكاتبة به؛ وكتب يحيى إلى أحمد يعنفه ويستبطئه ويخبره أن أمير المؤمنين قد أنكر تأخر كتابه. فلما ورد الكتاب على أحمد ووقف على ما فيه احتفظ به ولم يجب عنه؛ وشخص المعتصم حتى وافى الرحبة ولم يكتب أحمد بحرف واحدٍ من أخبار المعتصم التي تقدم إليه فيها. وكتب أصحاب البريد بموافاة المعتصم الرحبة وأخبار عسكره، فدعا المأمون يحيى بن أكثم فقال: يا أسخن الله عينك، عجبت أن تختار إلا من هذه سبيله، تختار لي ويحك رجلاً تصفه بكل الصفات فأتقدم إليه بما كنت حاضره، فلا يكتب من بغداد إلى أن يوافى الرحبة إليك كتاباً في معنى ما اعتمد عليه فيه:؟! قال: فكتب يحيى إلى أحمد كتاباً أغلظ له المخاطبة وأسمعه فيه المكروه ويقول له: إنما أشخصناك لما تقدمنا به إليك، وإنا إنما أظهرنا تقليدك المظالم ليتيسر ما أمرت به، فما هذه الغفلة وما هذا الجهل بما يراد منك؟ فورد الكتاب على أحمد فقرأه واحتفظ به، وسار المعتصم من الرحبة حتى وافى الرقة، فدعا المأمون بيحيى فقال له: يا سخين العين، هذا مقدار رأيك وعقلك؟ اللهم إلا أن تكون غررتني معتمداً، وأوطأتني العشوة قصداً أولا فتجيئني برجل تعلم موقعه عندك وتطلعني على الوقوف عليه فتصفه وتقرظه حتى أودعته سراً من أسراري وأمراً أقدمه على كل أموري، فمضى من مدينة السلام إلى ديار مصر فلم يكتب يحرفٍ مما أمر بالكتاب به؟! فقال: يا أمير المؤمنين من يعمل بغير ما يؤدي إلى محبتك ويقود إلى إرادتك فأذاقه الله بأسك، وألبسه نكالك، وصب عليه عذابك.
وكتب إلى أحمد كتاباً يشتمل على كل إيعاد وإرهابٍ وتخويف وتحذير، وخاطبه بأوحش مخاطبةٍ وأنكلها، فورد الكتاب على أحمد فقرأه واحتفظ به.
وأمر المأمون عمرو بن مسعدة أن يكتب إلى أبي إسحاق المعتصم كتاباً يأمره فيه بالبعثة بأحمد بن أبي دواد مشدودةً يده إلى عنقه، مثقلاً بالحديد، محمولاً على غير وطاء. فورد الكتاب على المعتصم، ودخل أحمد بن أبي دواد إليه وهو بالرقة ما جاوزها، فرأى المعتصم كئيباً مغموماً، فقال: أيها الأمير أراك متغيراً وأرى لونك حائلاً، فقال: نعم لكتابٍ ورد علي من أجلك، ونبذ إليه بالكتاب فقرأه أحمد، فقال له المعتصم: تعرف لك ذنباً يوجب ما كتب به أمير المؤمنين؟ قال: ما اجترمت ذنباً، إلا أن أمير المؤمنين لا يستحل هذا مني إلا بحجةٍ، فما الذي عند الأمير فيما كتب به إليه؟ فقال: أمر أمير المؤمنين لا يخالف لكني أعفيك من الغل والحديد، أحملك إليه على حال لا توهنك ولا تؤلمك وأوجه بك مع غلامٍ من غلماني أتقدم إليه في ترفيهك وأن لا يعسفك، فقال: جزاك الله أيها الأمير أفضل ما جازى منعماً، فإن رأى الأمير أن يأذن لي في المصير إلى منزلي ومعي من يراعيني إلى أن يردني إلى مجلس الأمير فيأمر بأمره فعل، فقال له: امض؛ ووجه معه خادماً من خدمه، فصار أحمد إلى منزله واستخرج الكتب الثلاثة التي كاتبه بها يحيى بن أكثم وهم بالأنبار، والكتاب الذي ورد وهم بالرحبة، والكتاب الذي ورد وهم بالرقة، ورجع إلى المعتصم فأقرأه الكتاب الأول ثم الثاني ثم الثالث وقال له: إنما بعثت لأكتب بأخبارك وأتفقد أحوالك وأكاتب يحيى بذلك ليقرأه على أمير المؤمنين فخالفت ذلك لما رجوته من الحظوة عندك ولما أملته في غدك. فاستشاط المعتصم غضباً وكاد يخرج من ثيابه غيظاً وتكلم في يحيى بكل مكروه وتوعده بكل بلاءٍ وقال: ويلي على البقار البليد السراويل، وقال لأحمد: يا هذا لقد رعيت لنا رعاية لم يتقدمها إحساننا إليك وحفظت علينا ما نرجو أن نتسع، لمكافأتك عليه ومعاذ الله أن أسلمك أو أفرج عنك أو تنالك يد ولي قدرة على منعها منك ، أو أوثر خاصة وحميماً عليك ما امتد بي عمر أو تراخى بي أجل، فكن معي فأمرك نافذ في كل ما ينفذ فيه أمري؛ ولم يجب المأمون على كتابه، فلم يزل معه إلى أن ولي الخلافة وإلى أن ولي الواثق وإلى أيام المتوكل، فأوقع به.
قال القاضي أبو الفرج: قول المأمون ليحيى: أوطأتني العشوة يقال فيها: العشوة والعشوة. وقال بعض علماء اللغة: الضم فيها أفصح اللغات.
لا ينقص الكامل نفع عيالهحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا محمد بن المرزبان قال حدثنا عبد الله بن محمد قال: رأى رجل محمد بن كناسة يحمل بيده بطن شاة فقال له: أنا أحمله لك فقال:
لا نقص الكامل من كماله ... ما جر من نفع الى عياله
شعر لعريبحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنا أحمد بن جعفر بن حامد قال: لما توفي عمي محمد بن حامد وهو الذي كانت عريب تحبه صار أبي إلى منزله لينظر إلى تركته فأخرج إليه سفط مختوم، فإذا فيه رقاع عريب، فجعل يتصفحها ويضحك، فأخذت منها رقعة فإذا فيها شعر لها:
ويلي عليك ومنكا ... أوقعت في القلب شكا
زعمت أني خؤون ... جوراً علي وإفكا
ولم يكن ذاك مني ... إلا مجوناً وفتكا
إن كان ما قلت حقاً ... أو كنت حاولت تركا
فأبدل الله قلبي ... بفتكة الحب نسكاً
الرشيد ولحم الجزور
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد والمقري قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال حدثنا أبو العالية الشامي عن إبراهيم بن المهدي أنه كان يتغدى مع الرشيد في يوم شاتٍ، وإن الرشيد سأل صاحب المطبخ: هل عنده برمة من لحم الجزور؟ فأعلمه أن عنده عدة ألوان منه، فأمر بإحضار ما عنده منه، فقدمت إليه صحفة ومد يده إلى لقمة منها فأدخلها في فيه، فلما حرك لحييه عليها مرتين ضحك جعفر بن يحيى، فسأله الرشيد عن سبب ضحكه، وأمسك عن المضغ، فقال: ذكرت كلاماً دار بيني وبين جاريتي البارحة فضحكت منه، فقال له الرشيد: هذا محال، فأخبرني عن السبب بحقي عليك، فقال له جعفر: إذا ابتلع أمير المؤمنين لقمته حدثته السبب، فأخرج لقمته من فيه وألقاها تحت المائدة، فلما فعل ذلك قال له جعفر بكم يتوهم أمير المؤمنين والقاها تحت المائدة، فلما فعل ذلك قال له جعفر: بكم يتوهم أمير المؤمنين أن هذا اللون يقوم عليه؟ فقال له الرشيد: أتوهمه يقوم علي بأربعة آلاف درهم، فقال له جعفر: والله إن هذا اللون ليقوم عليك بأربع مائة ألف درهم، فقال: وكيف ويحك؟ فقال جعفر: سأل أمير المؤمنين صاحب المطبخ منذ أكثر من أربع سنين عن برمةٍ من لحم الجزور فأخبره أنه لم يتخذها، فأنكر ذلك علي أمير المؤمنين وقال: لا يفت مطبخي لون يتخذ من لحم الجزور في كل يوم، فأنا منذ ذلك اليوم أنحر جزوراً في كل يومٍ لأن الخلفاء لا يبتاع لهم لحم الجزور من السوق، ولم يدع أمير المؤمنين بشيءٍ من لحمها إلى يومه هذا. قال إبراهيم: وكان الرشيد في أول طعامه ولم يكن أكل إلا ملهوجة وأحدةً، وكان أشد خلق الله تقززاً، فصعق حين قال له جعفر ما قال، وضرب بيده اليمنى وفيها الغمر وجهه ومد بها لحيته ثم قال: هلكت ويلك يا هارون، واندفع يبكي، وأمر برفع المائدة وطفق يبكي حتى أذنه المؤذنون بصلاة الظهر، ألف ألف درهم وأن يفرق في كل جانب من جانبٍ من جانبي بغداد خمسمائة ألف درهم وأن يفرق في كل مدينةٍ من الكوفة والبصرة خمسمائة ألف درهمٍ، وقال: لعل الله تعالى أن يغفر لي هذا الذنب. وقام يصلي الظهر، ثم عاد في مكانه فلم يزل باكياً حتى أذنه المؤذنون بصلاة العصر وقام فصلى: وعاد لمكانه إلى أن قرب ما بين صلاة العصر والمغرب، فأخبره القاسم بن الربيع مولاه أن أباه يوسف القاضي بالباب فأمره بإدخاله، فدخل وسلم فلم يرد عليه وأقبل يقول: يا يعقوب هلك هارون، فسأله يعقوب عن القصة فقال: يخبرك جعفر بهان وعاد لبكائه. وحضر جعفر فسأله أبو يوسف عن القصة فقال: يخبرك جعفر بها، وعاد لبكائه. وحضر جعفر فسأله أبو يوسف عن القصة والسبب المخرج للرشيد إلى ما خرج إليه، فحدثه جعفر عن الجزور التي كانت تنحر في كل يوم طول تلك المدة ومبلغ ما أنفق في أثمانها من الأموال، فقال له أبو يوسف: أخبرني عن هذه الإبل التي كانت تبتاع بهذه الدراهم هل كانت تترك إذا نحرت حتى تفسد، ولا تؤكل لحومها حتى تنتن فيرمى بها؟ قال جعفر: اللهم لا، قال أبو يوسف: فكان يصنع بها ماذا؟ قال: يأكلها الحشم والموالي وعيال أمير المؤمنين، فقال أبو يوسف: الله أكبر الله أكبر، أبشر يا أمير المؤمنين بالثواب الجزيل من الله عز وجل على نفقتك، وأبشر بثواب الله تعالى على ما فتح لك من الصدقة في يومك هذا، ومن البكاء للتقية من ربك، فإني لأرجو يا أمير المؤمنين أن لا يرضى الله تعالى من ثوابه على ما قد داخلك من الخوف من سخطه عليك إلا الجنة، فإنه يقول تعالى: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " الرحمن: 46 وأنا أشهد بالله تعالى أنك خفت مقام ربك، فسري عن الرشيد وطابت نفسه ووصل أبا يوسف بأربعمائة ألف درهم، ثم صلى المغرب ودعا بطعامه فأكل، فكان غداؤه في اليوم عشاءه.
المجلس الستون
بايعنا الرسول على السمع والطاعةحدثنا عبد الله بن محمد بن ثابت البزاز، قال حدثنا محمد بن عمرو بن أبي مذعورٍ قال حدثنا عبد الله بن إدريس، قال سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن إسحاق وعبيد الله بن عمر ومحمد بن عجلان عن عبادة بن الوليد عن أبيه عن جده عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
قال القاضي أبو الفرج: هذا الذي ذكره عبادة أنهم بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو دين الله الذي أمره بالدعاء إليه والمبايعة عليه، فأداه عن ربه وقام لله تعالى فيه بحقه، نسأل الله تعالى أن يوفقنا ويعيننا عليه، ويعصمنا من الزيغ عنه والتفريط فيه، ونرجوا إجابته دعاءنا إنه قريب مجيب.
بين العباس بن مرداس وخفافحدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال حدثنا أبو حاتم قال قال أبو عبيدة: ذكرت بنو سليم أن العباس يعين ابن مرداس ندم على ما كان منه في خفافٍ، قال فقال في مجمعٍ من قومه: جزى الله خفافاً والرحم عني شراٍ، كنت أخف بني سليم من دمائهم ظهراً، وأخمصهم من أذاها بطناً، فأصبحت ثقيل الظهر من دمائها، منفضج البطن من أذاها وأصبحت العرب تعيرني بما كان مني، وايم الله لوددت أني كنت أصم عن هجائه، أخرس عن جوابه ولم أبلغ من قومي ما بلغت، ثم قال:
ألم تر أني كرهت الحروب ... وأني ندمت على ما مضى
ندامة زارٍ على نفسه ... وتلك التي عارها يتقى
وأيقنت أني بما جئته ... من الأمر لابس ثوبي خزا
حياءً ومثلي حقيق به ... ولم يلبس الناس مثل الحيا
وكانت سليم إذا قدمت ... فتى للحوادث كنت الفتى
وكنت أفيء عليها النهاب ... وأبلي عليها وأحمي الحمى
ولم أوقد الحرب حتى رمى ... خفاف بأسهمه من رمى
فألهبت حرباً بأصبارها ... ولم أك فيها ضعيف القوى
قال القاضي: الاصبار: النواحي.
فإن تعطف اليوم أحلامها ... ويرجع من ودها ما نأى
فلست فقيراً إلى حربها ... ولا بي عن سلمها من غنى
فلما بلغت خفافاً قال: عرف والله العباس خطأ ما ركب، الآن لما فدحته الحرب واحتمل ثقل الدماء أنشأ يظهر الندامة، لا والله ما اختلفت الدرة والجرة حتى يبوء بعذرٍ أو يلبس ثوب ذلٍ، وقال:
أعباس إما كرهت الحروب ... فقد ذقت من حرها ما كفى
وألقحت حرباً لها درة ... زبوناً تسعرها باللظى
ولما ترقيت في غيها ... دحضت وزل بك المرتقى
وأصبحت تبكي على زلةٍ ... وماذا يرد عليك البكا
فإن كنت أخطأت في حربنا ... فلسنا مقيليك ذاك الخطا
وإن كنت تطمع في صلحنا ... فحاول ثبيراً وركني حرا
شرح النصقال القاضي أبو الفرج: قول العباس بن مرداس: وأخمصهم من أذاها بطناً: من المخمصة، وهي المجاعة، وخمص البطن اضطماره، يقال: بطن خميص، قال الله تعالى: " فمن اضطر في مخمصةٍ " المائدة:3 ومن الخمص قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:
تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم ... وجاراتكم غبر يبتن خمائصا
ويروى غرثى أي جياعاً. ويقال: امرأة خمصانة إذا دق خصرها. وقال الشاعر:
خمصانة قلق موشحها ... رود الشباب غلابها عظم
وقوله: منفضج البطن أراد خلوه من أذاها. وقوله: أفيء عليها النهاب أي أرده ويتجه في مدحه نفسه برده النهاب على قومه وجهان: أحدهما أن يستعيد ما انتهب من أموالهم فيرده عليهم، والآخر أنه يعف عن غنائمهم ولا يستأثر بها فيحويها لنفسه دونهم، كما قال عنترة:
يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ويقال: فاء الشيء إذا رجع. وأفاء الرجل الشيء على غيره أي رده عليه، قال الله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " الحشر: 7 أي ما رده؛ ومن الفيء قول امرئ القيس:
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي
والفيئة الرجعة. وقوله: ويرجع من ودها ما نأى، قد عطفه على قوله: فإن تعطف اليوم، ووجه الإعراب فيه الجزم، إذ هو معطوف على المجزوم على ما يجب في باب الجزاء إلا أنه لما لم يجد بداً من الحركة لتمام وزن البيت نوى النون الخفيفة كما قال الشاعر:
اضرب عنك الهموم طارقهاضربك بالسيف قونس الفرس وقد يحمل على إرادة أن وبمعنى الجمع " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " آل عمران:142 على ما بيناه في ما مضى من المجالس. وأما قول خفاف: الآن لما فدحته الحرب معناه أثقلته، كما قال الشاعر:
إذا لم تزل يوماً تؤدي أمانة ... وتحمل أخرى أفدحتك المغارم
وجاء في الأثر: لا يترك في الإسلام مفدح، فقيل: معناه الذي قد فدحه الدين وأثقله. وقال بعضهم في الرواية لا يترك مفدج بالجيم وقيل في تفسيره قولان: أحدهما أنه لا أحد يؤدي عنه من أهله، والآخر أنه الجاني الذي لا عشيرة له ولا عاقلة تعقله وتؤدي عنه عقل جنايته وأرش جريرته.
والدرة ما يحتلب، والجرة ما يجتر. وقوله: ألقحت حرباً لها درة أنها تدر وتتصل ويتبع بعض مكروهها بعضاً. وقوله: " زبوناً " أي تدفع ببأسها من أصابته، يقال: حرب زبون، والزبن: الدفع، ويقال زبنه أي دفعه، ومنه الزبانية، سموا بذلك لأنهم يزبنون أي يدفعون أهل النار فيها. قال الله تعالى: " يوم يدعون إلى نار جهنم دعا " الطور:13 أي يدفعون فيها دفعاً.
ويقال: ناقة زبون أي تدفع الجمال، قال الشاعر:
ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة من هذا، وهو بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر كيلاً، وكذلك بيع العنب بالزبيب، هو من دفع كل واحد من المتزابنين ما يبيعه إلى صاحبه.
كيف بدأت نقمة المأمون على يحيى بن أكثمحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أبو يوسف يعقوب بن بنان الكاتب قال حدثنا علي بن يحيى المنجم أن المأمون كان احتظى يحيى بن أكثم ورفع منزلته وخص به خاصةً باطنةً، فدخل عليه يوماً وهو يتغدى وعبد الوهاب بن علي إلى جانب المأمون، فسلم فرد عليه السلام ثم قال: هلم يا أبا محمد؛ يا غلام وضئه، قال: فخرج يحيى والطويلة على رأسه يتوضأ، فقال المأمون: أوسع لأبي محمدٍ، فأوسع له عبد الوهاب بينه وبين المأمون فغسل يده ودخل فوضع طويلته من غير إذنه، فقال المأمون لعبد الوهاب: عد إلى مكانك، وأقعد يحيى بين يديه، وكان ذلك بدء ما نقمه عليه.
لماذا كان عمر بن عبد العزيز كذلكحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أبو العباس، قال حدثنا عمر أبن شبة قال حدثنا ابن عائشة، قال سمعت أبي يقول: قيل ليحيى بن الحكم بن أبي العاص: ما بال عمر بن عبد العزيز ومولده مولده ومنشأه منشأه جاء على ما قد رأيت؟ فقال: إن أباه أرسله إلى الحجاز سوقة فكان يغضب الناس ويغضبونه، ويمخضهم ويمخضونه، ولقد كان الحجاج بن يوسف لا يعرف عربي أحسن منه أدباً فطالت ولايته، فكان لا يسمع إلا ما يحب، فمات وإنه لأحمق وسيئ الأدب.
حول أبي العتاهية وهو ينشدحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا عبد الله بن الضحاك قال: رأيت الناس في النفر وقد اجتمعوا على رجلٍ وهو ينشد، فدنوت فقلت: من هذا؟ فقيل: أبو العتاهية، وكان ينشد:
أجاب الله داعيك ... وعادى من يعاديك
كأن الشمس والبدر ... جميعاً في تراقيك
وفي فيك جنى النحل ... وما أحلاه من فيك
وقد شاع بأن الخ؟ ... ز يؤذيك ويدميك
وما يدريك من ذل؟ ... ك أسماء جواريك
ولا فاختة النخل ... من الطاووس والديك
تعالى الله ما أحس؟ ... ن ما براك باريك
فقال له رجل: يا شيخ أفي مثل هذا الموضع؟ قال: وما على من قضى حجه أن يشكو بثه ويصف من هويه.
؟؟
حسد إسحاق الموصلي للأصمعيحدثنا أحمد بن العباس العسكري، قال حدثنا عبد الله بن أبي سعدٍ، قال حدثني أحمد بن علي بن أبي نعيم قال: كان الرشيد يحب الوحدة، فكان إذا ركب حماره عادله الفضل بن الربيع، وكان الأصمعي يسير قريباً منه بحيث يحادثه، وإسحاق الموصلي على دابةٍ يسير قريباً من الفضل. فأقبل الأصمعي لا يحدث الرشيد شيئاً إلا سر به وضحك منه، فحسده إسحاق.
وكان فيما حدثه الأصمعي قال: يا أمير المؤمنين مررت على رجلٍ زانكي جالس على بابه قال: ويحك فما الزانكي؟ فوصفه له قال العسكري: هو الشارط قال: فقلت له : يا فتى أيسرك أنك أمير المؤمنين؟ قال: لا، قلت: ولم؟ قال: لا يدعوني أذهب حيث شئت، قال فقال الرشيد: صدق والله ما يدعونا نذهب حيث شئنا. قال: فاستضحك الرشيد. قال فقال إسحالق للفضل: ما يقول كذب، فقال الرشيد: أي شيء قال؟ فأخبره فغضب فقال: والله إن كان ما يقول كذباً إنه لأظرف الناس، وإن كان حقاً إنه لأعلم الناس فمكث بينهما شر دهراً من الدهر، فقال إسحاق:
أصيمع باهلي يستطيل النخار ومعاويةحدثنا أبو النضر العقيلي، قال حدثني عبيد الله اليزيدي قال حدثنا محمد بن حبيبٍ عن ابن الأعرابي قال: دخل النخار العذري النسابة على معاوية وعليه عباءة فكلمه فأعرض عنه، فقال: يا معاوية إن العباءة لا تكلمك، إنما يكلمك من فيها، فأقبل عليه.
رؤبة والنسابة البكريحدثنا عبد الله بن منصور الحارثي قال حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثنا أبو عثمان المازني بكر بن محمدٍ قال حدثنا الأصمعي عن العلاء بن أسلم قال: سمعت رؤبة بن العجاج يقول: أتيت النسابة البكري فقال لي: من أنت؟ قلت: رؤبة بن العجاج، فقال لي: قصرت وعرفت، لعلك من قوم عندي إن سكت عنهم لم يسألوني وإن حدثتهم لم يعوا عني، قال قلت: أرجو أن لا أكون كذلك، قال: فما أعداء المرء؟ قال قلت: لا أدري فأخبرني، قال بنو عم السوء إن رأوا قبيحاً أذاعوه وإن رأوا حسناً دفنوه. ثم قال لي: إن للعلم آفةً ونكداً وهجنة، فآفته نسيانه، ونكده الكذب فيه، وهجنته نشره عند غير أهله.
عافية بن يزيد القاضيحدثنا محمد بن الحسن بن زيادٍ المقرى قال حدثنا داود بن وسيم البوشنجي ببوشنج قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله عن عمه عبد الملك بن قريب الأصمعي أنه قال: كنت عند الرشيد يوماً فرفع إليه في قاضٍ كان استقضاه هو يقال له عافية، فكثر عليه فأمر بإحضاره فأحضر، وكان في مجلسه جمع كثير، فجعل أمير المؤمنين يخاطبه ويوقفه على ما رفع فيه، وطال المجلس، ثم إن أمير المؤمنين عطس فشمته من كان بالحضرة من قرب منه سواه فإنه لم يشمته، فقال له الرشيد: ما بالك لم تشمتني كما فعل القوم، فقال له عافية لأنك يا أمير المؤمنين لم تحمد الله عز وجل فلذلك لم أشمتك هذا النبي صلى الله عليه وسلم عطس عنده رجلان فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فقال: يا رسول الله ما بالك شمت ذاك ولم تشمتني؟ فقال: إن هذا حمد الله تعالى فشمتناه، وأنت فلم تحمده فلم أشمتك، فقال له الرشيد: ارجع إلى عملك، أنت لم تسامح في عطسةٍ، تسامح في غيرها؟ وصرفه منصرفاً جميلاً.
قال أبو بكر: هذا عافية بن يزيد الأودي قلده المهدي القضاء وأشرك بينه وبين محمد بن عبد الله بن علاثة الكلابي، قال أبو بكرٍ فأخبرنا عبد الله بن الحسن الخزاعي عن علي بن الجعد قال: رأيت محمد بن عبد الله وعافية بن يزيد وقد أشرك المهدي بينهما في القضاء يقضيان جميعاً.
؟التشميت والتسميت قال القاضي أبو الفرج: يقال لما يدعى به للعاطس سمت وشمت، وهو بالشين المعجمة أفصح في اللغة وأشهر في الرواية، وقيل إنه مأخوذ من قولهم: استأشمت الماشية في الرعي بمعنى أنها انبسطت فيه. وأما التسميت بالسين المهملة فكأنه أراد به الرفق والتسكين. وأخذ من السمت ومن القصد ومثله: رفوت فلاناً إذا رفقت به ولاينته كما قال الهذلي:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وقال بعضهم: التشميت مبادرة العاطس بالدعاء له، والمبادرة إلى تشميته كسرعة الشامت بالشماتة إلى من يشمت به. وقد ذكر أن بعض جلساء الرشيد شمت الرشيد وقد عطس، فقال له بعض الحاضرين: لا ينبغي أن تفعل مثل هذا، ولا تخاطب أمير المؤمنين بما يقتضي منه تكلف الرد، وأن بعضهم قال: أصاب المشمت السنة وأصاب المعترض عليه أدب المجالسة للسلطان.
قال القاضي أبو الفرج: قد أصاب المشمت في هذه القصة إصابةً مطلقةً لا خطأ فيها ولا شريطة، وأخطأ الراد عليه والمعتذر لمن نهاه والموبخ له، ولو كان الأمر على ما ذكره لكان ينبغي للناس ترك السلام على أئمتهم إذا دخلوا عليهم والكف عن تعزيتهم وتهنئتهم، وأحق من شمت ودعي في مواطن الدعاء له أمير المؤمنين، وأولى من سارع إلى تحية المسلم بأحسن منه تحيته أو مثلها كما أمر الله عز وجل وبادر بتأدية الفرض فيه وفي ما جرى مجراه من التشميت وغيره أئمة الدين. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد على من شمته من أمته وأهل ذمته ويشمت من عطس من المسلمين بحضرته، وروي أن اليهود كانوا يتعاطسون عنده رجاء أن يدعو لهم. وعلى نحو ما وصفنا مضت الأئمة الراشدون والسلف الصالحون والخلفاء المهديون. وذكر أن الحجاج بن يوسف قال للناس يوماً: بلغني أن أمير المؤمنين عبد الملك عطس فشمته من حوله فرد عليهم، فيا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً. وروى بعضهم أنه كتب بهذا القول والأمنية إلى عبد الملك. وأكثر من يشير في هذه الأمور بغير الحق من لا رأي له ولا أمانة ولا للأئمة عنده موالاة ولا نصيحة. وقد تجاوزوا هذا الحد إلى السعي فيما يقدح في المملكة ويشعث أسباب الخلافة، ولكن ما الحيلة إذا كان الرأي في يد من يملكه ويتمكن من تصريفه على هواه فيه دون من يعرفه ويضطلع في ترتيبه مرتبته وإنزاله منزلته ويؤثر الحق على نفسه وأقربيه ولا يخاف لومة لاثم.
قال القاضي: وما أتى في سنة العطاس وما ندب فيه العاطس وأرشد إليه وصفة التشميت والرد على المشمت من الآثار والرواية والاخبار ومنظوم الأشعار أكثر من أن يحيط امرؤ به في مثل هذا الموضع.
؟
المجلس الحادي والستون؟
حديث في أشراط الساعة
أخبرنا المعافى بن زكرياء قال: حدثنا محمد بن الحسن بن علي بن سعيد أبو الحسن الترمذي في صفر سنة سبع عشرة وثلاثمائة إملاءً من أصل كتابه، قال حدثنا أبو سعيد محمد بن الحسين بن ميسرة، قال حدثنا أبو بكر محمد بن أبي شعيب الخواتيمي، قال حدثنا إبراهيم بن مخلد عن سليم الخشاب مولى لبني شيبة قال أخبرني ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: لما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أخذ بحلقتي باب الكعبة ثم أقبل بوجهه على الناس فقال: يا أيها الناس فقالوا: لبيك يا رسول الله فدتك آباؤنا وأمهاتنا، ثم بكى حتى علا انتحابه فقال: يا أيها الناس إني أخبركم بأشراط القيامة، إن من أشراط القيامة إماتة الصلوات واتباع الشهوات والميل مع الهوى وتعظيم رب المال، قال فوثب سلمان فقال: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال إي والذي نفسي بيده، عندها يذوب الملح في الماء مما يرى، ولا يستطيع أن يغير، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال إي والذي نفسي بيده، إن المؤمن ليمشي بينهم يؤمئذٍ بالمخافة، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يكون المطر قيظاً والولد غيظاً، تفيض اللئام فيضاً، يغيض الكرام غيضاً، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، للمؤمن يومئذٍ أذل من الأمة، فعندها يكون المنكر معروفاً والمعروف منكراً ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، ويصدق الكذاب، ويكذب الصادق، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يكون أمراء جورة، ووزراء فسقة، وأمناء خونة، وإمارة النساء ومشاورة الأماء، وصعود الصبيان المنابر، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده يا سلمان، بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده يا سلمان، عندها يليهم أقوام إن تكلموا قتلوهم وإن سكتوا استباحوهم، ويستأثرون بفيئهم يطأون حريمهم ويجار في حكمهم يليهم أقوام جثاهم جثا الناس، قال القاضي أبو الفرج: هو هكذا في الكتاب، والصواب جثثهم جثث الناس وقلوبهم قلوب الشياطين لا يوقرون كبيراً ولا يرحمون صغيراً قال سلمان: بأبي أنت وأمي، وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، يا سلما، عندها تزخرف المساجد كما تزخرف الكنائس والبيع، وتحلى المصاحف، ويطيلون المنابر، وتكثر الصفوف، قلوبهم متباغضة وأهواؤهم جمة وألسنتهم مختلفة، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يأتي سبي من المشرق يلون أمتي فويل للضعفاء منهم، وويل لهم من الله، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يكون الكذب ظرفاً والزكاة مغرماً، وتظهر الرشا، ويكثر الربا، ويتعاملون بالعينة، ويتخذون المساجد طرقاً، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده يا سلمان، عندها تتخذ جلود النمور صفاقاً، وتتحلى ذكور أمتي بالذهب ويلبسون الحرير، ويتهاونون بالدماء، وتظهر الخمور والقينات والمعازف، وتشارك المرأة زوجها في التجارة؛ قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده يا سلمان، عندها يطلع كوكب الذنب وتكثر السيجان ويتكلم الرويبضة، قال سلمان: وما الرويبضة؟ قال يتكلم في العامة من لم يكن يتكلم، ويحتضن الرجل للسمنة، ويتغنى بكتاب الله تعالى ويتخذ القرآن مزامير، وتباع الحكم وتكثر الشرط؛ قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يحج أمراء الناس لهواً وتنزهاً، وأوساط الناس للتجارة، وفقراء الناس للمسألة، وقراء الناس للرياء والسمعة؛ قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يغار على الغلام كما يغار على الجارية البكر، ويخطب الغلام كما تخطب المرأة، ويهياً كما تهيا المرأة، وتتشبه النساء بالرجال وتتشبه الرجال بالنساء، ويكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وتركب ذوات الفروج السروج فعليهن من أمتي لعنة الله، قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يظهر قراء عبادتهم التلاوم بينهم، أولئك يسمون في ملكوت السماء الأنجاس والأرجاس؛ قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، تتشبب المشيخة، قال
قلت: وما تشبب المشيخة؟ قال: أحسبه ذهب من كتابي أن الحمرة هذا الحرف وحده خضاب الإسلام والصفرة خضاب الإيمان والسواد خضاب الشيطان قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يوضع الدين وترفع الدنيا ويشيد البناء وتعطل الحدود ويميتون سنتي، فعندها يا سلمان لا ترى إلا ذاماً ولا ينصرهم الله، قال: بأبي أنت وأمي وهم يومئذ مسلمون كيف لا ينصرون؟ قال: يا سلمان إن نصرة الله الأمر بالمعروف والنهي عن النكر، وإن أقواماً يذمون الله تعالى ومذمتهم إياه أن يشكوه وذلك عند تقارب الأسواق، قال: وما تقارب الأسواق؟ قال عند كسادها كل يقول: ما أبيع ولا أشتري ولا أربح، ولا رازق إلا الله تعالى. قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يعق الرجل والديه ويجفو صديقه، ويتحالفون بغير الله ويحلف الرجل من غير أن يستحلف ويتحالفون بالطلاق، يا سلمان لا يحلف بها إلا فاسق، ويفشو الموت موت الفجاءة ويحدث الرجل سوطه؛ قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها تخرج الدابة، وتطلع الشمس من مغربها، ويخرج الدجال وريح حمراء، ويكون خسف ومسخ وقذف ويأجوج ومأجوج وهدم الكعبة، وتمور الأرض، وإذا ذكر الرجل رؤي.ت: وما تشبب المشيخة؟ قال: أحسبه ذهب من كتابي أن الحمرة هذا الحرف وحده خضاب الإسلام والصفرة خضاب الإيمان والسواد خضاب الشيطان قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يوضع الدين وترفع الدنيا ويشيد البناء وتعطل الحدود ويميتون سنتي، فعندها يا سلمان لا ترى إلا ذاماً ولا ينصرهم الله، قال: بأبي أنت وأمي وهم يومئذ مسلمون كيف لا ينصرون؟ قال: يا سلمان إن نصرة الله الأمر بالمعروف والنهي عن النكر، وإن أقواماً يذمون الله تعالى ومذمتهم إياه أن يشكوه وذلك عند تقارب الأسواق، قال: وما تقارب الأسواق؟ قال عند كسادها كل يقول: ما أبيع ولا أشتري ولا أربح، ولا رازق إلا الله تعالى. قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها يعق الرجل والديه ويجفو صديقه، ويتحالفون بغير الله ويحلف الرجل من غير أن يستحلف ويتحالفون بالطلاق، يا سلمان لا يحلف بها إلا فاسق، ويفشو الموت موت الفجاءة ويحدث الرجل سوطه؛ قال سلمان: بأبي أنت وأمي وإن هذا لكائن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، عندها تخرج الدابة، وتطلع الشمس من مغربها، ويخرج الدجال وريح حمراء، ويكون خسف ومسخ وقذف ويأجوج ومأجوج وهدم الكعبة، وتمور الأرض، وإذا ذكر الرجل رؤي.
ابن عباس يتوقع أشراط الساعةحدثنا محمد بن الحسن الترمذي، قال حدثنا محمد بن شاذان الجوهري، قال حدثنا هوذة بن خليفة قال حدثنا ابن جريج قال حدثني ابن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس ذات يوم فقال: والله ما نمت حتى أصبحت، قال قلت: ولم ذاك؟ قال: قالوا طلع الكوكب ذو الذنب، خشيت أن يكون الدجال قد طرق، فوالله ما نمت حتى أصبحت.
مادة ش ر طقال القاضي أبو الفرج: قوله: أشراط القيامة يعني أعلامها وأماراتها قال الله تعالى: " فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها " محمد:18 يعني علاماتها، يقال أشرط الرجل نفسه أي وسمها بسيما وجعل لها علامة تعرف بها، قال أوس بن حجر
فأشرط فيها نفسه وهو معلم ... وألقى بأسبابٍ له وتوكلا
والواحد من الأشراط، وشرط المال رذاله، قال الشاعر:
وفي شرط المعزى لهن مهور
وقوله: يكثر السيجان وهي الطيالسة وأحدها ساج، ومثله تاج وتيجان ونار ونيران وجار وجيران، وقال بعض اللغويين: هي الخضر منها خاصة.
المؤلف يرى كثيراً من أشراط الساعة
قال القاضي أبو الفرج: وقد رأينا كثيراً من أشراط القيامة وأدركنا منها ما فيه عظة وكأنا بباقيها قد ردف ما فرط من ما ضيها، وحقيق على كل ذي مرة سوي وأخي دين رضي أن يبادر ما قد أظله بالتوبة وبحسن الإقلاع والإنابة، ويتأهب لما هو لاقيه لا محالة، ولا يضيع ما أنعم الله تعالى عليه من المهلة، ولا يغتر بالأماني الكاذبة، فإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، والغار نفسه بالتسويف بعد الزجر والتخويف لا يعذر، وفقنا الله وإياكم للجد فيما يرضيه، وعصمنا من ركوب معاصيه، وأعاننا على عدوه القاصد بكيده لضلالتنا، والحريص على غوايتنا واستزلالنا، برأفته.
خطبة عتبة في حجتهحدثنا محمد بن الحسن بن محمد بن دريد قال حدثنا أبو عثمان عن العتبي عن أبيه عن هشام بن صالح عن سعيد القصير قال: حج عتبة سنة إحدى وأربعين والناس قريب عهدهم بالفتنة، فصلى بمكة الجمعة ثم قال: يا أيها الناس إنا قد ولينا هذا المقام الذي يضاعف للمحسن فيه الأجر وعلى المسيء فيه الوزر، ونحن على طريق ما قصدنا، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا فإنها تنقطع دوننا، ورب متمن حتفه في أمنيته، فاقبلوا العافية ما قبلناها فيكم وقبلناها منكم. وإياكم ولو فإنها أتعبت من كان قبلكم ولن تريح من بعدكم، وأنا أسأل الله تعالى أن يعين كلاً على كل؛ قال فصاح به أعرابي: أيها الخليفة، فقال: لست به ولم تبعد، فقال: يا أخاه، فقال: قد أسمعت فقل، فقال: تالله إن تحسنوا وقد أسأنا خير من أن تسيئوا وقد أحسنا، فإن كان الإحسان لكم دوننا فما أحقكم باستتمامه، وإن كان منا فما أولاكم بمكافأتنا، رجل من بني عامر بن صعصعة يلقاكم بالعمومة، ويقرب إليكم بالخؤولة، قد كثره العيال ووطئه الزمان، وبه فقر وعنده شكر، فقال عتبة: أستغفر الله منكم وأستعينه عليكم، قد أمرت لك بغناك فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك.
قد بلغ السيل الزبىحدثنا محمد بن مزيد الخزاعي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا محمد بن الحسن قال: لما كثر الطعن على عثمان رضي الله عنه تنحى علي عليه السلام إلى ماله بينبع فكتب إليه عثمان: أما بعد فقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين وبلغ الأمر فوق قدره، وطمع في من لا يدفع عن نفسه.
فإن كنت مأكولاً فكن خيرا آكلٍ ... وإلا فأدركني ولما أمزق
قال ابن مزيد حدثني بهذا الحديث بعينه أحمد بن الحارث الخزاز عن أبي الحسن المدائني سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
ظلم آل علي أحب إلى الزبيرحدثنا ابن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال: كان الزبير إذا جاءه من ناحية ولد علي بن أبي طالب عليهم السلام أذى وجاءه من ناحية ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنهم مثله قال: والله لأن يظلمني آل علي أحب إلي وينشد:
وإن كنت مقتولاً فكن أنت قاتلي ... فبعض منايا القوم أكرم من بعض
تفسير ما تقدمقال أبو عبيدة: قوله: بلغ السيل الزبى فإنها زبى الأسد التي تحفر له، وإنما جعلت مثلاً في بلوغ السيل إليها لأنها إنما تجعل في الروابي من الأرض، ولا تكون في المنحدر، وليس يبلغها إلا سيل عظيم.
قال القاضي أبو الفرج رحمه الله: وقوله: وجاوز الحزام الطبيين يعني قد اضطرب من شدة السير حتى خلف الطبيين من اضطرابه، يضرب هذا المثل للأمر الفظيع الفادح الجليل: وأما قوله:
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكلٍ ... وإلا فأدركني ولما أمزق
فإن هذا بيت تمثل به لشاعر من عبد القيس جاهلي يقال له الممزق، وإنما سمي ممزقاً لبيته هذا، وقال الفراء الممزق.
قال القاضي أبو الفرج: ومن الزبية التي هي مصيدة الأسد قول الطرماح بن حكيم:
يا طيء السهل والأجبال موعدكم ... كبمتغي الصيد أعلى زبية الأسد
وقال الراجز:
قد كنت في الأمر الذي قد كيدا ... كاللذ تزبى زبية فاصطيدا
اللذ: لغة في الذي. ومن العرب من يقول اللذ بكسر الذال من غير إثبات ياء كما قال الشاعر:
واللذ لو يكنى لكانت برا ... أوجبلاً أشم مشمخرا
ويقال من هذه اللغة يعني الذ مسكنة الذال، في المؤنث اللت، قال الشاعر:
فقل للت تلومك إن نفسي ... أراها لا تعلل بالنمير
والزبية على ما بينا لا تتخذ إلا في قلة رابيةٍ أو رأس قلعةٍ أو هضبة، قال العجاج: وقد علا السيل الزبى فلا غير أي جل الأمر عن التلافي والإصلاح للتغيير، وقيل إن الغير هاهنا الديات، والمعنى لكثرة القتل. ومن الغير بمعنى الديات قول هدبة بن الخشرم:
لنجد عن أنوفاً من أنوفكم ... بني أمية أن لا تقبلوا الغيرا
والعرب تقول في شدة الأمر تفاقمه واستشراء الشر وتعاظمه: قد علا الماء الزبى، وانقد في البطن السلى، وبرح الخفا، وحلت الحبا، وبلغ السكين العظيم، والتقت حلقتان البطان، وهو مضارع لقولهم: بلغ الحزام الطبيين، قال أوس بن حجر:
وازدحمت حلقتا البطان بأق؟ ... وام وطارت نفوسهم جزعا
ومن أفصح ما أتى في هذا المعنى ما جاء القرآن به وذلك قوله عز وجل: " والتفت الساق بالساق " القيامة:29 وقال الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق
والطبيان تثنية طبي وجمعه أطباء، ويقولون: التقت حلقتا البطان والحقب، ومنه:
أشدد بمثنى حقبٍ حقواها
ويقال حقب البعير إذا صار الحزام في الحقب، قال الشاعر:
إذا ما حقب جال ... شددناه بتصدير
والأطباء موضع الثدي من السباع، ويقال لذلك الموضع من ذوات الخف والظلف أخلاف والواحد خلف، قال ابن عبدل:
وأحلب الثرة الصفي ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا
؟
عتاب بين علي وعثمانوحدثني عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي قال حدثنا أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي قال: ويروى عن قنبر مولى علي قال: دخلت مع علي على عثمان فأحبا الخلوة فأومى إلي علي بالتنحي فتنحيت غير بعيد، فجعل عثمان يعاتب علياً وعلي مطرق، فأقبل عليه عثمان فقال: مالك لا تقول؟ قال: إن قلت لم أقل إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا ما تحب؛ قال أبو العباس: تأويل ذلك أني إن تكلمت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به علي فلذعك عتابي، وعقدي أن لا أفعل وإن كنت عاتباً إلا ما تحب.
تأويل المؤلف لمعنى العتابقال القاضي أبو الفرج: هذا الذي تأوله أبو العباس وجه مفهوم، وفي هذا القول تأويل آخر، وهو أن يكون أراد أنه إن شرع في مخاطبته بما استدعي أن يخاطبه فيه ذكر له أنه أتى بخلاف الأصوب عنده، وترك ما كان الأولى به أن يفعله، إلا أنه لإشفاقه عليه مع إيثاره النصيحة له آثر محبته وكره إظهار ما فيه تثريب عليه أو لائمة له، وهذا التأويل عندي أصح من تأويل أبي العباس، وقد ورد في معناه ما يشهد لما وصفناه في القصة التي ذكرنا.
عثمان يشكو علياً إلى ابن عباس حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا عبد الرحمن بن منصور قال حدثنا العتبي عن أبيه قال: بعث عثمان بن عفان إلى ابن عباس وهو محصور عنده مروان بن الحكم، فقال عثمان: يا ابن عباس أما ترى إلى ابن عمه عمك كان الأمر في بني يتم وعدي فرضي وسلم حتى إذا صار الأمر إلى ابن عمه بغاه الغوائل، قال ابن عباس فقلت له: والله إن ابن عمي ما زال عن الحق ولا يزول، ولو أن حسناً وحسيناً بغيا في دين الله الغوائل لجاهدهما في الله حق جهاده، ولو كنت كأبي بكر وعمر لكان لك كما كان لأبي بكر وعمر بل كان لك أفضل لقرابتك ورحمك وسنك، ولكنك ركبت المر وهاباه. قال ابن عباس: فاعترضني مروان فقال: دعنا من تخطئتك يا ابن عباس فأنت كما قال الشاعر:
دعوتك للعتاب ولست أدري ... أمن خلفي المنية أم أمامي
فشققت الكلام رخي بالٍ ... وقد جل الفعال عن الكلام
إن يكن عندك لهذا الرجل غياث فأغثه، وإلا فما أشغله عن التفهم لكلامك والفكر في جوابك، قال ابن عباس، فقلت له: هو والله كان عنك وعن أهل بيتك أشغل إذ أوردتموه ولم تصدروه، ثم أقبلت على عثمان رضي الله عنه فقلت له:
جعلت شعار جلدك قوم سوءٍ ... وقد يجزى المقارن بالقرين
فما نظروا لدنيا أنت فيها ... بإصلاحٍ وما نظروا لدين
ثم قلت له: إن القوم والله غير قابلين إلا قتلك أو خلعك، فإن قتلت على ما قد علمت وعملت، وإن تركت فإن باب التوبة مفتوح.
قال القاضي أبو الفرج: فقد أنبأ هذا الخبر أن أصح التأويلين في ما قاله علي لعثمان في الخبر المتقدم هو ما وصفنا.
حق العالم على غيره
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أبي قال حدثنا أحمد بن عبيد قال أخبرنا ابن الأعرابي وسهل بن هارون قال، قال علي بن أبي طالب عليه السلام: من حق العالم أن لا تكثر عليه السؤال ولا تعنته في الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا نفشي له سراً، ولا تغتاب عنده أحداً، وأن تجلس أمامه، وإذا أتيته خصصته بالتحية وسلمت على القوم كافة، وأن تحفظ سره ومغيبه ما حفظ أمر الله عز وجل؛ فإنما العالم بمنزلة النخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء، والعالم أفضل من الصائم القائم الغازي في سبيل الله تعالى، وإذا مات العالم شيعه سبع وسبعون ألفاً من مقربي السماء وإذا مات العالم انثلم بموته في الإسلام ثلمة لا تسد إلى يوم القيامة.
؟
ليلة قرحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال حدثنا أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي عن أبيه قال: أدخلت إلى الرشيد يوماً فقال لي: أنشدني في شدة البرد فأنشدته لابن محكان السعدي:
في ليلة من جمادى ذات أنديةٍ ... لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا
ما ينبح الكلب فيها غير واحدةٍ ... حتى يلف على خرطومه الذنبا
قال القاضي: وقد روي على خيشومه.
فقال هات غير هذا، فأنشدته:
وليلة قرٍ يصطلي القوس ربها ... وأقدحه اللائي بها يتنبل
فقال لي ما بعد هذا شيء. قال الصولي وأنشدني عبد الله بن المعتز لنفسه:
وليلٍ يود المصطلون بناره ... لو أنهم حتى الصباح وقودها
رفعت لها ناري لمن يبتغي القرى ... على شرفٍ حتى أتتها وفودها
شرح وتوضيح قال القاضي: قول انب محكان ذات أندية: ذكر جمهور أهل العلم أن جمع الندى، أنداء على أفعال وأنه الباب في هذا النوع من المقصور، وأن الباب في الممدود من جنسه على أفعلة ومنه حشا وأحشاء وطلا وأطلاء وأما الممدود فمنه عطاء وأعطية وخلاء وأخلية وقباء وأقبية، ألا ترى أنهم يقولون هوى في هوى النفس مقصور ويجمعونه أهواء، قال الله تعالى ذكره: " واتبعوا أهواءهم " محمد: 14،16 وقالوا في جمع هواء الجو الممدود أهوية، وأن أندية في بيت ابن محكان شذ عن القياس. وزعم بعضهم أن أندية في هذا البيت جمع نادٍ وهو المجلس، وأن المعنى أنهم كانوا يجلسون في النادي يصطلون عند شدة البرد، وأن ذلك بمنزلة قولهم وادٍ وأودية، وقيل إنه جمع ندي وهو مثل النادي، وأنكر هؤلاء جمع الندى الذي هو في معنى الطل أندية.وقد زعم الفراء في قول الله تعالى: " وأحسن ندياً " مريم: 73 أن الندي تجمع أندية والنادي نوادي القوم، وقال: ولو جمعت الندى نوادي والنادي أندية كان صواباً لأن معناهما واحد.
قال القاضي أبو الفرج: يتجه صرف الأندية في بيت ابن محكان إلى وجه يطرد في القياس جمعه على أفعلة لكن المعنى الظاهر أنه عنى به يبطل أو يتشعث، والذي عندي في هذا أنهم جمعوا الندى بمعنى الطل أنداء على أصله وقياسه ذو أندية على الشذوذ وإدخاله في غير بابه، كما قالوا في جمع رحى أرحاء على القياس وأرحية على الشذوذ، والباب في الجمع أحد الأبواب التي أخرج على القياس وأرحية على الشذوذ، والباب في الجمع أحد الأبواب التي أخرج كثير منها عن أصل قياسه وألحق بغير بابه. ومن الأندية بمعنى المجالس قول الشاعر:
يومان يوم مقامات وأنديةٍ ... ويوم سيرٍ إلى الأعداء تأويب
التأويب: سير النهار، والسرى: سير الليل، والإساد: سير الليل والنهار، هذا قول محققي أهل اللغة في هذه الفصول التي ذكرناها في هذا الباب من الجمع. وقد استقصينا القول فيها وفيما يضارعها وفي البيت الذي أنشدناه في بيت ابن محكان في موضع غير هذا، وأتينا فيهما بما لم نر لإعادته في هذا الموضع وجهاً، وقد روينا خبراً في هذه القصة وفيها أبيات لابن محكان عدة وفي أولها:
يا ربة البيت قومي غير صاغرةٍ ... ضمي إليك رجال القوم والقربا
ولعلنا أن نورد هذه الرواية فيما بعد إن شاء الله تعالى.
المجلس الثاني والستون
يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيت
أخبرنا المعافى قال حدثنا إبراهيم بن الفضل الحلواني سنة سبع عشرة وثلاثمائة قال حدثنا أحمد بن حازم الكوفي قال حدثنا عبيد الله بن موسى قال حدثنا شيبان عن ليث عن شهر بن حوشب الأشعري عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله قال: إن الله عز وجل يقول يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيت، فاستغفروني أغفر لكم، ومن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني بقدرتي غفرت له ذنوبه، وكلكم ضال إلا من هديت فسلوني أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني أرزقكم، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على إشقاء قلب عبدٍ من عبادي لم ينقص ملكي جناح بعوضة، ولو أن حيكم وميتكم وأولكم وآخركم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا فسأل كل سائل ما بلغت أمنيته فأعطيت كل سائل ما سأل لم ينقص ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر على شفة البحر فغمس فيه إبرة ثم انتزعها، وذلك بأني جواد واجد أفعل ما أشاء، عطائي كلام، وعذابي كلام، إذا أردت شيئاً فإنما أقول له كن فيكون.
تعليق على الحديثقال القاضي أبو الفرج: في هذا الخبر ما يبعث على التفكر في عظمة الله ورأفته ورحمته وسعة ملكه وجوده وكرمه، ويدعو إلى توجيه كل راغب إليه رغبته ومسألته ومغفرته وانزاله كل حاجة به ثقة بتفضله وإيماناً بأنه الملك الأعز الأكرم وحده الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وأنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وأن الفضل كله بيده، اللهم فاغفر لنا ذنوبنا واستر عيوبنا واكشف كروبنا وطهر قلوبنا فقد فرطنا في أمورنا وظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم وأجرنا من سخطك واعصمنا من معصيتك ووفقنا لطاعتك وأعنا على عبادتك وأوزعنا شكر نعمتك وألهمنا ذكرك، ويسر لنا الحلال الطيب من رزقك وألبسنا عافيتك وافتح لنا أبواب فضلك وأحينا متقلبين في نعمك منعمين بخيرك واختم لنا خير خاتمة وأكرمنا بحسن المنقلب، واجعل قبضك إيانا راحةً لنا من فتن الدنيا ومهالكها ومفضياً بنا إلى روح الجنة وممالكها، إنك جواد كريم رؤوف رحيم.
وصية عبد الملك لأبنائهحدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن العتبي قال: لما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة جمع ولده وفيهم مسلمة وكان سيدهم فقال: أوصيكم بتقوى الله تعالى فإنها عصمة باقية وجنة واقية، وهي أحصن كهفٍ وأزين حلية، وليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير منكم حق الكبير، مع سلامة الصدور، والأخذ بجميل الأمور، وإياكم الفرقة والخلاف فبهما هلك الأولون، وذل ذوو العزة المعظمون. انظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه نابكم الذي عنه تفترون ومجنكم الذي به تستجنون، وأكرموا الحجاج فإنه وطأ لكم المنابر وأثبت لكم الملك، وكونوا بني أم برزة وإلا دبت بينكم العقارب، كونوا في الحرب أحراراً وللمعروف مناراً، واحلولوا في مرارةٍ، ولينوا في شدة، وضعوا الذخائر عند ذوي الحساب والألباب، فإنه أصون لأحسابهم وأشكر لما يسدى إليهم. ثم أقبل على ابنه الوليد فقال: لا ألفينك إذا مت تجلس تعصر عينيك وتحن حنين الأمة، ولكن شمر وائتزر والبس جلدة نمر ودلني في حفرتي وخلني وشأني وعليك وشأنك، ثم ادع الناس إلى البيعة فمن قال هكذا فقل بالسيف هكذا. ثم أرسل إلى عبد الله ابن يزيد بن معاوية وخالد بن أسيد فقال: هل تدريان لم بعثت إليكما؟ قالا: نعم لترينا أثر عافية الله تعالى إياك، قال: لا، ولكن قد حضر من الأمر ما تريان، فهل في أنفسكما من بيعة الوليد شيء؛ فقالا: لا، والله ما نرى أحداً أحق بها منه بعدك يا أمير المؤمنين، وقال: أولى لكما، أما والله ولو غير ذلك قلتما لضربت الذي فيه أعينكما، ثم رفع فراشه فإذا السيف مشهور، ولم يزل بين مقالتين حتى فاظ، مقالته الأولى:
فهل من خالدٍ إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
ومقالته الثانية: الحمد لله الذي لا يبالي من أخذ من خلقه أو ترك، صغيراً أو كبيراً، حتى مات، فسجاه الوليد، وكان هشام أصغر ولده فقال:
وما كان قيس هلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما
فلطمه الوليد ثم قال له: اسكت يا ابن إلا شجعية فإنك أحول أكشف، تنطق بلسان شيطان، ألا قلت:
إذا مقرم منا ذرى حد نابه ... تخمط منا ناب آخر مقرم
فقال مسلمة: إياكم والضجاج فإنكم إن صلحتم صلح الناس، وإن فسدتم كان الفساد أسرع، ثم قال:
لقد أفسد الموت الحياة وقد أتى ... على شخصه يوم علي عصيب
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلي فقد عادت لهن ذنوب
أتى دون حلو العيش حتى أمره ... نكوب على آثارهن نكوب
فقال سليمان: مات والله أمير المؤمنين وصار في منزلة هو فيها والذليل الضعيف سواء. ثم صعد المنبر الوليد فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون يا لها مصيبة ما أعظمها وأفظعها، وأخصها وأعمها وأوجعها، موت أمير المؤمنين، ويا لها نعمةً ما أعظمها وأجسمها وأوجب الشكر علي لله فيها: خلافته التي سربلنيها. فكان أول من عزى نفسه وهنأها بالخلافة. ثم قال: انهضوا رحمكم الله فبايعوا على بركة الله. فلما بايعه الناس جلس مجلس عبد الملك وجمع أهل بيته ثم قال:
ألقوا الضغائن والتحاسد بينكم ... عند المغيب وفي الحضور الشهد
بصلاح ذات البين طول بقائكم ... إن مد في عمري وإن لم يمدد
فلمثل ريب الدهر ألف بينكم ... بتواصلٍ وتراحمٍ وتودد
وانفوا الضغائن والتخاذل عنكم ... بتكرمٍ وتوازرٍ وتغمد
حتى تلين جلودكم وقلوبكم ... لمسودٍ منكم وغير مسود
إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو حنقٍ وبطش أيد
عزت فلم تكسر وإن هي بددت ... فالوهن والتكسير للمتبدد
شروح وتعليقاتقال القاضي: قوله: تحن حنين الأمة، الحنين: البكاء، وقيل صوت البكاء، كما قال الشاعر:
فلا تبكوا علي ولا تحنوا ... بقول الإثم إن الإثم حوب
وأما تمثل هشام بالبيت الذي ذكرناه فإنه لعبدة بن الطبيب قاله في قيس ابن عاصم يرثيه في شعرٍ له وهو:
عليك سلام الله قيس بن عاصمٍ ... ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من أسديته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما
ويروى: هلك واحدٍ، رفعاً ونصباً، فمن نصب فعلى أنه خبر كان، وجعل قوله هلكه بدلاً من قيس، البدل المعروف بالاشتمال لاشتماله على المعنى، كقولك أعجبني عبد الله علمه؛ المعنى: أعجبني علم عبد الله.
قال الله تعالى: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه " البقرة: 217 المعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام. ومن هذا النوع قول الأعشى بهجو الحارث بن وعلة:
لعمرك ما أشبهت وعلة في الندى ... شمائله ولا آباه المجالدا
المعنى: شمائل وعلة؛ والبدل في الكلام له أقسام وفروع وأحكام، والكوفيون يعبرون عن هذا الباب بالتكرير والترجمة والإتباع، ولبسطه وشرحه موضع هو أولى به، وقد ذكرناه في غير موضع من كتبنا وضمنا طرفاً منه في كتابنا المسمى الشافي في طهارة الرجلين.
؟
حوار بين ابن الزبير وابن عباسحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال أخبرنا أبو عكرمة الضبي عامر بن عمران قال أخبرنا العتبي عن أبيه قال: لما خرج الحسين بن علي عليهما السلام إلى الكوفة اجتمع ابن عباسٍ وعبد الله بن الزبير بمكة، قال: فضرب ابن عباس على جنب ابن الزبير وتمثل:
يا لك من قبرةٍ بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
خلا والله يا ابن الزبير الحجاز وصار الحسين إلى العراق؛ قال فقال
ابن الزبير لابن عباس: والله ما ترون إلا أنكم أحق بهذا الأمر من سائر الناس، فقال له ابن عباس: إنما يرى من كان في شكٍ، فأما نحن فمن ذلك على يقين، ولكن أخبرني عن نفسك: لم زعمت أنك أحق بهذا الأمر من سائر العرب؟ قال ابن الزبير: لشرفي عليهم قديماً لا ينكرونه، قال: فأيما أشرف أنت أم من شرفت به؟ قال: إن الذي شرفت به زادني شرفاً. قال: وعلت أصواتهما، فقال ابن أخ لعبد الله بن الزبير: يا ابن عباس دعنا من قولك فو الله لا تحبونا يا بني هاشم أبداً، قال: فخفقه عبد الله بن الزبير بالنعل وقال: أتتكلم وأنا حاضر؟، فقال له ابن عباس: لم ضربت الغلام وما استحق الضرب وإنما يستحق الضرب من مرق ومذق؟ قال: يا ابن عباس أما تريد أن تعفو عن كلمة وأحدةٍ؟ قال: إنما نعفو عن من أقر فأما من هر فلا؛ قال: فقال ابن الزبير: فأين الفضل؟ قال ابن عباس: عندنا أهل البيت لا نضعه في غير موضعه فنندم، ولا نزويه عن أهله فنظلم، قال: أولست منهم؟ قال: بلى إن نبذت الحسد ولزمت الجدد؛ قال: فاعترض بينهما رجال من قريش فأسكتوهما.
قصة جحدر اللص والحجاج والأسدحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال أخبرني أحمد بن عبيدٍ عن أبي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي قال: بلغني أنه كان رجل من بني حنيفة يقال له جحدر بن مالك فتاكاً شجاعاً قد أغار على أهل حجرٍ وناحيتها، فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف، فكتب إلى عامله باليمامة يوبخه بتلاعب جحدر به، ويأمره بالاجداد في طلبه والتجرد في أمره؛ فلما وصل الكتاب إليه أرسل إلى فتيةٍ من بني يربوع من بني حنظلة فجعل لهم جعلاً عظيماً إن هم قتلوا جحدراً أو أتوا به أسيراً، فانطلق الفتية حتى إذا كانوا قريباً منه أرسلوا إليه أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحرز به، فاطمأن إليهم ووثق بهم، فلما أصابوا منه غرةً شدوه كتافاً وقدموا به على العامل، فوجه به معهم إلى الحجاج وكتب يثني عليهم خيراً، فلما أدخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال: أنا جحدر بن مالك، قال: ما حملك على ما كان منك؟ قال: جرأة الجنان، وجفاء السلطان، وكلب الزمان، فقال له الحجاج: وما الذي بلغ منك فيجترى جنانك ويجفوك سلطانك ويكلب زمانك؟ قال: لو بلاني الأمير أكرمه الله لوجدني من صالح الأعوان وبهم والفرسان، ولوجدني من أنصح رعيته، وذلك أني مالقيت فارساً قط إلا كنت عليه في نفسي مقتدراً، قال له الحجاج: إنا قاذفون بك في حائرٍ فيه أسد عاقر ضارٍ فإن هو قتلك كفانا مؤونتك، وإن أنت قتلته خلينا سبيلك؛ قال: أصلح الله الأمير، عظمت المنة، وأعطيت المنية، وقويت المحنة، فقال الحجاج: فإنا لسنا بتاركيك لتقاتله إلا وأنت مكبل بالحديد، فأمر به الحجاج فغلت يمينه إلى عنقه وأرسل به إلى السجن. فقال جحدر لبعض من يخرج إلى اليمامة: تحمل عني شعراً، وأنشأ يقول:
ألا قد هاجني فازددت شوقاً ... بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحن أعجمي ... على غصنين من غربٍ وبان
فقلت لصاحبي وكنت أحزو ... ببعض الطير ماذا تحزوان
فقالا الدار جامعة قريب ... فقلت بل انتما متمنيان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير داني
أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك بنا تداني
بلى وترى الهلال كما نراه ... ويعلوها النهار إذا علاني
إذا جاوزتما نخلات حجرٍ ... وأودية اليمامة فانعياني
وقولا جحدر أمسى رهيناً ... يحاذر وقع مصقول يماني
قال: وكتب الحجاج إلى عامله بكسكر أن يوجه إليه بأسدٍ ضارٍ عاتٍ ويجر على عجل؛ فلما ورد كتابه على العامل امتثل أمره، فلما ورد الأسد على الحجاج أمر به فجعل في حائرٍ وأجيع ثلاثة أيام، وأرسل إلى جحدر فأتي به من السجن ويده اليمنى مغلولة إلى عنقة، وأعطي سيفاً والحجاج وجلساؤه في منظرةٍ لهم، فلما نظر جحدر إلى الأسد أنشأ يقول:
ليث وليث في محلٍ ضنك ... كلاهما ذو أنفٍ ومحك
وشدةٍ في نفسه وفتك ... إن يكشف الله قناع الشك
أو ظفر بحاجتي ودركي ... فهو أحق منزل بترك
فلما نظر إليه الأسد زأر زأرة شديدة وتمطى وأقبل نحوه، فلما صار منه على قدر رمح وثب وثبة شديدةً، فتلقاه جحدر بالسيف فضربه ضربةً حتى خالط ذباب السيف لهواته، فخر الأسد كأنه خيمة قد صرعتها الريح، وسقط جحدر على ظهره من شدة وثبة الأسد وموضع الكبول، فكبر الحجاج والناس جميعاً،وأنشأ جحدر يقول:
يا جمل إنك لو رأيت كريهتي ... في يوم هولٍ مسدف وعجاج
وتقدمي لليث أرسف موثقاً ... كيما أثاوره على الإحراج
شثن براثنه كأن نيوبه ... زرق المعاول أو شباة زجاج
يسمو بناظرتين تحسب فيهما ... لما أحدهما شعاع سراج
وكأنما خيطت عليه عباءة ... برقاء أو خرق من الديباج
لعلمت أني ذو حفاظٍ ماجد ... من نسل أقوام ذوي أبراج
ثم التفت إلى الحجاج فقال:
ولئن قصدت بي المنية عامداً ... إني بخيرك بعد ذاك لراجي
ويروى: إني لخيرك يا ابن يوسف راج.
علم النساء بأنني لا أنثني ... إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
وعلمت أني إن كرهت نزاله ... أني من الحجاج لست بناج
فقال له الحجاج: إن شئت أسنينا عطيتك، وإن شئت خلينا سبيلك، قال: لا، بل اختار مجاورة الأمير، أكرمه الله. ففرض له ولأهل بيته وأحسن جائزته.
قال القاضي: مسدف: مظلم من السدفة، والرسف: مشي المقيد، والبرائن: مخالب الأسد. والشبا والشباة: حد الأسنة، قال أبو بكرٍ: البرقاء التي فيها سواد وبياض.
المأمون يترحم على ابن أبي خالدحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: سمعت جرير بن أحمد بن أبي دواد يحكي عن أبيه أن أحمد بن أبي خالدٍ وزير المأمون توفي في آخر سنة اثنتي عشرة ومائتين، وأن المأمون صلى عليه ووقف على قبره فلما دلي في قبره قال: رحمك الله، أنت والله كما قال الشاعر:
أخو الجد إن جد الرجال وشمروا ... وذو باطلٍ إن كان في القوم باطل
سعة علم المأمونحدثنا عبد الباقي بن قانعٍ قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا عثمان بن عمران العجيفي عن محمد بن سعدٍ قال حدثني محمد بن حفص الأنماطي قال: تغدينا مع المأمون في يوم عيدٍ، قال: وأظنه وضع على مائدته أكثر من ثلاثمائة لونٍ، قال: فكلما وضع لون نظر المأمون إليه فقال: هذا نافع لكذا ضار لكذا، فمن كان منكم صاحب بلغم فليجتنب هذا، ومن كان منكم صاحب بلغم فليجتنب هذا، ومن كان منكم صاحب صفراء فليأكل من هذا، ومن غلبت عليه السوداء فلا يعرض لهذا، ومن قصد قلة الغذاء فليقتصر على هذا. قال: فو الله إن زالت تلك حاله في كل لونٍ يقدم إليه حتى رفعت الموائد، فقال له يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته، أو في النجوم كنت هرمس في حسابه، أو في الفقه كنت علي بن أبي طالب عليه السلام في علمه، أو ذكر السخاء كنت حاتم طيء في صفته، أو صدق الحديث فأنت أبو ذرٍ في لهجته، أو الكرم فأنت كعب بن مامة في فعاله، أو الوفاء فأنت السموأل ابن عاديا في وفائه. فسر بهذا الكلام وقال: يا أبا محمد إن الإنسان إنما فضل بعقله، ولولا ذلك لم يكن لحم أطيب من لحمٍ ولا دم أطيب من دمٍ.
ميل المأمون إلى التواضعقال: ونظر يوماً إلى رؤوس آنيته محشوةً بقطنٍ وكانت قبل ذلك بأطباق فضةٍ، فقال لصاحب الشراب: أحسنت يا بني إنما يباهي بالذهب والفضة من قلا عنده، وأما نحن فينبغي أن نباهي بالأفعال الجميلة والأخلاق الكريمة، فإياك أن تحشو رؤوس أوانيك إلا بالقطن فذاك بالملوك أهيأ وأبهى.
ولد لأبي دلامة ابنةحدثنا أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا عبد الله بن أبي سعدٍ قال حدثنا يحيى بن خليفة بن الجهم الدارمي قال حدثني محمد بن حفص المعجلي قال: ولد لأبي دلامة ابنة فغدا على أبي جعفر المنصور فقال له: يا أمير المؤمنين إنه ولد لي الليلة ابنة، قال: فما سميتها؟ قال: أم دلامٍ. قال: وأي شيء تريد؟ قال: أريد أن يعينني عليها أمير المؤمنين، ثم أنشده:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس
ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلكم ... إلى السماء فأنتم أكرم الناس
قال: فهل قلت فيها شيئاً؟ قال: نعم، قلت:
فما ولدتك مريم أم عيسى ... ولم يكفلك لقمان الحكيم
ولكن قد تضمك أم سوءٍ ... إلى لباتها وأب لئيم
قال: فضحك أبو جعفر، ثم أخرج أبو دلامة خريطةً من خرق فقال: ما هذه؟ قال: يا أمير المؤمنين أجعل فيها ما تحبوني به، فقال: املؤوها له دراهم فوسعت ألفي درهم.
إياس دخل الشام وهو غلامحدثنا محمد بن الحسن بن زيادٍ المقري قال حدثنا مسبح بن حاتم بالبصرة قال حدثنا عبد الله بن عائشة عن أبيه قال: دخل إياس بن معاوية الشام وهو غلام، فقدم خصماً له إلى قاض لعبد الملك بن مروان، وكان خصمه شيخاً صديقاً للقاضي، فقال له القاضي: يا غلام أما تستحي أن تقدم شيخاً كبيراً؟! قال إياس: الحق أكبر منه، قال له: اسكت، قال له: فمن ينطق بحجتي إذا سكت؟ قال: ما أحسبك تقول حقاً حتى تقوم، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: ما أظنك إلا ظالماً، قال: ما على ظن القاضي خرجت من منزلي. فدخل القاضي على عبد الملك فأخبره الخبر فقال له: اقض حاجته واصرفه عن الشام لا يفسد الناس علينا.
كرم إبراهيم بن عاصم العقيليحدثنا محمد بن أحمد بن علي الإسكافي حدثني جدي قال وحدثني أبو محلم قال: كان هشام بن عبد الملك ولى سجستان إبراهيم بن عاصم العقيلي، وكان من كرماء الناس، فقال فيه علكم بن مهير العقيلي:
أما قبيحات النساء فإننا ... أبينا، وأما منجبات الكرائم
فيمنعني منهن أن ليس عندنا ... لهن مهور أو يزار ابن عاصم
قال: فحمل إليه من سجستان قبل أن ينزع إليه مائة ألف درهمٍ.
أنواع المفاتيححدثنا محمد بن الحسن النقاش قال حدثنا السراج قال حدثنا داود بن رشيد قال حدثنا الوليد بن مسلمٍ قال حدثني خليد بن دعلج عن قتادة قال: مفاتيح البحر السفن، ومفاتيح الأرض الطرق، ومفاتيح السماء الدعاء.
ضوال الكلام وضوال الإبلحدثنا علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو العباس محمد بن يزيد قال، قال بعض الحكماء: ضوال الكلام أحب إلي من ضوال الإبل، قيل له: نحو ماذا؟ قال: نحو قول الشاعر:
وإني لأرجو الله حتى كأنما ... أرى بجميل الظن ما الله صانع
وصف دعوة مظلومحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال أنشدنا أبو إسحاق إبراهيم بن المدبر قال أنشدني محمد بن عمر الجرجاني قال أنشدني إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال الصولي: وأنشدنا أحمد بن يحيى ولكنه قال: أنشد إسحاق لأعرابي يصف دعوةً دعا بها مظلوم:
وساريةٍ لم تسر في الأرض تبتغي محلاً ... ولم يقطع بها البعد قاطع
سرت حيث لم تحد الركاب ولم تنخ ... لوردٍ ولم يقصر لها القيد مانع
تمر مرور الليل والليل ضارب ... بجثمانه فيه سمير وهاجع
إذا وردت لم يردد الله وفدها ... على أهلها والله راء وسامع
تفتح أبواب السموات دونها ... إذا قرع الأبواب منهن قارع
وإني لأرجو الله حتى كأنما ... أرى بجميل الظن ما الله صانع
المؤتمن يتعلم النحوحدثنا العباس بن العباس بن المغيرة أبو الحسين الجوهري حدثني محمد بن موسى الواسطي الفراقي قال أبو الحسين: الفراقي هذا كان نظير ثعلب، قال حدثني سلمة أو الطوال شك أبو الحسين قال حدثني الفراء أنه دخل على المؤتمن وكان قريش مؤدبه فقال له الفراء: أين بلغ الأمير؟ يعني من العربية فقال: سله، فقال له الفراء: كيف تقول: إن ما ضربت زيد؟ فقال له المؤتمن: إنما ضربت زيد، فقال الفراء: يجمل بالأمير النظر فيها، ولم يقل له أخطأت، فقال: قد أصبت، فقال له الفراء: وأين توجد ما في معنى الذي؟ قال: في كتاب الله تعالى، قال: أين؟ قال: قول الله تعالى: " أو ما ملكت أيمانكم " النساء:3 معناه الذي ملكت أيمانكم، قال الفراء: فقمت وقد حممت.
قال أبو الحسين: وكان الكسائي يؤدب المؤتمن، فظهر به في كفه بياض، فبلغ ذلك أمه فخشيت أن يؤذيه الكسائي وجيء بقريشٍ يؤدبه.
ما ومن
قال القاضي: قد ذهب قوم إلى أن ما تأتي بمعنى الذي ومن، والأصل الظاهر اختصاص من يعلم ومن يعقل ب؟ من وأن ما لما لا يعقل ولجنس ما يعقل، وأن الذي لهما جميعاً، ومن أحكام ما أنها قد تكون هي وصلتها بمعنى المصدر، وقد حكي عن بعض العرب: سبحان ما سبحت له، يعنون الرعد، فذهب به بعضهم إلى معنى من وكذلك قوله: " والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها " الشمس:5 7 وقال منكروه من محققي النحاة: هذا كله بمعنى المصدر والمعنى وبنائها وطحوها وتسويتها، وقالوا: معنى " وما ملكت أيمانكم " النساء: 36 وأيمانهم أي ملك أيمانكم وأيمانهم كقولك: أعجبني ما صنعت أي صنيعك. وقيل في قوله: " وما خلق الذكر والأنثى " الليل:3 أنه بمعنى: وخلقه الذكر والأنثى، وقيل غير ذلك. ويقال: ما زيد؟ فيقال: إنسان فهذا صحيح في جنس ما يعقل.
والعجب من استخذاء الفراء عندما احتج عليه المؤتمن به وكيف لم يورد شيئاً مما تعلق به الموافقون له في مذهبه، وقد كانت رتبته تجل عن أن يذهب هذا المعنى عليه، وأن ينفك عن نصرة قوله والقيام به، ولكن ربما ارتبك النحرير والبليغ المزير عند شيء يفجؤه أو عارض يفدحه.
؟كتاب من عمرو بن مسعدة إلى ابن الزيات حدثنا علي بن محمد بن الجهم أبو طالب الكاتب قال حدثني عبد الله ابن هارون قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن موسى البيمار ستاني، قال أبو طالب: أحسبه سمعه من أبي عبد الله البيمار ستاني، هو البرطني، قال حدثني أبو حفص الكرماني، وكان من كتاب عمرو بن مسعدة، أنه كتب إلى محمد بن عبد الملك الزيات: أما بعد فإنك ممن إذا غرس سقى وإذا أسس بنى، ليستتم بناء أسه، يجتني ثمر غرسه، وبناؤك في ودي قد وهى وشارف الدروس، وغرسك عندي قد عطش وأشفى على اليبوس. فتدارك بناء ما أسست، وغرس ما زرعت. قال أبو عبد الله البيمار ستاني: فحدثت بذلك أبا عبد الرحمن العطوي فقال في هذا المعنى أبياتاً يمدح بها محمد بن عمران بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك:
إن البرامكة الكرام تعلموا ... فعل الكرام فعلموه الناسا
كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا ... لم يهدموا لبنائهم آساسا
وإذا هم صنعوا الصنائع في الورى ... جعلوا لها طول البقاء لباسا
فعلا تسقيني وأنت سقيتني ... كأس المودة من جفاتك كاسا
أنستني متفضلاً أفلا ترى ... أن القطيغة توحش الإيناسا
؟منامان حدثنا عبد الله بن محمد بن الفرج الواسطي قال حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال حدثنا يحيى بن عبد الله المقدمي قال سمعت محمد بن عمر بن علي يحدث عن هارون بن رحيم قال: رأيت الحسن بن حبيب بن ندبة في النوم فقلت: ما صنع بك ربك؟ قال: ما تراه صنع بي؟ رحمني وأكرمني وغفر لي وطيبني وقال: هكذا أفعل بأبناء ثلاث وثمانين.
حدثنا أحمد بن محمد بن علي الديباجي، قال حدثنا محمد بن يونس، قال حدثنا الأصمعي، قال حدثني أبي قال: رأى رجل في المنام جرير بن الخطفى فقال: ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي، قال: بماذا؟ قال: بتكبيرةٍ كبرت الله تعالى في المقر قال الأصمعي: ماء بالبادية قلت: فما فعل أخوك الفرزدق؟ قال: هيهات أهلكه قذف المحصنات، قال الأصمعي: لم يدعه في الحياة ولا في الممات.
المجلس الثالث والستون
علي بن الجهم وحديث العشرة المبشرين بالجنةأخبرنا المعافى قال حدثنا عبد الباقي بن قانع، قال حدثنا أبو محمدٍ عبد الرحمن بن عبد الرحيم المعروف بعبدان الشافعي بالبصرة، قال حدثني إبراهيم بن صالح الشيرازي قال: نزل علي بن الجهم بشيراز فقال لي: أخصك بحديث؟ قال: فقلت له: أفعل، فقال: قال لي المتوكل يوماً: يا علي هذا الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: عشرة من قريش في الجنة، أي حديث هو؟ قال قلت: يا أمير المؤمنين أصح حديثٍ، قال: فمن رواه؟ قال قلت: رواه سفيان الثوري عن منصورٍ عن هلال بن يسافٍ عن عبد الله بن ظالم عن سعيدٍ بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشرة من قريش في الجنة، قال فقال لي: ما أحسنه من حديث!! قال: قلت: يا أمير المؤمنين قد حضرني شيء فأقوله؟ قال: قل، قلت:
محمد خير بني النضر ... حكاه بالعدل أبو بكر
صديق خير الخلق لا واني ... ينصره في العسر واليسر
وثالث القوم الذي بعده ... يخلفهم في البر والبحر
ذاك أبو حفص فما مثله ... يكون حتى آخر الدهر
سبحان من أكرمهم بالتقى ... وصير الأبرار في قبر
هذا هو الفخر فلا غيره ... ما بعد ذاك الرمس من فخر
ورابع القوم إمام الهدى ... عثمان ذو النور أبو عمرو
كفى رسول الله ما همه ... وجهز الجيش لدى العسر
يخمسهم إبن أبي طالب ... إمام عدلٍ ظاهر النصر
صاحب صفين فما قبلها ... إلى حنين وإلى بدر
وطلحة الخير لهم سادس ... أنقذه الله من الكفر
وسبع القوم الزبير الذي ... كان حليف الشفع والوتر
هذا وسعد لهم ثامن ... وإبن عوفٍ طيب النشر
وحمزة السيد في قومه ... على وجوه القوم كالبدر
وعم خير الخلق لا يمترى ... أبو الملوك السادة الزهر
فالملك فيهم أبداً ثابت ... من أول الدهر إلى الحشر
قال: فضحك، وأخرج ذلك اليوم مالاً عظيماً وقسمه على بني هاشم وقريشٍ والأنصار وبين المهاجرين وأعطاني منه صدراً صالحاً.
تعليق الجريريقال القاضي: الخبر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بشهادته للعشرة من أصحابه بالجنة خبر صحيح، وقد أتت الرواية به من طرقٍ عدة، وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نفسه وتسعة معه، وفي بعضها أنه ذكر من صحابته عشرةً، والأخبار بكل واحدٍ من الوجهين ثابتة. وقول علي بن الجهم في شعره لا واني أتى به على الأصل، وهذا مما يسوغ للشاعر لإقامة الوزن، قال الشاعر:
كمشتريٍ بالحمد أحمرةً تترى
وقال آخر:
لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهن مطلب
وقوله: كفى رسول الله ما همه العرب تقول: همك ما أهمك أي أذابك ما يعذبك، ويقال: هممت الشحم أي أذبته، فكأنه قال: ما كرثه ولذعه بمضضه، وقوله: يخمسهم ابن أبي طالب يقال: خمست القوم أخمسهم إذا صرت خامساً لهم، ومثله ثلثتهم أثلثهم وسدستهم أسدسهم، ومثله ثمنتهم وعشرتهم، فإذا قلت أخمسهم بالضم فمعنا أخذت خمس أموالهم، ومثله أثلثهم وأسدسهم وأثمنهم وأعشرهم إذا أخذت هذه الأجزاء منهم، فإذا قلت: ربعتهم وسبعتهم وتسعتهم قلت في الوجهين أربعهم وأتسعهم، ففتحت عين الفعل من أجل حرف الحلق. وقوله: إبن أبي طالبٍ وإبن عوفٍ بالقطع والألف فيه للوصل لضرورة الشعر وتصحيح الوزن، وقد أتى مثل هذا كثيراً في أشعار العرب، وذكرنا منه فيما مضى من كتابنا هذا أبياتاً عدة، من ذلك قول الشاعر:
ألا لا أرى إثنين أكرم شيمةً ... على حدثان الدهر مني ومن جمل
وقال آخر:
فأي امرئ ألشامُ بيني وبينه ... أتتني ببشرى برده ورسائله
ولاستقصاء القول في هذا بين يدي هشام
حدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال حدثنا أبو عثمان عن العتبي قال: صعد رجل إلى هشام بن عبد الملك في خضراء معاوية، فمثل بين يديه لا يتكلم، فقال له هشام: مالك لا تتكلم؟ قال: هيبة الملك وبهر الدرج؛ فلما رجعت نفسه إليه قال له هشام: تكلم وإياك ومدحنا، فقال: لست أحمدك إنما أحمد الله تعالى فيك. ثم قال: إن الدنيا ذمت بأعمال العباد إذا أساءوا، ولم تحمد بأعمالهم فيها إذا أحسنوا، وإن الدنيا لم تكتم بما فيها فتذم ولكن إنما جهرت به، فأخذها من أخذها بذلك وهي عليه، وتركها من تركها لذلك وهي له. وإن الدنيا نادت أهلها بأنها تاركة من أخذها، ومفارقة من صحبها، ومخربة عمران من عمرها، فمن زرع فيها شروراً حصد حزناً، ومن أبر فيها هوى اجتنى ندامةً، وإنما هي لمن زهد فيها اليوم وأعرض عنها وآثر الحق عليها؛ وأخذها من أخذها بعد البيان منها والإخبار عن نفسها، فغر نفسه وسماها غرارةً، وكذب نفسه وسماها كذابة، وزهد فيها آخرون فصدقوا مقالتها، ورأوا آثارها في فعلها فأخذوا منها قليلاً، وقدموا فيها كثيراً، وسلموا من الباطل، وصارت لهم عوناً على الحق في غيرها، فلم تحمد بإحسان من أحسن فيها وهي له، وذمت بأساءة من أساء فيها وهي عليه، فأنت أحق بإساءتك فيها إذ كان الإحسان لك دونها. فأطرق هشام يفكر في كلامه واملس الرجل فلم يره.
شرح غريب النصقال القاضي: ومن أبر فيها هوى أي لقح يقال: أبرت النخل وأبرته إذا ألقحته، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: من باع نخلاً مؤبراً،وقوله: سكة مأبورة، وقال الشاعر:
لا تأمنن قوماً وترتهم ... وبدأتهم بالغشم والظلم
أن يأبروا نخلاً لغيرهم ... والشيء تحقره وقد ينمي
وقوله: فاملس معناه زال عن موضعه بسهولةٍ، وهو مأخوذ من الملاسة، يقال: أملس من كذا وتملس أي زال بسرعةٍ لملاسة موضعه وأنه ليس فيه أجزاء لها نتوء ونبو وتضريس. ويقال في هذا المعنى املص وتملص فكأنه من الدحض والزلق، ويقال إن هذا الوجه أفصح الكلامين، ومنه أملصت المرأة فأزلقت إذا أسقطت جنينها، ومنه الخبر الوارد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في إملاص امرأة بغرةٍ: عبدٍ أو أمةٍ وذلك إذا ضربت فأسقطت جنيناً ميتاً.
وهذا الخبر مما ينبه على الحذر من غرور الدنيا، وقال الله تعالى ذكره: " يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور " فاطر:5.
شعوانة تبكي وتبكيحدثنا أبي قال حدثنا أبو أحمد الختلي قال حدثنا الحسين بن يحيى قال: كانت شعوانة تردد هذا البيت فتبكي وتبكي النساء معها:
لقد أمن المغرور دار إقامةٍ ... ويوشك يوماً أن يخاف كما أمن
ما أنفق يوم تحذيق المعتزحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو يوسف يعقوب بن بنان الكاتب قال حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن موسى بن الفرات قال: حدثنا أبي وجماعة من شيوخنا قال: لما حذق المعتز القرآن دعا المتوكل شفيعاً الخادم بحضرة الفتح بن خاقان فقال: إني عزمت على تحذيق أبي عبد الله في يوم كذا وتكون خطبته علي وحذاقه ببركوارا، فأخرج من خزانة الجوهر جوهراً بقيمة مائة ألف دينارٍ في عشر صواني فضة للنثار على من يقرب من القواد مثل محمد بن عبد الله ووصيف وبغا وجعفر الخياط ورجاء الحصاري ونحو هؤلاء من قادة العسكر، وأخرج مائة ألف دينارٍ عدداً للنثار على القواد الذين دون هؤلاء في الرواق بين يدي الأبواب، وأخرج ألف ألف درهمٍ بيضاً صحاحاً للنثار على من في الصحن من خلفاء القواد والنقباء.
قال شفيع: فوجهت إلى أحمد بن حباب الجوهري فأقام معنا حتى صنفنا في عشر صواني من الجوهر الأبيض والأحمر والأزرق والأخضر بقيمة مائة ألف دينارٍ ووزن كل صينية ثلاثة آلاف درهم؛ وقال شفيع لابن حباب: اجعل في صينيةٍ من هذه الصواني جوهراً يكون قيمته خمسة آلاف دينار وانتقصه من باقي الصواني حتى يكون في كل واحدة تسعة آلاف دينار وانتقصه من باقي الصواني حتى يكون في كل واحدة تسعة آلاف وخمسمائة دينار فإن أمير المؤمنين أمرني أن أدفع هذه الصينية إلى محمد بن عمران مؤدب الأمير أبي عبد الله إذا فرغ من خطبته، ففعل ذلك، وشدوا كل صينية في منديلٍ، وختمت بخاتم شفيع، وتقدم شفيع إلى من كان معه من الخدم أن ينثروا العين في الرواق، والورق في الصحن، وأوعز إلى الناس من الأكابر ووجوه الموالي والشاكرية بحضور بركوارا في يومٍ سمي لهم ليشهدوا خطبة الأمير المعتز، وكتب إلى محمد بن عبد الله وهو بمدينة السلام بالقدوم إلى سر من رأى لحضور الحذاق. قال: فتوافى الناس إلى بركوارا قبل ذلك بثلاثة أيام، وضربت المضارب، وانحدر المتوكل غداة ذلك اليوم ومعه قبيحة ومن اختصت من حرم المتوكل ومن حشمها إلى بركوارا، وجلس المتوكل في الإيوان على منصته وأخرج منبر أبنوس مضببٍ بالذهب مرصعٍ بالجوهر مقابضه عاج، وقال بعضهم: عود هندي، فنصب تجاه المنصة وسط الإيوان، ثم أمر بإدخال محمد بن عمران المؤدب، فدخل فسلم على أمير المؤمنين بالخلافة ودعا له، فجعل أمير المؤمنين يستدنيه حتى جلس بين يدي المنبر، وخرج المعتز من بابٍ في جنبة الإيوان حتى صعد المنبر، فسلم على أمير المؤمنين وعلى من حضر، ثم خطب، فلما فرغ من خطبته دفعت الصينية إلى محمد بن عمران، ونثر شفيع صواني الجوهر على من في الايوان، ونثر الخدم الذين كانوا في الرواق والصحن ما كان معهم من العين والورق، وأقام المتوكل ببركوار أياماً في يومٍ منها دعته قبيحة، فيقال إنه يوم لم ير مثله سروراً و حسناً وكثرة نفقةٍ، وإن الشمع كله كان عنبراً إلا الشمعة التي في الصحن فإنه كان وزنها ألف من فكادت تحرق القصر، ووجد حرها من كان في الجانب الغربي من دجلة. وقد كان أمر المتوكل أن يصاغ له سريران: أحدهما ذهب والآخر فضة، ويفرش السرير الفضة ببساط حبٍ وبرذعة حبٍ ووسادي حب ومخدتي حبٍ ومسند حبٍ منظوم على ديباج أسود، وكان طول السرير تسعة أذرعٍ، قال: فأخرج من خزانة الجوهر حب عمل له ذلك فكان أرفع قيمة الحبة ديناراً، وأقل القيمة درهماً، فاتخذ له ذلك وأمر بفرش السرير الذهب بمثل فرش السرير الفضة منقوشاً بأنواع الجوهر الأحمر والأخضر والأصفر والأنواع، ففرشا فقعد عليهما هو وقبيحة ثم وهبهما لها.
دافع عن أبي هريرة في مجلس الرشيدحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا محمد بن يونس الكديمي قال حدثنا يزيد بن مرة الدباغ قال حدثنا عمر بن حبيب قال: كنا عند هارون أمير المؤمنين، وبين يديه قوم تيناظرون، فذكروا حديثاً فقالوا: رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذب أبو هريرة، وارتفعت أصواتهم بتكذيب أبي هريرة، فرأيت هارون قد نحا نحوهم ومال إلى قولهم، فقلت أنا: صدق أبو هريرة، وأبو هريرة الصادق في روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقمت فانصرفت.
فلما دخلت منزلي وافيى بريد فأدخلته فقال: أجب أمير المؤمنين أجابة مقتول لأنك لا ترجع، فقلت في نفسي: الله يعلم أني قمت بحقٍ، ونصرت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضيت إلى هارون فدخلت عليه وهو جالس على كرسي من ذهب حاسراً عن ذراعية، بيده سيف، فقال: يا عمر بن حبيب،تقبل علي بالرد بما أقبلت به؟! فقلت: يا أمير المؤمنين، الذي قلته إزراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كذابين فأمر الإسلام كله باطل، والصلاة الصوم والطلاق والحدود. قال: صدقت يا عمر بن حبيب، أحييتني أحياك الله، أحييتني أحياك الله.
قال القاضي: الفصيح زريت على الرجل زراية وأزريت به إزراءً.
تقبل السواد في أيام المأمون فربح كثيراً
حدثنا علي بن محمد بن الجهم أبو طالب الكاتب، قال حدثني القاسم ابن أحمد الكاتب، قال حدثني أحمد بن محمد بن مدبرٍ، قال حدثني إسحاق ابن إبراهيم بن مصعبٍ قال: تضمنت السواد من المأمون لسنة ثلاث عشرة ومائتين بأربعمائة ألف كر شعيراً مصرفاً بالفالج حاصلاً، وثمانية آلاف ألف درهمٍ سوى مؤن العمل وأرزاق العمال وغير ذلك، فارتفع لي فيه من الفضل بعد المؤن والأرزاق الجارية عشرون ألف ألف درهم، قال: فأتيت المأمون، فقلت: يا أمير المؤمنين إني قد استفضلت في ضمان السواد عشرين ألف ألف درهم، قال: قد سررتني وقد سوغتها، ولكن اكتب إلى عبد الله بن طاهرٍ فعرفه أني إنما ضمنتك السواد له وسوغتك هذا الفضل لمكانه ومحله مني، ففعلت، قال: فكتب إلي عبد الله بن طاهر: قد سرني ما كتبت به من ربحك عشرين ألف ألف درهم وتسويغ أمير المؤمنين إياك ذلك، وأمير المؤمنين أجل قدراً وأعظم خطراً من أن يستكثر هذا من فعله، إذ كان أهلاً لما هو أكثر منه، وليس ينبغي أن نقنع لك بهذا دون أن أضيف إليه شيئاً آخر من مالي فاقبض من غلة ضياعي مائة ألف ألف درهم.
بين بني هاشم وبني أميةحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا عبد الله بن عائشة عن جويرية قال، قال عمر بن عبد العزيز: ما زلنا نحن وبنو عمنا من بني هاشم مرةً لنا ومرةً علينا، نلجأ إليهم ويلجأون إلينا حتى طلعت شمس الرسالة فأكسدت كل نافق وأخرست كل ناطق.
جرير يحكم بتفوق الأخطلحدثنا عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال حدثنا ابن الأعرابي قال، قيل لجرير: أيما أشعر أنت في قولك.
حي الغداة برامة الأطلال ... رسماً تحمل أهله فأحالا
أم الأخطل في جوابها:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا
قال: هو أشعر مني، إلا أني قد قلت في قصيدتي بيتاً لو أن الأفاعي نهشتهم في أستاههم ما حكوها حيث أقول:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك آسته وتمثل الأمثالا
تعليقات للمعافى بن زكريا قال القاضي: من فضل جرير تفضيله الأخطل في الشعر واعترافه بأن شعره يفضل شعر نفسه، على ما بينهما من العداوة والملاحاة والمقارعة والمهاجاة والمفاخرة والمباراة، مع أن جريراً قد أتى في قصيدته هذه بما ليس في قصيدة الأخطل ولا غيرها من شعره ما يدانيه ويقارب معناه، وذلك قوله:
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلاص تكر عليكم ورجالاً
وهذا من أخصر كلام وأفصحه، وأبلغ نظامٍ وأروضحه. وقد روي أن الأخطل لما أنشد هذا البيت بهت عنده وكثر تعجبه منه وقال: من أين لابن المراغة هذا؟ فقيل له: إن هذا المعنى في القرآن وتلي عليه قول الله جل وعز: " يحسبون كل صيحةٍ عليهم هم العدو " والمنافقون: 4 فقال الأخطل: أنا من أين لي مثل كتاب محمدٍ آخذ منه وأستعين به؟! والذي أتى القرآن به في هذا مبر على ما قاله الشعراء فيه لأمرٍ متفاوت في قلة عدد حروفه وقرب مأخذه ووضوح معناه. ومما يشبه قول جرير في هذا المعنى قول الذي قال:
ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسومة تدعو عبيداً وأزنما
ونحو هذا قول الآخر
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
تؤدي إليه أن كل ثنيةٍ ... تطلعها ترمي إليه بقاتل
ويروى تسنمها.
قال القاضي: قوله: كفة حابل يعني حبالة الصائد، وقال اللغويون: الكفة ما كان مستديراً ككفة الميزان، والكفة بالضم ما كان مستطيلاً ككفه الثوب، والوجهان يرجعان إلى معنى واحد، وهو الكف والحصر والحبس وإحاطة النهايات بالحواشي المتوسطات؛ ومنه حاجة لها كفة، وحاجات لها كفف أي نهاية تجمعها وتحيط بها وتكفها عن التشذب والانتشار. ومن ذلك قول الأعشى ميمون بن قيسٍ:
كانت وصاة وحاجات لها كفف ... وأن صحبك إن ناديتهم وقفوا
هفوة من سوارح العقل الباطنحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا إبراهيم بن سعدان قال حدثنا ا؟لأصمعي عن عبد الله بن صالح قال، قال لي رجل من حارثة بن لام: أضافني رجل من بني تغلب فأحسن ضيافتي فأفلت من لساني هذا البيت:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك آسته وتمثل الأمثالا
فلما قلته خجلت وسقط في يدي، فقال لي: يا عبد الله انبسط، فإنما قلت كلمةً مقولةً.
أحلى قولٍ للمستملي
حدثنا محمد بن الحسن بن زيادٍ المقري قال حدثنا عبد الله بن محمود بمرو قال، سمعت يحيى بن أكثم يقول: كنت قاضياً وأميراً ووزيراً وقاضياً على القضاة ما ولج سمعي أحلى من قول المستملي: من ذكرت رضي الله عنك؟
مجموعة حكمحدثنا محمد بن عبد الله السليطي قال حدثنا محمد بن المنذر الهروي أبو عبد الرحمن شكر، قال حدثني حطان بن عبد الرحمن الجندي، قال حدثنا عبد الله بن سليمان الجندي قال، قالوا: دعامة العقل الحلم وجماعه الصبر. وأعلم أن هذه الدنيا دول، فما كان منها للإنسان أتاه على ضعفه، وما كان منها عليه لم يدفعه بقوته. وقالوا: الشر مخوف من كل وجهٍ، والنفع مرجو من كل ناحيةٍ، وما أكثر ما يأتي الخير من وجوه الخوف ويأتي الشر من ناحية الرجاء.
حدثنا أحمد بن علي القاضي النيسابوري، قال حدثنا محمد بن المسيب الأرغياني، قال حدثنا عبد الله بن خبيق، قال حدثني أبو عبد الله الحلبي، قال سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: إن للحوئج فرساناً كفرسان الحرب. وقال لي أبو إسحاقك إن الرجل ليسألني عن حالي ولو أخبرته لشمت بي.
عمرو بن عبيد يعظ المنصورحدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة، قال حدثنا المدائني، قال: دخل عمرو بن عبيد على المنصور فقال: إن الله تعالى أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه ببعضها، واحذر ليلة تمخض عن يومٍ لا ليلة بعده. قال: فبكى أبو جعفر، قال عمرو: انبذ عنك البكاء واترك ما تنكر إلى ما تعرف، واعلم أن ربك لبالمرصارد، والسلام.
شعر إسحاق الموصلي
حين أبل صباح بن خاقانحدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي قال حدثنا محمد بن أحمد بن عمار قال حدثنا أحمد بن القاسم بن جعفر بن سليمان بن علي قال حدثنا صباح بن خاقان قال: اعتللت علة أشفيت منها، فبلغ ذلك إسحاق بن إبراهيم الموصلي فاغتم منها، ثم ورد عليه الخبر بإفاقتي فكتب إلي:
حمدت الله إذ عافى صباحا ... وأعقبه السلامة والصلاحا
وكنا خائفين على صباح ... من الخبر الذي قد كان باحا
وخوفني من الحدثان أني ... رأيت الموت إن لم يغد راحا
الأخطل يسرق معنى للأعشىحدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد الشرابي، قال حدثنا أبو العباس المرثدي، قال أخبرني طلحة بن عبد الله الطلحي، قال أخبرني إبراهيم بن سعدان، قال حدثنا ابن بشير المديني قال: وفدت إلى بعض ملوك بني أمية فمررت بقريةٍ فإذا رجل مرنح من الشراب قائم يبول، فسألته عن الطريق فقال: أمامك، ثم لحقني فقال: أنزل، فنزلت، فقال: ادن دونك وعليك الحانة، فدخلت، فأحضر سفرة واستل سلة فأخرج منها رغفا ووذراً من لحمٍ فقال: أصب، ثم سقاني خمراً، فإذا أبو مالك. ثم قال لي: كيف علمك بالشعر؟ قلت: قد رويت، فأنشدني قصيدته:
صرمت حبالك زينب ورعومفلما انتهى حبالك زينب ورعوم فلما انتهى إلى قوله:
حتى إذا أخذ الزجاج أكفنا ... نفحت فأدرك ريحها المزكوم
قال: ألست تزعم أنك تبصر الشعر؟ قلت: بلى، قال: فكيف لم تشقق بطنك فضلاً عن ثوبك عند هذا البيت؟! قال: قلت: قد فعلت عند البيت الذي سرقت هذا منه، قال: وما هو؟ قلت: بيت الأعشى:
من خمر عانة قد أتى لختامها ... حول، تفض غمامة المزكوم
قال: أنت تبصر الشعر، فلما صرتُ إلى سليمان سمرت معه بهذا أول بدأتي.
تعليق الجريري قال القاضي: للأعشى في هذا المعنى بيت هو أبلغ من هذا البيت في كلمةٍ له أخرى وهو.
من اللاتي حملن على الروايا ... كريح المسك تستل الزكاما
واستلال الزكام أبلغ من فضه لأن استلاله نزعه وإخراجه، وفضه نشره وتفريقه وكسره كفض الخاتم، وفي فضه مع هذا إزالته وتنحيته كما يزول الخاتم عند فضه ويفارق ما كان حالاً فيه ولازماً له. وفي قول الأخطل: فأدرك ريحها المزكوم من البلاغة أنه إنما يفوته إدراك المشمول لحلول الزكام به وغلبته إياه، فإذا أدرك ريح الخمر التي كان الزكام حائلاً بينه وبينها عندنفحتها فإنما ذلك لزوال الزكام وزوال بعضه وإن لم يزل بكليته، فمن هاهنا كان الفض والاستلال أبلغ وأبين في المعنى.
ما يقوله الحسن إذا أصبح وإذا أمسىحدثنا طلحة بن محمد بن إسرائيل الجوهري قال حدثني أبو الحسن أحمد ابن عبد الرحمن الجوهري قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا سفيان الثوري عن حصين الأسدي قال: كان الحسن إذا أصبح قال:
يسر الفتى ما كان قدم من تقى ... إذا عرف الداء الذي هو قاتله
وإذا أمسى قال:
فما الدنيا بباقيةٍ لحي ... ولا حي على الدنيا باق
من أول من قال شعراً يعقوب أم آدم
حدثنا أحمد بن جعفر بن محمد المنادي، قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن يونس أبو إسماعيل إملاءً، قال حدثنا أبو صالح سهل بن خاقان، وكان من خيار الناس، قال: سمعت أبا المورع يقول: أول من قال بيت شعر يعقوب صلى الله عليه وسلم لما جاءوه فأخبروه عن يوسف عليه السلام بالذي أخبروه به فقال:
فصبر جميل بالذي جئتم به ... وحسبي إلهي في المهمات كافيا
قال القاضي أبو الفرج: قد أتت هذه الرواية بما وصفناه، وقد روي لنا أن أول من قال الشعر آدم عليه السلام لما قتل قابيل أخاه هابيل، وأن إبليس لعنه الله أجاب آدم عليه السلام عن شعره ذلك، وهي رواية معروفة، ولعلنا نأتي بها فيما بعد إذا خرجت لنا إن شاء الله تعالى.
معاوية يغري ابن عمر بالمال ليبايع ليزيد
حدثنا محمد بن العباس بن نجيح البزاز قال حدثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي من كتاب أبيه يلقن، قال حدثني أبي قال حدثنا مؤمل قال: حدثنا حماد بن زيدٍ قال حدثنا أيوب عن نافع أن معاوية لما أراد أن يبايع ليزيد أرسل إلى ابن عمر بمائة ألفٍ ثم أرسل إليه أن بايع ليزيد فقال ابن عمر: إن كان ذاك لذلك إن ديني عندي إذن لرخيص.
لماذا يختلف إلى الناسحدثنا الحسن بن أحمد بن محمد بن سعيد الكلبي الدينوري، قال حدثنا أحمد بن علي بن نعيم الدينوري، قال حدثني محمد بن يزيد بن هارون الواسطي بسر من رأى، في سنة ثلاث وستين ومائتين، قال حدثنا القاسم بن بهرام عن أبي الزبير عن جابرٍ عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لا يؤتى الرجل إلا لخصلةٍ من أربع خصالٍ: لشرفٍ، أو لشكر معروفٍ سلف، أو لأمرٍ يؤتنف، أو لحديث يطرف.
حدثنا محمد بن زيادٍ المقري قال سمعت أحمد بن صالح النحوي السرخسي قال، سمعت المسعودي يقول، قال المأمون: يختلف إلى الناس لأربعة أشياء: لصحة شرفٍ، أو لعلمٍ مطرف، أو لأمرٍ مؤتنفٍ، أو لمعروفٍ قد سلف.
ما في جيب ابن الجهم حين قتلحدثنا محمد بن الحسن بن أستاذ الهروي، قال سمعت عبد الله بن عروة يقول، سمعت أبا عشانة يقول: لما قتل علي بن الجهم وجد في جيبه رقعة فيها:
يا وحشتا للغريب في البلد لنا ... زح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
أف للدنيا وتفحدثنا عبد الله بن الحسن بن محمدٍ البزاز قال حدثنا محمد بن خلف قال حدثني عبد الله بن محمد بن مرزوق العتكي عن عبد الواحد بن غياث أو آخر غيره ذهب عني اسمه العتكي يقول هذا قال: قد دخلت دار المورياني ليلاً فسمعت قائلاً يقول:
أف للدنيا وتف ... كل من فيها يلف
فأجابه آخر:
لم تقل والله شيئاً ... إن فيها من يعف
منهم القاضي ويحيى ... والهجيمي المخف
توضيحقال القاضي أبو الفرج: القاضي معاذ بن معاذ، ويحيى بن سعيد القطان، وخالد بن الحارث الهجيمي.
قال القاضي: أف عند جمهور أهل العلم كلمة يقولها المرء عند الشيء يضجره أو يتبرم منه ويتقذره، وتف بمعناها، وقيل إنها إتباع لأفٍ مثل حسن بسن وعطشان نطشان. وقيل هي بمعنى النتن، وقيل التف الشيء الحقير نحو الشظية تؤخذ من الأرض. وقال بعض المحققين في علم العربية الأف وسخ الظفر، والتف وسخ الأذن. وقال الله تعالى: " فلا تقل لهما أفٍ " الاسراء:23 وأتت هذه اللفظة في مواضع عدةٍ من القرآن وفيا لغات عدة وقراءات مختلفة، وقد ذكرنا هذا مستقصى في مواضع من كتبنا.
المجلس الرابع والستون
كيف تولى عمر بن حبيب القضاءحدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء بن يحيى إملاءً من لفظه سنة تسعين وثلاثمائةٍ، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أبو العباس الكديمي، قال حدثنا عمر بن حبيبٍ العدوي القاضي قال: قدمت مع وفدٍ من أهل البصرة حتى دخلنا على أمير المؤمنين المأمون، فجلسنا وكنت أصغرهم سناً، فطلب قاضياً يولى علينا بالبصرة، فبينا نحن كذلك إذ جيء برجل مقيدٍ بالحديد مفولةٍ يده إلى عنقه، فحلت يده من عنقه، ثم جيء بنطعٍ فوضع في وسطه ومدت عنقه، وقام السياف شاهراً السيف، فاستأذن أمير المؤمنين في ضرب عنقه فأذن له، فرأيت أمراً فظيعاً، فقلت في نفسي: والله لأتكلمن فلعله أن ينجو، فقمت فقلت: يا أمير المؤمنين اسمع مقالتي. فقال لي: قل، فقلت: إن أباك حدثني عن جدك عن ابن عباسٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ من بطنان العرش ليقم من على الله تعالى أجره، فلا يقوم إلا من عفا عن ذنب أخيه. فاعف عنه عفا الله عنك يا أمير المؤمنين، فقال: لي: آلله إن أبي حدثك عن جدي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا؟ فقلت: آلله إن أباك حدثني عن جدك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا. فقال: صدقت، إن أبي حدثني عن جدي عن ابن عباسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا. فقال: صدقت، إن أبي حدثني عن جدي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، يا غلام أطلق سبيله، فأطلق سبيله ثم أمر أن أولى القضاء ثم قال لي: عن من كتبت؟ قلت: أقدم من كتبت عنه داود بن أبي هندٍ، قال: فحدث، قلت: لا، قال: بلى فحدث، فإن نفسي ما طلبت مني شيئاً إلا وقد نالته ما خلا هذا الحديث فإني كنت أحب أن أقعد على كرسي ويقال لي من حدثك.؟ فأقول: حدثني فلان، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين فلم لا تحدث؟ قال: لا يصلح الملك والخلافة مع الحديث للناس.
مدح حسن العفوقال القاضي: ما قرره الله عز وجل في العقول من حسن العفو وتفضيل أهله وما أنزله فيه وأحكمه في كتابه وعلى لسان رسول الله أكثر من أن نأتي على ذكر جميعه وقد قال الله تعالى: " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " الشورى:40 وقال جل ذكره: " وإن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم " البقرة: 237 وكل هذا مؤكد لما مكنه الله جل وعلا في العقول وشاهد لما تواتر من الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
العائف اللهبيحدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال أخبرنا عبد الرحمن عن عمه عن يونس عن شيخ من عنزة قال: خرج رجل من لهب، وهم حي من الأزد، وهم أعيف العرب، ومعه سقاء لبن، فسار صدر يومه ثم عطش فأناخ ليشرب فإذا غراب ينعب، فأثار راحلته ومضى؛ فلما أجهده العطش أناخ ليشرب فنعب الغراب، فأثار راحلته ومضى؛ فلما أجهده العطش أناخ ليشرب فنعب الغراب، فأثار راحلته فمضى، ثم أناخ ليشرب فنعب الغراب وتمرغ في التراب، فضرب الرجل السقاء بسيفه فإذا فيه أسود سالخ. ثم مضى لوجهه فإذا غراب واقع على سدرةٍ، فصاح به فوقع على سلمةٍ، فصاح به فوقع على صخرةٍ، فإذا تحت الصخرة كنز ذهبٍ، فلما رجع إلى أبيه قال له: ما صنعت؟ قال: سرت صدر يومي، ثم أنخت لأشرب فنعب غراب، فقال: أثره وإلا لست بأبني، قال: فأثرته ثم أنخت لأشرب فنعب غراب قال: أثره وإلا لست بابني، قال: أثرته، ثم أنخت الثالثة لأشرب فنعب غراب وتمرغ في التراب فقال: اضرب السقاء بالسيف وإلا لست بابني، قال: فضربته فإذا فيه أسود سالخ.
قال: ثم مه، قال: ثم رأيت غراباً واقعاً على سدرةٍ قال: أطره وإلا فلست بابني، قال: أطرته فوقع على صخرةٍ، قال: أحذني يا بني، قال: فأحذاه.
معنى أحذى
قال القاضي: قوله أحذني أي أعطني فأعطاه، يقال: أحذى فلان فلاناً شيئاً من ماله إذا رضخ له؛ قال رجل من بني سعدٍ لرؤبة بن العجاج: أحذ أبا الجحاف إذ حبينا
أعرابية ترثي قوماً هلكوا
حدثنا علي بن محمد بن الجهم الكاتب أبو طالب، قال حدثني أبو الحسين الحسن بن عمرو السبيعي، قال حدثني رجل من الأعراب وفد إلى ابن البعيث، قال حدثني عم لي قال: نزلت ماءً لبني فزارة ثم ارتحلت عنه وأتيته في العام المقبل فإذا ليس من الحي أحد خلا عجوز في سفح جبلٍ تبكي، فقلت: ما يبكيك يا عجوز؟ قالت: على أثر الحي، قلت لها: أعسى حيياً نزلت به عام أول؟ قالت: أقلت حييا؟ والله لقد كان حي ربحل، إذا ارتحلوا على ألف فحل، لقد كان فيهم مليل، وما مليل؟ سحاب ذيلٍ على ذيلٍ عطاؤه سيل، وغضبه ويل، لم تحمل مثله إبل ولا خيل، ولقد كان فيهم مالك وما مالك؟ خير من هنالك. ولقد كان فيهم مهجعة وما مهجعة؟ فارس كأربعة، يكر والخيل معه، ولقد كان فيهم عمار وما عمار؟ يوم الفخر فخار، ويوم الجر جرار، لم تخمد له نار طلاب بأوتار، ولقد كان فيهم هجين لهم يقال له حممة، وما حممة؟ له ألف ناقة مسنمة، وألف مهرة مسومة، وألف نعجةٍ مزنمةٍ، وألف عبد وأمة، قعد ذات يومٍ قعدةً له حسنة فأنهبها كلها في ساعةٍ لم يقض نهمه، قال: فكأنما ألقمتني عنها وعن قومها حجراً.
شرح الغريب في حديث الأعرابيةقال القاضي: قولها حي ربحل أي حي قيلٍ كريم نبيه، واسع عطاؤه، رحبٍ فناؤه، ومنه قول القائل: مرحباً وأهلاً، وناقة ورحلا، وملكاً ربحلاً، يعطي عطاءً جزالاً. وأما قولها: ولقد كان فيهم هجين لهم فالهجين الذي أمه أمة، ومنه قول عنترة قبل أن يحرره أبوه:
أنا الهجين عنترة
وجمع الهجين هجناء مثل أمين وأمناء، وقرين وقرناء، وكمين وكمناء. ومن الهجين قول الشاعر:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ... ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وقول الشماخ:
إذا بركت على نشزٍ وألقت ... عسيب جرانها كعصا الهجين
والمسنمة من الإبل: العظيمة الأسنمة؛ والمسومة من الخيل: المحسنة المهيأة. وقيل في قول الله عز وجل: " واتلخيل المسومة " آل عمرا:14 هي المطهمة، أي التي يعنى بها ويقام عليها، والغنم المزنمة: ذوات الزنمات التي تحت ألحيها الزنمات. وعسيب الجران: الحلقوم، والجران: باطن العنق.
رؤيا المأمون وما قال أرسطاطاليسحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال حدثنا ابن أبي سعدٍ قال أخبرني محمد بن يحيى بن خالد بن يزيد بن مثنى المروزي، قال حدثني منصور بن طلحة بن طاهرٍ بن الحسين، قال حدثني عبد الله بن طاهر قال: عجبني أمير المؤمنين من رؤيا رآها، فسألته عنها فذكر أنه رأى في منامه كأن رجلاً جلس مجلس الحكماء فقلت له: من أنت؟ قال: أنا أرسطاطاليس الحكيم، فقلت له: أيها الحك ما أحسن الكلام؟ قال: ما يستقيم في الرأي قلت: ثم ماذا؟ قال: ما يستحسنه سامعه، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما لا تخشى عاقبته، قلت: ثم ماذا؟ قال لا ثم. قال المأمون: لو كان حياً ما كان يتكلم بأكثر مما تكلم به.
الكندي رأي جالينوس في المناموحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو الحسن الأشج قال قال: حدثني يعقوب الكندي قال: رأيت جالينوس فيما يرى النائم فقلت بأبي أنت، رجل من الملوك اعتل لا يبرئه إلا فتح الباسليق وليس يوجد له فما ترى؟ قال: افتح له عرقاً بين الخنصر والبنصر يقال له الأسيلم، قال الكندي: فأنا أول من فصد الأسيلم.
أعرابي يسألحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أحم بن عبيدٍ عن ابن الأعرابي قال: قدم أعرابي من البادية فوقف على الناس فقال: أنا عكاب بن عدينة أبوت عشرةً وأخوت عشرةً، وكنت مفزعاً للجمة، مقنعاً للهمة، أهنأ الفقير، و أفك الأسير، وأذيل العسير، فانباق علي الدهر متخوفاً لإخوتي وبنيه يوديهم واحداً واحداً حتى اخترم ظهرتي، وأفنى عمارتي، وأساف ماليه، وأباد رجاليه، وكنت أورد إبلي سحراً، وأصدرها طفلاً، عكراً دثراً، ومالاً وفراً، قليلة الفرش والإفال، حسنة الحلية والفحال، فانتسفها الزمان، واجتملها الحدثان، حبجاً وغدة، فقرع مراحي، وفنت أوضاحي، فهل من راحمٍ أخا جهدٍ ولأواء وشصاصاء، شملكم الله بإسباغ الرزق.
؟؟تفسير حديث الأعرابي قال أبو بكر ابن الأنباري قولهم: أبوت وأخوت معناه كنت أباً لعشرة وأخاً لعشرة. وقوله: أهنأ الفقير: أصلح شأنه؛ قال القاضي: وأصله من الهناء الذي تطلى به الإبل من الجرب، قال زهير:
فأبرى موضحات الرأس منه ... وقد يشفي من الجرب الهناء
ومنه قول الآخر:
ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم طالي أينقٍ جرب
متبذلاً تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب
ثم استعير هذا في كل من رفد غيره لسد فقرٍ أو إصلاح أمر، وهو من حسن التشبيه وقريبه؛ قال أبو بكرٍ: وأذيل العسيرة معناه: ألين الناقة الصعبة لأحمل عليها الضعيف والمجتدي. وقوله: فانباق علي الدهر معناه: قصدني ببائقةٍ، وهي البلية والداهية، ومتخوفاً: متنقصاً قال الله عز وجل: " أو يأخذهم على تخوفٍ " النحل: 47 قال القاضي: يقال تخوفه إذا انتقصه، كما قال الشاعر:
تخوف السير منها تامكاً قرداً ... كما تخوف عود النبعة السفن
يعني ناقة تنقص سيرها من سنامها بعد تمكنه واكتنازه. والنبع شجر معروف وقال الأعشى:
ونحن أناس عودنا عود نبعةٍ ... إذا افتحر اليحان بكر وتغلب
والسفن: الفأس، وهو يتنقص العود وينحته حتى يصنع منه سفينةً، ومنه سميت سفينةً بمعنى مسفونة أي منحوتة منجورة منتقصة الأعواد بالسفن. وقد قرئ على تخوف بمعنى الانتقاص من الحافات والجوانب. قال أبو بكرٍ: والجمة: القوم يسألون في الدية ويقال أيضاً للدية جمة. قال الشاعر:
؟وجمةٍ تسألني أعطيت ... وسائل عن خبري لويت
فقلت لا أدري وقد دريت
وقوله: حتى اخترم ظهرتي في الظهرة قولان: الظهرة قولان: الظهرة عشيرة الرجل. وقال لي أبي قال أحمد بن عبيد: الظهرة والأهرة متاع البيت وما يصونه الرجل مما يودعه منزله من الآنية وأفنى عمارتي العمارة: القبيلة. وأساف ماليه معناه أو قع السواف في إبلي. وأصدرها طفلاً معناه عند غيبوبة الشمس، يقال ظفلت الشمس إذا تهيأت للغروب. وفي السواف لغتان: السواف والسواف بضم السين وفتحها وهو داء يأخذ الإبل فيقتلها. قال أبو عمرو الشيباني: السواف من أدواء الإبل بالفتح، وقال الأصمعي: السواف مضموم من الأدواء بمنزلة الكباد والسعال والنخار. عكراً دثراً العكر جمع عكرة وهي سبعون من الأبل إلى المائة، والدثر هو المال الكثير وجمعه دثور.
قال أمرؤ القيس:
لعمري لقوم قد نرى في ديارهم ... مرابط للأمهار والعكر الدثر
يريد العكر الدثر، فكسر الثاء لكسرة الراء على لغة من يقول قام بكر ومررت ببكرٍ. وقال أبو ذرٍ: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يعني أصحاب الأموال الكثيرة.
قال القاضي:والوقف في بكر على حركة إعراب طرفة لغة معروفة للعرب، وقد روي عن أبي عمرو أنه قرأ: " وتواصوا بالصبر " البلد: 17 في بالوقف بكسر الباء، ومن هذه اللغة قول الشاعر:
علمنا أخواننا بنو عجل ... شرب النبيذ واعتقالاً بالرجل
وقد شرحنا علة هذه اللغة في موضعها. والعرب أيضاً تقول مال دثر وأموال دثر. قال أبو بكر: قليلة الفرش والإفال الفرش: الصغار من الإبل التي لا تطيق أن يحمل عليها، والإفال: الصغار من الإبل واحدها أفيل. قال القاضي: قد قيل إن الفرش الغنم، والحمولة الإبل والبقر والبغال والحمير، فأما الإفال فهي الصغار عند اللغويين، قال الفرزدق:
وجاء قريع الشول قبل إفالها ... يزف وجاءت خلفه وهي زفف
ويروى يرف، وهي رفف، والمعنى واحد، وهو المشي السريع. قال الله عز ذكره: " فأقبلوا إليه يزفون " الصافات: 94 ومن القرأة من يقرأ يرفون. قال أبو بكرٍ واجتملها الحدثان ذهب بجملتها ولم يبق منها شيئاً.
حبجاً وغدة الغدة: من أدواء الإبل، الحبج: أن تأكل الإبل النبات فتنتفخ بطونها حتى تموت. وقال الزبير بن بكار: لما ورد نعي مصعب بن الزبير على أهل مكة صعد عبد الله بن الزبير المنبر فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء؛ ألا وإنه لم يذلل الله تعالى من كان الحق معه ولو كان فرداً، ولم يعزز من كان الشيطان وليه وحزبه ولو كان الأنام كلهم معه، ألا وإنه أتانا خبر من العراق أحزنا وأفرحنا، أتانا قتل المصعب بن الزبير رحمه الله، فأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لذعةً يجدها حميمه عند المصيبة ثم يرعوي من بعدها ذوو العزم إلى جميل الصبر وكرم العزاء، وأما الذي أفرحنا فإن القتل كان له شهادةً، وإن الله عز وجل جعل ذلك لنا وله خيرةً. ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت حبجاً كما يموت بنو أبي العاص، وما نموت إلا قتلاً قعصاً بالرماح وموتاً تحت ظلال السيوف، ألا وإنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول ملكه ولا يبيد، فإن تقبل علي الدنيا لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر عني لا أبك عليها كالخرف المهتر.
قال أبوب بكر: فقرع مراحي المراح: موضع الإبل الذي تراح إليه، يعني أن إبله ماتت وتلفت وبقي مراحها أقرع، والعرب تقول قد قرع مراح الرجل إذا ذهب ماله، قال الشاعر:
إذا آداك مالك فانتهبه ... لجاديه وإن قرع المراح
فإن أعيا عليك فلم تجده ... فنبت الأرض والماء القراح
فإن الفقر إلف فناء قوم ... وإن آسوك والموت الرواح
وفنت وضاحي معناه: فنيت دراهمي، فنت بلغة طيء، يقولون في فني فنى وفي رضي رضى وفي بقي بقى، قال الشاعر:
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقى ... على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
واللاواء والشصاصاء: الشدة وكلب الزمان.
قال القاضي: الذي ذكره أبو بكرٍ في نفى ورضى وبقى أنه لغة طيء هو على ما ذكر، وقد ذكرنا من هذه اللغة وحكايتها صدراً في ما مضى من مجالس كتابنا هذا، وقد تتداخل لغات العرب ويأخذ بعضهم من لغة بعض، قال زهير:
تربع صارةً حتى إذا إذا ... فنى الدحلان عنه والأضاء
يريد فني..
إسماعيل بن صالح يغني الرشيد حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أحمد بن محمد الطالقاني قال حدثني فضل اليزيدي عن محمد بن إسماعيل بن صبيحٍ قال: قال الرشيد للفضل بن يحيى وهو بالقرقة: قد قدم إسماعيل بن صالح بن علي وهو صديقك، وأريد أن أراه، فقال له: إن أخاه عبد الملك في حبسك، وقد نهاه أن يجيئك، قال الرشيد: فإني أتعلل حتى يجيئني عائداً، فتعلل، فقال الفضل لإسماعيل: ألا تعود أمير المؤمنين؟ قال: بلى، فجاءه عائداً، فأجلسه ثم دعا بالغداء فأكل، وأكل إسماعيل بين يديه، فقال له الرشيد: كأني قد نشطت برؤيتك إلى شرب قدح، فشرب وسقاه، ثم أمر فأخرج جوارٍ يغنين وضربت ستارة وأمر بسقيه، فلما شرب أخذ الرشيد العود من يد جاريةٍ ووضعه في حجر إسماعيل، وجعل في عنق العود سبحةً فيها عشر درات اشتراها بثلاثين ألف دينار وقال: غنني يا إسماعيل وكفر عن يمينك بثمن هذه السبحة فاندفع يغني بشعر الوليد بن يزيد في غلية أخت عمر بن عبد العزيز وكانت تحته، وهي التي ينسب إليها سوق غالية بدمشق:
فأقسم ما أدنيت كفى لريبةٍ ... ولا حملتني نحو فاحشةٍ رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
أعلم أني لم تصبني مصيبة ... من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
فسمع الرشيد أحسن غناءٍ من أحسن صوتٍ، فقال: الرمح يا غلام، فجيء بالرمح، فعقد له لواءً على إمارة مصر، قال إسماعيل: فوليتها ست سنين، أو سعتهم عدلاً وانصرفت بخمسمائة ألف دينارٍ، قال: بلغت عبد الملك أخاه ولايته فقال: غنى والله الخبيث لهم، ليس هو لصالح بابنٍ.
إذا قصر من يؤاكل المأمون
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري قال أخبرنا عبد الله بن محمود قال حدثنا يحيى بن أكثم قال: كان المأمون إذا قصر بعض من يأكل معه أمر بإقامته عن المائدة ولقد رأيته يوماً وقد أمر أن يقام بابنه العباس عن المائدة لتقصيرٍ كان منه، وقال: إذا قصرت احتشم غيرك لتقصيرك، فقال العباس: لم أقصر ولكني وجدت علةً، قال: هلا ذكرتها قبل جلوسك على الطعام، فإما احتملناك على التقصير وإما أعفيناك من الأكل معنا.
أعرابية تمثل نموذجاً للصبر
حدثنا عبد الباقي بن قانعٍ قال تحدثنا محمد بن زكرياء قال حدثنا إبراهيم بن عمرو بنب حبيب قال حدثنا الأصمعي قال: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمةٍ عن يمين الطريق، فقصدنا نحوها فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام، ثم قالت: ما أنتم؟ فقلنا: قوم ضالون رأيناكم فأنسنا بكم، فقالت: يا هؤلاء ولوا وجوهكم عين حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فألقت لنا مسحاً فقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني، ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها إلى أن رفعتها فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني وأما الراكب فليس بابني، فوقف الراكب عليها فقال: يا أم عقيل، عظم الله أجرك في عقيل، قالت: ويحك مات ابني " ؟ قال نعم، قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت: انزل فاقض ذمام القوم، ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه وقرب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا وقد تكورت فقالت: يا هؤلاء، هل فيكم أحد يحسن من كتاب الله تعالى شيئاً؟ قلت: نعم أنا، قالت: اقرأ علي آياتٍ من كتاب الله عز جل أتعزى بها، قلت: يقول الله تعالى وجل جلاله: " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمةً وأولئك هم المهتدون " البقرة: 155 157 قالت: الله إنها لفي كتاب الله عز وجل هكذا؟ فقلت: آلله لفي كتاب الله تعالى هكذا. قالت: السلام عليكم، ثم صفت قدميها وصلت ركعتين ثم قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، وعند الله تعالى أحتسب عقيلاً، تقول ذلك ثلاثاً، اللهم إني فعلت ما أمرتني فأنجز لي ما وعدتني.
لأي علة خلق الله الذبابحدثنا محمد بن مخلد بن حفص العطار قال حدثنا محمد بن الحسن بن محمد بن ميمون قال حدثني وزيرة بن محمد بمصر قال حدثني معمر بن شبيب بن شيبة قال: سمعت المأمون يقول لمحمد بن إدريس: يا محمد لأي علةٍ خلق الله تعالى الذباب؟ فسكت ثم قال: مذلةً للملوك، فضحك المأمون ثم قال له: يا محمد رأيت الذبابة وقد سقطت على خدي؟ قال: نعم ولقد سألت عنها وما عندي فيها جواب، فأخذني من ذلك الزمع، فلما رأيت الذبابة قد سقطت منك بموضع لا يناله من معه عشرة آلاف سيف وعشرة آلاف رمح انفتح لي فيها الجواب، فقال: لله درك يا محمد.
ذباب وذبانقال القاضي: قيل في هذا الخبر الذبابة على لغةٍ حكيت ضعيفة، يقال فيها ذبابة في التوحيد وذباب في الجمع، مثل رقاقة ورقاق، وثمامة وثمام، وجزارة وجزار فما أشبه هذا مما سبق جمعه واحده وكانت الهاء فارقة بين واحده وجمعه، فأما اللغة الفصيحة في العربية الفاشية عند أهل اللغة فهو أن الذباب واحد. قال الله عز وجل: " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه " الحج:73 ويجمع الذباب في القة أذبة، وفي الكثرة ذبان، مثل غراب وأغربة وغربان.
المأمون يمتحن محمد بن العباسحدثنا ابن مخلد قال حدثنا محمد بن الحسن، قال حدثنا وزيرة، قال حدثنا معمر بن شبيب، قال سمعت المأمون يقول: قد امتحنت محمد بن العباس في كل شيء فوجدته كاملاً، وقد بقيت خصلة وهو أن أسقيه من النبيذ ما يغلب على الرجل الجيد الشرب، قال فحدثني ثابت الخادم وقد دعا به فأعطاه رطلاً فقال: اشرب يا محمد، قال: يا أمير المؤمنين ما شربت قط، قال: عزمت عليك لتشربن، فشربه، ثم وإلى عليه بالأرطال حتى سقاه عشرين رطلاً، فما تغير ولا زال عن حجة.
قولة طبع ووثاقة بنية
قال القاضي: وهذا ممن لم يعتد شربه ولم يأنس به مزاجه وطباعه أبلغ في الأعجوبة وأدل على اعتدال التركيب وقوة الطبع ووثاقة البنية، والله أعلم بصحة هذه الحكاية وثبوتها من جهة الرواية.
محمد بن الحسن والشافعيحدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف قال حدثني أحمد بن أبي الصلت الحماني قال، سمعت أبا عبيدٍ يقول: رأيت الشافعي عند محمد بن الحسن وقد دفع إليه خمسين ديناراً، وقد كان دفع إليه قبل هذا خمسين درهماً وقال: إن اشتهيت العلم فالزم، ثم دفع إليه هذه الدنانير ولزمه الشافعي؛ قال أبو عبيد: فسمعت الشافعي يقول: كتبت عن محمد بن الحسن وقر بعير؛ وسمعته يقول لمحمد بن الحسن وقد دفع إليه الدنانير بعد الخمسين درهماً وقال له: لا تحتشم، فقال: ما أنت عندي في موضع أحتشمك. وجرى ذكر الشراب فقال الشافعي: الحمد الله لو علمت أن الماء البارد يضر مرؤءتي في ديني لما شربت إلا الماء الحار ألقى الله تعالى، ولو كنت عندي ممن أحتشمك ما قبلت برك.
المجلس الخامس والستون
معنى النعم الظاهرة والباطنةأخبرنا المعافى قال حدثنا أحمد بن حمدان بن عبد العزيز الختلي، قال حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة العبسي، قال حدثنا إبراهيم بن محمدٍ بن ميمون، قال حدثنا عمرو بن هاشم أبو مالك الجنبي قال حدثنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية: " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنةً " لقمان: 20 قال ابن عباس: هذه مما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله ما هذه النعمة؟ فقال: أما ما ظهر فالإسلام وما سواه من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه، وأما ما بطن فما ستر عليك من مساوئ عملك، يا ابن عباس إبن الله عز وجل يقول: ثلاث جعلتهن للمؤمن: صلاة المؤمنين عليه من بعد موته، وجعلت له ثلث ماله يكفر عنه من خطاياه، وسترت مساوئ عمله أن أفضحه بشيءٍ منها ولو أبديها لنبذه أهله فمن سواهم.
آراء في تفسير الآيةقال القاضي: جاء هذا الخبر بتلاوة هذه الآية وتأويلها ووردت بتلاوتها فيه على قراءة من قرأ: " وأسبغ عليكم نعمةً " بلفظ التوحيد وهي قراءة كثيرٍ من المكيين والكوفيي، وقد قرأها كثير من المدنيين والشاميين والبصريين " وأسبغ عليكم نعمه " على لفظ الجمع وهما قراءتان مشهورتان قد استفاض نقلهما، وقرأت الأئمة بهما وراثةً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناهما يرجع إلى معنى واحدٍ لأن قائلاً لو قال: ما يتقلب فيه فلان من المال والولد والصحة والأمن وأنواع الخير وجميل الستر نعمة أسداها الله تعالى إليه، أو قال هذه نعم من الله تعالى تفضل بها عليه، لكان القولان صحيحين، وكذلك تقارب المعنى في قراءة من قرأ: فانظر إلى آثار رحمة الله " الروم: 50 ومن قرأ: أثر رحمة الله " وقراءة من قرأ: " بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته " البقرة: 81 و خطيئاته وقد قيل إن معنى قوله خطيئته في هذا الموضع الشرك، وقيل بل كبائر ذنوبه التي مات ولم يتب منها. وروي عن عبد الله بن كثير أنه قال في معنى قوله تعالى: وأسبغ عليكم نعمة " هي شهادة أن لا إليه إلا الله في ما زعموا، وقيل بل هو عام شامل للنعم؛ ومثل هذا في القرآن كثير. وقيل إن هذا مما ينبئ الواحد منه عن جملة جنسه، كقولهم: هلكت الشاة والبعير، وكثر الدرهم الدينار في أيدي الناس، وقال الله تعالى ذكره: " والعصر. إن الإنسان لفي خسرٍ " العصر: 1،2 أراد الجنس دون اختصاص إنسان واحدٍ، ألا ترى أنه استثنى منه جمعاً فقال: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " العصر: 3 وهذا باب مستقصى في ما رسمناه من علوم القرآن.
وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيانحدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال، قال أبو بكرٍ رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان وقد بعثه إلى الشام:
ابدأ بالصلاة إذا حل لك وقتها ولا تشاغل عنها بغيرها، فإن الإمام تقتدي به رعيته وتعمل بعمله في نفسه، وإذا وعظت فأوجز، ولا تكثر الكلام فإن كثرة الكلام تنسي بعضه بعضاً، وإنما يغني منه ما وعي عنك. وإذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة، ولا تدخرن عن المشير شيئاً فتكون إنما تؤتى من نفسك، ولا تلجن في عقوبةٍ فإن أدناها وجيع، ولا تسرعن إليها وأنت مكتفٍ بغيرها، ولا تكشف الناس عن أسرارهم، واستغن بعلانيتهم ولا تجسس في عسكرك فتفضحه، ولا تغفله فتفسده، ولا تقاتلن بمجروح فإن بعضه ليس معه، واستشل الناس بالدينا فإن ذا النية تكفيك نيته، ومن أعطيته شيئاً بشيءٍ فف له، ولا تتخذن حشماً تضع عنهم ما تحمله على غيرهم فإن ذلك يضغن الناس عليك ويستحلون به معصيتك.
قال القاضي: رضي الله عن أبي بكر فقد أبلغ في وصيته، وبالغ في نصيحته، ومن حفظ عنه ما علمه، احتذى ما أشار به ورسمه، كان سالكاً محجة الرشاد، في المعيشة والمعاد، ونسأل الله التوفيق للسداد وحسن الاستعداد.
عمرو بن معدي كرب الأكول
الشجاج يغلبه ربيعة بن مكدمحدثنا محمد بن مزيد الخزاعي قال حدثنا الزبير بن بكار، قال حدثني عمر بن أبي بكرٍ المؤملي عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: دخل عمرو بن معد يكرب الزبيدي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنده الربيع بن زيادٍ وشريك بن الأعور الحارثيان فسلم عليه وقال: يا أمير المؤمنين دخلت على خالك أبي سليمان يعني خالد بن الوليد فأتى بثورٍ وقوسٍ وكعبٍ فأطعمنيه، فقال عمر: إن في ذلك لشبعةً، قال: يا أمير المؤمنين لك أولي؟ قال: بل لي ولك، قال كلا يا أمير المؤمنين، فلقد رأيتني آكل الأزهر: التبن هو القدح العظيم، والثور: الأقط، والكعب القطعة من التمر رثيئةً و صريفاً.
قال القاضي: وليس في كتابي عن ابن أبي الأزهر، تفسير القوس، وهو القطعة من السمن، وقيل إن هذه الأسماء الثلاثة هي القية الفضلة من الأنواع التي وصفنا.
قال: فنظر عمر إلى الربيع بن زياد كالمتعجب من قوله، فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين إنه لكذلك، وإن الخيل لتتقي ذراه إذا كان بين الصفين وانتعلت الخيل الدماء؛ على أنه قد نقض الإل قال ابن أبي الأزهر: الإل هو العهد وقطع أو صرنا قال ابن أبي الأزهر: الأواصر الأصول قال عمرو: يا أمير المؤمنين جاورت هذا الحي من بني الحارث بن كعب عشرين سنةً فمشوا إلي الضراء ودبوا إلي الخمر.
قال القاضي: الضراء: ما واراك من شجرةٍ، والخمر: ما وراك من شيءٍ، قال زهير
فمهلاً آل عبد الله عدوا ... مخازي لا يدب لها الضراء
وقال آخر:
ألا يا زيد والضحاك سيرا ... فقد جاوزتما خمر الطريق
فلما بدت لي ضباب صدورهم وحسك قلوبهم أو جرتهم أمر من نقيع الحنظل. فقال شريك بن الأعور: يا أمير المؤمنين إن هذا ما أعجزنا لما أخذته أنيابنا وكلمته أظفارنا، فقال عمرو: إليك يا ابن الأعور فإني لا أغمز غمز التين ولا يقعقع لي بالشنان؛ فلما خشي عمر أن يتفاقم الأمر بينهم ويخرجوا إلى ما هو أعظم من هذا قال: إيهاً عنكم الآن، وأقبل على عمروٍ فقال: يا أبا ثور لقد حدثت عن نفسك بمأكلٍ ومشرب، ولقد لقيت الناس في الجاهلية والإسلام فأخبرني هل صدفت عن فارس قط؟ قال: يا أمير المؤمنين، قد كنت أكره الكذب في الجاهلية وأنا مشرك فكيف إذ هداني الله تعالى للإسلام؟ لقد قلت ذات يومٍ لخيل من بني ذهل: هل لكم في الغارة؟ قالوا: على من؟ قلت: على بني البكاء، قالوا: مغار بعيد على شدة كلب وقلة سلب، قلت: فعلى من؟ قالوا: على هذا الحي من كنانة فإنه بلغنا أن رجالهم خلوف. فخرجت في خيل حتى انتهيت إلى وادٍ من اوديتهم فدفعت إلى قومٍ سراةٍ؛ قال له عمر: وما أدراك أنهم سراة؟ قال: انتهيت إلى قبابٍ عظيمةٍ من أدم، وقدورٍ متأقةٍ وإبلٍ وغنم، فقال عمر: هذا لعمري علامة السرور، قال عمرو: فانتهينا إلى أعظمها قبةً فأكشفها عن جاريةٍ مثل المهاة، فلما رأتني ضربت يدها على صدرها وبكت، فقلت: ما يبكيك؟ قالت: ما أبكي على نفسي ولا على المال، فقلت: على أي شيءٍ تبكين؟ قالت: على جوارٍ أترابٍ لي قد ألفتهن وهن في هذا الوادي، قال: فهبطت الوادي على فرسي فإذا أنا برجلٍ قاعدٍ يخصف نعله، وإلى جانبه سيف موضوع، فلما رأيته علمت أن الجارية قد خدعتني وما كرتني، فلما رآني الرجل قام غير مكترث، ثم علا رابيةً، فلما نظر إلى قباب قومه مطروحةً حمل علي وهو يقول:
قد علمت إذ منحتني فاها ... ولحفتني بكرةً رداها
أني سأحمي اليوم من حماها ... يا ليت شعري ما الذي دهاها
فقلت مجيباً له:
عمرو على طول السرى دهاها ... بالخيل يزجيها على وجاها
حتى إذا جل بها احتواها
ثم حملت عليه وأنا أقول:
أنا ابن عبد الله محمود الشيم ... مؤتمن الغيب وفي بالذمم
من خير من يمشي بساقٍ وقدم
قال: فحمل علي وهو يقول:
أنا ابن ذي الاقيال أقيال ألبهم ... من يلقني يود كما أودت إرم
أتركه لحماً على ظهر وضم
قال: واختلفنا ضربتين، فأضربه أحذر من العقعق، ويضربني أثقف من الهر، فوقع سيفه في قربوس سرجي فقطعه، وعض كاثبة الفرس، فوثبت على رجلي قائماً وقلت: يا هذا ما كان يلقاني من العرب إلا ثلاثة: الحارث بن ظالم لسنه والتجربة، وعامر بن الطفيل للشرف والنجدة، وربيعة بن مكدم للحياء والبأس، فمن أنت ثكلتك أمك؟ قال: بل من أنت ثكلتك أمك؟ قلت: أنا عمرو بن معدي كرب الزبيدي، قال: وأنا ربيعة بن مكدم، قلت: اختر مني إحدى ثلاث خصال: إما أن نتضارب بسيفينا حتى يموت الأعجز؛ وإما أن نصطرع فأينا صرع صاحبه قتله، وإما المسالمة، قال: ذاك إليك فاختر، قلت: إن بقومك إليك حاجةً وبقومي إلي حاجة، والمسالمة أولى وخير للجميع. ثم أخذت بيده فأتيت به أصحابي وقلت لهم: خلوا ما بأيديكم قالوا: يا أبا ثور غنيمة باردة بأيدينا تأمرنا أن نتركها؟ فقلت لهم: لو رأيتم ما رأيت لخليتم وزدتم، خلوا وسلوني عن فرسي ما فعل؛ قال: فتركنا ما بأيدينا وانصرفنا راجعين.
معنى الغنيمة الباردةقال القاضي: في قوله: غنيمة باردة وجهان: أحدهما أنها الغنيمة التي لم ينل غانمها حر السلاح وحازوها سالمين ظاهرين موفورين غير مكلومين، وقد يكون البرد في هذا القول بمعنى الطمأنينة والراحة كما يقال: اللهم أذقنا برد عفوك، ومنه برد اليقين بمعنى الطمأنينة والسكون، ويقولون برد الميت أي سكن. والوجه الثاني أن الغنيمة الباردة هي المستقرة الحاصلة والمحوزة الثابتة من قولهم: ما برد بيدي من هذا شيء، أي ما حصل ولا ثبت، كما قال الراجز:
اليوم يوم بارد سمومه ... من عجز اليوم فلا تلومه
أي ثابت سمومه. وقد أنشدنا محمد بن القاسم الأنباري:
عافت الشرب في الشتاء فقلنا ... برديه تصادفيه سخينا
على وجهين: برديه أي احبسيه وأقريه لينكسر برده، والآخر بل رديه من الورد، فأدغم اللام في الراء، وهذا كثير في كلام العرب، والإظهار هاهنا قليل في السماع ضعيف في القياس، وان كان بعضهم قد أظهر، وقد روي عن حفص بن سليمان الأسدي عن عاصم بن أبي النجود " بل ران " المطففين: 14 بالإظهار.
نصيحة وصيف وتردد ابن بلبلحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني يعقوب بن بنان المنقري قال حدثنا أبو العباس ابن الفرات، وقد جرى ذكر إسماعيل بن بلبل وأيامه، فقال: كنت يوماً بين يديه وقد ورد عليه خبر الناصر ودخوله قرماسنين، فرأيته قد أطال الفكر ثم قال لأحمد الحاجب: وجه إلى أبي علي وصيف إلى موسى ابن أخت مفلح، فلم نلبث أن حضرا ثم قال: وجه إلى عبد الله بن الفتح، فقال له وصيف: أريد أن أقول شيئاً قبل أن توجه إلى عبد الله بن الفتح، فقال له وصيف: أريد أن أقول شيئاً قبل أن توجه إلى عبد الله بن الفتح، فقال: قل، فكأنه كره أن يقول بسبب من حضر المجلس، فقال أبو الصقر: نحتاج أن نخلو، ولم يكن بالحضرة إلا أربعة أنا خاسمهم: أحمد بن محمد بن خالد أخو أبي صخرة، وما شاء الله الذي كان يكتب للطائي وإسماعيل بن ثابت الزغل، وابن فراس وقد كان استكتبه للعبدي، فقمنا، فقال: مكانك يا أحمد، فجلست ناحيةً وبين يدي أعمال أنظر فيها، وقال لوصيف: قل، فقال له: إن كنت توجه إلى عبد الله بن الفتح تشاوره في أمرٍ ورد عليك وتظن أنه لك مثل من حضر فلا تظن ذاك، فإن عبد الله كان بمصر يقول: ليس لي صلاة ما دمت مع ابن طولون لأن الناصر ليس براض عنه، وهو الآن إنما هو معك على أن الناصر يستنصحك ويرضى بك فيما ولاك من أمره، فإن وقف على تدبيرٍ تدتبره على غير ما يوافق الناصر رأى أن دمك حلال، فأفكر أبو الصقر ساعةً وقاموا معه فدخلوا مجلساً وأسبلت الستور دونهم، ومعهم خادم لأبي الصقر أسود يقال له صندل حسن الفكر؛ فلما قدم الناصر ونكب إسماعيل وتخلصنا من النكبة واستخلفني أبو القاسم عبيد الله بن سليمان كان الخادم يجيئني كثيراً، فسألته عماجرى في تلك الخلوة فقال لي: لا تلد النساء مثل وصيف الخادم، ولا يرى في الدول مثله، قال مولاي لهما يعين يوصيفاً وموسى: قد قرب هذا الرجل ولم يبق في بيوت الأموال شيء ولا والله ما ورائي ما أرضيه به، ونحن في عدةٍ عظيمةٍ قد أنفقت الأموال عليها لأدفع بها عن نفسي، وقد أفكرت في أن أوجه وأقطع جسر النهروان وأوجه بأكثر الجيش إليه مع أحمد بن الحسن المادرائي، فقال له موسى: الرأي لسيدنا ونحن بين يديه في كل ما نهضنا إليه، فقال لوصيفٍ: ما تقول يا أبا علي؟ فقال: أرى لك رأياً لا يخلص لك غيره، أرى أن تأخذ ابنه وتأخذ معك من الجيش من تعلم أنه لك ناصح، وتقيد من تتهمه، وتخرج في الجملة التي تثق بها حتى توافي المدائن، فتأخذ المعتمد وأولاده وتخلفني بواسط وتصير أنت إلى الصرة، والخليفة وأولاده معك، ويكون أبو العباس ومن قد قيدته معك، فإن أهل البصرة إذا رأوا الخليفة حارب دونك رجالهم وخولهم وصبيانهم ونساؤهم، ويكون ما ل الأهواز وواسط والبصرة في يديك، وتحدر معك الشذاءات والحراقات والزلالات والطيارات، وتكاتب عمرو بن الليث فإنه عدوه، فإن كفيت أمره بهذه العلة التي يقال إنه فيها رجعت إلى بغداد وأنت أعز الناس، وإن عاش كنت مع أمير المؤمنين وإمام المسلمين لم تخلع ولم تحدث في أمره حادثة تزيل إمامته، ومعك ولي عهدٍ مقدم على أخيه ولم تخرج من طاعةٍ، فالناس كلهم معك، وقاتلناه أشد قتال، ولعنته على المنابرن وكان ابنه في يديك وأنت مستظهر به وبابنه الآخر، وأولادك وحاشيتك معك.
وإذا نظر الأولياء إلى جودك وبخله واستنقاذك خليفةً مظلوماً وقيامك بنصرته ناصحوك وبذلوا مجهودهم لك، وإن خالفت هذا فأنت والله مأخوذ مقتول، وأنت أعلم. فقال له: القول ما قلت، وهذا هو التدبير، وأنا آخذ في هذا وأعمل به، وخرجا من عنده. فبلغ وصيفاً أن مولاي عرض دوابه وبغاله لاستقبال الناصر، وأنه أنفذ كتاباً إلى أبي بكر ابن أخته، وكان مع الناصر، ليعرضه على الناصر ليجد له موضعاً في استقباله، وورد الكتاب بدخول الناصر حلوان، فجاءه وصيف فقال: ما عزم سيدنا الوزير؟ قد كاد ما جرى أن يفوت، فقال: الليلة أنظر في هذا، فقال: فإلى أن تنظر أتقدم أنا إلى واسط لأكون هناك إلى أن توافي، فقال: ويحك، الرجل قد كتب إلى ابن أختي أنه لم يبق فيه من الروح ما يدخل بغداد، فما معنى الانزعاج وتنبيه الأولياء على المطالبة بالشخوص؟ فقال: والله إن دخل الناصر بغداد في تابوتٍ ليخرجن المحبوس من غير أمرك، ليجتمعن الناس كلهم له، ولينقلبن عنك كل من اصطنعته، فإن كنت لا تطيعني فيما أشرت به فدعني حتى أكبس الحسني كأني قد عاصيتك، وآخذ المحبوس معي، وآخذ المحبوس معي، وآخذ الخليفة من المدائن معي كأنه عن غير أمرك، فإنه يتهيأ لك إن وقعت على شيءٍ يخالف محبتك أن تتخلص حتى تلحق بي أو تستتر إلى أن تجد الفرصة بالتخلص، فقال له: ألى أن يقفل ذاك من حلوان ربما ينجلي المر، فقال له: أما أنا فما أقيم ساعة أخرج من عندك وأنا بواسطٍ إلى أن يأتيني أمرك إن بقي لك أمر، وودعه وخرج، فخلا به المادرائي وأشار عليه بمثل هذا فلم يفعله، ودخل الناصر، وكانت الكائنة والجلاء الذي لم ير مثله.
رأي معاوية في ما يستحسن من الشعرحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أحمد بن يحيى قال حدثنا عمر بن شبة عن أشياخه قال: قال معاوية بن أبي سفيان لعبد الرحمن بن الحكم: أراك تعجب بالشعر، فإن فعلت فإياك والنسيب بالنساء فإنك تعر به الشريفة وترمي به العفيفة وتقر على نفسك بالفضيحة، وإياك والهجاء فإنك تحنق به كريماً وتستثير به لئيماً، وإياك والمدح فإنه كسب الوقاح وطعمة السؤال، ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأمثال ما تزين به نفسك وشعرك وتودد به إلى غيرك.
ويقال الشعر أدنى مروءة السري وأفضل مروءة الدني.
نصيب الشاعر ورأيه في شعراء عصرهأخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي قال حدثنا أحمد بن يحيى، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثنا محمد بن أحمد عن محمد بن عبد الله عن معاذٍ صاحب الهروي قال: دخلت مسجد الكوفة فرأيت رجلاً لم أر قط أنقى ثياباً منه و لا أشد سواداً، فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا نصيب، فقلت: أخبرني عنك وعن أصحابك، فقال: جميل إمامنا، وعمر أوصفنا لربات الحجال، وكثير أبكانا على الأطلال والدمن، وقد قلت ما سمعت، قلت: فإن الناس يزعمون أنك لا تحسن أن تهجو، قال: فأقروا لي أني أحسن المديح؟ قلت: نعم، قال: أفترى لا أحسن أن أجعل مكان عافك الله أخزاك الله؟ قلت: بلى، قال: ولكني رأيت الناس رجلين: رجلاً لم أسأله فلا ينبغي أن أهجوه فأظلمه، ورجلاً سألته فمنعني فكانت نفسي أحق بالهجاء إذ سولت لي أن أطلب منه.
شاعر يسترفد مكدياً
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي قال: قدم أحمد أو إبراهيم بن الحسن بن سهل البصرة وقد ولي شيئاً من أعمالها فنزل طاحية، فمضى إليه بعض شعراء البصرة فامتدحه، فوقع إليه:
شاعر يطلب رفداً ... من أخي شعرٍ مكدي
إن ذا أعجب أمرٍ ... خاض فيه الناس بعدي
أنا في أخذ ثياب الن؟ ... اس مذ كنت أسدي
جلب الريح إلري؟ ... ح الذي يطلب رفدي
قال: فأردت هجاءه فلم أفعل، فلقيني يوماً فقال لي: يا هذا مازحناك فجددت في هجرنا، ثم قال لغلامه: لا تفارقه، فمضى بي معه فأقمت عنده يومي ووهب لي خمسمائة درهمٍ وقال: لا تقطعني، فكنت أمضي إليه، فلما أراد الخروج من البصرة أمر لي بجميع ما بقاه في الدار مما لم يحمله معه، فبعته بمائة دينار، قال أبو عبد لله: لا أدري من حدثني بهذا الجماز أو الحمدوي أوغيرهما.
؟ضروب من القبح
حدثنا محمد بن الحسن بن زيادٍ قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب، قال حدثنا أبو العالية، قال سمعت المأمون يقول: ما أقبح اللجاجة بالسلطان، وأقبح والله من ذلك الضجر من القضاة قبل التفهم، وأقبح منه سخافة الفقهاء بالدين، وأقبح منه البخل بالأغنياء والمزاح بالشيوخ والكسل بالشباب والجبن بالمقاتل.
؟لا تغرق في شتمنا حدثنا أحمد بن جعفر قال حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر قال حدثنا ابن إسحاق بن إسماعيل الطالقاني قال حدثنا سفيان بن عيينة قال: كان بين عمر بن ذر وبين رجلٍ يقال له ابن عياش شحناء، وكان يبلغ عمر بن ذرٍ أن ابن عياشٍ يتكلم فيه، قال: فخرج عمر ذات يوم فلقي ابن عياش فوقف معه، فقال له: لا تغرق في شتمنا ودع للصلح موضعاً فإنا لا نكافئ أحداً عصى الله تعالى فينا بأكثر من أن نطيع الله تعالى فيه.
؟
لا تدع على أخيكحدثنا ابن المنادي قال حدثنا جعفر الصائغ أيضاً قال حدثنا الحسن بن بشر، قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بهن عبيد الله قال: سمع مسلم بن يسار رجلاً يدعو على أخٍ له من أجل أنه ظلمه، فقال له مسلم: يا أخي لا تدع على أخيك ولا تقطع رحمه، وكله إلى الله فإن خطيئته أشد له طلباً من أعدى عدو له.
كبش من افريقيةحدثنا عبدي الله بن مسلم العبدي قال حدثنا الغلابي، قال حدثنا إبراهيم بن حبيب القاضي الغلابي قال: رأيت في دار محمد بن زبيدة كبشاً قدم به من إفريقية أسود فيه حلق مكتوب ببياض: لا إله إلا الله وفي الشق الآخر محمد رسول الله.
انتقل من جوار ابن طاهرحدثنا أحمد بن أبي سهلٍ بن عاصم الحلواني، قال حدثنا أبو الحسن علي بن هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور قال: كان أبي نازلاً في جوار عبيد الله بن عبد الله بن طاهر فانتقل عنه إلى دارٍ ابتاعها بنهر المهدي وهي دار إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فكتب إليه عبيد الله مستوحشاً:
يا من تحول عنا وهو يألفنا ... بعدت جداً فلأياً صرت تلقانا
فاعلم بأنك إذ بدلت جيرتنا ... بدلت داراً وما بدلت إخوانا
فأجابه هارون بن علي:
بعدت عنكم بداري دون خالصتي ... ومحض ودي وعهدي كالذي كانا
وما تبدلت مذ فارقت قربكم ... إلا هموماً أعانيها وأحزانا
وهل يسر بسكنى داره أحد ... وليس أحبابه للدار جيرانا
غزل لهارون الرشيدحدثنا عمر بن أحمد بن علي المروزي الجوهري إملاءً من حفظه سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة قال: أخبرني أبو العباس أحمد النيسابوري أن هذه الأبيات كتبها هارون الرشيد إلى جاريةٍ له كان يحبها وكانت تبغضه:
إن التي عذبت نفسي بما قدرت ... كل العذاب فما أبقت ولا تركت
مازحتها فبكت واستعبرت جزعاً ... عني فلما رأتني باكياً ضحكت
فعدت أضحك مسروراً بضحكتها ... حتى إذا ما رأتني ضاحكاً فبكت
تبغي خلافي كما خبت براكبها ... يوماً قلوص فلما حثها بركت
أو لعله لابن إياسحدثنا جعفر بن محمد بن نصير الخواص، قال حدثنا أبو العباس ابن مسروق، قال حدثني محمد بن أحمد أبو الحسن المدائني، قال حدثني عبد الله بن يحيى بن فرقد مولى المهدي قال: اشترى محمد بن إياس جاريةً مغنية فهويها وكان مستهتراً بحبها وعشقها فأعرضت بوجهها عنه يوماً، فلقيني وهو كئيب حزين، فقلت: ما شأنك؟ فأنشأ يقول:
أليس من عجب بل زادني عجباً ... مملوكة ملكت من بعد ما ملكت
هي التي عذبتني في مودتها ... كل العذاب فما أبقت ولا تركت
أو لشاعر آخرأنشدنا بعقوب بن محمد بن صالح الكريزي قال أنشدنا عبد الجليل بن الحسن لذؤيب:
هي التي عذبتني في مودتها ... كل العذاب فما أبقت ولا تركت
عاتبتها فبكت واستعبرت أسفاً ... عني فلما رأتني باكياً ضحكت
فظلت أضحك مسروراً لضحكها ... فاستعبرت إذ رأتني ضاحكاً فبكت
تبغي خلافي كما خبت براكبها ... يوماً قلوص فلما حثها بركت
كأنها درة قد كنت أذخرها ... ليوم عسرٍ فلما رمتها هلكت
المجلس السادس والستون
يذهب إلى دمشق ليسمع حديثاً من أبي الدرداء
أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا قراءة عليه قال حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي، قال حدثنا محمود بن خداش، قال حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، قال حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من المدينة إلى أبي بالدرداء وهو بدمشق، فقال: ما أقدمك يا أخي؟ قال: حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما جئت لحاجةٍ؟ قال: لا، قال: ما قدمت لتجارةٍ؟ قال: ما جئت إلا في طلب هذا الحديث، قال: فإني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: من سلك طريقاً يبتغي به علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها إرضاءً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما أروثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافرٍ.
قال القاضي: هذا خبر قد كتبناه عن عددٍ من الشيوخ، وروينا في معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأئمة العلماء من السلف والخلف. واستقصاء القول في شرف العلم وفضله، وارتفاع منزلته، وعلو شأن اقتباسه وحمله، وجلالة القائمين بروايته ونقله، مما يصعب ويبعد ويتعب المتعاطي له ولا يتيسر، ونحن نأتي بالشيء بعد الشيء في المجلس بعد المجلس فيسهل مورده، ويعظم على الناظر فيه الانتفاع به، وبالله نستعين فإنه خير معين.
الخليل يرى أن الرجال أربعةحدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال أخبرنا أبو معمر عن أبيه قال حدثنا النضر بن شميل قال، سمعت الخليل بن أحمد يقول: الرجال أربعة: رجل يدري ولا يدري أنه يدري فذاك غافل فنبهوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذاك جاهل فعلموه، ورجل يدري ويدري أنه يدري فذاك عاقل فاتبعوه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذاك مائق فاحذروه. وأنشدت في بعض ما يشتمل بعض الحكاية عليه:
ما زلت في تيه الظلام أجري ... حتى دريت أنني لا أدري
بين الطاهري وبعض أهل الأدبحدثنا الحسني بن القاسم الكوكبي، قال حدثنا أبو الحسن علي بن عصمة الأواني الشهراباني الشاعر قال حدثني بعض المشايخ من أهل الأدب قال: كنت مقيماً بالري فدعاني ذات يوم محمد بن علي الطاهري، فلما استوى مجلسي عنده قال لي: قد خطرت ببالي أشياء أنا سائلك عنها فقل فيها بما حضرك، قلت: يسأل الأمير وأسمع، قال: ما أطيب الطعام؟ قلت: طعام لقي جوعاً ومطعم وافق شهوة، قال: فما ألذ الشراب؟ قلت: شربه ماءٍ باردٍ تبرد غليلك أو كأس راح تعاطيها خليلك، قال: فما أمتع الغناء؟ قلت: أوتار أربعة، وجارية متربعةً، غناؤها مصيب، وضربها عجيب، قال: فما أذكى الطيب؟ قلت: ريح بدن تحبه، أو ولدٍ تربه، قال: فما أشهى النساء؟ قلت التي تخرج من عندها كارهاً، وترجع إليها والهاً، قال: فما أفره الخيل؟ قلت: الأسوق الأعنق الذي إذا طلب لم يسبق، وإذا طلب لم يلحق، إذا صهل أطربك، وإذا رأيته أعجبك، قال: أحسنت يا غلام أعطه مائة دينار قلت: أعز الله الأمير وأين تقع مني مائة دينار؟ فقال لقد زدت نفسك مائة دينار قلت: أولست كذا؟ قال الأمير قال: لا، ولا كني أحقق ظنك، يا غلام أعطه مائتي دينار.
؟؟
إهانة الحجاج لأنس وما نجم عنها
حدثني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أحمد بن عبيدٍ قال حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن عوانة بن الحكم الكلبي قال: دخل أنس بن مالك على الحجاج بن يوسف، فلما وقف بين يديه سلم عليه فقال أيها يا أنيس، يوم لك مع علي، ويوم لك مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الأشعث، والله لأستأصلنك كما تستأصل الشأفة، ولأقلعنك كما تقلع الصمغة، فقال أنس: إياي يعني الأمير أصلحه الله ؟ فقال: إياك سك الله سمعك، قال أنس: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لولا الصبية الصغار ما باليت أي قتلةٍ قتلت ولا أي ميتةٍ مت. ثم خرج من عند الحجاج فكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك، فلما قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط غضباً وصفق عجباً، وتعاظمه ذلك من الحجاج. وكان كتاب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من أنس بن مالك، أما بعد، فإن الحجاج قال لي هجراً، وأسمعني نكراً، ولم أكن لذلك أهلاً، فخذ لي على يديه فإني أمت بخدمتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فبعث عبد الملك إلى إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، وكان مصادقاً للحجاج، فقال له: دونك كتابي هذين فخذهما واركب البريد إلى العراق، فأبدأ بأنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فادفع كتابه إليه وأبلغه مني السلام وقل له: يا أبا حمزة قد كتبت إلى الحجاج الملعون كتاباً إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك. وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت من شكاتك للحجاج، وما سلطته عليك ولا أمرته بالإساءة إليك، فإن عاد لمثلها فاكتب إلي بذلك أنزل به عقوبتي، وتحسن لك معونتي، والسلام، فلما قرأ أنس بن مالك كتابه وأخبر برسالته قال: جزى الله أمير المؤمنين عني خيراً وعافاه وكافأه عني بالجنة، فهذا كان ظني به والرجاء منه. فقال إسماعيل بن عبد الله لأنس: يا أبا حمزة إن الحجاج عامل أمير المؤمنين وليس بك عنه غنى ولا بأهل بيتك، ولو جعل لك في جامعةٍ ثم دفع إليك لقدر أن يضر وينفع، فقاربه وداره، فقال أنس: أفعل إن شاء الله. ثم خرج إسماعيل من عنده فدخل على الحجاج، فلما رآه الحجاج قال: مرحباً برجلٍ أحبه وكنت أحبلقاءه، فقال له إسماعيل: وأنا والله كنت أحب لقاءك في غير ما أتيتك به، قال: وما أتيتني به؟ قال: فارقت أمير المؤمنين وهو أشد الناس عليك غضباً ومنك بعداً، قال: فاستوى الحجاج جالساً مرعوباً فرمى إليه إسماعيل بالطومار، فجعل الحجاج ينظر فيه مرة ويعرق وينظر إلى إسماعيل أخرى، فلما نفضه قال: قم بنا إلى أبي حمزة نعتذر إليه ونترضاه، فقال له إسماعيل: لا تعجل، قال: كيف لا أعجل وقد أتيتني بآبدةٍ؟ وكان في الطومار: إلى الحجاج بن يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجاج بن يوسف: أما بعد، فإنك عبد طمت بك الأمور فسموت فيها وعدوت طورك، وجاوزت قدرك، وركبت داهية إداً، وأردت أن تبورنى، فإن سوغتكها مضيت قدماً، وإن لم أسوغها رجعت القهقرى، فلعنك الله عبداً أخفش العينين منقوص الجاعرتين، أنسيت كاسب آبائك بالطائف وحفرهم الآبار ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب؟! والله لأغمزنك غمز الليث الثعلب والصقر الأرنب، وثبت على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فلم تقبل له أحسانه ولم تجاوز له إساءته، جرأةً منك على الرب عز وجل، واستخفافاً منك بالعهد، والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلاً خدم عزير بن عزرة وعيسى بن مريم لعظمته وشرفته واكرمته، فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه ثماني سنين يطلعه على سره ويشاوره في أمره، ثم هو مع هذا بقية من بقايا أصحابه، فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خفه ونعله، وإلا أتاك مني سهم مثكل بحتفٍ قاضٍ و " لكل نبأٍ مستقر وسوف تعلمون " الأنعام:67.
تفسير بعض المفرادات
قال القاضي: قول الحجاج: سك الله سمعك يقال: استكت الأذنان واصطكت الركبتان. وقوله للحجاج: يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب كانت المراة تستعمل عجم الزبيب لتضيق قبلها في ما ذكر بعض أهل العلم وهو حبه، والنوى كله يقال له عجم واحدته عجمة، قال الأعشى:
مقادك بالخيل أرض العدو ... وجذعانها كلقيط العجم
قيل: صارت من صلابتها مثل النوى. وقال أبو عبيدة: عجم عجماً أي ليك لأنه نوى الفم فهو أصلب ليس بنوى خل ولا نبيذٍ فهو أصلب وأملس، وإنما أرارد صلابتها وضمرها، ولقيط أراد ملقوط مثل جريح ومجروح، ويروى كلفيظ العجم أي ملفوظ ملقى.
بين دعبل والمطلب الخزاعيحدثنا محمد بن الصولي قال حدثني عون بن محمد قال لما هجا دعبل المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي فقال:
اضرب ندى طلحة الطلحات متئداً ... ببخل مطلبٍ فينا وكن حكما
تخرج خزاعة من لؤمٍ ومن كرمٍ ... فلا تعد لها لؤماً ولا كرما
ويروى تسلم خزاعة. فدعاه بعد ذلك المطلب، فلما دخل إليه قال: والله لأقتلنك لهجائك لي، فقال: له فأشبعني إذن ولا تقتلني جائعاً، فقال: قبحك الله هذا أهجى من الأول، ثم وصله فحلف أنه يمدحه ما عاش، فقال فيه:
سألت الندى لا عدمت الندى ... وقد كان منا زماناً غرب
فقلت له طال عهد اللقاء ... فهل غبت بالله أم لم تغب
فقال بلى لم أزل غائباً ... ولكن قدمت مع المطلب
قال القاضي: في هذا الخبر ما دل على دهاء دعبل ولطف حيلته وأنبأ عن ذكاء المطلب ودقة فطنته. وقد روي مثل هذا عن معن بن زائدة وأتي بجماعةٍ قد عاثوا في عمله فأمر بقتلهم، فقال له أحدهم: أعيذك بالله أن تقتلنا عطاشاً فأمر بإحضار ماءٍ يسقونهم، فأحضر، فلما شربوا قال: أيها الأمير لا تقتل أضيافك، فقال: أولى لك، وأمر بتخليتهم.
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا عون قال: أنشدني دعبل لنفسه يرثي المطلب:
مات الثلاثة لما مات مطلب ... مات الحياء ومات الرغب والرهب
لله أربعة قد ضمها كفن ... أضحى يعزى بها الإسلام والعرب
يا يوم مطلب أصحبت أعيننا ... دمعاً يدوم لها ما دامت الحقب
هذي خدود بني قحطان قد لصقت ... بالترب منذ استوى من فوقك الترب
جمع فعلةقال القاضي: قول دعبل في شعره في الخبر المتقدم: اضرب ندى طلحة الطلحات أسكن اللام في قوله الطلحات للضرورة وحقها التحريك، والعرب تقول طلحة الطلحات، وحمزة وحمزات، وتمرة وتمرات، وجمرة وجمرات، ومثله الركعات والسجدات بفتح عين الفعل من فعلات في الأسماء من هذا الباب، مالم تكن العين واواً أو ياءً أو ألفاً. وقد أسكن الراجز العين من الاسم في الباب الذي وصفت فقال:
عل صروف الدهر أو دولاتها ... تديلنا اللمة من لماتها
فتستريح النفس من زفراتها
هكذا روي عل صروف بالجر وله علة مختلف فيها، فمن الناس من زعم أن إحدى لامي عل التي في معنى لعل حذفت وأن اللام التي في الظرف هي اللام الخافضة ففتحها لغة، وأكثر أهل العلم ينكرون هذا التأويل ويذهبون إلى أن خفض ما يلي لعل لغة من لغات العرب.
وما كان من الأسماء في هذا الباب عينه مدغمةً في لامه لتجانسهما مثل حبةٍ وحبات وعمة وعمات فإنه ساكن، وكذلك الألف مثل دارةٍ ودارات، وتارة وتاراتٍ، وبابةٍ وباباتٍ، لأن الألف لا تكون إلا ساكنةً، ومتى ما ريم تحريكها انقلبت عن جنسها إلى الهمزة. فأما الواو والياء كجوزةٍ ولوزةٍ وعورةًٍ وغيبةٍ وبيضةٍ وربطةٍ، فالمستفيض من لغة العرب فيه الإسكان للتخفيف ولئلا يلزم القلب فيه الواو ولاياء لتحركهما وانفتاح ما قبلهما ويقع الالتباس، فتكون عارة في عورة بمنزلة دارةٍ، وهذيل بن مدركة يحركون فيقولون عورات وبيضات. قال الله تعالى ذكره: " ثلاث عوراتٍ لكم " النور: 58 فهذه القراءة السائرة بنقل العامة والخاصة، وقد قرأ بعضهم عورات بالتحريك، وهذه قراءة شاذة. وأما فعلات إذا كانت نعتاً فبابها التسكين تخفيفاً مثل: ضخمةٍ وضخمات، وعبلةٍ وعبلاتٍ، وكما شذ في الأسماء قول الراجز زفراتها على ما قدمنا ذكره، فقد شذ في القياس واطرد في الاستعمال قولهم: ربعات في جمع رجل ربعة وامرأة ربعةٍ. وقد زعم جماعة من النحاة أن مما شذ أيضاً في هذا الموضع قولهم شاة لجبة وشياه لجبات، وهي القليلة اللبن. وأرى أنه قيل على التفاؤل بالغزر كما قيل للعطشان ناهل، وللضرير بصير، وللديغ سليم، في قول كثير منهم. ألا ترى إلى قول الشاعر:
في جحفل لجبوقد حكي شاة لجبة بالفتح، وحكى الكسائي عن العرب فيما روي عنه لجبة ولجبة، فعلى هذين الوجهين يكون لجبات جارياً على أصله وقياسه وغير خارج عن بابه. وأما قولهم لقبيلة من قريش العبلات فإنه تقرر في أصله اسماً وخرج أن يكون صفةً ونعتاً. قال الشاعر في لغة هذيل التي قدمنا ذكرها:
أبو بيضاتٍ رائح متأوب ... رفيق بمسح المنكبين سبوح
وقد اختلف أهل العلم بالعربية في علة تحريك عين فعلات بحيث وصفنا وفعلة منه ساكنة العين، فقال أكثرهم: فعل هذا ليفرق بين الأسماء في هذا الباب وبين النعوت، وكانت الأسماء لخفتها أحمل للحركة والنعوت أولى بالتسكين لثقلها وأنها تأتي ثانيةً بعد الأسماء. وقال بعضهم: فعلات في هذ1 الباب فيها تاءان في الأصل والتقدير، وإحداهما هاء تنقلب في الوقف تاء كقولك جفنة وكان التقدير في جمعها جفنتات لأن التاء الأولى لازمة في الواحدة والتاء الثانية أتت للجمع، فاكتفي بإحداهما جعلت حركة العين عوضاً مما حذف، وكانت الأسماء أحق بهذا لسعتها وخفتها، ولم يؤت بها في النعب للتخفيف. وقد حكي امرأة صعدة، كأنها صعدة توصف بالطول تشبيهاً بالقناة، يقال في يد فلانٍ صعدة يمانية، كما قال الشاعر:
في كفه صعدةً يمانية ... فيا سنان كشعلة القبس
يعني وهجاً ومثله:
صعدة قد ثبتت في حائرٍ ... أينما الريح تميلها تمل
فأسكن هاهنا المشبه والمشبه به وهو النعت والاسم في الواحد، وقالوا: نسوة صعدات فأسكنوا لأنه نعت، وكأنهن صعدات فحركوا لأنه اسم.
قال القاضي: وهذا باب تتصل به أبواب تشاركه في أصوله ولها أحكام وعلل، وفيها لغات تتشعب وتتفرع، وهي مرسومة على حدودها مقرونة بعللها في أو إلى المواضع بها.
حكمة للحسنحدثنا إسماعيل بن يونس بن أبي اليسع أبو إسحاق، قال حدثنا يحيى بن جعفر بن عبد الله بن أبي طالب، قال حدثنا محمد بن إبراهيم الشامي، قال حدثنا الوليد بن مسلم وضمرة بن ربيعة عن أحمد بن أبي حميدٍ عن الحسن قال: ما عرف الخير من لم يتبعه، ولا عرف الشر من لم يجتنبه، وما أيقن عبد بالجنة والنار حق يقينهما إلا رؤي ذلك في عمله، فانظر ما تجب أن يكون معك غداً فقدمه اليوم.
خسف بدركلتي ونجا أبو زبيبةحدثنا محمد بن أحمد بن أسد الهروي، قال حدثنا ابن أبي سعد الوراق قال: كان رجل يقال له أبو زبيبة متعبداً يجيء إلى مدينة من مدائن اليمن يقال لها دركلتي قال: فيقف عليهم فينشد هذه الأبيات:
غر جهولاً أمله ... يموت من جا أجله
فما بقاء آخرٍ ... قد مات عنه أوله
قال فكان هذا دأبه، وكان أهل القرية ملحين في المعاصي فخسف بهم، فمر بها رجل فلقيه آخر فقال: ما فعلت دركلتي؟ قال: خسف بها، قال: فأبو زبيبة؟ قال: سلم.
المشي إلى الصين أهون من تلك الخطوة
حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني، قال حدثنا محمد بن القاسم، قال حدثنا الأصمعي قال: نظر الأحنف إلى سيفٍ مع رجلٍ من بني تميم فقال له: إن فيه لقصراً وإنه لجيد، فقال صاحب السيف: يا أبا بحر إنها تطيله خطوة، كما قال الشاعر:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدماً ونلحقها إذا لم تلحق
قال الأحنف: يا ابن أخي، المشي والله إلى الصين أهون من تلك الخطوة.
لا بد من إنصاف الشعراءحدثنا أبو النضر العقيلي، قال حدثنا عسل بن ذكوان، قال حدثنا الزيادي قال: كان الخليل بن أحمد صديقاً لجعفر بن سليمان الهاشمي، فجاء يوماً ليدخل عليه فوجد على بابه شعراء قد أنشدوه وقبلت أشعارهم وتأخرت جوائزهم، فشكوا ذلك إليه وسألوه إذكاره، فدخل إليه فأنشده:
لا تقبلن اشعر ثم تعقه ... فتنام والشعراء غير نيام
وأعلم بأنهم إذا لم ينصفوا ... حكموا لأنفسهم على الحكام
وجناية الجاني عليهم تنقضي ... وعقابهم يبقى على الأيام
قال القاضي: وقد روينا هذه الأبيات منسوبةً إلى ابن الرومي في ما روي لنا من شعره، والله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك.
بين الحسن بن علي وزيادحدثنا أحمد بن الحسن بن الكلبي قال حدثنا محمد بن زكرياء قال حدثنا عبد الله بن الضحاك قال حدثنا هشام بن محمد عن أبيه قال: كان سعيد بن سرحٍ مولى حبيب بن عبد شمس شيعةً لعي بن أبي طالب عليه السلام، فلما قدم زياد الكوفة والياً عليها أخافه وطلبه زياد، فأتى الحسن بهن علي، فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته فأخذهم وحبسهم وأخذ ماله وهدم داره، فكتب الحسن إلى زياد: من الحسن بن علي إلى زياد أما بعد فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له مالهم وعليه ما عليهم فهدمت داره وأخذت ماله وعياله فحبستهم، فإذا أتاك كتابي هذا فابن له داره واردد عليه عياله وماله، فإني قد أجرته فشفعني فيه. فكتب إليه زياد: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة: أما بعد فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي، وأنت طالب حاجةٍ، وأنا سلطان وأنت سوقة، كتبت إلي في فاسقٍ لا يؤويه إلا مثله، وشر من ذلك توليه أباك وإياك، وقد علمت أنك قد آويته إقامة منك على سوء الرأي ورضى منك بذلك، وايم الله لا تسبقني به، ولو كان بين جلدك ولحمك وإن نلت بعضك غير رفيقٍ بك ولا مرعٍ عليك، فإن أحب لحمٍ إلي آكله للحم الذي أنت منه، فأسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك، فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه، وإن قتلته لم أقتله إلا لحبه إياك.
فلما قرأ الحسن عليه السلام الكتاب تبسم وكتب إلى معاوية يذكر له حال ابن سرح وكتابه إلى زياد فيه وأجابة زيادٍ إياه، ولف كتابه في كتابه وبعث به إلى معاوية. وكتب الحسن إلى زياد: من الحسن بن فاطمة عليهما السلام إلى زياد بن سمية: الولد للفراش واللعاهر الحجر. فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية وقرأ معاوية الكتاب ضاقت به الشام، وكتب إلى زيادٍ: أما بعد فإن الحسن بن علي بعث بكتابك إلي جواب كتابه إليك في ابن سرح، فأكثرت التعجب منك، وعلمت أن لك رأيين: أحدهما من أبي سفيان والآخر من سمية، فأما الذي من أبي سفيان فحلم وحزم. وأما رأيك من سمية فما يكون رأي مثلها؟ ومن ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه وتعرض له بالفسق، ولعمري لأنت أولى بالفسق من الحسن، ولأبوك إذ كنت تنسب إلى عبيدٍ أولى بالفسق من أبيه، وإن الحسن بدأ بنفسه ارتفاعاً عليك وإن ذلك لم يضعك.
وأما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك، فإذا قدم عليك كتابي هذا فخل ما في يديك لسعيد بن سرح، وابن له داره، ولا تعرض له، واردد عليه ماله، فقد كتبت إلى الحسن أن يخير صاحبه إن شاء أقام عنده، وإن شاء رجع إلى بلده، وليس لك عليه سلطان بيدٍ ولا لسانٍ. وأما كتابك إلى الحسن باسمه ولا تنسبه إلى أبيه فإن الحسن ويلك ممن لا يرمى به الرجوان، أفإلى أمه وكلته لا أم لك، هي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أفخر له إن كنت تعقل؛ وكتب في أسفل الكتاب:
تدارك ما ضيعت من بعد جرأةٍ ... وأنت أريب بالأمور خبير
أما حسن بابن الذي كان قبله ... إذا سار سار الموت حيث يسير
وهل يلد الرئبال إلا نظيره ... فذا حسن شبه له ونظير
قال القاضي: الرئبال ولد الأسد.
ولكنه لو يوزن الحلم الحجى ... برأي لقالوا فاعلمن ثبير
قال الغلابي: قرأت هذا الخبر على ابن عائشة فقال: كتب إليه معاوية حين وصل إليه كتاب الحسن في أول الكتاب الشعر والكلام بعده.
تعليقات لغوية ونحويةقال القاضي: قول معاوية: من لا يرمى به الرجوان يعني تثنية الرجا وهو الجانب والناحية جمعه أرجاء، قال الله عز وجل: " والملك على أرجائها " الحلاقة:17 والعرب تقول: فلان لا يرمى به الرجوان أي لا يستهان به وتستضعف منزلته فيطرح به ويرمى به، كما قال الشاعر:
فلا يرمى بي الرجوان اني ... أقل القوم من يغني مكاني
وأما قوله: تدارك ما ضيعت فإنه حرك الكاف في الأمر لأنه أراد النون الخفيفة، كما قال الشاعر:
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس
أراد: اضربن؛ والله تعالى الموفق للصواب.
المجلس السابع والستون
معالجة محارب بن دثار لشهود الزورأخبرنا المعافى قال حدثنا نصر بن بيزويه المعروف بابن أبي منصور الشيرازي في شهر ربيع الآخر سنة تسع عشرة وثلاثمائة قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم شاذان قال حدثنا سعد بن الصلت قال حدثني هارون بن الجهم أبو الجهم القرشي عن عبد الملك بن عمير القبطي قال: كنت عند محارب بن دثار الذهلي وهو في قضائه حتى تقدم إليه رجلان، فادعى أحدهما قبل الآخر حقاً فأنتكره، فقال: ألك بينة؟ قال: نعم فلان. فقال له الرحل المدعى قبله: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لئن شهد علي ليشهدن بزورٍ، ولئن سألني عنه لأزكينه، فلما جاء الشاهد قال محارب بن دثار: حدثني عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الطير يوم القيامة لتضرب بمناقيرها وتقذف ما في حواصلها وتحرك أذنابها من هول يوم القيامة، وما يكلم شاهد الزور ولا تقار قدماه على الأرض حتى يقذف به في النار. ثم قال للرجل: بم تشهد؟ قال كنت شهدت على شهادةٍ وقد نسيتها، أرجع فأتذكرها، فرجع ولم يشهد عليه بشيء.
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن شاذان أبو الحسين البزاز قال حدثنا أبو بكرٍ سليمان بن داود بن كثير الكندي قال: شهد رجل على رجلٍ عند محارب بن دثار، وكان محارب متكئاً، فقال المشهود عليه: والله الذي تقوم السماء والأرض بأمره ما شهد علي إلا بزورٍ، وما علمت إلا خيراً إلا هذه الشهادة، وإنما ذلك لحقد له علي، فاستوى محارب جالساً ثم قال: يا هذا سمعت ابن عمر يقول، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي على الناس يوم تشيب فيه الولدان، وتضع الحوامل ما في بطونها، وتضع الطير ما في حواصلها، وتضرب بأذنابها ولا ذنب عليها، فإن كنت شهدت على حقٍ فأقم على شهادتك، وإن كنت شهدت على باطل فاتق الله تعالى وغط رأسك، واخرج من هذا الباب، فغطى الرجل رأسه وخرج من الباب.
فظاعة شهادة الزورقال القاضي: الأمر في عظيم جرم شاهد الزور وجسيم إثمه وفظيع ما تحمله وقبيح ما ارتكبه واقتحمه واحتقبه وأقدم عليه، وما ورد من توعد الله جل جلاله إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم يطول شرحه ويتعب جمعه، ومن بليغ ما ورد فيه هذا الخبر الذي رويناه؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يؤمر به إلى لنار. وروي عنه أيضاً أنه قال: عدلت شهادة الزور الشرك.
وقال الله جل وعز: " فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور " الحج:30 وقال تعالى جده: " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون " النحل:105 وروي عن ابن عباس أنه قال في قوله جل ذكره: " إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين " الأعراف: 152 هي والله لكل مفترٍ كذباً إلى يوم القيامة. وقد اختلف أهل العلم فيما ينبغي أن يعمل بشاهد الزور: فذهب بعضهم إلى تعزيره وتأديبه، ورأى آخرون إظهار أمره والنداء عليه والتنكيل به وشهره وتحذير الناس منه وإسقاط شهادته إلى أن يتوب وتظهر توبته وتحسن إنابته أو تأتي عليه منيته، ونسأل الله توفيقه وعصمته، وأن يجعلنا ممن يؤثر دينه على دنياه، ورضى ربه على هواه، وأن لا يجعلنا ممن يبيع حظه من ولاية الله تعالى بشيءٍ من حطام الدنيا وزينتها، ولا يشري صالح ما بينه وبين ربه بمنازل الدنيا ومراتبها، إنه سميع الدعاء لطيف لما يشاء.
اضربني ضرباً تقوى عليه
حدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال أخبرنا أبو حاتم، قال ضرب رجل من خدم السلطان رجلاً فأوجعه، فقال له: أصلحك الله، اضربني ضرباً تقوى عليه فإن القصاص أمامك.
كيف تم استخلاف عمر بن عبد العزيز
حدثنا أحمد بن يحيى بن المولى قال حدثنا أبو بكر بن أبي خيثمة قال حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي قال حدثنا محمد بن المبارك الصوري قال حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن حسان الكناني قال: لما مرض سليمان بن عبد الملك المرض الذي توفي فيه، وكان مرضه بدابق، ومعه رجاء بن حيوة، فقال لرجاء بن حيوة: يا رجاء من لهذا الأمر من بعدي؟ أستخلف ابني؟ قال: ابنك غائب، قال: فالآخر؟ قال: ذاك صغير، قال: فمن ترى، قال: أرى أن تستخلف عمر بن عبد العزيز. قال: أتخوف بني عبد الملك، أن لا يرضوا، قال: فول عمر بن عبدب العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتاباً وتختم عليه وتدعوهم إلى بيعته مختوماً عليها، قال: لقد رأيت، إيتني بقرطاس، قال: فدعا بقرطاسٍ فكتب فيه العهد لعمر بن عبد العزيز ومن عبده يزيد بن عبد الملك ثم ختمه ودفعه إلى رجاء، قال: اخرج إلى الناس فمرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوماً، قال: فخرج إليهم رجاء فجمعهم وقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب من بعده، قالوا: ومن فيه؟ قال: مختوم لا تخبرون بمن فيه حتى يموت، قالوا: لا نبايع حتى نعلم من فيه، قال: فرجع رجاء إلى سليمان، قال: انطلق إلى أصحاب الشرط والحرس وناد الصلاة جامعة، ومر الناس فليجتمعوا، ومرهم بالبيعة على ما في هذا الكتاب، فمن أبى أن يبايع منهم فاضرب عنقه، قال: ففعل، فبايعوا على ما فيه، قال رحاء: فلما خرجوا خرجت إلى منزلي فبينا أنا أسير في الطريق إذ مسعت جلبة موكبٍ، فالتفت فإذا هشام، فقال لي: يا رجاء قد علمت موقعك منا وإن أمير المؤمنين قد صنع شيئاًِ لا أدري ما هو، وأنا أتخوف أن يكون قد أزالها عني، فإن يكن عدلها عني فأعلمني ما دام في الأمير نفس حتى أنظر في هذا الأمر قبل أن يموت، قال قلت: سبحان الله يستكتمني أمير المؤمنين أمراً أطلعك عليه؟ لا يكون ذلك أبداً، فأدارني وألا صني فأبيت عليه، قال: فانصرف. فبينا أنا أسير إذ سمعت جلبة خلفي، فإذا عمر بن عبد العزيز فقال لي: يا رجاء إنه قد وقع في نفسي أمر كبير من هذا الرجل، أتخوف أن يكون قد جعلها إلي، ولست أقوم بهذا الشأن فأعلمني ما دام في الأمير نفس لعلي أتخلص منه ما دام حياً، قلت: سبحان الله يستكتمني أمير المؤمنين أميراً أطلعك عليه؟، فأدراني وألا صني فأبيت عليه، قال رجاء وثقل سليمان، وحجب الناس عنه حتى مات، فلما مات أجلسته وأسندته وهيأته وخرجت إلى الناس فقالوا: كيف أصبح أمير المؤمنين؟ فقلت: إن أمير المؤمنين قد أصبح ساكناً، وقد أحب أن تسلموا عليه وتبايعوا على ما في هذا الكتاب، والكتاب بين يديه، قال: فأذنت للناس فدخلوا وأنا قائم عنده، فلما دنوا قلت: إن أميركم يأمركم بالوقوف، ثم أخذت الكتاب من عنده، ثم تقدمت إليهم فقلت: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا على ما في الكتاب أجمعين وفرغت من بيعتهم قلت: لهم: آجركم الله في أمير المؤمنين قالوا: فمن فافتح الكتاب، فإذا فيه العهد لعمر بن عبد العزيز، فلما نظرت بنو عبد الملك تغيرت وجوههم، فلما قرأوا من بعده يزيد بن عبد الملك كأنهم تراجعوا، فقالوا: أين عمر بن عبد العزيز؟ فطلبوه فلم يوجد في القوم، قال: فنظروا فإذا هو في مؤخر المسجد، قال: فأتوه فسلموا عليه بالخلافة فعقر فلم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه فرقوا به المنبر، فلم يقدر على الصعود حتى أصعدوه، فجلس طويلاً لا يتكلم، فلما رآهم رجاء جلوساً قال: ألا تقومون إلى أمير المؤمنين فتبايعوه؟ قال: فنهض القوم إليه فبايعوه رجلاً رجلاً، قال فمد يده إليهم، قال: فصعد إليه هشام فلما مد يده إليه قال يقول هشام إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال عمر: نعم إنا لله وإنا إليه راجعون حين صار يلي هذا الأمر أنا وأنت. قال: ثم قام عمر فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إني لست بقاضٍ ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع، وإن حولكم من الأمصار والمدن فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا وليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوالٍ. ثم نزل يمشي فأتاه صاحب المراكب فقال: ما هذا؟ أقالك: مركب الخليفة، قال: لا حاجة لي فيه، إيتوني بدابتي، فأتوه بدابته فركبها ثم خرج يسير وخرجوا معه، فمالوا إلى طريق، قال: إلى أين؟ قالوا: إلى البيت الذي يهيأ للخليفة، قال: لا حاجة لي فيه، انطلقوا بي إلى منزلي، قال رجاء:
فأتى منزله فنزل عن دابته، ثم دعا بدواةٍ وقرطاسٍ وجعل يكتب بيده إلى العمال في الأمصار ويمل على نفسه، قال رجاء: فلقد كنت أظن أن سيضعف فلما رأيت صنيعه في الكتاب علمت أنه سيقوى بهذا ونحوه.فأتى منزله فنزل عن دابته، ثم دعا بدواةٍ وقرطاسٍ وجعل يكتب بيده إلى العمال في الأمصار ويمل على نفسه، قال رجاء: فلقد كنت أظن أن سيضعف فلما رأيت صنيعه في الكتاب علمت أنه سيقوى بهذا ونحوه.
هل تجوز الشهادة على الكتاب المختومقال القاضي رحمه الله: قد اختلف أهل العلم في الشهادة على الكتاب المختوم كالذي جرى في هذه القصة، وكالرجل يكتب وصيته في صحيفة ويختم عليها ويشهد قوماً على نفسه أنها وصيته من غير أن يقرأوها عليه أو يقرأها عليهم ويعاينوا كتبه إياها، وما أشبه هذا مما يشهد المرء فيه على نفسه وإن لم يقرأه الشاهد أو لم يقرأ عليه، فأجاز ذلك وأمضاه وأنفذ الحكم فيه جمهور أهل الحجاز، وروي عن سالم بن عبد الله، وذهب إلى هذا مالك بن أنس ومحمد بن سلمة المخزومي، وأجاز ذلك مكحول ونمير بن أوس وزرعة بن إبراهيم والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز في من وافقهم من فقهاء أهل الشام، وحكى نحو ذلك خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه وقضاة جنده، وهو قول الليث بن سعد في من وافقه من فقهاء أهل مصر والمغرب، وهو قول فقهاء أهل البصرة وقضاتهم، وروي عن قتادة وعن سوار بن عبد الله وعبيد الله بن الحسن ومعاذ بن معاذ العنبريين في من سلك سبيلهم، وأخذ بهذا عدد من متأخري أصحاب الحديث منهم أبو عبيد وإسحاق بن راهويه.
وأبى ذلك جماعة من فقهاء أهل العراق منهم إبراهيم وحماد الحسن، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، وهو قول شيخنا أبي جعفر رحمة الله عليه، وكان بعض أصحاب الشافعي بالعراق يذهب إلى القول الأول لعلل ذكر إنه حاج بعض مخالفيه فيها.
قال القاضي: وإلى القول الذي قدمت حكايته عن أهل الحجاز والشام ومصر والمغرب والبصرة أذهب، ولكل ذي قولٍ من هذهين القولين علل يعتل بها لقوله، ويحتج بها على خصمه، وليس هذا الموضع مما يحتمل إحضارها، وهي مشروحة مستقصاة في ما رسمناه من كلامنا في كتب الفقه ومسائله. وقوله: " ألا صني " قريب من معنى قوله أدارني وهو ليه وفتله.
أشرف من حرب بن أمية من أكفاً عليه إناءه
حدثنا الحسن بن أحمد الكلبي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا العباس بن بكارٍ قال حدثنا أبو بكر الهذلي وعبيد الله بن محمد الغساني عن الشعبي قال: دخل عبد الله بن جعفر بن أبي طالب على معاوية وعنده يزيد ابنه، فجعل يزيد يعرض بعبد الله في كلامه وينسبه إلى الإسراف في غير مرضاة الله، فقال عبد الله ليزيد: إني لأرفع نفسي عن جوابك، ولو صاحب السرير يكلمني لأجبته؛ قال معاوية: كأنك تظن أنك أشرف منه قال: إي والله، ومنك ومن أبيك وجدك، فقال معاوية: ما كنت أحسب أن أحداً في عصر حرب بن أمية يزعم أنه أشرف من حرب بن أمية، قال عبد الله: بلى والله يا معاوية، إن أشرف من حرب بن أمية من أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه، قال: صدقت يا أبا جعفر، سل حاجتك فقتضى حوائجه وخرج.
قال الشعبي: ومعنى قول عبد الله لمعاوية إن أشرف من حرب من أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه، لأن حرب بن أمية كان إذا كان في سفرٍ فعرضت له ثنية أو عقبة تنحنح فلم يجترئ أحد أن يرقاها حتى يجوز حرب بن أمية، وكان في سفرٍ فعرضت له ثنية فتنحنح، فوقف الناس ليجوز، فجاء غلام من بني تميمٍ فقال: ومن حرب؟ ثم تقدمه، فنظر إليه حرب وتهدده وقال سيمكنني الله تعالى منك إذا دخلت مكة. فضرب الدهر من ضربه، ثم إن التميمي بدت له حاجة بمكة فسأل عن أعز أهل مكة فقيل له عبد المطلب بن هاشم، فقال: أردت دون عبد المطلب، فقرع عليه بابه، فخرج إليه الزبير فقال ما أنت؟ إن كنت مستجيراً أجرناك، وإن كنت طالب قرىً قريناك، فأنشأ التميمي يقول:
لاقيت حرباً بالثنية مقبلاً ... والصبح أبلج ضوءه للساري
قف لا تصاعد واكتنى ليروعني ... ودعا بدعوة معلن وشعار
فتركته خلفي وسرت أمامه ... وكذاك كنت أكون في الأسفار
فمضى يهددني الوعيد ببلدةٍ ... فيها الزبير كمثل ليثٍ ضار
فتركته كالكلب ينبح وحده ... وأتيت قرم مكارمٍ وفخارٍ
قوماً هزبراً يستجار بقربه ... رحب المباءة مكرماً للجار
وحلفت بالبيت العتيق وركنه ... وبزمزمٍ والحجر ذي الأستار
إن لا لزبير لمانعي بمهندٍ ... عضب المهزة صارمٍ بتار
فقال له الزبير: قد أجرتك، وأنا ابن عبد المطلب، فسر أمامي فإنا معشر بني عبد المطلب إذا أحرنا رجلاً لم نتقدمه، فمضى بين يديه والزبير في أثره، فلقيه حرب فقال: الميممي ورب الكعبة، ثم شد عليه، ثم أخترط سيفه الزبير ونادى في إخوته، ومضى حرب يشتد والزبير في أثره حتى صار إلى دار عبد المطلب، فلقيه عبد المطلب خارجاً من الدار فقال: مهيم يا حرب، قال: ابنك، قال: ادخل الدار، فدخل فأكفأ عليه جفنة هاشمٍ التي كان يهشم فيها الثريد، وتلاحق بنو عبد المطلب بعضهم على أثر بعض فلم يجترئوا أن يدخلوا دار أبيهم، فاحتبوا بحمائل سيوفهم وجلسوا على الباب، فخرج إليهم عبد المطلب، فلما نظر إليهم سره ما رأى منهم، فقال: يا بني أصبحتم أسود العرب. ثم دخل إلى حرب فقال له: قم فاخرج، فقال: يا بني أصبحتم أسود العرب. ثم دخل إلى حرب فقال له: قم فاخرج، فقال يا بني أصبحتم أسود العرب. ثم دخل إلى حرب فقال له: قم فاخرج، فقال يا أبا الحارث هربت من واحدٍ وأخرج إلى عشرة؟ فقال: خذ ردائي هذا فالبسه فإنهم إذا رأوا ردائي عليك لم يهيجوك. فلبس رداءه وخرج فرفعوا رؤوسهم فلما نظروا إلى الرداء عليه نكسوا رؤوسهم، ومضى حرب، فهو قوله إن أشرف من حرب، من أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه.
حذف القول وإضمارهقال القاضي رحمه الله: قول التميمي جار الزبير في أول بيته الثاني من كلمته قف لا تصاعد بعد قوله في آخر بيته الأول: والصبح أبلج ضوءه للساري معناه: فقال قف، فأضمر القول. وحذف القول وإضماره كثير في كلام العرب، قال الله جل ثناؤه: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم " الرعد:23،24 المعنى يقولون: سلام عليكم؛ وقال الله تعالى: " والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " الزمر: 3 وهو كثير في القرآن وسائر العربية ومن ذلك قول الشاعر:
ما للجفان تخطاني كأنهم ... لم يلف حول ذرى بيتي مساكين
أراد كأنهم يقولون ، وقال آخر:
وقائلةٍ ما بال لونك شاحباً ... كأنك يحميك الطعام طبيب
تتابع أحداثٍ تخرمن منتي ... وأبلين جسمي فالفؤاد كئيب
فأضمر القول. وفي هذا الخبر: " أكفأ عليه الاناء " أي الجفنة والفصيح السائر في كلام العرب: كفأت الاناء، فأما أكفأت فإنما يقال في بعض عيوب الشعر، يقال: أكفأ الشاعر يكفئ إكفاءً. وبين أهل العلم بالقوافي خلاف في ماهيته، وهو مبين في موضعه.
حلف الفضولحدثنا محمد بن مخلد العطار قال حدثنا عبد الله بن شبيب بن خالد قال حدثني أبو بكر بن شيبة قال حدثني عمر بن أبي بكر العدوي، قال حدثني أبو بكر بن شيبة قال حدثني عمر بن أبي بكر العدوي، قال حدثني عثمان ابن الضحاك عن أبيه عن عبد الله بن عروة قال: سمعت جدي حكيم بن حزام يقول: انصرفت قريش من الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وكان الفجار في شوال، وكان حلف الفضول أكرم حلفٍ كان قط وأعظمه شرفاً، وكان أول من تكلم فيه ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب، وذاك أن الرجل من العرب وغيرها من العجم، ممن كان يقدم مكة بتجارته ربما ظلموا ثمنها، وكان آخر من ظلم رجل من زبيد من مذحج، وقدم بسلعةٍ له فباعها من العاص بن وائل السهمي، وكان شريفاً عظيم القدر فظلمه ثمنها، فناشده الزبيدي في حقه فأبى عليه، فأتى الزبيدي الأحلاف: عبد الدار ومخزوماً وجمح وسهماً وعدي بن كعب فأبوا أن يعينوه على العاص بن وائل وزبروه، فلما رأى ذلك الزبيدي أوفى على أبي قبيسٍ عند طلوع الشمس وقريش في أنديتها حول الكعبة فنادى بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلومٍ بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرمٍ أشعثٍ لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحجر والحجر
هل مخفر من بني سهمٍ بخفرته ... فعادل أم ضلال ما لمعتمر
إن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فقال الزبير بن عبد المطلب: ما لهذا مترك؛ فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة وأسد بن عبد العزى في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاماً وتحالفوا في ذي القعدة، في شهرٍ حرام، وتعاهدوا وتعاقدوا بالله القائم ليكونن يداً واحدةً مع المظلوم على الظالم حتى يرد إليه حقه، ما بل بحر صوفة، وما رسا ثبير وحراء مكانهما. فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا سلعة الزبيدي منه فدفعوها إليه؛ قال ابن مخلد: بعض هذا الحديث لم أفهمه من ابن شبيب وثبتني فيه بعض أصحابنا.
يا للكهول وللشبانقال القاضي رحمه الله: قوله في البيت الثاني يا للرجال بفتح اللام وهي التييسميها النحويون لام الاستغاثة، يقال يا للقوم للماء فتفتح لام المدعو وتكسر اللام في الماء لأنه المدعو إليه، كما قال الشاعر:
يا للرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفك يحدث لي بعد النهى طربا
وإذا قالوا: يا للعرب وللموالي فتحت اللام الأولى وكسرت الثانية لأن الأولى فتحت لتفيد معنى الاستغاثة ثم كسرت الثانية لما علم أنها معطوفة عليها، كما قال الشاعر:
يبكيك ناءٍ بعيد الدار مغترب ... يا للكهول وللشبان للعجب
وذهب بعضهم إلى أن الأصل في يا لبكرٍ ويا لتميم: يا آل بكر ويا آل تميم، وترك الهمز فيه تخفيفاً، وممن كان يرى هذا الرياشي، وأول أبيات التميمي في هذا الخبر مما للرياشي فيه متعلق، وذلك قوله يا آل فهر وللبصريين والكوفيين من النحويين في الاحتجاج لقولهم والمحاجة لمن خالف ما عليه جمهورهم كلام واستشهاد بالقياس، وأتى فيه من الشعر ما تطول حكايته، وله موضع هو أولى به.
الرسول يشهد حلف الفضولحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أبو جعفر أحمد بن عبيد قال حدثني أبو مصعب قال حدثني أبو السائب عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: دخلت على أبي العباس فما سألني عن شيء إلا عن المسح على الخفين وعن حلف الفضول، فأعلمته أن المسح جائز، وأن هاشماً وزهرة وتيماً كانوا أصحاب حلف الفضول، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: شهدت حلفاً في دار عبد الله بن جدعان بين هاشم وزهرة وتيم، وأنا فيهم، ولو دعيت به لأجبت، وما أريد أن أخيس به ولي حمر النعم، وكان تحالفهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا يدعوا لأحدٍ عند أحد فضلاً إلا أخذوه وبذلك سمي حلف الفضول.
قال القاضي رحمه الله: وقد اختلف في السبب الذي من أجله سمي هذا الحلف حلف الفضول، ففي الأول أنه سمي بهذا لقولهم لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، وفي الخبر الثاني لما قالوا في حلفهم إنهم لا يدعون لأحدٍ عند أحد فضلاً إلا أخذوه.
رمي بسهام السحرحدثنا أحمد بن أبي سهل بن عاصم أبو بكر الحلواني قال أبو بكر ختن المبرد قال: لقيني الأسباطي على الجسر وقد أخذ إسماعيل بن بلبل دور أهل الخلد فقال لي:
بغى وللبغي سهام تنتظر ... أنفذ في الأكباد من وخز الإبر
سهام أيدي القانتين في السحر
قال فما مضت الأيام حتى كان من أمر إسماعيل ما كان.
أصحاب الحديث يؤذون ابن عياش
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا عبد الله بن خلف قال حدثنا محمد بن زكرياء وليس بالغلابي قال حدثني سليمان بن محمد بن عبد الرحمن العرزمي قال: كنت عند أبي بكر بن عياش فجاءه أصحاب الحديث فآذوه، فبعث إلى صاحب الربع فجاءه فقال له: حاجتك يا أبا بكر، قال: أقم هؤلاء عني قال: وما حالهم؟ قال: أصحاب يا أبا بكر، قال: أقم هؤلاء عني قال: وما حالهم؟ قال: أصحاب الحديث، قد آذوني وأضجروني، قال: ارفق بهم يا أبا بكر فقد قصدوك ولهم حق، فغضب وقال: انظروا إلى هذا البتيارك!! ثم قال: أتدرون ما البتيارك؟ قالوا: لا، قال: كانت امرأة بالكوفة لها زوج قد عسر عليه المعاش، فقالت له: لو خرجت فضربت في البلاد وطلبت من فضل الله تعالى، فخرج إلى الشام فكسب ثلاثمائة درهم، فاشترى بها ناقة سمينة فارهةً، فركبها وسار عليها، فأضجرته فحلف بطلاق امرأته ليبيعنها يوم يقدم الكوفة بدرهم، فقالت له امرأته: ما جئت به؟ قال: أصبت ثلاثمائة درهم فاشتريت هذه الناقة فأضجرتني، فحلفت بطلاقك ثلاثاً أن أبيعها أول يومٍ أقدم الكوفة بدرهم، فقالت: أنا أحتال لك فعلقت في عنث الناقة سنوراً وقالت: أدخلها السوق فناد من يشتري السنور بثلاثمائة درهم والناقة بدرهم، ولا أفرق بينهما، قال: ففعل، فجاء أعرابي فجعل يدور حول الناقة ويقول: ما أسمنك ما أفرهك ما أرخصك لولا هذا البتيارك.
زلة العاقل وزلة الجاهلحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم القزاز قال حدثنا نصر بن أحمد قال قال الخليل بن أحمد: زلة العاقل يضرب بها الطبل، وزلة الجاهل تخفى في الجهل.
ابن المنجم يستدين من بختيشوع فيعاتبه المتوكلحدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى المنجم، قال حدثني أبي قال: خرجنا مع المتوكل إلى دمشق فلحقتنا ضيقة بسبب المؤن والنفقات التي كانت تلزمنا، قال: فبعثت إلى بختيشوع وكان لي صديقاً أسأله أن يقرضني عشرين ألف درهم، قال: فأقرضنيها، فلما كان بعد يوم أو يومين دخلت مع الجلساء إلى المتوكل، فلما فأقرضنيها، فلما كان بعد يوم أو يومين دخلت مع الجلساء إلى المتوكل، فلما جلسنا بين يديه قال: يا علي لك عندي ذنب وهو عظيم، قلت: يا سيدي فما هو، فإني لا أعرف لي ذنباً ولا جناية؟ قال: بلى، أضقت فاستقرضت من بختيشوع عشرين ألف درهم، أفلا أعلمتني؟ قال قلت: يا أمير المؤمنين صلات أمير المؤمنين عندي متواترة وأنزاله علي دارة، واستحييت مع ما قد أنعم الله علينا به من هذا التفضل أن أسأله شيئاً، قال: ولم؟ إياك أن تستحيي من مسألتي والطلب مني وأن تعاود مثل ما كان منك، ثم قال: مائة ألف درهم بغير صروف، فأحضرت عشر بدر فقال: خذها واتسع بها.
تحول أبي العتاهية من الغزل إلى الزهدحدثنا المظفرين يحيى بن أحمد الشرابي قال حدثنا حسن بن عليل الغنوي قال حدثنا أبو مالك اليمامي محمد بن موسى بن يحيى بن يزيد النجار، قال حدثني داود بن يحيى بن عيسى بن النجار بن زياد بن النجار، قال: صحبت أبا العتاهية في طريق مكة فترافقنا فأنشدته يوماً بيتاً فضحك، والشعر:
اخلع عذارك فيما تستلذ به ... واجسر فإن أخا اللذات من جسرا
واحفظ خليلك لا تغدر به أبداً ... لا بارك الله في من خان أو غدرا
والشعر لأبي العتاهية، فقال لي: يا داود هل معك من شعري في عتبة شيء؟ قلت: نعم، قال: أرنيه، قال: فأخرجته فنظر إليه فجعل يلوي رأسه، فلما مر هذا البيت:
فالليل أطول من يوم الحساب على ... عين الشجي إذا ما نومه نفرا
قال: فجعل يحرك رأسه ويقول: يا أبا العتاهية ليس لك والله علم بيوم الحساب، قال ثم قال: علي بنارٍ، فأخذ الكتب فأحرقها وقال لي: عليك بما هو خير من هذا، فأخرج كتاباً فيه مكتوب:
ألا هل منيب إلى ربه ... فيستغفر الله من ذنبه
على أن في بعض أحواله ... حوادث يخبرن عن قلبه
فلم أر كالميت في أهله ... يحب ويهرب من قربه
يحب محبوه إبعاده ... وهم مجمعون على حبه
وقال لي: اكتب فكتبت، وأملى علي:
لا تكذبن فإنني ... لك ناصح لا تكذبنه
واعمل لنفسك ما استطع؟ ... ت فإنها نار وجنه
واعلم بأنك في زما ... ن مشبهاتٍ هن هنه
صار التواضع بدعة ... فيه وصار الكبر سنة
المجلس الثامن والستون
طوبى لمن رآني وآمن بيأخبرنا المعافى قال حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي قال حدثنا فضل يعني ابن سهل، قال حدثنا موسى بن داود قال حدثنا ابن لهيعة عن دراجٍ عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال، قال رجل: يا رسول الله طوبي لمن رآك وآمن بك، فقال طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني، فقال رجل: يا رسول الله فما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة سنةٍ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها.
قال القاضي: قد وردت الأخبار من طرقٍ شتى بأن طوبى شجرة في الجنة، وقال أهل العربيةب طوبى فعلى من الطيب وأصلها طيبي بالياء فقلبت واواً لانضمام الطاء، ومثل هذا الكوسى من الكيس.
هذا وأبيك الشرفحدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال حدثنا أبو حاتم عن العتبي عن أبيه قال: ابتنى معاوية بالأبطح مجلساً فجلس عليه ومعه ابنة قرظة، فإذا هو بجماعة على رحالٍ لهم، وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته يغني:
من يساجلني يساجل ماجداً ... أخضر الجلدة في بيت العرب
قال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن جعفر، قال: خلوا له الطريق فليذهب. ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يغني:
بينما يذكرنني أبصرنني ... عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قلن تعرفن الفتى قلن نعم ... قد عرفناه وهل يخفى القمر
قال: من هذا؟ قالوا: عمر بن أبي ربيعة، قال: خلوا له الطريق فليذهب. قال: ثم إذا هو بجماعة وإذا رجل منهم يسأل فقال: رميت قبل أن أحلق،وحلقت قبل أن أرمي، لأشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج، فقال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن عمر، فالتفت إلى بنت قرظة فقال: هذا وأبيك الشرف، هذا والله شرف الدنيا وشرف الآخرة.
؟تعليقات وفوائد قال القاضي: وقد روي من طريق آخر أنه قال هذا والله الشرف لا ما نحن فيه، وروي أنه قال: كاد العلماء يكونون أرباباً. والشعر المتقدم في هذا الخبر: المشهور منه أنه للفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهبٍ وروايته المعروفة:
وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب
من يساجلني يساجل ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
وقد ذكر أن الفرزدق قالن لما أنشد هذا البيت: ما يساجلك إلا من عض بهن أمه. وأما تعظيم معاوية شأن عبد الله بن عمر من أجل العلم فقد أحسن القول فيه وأنصف، ومنزلة العلماء في المسلمين وفقههم في الدين أعلى وأظهر وأبين وأشهر من أن يحتاج فيها إلى إطناب وإطالةٍ وإسهاب.
؟؟
شعر لمجنون بني جعدةحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال أنشدنا هارون بن محمدٍ قال أنشدنا الزبير لمجنون بني جعدة:
يا حبذا راكب كنا نسر به ... يهدي لنا من أراك الموسم القضبا
قالت لجارتها يوماً تساجلها ... لما تعرت وألقت عندها السلبا
ناشدتك الله الا قلت صادقة ... أصادفت صفة المجنون أم كذبا
قال فقلت: تراه سرقه من قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي؟:
ولقد قالت لجاراتٍ لها ... وتعرت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله أم لا يقتصد
فتضاحكن وقد قلن لها ... حسن في كل عين من تود
حسداً منهن قد حملنه ... وقديماً كان في الناس الحسد
أبو العتاهية يسرق معنى لبشارحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أبو العباس بن الفضل الربعي قال حدثني أبو غسان رفيع بن سلمة قال حدثني محمد بن الحجاج قال قال بشار لأبي العتاهية أنشدني، فأنشده:
كم من صديقٍ لي أسا ... رقه البكاء من الحياء
فإذا تفطن لامني ... فأقول ما بي من بكاء
لكن ذهبت لأرتدي ... فطرفت عيني بالرداء
قال بشار: ما أشعرك ويحك، لولا أنك سرقتني، قال: وما قلت يا أبا معاذ؟ قال قلت:
وقالوا قد بكيت فقلت كلا ... وقد يبكي من الجزع الجليد
ولكن قد أصاب سواد عيني ... عويد قذى له طرف حديد
فقالوا ما لدمعهما سواء ... أكلتا مقلتيك أصاب عود
معنى الطربقال القاضي: بين هذه الأبيات في الخبرين من التناسب والتقارب في معانيهما ما يمكن أن يكون بعض من أنشأهما أخذ من صاحبه، وجائز أن يكون الاتفاق فيهما وقع من غير شعورٍ، من كل ناظمٍ من الشاعرين بما نظمه غيره. وقد روي لنا بيت بشارٍ المتقدم في أبياته هذه من طريق آخر وعجزه وهل يبكي من الطرب الجليد والطرب هو استطارة تلحق الرجل عند غلبة السرور أو الحزن عليه، وهو مما تغلط فيه العامة وتذهب فيه عن وجه الصواب، فيظنون أنه يقال في الفرح خاصة دون الغم، والأمر فيه بخلاف ما يتوهمون، وقد زعم بعض أصحاب اللغة أنه من الأضداد، وأنكر ذلك كثير منهم، فقال لنا ابن الأنباري: هو عندي خفة تلحق الرجل عند الشيء يسره أو يحزنه، وقد قال الأعشى:
فهاجت شوق محزونٍ طروبٍ ... فأسبل دمعه فيها سجاما
وقال لبيد:
وأراني طرباً في إثرهم ... طرب الواله أو كالمختبل
ومما يدل على ما وصفنا في الطرب قول الكميت بن زيدٍ:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ... ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب
ثم قال في هذه الكلمة:
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى ... وخير بني حواء والخير يطلب
بني هاشم آل النبي ورهطه ... بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
ومعلوم أن الطرب إلى بني هاشم الذي عناه الكميت إنما هو ارتياحه إليهم وما يستفزه ويزدهيه ويستخفه من غلبة الموالاة لهم والإخلاص في مودتهم، وتوخي القربة إلى الله تعالى بمسالمة من سالمهم ومحاربة من حاربهم، وهذا هو الحق الواجب في الدين واللازم للمسلمين.
الفضل وصلاح الإمامحدثنا أبي رضي الله عنه قال حدثنا إدريس بن عبد الكريم قال سمعت مزدويه يقول، سمعت لافضيل يقول: لو أن لي دعوةً مستجابة لجعلتها للإمام، فإن صلاحه صلاح العباد والبلاد. فقام إليه ابن المبارك فقبل وجهه وقال: يا معلم الخير من يحسن هذا غيرك؟ قال القاضي: ولعمري إن في صلاح الإمام أعظم صلاحٍ للمسلمين في دينهم ودنياهم، وإن دعاءهم له بذلك من أحسن ما يأتونه، ولهم فيه من وفور الحظ في اتساق معايشهم واستقامة متصرفاتهم ما لا يخيل على من كان له قلب ذكي ولب رضي. وقد أصاب الفضيل في قوله، وأحسن ابن المبارك في فعله، ونحن نسأل الله تعالى أن يرزقنا معدلة أئمتنا وإحسانهم، ويعطف علينا قلوبهم، ويمدهم بأيده، ويشد سلطانهم بكيده، ويوفقنا لطاعتهم وتأدية حقوقهم، وإخلاص النصيحة لهم، ومظاهرة أوليائهم، وجهاد أعدائهم.
عقبة بن سلم والشعراءحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني محمد بن المرزبان قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال، قال أحمد بن بدر، حدثنا الأصمعي قال: مدح بشار عقبة بن سلمٍ فأعطاه عشرة آلاف درهم، ومدحه مروان بن أبي حفصة بالقصيدة التي يقول فيها:
يا واحد العرب الذي ... ما في الأنام له نظير
لو كان مثلك واحد ... ما كان في الدنيا فقير
ودخل أبو الشمقمق يوماً على عقبة بن سلمٍ، وهو جالس بين بشار ومروان، فاستأذنه في الإنشاد فأذن له فأنشده:
يا عقب يا عقب وقيت الردى ... يا قاتل البخل ومحيي الندى
إن أبا عمرة قد زارني ... فشق سربالي وقد الردا
فالطمه يا عقب لنا لطمةً ... إذا رآني في طريق عدا
قال: بم ألطمه؟ قال: بخمسمائة درهمٍ قال: أنا أبو الملد، ربحت عليك أربعة آلاف وخمسمائة درهم، ثم قال: أعطوا شميمقاً خمسمائة درهم واحملوه على بقرة. قال الأصمعي: عقبة بن سلم يكنى أبا الملد، وهو الذي يقول له بشار: اسمل وحييت أبا الملد
توجيهات نحويةقال القاضي: قول مروان بن أبي حفصة: لو كان مثلك واحد بجوز فيه مثلك ومثلك بالرفع وبالنصب على الحال لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها نصبت على الحال كما قال الشاعر:
لخولة موحشاً طلل ... يلوح كأنه خلل
وقال آخر:
والشر منتشراً يأتيك عن عرض ... والصالحات عليها مغلقاً باب
العلة في نصب النكرة إذا قدمت أن النعت لا يكون قبل المنعوت والحال مفعول فيها، وتقدم المفعول وتأخره سائغان، وقد يكون النصب بأن يجعل خبراً لكان.
صور شعرية محورها البرقحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا عون بن محمد الكندي قال: وعدني سليمان بن وهب وهو يزر للمهدي أن يوقع لي بإيعاز ضيعة أبي فأبطأ في ذلك، فقلت له: قد تأخرت حاجتي، فأنت والله كما قال ابن المولى:
وإذا تباع كرمية أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري
وإذا تخيل من سحابك لامع ... سبقت مخايله يد المستمطر
فجذب الدواة وقال: ما أخلب برقك ولا كذبت مخيلتك، ووقع لي بما أردت.
قال الصولي: أنشدت المبرد يوماً قول بشار:
أبرقت لي حتى إذا قلت جادت ... أقشعت عن سحائب تشفتر
تركتني وما أومل منها ... كالمرجي حلوبة ما تدر
فأنشدني:
كأنك مزنة برقت بليل ... لحيران يضيء له سناها
فلم تمطر عليه وجاوزته ... وقد أرسى المنى لما رآها
فسألته عن أرسى فقال: أثبتت المنى في قلبه، أما قرأت " والجبال أرساها " النازعات:32.
قال القاضي: قول بشار: أبرقت لي لغة قد أثبتها قوم ومنها قول الكميت:
أرعد وأبرق يا يزي؟؟ ... د فما وعيدك لي بضائر
وكان الأصمعي ينكر هذا ويرده ولا يعرف إلا رعد وبرق.
يعوض على معاونيه بسخاء بالغحدثني أبو النصر العقيلي قال حدثنا يعقوب بن بنان الكاتب قال، قال لي أبو العباس ابن الفرات، حدثني كاتب إبراهمي بن سيما قال: لما صرنا إلى البصرة لمحاربة الناجم بها وقعت النار في عسكرنا فأحرقت كل ما كان لإبراهيم من مضرب وغيره، قال: فانصرفنا إلى سر من رأى وعملنا حساب نفقات عسكرنا، ففضل في أيدينا من المال الذي تسبب لنا أربعة وثمانون ألف دينار، قال فقال لي إبراهيم: صر إلى أبي القاسم عبيد الله بن سليمان وأعلمه ما نالنا في مضاربنا وآلتنا، وسله أن يهب لنا من هذا المال الذي فضل قبلنا ما نرم به حالنا، فلعله يصفح لنا عن خمسة آلاف دينار نصرفها في نفقتنا، قال: فصرت إليه فوجدته مستخلياً مستلقياً على مصلاه، فسألني عن إبراهم وحدثني ساعةً، ثم قال لي: ما جاء بك في هذا الوقت؟ إليه ما قال إبراهيم فقال: وكم بقي قبلك من المال؟ قلت: أربعة وثمانون ألف دينار، قال: فأدخلها في حسابكم، وقل له يأخذها بارك الله له فيها قال: ففعلت ذلك وأخذنا المال كله، وإنما كان تقديرنا أن يترك لنا منه خمسة آلاف دينار.
الرسول كان يحب أن يرى عنترةحدثنا يزداد بن عبد الرحمن بن يزداد المروزي الكاتب قال حدثنا أبو موسى عيسى بن إسماعيل البصري المعروف بتينة، قال وسمعت ابن عائشة يقول: أنشد النبي صلى الله عليه وسلم لعنترة:
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أصيب به كريم المأكل
قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحد من فرسان العرب كنت أحب أن أراه ما خلا عنترة.
عبسي شديد التعصب لعنترةحدثنا يزداد بن عبد الرحمن، قال حدثنا أبو موسى، قال حدثنا القحذمي عن عمه عن ابن دأب قال: جاءني أعرابي منعبس ما رأيت قط أشد عصيبةً منه، فقال: يا أبا الوليد ما شيء بلغني عنك؟ قال قلت: وما هو؟ قال: بلغني أنك تقول إن عنترة فقئت عينه قبل أن يموت، قال قلت: نعم، قال: ومن فقأها؟ قال قلت: غلام من بني قبال، قال: عندك في ذلك شاهد؟ قلت:نعم، قال: فأنشدنيه،فأنشدته:
غزا ثم آب العبد خائب جده ... إلى ضخمة الأذنين والكف شهبره
فبات إليها كاسراً شق عينه ... فقالت له من عار عينك عنترة
فقال لها لا ضير إن ملمة ... ألمت وإن الدهر يقلب أعصره
وإن غلاماً من قبالٍ أصابهم ... وما كان عن كف القبالي اهدره
قال فقال لي: أمعك غير هذا؟ قال قلت: نعم.
أما بنو عبس فإن دعيهم ... ولت فوارسه وأفلت أعورا
سمع التذامر والتواصي بينهم ... لا يفلتن العبد عنتر عنترا
قال فقال لي: يا أبا الوليد قد صح هذا عندك؟ قال قلت: قد حدثتك الحديث وأنشدتك الشعر، قال: والله ماتفقت عينه في قبره، كيف تزعم أنها تفقت قبل موته؟!
====================

======================
مجلد 6 من كتاب : الجليس الصالح والأنيس الناصح المعافى بن زكريا
تعليق على ما جاء في الخبرين السابقينقال القاضي: قد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذا الطريق في ذكر عنترة محبته رؤية عنترة وأنه قال: لو أدركته نفعته؛ وقول الشاعر إلى ضخمة الأذنين والكف شهبرة الشهبرة: العجوز المولية، ويقال شهورة وينشد في هذا:
أم الحليس لعجوز شهورهوجاء في بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن حارثة لا تتزوج خمساً، فذكر فيهن الشهبرة. ويقال أيضاً عجوز شهربة وأنشدوا في هذا:
أم الحليس لعجوز شهربه ... ترضى من اللحم بعظم الرقبة
وقوله: وما كان عن كف القبالي أهدره يقال أهدر دم فلان إذا طل ولم يثأر به وأسقط القصاص والعقل عنه. وقول الشاعر في الشعر الثاني: لا يفلتن العبد عنتر عنتراً فيه إغراء به، كأنه قال عليك عنترة أو اقتل عنترة، كما تقول: الطريق الطريق فأضمر الفعل، ومثله قولك لمن رأيته يضرب رجلاً أو يتهيأ لضربه: رأسه؛ وهذا باب واسع معروف في العربية يضمر الفعل فيه اكتفاءً بما حضر أو ظهر من الأحوال والأشياء الدالة على العامل المنوي والمتروك. وأما قول العبسي " تفقت عينه " فإنه ترك الهمز في هذه الكلمة وهو أصل فيها، قال الشاعر:
تفقأ فوقه قلع السواري ... وجن الخازباز به جنونا
وقد يترك الهمز كثيراً وخاصة في الشعر كقول الشاعر:
وكنت أبا ستةٍ كالبدور ... أفقي بهم أعين الحاسدينا
بيت شريف في امرأة خفرةحدثنا عبد الله بن منصور الحارثي، قال حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي، قال حدثنا مهدي بن سابقٍ، قال حدثني الهيثم بن عدي قال: كنا جلوساً عند صالح بن حسان فقال: أنشدوا بيتاً شريفاً في امرأةٍ خفرة، قلنا قول حاتم الطائي:
يضيء لها البيت الظليم خصاصه ... إذا هي يوماً حاولت أن تبسما
فقال: أريد أحسن من هذا البيت. قلنا قول الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل
قال: أريد أحسن من هذا. قلنا بيت ذي الرمة:
تنوء بأولاها فلأياً قيامها ... وتمشي الهوينا من قريب فتبهر
قال: أريد أحسن من هذا. قلنا: ما عندنا شيء، قال بيت أبي قيس ابن الأسلت:
ويكرمنها جاراتها فيزرنها ... وتعتل عن إتيانهن فتعذر
أحسن بيت في وصف الثرياثم قال: أتدرون أحسن بيتٍ وصفت به الثريا؟ قلنا بيت ابن الزبير:
وقد لاح في الجو الثريا كأنه ... به راية بيضاء تخفق للطعن
فقال: أريد أحسن من هذا، قلنا: بيت امرئ القيس:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل
قال: أريد أحسن من هذا، قلنا: بيت ابن الطثرية:
إذا ما الثريا في السماء كأنها ... جمان وهي من سلكه فتسرعا
قال: أريد أحسن من هذا؛ قلنا قول ذي الرمة:
وردتاعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق
يدف على آثارها دبرانها ... فلا هو مسبوق ولا هو يلحق
بعشرين من صغرى النجوم كأنها ... وإياه في الجرباء لو كان ينطق
قلاص حداها راكب متعمم ... هجائن قد كادت عليه تفرق
قال: أريد أحسن من هذا؛ قلنا: ما عندنا شيءن قال بيت أبي قيس ابن الأسلت:
وقد لاح في الجو الثريا لمن رأى ... كعنقود ملاحيةٍ حين نورا
تعليقات للقاضي على ما تقدمقال القاضي: قول حاتم: البيت الظليم أراد: المظلم، ومفعل قد ينصرف إلى فعيل، ومن ذلك عذاب أليم أي مؤلم، قال الله تبارك وتعالى: " والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم " يونس:4 ومن هذا قول الشاعر:
ونرفع من صدور شمردلاتٍ ... يصك وجوهها وهج أليم
ومنه سميع بمعنى مسمع، قال الشاعر:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
أراد المسمع. وقد يقال سميع بمعنى سامع، ويأتي على فعيل للمبالغة مثل راحم ورحيم، وحافظ وحفيظ، وعالم وعليم، وقادر وقدير، وناصر ونصير، في نظائر لهاذا كثيرة جداً. وقول ذي الرمة فلأياً قيامها أي بطيء؛ وقال زهير:
وقفت بهامن بعد عشرين حجة ... فلأياً عرفت الدار بعد توهم
وقول أبي قيس: " وكيرمنها جاراتها " هكذا روي لنا على لغة من يأتي بعلامة الجمع مع تقدم الفعل وفراغه من الضمير، كما قال الشاعر:
ولكن ديافي أبوه وأمه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه
الأفصح ويكرمها وقد مضى في بعض ما تقدم من مجالسنا هذه قول لنا في هذا المعنى وتفريق بين علامة التثنية والجمع في العلاقة، وبين علامة التأنيث، ويستغنى به عن إعادته في هذا الموضع. وقول أبي قيس بن الأسلت " كعنقود ملاحية " روي لنا في هذا الخبر ملاحية بتشديد اللام، ولغة العرب الفصيحة السائرة ملاحية يقولون عنب ملاحي، ورواة الحديث والأخبار الذين لا علم لهم بكلام العرب يغلطون في هذا كثيراً وفي ما أشبهه، وأرى أن الذي أوقعهم في هذا أنهم لما رأوا هذا البيت رأوا ظهور الزحاف فيه إذا روي مخففاً على الوجه الصحيح وسلامته من ذلك إذا شدد، ثم لم يعلموا جواز الزحاف واطراده وظهور استعماله وأن أكثر الشعر مزاحف، وما لا زحاف فيه قليل نزر جداً؛ وهذا البيت من الطويل والزحاف فيه ذهاب ياء مفاعيلن ورده إلى مفاعلن، ويسمى هذا النوع من الزحاف قبضاً لذهاب خامس حروف الجزء، ويسمى الجزء الذي لحقه هذا الزحاف مقبوضاً، وقد يسقطون نون مفاعيلن على معاقبة القبض فيه وهو ذهاب الياء ولا يجتمعان في السقوط، ويسمى هذا الزحاف الكف لذهاب السابع من حروف جزئه، ويسمى الجزء مكفوفاً.
المجلس التاسع والستون
حديث في الخطيئةأخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء، قال حدثنا أبو مروان القاضي عبد الملك بن محمد المديني بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال حدثنا أبو بشر الأنصاري، قال حدثنا أحمد بن يحيى، قال حدثنا يزيد بن مهران الأسدي، قال حدثنا أبو بكر ابن عياش عن مغيرة بن زيادٍ عن عدي بن عدي عن العرس، وهو ابن عميرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا عملت الخطيئة في أرض فمن أنكرها كان كمن غاب عنها، ومن رضيها كان كمن شهدها.
تعليق الجريري على الحديثقال القاضي: قد ثبت بدليل العقل والسمع أن الراضي بفعل المحسن شريك في إحسانه، والراضي بفعل المسيء شريك في إساءته، من جهة المدح والذم، والأجر والاثم. وقد ذم الله تعالى في كتابه من كان من اليهود في عصر نبيه صلى الله عليه وسلم باضافته قتل أنبيائهم إليهم، وان كان المباشر لذلك من تقدم من آبائهم لرضاهم به وموافقتهم إياهم في دينونتهم بما ضلوا فيه وكفروا بفعله وعصوا بارتكابه.
حسن سياسة ملكحدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن المدائني قال: بلغ بعض ملوك الطوائف حسن سياسة ملكٍ، قال: فكتب إليه يسأله أن يفيده علم الذي بلغ به ذلك، فكتب إليه: لم أهزل في أمر ولانهي، ولا وعدٍ ولا وعيدٍ، واستكفيت أهل الكفاية، وأثبت على الغناء لا على الهوى، وأودعت القلوب هيبةً لم يشنها مقت، ووداً لم يشبه كذب، وعممت بالقوت ومنعت الفضل.
قول لبعض الحكماءحدثنا أبو النصر العقيلي قال حدثني أبو الحسن بن راهويه الكاتب قال: بلغني أن بعض الحكماء قال: إن الله تبارك وتعالى جعل خزائن نعمته عرضةً لمؤمليه، وجعل مفايتحها صدق نيةٍ راجيه.
دفتر لابن دريدقال القاضي رحمه الله: أخبرني بعض أصحابنا أنه قرأ على دفترٍ لابن دريد بخطه: حسبي من خزائن عطاياه مفتوحة لمؤمليه، ومن جعل مفاتيحها صحة الطمع فيه. قال: وقرأت على هذا الدفتر أيضاً:
أفوض ما تضيق به الصدور ... إلى من لاتغالبه الأمور
محاورة بين ابن عباس ومعاوية
حدثنا محمد بن مزيد الخزاعي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أبو الحسن الأثرم عن هشام بن محمدٍ الكلبي عن أبيه قال: لم يكن أحد من بني هاشم أكثر غشياناً لمعاوية من عبد الله بن عباس، فوفد إليه مرةً وعنده وفود العرب فأقعده على يمينه ثم أقبل عليه فقال: نشدتك الله يا ابن عباسٍ أن لو وليتمونا أتيتم إلينا ما أتينا إليكم من الترحيب والتقريب وعطائكم الجزيل وإكرامكم عن القليل، وصبرتم على ما صبرنا عليه منكم؟ إني لا آتي إليكم معروفاً إلا صغر تموه: أعطيكم العطية فيها قضاء حقوقكم فتأخذونها متكارهين عليها، تقولون: قد نقص حقنا وليس هذا تأميلنا، فأي أملٍ بعد ألف ألفٍ أعطيها الرجل منكم ثم أكون أسر بإعطائها منه بأخذها؟ والله لقد انخدعت لكم في مالي، وذللت لكم في عرضي، أرى انخداعي تكرماً، وذلي حلماً، ولو وليتمونا رضينا منكم بالإنصاف ثم لا نسألكم أموالكم، لعلمنا بحالنا وحالكم، ويكون أبغض الأموال إلينا أحبها إليكم لأن أبغضها إلينا أحبها إليكم، قل يا ابن عباسٍ. فقال ابن عباس: لو ولينا منكم مثل الذي وليتم منا اخترنا المواساة ثم لم يعش الحي بشتم الميت، ولم ننبش الميت بعداوة الحي، ولأعطينا كل ذي حق حقه. فأما إعطاؤكم الرجل منا ألف ألف فلستم بأجود منا أكفاً، ولا أسخى منا أنفساً، ولا أصون لأعراض المروءة وأهداف الكرم؛ ونحن والله أعطى في الحق منكم على الباطل، وأعطى على التقوى منكم على الهوى. فأما رضاكم منا بالكفاف فلو رضيتم به منا لم نرض لأنفسنا بذلك والكفاف رضى من لاحق له، فلو رضيتم به منا اليوم ما قتلتمونا عليه أمس، فلا تستعجلونا حتى تسألونا، ولا تلفظونا حتى تذوقونا. فقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهبٍ:
وقال ابن حربٍ قولة أمويةً ... يريد بما قد قال تفتيش هاشم
أجب يا ابن عباس تراكم لو آنكم ... ملكتم رقاب الأقربين الأكارم
أتيتم إلينا ما أتينا إليكم ... من الكف عنكم واجتباء الدراهم
فقال ابن عباس مقالاً أمضه ... ولم يك عن رد الجواب بنائم
نعم لو وليناكم عدلنا عليكم ... ولم تشتكوا منا انتهاك المحارم
ولم نعتمد للحي والميت غمة ... تحدثها الركبان أهل المواسم
ولم نعطكم إلا الحقوق التي لكم ... وليس الذي يعطي الحقوق بظالم
وما ألف ألفٍ تستميل ابن جعفرٍ ... بها يا ابن حربٍ عند حز الحلاقم
فأصبح يرمي من رماكم ببغضه ... عدو المعادي سالماً للمسالم
فأعظم بما أعطاك من نصح جيبه ... ومن أمن غيبٍ ليس فيه بنادم
رسالة من خالد القسري إلى أبان البجليحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أبو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح قال حدثنا محمد بن عمران عن أبيه قال: كتب خالد بن عبد الله القسري إلى أبان بن الوليد البجلي وكان قد ولاه المبارك: أما بعد فإن بالرعية من الحاجة إلى ولاتها مثل الذي بالولاة من الحاجة إلى رعيتها، وإنما هم من الوالي بمنزلة جسده من رأسه، وهو منهم بمنزلة رأسه من جسده فأحسن إلى رعيتك بالرفق بهم، وإلى نفسك بالاحسان إليها، ولا يكونون هم إلى صلاحهم أسرع منك إليه، ولا عن فسادهم أدفع منك عنه، ولا يحملك فضل القدرة على شدة السطوة بمن قل ذنبه ورجوت مراجعته، ولا تطلب منهم إلا مثل الذي تبذل لهم، واتق الله تعالى في العدل عليهم والاحسان إليهم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. اصرم فيما علمت، واكتب إلينا فيما جهلت يأتك أمرنا في ذلك إن شاء الله، والسلام.
أبو الأسود يوصي حارثة أن يستغل ولايتهحدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال حدثني محمد بن المرزبان قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال حدثني العتبي قال: كان حارثة بن بدر الغداني صديقاً لزياد بن أبيه وكان أبو الأسود الدؤلي مؤاخياً لحارثة بن بدرٍ، فقلد زياد حارثة بن بدر سرق، فكتب إليه أبو الأسود:
أحار بن بدرٍ قد وليت إمارةً ... فكن جرذاً فيها تعق وتسرق
وباه تميماً بالغنى إن للغنى ... لساناً به المرء الهيوبة ينطق
ولا تحقرن يا حار شيئاً أصبته ... فحظك من ملك العراقين سرق
فإني رأيت الناس إما مكذب ... يقول بما يهوى وإما مصدق
يقولون أقوالاً بظن وشبهةٍ ... فإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
فكتب إليه حارثة بن بدرٍ: لم يعم علينا الرأي يا أبا الأسود، وختم كتابه بهذا الشعر:
جزاك مليك الناس خير جزائه ... فقد قلت معروفاً وأوصيت كافيا
أمرت بحزمٍ لو أمرت بغيره ... لألفيتني فيه لأمرك عاصياً
ستلقى امرءاً يصفيك بالود مثله ... ويوليك حفظ الغيب إن كنت نائبا
وأقرب ما عندي المواساة مسمحاً ... إذا لم يجد قوم صديقاً مكافيا
تفسير الترخيم وشرح السماحةقال القاضي: رخم أبو الأسود حارثة في شعره، فحذف الهاء والثاء، وبعض النحويين لا يجيز هذا، ويقول يا حارث في ترخيم حارثة فتحذف الهاء خاصة فيقول: أحارث وأحارث على لغتين للعرب فيه، أفصحهما إقرار حركة الحرف في الترخيم على ما كانت عليه، وهو الوجه المختار، والأخرى صمه على حكم النداء المفرد والقضاء على ما بقي بعد حذف الطرف للترخيم بأنه اسم قد قام بنفسه وكفى من غيره، ولا نجيز هذا الترخيم على هذين الوجيهن إلا في ترخيم حارث، وقد احتج بشعر أبي الأسود وغيره في إجازة هذا الترخيم من أجازه. وقوله: وأقرب ما عندي المواساة مسمحاً يقال من السماحة والسماح، سمعح فلان بماله ومعروفه وسامح وتسمح وتسامح، ويقال أسمح فلان فهو مسمح إذا انقاد وأصحب ولان جانبه وقارب غير مستصعب، قال تميم بن أبي بن مقبل العجلاني:
هل القلب عن دهماء سالٍ فمسمح ... فتاركه منها الخيال المبرح
رواية أخرى عن
تولية حارثة ووصية أبي الأسودحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن التيمي عن أبيه قال حدثنا خالد بن سعيدٍ عن أبيه قال: لما ولى زياد حارثة بن بدرٍ الغداني سرق خرج معه المشيعون، فقال له أبو الأسود الدؤلي مسيراً إليه: أحار بن بدرٍ وذكر الشعر وجواب حارثة عنه، والألفاظ فيه وفي خبر ابن الأنباري متقاربة المعاني، وفي هذا الخبر زيادة بيت يلي قول أبي الأسود: يقولون أقوالاً بظنٍ وشبهةٍ.
وهو:
ولا تعجزن فالعجز أوطأ مركب ... وما كان من يدعى إلى الرزق يرزق
سماه معروفاً وكناه أبا الحسن
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا ابن عائشة قال: سمى رجل ولداً له معروفاً وكناه بأبي الحسن، فلما شب قال له: يا بني إنما سميتك معروفاً وكنيتك بأبي الحسن لأحبب إليك ما سميتك به وكنيتك به. قال الصولي: فحدثت بهذا الحديث وكيعاً فقال لي: يقال إن قائل هذا أبو معروف الكرخي لمعروف.
نباذة عن معروف الكرخيقال القاضي: العروف من كنية معروفٍ الكرخي أبو محفوظ، واسم أبيه الفيرزان، وكان من المعروفين بالصلاح في دينه مشهوراً بالاجتهاد في العبادة والورع والزهادة، فكان الناس في زمانه وبعد مضيه لسبيله يتحدثون أنه مستجاب الدعوة، وله أخبار مستحسنة جمعها الناس تشتمل على أخلاقه وسيرته، وقد رويت لنا عنه أخبار مسندة وموقوفة. وحدثت عن عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل أنه قال، قلت لأبي: هل كان مع معروف الكرخي شيء من العلم؟ فقال لي: يا بني كان معه رأس العلم، خشية الله تبارك وتعالى.
قال القاضي: ولعمري إن خشية الله تعالى وتقواه رأس العلم. وإنما يكتسب العلم ليؤدي إلى خشية الله تعالى ومراقبته، والسعي إلى ما يعود بثوابه والأمن من عقابه، وقد قال مجاهد: إنما الفقيه من يخشى الله عز وجل لأنه قال عز ذكره: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " فاطر: 28 وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه، وأفقههم في دينه، وأخشاهم له، وأحفظهم لحدوده. وقد جاء في الأثر: إن رأس الحكمة خشية الله تعالى وان حب الدنيا رأس كل خطيئة. نسأل الله الكريم إصلاحنا له حتى نؤثر رضاه على هوانا، ولا نشتغل عن الاستعداد لمعادنا إليه بغرور دنيانا، إنه سميع الدعاء لطيف لما يشاء.
حمدويه صاحب الزنادقة والطويل الزنديق
حدثنا محمد بن عبد الواحد أبو عمر الزاهد قال أخبرني أبو بكر الملطي قال أخبرني من رأى حمدويه الزنديق النائب، تائب الزنادقة، قال: فأخبرني أن الخليفة رأى في منامه كأن الكعبة قد مالت، وكأنه أقامها هو وآخر يعرف صورته إذا رآه في اليقظة، فاستوت الكعبة، قال: فطلبوني فقيل لي يا حمدويه ما نشك فيك أنك أنت صاحب الخليفة، قال: فأدخلت عليه فقال: نعم هذا هو، قال: فخلع علي وحملني، ثم أمر صاحب الشرطة أن يقبل مني كل شيء أقوله، وقال له: مر أصحاب الأرباع والأعوان بالطاعة له، قال: نعم، ثم قال لي انظر كل زنديق فارفعه إلي، قال: وأمر لي بسجن حتى أحبس فيه الزنادقة، فقال لي ابن مسروق الصوفي: هي التي يقال لها دار مفلح قال حمدويه: فالتقطت منهم جماعةً، فمن أقر وتاب خلاه السلطان ومن جحد حبسه، قال، فمررت ذات يومٍ على مسجد الطويل وهو يقول في أذانه: أشهد أن محمداً رسول الله، قال حمدويه: فقلت زنديق والله الذي لا إله إلا هو، قال: فبعثت إلى صاحب الربع فركب، فقلت: اقبض على ذا، فرفعه إلى السلطان، قال: وكان مقرئاً قد علم ألوفاً من الناس، قال: فتسامع أهل الكرخ، قال: فاجتمعوا وهم ثلاثون ألفاً فدخلوا على السلطان الأعظم فقالوا له: ليس حمدويه نبياً ولا صحابياً ولا تابيعاً حتى يصدق في كل شيءٍ يقوله، ونحن وجوه الرعي نحلف للسلطان بالله الذي لا إله إلا هو لقد أبطل حمدويه، قال: وابتدأ قوم فحلفوا بالطلاق وأيمان البيعة أن حمدويه كذب على أستاذنا، قال: وخرجوا وقد وعدهم أن يتوقف في قتله ثلاثة أيام، فإن خرج حمدويه بعذرٍ بين قتل حمدويه وخلى المقري، قال: فخلا بي من بعد ما خرج الناس فقال لي: يا حمدويه، قد بلغك الخبر ورأيت الأمة قد أقبلت إلي وزعموا أنه أستاذهم وقد حلفوا بالطلاق، وقد أجلته ثلاثة أيام فإذا كان اليوم الرابع فإما قتلته وإما أقتلك، فقلت: قد رضيت بالله رباً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً وقد رضيت بالله كافياً ومعيناً وأنا أقمت معك الكعبة لاهم، قال: وخرجت فأخذني المقيم المقعد ولا أجد أحداً إلا وهو يثني عليه بالصيام والقيام والأذان والإمامة، قال: فدخلت في اليوم الثالث إلى سجني، قال: وكان من الزنادقة في حبسي غلام عاقل نظيف، قال فقال لي: مالي أراك مهتماً؟ قال قلت: دعني ليس هذه الساعة من ساعاتك، قال: لعل فرجك عندي، قال قلت له: ويحك الطويل المقرى، قال قل لي: وقعت عليه، قال قلت: ويحك فرج عني، قال فقال لي: ففرج عني حتى أفرج عنك، قال فقلت: وما صدقت عليك فيه؟ قال فقال لي: والله ما كذبت علي ولا على غيري، قال قلت: تب حتى أخليك، قال فقال لي: قد تبت، قال فقلت: فحدثني بحدثني بحديث هذا الرجل وأنا أخرجك معي الساعة من الحبس لأني مطاع عند السلطان، قال فقال لي:
هذا أستاذي الكبير في الزندقة، وليس في الدنيا زنديق داعية إلا من قبل هذا الذي يقال له الطويل، قال قلت: صدقت، ولكن السلطان لا يجعلك أنت حجةً على رجل له ثلاثون ألف ناصر، قال فقال لي: اعرض عليه ثلاثة أشياء، فإنك لو قطعت الزنديق ما فعلها، قال قلت: ما هي؟ قال: في إصبعه خاتم يختم بها، عليه مكتوب: أنا زنديق فإذا وافى خاتمه بعض الزنادقة قضى حاجة الرجل ولو كان فيها فقده وتلفه، قال قلت: فإن خرج منها؟ قال فقال لي: ادفع إليه ديكاً نبطياً قلطياً أصفر المنقار دقيق الساقين أبح الصوت حتى يذبحه، قال قلت: فإن خرج منها؟ قال: بقيت واحدة لا يفعلها زنديق أبداً، فإن فعلها فقد سلم وهلكت أنت، وإن لم يفعلها وليس يفعلها أبداً فقد نجوت أنت وهلك هو، واعلم أني قد آمنت بالله وصدقت النبي والمرسلين، وآمنت بكل كتاب نزل وكل نبيٍ مرسل، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، من صدقه نجا، ومن كذبه هلك؛ قال حمدويه: فأخذت يده وأخرجته حتى أديته إلى منزله، ووهبت له دنانير وقلت له: أنا آتيك بالخبر في غدٍ إن شاء الله تعالى فهات العلامة الثالثة، قال: فأخرج إلي من جيبه خرقة حريرٍ فيها صورة سمجة جداً: حاجباها غليظان وأنفها مفلطح وفمها كأنه مشافر، قال لي: قل له فليبزق على هذه الصورة، قال حمدويه فقلت: وما هذه الصورة؟ قال: هذه صورة ماني، قال حمدويه: فبت بليلةٍ كليلة الحبلى إذا أخذها الطلق، قال: ثم غدوت إلى السلطان، قال: فجلس على سريره سرير الخلافة قال: وغدا الكرخيون فامتلأ الصحن، ثم قلت: يا سيدي إن رأيت أن تحضر خصمي، قال: فقوي قلب السلطان لقوة كلامي، قال فقال: الطويل الطويل، قال: فأتي به، قال: فتشرف الناس، وحضرت القضاة والعدول والمحدثون والفقهاء، قال فقال لي الطويل: هات ما عندك يا كذاب، قال قلت خاتمك، قال: هذا خاتمي، قال فقلت لبعض العدول: اقرأ ما عليه، فقرأ ذلك أنا ونديق، قال فقال الطويل: يا أمير المؤمنين هذا العدل أبكم من هذا الكذاب، واعلم أن لي صديقاً في ذلك الجانب يكنى أبا زيد فنقشت على خاتمي أبا زيد ثق وجعلتها علامة بيني وبينه لقضاء حوائجي، وهو باقٍ، قال: فنظر إلي الخليفة فقلت: علامة أخرى يا أمير المؤمنين، فأخرجت الديك وقلت: فليذبح هذا، قال فقال الخليفة له: اذبح هذا، قال فقال له الطويل: والله يا أمير المؤمنين ما ذبحت شيئاً قط بيدي، وما أمتنع من ذبحه إلا من ارتعاشٍ في يدي، قال فنظر إلي الخليفة فقلت: علامة أخرى يا أمير المؤمنين، فأخرجت الديك وقلت: فليذبح هذا، قال فقال الخليفة له: اذبح هذا، قال فقال له الطويل: والله يا أمير المؤمنين ما ذبحت شيئاً قط بيدي، وما أمتنع من ذبحه إلا من ارتعاشٍ في يدي، قال فنظر إلي الخليفة وقال: يمكن ما قال، فهات غيرها، قال: فأخرجت الصورة قال فقلت له يا أمير المؤمنين: مره فليبزق على هذه الصورة، قال فقال له: ابصق على هذه الصورة، قال فقال: هاتها، قال: فدفعتها إليه، قال فقال: بأبي هذه الصورة، وأمي هذه الصورة، ثم قبلها وسجد لها ووضعها على عينيه وبكى، قال حمدويه: فلو طار إنسان فرحاً لطرت أنا تلك الساعة، قال فدعا الخليفة بصاحب الشرطة فقال: خذه واضرب عنقه في باب الطاق في رحبة الجسر، قال: وقام السلطان، وانصرف القوم والعامة تصيح بهم: رحم الله معاوية، رحم الله معاوية.
حدثنا أبو عمرو قال أخبرني أبو بكر الملطي قال أخبرني أبو عبد الله بن أبي عوف البزوري قال أخبرني رويم المقري قال: كنت ذات يوم سلمت من صلاتي وقعدت لآخذ على بعض غلماني، قال: فجاءتن جاريتي فقالت: يا مولاي إن أردت أن تنظر إلى الطويل المقري فإن الناس قد انجفلوا وقالوا إنه تضرب عنقه الساعة في باب الطاق في رحبة الجسر لأنه قد صحت زندقته، قال فقلت لغلامي: أسرج الحمار، قال: فركبت، قال: فلما رآني الناس قالوا لصاحب الشرطة هذا أستاذ القراء، قال: فأوسعوا لي قال: فجئت فرأيت رأسه قد شد وقد مد رقبته، قال فقلت للسياف: اصبر لي حبة حتى أكلمه، قال فصاح به السلطان: اقض حاجة الشيخ، قال: فتقدمت إلى الطويل فقلت: يا طويل، إنما كان بلغنا عنك أنك تشتم أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهما فخرجت زنديقاً؟! قال فقال لي: يا مبلغم أي شيء كان بين وبين أبي بكر وعمر؟ إنما أردت صاحبهما وإني لم أجد من يعينني على صاحبهما، قال فقلت للسياف: اضرب رقبة عدو الله وعدو رسوله صلى الله عليه وسلم، قال فرمى برأسه وانصرفت وكبر الناس.
فضل في تاريخ الزندقةقال القاضي رحمه الله: قد كانت الزندقة فشت في عهد المهدي، وانتشر الدائنون بها، فوفقه الله تعالى للفحص عن أهلها والسعي في محوها وتعفية آثارها، وعني بالنظر في هذا، وقتل جماعةً منهم وأسلم آخرون خوفاً من الفناء وآخرون لما أقيمت حجة الإسلام ووضحت أعلامه لهم، ونصب للتنقير عنهم والجد في طلبهم حمدويه الذي ذكرناه في هذا الخبر. وكان منهم ذوو عددٍ يحامون عن جهالتهم يذبون عن ضلالتهم،وجرت بين بعض من بقي منهم مناظرات وبين بعض متكلمي أهل الإسلام بحضرة الرشيد والمأمون وكان في من يجادل منهم يزدان بخت ويزدا نفروخ وغيرهما، ولهم أخبار عدة، ولعلنا نأتي بما يتفق خروجه لنا من أخبارهم وأخبار ماني اللعين صاحبهم الضال المضل لهم.
بعض أخبار الخناقينومن عجيب ما بلغنا من أخبارهم ما حدثناه الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو العباس الهروي أحمد بن محمد قال أخبرني سهل بن صالح الأصبهاني الكاتب قال: أخذ النخشبي بالبصرة رجلاً يخنق الناس ولا يسلبهم ثيابهم فقال له: ويلك ولم تفعل هذا؟ إذا كنت لا ترغب في ثياب الرجل وماله فلم تقتله؟ فقال له: ويلك أما أول ذلك فإني ألحق المخلوق بالخالق، والثانية أن هذه الأرواح محتبسة في هذه الأجساد فأخلصها تلحق بالهيولى والصفا، قال: فلم لا تخلص نفسك أنت؟ قال: أخلص مائة نفسٍ أحب إلي من أن أخلص نفساً واحدة، على أن نفسي لا بد لها من مخلص، ونفسي نفس طاهرة وأنفس هؤلاء قذرة، وأيضاً يخف عنا السفل ولا يزاحمونا في الأمور، ويطيب الهواء وتتسع الديار وينقطع الغبار. وبعد فكل من كان من أهل الخير ألحقته بالخير الذي له في الآخرة، وأيضاً إن كان الإنسان في هذه الدنيا في ضيق أرحته منه، وإن كان فاسد الكيموس أرحته، وإن كان سفلة أرحت الكرام من معاشرته، فأمر بضرب عنقه.
قال القاضي رحمه الله: في هذا الخبر السفل وسفلة على كلام العامة، والصواب: فلان من السفلة.
أبو شاكر الديصانيوقد حكي لنا عن أبي شاكر الديصاني والديصانية ضرب من الثنوية أنه اشترى كارة دقيق وحملها على رأس رجل شيخ، فلما صار إلى داره سأل الحمال عن سنه ورأى ضعف جسمه، فأخبره بسنٍ عاليةٍ، وسأله عن عياله ومعيشته فذكر له سوء حاله وكثرة عياله، فقال: لقد رحمتك ورققت لك، وأريد أن أذبحك وأميط الشقاء عنك، فأضجعه فذبحه. ونحن نعوذ بالله من الخذلان ونسأله أن يوفقنا لما وفق له أولياءه من أهل الايمان. وقد كان من المهدي ما يجازيه الله تعالى بحسن نيته فيه ويجزل مثوبته عليه.
المجلس السبعون
سفيان يدلس في الحديث
أخبرنا المعافى حدثنا محمد بن مخلدٍ بن حفص العطار قال حدثنا عبد الله بن عمر بن حبيبٍ أبو رفاعة قال حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يبيت مالاً ولا يقيله. قال رجل يا أبا محمدٍ سماعاً من عمرو؟ قال: ابن جريج عن عمرو بن دينار قال: سماعاً من ابن جريج؟ قال: ويحك لم تفسده؟ قال: سماعاً من انب جريج؛ قال: أبو عاصم النبيل عن ابن جريج، قال: سماعاً من أبي عاصم؟ قال: ويحك لم أفسدته؟ قال: سماعاً من أبي عاصم؟ قال: حدثنيه علي بن المديني عن أبي عاصم.
وحدثنا الليث بن محمد بن الليث المروزي قال: سمعت ابن ناجية يقول سمعت عبد الله بن هاشم يقول حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، قلت له: سماعاً من عمرو بن دينار؟ قال: ويحك لا تفسده، حتى كررت عليه ثلاث مرات، قال: حدثني ابن جريج عن عمرو بن دينار.
قال القاضي رحمه الله: وهذا مما دلسه سفيان بن عيينة. وقد ذكرنا في بعض ما تقدم من مجالسنا هذه بعض ما وقع إلينا فيه من الأخبار تدليس، وذكرنا أن خبر المدلس مقبول غير مردودٍ إذا كان عدلاً ولم يكن في ما يخبر به ما يوجب توهينه، وأن الشافعي ومن وافقه كانوا لا يرون خبر المدلس حجة إلا أن يوقل حدثنا أو أخبرنا أو سمعت؛ وقد حدثنا الليث بن محمد بن الليث المروزي قال سمعت عبد الرزاق بن محمد المعدل الفارسي قال سمعت محمد بن عيسى بن زيد الطرسوسي يقول، سمعت أبا حفص الفلاس يقول، سمعت ابن عيينة يقول: نخطى ونصحف وندلس ولا نكذب.
أبو النشناش النهشليحدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: كان أبو النشناش النهشلي من ولد مخربة بن أبير بن نهشل وأم أبي جهل والحارث ابني هشام أسماء بنت مخربة وكان أبو النشناش يصيب الطريق، فطلب فخاف وأنشأ يقول:
وسائلةٍ أين ارتحالي وسائلٍ ... ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه
ودويةٍ تيهاء يخشى بها الردى ... سرت بأبي النشناش فيها ركائبه
ليدرك ثأراً أو ليكسب مغنماً ... جزيلاً وهذا الدهر جم عجائبه
إذا المرء لم يسرح سواماً ولم يرح ... سواماً ولم تعطف عليه أقاربه
فللموت خير للفتى من قعوده ... عديماً ومن مولى تدب عقاربه
ولم أر مثل الفقر ضاجعه الفتى ... ولا كسواد الليل أخفق صاحبه
فمت معدماً أو عش كريماً فإنني ... أرى الموت لا ينجو من الموت هاربه
ودع عنك مولى السوء والدهر إنه ... ستكفيه أيام له ونوائبه
تلقى عدواً مرة فيرده ... إليك وتلقاه وقد لان جانبه
فأنشد عبد الملك هذه القصيدة فلما سمع قوله: ولا كسواد الليل أخفق صاحبه قال: لص ورب الكعبة، وأمر بطلبه فطلب فأعجز.
شرح لبعض ما جاء في الأبياتقال القاضي رحمه الله: قوله يسرح سواماً يعني الغدو بالماشية إلى المسرح إلى الرعي. ولم يرح يعني الرواح إذا أراحت من المرعى قال الله تعالى وذكر إنعامه على خلقه بما سخره لهم من الأنعام ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون النحل: 6 وقوله: فإنني أرى الموت لا ينجو من الموت هاربه فأتى بالموت ثانياً بالاظهار في الموضع الذي بابه الاضمار لتقدم اسمه ظاهراً، لإقامة وزن الشعر، ولو أتى به في منثور الكلام لكان أظهر، ونحو هذا أن تقول: فإنني أرى الموت لا ينجو منه هاربه، وقد أتى مثل هذا كثير في الشعر، من ذلك قول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
وقال آخر:
إذا الوحش ضم الوحش في ظللاتها ... سواقط من حرٍ وقد كان أظهرا
وقد قال الله تعالى ذكره " ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله المصير " النور: 42 فحمله قوم على أنه جاء على هذا لأن الاظهار فيه والاضمار واحد، وليس الأمر على ما ذهبوا إليه، وإنما أتى الاظهار هاهنا لتعظيم القصة، ولما في إعادة ذكر الموت بالاسم الظاهر من التخويف والحض على الاعتبار والمراعاة والإذكار، وقد قال الله جل وعز في موضع آخر: " ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله " هود: 123 فأعاد على الاسم الظاهر اسماً مضمراً على أصل الباب وظاهره؛ ومن قال لقيت زيداً فأكرمت زيداً لم يقل لقيت زيداً فأكرمت أبا عبد الله، وهي كنية زيد، لأنه مشكل لا دلالة له فيه تنفي اللبس عنه.
المعرفة تنفع عند الكلب العقورحدثنا يزداد بن عبد الرحمن بن يزداد المروزي الكاتب قال حدثنا أبو موسى عيسى بن إسماعيل البصري المعروف بتينة قال حدثني التوزي عن سفيان بن عيينة قال: عرض المغيرة بن شعبة بالكوفة فوجدهم أربعة آلاف، فمر به شاب من الجند فقال: يا غلام زد هذا في عطائه كذا وكذا، قال: فقام شاب كان إلى جانبه فقال: أصلحك الله هذا ابن عمي لحا ليس له علي فضيلة في نسبٍ ولا نجدةٍ فألحقني به، قال: لا، قال فمر من يحط من عطائي ليظن من حضر أن بك علي موجدة، قال: لا، إن أبا هذا كانت بيني وبينه مودة وكان صديقاً لي وإن المعرفة تنفع عند الجمل الصؤول والكلب العقور فكيف بالرجل ذي المروءة والحسب؟
؟؟
الربيع بن خثيم وصديقه العابدحدثنا علي بن محمد بن الجهم أبو طالب الكاتب قال حدثنا أحمد بن يحيى السوسي قال حدثنا علي بن عاصم عن أبي الأصبغ قال: كان رجل من همدان في الكوفة يذكر بعبادةٍ، فلزم بيته وترك الناس، وكان لا يخرج من بيته إلا لصلاةٍ مكتوبة أو حقٍ يلزمه لا يجد منه بداً، وكان صديقاً للربيع بن خثيم، والذي بينهما حسن، لا يأتيان أحداً إلا أحدهما لصاحبه، قال: وكان الهمداني لا ينام من الليل إلا قليلاًن فنام ساعته التي كان ينام فيها، فأتاه آت في منامه فمغثه شديداً وقال له: إيت الربيع بن خثيم فقل له: إنك من أهل النار، ثم تنحى عنه فانتبه الهمداني فتعاظمه ذلك وقال: الربيع بن خثيم؟! قال:فلم يأته وأبطأ عنه، قال ثم أتاه في الليلة الأخرى وهو نائم فمغثه مغثاً شديداً فقال: ألم أقل لك أن تأتي الربيع بن خثيم تقول له إنك من أهل النار؟ لئن لم تفعل لأفعلن بك ولأفعلن بك ولأفعلن، ثم تنحى عنه فانتبه الهمداني وقد تعاظمه ذلك، وقال: الربيع بن خثيم؟! قال: فلم يأته وأبطأ عن الربيع قال: فلما كانت الليلة الثالثة أتاه فمغثه مغثاً شديداً فقال: لئن لم تفعل لأفعلن بك ولأفعلن، وتنحى عنه فانتبه الهمداني وقد تعاظمه ذلك، فلما أصبح ورأى الربيع بن خثيم أنه قد أبطأ عنه أتاه فدخل عليه فسلم عليه فرآه متثاقلاً عنه، فقال: يا أخي مالك؟ قال: خير، قال: الربيع: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا أخي، إنما هذا الشيطان، فأعيذك بالله ونفسي من الشيطان، وتفل الربيع عن يساره ثلاث تفلاتٍ وتعوذ بالله من الشيطان، ثم رجع إلى منزله، فلما كانت الليلة المقبلة قام الهمداني في ساعته التي كان ينام فيها وقد قوي بعض القوة مما سمع من الربيع، فإذا هو قد أتاه آتٍ في منامه بيده ساجور كلبٍ أسود، في وجه الكلب ثلاث جراحاتٍ، قال له: أتدري من أنا؟ قال: لا، قال: فهل تدري من هذا الكلب؟ قال: لا، قال: هذا الشيطان الذي دخل بينك وبين أخيك الربيع بن خثيم، وقد وكلت بكما وبهذا إلى أن تموتا لا ينفلت من هذا الساجور، تدري ما هذه الجراحات التي بوجه الكلب؟ قال: لا، قال هي بزقات الربيع بن خثيم عن يساره، قال: فانتبه الهمداني، فلما أصبح غدا على الربيع فأخبره بما رأى فحمد الله وقال: قد أخبرتك أنه من عمل الشيطان.
معنى المغثقال القاضي رحمه الله: قوله فمغثه مغثاً شديداً أي ناله بمكروه من الجذب والمعصر وما أشبهه، ويقال بين القوم مغث إذا كان بينهم شر ومكروه من الأمر، قال حسان بن ثابت في صفة الخمر:
نوليها الملامة إن ألمت ... إذا ما كان مغث أو لحاء
يحب علياً لثلاث
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن منصور قال حدثنا العتبي عن أبيه عن أبي بكر الدمشقي أن معاوية بن أبي سفيان قال لخالد بن المعمر السدوسي: إن لتحب علياً حباً مفرطاً، قال: أحبه والله لحلمه إذا غضب،وعدله إذا حكم، ووفائه إذا وعد.
قال القاضي رحمه الله: هكذا كان أمير المؤمنين عليه السلام، ولقد فاز من أحبه واهتدى من اقتدى به وسلك سبيله.
سليمان يقرع يزيد بن أبي مسلمحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال أخبرني أحمد بن الحارث قال قال المدائني: دخل يزيد بن أبي مسلمٍ كاتب الحجاج على سليمان بن عبد الملك، وكان مصفراً، فقال له سليمان: على رجل أجرك رسنك وسلطك على المسلمين لعنة الله، فقال: يا أمير المؤمنين، رأيتني والأمر عني مدبر ولو رأيتني والأمر علي مقبل لا ستعظمت مني ما استصغرت اليوم، قال: فأين الحجاج؟ قال: يجيء يوم القيامة بين أبيك وأخيك فاجعله حيث شئت.
المأمون يغرم يحيى بن خاقانحدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا يعقوب بن بنان قال قال أبو العباس انب الفرات حدثني دينار بن يزيد بن عبد الله قال حدثني أبي عن يحيى بن خاقان قال: كنت كاتب الحسن بن سهل، فقدم المأمون مدينة السلام فقال لي: يا يحيى خلوت بالسواد ولعبت في أموالي واحتجنتها واقتطعتها، قال فقلت: يا أمير المؤمنين إنما أنا كاتب لرجلٍ، والمناظرة في الأموال والأعمال مع صاحبي لامعي، قال: ما أطلب غيرك، ولا أعرف سواك، فصالحني على مائة ألف ألف، قال: فضحكت، فقال: يا يحيى أجد وتهزل؟، قلت: يا أمير المؤمنين إنما ضحكت تعجباً، وبالله ما أملك إلا سبعماة ألف درهم، فكيف أصالحك على مائة ألف ألف؟ قال دع عنك وأعطني خمسين ألف ألف، قال: فما زلت أجاذبه ويجاذبني إلى أن بلغ إلى اثني عشر ألف ألف، فلما بلغ إليها قال: نفيت من الرشيد إن نقصتك شيئاً منها، فقلت: السمع والطاعة، قال: أقم لي ضميناً إن لم تف طالبته بها، قلت: صاحبي يا أمير المؤمنين يضمنني، قال: أتراني إن دافعت بالاداء أطالب الحسن بن سهل بما عليك؟ هذا ما لا يكون، قال فقلت: عبد الله بن طاهر، فقال: عبد الله سبيله سبيل صاحبك، قلت: فحميد، قال: وهذه سبيله، فقلت: أتضمنه يا فرج؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: إني والله أحرجه بالإلحاح عليه في المطالبة حتى يهرب أو يستتر ثم آخذك بالمال فتؤديه لأنك ملي به، فقال فرج: صاحبي ثقة وهو لا يخفرني إن شاء الله. قال يحيى: فكتبت إلى الحسن بن سهل وعبد الله بن طاهر وحميد ودينار بن عبد الله وغسان ورجال المأمون أسألهم إعانتي في هذا المال، قال: فحملوه إلي كله عن آخره، حمل كل إنسان منهم على قدره، قال يحيى: وكتبت رقعة إلى المأمن أعرفه أن المال قد حضر وأسأله أن يأمر بقبضه. قال: فأحضرني، فلما وقعت عينه علي قال لي: يا خائن الحمد لله الذي بين خيانتك وأظهر لي كذبك، ألم تذكر انك لا تملك إلا سبعمائة ألف درهم، فكيف تهيأ لك أن حملت في عشرة أيام اثني عشر ألف ألف؟ قال قلت: حملتها يا أمير المؤمنين من هذه المجريدة، ودفعت إليه الجريدة بأسماء من حمل المال ومبلغ ما حمل كل واحدٍ منهم، قال: فقرأ الجريدة ثم أطرق ملياً ورفع رأسه فقال: لا يكون أصحابنا أجود منا بهذا المال، قد وهبناه لك وأبرأنا ضمينك، قال يحيى: فانصرفت ورددت المال إلى أصحابه فأبوا أن يقبلوه وقالوا: قد وهبناه لك فاصنع به ما أحببت، قال فحلفت أن لا أقبل منه درهماً واحداً، وقلت لهم: أخذته في وقت حاجتي إليه، ورددته عند استغنائي عنه، وقبولي إياه في هذا الوقت ضرب من التغنم، فرددته عليهم.
في قدر وجهانقال القاضي رحمه الله: حمل كل إنسان منهم على قدره يجوز أن يكون فيه إسكان الدال وفتحها، وهما لغتان يرجعان إلى معنى واحد، وقد قرأت القرأة " ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " البقرة: 236 بالتحريك والإسكان وقد أنشد أهل العلم بالعربية هذا البيت:
وما صب رجلي في حديد مجاشع ... مع القدر إلا حاجة لي أريدها
بمعنى مع القدر.
أبو حرملة الحجام راوية للشعر
حدثنا عبد الله بن منصور الحارثي قال حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن ميمون الكاتب قال حدثني جدي أبو الفضل ميمون بن هارون قال: أراد سليمان بن وهب أن يأخذ من شعره في وقتٍ من الأوقات، فطلب أبا حرملة فلم يجده، ووجد غلام أبي حرملة، فأخذ من شعره، فقبل أن يفرغ جاء أبو حرملة فقال له سليمان: قم يا غلام، أعط القوس باريها، فقال له أبو حرملة: تعرف يا سيدي أول هذا البيت قال: ما أعرف فيه غير هذا، فقال أبو حرملة أنشد ابن الأعرابي:
يا ابري القوس برياً ليس يحكمه ... لا تفسد القوس أعط القوس باريها
حدثنا عبد الله بن محمود الكاتب قال حدثنا أبو علي أسباط خليفة محمد بن يحيى قال، قال لي أبو حرملة: حذفت عبيد الله بن سليمان فلما فرغت قال: أعط القوس باريها، فقلت: أتعرف صدر هذا البيت؟ قال: لا، فأنشدته إياه، فضرب يده إلى الدواة وكتبه، وهو:
يا باري القوس برياً ليس يحكمه ... أفسدت قوسك أعط القوس باريها
تعليقات نحوية ولغويةقال القاضي في الرواية الأولى: تعرف من غير حرف استفهام في الكلام أو في ما عطف به عليها، وهذا عند بعض المحققين من النحاة خطأ، وقد أجازه كثير منهم، وأنشدوا فيه أبياتاً منها قول عمر بن عبيد الله بن أبي ربيع سامحه الله:
ثم قالوا تحبها قلت بهراً ... عدد الرمل والحصى والتراب
وقالوا أراد: أتحبها، وأنكر هذا من قدمنا الحكاية عنه، وقال: هو خبر وليس باستفهام وغير جائز الاشراك بين الخبر والاستخبار، لما فيه من فساد الكلام في القياس، ودخول الاشكال والالتباس، وقد عاب كثير من أهل المعرفة بالعربية على امرئ القيس إيتانه بمثل هذا في بيت من شعره يقول فيه:
أصاح ترى برقاً أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل
فقال: ترى والمعنى أترى؛ فأما قوله:
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضرك لو تنتظر
فإنه جائز لأن قوله: أم تبتكر قد دل على المعنى، ومثله كثير، من ذلك قول الشاعر:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... بسبع رمين الجمر أم بثمان
وأما قول الشاعر في البيت الذي أنشده أبو حرملو: أعط القوس باريها فإنه أنشدوناه باريها بتسكين الياء التي هي مدة، وهي الرواية الجارية على ألسنة خاصة الناس وعامتهم، وحقيقة الاعراب فيها هاهنا أن تنصب في الفعل، وقد تسكن في الشعر تخفيفاً كما قال الراجز: كأن أيديهن بالقاع القرق وقال الأعشى:
فتى لو يباري الشمس ألقت قناعها ... أو القمر الساري لألقى المقالدا
وربما أسكنوها وحذفوها في النصب كما قال الشاعر:
فلو أن واشٍ بالميمامة بيته ... وداري بأعلى حضر موت اهتدى ليا
فإذا روي هذا البيت على هذا كان من البسيط الثاني وبيته في العروض:
قد أشهد الغارة الشعواء تحملني ... جرداء معروقة اللحيين سرحوب
عروضه فعلن وضربه فعل، وعروضه في مصرعه فعلن إلحاقاً له بضربه؛ وإن رواه راوٍ على أصله في تحقيق الإعراب فتح الياء فقال باريها وكان إذاً من الضرب الأول من البسيط، وبيته في العروض:
يا حار لا أرمين منكم بداهيةٍ ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك
وإذا روي هكذا استقام إعرابه ووزنه، واستوى عروضه وضربه فكانا معاً فعلن في إطلاقه وتصريفه، إذ ليس بينهما في المطلق اختلاف في الزيادة والنقصان فيغير العروض ليلحق الضرب به.
قولة لابن مسمع تضمنت معناها أبيات للبحتريحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا ابن عائشة قال قال مالك بن مسمع للأحنف: يا أبا بحرٍ ما أنتفع بالشاهد إذا غبت، ولا أفتقد غائباً إذ شهدت.
قال القاضي: لكأن البحتري ألم بهذا المعنى:
رحلت فلم نفرح بأوبة آيب ... وأبت فمل نجزع لغيبة غائب
قدمت فأقدمت النهى عمل الرضى ... إلى كل غضبان على الدهر عاتب
فعادت بك الأيام زهراً كأنما ... جلا الدهر منها عن خدود الكواعب
خطبة للمنصور في يوم عرفة
حدثنا محمد بن العباس العسكري قال حدثني أحمد بن يونس بن زهير ابن المسيب قال حدثت عن إسماعيل الفهري قال: سمعت المنصور في يوم عرفة، على منبر عرفة يقول في خطبته: أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسومكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على فيئه بمشيئته أقسمه بارادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله تعالى عليه قفلاً إذا شاء أن يفتحني لاعطائكم وقسم أرزاقكم يسر لي، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني، فارغبوا إلى الله تعالى أيها الناس وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه إذ يقول: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " المائدة:3 أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والاحسان إليكم، ويفتحني لاعطائكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم فإنه سميع مجيب.
جعفر بن محمد يعلم نصر بن كثير والثوري
ما يقولونه في الحجحدثنا محمد بن جعفر بن أحمد بن يزيد الطبري قال حدثنا أبو أحمد جعفر بن محمد الجوهري قال حدثنا عبيد بن إسحاق العطار قال حدثنا نصر بن كثير قال: دخلت على جعفر بن محمد عليهما السلام أنا وسفيان الثوري منذ ستين سنة أو سبعين سنة فقلت له: إني أريد البيت الحرام فعلمني شيئاً أدعو به، قال: إذا بلغت البيت الحرام فضع يدك على حائط البيت ثم قل: يا سابق الفوت، ويا سامع الصوت، ويا كاسي العظام لحماً بعد الموت، ثم ادع بعده با شئت؛ فقال له سفيان شيئاً لم أفهمه، فقال عليه السلام: يا سفيان أو يا أبا عبد الله، إذا جاءك ما تحب فأكثر من الحمد لله وإذا جاءك ما تكره فأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار.
دعاء جعفر يردده الجريري ويكتبه الطبريقال القاضي: كنت منذ سنين كثيرة دعوت الله عز وجل وقلت يا سابق الفوت، وقلت في وقتٍ آخر: يا سابق كل فوتٍ، وكان عندي أنه شيء خطر لي ولم أكن ذاكراً لهذه الرواية ولا عالماً بها في الوقت، فاستحسنت هذه الدعوة ثم وجدتها عندي في ما سمعته وكتبته ورويته. وحكى لي بعض بني الفرات عن رجلٍ منهم، أو من غيرهم، أنه كان بحضرة أبي جعفر الطبري رحمه الله قبل موته وتوفي بعد ساعة أو أقل منها، فذكر له هذا الدعاء عن جعفر بن محمد عليهما السلام فاستدعى محبرةً وصحيفةً فكتبها، فقيل له أفي هذه الحال؟ فقال: ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلم حتى يموت.
المجلس الحادي والسبعون
حيونا نحييكمأخبرنا المعافى حدثنا أحمد بن عبد الله صاحب أبي صخرة قال حدثنا مصعب بن عبد الله يعني الواسطي قال حدثنا خالد بن مخلد قال حدثنا يزيد بن عبد الملك قال أخبرني يزيد بن خصيفة عن أبيه عن السائب ين يزيد قال: لقي النبي صلى الله عليه وسلم جواري يتغنين يقلن: حيونا نحييكم فوقف النبي صلى الله عليه وسلم بهن ثم دعاهن فقال: لا تقلن هكذا، قلن: حيانا الله وحياكم، فقال رجل: يا رسول الله ترخص للناس في هذا؟ قال: نعم، إنه نكاح لا سفاح، أشيدوا بالنكاح.
أي غناء فيه رخصةقال القاضي: وقد ذكرنا في غير موضع من كتبنا غناء النصب وماجاء فيه من الرخصة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأئمة بعده من الصحابة رضوان الله عليهم وحظر ما فيه ترجيع وتمطيط، وأن ذلك منهي عنه في تلاوة القرآن وغيرها، وذكرنا ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الضرب في النكاح بالدف، وأنه قال: أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف. ورخص في هذا في عرسات المسلمين ومواطن مسارهم، وأنه في النكاح سنة لا ينبغي تركها. وقوله: أشيدوا بالنكاح معناه أظهروه وأعلنوه.وقد ذهب مالك في من وافقه من أهل المدينة إلى أن نكاح السر باطل؛ وحضرني بعد إثباتي هذا الخبر خبر إسماعيل بن جامع مع الرشيد فرأيت أن أرسمه هاهنا إذ هو مما يستحسنه ويصغي إلى استماعه ذوو الفضل من الأدباء، وينشك للوقوف عليه أولو الحجى من الرؤساء.
خبر ابن جامع في مجلس الرشيد
حدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا يعقوب بن نعيم الكاتب، قال حدثني محمد بن ضوء التيمي قال مسعت إسماعيل بن جامع السهمي يقول: ضمني الدهر ضماً شديداً بمكة، فانتقلت منها بعيالي إلى المدينة، فأصبحت يوماً لا أملك إلا ثلاثة دراهم، فخرجت وهي في كمي، فإذا بجاريةٍ حميراء على رقبتها جرة تريد الركي، تمشي بين يدي وتترنم بصوتٍ شجيٍ تقول فيه:
شكونا إلى أحبانبا طول ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا
وذلك أن النوم يغشى عيونهم ... سراعاً وما يغشى لنا النوم أعينا
إذ ما دنا الليل المضر بذي الهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا
فلو أنهم كانوا يلاقون مثل ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
فو الله ما دار لي منه حرف واحد فقلت لها: يا جارية ما أدري أوجهك أحسن أم صوتك أم جرمك، فإن شئت أعدتيه علي، فقالت: حباً وكرامة، ثم أسندت ظهرها إلى جدارٍ كان بالقرب منها ورفعت إحدى رجليها فوضعتها على ركبتها وحطت الجرة فوضعتها على ساقها واندفتعت تغني بأحسن صوت، فو الله ما دار لي منه حرف واحد، فقلت لها: لقد أحسنت وتفضلت فلو شئت أعذتيه مرةً أخرى، فقطبت وكلحت وقالت: ما أعجب هذا، أحدكم يجيء إلى الجارية عليها ضريبة فيقول لها: أعيدي مرةً بعد أخرىن فضربت يدي إلى الثلاثة الدراهم فدفعتها إليها وقلت لها: أقيمي بهذا وجهك اليوم إلى أن نلتقي، فأخذتهاشبه المتكرهة ثم قالت: الآن تريد أن تأخذ عني صوتاً أحسبك تأخذ عليه ألف دينارٍ، وألف دينارٍ وألف دينارٍ، ث3م انبعثت تغني وأعملت فكري في غنائها فدار لي الصوت وفهمته، وانصرفت به مسروراً إلى منزلي المكاري على باب المحول، فدخلت لا أدري أين أتوجه ولا من أقصد، وانتهى بي الناس إلى الجسر، فعبرت في من عبر حتى انتهوا بي إلى شارع الميدان عند دار الفضل بن الربيع، فرأيت هناك مسجداً مرتفعاً فقلت: هذا مسجد قوم سراةٍ، وحضرت المغرب فصعدت المسجد فما لبثت أن جاء المؤذن فأذن وأقام وصليت، وانصرف الناس وأقمت مكاني إلى أن رجع المؤذن فأذن وأقام، وصليت وانصرف الناس وأقمت مكاني إلى أن رجع المؤذن فأذن وأقام، وصليت مع الناس على تعبٍ وجوع، وانصرف الناس وبقي رجل يصلي ملياً وخلفه جماعة من الخدم والفحولة ينتظرونه، فلما فرغ من صلاته انصرف إلي ببدنه كله فقال: أحسبك غريباً، قلت: أجل، قال: متى كنت بهذه المدينة؟ قلت: آنفاً دخلتها، وليس لي بها معرفة، وليست صناعتي من الصنائع التي يمت بها إلى أهل الخير، قال: وما صناعتك؟ قلت: الغناء، فوثب مبادراً ووكل بي رجلاً، فقلت للموكل بي: من هذا؟ قال: أوما تعرفه؟ هذا سلام الأبرش قال: وإذا رسول قد جاء في طلبي ثم مشينا حتى انتهى بي إلى قصرٍ من قصور الخلافة وجعل يجاوز بي مقصورةً بعد مقصورةٍ إلى أن دخلنا مقصورةً في آخر الدهليز، فدعا لي بالطعام، فأتيت بمائدةٍ عليها من كل شيء، فأقبلت على أكلي حتى تراجعت إلي نفسي، وسمعت ركضاً في الدهليز، فإذا إنسان يقول: أين الرجل، أين الرجل؟ فقيل: ها هو ذا، فقال يدعى له بغسول وطيب وخلعةٍ، فغلفت وخلع علي وأخذ الرجل بيدي فحملني على دابةٍ وأتى بن منزل الخليفة فاستدللت على ذلك بالحرس والتكبير والنيران، فما زال يدخلني من دار إلى دار إلى أن دخلت إلى دارٍ قوراء وإذا فيها أسرة مضاف بعضها إلى بعض، فلما انتهيت إلى الأسرة أمرني بالصعود فصعدت، وإذا رجل جالس على يمينه ثلاث جوارٍ في حجورهن العيدان، وإذا في حجر الرجل عود فسلمت فرحب بي وأمرني بالجلوس فجلست، وإذا مجالس خالية قد كان فيها قوم فقاموا عنها، فما لبثت أن خرج خادم من وراء الستر فقال للرجل: تغنه، فاندفع يغني بصوتٍ لي يقول فيه:
لم تمش ميلاً ولم تركب على جملٍ ... ولم تر الشمس إلا دونها الكلل
تمشي الهوينا كأن الشوك يحبسها ... مشي اليعافير في جيئاتها الوجل
فو الله ما أحسن الغناء، ولقد غنى بغير إصابةٍ وأوتارٍ متنافرة ودساتين مختلفةٍ، ثم عاد ذلك الخادم إلى الجارية التي تلي الرجل فقال لها: تغني فانبعثت تغني بصوت لي كانت فيه أحسن حالاً من الرجل تقول فيه:
يا دار أضحت خلاءً لا أنيس بها ... إلا الظباء وإلا الناشط الفرد
أين الذين إذا ما زرتهم جذلوا ... وطار عن قلبي التشواق والكمد
ثم عاد الخادم إلى الجارية الثاني فقال لها: تغني فانبعث تغني بصوت حكم الوادي تقول فيه:
فو الله ما أدري أيغلبني الهوى ... إذا جد وشك البين أم أنا غالبه
فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوى ... ففي دون ما لاقيت يغلب صاحبه
ثم عاد الخادم إلى الجارية الثالثة فقال لها: تغني فغنت بصوت لحنين تقول فيه:
مررنا على قيسيةٍ عامريةٍ ... لها بشر صافي الأديم هجان
فقالت وألقت جانب السجف دونها ... من آية حي أو من الرجلان
فقلت لها أما تميم فأسرتي ... هديت وأما صاحبي فيماني
رفيقان ضم السفر بيني وبينه ... وقد يلتقي الشتى فيأتلفان
قال فعاد الخادم إلى الرجل فقال له: تغنه، فغنى بصوتٍ لي شبه فيه، والشعر لعمر بن أبي ربيعة الغناء للغريض يقول فيه:
أمس بأسماء هذا القلب معمودا ... إذا أقول صحا يعتاده عيدا
كأن أحور من غزلان شيهمةٍ ... أعارها شبها خديه والجيدا
قامت تراءى وقد جد الرحيل بنا ... لتنكأ القرح من قلبٍ قد اصطلدا
بمشرق كشعاع الشمس بهجته ... ومسبكر على لباتها سودا
ثم عاج الخادم إلى الجارية التي تليه فقال لها: تغني، فغنت بصوتٍ لحكم الوادي يقول فيه:
تعيرنا أنا قيل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
وإنا لقوم ما نرى القتل سبةً ... إذا كرهته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
وتغنت الجارية الثانية عند قول الخادم لها تغني:
وددتك لما كان ودك خالصاً ... وأعرضت لما صار نهباً مقسما
ولن يلبث الحوض الوثيق بناءه ... إذاكثر الوراد أن يتهدما
وتغنت الثالثة بشعر الخنساء بنت عمرو بن الحارث في أخيها صخر:
وما كر إلا كان أول طاعن ... ولا أبصرته العين إلا اقشعرت
فيدرك ثأراً ثم لم يخطه الغنى ... فمثل أخي يوماً به العين قرت
وإن طلبوا وتراً بدا بتراتهم ... ويضربهم شزراً إذا الخيل ولت
فلست أرزا بعده برزيةٍ ... فأذكره إلا سلت وتجلت
وكان غناء الرجل في الدور الثالث:
لحا الله صعلوكاً يبيت وهمه ... من الدهر أن يلقى لبوساً ومطعما
ينام الضحى حتى إذا نومه استوى ... تنبه مسلوب الفؤاد مورما
ولكن صعلوكاً يساور همه ... ويمشي على الهيجاء ليثاً مصمما
فذلك إن يلق المنية تلقه ... كريماً وإن يستغن يوماً فربما
وكان غناء الجارية في الدور الثالث بشعر لحاتم يقول فيه:
إذا كنت رباً للقلوص فلا تدع ... رفيقك بمشي خلفها غير راكب
أنخها فأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العقاب فعاقب
وكان غناءالجارية الثانية في الدور بشعر عمرو بن معدي كرب:
ألم تر لما ضمني البلد القفر ... سمعت نداءً يصدع القلب يا عمرو
أغثنا فإنا معشر مذحجية ... نزار على وفرٍ وليس لنا وفر
وكان غناء الثالثة بشعرٍ لعمر بن أبي ربيعة والغناء فيه للغريض:
فلما تلاقينا وسلمت أشرقت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما رأينني ... وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
فلما تواضعنا الأحاديث قلن لي ... أخفت علينا أن نغر ونخدعا
قال فقلت في نفسي: أي شيء أنتظر؟ يجيء الخادم الساعة يطالبني بمثل ما طالب به أصحابي، فقلت للرجل: بأبي أنت خذ العود إليك وشد وتر كذا وارفع الطبقة وغير وتر كذا وحط دستان كذا، فعلم ما أريد فوزنه، فلم ألبث أن خرج الخادم فقال لي تغنه، عافاك الله، فانبعثت أغني بصوت الرجل الأول على غير ما غنى به فإذا بنحوٍ من خمسين أو ستين خادماً يحضرون حتى استندوا إلى الأسرة ثم قالوا: ويحك لمن هذا الغناء؟ قلت: لي، فانصرفوا عني بتلك السرعة، فخرج إلي الخادم فقال: كذبت هذا الغناء لابن جامع، فسكت، ودار الدور فلما انتهى إلي خرج الخادم فقال تغنه، فقلت للجارية التي تلي الرجل: خذي العود فانبعثت أغني صوتها، فخرجت الجماعة من الخدم فقالوا: ويحك لمن هذا؟ فقلت: لي، فمضوا ورجع الخادم فقال لي: كذبت، هذا لابن جامع. فأمسكت عنه ودار الدور، فلما بلغ إلي خرج الخادم فقال: تغنه، فقلت في نفسي، وقد شربت وقويت منتي: ما أنتظر؟ فاندفعت أغني بصوتٍ لا يعرف إلا بي:
عوجي علي فسلمي جبر ... فيم الوقوف وأنتم سفر
مانلتقي إلا ثلاث منى ... جتى يفرق بيننا النفر
قال: فتزلزلت والله عليهم الدار، وخرج الخادم فقال: ويحك، لمن هذا؟ فقلت: لي، قال: فرجعوا فقالوا: هذا لابن جامع، فقلت: أنا إسماعيل ابن جامع، قال: فما شعرت إلا وأمير المؤمنين وجعفر بن يحيى قد أقبلا من وراء الستر، فلما صعدا السرير وثبت على قدمي، فابتدأني أمير المؤمنين فقال: أبن جامع؟ فقلت: ابن جامع جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين، قال: ويحك متى كنت في هذه المدينة؟ قلت: آنفا دخلتها في الوقت الذي علم بي أمير المؤمنين قال: اجلس ويحك يا ابن جامع، وجلس أمير المؤمين وجعفر بن يحيى في بعض تلك المجالس الفرغ وقال لي: يا ابن جامع، أبشر وابسط أملك، فدعوت له دعواتٍ ثم قال: عن يا ابن جامع، قال: فخطر بقلبي صوت الجارية المدينية، فقلت للرجل: أصلح عودك وارفع طبقته، قال: فعلم ما أريد فوزن العود وزناً، وتعهدته حتى استقامت الأوتار وأخذت الدساتين مواضعها، وانبعثت أغني بصوتٍ الجارية الحميراء، فنظر أمير المؤمنين إلى جعفر بن يحيى فقال له: أسمعت كذا قط؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما سمعت ولا خرق سمعي مثله قط، ولا ظننت أن الله عز وجل خلق على وجه الأرض مثل ما أسمع، قال فرفع الرشيد رأسه إلى خادم بالقرب منه فقال له: كيس فيه ألف دينارٍ قال: فمضى الخادم فلم يلبث أن عاد بكيسٍ فيه ألف دينارٍ، فصيرته تحت فخذي ودعوت لأمير المؤمنين، فقال لي: يا ابن جامع رد على أمير المؤمنين هذا الصوت، فرددته وتزيدت في غنائي وأعانني على ذلك استواء الأوتار، قال: فنظر جعفر إلى أمير المؤمنين فقال: يا سيدي أما تسمعه كيف يتزايد في الغناء؟ هذا خلاف الذي سمعنا أولاً، على أن الأمر فيه واحد، قال: فرفع الرشيد رأسه إلى الخادم فقال: كيس فيه الف دينار، فمضى الخادم وجاء بكيس فيه ألف دينار فرمى به إلي فصيرته تحت فخذي، ثم قال لي أمير المؤمنين: تغن ما حضرك، فأقبلت أقصد إلى الصوت بعد الصوت مما كان يبلغني أنه يشتري عليه الجواري فأغنيه، فلم أمزل أفعل ذلك إلى أن عسعس الليل، فقال: يا إسماعيل قد أتعبناك في هذه الليلة لسروري بغنائك، فتعيد علي الصوت الذي تغنيت به أولاً يعني صوت الجارية فغنيته إياه، فرفع رأسه إلى الخادم فقال: كيس فيه ألف دينار، وذكرت قول الجارية: إني أحسبك تأخذ عليه ألف دينار وألف دينار وألف دينارٍ، فكان مني شبه التبسم، ولحظني من بين الشمع فقال لي: مم تبسمت؟ قال: فجثوت على ركبتي ثم قلت: يا أمير المؤمنين الصدق منجاة، فقال لي بانتهار: قل، فحدثته حديث الجارية فقال: صدقت قد يكون هذا وأعجب منه؛ ثم قال لي: انصرف مودعاً، فقمت لا أدري إلى أين انفذ ذلك الوقت، فما هو إلا أن نزلت من الأسرة حتى وثب إلي غفيران من الفراشين، فأخذ أحدهما بيدي المينى والأخر باليسرى ومضيا بي لا أدري أين يتوجهان بي، حتى وقفا بي على باب داري هذه، فإذا أمير المؤمنين قد أمر سلاماً فابتاع لي هذه الدار وحول أهلها، وحشيت بالفرش والوصائف والوصفاء والطعام والشراب، ودفع إلي أحدهما إضبارة مفاتيح وقال لي: ادخل بارك الله لك فيها، وهذا مفتاح بيت كذا، وهذا مفتاح بيت مالك، وهذا مفتاح سبرة الجواري، وهذا مفتاح بيت فرشك وآنتيك، وأوقفني على ما أردت، فأصبحت وأنا من مياسير أهل بغداد، ودخلتها وأنا أفقر أهلها، والحمد لله رب العالمين.
تعليقات على بعض ما جاء في هذا الخبرقال القاضي رحمه الله: قول الشاعر في هذا الخبر اليعافير اليعافير جمع يعفور وهي التي يضرب لونها إلى الحمرة من الوحش، وهي المعفرة، ويقال للتراب أعفر كما قال أبو كبير الهذلي:
يا لهف نفسي كان جدة خالدٍ ... وبياض وجهك للتراب الأعفر
وقال الشاعر:
وبلدةٍ ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
والعيس: البيض. وقوله في الشعر الذي يليه وإلا الناشط الفرد الناشط: الثور الوحشي قال الشاعر:
واستقبلت ظعنهم لما احزأل بهم ... مع الضحى ناشط من داعيات دد
وقول عمر بن أبي ربيعة: وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا الباغي هاهنا طالب ضالةٍ وناشدها؛ أكل يعني أن ركابه كلت من سيره عليها وقوله: أوضعا يعيني أنه أسرع بها قال الله تعالى: " ولأضعوا خلالكم " التوبة:47 ومن الإيضاع قول دريد بن الصمة:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
الخبب والإيضاع ضربان من السير السريع. وقول الرشيد لابن جامع: أبن جامع وجه الكلام فيه فتح الهمزة، وذلك أن الألف في ابن جامعٍ ألف وصل وإنما جيء بها في الخبر لسكون الباء وأنه لا يبدأ بساكن فإذا دخلت عليها الهمزة للاستفهام سقطت كما قال ابن قيس الرقيات:
فقالت أبن قيسٍ ذا ... وبعض الشيب يعجبها
قال الله عز وجل: " أفترى على الله كذباً " سبأ: 8 وقال عز ذكره: " أصطفى البنات على البنين " الصافات: 153 وقد روي لنا بيت ذي الرمة على وجهين:
أستحدث الركب من أشياعهم خبراً ... أم راجع القلب من أطرابه طرب
بالوصل والقطع على ما بينا اكتفاء بدلالة قوله: أم راجع القلب من أطرابه طرب، كما قال امرؤ القيس:
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضرك لو تنتظر
وقول ابن جامع: إلى أن عسعس الليل يقال عسعس الليل إذا أقبل وعسعس إذ ولى، وقيل هو من الأضداد، وقال الله جل ذكره: " والليل إذا عسعس " التكوير: 17 قيل فيه القولان اللذان ذكرنا، وقال الشاعر:
عسعس حتى لو يشاء ادنى ... كان له من ضوئه مقتبس
قيل في قوله: أدنى قولان أحدهما أنه افتعل من الدنو، وأصله ادتنا، وقيل بل هو اذدنا وأصله أن يقطع فيقال: لو يشاء اذدنا، ولكنه ترك الهمز في الشعر لإقامة وزنه، وقد جاء مثله في الشعر كقول الطرماح بن حكيم:
ألا أيها الليل الطويل ألا أصبح ... سريعاً وما الإصباح فيك بأصلح
وأصله ألا أصبح لأنه رباعي من أصبح يصبح، فعلى هذا الوجه أكثر ما روي في هذا البيت، وقد رواه بعضهم ألا أيها الليل الذي طال أصبح فأتى به على أصله.
وفادة جرير على الحجاجحدثنا أبو النضر العقيلي قال أخبرني الزبير قال حدثني محمد بن أيوب اليربوعي عن أبي الذيال السلولي قال حدثني جرير قال: وفدت على الحجاج بن يوسف في سفرةٍ تسمى سفرة الأربعين، فأعطاني أربعين راحلة ورعاءها وحشو حقائبها القطائف والأكسية، كسوةً لعيالي، وأوقرها حنطة ثم خرجت فلما شددت على راحلتي كورها وأنا أريد المضي جائني خادم فقال: أجب الأمير، فرجعت معه، فدخلت على الحجاج، فإذا هو قاعد على كرسي، وإذا جارية قائمة تعممه بعمامة فقلت: السلام عليك أيها الأمير فقال: هات قل في هذه، فقلت: بأبي وأمي تمنعني هيبة الأمير وإجلاله، وأفحمت فما أدري ما أقول، فقال: بل هات قل فيها، فقلت: بأبي وأمي فما اسمها؟ قال: أمامة، فلما أمامة فتح علي فقلت:
ودع أمامة حان منك رحيل ... إن الوداع لمن تحب قليل
تلك القلوب صوادياً تيمتها ... وأرى الشفاء وما إليه سبيل
فقال: بل إليه سبيل، خذ بيدها فجبذبتها فتعلقت بالعمامة وجبذتها حتى رأيت عنق الحجاج قد صغت ومالت مما جبذتها، وتعلق بالعمامة، قال: ويخطر ببالي بيت من شعر فقلت:
إن كان طبكم الدلال فإنه ... حسن دلالك يا أميم جميل
فقال الحجاج: إنه والله ما بها دلال ولكن بها بغض وجهك وهو أهل ذلك، خذها بيدها جرها، فلما سمعت ذلك منه خلت العمامة. وخرجت بها فكنيتها أم حكيم وجعلتها تقوم على ودي لي وعمالي وتعطيهم نفقاتهم بقريةٍ يقال لها الغنية من قرى الوشم حتى نفد الودي. قال طلحة: فأخبرني الزبير قال، قال محمد بن أيوب: وسمعت حجناء بن نوح يقول: كانت والله مباركةً.
شروح وتعليقاتقال القاضي رحمه الله: قول جرير جبذتها وأجبذها بمعنى جذبتها وأجذبها، تقول جبذته أجبذه جبذاً، وجذبته أجذبه جذباً، ومثله تبيغ به الدم وتبغى، وما أيطبه وما أطيبه، ومثله كثير. وأما الودي فإنه الفسيل كما قال الشاعر:
نحن بغرس الودي أعلمنا ... منا بركب الجياد في الغلس
وقول جرير: إن كان طبكم الدلال يعني الخلق والطبع، كما قال الشاعر.
وما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا وطعمة آخرينا
يجوز فيه طبكم الدلال، وطبكم الدلال لأنهما معرفتان كما قال الفرزدق:
فقد شهدت قيس فما كان نصرها ... قتيبة إلا عضها بالأباهم
ويروى فما كان نصرها إلا عضها، وقال آخر:
لقد علم الأقوام ما كان داؤها ... بثهلان إلا الخزي ممن يقودها
ويروى داءها إلا الخزي، وقال آخر:
إن يكن طبك الدلال فهلا ... ذاك في الدهر والسنين الخوالي
المجلس الثاني والسبعون
وفاة أبي ذرحدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء الجريري قال حدثنا أحمد بن إسحاق بن بهلول قال حدثنا الحسن بن محمدٍ الزعفراني قال حدثنا يحيى بن سليم الطائفي قال حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم عن مجاهد عن إبراهيم بن الأشتر عن أبيه عن أم ذر قالت: لما حضرت أبا ذرٍ الوفاة بكيت، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: ومالي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض، ولا يد لي بدفنك وليس عندي ثوب يسعني كفناً لي ولا لك؟ قال: فلا تبكي وأبشري فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفرٍ أنا فيهم: ليموتن منكم رجل بفلاةٍ من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد هلك في قريةٍ وجماعة، وأنا الذي أموت بفلاةٍ، والله ما كذبت ولا كذبت، فأبصري إلى الطريق، قالت قلت: أنى وقد ذهب الحاج وانقطع الطريق؟ قال: اذهبي فتبصري، قالت: فكنت أذهب إلى كثيبٍ فأتبصر عليه وأرجع إليه فأمرضه، فبينا أنا كذلك إذا أنا برجالٍ على رحالهم كأنهم الرخم، فألحت بثوبي، فأقبلوا إلي حتى وفقوا علي فقالوا: مالك يا أمة الله؟ فقلت: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه، قالوا: ومن هو؟ قلت: أبو ذرٍ، قالوا: صاحب رسلو الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت قلت: نعم، قالت: ففدوه بآبائهم وأمهاتهم وأسرعوا إليه، ودخلوا عليه فرحب بهم وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم: ليموتن منكم رجل بفلاةٍ من الأرض يشهده عصابة من المسلمين، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد هلك في قريةٍ أو جماعة، وأنا الذي أموت بالفلاة، أتسمعون؟ إنه لو كان عندي ثوب لي يسعني كفناً لي أو لا مرأتي لم أكفن إلا في ثوبٍ لي أولها، أنتم تسمعون؟ إني أنشدكم الله أن يكفنني أحد منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً، وليس من القوم أحد إلا وقد قارب بعض ما قال إلا فتىً من الأنصار، فقال: يا عم أنا أكفنك لم أصب مما ذكرت شيئاً، أكفنك في ردائي هذا وفي ثوبين من عيبتي من غزل أمي حاكتهما لي، فكفنه الأنصاري في النفر الذين شهدوه منهم حجر بن الأدبر ومالك الأشتر في نفرٍ كلهم يمان.
للخبر دلالة على نبوة الرسول قال القاضي رحمه الله: في هذا الخبر أكبر دليلٍ على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبوت رسالته لإخباره من الغيب بما وجد على ما وصفه، وهذا مما لم يعلمه إلا بوحي من الله عز وجل ألقاه إليه صلى الله عليه وسلم، وفيه ما ينبى عن فضل النفر الذين ولوا أمرة، و " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم " المائدة: 54.
يشكو والي السماوة إلى عبد الملكحدثنا محمد بن الحسن بن دريدٍ قال أخبرنا أبو عثمان المازني عن التوزي عن أبي عبيدة قال: ولى عبد الملك بن مروان صدقات كلبٍ رجلاً من بني أمية، وكانت الروم قد نزعته،وكان أشقر غضاً، فدخل أعرابي جلف جافٍ على عبد الملك في جفة الناس، فلما مثل بين يديه قال يا إنسان إنك مدبر مربوب، قال: أجل فما تشاءء؟ قال: قد احتجبت بهذه المدرة ووليت خطابنا أصهب غضاً كالقرعوش طمطمانياً أطوماً كأن وجهه جهوة قردٍ قد قشر بصرها، وكأن فاه سرم أتانٍ، قد قاشها عير فهي ترمز، إن كشرت بسر، وإن خاطبت نهر، وإن تألفت زبر، فلا الكلام مدفوع، ولا القول مسموع، ولا الحق متبوع، ولا الجور مردوع، ولنا ولك مقام فيه ينص الخصام، وترجف الأقدام، وينتصف المظلوم، وينعش المهضوم؛ ها إن ملكك هناك زائل، وعزك حائل، وناصرك خاذل، والحاكم عليك عادل؛ فاكبأن عبد الملك وتضاءلت أقطاره وترادت عبراته في صدره، ثم قال: لله أبوك، أي ظلم نالك منا حتى أجاءك إلى هذا المقال؟ قال: ساعيك في السماوة، نهاره لهو، ومقاله لغو، وغضبه سطو، يجمع المباقط ويحتجن المشائط ويستنجد العمارط، فأمر عبد الملك بصرف العامل.
تفسير ألفاظ وردت في الخبر السابققال القاضي رحمه الله: الغضا الغتم، وقال ابن دريدٍ القرعوش ولد البختية وهو لا ينجب ولا ينفع، والطمطاني: الأعجم، والأطوم: الذي لا يفهم ولا يفهم. وإنما أخذ من جلد الأطوم وهي دابة من دواب البحر صلبة الجلد، وقال قوم: هي السلحفاة.
قال القاضي: في السلحفاة لغتان سلحفاة وسلحفية. وقوله: جهوة قرد: يريد دبره وما والاه، وكذلك هو لك ذي أربع، وربما استعمل في الناس. وقوله: قشر بصرها فالبصر قشر أعلى كل شيء. وقوله: قاشها أي نزا عليها، والترمز التحرك، والمشائط: الواحد مشياط وهو الذي يسرع إليه السمن، والمباقط المتفرقة، يقال بقط هذا أي فرقه، والعمارط الواحد عمروط وهو الذي لا يرى شيئاً إلا اختلسه وهو اللص، والوأي: الوعد، والترمز: التحرك؛ روي عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال: كان رجل من بني تميم خليعاً يقال له عمير بن مالك فمرض فحضر نساء الحي يعدنه، فأطلن الجلوس فقال:
لقل غناء عن عمير بن مالكٍ ... ترمز أستاه النساء العوائد
فقمن وقلن: لا شفاه الله. وقوله: فاكبأن عبد الملك أي تداخل بعضه في بعض، قال الشاعر.
فلم يكبئنوا إذ رأوني وأقبلت ... علي وجوه كالسيوف تهلل
وقوله: تضاءلت أي تصاغرت، والأقطار: النواحي، وقوله: أجاءك أي اضطرك وأصله من المجيء تقول جاء زيد وأجاءه غيره مثل صار وأصار إليه غيره. ومنه " فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة " مريم: 23 كأنه جاء بها إليه. قال القاضي: وفي تفسير ابن دريد غريب هذا الخبر في موضع آخر: المباقط أي المتفرق من الماشية، وهو مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لأكيدر لا تعد فاردتكم، ولا ترد قاصيتكم، والمشائط: واحدتها مشياط وهي الناقة السريعة السمن، يريد أنه يأخذ المشائط في الصدقة، وهذا مما نهي عنه أيضاً من قوله صلى الله عليه وسلم: لا تأخذوا حزرات أنفس الناس، يريد خيار أموالهم، والعمروط: اللص يقال لص ولص.
ابن الزيات يتفجع على دابة أخذها المعتصمحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو علي محرز الكاتب قال حدثني سهل بن عبد الكريم قال: كان لمحمد بن عبد الملك دابة أشهب أحم لم ير مثله في الفراهة والوطاء والحسن، فذكر المعتصم يوماً الدواب فقال: أشتهي دابةً في نهاية الوطاء تصلح للسرايا، فقال له أحمد بن خالد خيلويه قد عرفته لك يا أمير المؤمنين على أن لا يعلم صاحبه أني ذكرته لك، قال: لك ستر ذلك، قال: عند كاتبك محمد بن عبد الملك دابة لم ير مثله، فوجه المعتصم فأخذه من محمد، فقال فيه:
قالوا جزعت فقلت إن مصيبتي ... جلت رزيتها وضاق المذهب
كيف العزاء وقد مضى لسبيله ... عنا فودعنا الأحم الأشهب
دب الوشاة فباعدوك وربما ... بعد الفتى وهو الحميم الأقرب
لله يوم غدوت عني ظاعناً ... وسلبت قربك أي علق أسلب
نفسي مقسمة أقام فريقها ... وغدا لطيتها فريق يجنب
الآن إذ كملت أداتك كلها ... ودعا العيون إليك زي معجب
واختير من خير الحدائد خيرها ... لك خالصاً ومن الحي الأغرب
وغدوت طنان اللجام كأنما ... في كل عضو منك صنج يضرب
وكأن سرجك فوق متن غمامةٍ ... وكأنما تحت الغمامة كوكب
ورأى علي بك الصديق مهابة ... وغدا العدو وصدره يتلهب
أنساك لا برحت إذاً منسيةً ... نفسي ولا زالت بمثلك تنكب
أضمرت عنك اليأس حين رأيتني ... وقوى حبالك من قواي تقضب
ورجعت حين رجعت منك بحسرةٍ ... لله ما صنع الأصم الأشيب
فليعلمن ألا تزال عداوة ... مني مريضة وثأر يطلب
يا صاحبي بمثل ذا من أمره ... صحب الفتى في دهره من يصحب
إن تسعدا فصنيعة مشكورة ... أو تخذلا فعداوة لا تذهب
عوجا نقضي حاجة وتبحثا ... بث الحديث فإنه لك أعجب
لا تشعراه بنا فليس لذي هوى ... شكوى الحزازة عنده مشتعتب
تفسير ألفاظ
يعني بالأصم: أحمد بن خالد خيلوبه.
قال القاضي: الأحم يصف عينه بالسواد. وقوله: لا يرأب يعني لا يشعب ويقال لما يرقع به القدح أو غيره من الأواني رؤبة، ويقال للذي يصلح الفاسد ويرقع الصدع هو يرأب الثأى. ومن ذلك قول الطرماح ابن حكيم:
هل المجد إلا السؤدد المحض والتقى ... ورأب الثأى والصبر عند المواطن
ومن الثأى قول ذي الرمة:
وفراء غرفية أثأى خوارزها ... مشلشل ضيعته بينها الكتب
المؤلف ينتقد ابن الزيات على موقفهقال القاضي: هذا الذي أتى به الخبر في هذه القصة عن محمد بن عبد الملك من خلائفه المستعجبة الكاشفة لما كا فيه من الآداب المستخشنة، وما الذي بلغ من قدر دابةٍ ولو أنه الوجيه ولاحق، أو العصا دابة قصير بن سعد، حتى يضن بها عن المعتصم، وهو الخليفة المبرز في فضله وسروه وجوده وشرفه وشرف خلائقه وجميل طرائقه، وقد استكتبه وموله، وشرفه وخوله، أو ما كان قمناً أن يبتدئ بقود الدابة إليه عند وقوفه على نزاعه إليه ورغبته فيها ويغتبط بقبوله إياها ويرى ذلك من المآثر التي يغبط بها ويفتخر بحيازتها، وقد سبق القول السائر بالمثل المتوارث الغابر: أي الرجال المهذب.
أم قيس ترجو ليلى أن تزورهحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني محمد بن المرزبان قال حدثنا زكريا بن موسى قال حدثنا شعيب بن السكن عن يونس النحوي قال: لما اختلط عقل قيس المجنون وامتنع من الطعام والشراب مضت أمه إلى ليلى فقالت لها: يا هذه، قد لحق ابني بسببك ما قد علمت فلو صرت معي إليه رجوت أن يثوب لبه ويرجع عقله إذا عاينك، فقالت لها: أما نهاراً فلا أقدر على ذلك لأني لا آمن الحي على نفسي، ولكن أمضي معك ليلاً، فلما كان الليل صارت إليه فقالت له: يا قيس إن أمك تزعم أن عقلك زال بسببي، وأن الذي لحقك أنا أصله، ففتح عينيه فنظر إليها وأنشأ يقول:
قالت جننت على ذكري فقلت لها ... الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
أعرابي معه نصيحة يدخل على الرشيدحدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: بينا أنا جالس مع الرشيد على المائدة إذ دخل الحاجب فأعلمه أن بالباب أعرابياً معه نصيحة، فأمر بإحضاره، فلما دخل أمره بالجلوس على المائدة ففعل، وكان معه صباحة وفصاحة، فلما تم الغداء ورفعت الموائد وجاء الغسل غسل يده، ثم أمر بالشراب فأحضر، فقال: يا أمير المؤمنين ما حالتي في اللباس، فاستحسن هارون ذلك من فعله وأمر بثياب حسنةٍ فطرحت عليه، وقال له: يا أعرابي من أين؟ قال: من الكوفة قال: أعرابي أم مولى؟ قال: بل عربين قال: فما الذي قصد بك إلينا وما نصيحتك؟ قال: قصد بي إليك قلة المال وكثرة العيال، وأما نصيحتي فإني علمت أني لا أصل إليك إلا بها، قال: فأخذ إسحاق العود فغنى صوتاً يشتهيه الرشيد ويطرب عليه وهو:
ليس لي شافع إلي؟ ... ك سوى الدمع يشفع
عشت بعدي ومت قب؟ ... لك هل فيك مطمع
قسم الحب خمسة ... صار لي منه أربع
فإلى الله أشتكي ... كبداً لي تقطع
فقال الرشيد كالمازح: كيف ترى هذا يا أعرابي؟ قال: بئس والله ما غنى، فغضب من ذلكهارون وصعب عليه، قال إسحاق: وسقط في يدي، فقال هارون: ويكل يا أعرابي، وهل يكون شيء أحسن من هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قولي حيث أقول:
لا وحبيك لا أصا ... فح بالدمع مدمعا
من بكى شجوه استرا ... ح وإنكان موجعا
كبدي في هواك أس؟ ... قم من أن تقطعا
لم تدع سورة الهوى ... للبلى في مطما
قال: فاستملح هارون ذلك منه وأمر إسحاق أن يغنيه به شهراً لا يقطعه عنه، وأمر للأعرابي بعشرة آلاف درهمٍ وصرفه.
؟الفضل بن يحيى يودع أصحابه حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أحمد بن يحيى قال: لما خرج الفضل بن يحيى إلى خراسان ودع أصحابه ثم قال:
لما دنا البين بين الحي واقتسموا ... حبل النوى فهو في أيديهم قطع
جادت بأدمعها سلمى وأعجلني ... وشك الفراق فما أبقي ولا أدع
يا قلب ويحك لا سلمى بذي سلمٍ ... ولا الزمان الذي قد مر مرتجع
أكلما مر ركب لا يلا ئمهم ... ولا يبالون أن يشتاق من فحعوا
علقتني بهوى فيهم فقد جعلت ... من الفراق حصاة القلب تنصدع
قال القاضي: هذه أبيات حسنة. وقوله: واقتسموا حبل النوى من أحسن القول وأظرفه.
؟أبيات اللمصعب تعجب الرشيد حدثنا يزداد بن عبد الرحمن المروزي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أبي قال: كان هارون أمير المؤمنين يستنشدني كثيراً قول أبي عبد الله بن مصعب ويعجبه:
وإني وإن قصرت عن غير بغضةٍ ... مراعٍ لأسباب المودة حافظ
وما زال يدعوني إلى الصرم ما أرى ... فآبى وتثنيني عليك الحفائظ
وأنتظر العتبى وأغضي على القذى ... ألا ين طوراً مرةً وأغالظ
وأنتظر الإقبال بالود منكم ... وأصبر حتى أوجعتني المغايظ
جربت ما يسلي المحب على الهوى ... فأقصرت والتجريب للمرء واعظ
قال القاضي: ولعمري إن هذه الأبيات لمن مستحسن الشعر في معناها، وإعجاب الرشيد بها مما ينبى عن خلوص أدبه وصفاء قريحته.
؟أبيات لإبراهيم بن المهدي في جارية كانت تخدمه حدثنا المظفر بن يحيى بن أحمد الشرابي قال حدثنا أبو العباس المرثدي قال حدثنا طلحة بن عبيد الله الطلحي قال أنشدني يعقوب بن عباد الزبيري لإبراهيم بن المهدي، وقد أخدمته بعض العباسيات في حال استخفائه عندها جارية وقالت لها: أنت له، فإن مد يده إليك فلا تمتنعي ولم يعلم بهبتها له، وكانت مليحةً، فجمشها يوماً بأن قبل يدها وقال:
يا غزالاً لي إليه ... شافع من مقلتيه
والذي أكرمت خدي؟ ... ه فقبلت يديه
؟بأبي وجهك ما أك؟ ... ثر حسادي عليه
أنا ضيف وجزاء ال؟ضيف إحسان إليه
؟
بيتان لابن عرفةقال القاضي: ومما يضارع بعض ما تضمنته هذه الأبيات من جهة ما أنشدناه إبراهمي بن محمد بن عرفة لنفسه:
يا دائم الهجر والصدود ... ما فوق بلواي من مزيد
أصبحت عبداً ولست ترعى ... وصية الله في العبيد
بيتان لمحمد بن داودوأنشدني أبو النضر العقيلي عن محمد بن داود:
ترى من كوى قلبي بنار فراقه ... وصير حظي من مودته بعدا
تفكر يوماً في أو قال مرةً ... تركنا له عبداً أسأنا به جدا
إسماعيل الديلمي اشتهى حلوىحدثنا محمد بن مخلدٍ بن حفص العطار قال حدثنا حامد بن محمد بن الحكم بن عبد الرحمن أبو محمدٍ قال حدثنا كردان قال قال لي إسماعي الديلمي: اشتهيت حلوى وأبلغت شهوته إلي، فخرجت من المسجد بالليل لأبول فإذا جنبتي الطريق أخاوين حلوى، فنوديت يا إسماعيل هذا الذي اشتهيت وإن تركه خير لك، فتركته؛ قال ابن مخلد: وقد كتبت أنا عن كردان وكان يكون في قنطرة بني زريق، وقد رأيت إسماعيل الديلمي فكان ما شئت من رجل، رأيته عند أبي جعفر بن إشكاب.
قال القاضي: إسماعيل الديلمي هذا من خيار المسلمين، والناس يزورون قبره، وقبره وراء قبر معروف الكرخي، بينهما قبور يسيرة، وهو بينه وبين المسجد المعروف بمسجد الخضر وقد زرته مراراً. وحدثني بعض شيوخنا من أهل العلم أنه كان حافظاً للحديث كثير السماع وأنه كان يذاكر بسبعين ألف حديث.
خوان وأخونةقال القاضي: قوله: أخاوين حلوى يقال لما يجعل عليه الطعام قبل جعله خوان فإذا جعل الطعام عليه فهو مائدة، فإذا رفع الطعام عنه عاد إلى تسميته خواناً. وزعم بعضهم أن المائدة إنما تسمى بهذا الاسم إذا خف ما عليها من الطعام لأنها حينئذٍ تميد. وزعم الفراء أنه بمنزلة المهدي يرجع إذا كان فارغاً إلى اسمه الأول فيقال: طبق وقناع ومثله عنده الكأس تسمى كأساً إذا كان فيها الشراب، فإذا أخذت منه رجعت إلى اسمها؛ وقال بعض أهل اللغة: الخوان بالكسر كلام العرب، وهو خوان بالضم باللسان الفارسي. وروي لنا عن الفراء الكسر والضم في الخوان من كلام العرب، وجمعه أخاوين مثل سوار وأساوير ويجمع السوار أيضاً أسورة وأساورة، والهاء في أساورة عوض من الياء في أساوير. وذكر نحو هذا سيبويه في زنديق وزنادقة وفرزان وفرازنة.
وقال الأخفش اسوار وأسورة في قوله تعالى: " فلولا ألقي عليه أسورة " الزخرف: 53 لأنه جمع أسوار وأسورة وقال بعضهم أساورة فجعله جمعاً للأسورة وأراد أساوير، والله أعلم، فجعل الهاء عوضاً من الياء التي في أساوير.
قال القاضي: وقد قال الله جل ذكره: " وحلوا أساور من فضةٍ الأنسان: 21 وقال تعالى: " يحلون فيها من أساور من ذهب " الكهف: 31 فأتى الجمع هاهنا على أساور. وحكى ثعلب أن الفراء قال: أسورة جماعة سوار للذي في اليد يضم ويكسر بلا ألف وجمعه أسورة، ويجوز أن يكون أساورة جمع أسورة كما قيل في الأسقية أساق، والأسوار والإسوار الرامي. وقد قيل في سوار اليد إنه يجوز فيه إسوار وأسوار، فيجوز على هذه اللغة أن تكون أساورة جمعه. وقال الفراء في كتابه في المعاني: من قرأ أساورة جعل واحدها أسواراً، ومن قرأ سورة فواحدها سوار وقد تكون الاساورة جمع أسورة، كما يقال في جمع الأسقية النحويين: في واحد أساور لغتان: ضم السين وكسرها، وهو على القياس، لأن جمع فعال وفعال أفعلة، فأما أسوار بمعنى سوار فليس بصحيح في القياس، فإن كانت لغة فهي شاذة، ولا يكون جمعه أسورة لأن أفعالاً لا يجمع على أفعلة وإنما الأسوار على أفعال فارسية معربة، وهواسم الفارس بالفارسية وليس باسم الرامي كما زعم الفراء. وجمعه أساوير وأساور بياءٍ وبلا ياء، وأساورة بالهاء عوضاً عن الياء. وليست أساورة مثل أساق لأن أساقي لا هاء فيها فهي مثل أساور.
قال القاضي: وهذا القول أشبه القولين عندي بالصواب.
الجلس الثالث والسبعون
حديث إن أمتك مفتتنة بعدكحدثنا عبد بن سليمان بن الأشعث السجستاني قال حدثنا كثير بن عبيد قال حدثنا محمد بن حمير عن مسلمة بن علي عن عمر بن ذر عن أبي قلابة عن أبي مسلم الخولاني عن أبي عبيدة بن الجراح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله بلحيتي وأنا أعرف الحزن في وجهه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتاني جبريل عليه السلام آنفاً فقال لك إنا لله وإنا إليه راجعون، قلت: أجل إنا لله وإنا إليه راجعون، فمم ذاك يا جبريل:؟ قال: إن أمتك مفتتنة بعدك بقليل من الدهر غير كثير، فقلت: فتنة كفرٍ أو فتنة ضلالة؟ قال: كل سيكون، قلت: من أين ذاك وأنا تارك فيهم كتاب الله تعالى؟ قال: بكتاب الله يضلون، وأول ذلك من قبل أمرائهم وقرائهم، يمنع الأمراء الحقوق ويسأل الناس حقوقهم فلا يعطونها، فيقتتلون ويفتتنون، فيتبع القراء هوى الأمراء فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، قلت: فبم يسلم من سلم منهم؟ قال: بالكف والصبر، إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه.
الجريري يستغيث بالله من الظلم والظلمةقال القاضي: قد رأينا ما قدم نبينا صلى الله عليه وسلم الإخبار به وشاهدناه وظهر لنا ما أنبأنا به وعايناه ومنعنا الذي لنا فصبرنا، وليت ما نعنا حثنا والمستبد به اقتصر على ما أتاه ولم يتجاوزه إلى اغتصاب التالد والطريف من أموالنا بالخبط والعسف والتعذيب والعنف، ولم يتخطه إلى تكليفنا ما لا نقدر عليه ولا نصل إليه، فإلى الله المشتكى والملتجا، وهو المستغاث المرتجى، بعدله نستجير من جور من غلبنا على أقواتنا فشبع بها وأجاعنا، وحفظ بها نفسه وأضاعنا، فإنه قاصم العتاة المترفين، وعاصم العناة المستضعفين، وما هو بغافل عما يعمل الظالمون. وقد " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من باده والعاقبة للمتقين، قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " الأعراف: 128129 اللهم وإنا أصبحنا مستغيثني بك فصبرنا على بلائك ووفقنا لشكر آلائك وألهمنا تقواك حتى تكون العاقبة لنا واستنقذنا من عدوك وعدونا إنك رؤوف رحيم جواد كريم. فأما ممالأة قراء السوء أشكالهم من أمرائهم فقد ظللنا منه في أمر عظيم وخطب جسيم، وصار من يعتزي إلى تلاوة القرآن ويدعى له علم شرائع الإيمان ممن ليس عنده مما ينسب إليه إلا ادعاؤه وقد تموه له بجده وامتحان العباد به ما يظن أنه حاصل له وإن كان صفراً منه، ومنهم من قد جعل الزخرفة والغلط والهجر له صفة معرضه الذي يدلس به نفسه، ويوهم الجهال أن وراء ما يظهره ما يضاهي ما اغتروا به، ومنهم من قد اتفق له من بعض المترفين وجهلة المتعلمين قبول له وصبابة نحوه، واطراح الدين شامل لهذه الفرق المتقدمة المفتتن بها، والله نسأل إدالة أوليائه وإزالة أعدائه.
الجمانة الكنانية تقع في حب حممة
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عمي الحسين بن دريد عن أبيه قال حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي وعن أبي مسكني عن عبد الرحمن بن مغراء أبي زهير الدوسي قالوا: كان حممة بن رافع بن الحارث الدوسي من أجمل العرب وكانت له جمة يقال لها الرطبة كان يغسلها بالماء ثم يعقصها وقد احتقن فيها الماء، فإذا مضى لها يومان حلها ثم يعصرها فيملأ جلساءه، فحج على فرسٍ له، فنظرت إليه الجمانة الكنانية وهي خناس، وكانت عند رجل من بني كنانة يقال له ابن الحمارس فوقع بقلبها، فقالت له: من أنت؟ فو الله ما أدري أوجهك أحسن أم شعرك أم فرسك، ما أنت بالنجي الثلب، ولا التهامي الترب، فاصدقني، قال: أنا امرؤ من الأزد من دوس، ومنزلي ببروق، قالت: فأنت أحب الناس إلي، وقد وقعت في نفسي فاحملني معك، فأردفها خلفه ومضى إلى بلده، فلما أوردها أرضه قال: قد علمت هربك معي كيف كان؛ والله لا تهربين بعدي إلى رجل أبداً، فقطع عرقوبيها، فولدت له عمرو بن حممة، وكان سيداص، وولد عمرو بن حممة الطفيل بن عمرو ذا النور، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وخرج زوجها ابن الحمارس في طلبها فلم يقدر عليها فرجع وهو يقول:
إلا حي الخناس على قلاها ... وإن شحطت وإن بعدت نواها
تبدلت الطبيخ وأرض دوسٍ ... بهجمة فارس حمرٍ ذراها
وقد خبرتها جاعت وذلت ... وأن الحر من طود شواها
وقد خبرتها نحلت ركياً ... وأثواراً معرقة شواها
وقد أنبئتها ولدت غلاماً ... فلا شب الغلام ولا هناها
فلما أنشد عمر بن الخطاب هذا الشعر قال: قد والله شب الغلام وقد هناها.
قال القاضي: قولها: " ما أنت بالنجدي الثالب ولا التهامي الترب من التراب جميعاً، والأثلب من أسماء التراب، يقال: بفيه الأثلب والإثلب، وقوله: " لا هناها " من قولهم كل هنياً مرياً، وأصله الهمز، يقال: هنأني الطعام وقد يترك همزه وتركه في الشعر كثير لتصحيح الوزن كما قال:
فارعي فزارة لا هناك المرتع
ألسنة السمك يقدمها إبراهيم بن المهدي للرشيدحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده قال: استزار إبراهيم بن المهدي الرشيد بالرقة فزاره، وإن الرشيد كان لا يأكل الطعام الحار قبل البارد، وأنه لما وضعت البوارد على المائدة رأى فيما قرب منه جام قريس السمك، فاستصفر طباخي القطع، وإنما هذه ألسنة السمك، فقال: يشبه أن يكون في هذا الجام مائة لسان، فقال له مراقب خادم إبراهيم وكان يتولى قهرمة إبراهيم: فيه يا أمير المؤمنين أكثر من مائة لسان، فاستحلفه على مبلغ ثمن السمك فأخبره أنه ألف درهم، فرفع هارون يده علن الطعام وحلف أن لا يطعم شيئاً دون أن يحضر مراقب ألف دينار، فأمر أن يصدق بها، وقال لإبراهيم: أرجو أن تكون هذه كفارةً لسرفك في إنفاقك على جام سمك ألف درهم، ثم أخذ ألجام بيده ودفعه إلى بعض خدمه وقال: اخرج به من دار أخي ثم انظر إلى أول سائل تراه فادفعه إليه، قال إبراهيم: وكان شراء الجام علي مائتين وسبعين ديناراً، فغمزت خدمي أن يخرجوا مع الجام فيبتاعونه ممن يدفع إليه، وكأن الرشيد فهم ذلك مني، فهتف بالخادم فقال: إذا دفعت الجام إلى السائل فقل له: يقول لك أمير المؤمنين احذر أن تبيع الجام بأقل من مائتي دينار فإنه خير منها، ففعل خادمه ما أمره به، فو الله ما أمكن خادمي يخلص الجام إلا بمائتي دينار.
السرف والإسرافقال القاضي: إن طعم اللسان من السمك أشبه الطعوم بطعم لحم الخنزير، وقل الرشيد: كفارة لسرفك فإن السرف في كلام العرب التجاوز للشيء، حكي عن العرب مررت بكم فسرفتكم، وقال الشاعر:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم من ولا سرف
فأما الزيادة في الإنفاق وغيره فهو الإسراف، وهو ضد التقتير، يقال: أسرف يسرف إسرافاً، قال الله تعالى ذكره: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " الفرقان: 67 وقال: " فلا يسرف في القتل " الاسراء:33 وقال: " ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً " النساء:6 وقال: " ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " الأنعام:141 وقال: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " وهذا كثير جداً.
خطبة زياد البتراءحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني محمد بن أبي يعقوب الدينوري قال حدثنا عبيد بن محمد الفيرياب قال حدثنا سفيان بن عيينة قال حدثنا عبد الملك بن عمير قال: شهدت زياد بن أبي سفيان وقد صعد المنبر فسلم تسليماً خفياً، وانحرف انحرافاً بطياً، وخطب خطبة بتيراء، قال ابن الفيريابي والبتيراء التي لا يصلى فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن أمير المؤمنين قد قال ما سمعتم، وشهد الشهود بما قد علمتم، وإنما كنت امرءاً حفظ الله مني ما ضيع الناس، ووصل مني ما قطعوا، ألا إنا قد سسنا وساسنا السائسون، وجربنا وجربنا المجربون، وولينا وولينا الوالون، وإنا وجدنا هذا الأمر لا يصلحه إلا شدة في غير عنف، ولين في غير ضعف، وايم الله إن لي فيكم صرعى فليحذر كل رجلٍ منكم أن يكون من صرعاي، والله لآخذن البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر، حتى تلين لي قناتكم، وحتى يقول القائل منكم: انج سعد فقد قتل سعيد، فرب فرح بإمارتي لن تنفعه، ورب كارهٍ لها لن تضره. وقد كانت بيني وبين أقوامٍ منكم دمن وأحقاد، وقد جعلت ذلك خلف ظهري وتحت قدمي، فلو بلغني عن أحدكم أن البغض لي قتله، ما كشفت له قناعاً ولا هتكت له ستراً حتى يبدي صفيحته، فإذا أبداها لم أقله عثر تهز ألا ولا كذبه أكبر شاهداً عليها من كذبه أميرٍ على منبر، فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في، وإذا وعدتكم خيراً أو شراً فلم أف لكم به فلا طاعة لي في رقابكم، ألا وأي رجل منكم ممن كان مكتبه خراسان فأجله سنتان، ثم هو أمير نفسه، وأيما رجل منكم كان مكتبه دون خراسان فأجله ستة أشهر، ثم هو أمير نفسه، وأيما امرأة احتاجت فإننا نعطيها عطاء زوجها ثم نقاصه به، وأيما عقال فقد تموه من مقامي هذا إلى خراسان فأنا له ضامن.
فقام إليه نعيم بن الأهتم المنقري فقال: أشهد لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال: كذبت أيها الرجلن ذاك نبي الله داود عليه السلام، ، ثم قام إليه الأحنف بن قيس فقال: أيها الرجل، إنما الجواد بشده، والسيف بحده، والمرء بجده، وقد بلغك جدك ما ترى، وإنما الشكر بعد العطاء، والثناء بعد البلاء، ولسنا نثني عليك حتى نبتليك، فقال: صدقت، ثم قام أبو بلال مرداس بن أدية فقال: أيها الرجل قد سمعت قولك: والله لآخذن البريء بالسقيم المطيع بالعاصي والمقبل بالمدبر ولعمري لقد خالفت ما حكم الله في كتابه إذ يقول: " ولا تزر وازة وزر أخرى " الأنعام:16 فقال: إيها عني، فو الله ما أجد السبيل إلى ما تريد أنت وأصحابك حتى أخوض الباطل خوضاً، ثم نزل فقام إليه مرداس بن أدية وهو يقول؛
يا طالب الخير مهر الجور معترض ... طول التهجد أو فتك بجبار
لا كنت إن لم أصم عن كل غانيةٍ ... حتى يكون بريق الحور إفطاري
فقال له رجل: أصحابك يا أبا بلال شباب، فقال: شباب متكهلون في شبابهم، ثم قال:
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم سجود
فشرى وانجفل الناس معه، وكان قد ضيق الكوفة على زياد.
قال القاضي: قد روي لنا هذا الشعر في بعض أخبار الفوائد على غير هذه القافية وهو:
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع
تفسير ما ورد في البتراء
رغم تكرر ورودهاقال القاضي: كتبت هذا الخبر هاهنا وأنا أريد كتب غيره خطأ مني، لأني قد رسمته في بعض ما تقدم من مجالس هذا الكتاب، وأنا أذكر هاهنا من تفسيره ما يخرج به من كتبه عن أن يكون لاقى عناء بتكرارٍ لا فائدة فيه.
قال القاضي: قول زياد: إن هذا الأمر لا يصلحه إلا ما ذكره قد سبق إلى معناه ولفظه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر منيلي شيئاً من أمور المسلمين فقال: يكون قوياً في غير عنف، ليناً في غير ضعف، وفي ضعف لغتان: الضم والفتح، وقد قرأت القرأة بهما في القرآن، وزعم بعض علماء اللغة أن وجه الكلام فيه أن يضم حيث يكون إعراب الكلمة فيه غير النصب، ويفتح مع النصب، واستقصاء الكلام في هذا في موضعه من الكتب المؤلفة في علوم القرآن. وقوله: قد كانت بيني وبين قوم منكم دمن وأحقاد الدمن: الأحقاد واحدها: دمنة، يقال في نفسه دمنة وحسيكة وغمر وسخيمة وضغن وكتيفة، ويجمع كتائف كقول الشاعر:
أخوك الذي لا يملك الحس نفسه ... وتهتز عند المحفظات الكتائف
وفيه غل، في أسماء كثيرة. وقوله: انج سعد فقد قتل سعيد كان ابناً ضبة بن أد خرجا في بغاء إبلٍ لهما، فرجع سعد ولم يرجع سعيد، فكان أبوهما إذا أقبل أحدهما يقول: أسعد أم سعيد، فأرسلها مثلاً.
أخ يعشق زوجة أخيه وهما من بني كنةحدثنا محمد بن مخلد بن حفص العطار قال حدثنا إبراهيم بن راشد بن سليمان الأدمي قال حدثنا عبد الله بن عثمان الثقفي قال حدثنا المفضل بن فضالة مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال: كان في الجاهلية أخوان من حي يدعون بني كنة، أحدهما متزوج والآخر عزب، فقضي أن المتزوج خرج في بعض ما يخرج الناس فيه، وبقي الآخر مع امرأة أخيه، فخرجت ذات يومٍ حاسرةً فإذا أحسن الناس وجهاً وأحسن الناس ثغراً، فلما علمت أن قد رآها ولولت وصاحت وقالت بمعصمها فغطت وجهها قال القاضي: المعصم موضع السوار فزاده ذلك فتنةً، فحمل الشوق على بدنه حتى لم يبق إلا رأسه وعيناه تدوران في رأسه، وقدم الأخ فقال: يا أخي ما الذي أرى بك؟ فاعتل عليه فقال: الشوثة قال: الشوصة يسميها العرب اللوي وذات الجنب فقال له ابن عم له: لا تكذبنه، ابعث إلى الحارث بن كلدة فإنه من أطب العرب، فجيء به فلمس عروقه فإذا ساكنها ساكن وضاربها ضارب، فقال: ما بأخيك إلا العشق، فقال: سبحان الله تقول هذا لرجل ميت، قال: هو ذاك، عندكم شيء منشراب:؟ فجيء به ودعا بمسعطٍ فصب فيه وحل صرةً من صراره فذر فيه ثم سقاه، ثم سقاه الثانية ثم سقاه الثالثة، فانتشى يغني سكراً فقال:
تهيد ما تهيج ويذكر ... أيها القلب الحزين ما يكوننه
ألما بي على الأبيا ... ت من خيفٍ أزرهنه
غزالاً ما رأيت الي؟ ... وم في دور بني كنه
غزال أحور العين ... وفي منطقه غنه
قال القاضي: البيت الأول من هذه الأبيات مضطرب، وأرى بعض من رواه كسره وأخل بنيانه ونظمه لأنه لم يكن له علم بوزن الشعر فقال الرجل: هذه دور بني كنة فليت شعري من؟ فقال الحارث: ليس فيه مستمتع غير هذا اليوم، ولكن أغدو عليكم من الغد ففعل كفعله بالأمس، فانتشى يغني سكراً واسم امرأة أخيه ريا فقال:
أيها الجيرة اسلموا ... كي تحيوا وتكرموا
خرجت مزنة من البح؟ ... ر ريا تحمحم
هي ما كنتي وتز ... عم أني لها حمو
فقال الرجل لمن حضره: أشهدكم أنها طالق ثلاثاً ليرجع إلى أخي فؤاده، فإن المرأة توجد والأخ لا يوجد، فجاء الناس يسعون ويقولون: هنيئاً لك يا أبا فلان، فإن فلاناً قد نزل لك عن فلانة، فقال لمن حضر: أشهدكم أنها علي مثل أمي إن تزوجتها، قال عبد الله بن عثمان، قال المفضل قال ابن سيرين قال عبيدة السلماني: ما أدري أي الرجلين أكرم: الأول أم الآخر.
؟
خبر الأخوين من بني كنة برواية أخرى
قال القاضي: قد روي هذا الخبر من غير هذه الطريق وفي بعض ألفاظه اختلاف، فرأيت تكرار جملته لتكمل الفائدة، ولا يفوت منه شيء، وما يتكرر من اقتصاصه لا ضرر فيه: حدثنا أبي رضي الله عنه قال، حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سهل الرازي قال حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني عمي محمد بن سعيد، قال حدثنا عبد الملك بن عيمر قال: كان أخوان من ثقيف من بني كنة بينهما من التبار والتحاب شيء لا يعلمه إلا الله، كل واحدٍ منهما أخوه عند رأسه، وإن الأكبر خرج إلى سفر وله امرأة، فأوصى أخاه بحاجة أهله، فبينا المقيم في دار الظاعن إذ مرت امرأة أخيه، وكانت من أجمل البشر، تجوز من بيتٍ إلى بيت، فرآها فأى شيئاً مختلفاً، فلما رأته ولولت ووضعت يدها على رأسها ودخلت بيتاً، فوقع حبها في قلبه، فجعل يذوب وينحل جسمه وتغير لونه، وقدم أخوه وقال: يا أخي مالي أراك هكذا؟ وما وجعك:؟ قال: ما بي وجع، فدعا الأطباء فلم يقع أحد على دائه، حتى أتى الحارث بن كلدة وكان طبيباً فقال: أرى عينين صحيحتين وما أدري ما هذا الوجع، وما أظنه إلا عاشقاً، فقال أخوه: سبحان الله، أسألك عن وجع أخي وأنت تستهزئ بي؟! قال: ما فعلت، وسأسقيه شراباً عندي، فإن كان عاشقاً فسيستبين لكم، فأتي بشراب فجعل يسقيه قليلاً قليلاً كما يزق الفرخ، فلما أخذ الشراب منه تهيج فتكلم فقال:
ألما بي على الأبيا ... ت بالخيف أزرهنه
عزالاً ما رأيت الي؟ ... وم في دور بني كنه
أسيل الخد مربوب ... وفي منطقه غنه
فقال: أنت أطب العرب، فمن؟ قال: سأعيد الشراب فلعله يسمي فأعاد له بالشراب فقال:
أيها الجيرة اسلموا ... واربعوا كي تكلموا
وتقضى لبانة ... وتحيوا فتغنموا
خرجت مزنة من البح؟ ... ر ريا تحمحم
هي ما كنتي وتز ... عم أني لها حمو
قال: فطلق أخوه امرأته، فقال له المريض: علي كذا وكذا إن تزوجتها أبداً فماتا ولم يتزوجا.
؟مودة ابن المهاجر للعباسيين حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا عمرو بن تركي القاضي أبو الفضل قال حدثنا الوليد بن هشام القحذمي قال: لما قتل أبو العباس سليمان بن هشام دخل عليه إبراهيم بن المهاجر البجلي فأنشده:
إن بني العباس إن كنت سائلاً ... هم قتلوا من كان أعتى وأظلما
هم ضربوا رأس النفاق بسيفهم ... وهم ملأوا ثوبيه من دمه دما
فمن لم يدن منا بحبك ربه ... فليس يلاقيه إذا مات مسلماً
فقال أبو العباس: ما أدل ظاهر ابن المهاجر على باطنه في ودنا، إن ذلك ليبين في عينيه أكثر ممايبين في لسانه.
؟يسأل شريكاً الطنبور أطيب أم العود
حدثنا الحسن بن علي بن زكريا العدوي قال أخبرنا الحسن بن علي بن راشد قال: جاء رجل إلى شريك بن عبد الله فقال: أيها القاضي أيما أطيب الطنبور أم العود؟ فقال: أحسبك بايعت يا عدو الله، فحلف أنه لم يبايع، وأنه مستفهم، فقال له: كم على الطنبور من وتر؟ قال: اثنان، قال: وعلى العود؟ قال: أربعة، فقال: فكلما كثر هذا كان أطيب.
قولة لأبي يوسف يرويها ابن حنبلحدثنا محمد بن الحسن بن زياد قال أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا أبي قال: سمعت أبا يوسف القاضي يقول: إن للعيون خبايا بالغدوات ما ليس لها بالعشيات، فقلت له: يا أبت، أليس ذكرت أنك لا تروي عن أبي يوسف؟ فقال: هذه حكمة يأخذها العبد عن كل من وجدها عنده.
المجلس الرابع والسبعون
حديث وجبتحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمرو بن زرارة قال: حدثنا عيسى يعني ابن يونس عن موسى يعني ابن عبيدة قال: أخبرني إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بجنازة فأثني عليها خيراً فقال: وجبت، ثم أتي بجنازة فأثني عليها بعض الثناء فقال: وجبت، فقال ناس: ما وجبت؟ فقال: إن الملائكة شهداء الله في السماء وأنتم شهداء الله في الأرض، وما شهدتم عليه من شيء وجب، ثم تلا هذه الآية: " وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " التوبة:105.
؟تعليق للقاضي
قال القاضي: فما أولى بالمرء المؤمن الناصح لنفسه الراجي لربه، الخائف من غضبه أن يتقي الله ويهذب سريرته، ويخلص من الرياء والفساد عمله، حتى يجعل الله تعالى المقة بعد وفاته في قلوب عباده، فيثني مؤمنهم عليه، غير مسفٍ إلى ثنائهم وتزكيتهم في حياته، فقد قال جل ثناءه: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " مريم: 96 ومن فارق الدنيا على الطريق التي وصفنا أظهر الله حسناته، وأجراها على أفواه عباده، وستر ما خفي على الناس من مساوئ عمله، أصحبنا الله وإياكم جميل ستره في دنيانا، وبعد قبضه إيانا، إنه جواد كريم رؤوف رحيم.
؟صبر أعرابية يفوق صبر الرجال حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: كان بحمى ضرية عجوز من بني أبي بكر بن كلاب يتحدث قومها عن سروها وعقلها، فأخبرني من حضرها وقد مات ابن لها وقد كان واحدها، وقد طالت علته فأحسنت تمريضه، فلما فاظ قعدت بفنائها وحضرها قومها فأقبلت على شيخ منهم فقالت: يا فلان أو يا أبا فلان ما أحق من ألبس العافية وأسبغت عليه النعمة فاعتدلت به الفطرة أن لا يعجز عن التويق لفنسه قبل حل عقدته، والحلول بعقوته، والحيال بينه وبين نفسه، ثم أنشأت تقول:
هو ابني وأنسي أجره لي وعزني ... على نفسه رب إليه ولاؤها
فإن احتسب أو جر وإن أبكه أكن ... كباكيةٍ لم يغن شيئاً بكاؤها
فقال الشيخ: إنا لم نزل نسمع أن الجزع إنما هو للنساء فلا يأس رجل في مصيبته، ولقد كرم صبرك وما أشبهت النساء، فأقبلت عليه بوجهها وقالت: إنه ما خير امرؤ بين جزع و صبر إلا وجد بينهما نهجين بعيدي التفاوت في حاليتهما، أما الصبر فحسن العلانية محمود العاقبة، وأما الجزع فغير معوضٍ عوضاً مع مأثمه، ولو كانا في صورة رجلين لكان الصبر أولاهما بالغلبة بحسن الصورة وكرم الطبيعة في عاجله في الدين وآجله في الثواب، وكفى بما وعد الله فيه لمن ألهمه الله إياه.
تفسير بعض الألفاظقال القاضي: في هذا الخبر أن هذه المرأة قالت: والحيال بينه وبين نفسه ولا يعرف الحيال في هذا الموضع وإنما يقال: حالت الناقة أو الشاة حيالاً إذا لم تلقح وهي حائل. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في سبي أوطاس: لا تقربوا حاملاً حتى تضع ولا حائلاً حتى تحيض.
ومن الحيال قول الشاعر:
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال
وقال الفراء: ومن كلام العرب: حائل حولٍ، إذا تتابع الحيال عليها ثلاثة أعوام.
وأما الحول بين الشيء وغيره من قول الله تعالى: " وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " الأنفال:24 وقوله: " وحال بينهما الموج هود: 43 وقوله: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون " سبأ: 54 وهذا معنى اللفظة الواردة في هذا الخبر فإنه يقال فيه: حلت بين الرجلين حولاً وحؤولاً.
وقوله: والحلول بعقوته يقال: ساحة الدار وباحتها وقاعتها وعقوتها كما قال الشاعر:
فمن بعقوته كمن بنجوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح
الأحوص يسرق شعر ابن أبي دباكلحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمرو بن أبي بكر المؤملي عن عبد الله بن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر قال: خرجت أنا والأحوص الأنصاري مع عبد الله بن حسن للحج، فلما كنا بقديد قلنا لعبد الله بن حسن: لو أرسلت إلى سليمان بن أبي دباكل الخزاعي فأنشدنا من شعره، فأرسل إليه فجاءنا فأنشدنا قصيدته:
يا بيت خنساء الذي أتجنب ... ذهب الزمان وحبها لا يذهب
أصبحت أمنحك الصدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأجنب
مالي أحن إذا جمالك قربت ... وأصد عنك وأنت مني أقرب
لله درك هل لديك معول ... لمتيمٍ أم هل لودك مطلب
فلقد رأيتك قبل ذاك وإنني ... لمتيم بهواك لو يتجنب
وأرى السمية باسمكم فيزيدني ... شوقاً إليك جنابك المتسبب
وأرى العدو يودكم فأوده ... إذ كان ينسب منك أو يتنسب
وأخالق الواشين فيك تجملاً ... وهم علي ذوو ضغائن ذرب
ثم اتخذتم علي وليجة ... حتى غضبت ومثل ذلك يغضب
وانصرف. فلما كان القابل حج أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان فمر بالمدينة، فدخل عليه الأحوص واستصحبه فأصحبه، فلما خرج الأحوص قال له بعض من عنده: تقدم بالأحوص الشام فتعير به، فبعث إلى الأحوص فقال له: يا خال إني نظرت فيما سألتني من الاستصحاب فكرهت أن أهجم بك على أمير المؤمنين بلا إذن، ولكني أستأذنه لك فإن أذن كتبت إليك بالمسير إلي؛ فقال الأحوص: لا والله ما بك ما ذكرت، ولكني سبعت عندك، ثم خرج فأرسل إليه عمر بن عبد العزيز بصلةٍ واستوهبه عرض أبي بكر فوهبه له ثم قال:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل
ثم قال فيها يعرض بأبي بكر بن عبد العزيز:
ووعدتني في حاجتي فصدقتني ... ووفيت إذ كذبوا الحديث وبدلوا
حتى إذا رفع الحديث مطامعي ... يأساً وأخلفني الذين أؤمل
زايلت ما صنعوا إليك برحلةًٍ ... عجلاً وعندك عنهم متحول
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل
فقال له عمر بن عبد العزيز: ما أراك أعفيتني مما استعفيتك منه.
إنه أبو ثابت وابنه أثبت منهحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثني أبي قال حدثني الحسن بن عبد الرحمن الربعي قال: حدثني أحمد بن عمر بن عمران بن إسماعيل بن عبد العزيز بن أبي ثابت بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال حدثني عمي عمر بن عمران قال: انتظرت قريش عمران بن عبد العزيز يوم قدم المهدي المدينة فقالت قريش: لا ندخل حتى يدخل أبو ثابت فدخل أبو ثابت فتكلم، فلما فرغ من كلامه قال الناس: الأمير، يعنون المهدين وكان ولي عهد، فقال عمران: انبي عمر يتكلم بعدي، قال: فتكلم عمر بن عمران فأبلغ قال: فخرج الحاجب فقال: أنا أشهد أنه أبو ثابت، وابنه أثبت منه، قال: فأنشد المهدي هذه القصيدة من قول عمر:
غشيت لهندٍ بالعقيق ربوعاً ... فاذريت في دار الحبيب دموعا
وليس بها إلا أثافٍ كأنها ... حمائم ظلت في الديار وقوعا
فيا سائلي ما الحب صادفت عالماً ... بصيراً بما عنه سألت سميعاً
فإني وجدت الحب كالنار حره ... وحلواً ومراً بعد ذاك فظيعاً
فمن مسرع يأتي الإمام بمنطقي ... ويبلغني منه الجواب سريعاً
لطفت أمير المؤمنين لهاشمٍ ... وكنت لها بعد المحول ربيعاً
فأديت حق الله في بر والدٍ ... فلا تك للباقي هديت مضيعا
رفعنا وأنتم بالحبيب محمدٍ ... وكان على الخلق النبي رفيعاً
فأعمامه كنتم وكان ابن أختنا ... فجاءت به طلق اليدين قريعا
فلن يقبل الرحمن براً لوالدٍ ... إذا لم يبر الوالدين جميعاً
فقد أمر الرحمن بالبر فيهما ... فكن فيهما يا ابن الكرام مطيعاً
قال: فألحق بني زهرة في العطاء ببني هاشم يومئذ.
أحمد بن حنبل يكتب شعر أبي نواسحدثنا محمد بن العباس بن الوليد قال: سمعت أحمد بن يحيى ثعلب يقول: دخلت على أحمد بن حنبل فرأيت رجلاً تهمه نفسه لا يحب أن يكثر عليه كأن النيران قد سعرت بين يديه، فما زلت أرفق به، وتوسلت بالشيبانية إليه فقلت: أنا من مواليك يا أبا عبد الله، وذكرت له عبد الله بن الفرج، قال أبو العباس: وعبد الله بن الفرج هذا من صالحي أهل البلد فقرم إلى حديثي وانبسط إلي وقال: في أي شيءٍ نظرت؟ فقلت: في علم اللغة والشعر، فقال: مررت بالبصرة وجماعة يكتبون الشعر عن رجل، فقيل لي هذا أبو نواس، فتخللت الناس ورآني، فلما جلست أمل علينا:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ... خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعةً ... ولا أن ما يخفى عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ... ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ... ويأذن في توباتنا فنتوب
ثم أطرق، فعلمت أنه قد مل، فسلمت وانصرفت.
قال محمد بن العباس: فحدث أبي بهذا عبد الله بن المعتز وأنا حاضر أسمع فأنشده الأبيات، فقال لنا عبد الله: هذه الأبيات لأبي نواس من زهدياته.
قال محمد بن العباس: فنظرت فيما حدثنا به الناس عن أبي عبد الله هل رأى أبا نواس فوجدت فيما حدثنا عبد الله بطريق خراسان وهو قاضي الناحية قال: سمعت أبي يقول: كنت في البصرة في مجلس ابن علية فالتفت فإذا بداعابةٍ وضحك، وإذا بأبي نواس يكتب عنه من زهدياته.
قال القاضي: وقد رويت لنا هذه الأبيات عن بعض من تقدم أبا نواس من الشعراء، واستشهد ببعضها طائفة من النحويين في موضع من فصول النحو، وقد ذكرنا من هذا طرفاً في موضع غير هذا فلم أر لإعادته في هذا الموضع وجهاً.
وفادة عبد الله بن جعفر على معاويةحدثنا أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن صالح التميمي قال: حدثني عمر بن عبد الوهاب الرياحي قال: حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص عن خالد بن سعيد عن سعيد بن عمرو قال: وفد عبد الله جعفر على معاوية بن أبي سفيان فأنزله في داره فقالت له ابنة قرظة امرأته: إن جارك هذا يسمع الغناء، قال: فإذا كان ذلك فأعلميني فأعلمته فاطلع عليه فإذا جارية له تغنيه وهي تقول:
إنك والله لذو ملةٍ ... يطرفك الأدنى عن الأبعد
وهو يقول: يا صدقكاه. قال: ثم قال اسقيني قالت: ما أسقيك؟ قال: ماء وعسلاً، قال: فانصرف معاوية وهو يقول: ما أرى بأساً. فلما كان بعد ذلك قالت له: إن جارك هذا لا يدعنا ننام الليل من قراءة القرآن، قال: هكذا قومي رهبان بالليل ملوك بالنهار.
بان المبارك يقسم لاخوانهحدثنا محمد بن داود سليمان النيسابوري قال: سمعت الحسن بن سفيان يقول: قال حبان عن ابن المبارك إنه قسم يوماً لاخوانه ومن حضره من أصحابنا ألف درهم ثم قال:
لا خير في المال وكنازه ... بل لجواد الكف وهابه
يفعل أحياناً بزاواره ... ما يفعل الخمر بشرابه
قال القاضي: ذكر ابن المبارك الخمر والمعروف تأنيثها، أراد الشراب.
قول شريح في الجرادحدثنا محمد بن الحسن بن زياد قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحيم قال: أخبرنا وكيع عن الأعمش قال: أخبرنا عامر قال: سئل شريح القاضي عن الجراد قال: قبح الله الجرادة فيها خلقة سبعة جبابرة: رأسها رأس فرس وعنقها عنق ثور وصدرها صدر أسد وجناحها جناح نسر ورجلاها رجلا جمل وذنبها ذنب حية وبطنها بطن عقوب.
أفتنت سعيداً
حدثنا محمد بن مخلد قال: حدثني أحمد بن محمد بن بكر بن خالد قال حدثنا أبو العباس داود بن رشيد قال حدثنا أبو نميلة عن عمرو بن زائدة قال: حدثني امرأة من بني أسد قالت: زففنا عروساً في الحي فمررنا بسعيد بن جبير والمغنية تقول:
لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت ... سعيداً فأضحى قد قلى كل مسلمٍ
وألقى مفاتيح المساجد واشترى ... وصال الغواني بالكتاب المنمنم
قال ابن مخلد؛ فقال سعيد: كذب.
التآخي بين صعب بن جثامة وعوف بن مالك
حدثنا أحمد بن العلاء الحرمي قال: حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني ابن عائشة قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن صعب بن جثامة وعوف بن مالك كانا متواخيين فقال صعب لعوف: أي أخي أينا مات قبل صاحبه فليتراءى له قال: أيكون ذاك؟ قال: نعم، فمات صعب، قال: فرأى عوف فيما يرى النائم كأنه أتاه قال: فقلت: أي أخي ما فعل بكم؟ قال: غفر لنا بعد المشائب قال: ورأيت لمعة سواد في عنقه فقلت: أي أخي ما هذا؟ قال: عشرة دنانير استسلفتها من فلان اليهودي فهي في قرني فأعطوها إياه، واعلم أي أخي أنه لم يحدث في أهلي حدث بعدي إلا وقد لحق بي أجره حتى هرة لنا ماتت لنا منذ أيام، واعلم أن بنتي تموت إلى ستة أيام فاستوصوا بها معروفاً، قال: فلما استيقظت قلت إن في هذا لمعلماً، فلما أصبحت أتيت أهله فقالوا: مرحباً مرحباً بعوف أهكذا تصنعون بتركة إخوانكم، لم تقربنا منذ مات صعب، قال: فاعتللت بما يتعلل به الناس، قال: فنظرت إلى القرن فأنزلته، وانتثلت ما فيه فندرت الصرة التي فيها الدنانير، فبعثت إلى اليهودي فجاء فقلت له: هل كان لك على صعب شيء؟ قال: يرحم الله صعباً كان من خيار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هي له، قلت لتخبرني قال: نعم، أسلفته عشرة دنانير، فنبذتها إليه، قال: هي والله بأعيانها قال: قلت هذه واحدة، قال، قلت: فهل حدث فيكم حدث بعد موته؟ قالوا: نعم حدث فينا كذا، قلت: اذكروا، قال: نعم هرة ماتت لنا منذ أيام، قال: قلت هاتان اثنتان، قال: قلت: أين ابنة أخي؟ قالوا: تلعب، قال: فأتي بها فمستها فإذا هي محمومة، فقلت: استوصوا بها خيراً، فماتت لستة أيام.
تفسير ما يتطلب توضيحاً
قال القاضي: قوله: بعد المشائب يتجه فيه وجهان من التأويل أحدهما: أنه من قولهم شاب الشيء إذا خالطه ومازحه فكأنه عنى أنه لقي مع أنه نجا وفاز أموراً فظيعة راعته حيت عاينها يومئذ، وهو يوم الفزع الأكبر، نسأل الله العظيم خيره والسلامة فيه، ونعوذ به من شره. والوجه الثاني أنه من الشيب والمشيب، وقد وصفه الله تعالى بأنه يجعل الولدان شيباً.
وأما القرن فإنه الكنانة أو القنديل، فإذا اجتمعت الكنانة النبل من السلاح فهو قرن كما قال الشاعر:
يا ابن هشام أهلك الناس اللبن ... فكلهم بمشي بسيفٍ وقرن
ما هو إلا شيء جرى على لسانيحدثنا محمد بن مزيد البوشنجي قال: حدثنا الزبير قال حدثني عمي عن معافى بن نعيم: أن والياً كان على اليمامة ولاه بلال بن جرير بعض أعماله، فجلس يوماً يحكم والخصوم جلوس إذ تمثل أحدثم:
وابن المراغة حابس أعياره ... مرمى القصية ما يذقن بلالا
ولا يشعر أنه من ذلك بسبيل، قال فقال: أين هذا الراوية:؟ قال: ها أنا ذا أصلحك الله، قال: ادن أنت وخصمك، فدنوا قال: هلم أعد البيت، فغمزه إنسان، فقال: أصلحك الله، والله ما هو إلا شيء جرى على لساني وما أردت بذلك مكروهاً، فقال: هو أشهر من ذلك، هلم، فاحتجا.
كتابة على قبرحدثنا أبي رضي الله عنه قال، حدثنا أبو أحمد الختلي قال، حدثنا عمر يعني ابن محمد بن عبد الحكم النسائي، حدثني أحمد بن بشير بن سليمان الشيباني قال: سمعت أحمد بن عبد الله الدينوري يقول: قرأت على قبر:
أخ طال ما سرني ذكره ... فقد صرت أشجى لدى ذكره
وقد كنت أغدو إلى قصره ... فقد صرت أغدو إلى قبره
وقد كنت دهري ضنيناً به ... عن الناس لو مد في عمره
وكنت إذا جئت في جاجةٍ ... فأمري يجوز على أمره
فصار علي إلى ربه ... وكان علي فتى دهره
أتم وأكمل ما لم يزل ... وأنبل من كان في عصره
أتته المنية مغتالة ... رويداً تخلل من ستره
فلم تغن أجناده حوله ... ولا المسرعون إلى نصره
أشد البرية وجداً به ... أجد البرية في طمره
فأصبح يهدى إلى منزل ... تنوق ناعيه في حفره
تغلق بالترب أبوابه ... إلى يوم يؤذن في حشره
وخلى القصور التي شادها ... وحل من القبر في قعره
وبدل بالعرش بسط الثرى ... وريح ثرى الأرض من عطره
أخو سفرةٍ ماله أوبه ... غريب وإن كان في مصره
فلست مشيعه غادياً ... أميراً يسير إلى ثغره
ولا متلقٍ له قافلاً ... بقتل عدوٍ ولا أسره
فلا يبعدن أخي هالكاً ... فكل سيمضي على إثره
توجيهات نحويةقال القاضي: قوله ولا متلقٍ له بالجر، وقد عطفه على قوله: فلست مشيعه وهو منصوب لأن قوله: فلست مشيعه بمعنى: فلست بمشيعه، ومن هذا قول زهير:
بدا لي أني لست مدرك ماضى ... ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا
وقد استشهد النحاة في هذا الوجه بقول امرئ القيس:
فظل طهاة اللحم من بين منضجٍ ... صفيف شواءٍ أو قديرٍ معجل
وقالوا: قد عطف على قوله: صفيف شواء ، وحمل هذا بعضهم على أنه معطوف على قوله: شواء وتأول هذا بعضهم على الجوار كما حكي هذا جحر ضبٍ خربٍ، وهذا باب يتسع القول فيه، ولنا فيه كلام كثير مشروح في مواضع من كتبنا في القرآن والفقه والنحو.
شعر لسابق البربريحدثنا عبد لاله بن محمد بن جعفر الأزدي قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا حماد بن الوليد الحنظلي قال: سمعت عمر بن ذر يذكر أنه بلغه عن ميمون بن مهران أنه قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري الشاعر فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيح بات للموت آمناً ... أتته المنايا بغتةً بعدما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتهً ... فراراً ولا منه بحيلته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعاً ... ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع
وقرب من لحدٍ فصار مقيله ... وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغني لماله ... ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
فلم يزل عمر يضطرب ويبكي حتى غشي عليه، قال: فقمنا فانصرفنا عنه.
ولكن تفيض النفس عند امتلائهاأنشدنا محمد بن يحيى الصولي قال: أنشدنا المبرد:
ولي حاجة قد راث عني نجاحها ... وجودك أجدى وافدٍ في اقتضائها
ومال شفيع غير نفسك إنني ات؟ ... كلت من الدنيا على حسن رائها
عطاؤك لا يفنى ويستغرق المنى ... وتبقى وجوه الراغبين بمائها
شكوت وما الشكوى لنفسي عادةً ... ولكن تفيض النفس عند امتلائها
؟كن باذلاً للخير أنشدنا عمر بن الحسن الشيباني، قال: أنشدنا أبو بكر القرشي قال: أنشدني الحسين بن عبد الرحمن:
إذا ما الليالي أقبلت بإساءةٍ ... رجونا بأن تأتي بحسن صنيع
وذلك فعل الله بالناس كلهم ... فكن باذلاً للخير غير منوع
؟
المجلس الخامس والسبعون
طير الجنةحدثنا جعفر بن محمد بن عبدويه المروزي البرائي قال حدثنا الزعفراني قال حدثنا أبو معاوية الضرير قال حدثنا عبيد الله بن الوليد عن عطينة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة طيراً فيه سبعون ألف ريشةٍ فيجيء حتى يقع على صحفة الرجل من أهل الجنة، فينتفض فيخرج من تحت كل ريشةٍ لون أبيض من الثلج وألين من الزبد وأحلى من العسل ليس فيها لون يشبه صاحبه، ثم يطير فيذهب.
تعليق القاضي على الحديثقال القاضي: قد أنبأ هذا الخبر عن عظيم قدرة الله تعالى ذكره وجسيم نعمته وعجيب رزقه، وعما أعده لأوليائه في جنته مما لم تتصوره نفوسهم، ولم تبلغه أمانيهم، فهنيئاً لهم ما أنعم به عليهم ربهم، وإياه نسأل أن يدخلنا جنته ولا يحرمنا رحمته، فإنه لا يتعاظمه خير يجود به، ولا يتسصعب عليه شر يصرفه، بيده الخير كله، وهو على كل شيء قدرير.
إعجاب الأخطل بأبيات للقطاميحدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: سأل عمرو بن سعيد القرشي الأخطل: أيسرك أن لك شعراً بشعرك؟ قال: لا والله ما يسرني أن لي بمقولي مقولاً من مقاول العرب، غير أن رجلاً من قومي قد قال أبياتاً حسدته عليها، وإيم الله إنه لمغدف القناع، ضيق الذراع، قليل السماع، قال: ومن هو؟ قال: القطامي، قال: وما هذه الأبيات؟ قال: قوله:
يمشي رهواً فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تنكل
من كل سامية العينين تحسبها ... مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبل
حتى وردن ركيات الغوير وقد ... كاد الملاء من الكتان يشتعل
يمشين معترضاتٍ والحصى رمض ... والريح ساكرة والظل معتدل
والعيش لا عيش إلا ما تقربه ... عيني ولا حال إلا سوف ينتقل
إن تصبحي من أبي عثمان منجحة ... فقد يهون على المستنجح العمل
والناس من يلق خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
تعليق للقاضي وتفسيراتقال القاضي: لعمري إن هذه الأبيات لمن رصين الشعر وبليغه، وكلمة القطامي التي هذه الأبيات منها من أجود شعره، وأولها:
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطول
ويروى الطيل.
وقد ذكر بعضهم أن أجود ما أتى من أشعار العرب على هذه العروض وهذا الروي هذه الكلمة وكلمة الأعشى التي أولها:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
وقول الأخطل: إنه لمغدف القناع المغدف: المغطى فكأنه نسبه إلى الخمول وقصوره عن الشرف وأن يكون بارزاً مبدياً صفحته مجداً وافتخاراً، كما قال سحيم بن وثيل الرياحي:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العماخمة تعرفوني
ويقال أعدفت المرأة قناعها كما قال عنترة:
إن تغدفي دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستئم
وأما قول القطامي: يمشين رهواً فإنه أراد أنهن يمشين في سكونٍ وتؤدة، وقد قيل في قول الله تعالى: " وأترك البحر رهواً " الدخان: 24 أي ساكناً وقيل طريقاً يبساً. وحكي أن بعض العرب قال في فالج من الإبل: رهو بين سنامين. وقال بعض أهل المعرفة: لو كان القطامي قال هذا البيت في صفة النساء لكان قد أحسن. ومن الزهو قول الشاعر:
كأنما أهل حجرٍ ينظرون متى ... يرونني خارجاً طير بباديد
طير رأت بازياً نضح الدماء به ... وأمه خرجت رهواً إلى عيد
وقل عمرو بن كلثوم:
نصبنا مثل رهوة ذات حدٍ ... محافظة وكنا السابقينا
ويروى: نصبنا مثل رهوة وادحر.
قيل هي الخيل، وقوله: والريح ساكرة يعني ساكنةً، وإذا كانت ساكنةً فهي فعل الأشياء المفقودة المعدومة، يقال سكر الشيء إذا سكن، وقيل للسكر الذي هو منسكر الأودية والأنهار سكر، لأنه سكن إذا انسد وعدمت سورته، ومنه السكر من الشراب وغيره، قيل فيه ذلك لاحتباس ما كان منطلقاً من السكران وصحة رأيه وصواب منطقه، وقيل سكر الحر إذا سكنت فورته وهدأ احتدامه وشدته، كما قال الراجز:
جاء الشتاء واجثأل القبر
واستخفت الأفعى وكانت تظهر
وجعلت عين الحرور تسكر
وقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين " لقالوا إنما سكرت أبصارنا " الحجر: 15 بمعنى سدت وصعب النظر بإسكانها عن الحركة التي تدرك المبصرات بها. وقرأ جمهور القرأة سكرت بالتشديد للتكرار إذ كانت الأبصار جماعة، وقرأ بعضهم سكرت بالتخفيف لدلالة هذه القراءة على المعنى، ومثله فتحت أبوابها وفتحت في نظائر لهذا كثيرة، وهي مشروحة فيما تضمنته الكتب في علوم القرآن من كلامنا وكلام من تقدمنا، وبالتخفيف قرأ ابن كثير في من وافقه من المكيين. وقوله:
إن تصبحي من أبي عثمان منجحةً ... فقد يهون على المستنجح العمل
من الكلام الحسن في الإنباء عن أن من أنجح سعيه وأدرك ما أمه هان عليه ما كان أنصبه وعناه وأتعبه في قصد مطلوبه، ومثله قول سابق البربري:
إذا ما نال ذو طلبٍ نجاحاً ... بأمرٍ لم يجد ألم الطلاب
ونظائر هذا المعنى كثيرة يتعب إحصاؤها ويمل استقصاؤها.
قصة خيالية عن احتيال معاوية
لتطليق زوج ابن عامر ليتزوج هو منها وما نجم عن ذلك
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا ابن عائشة، قال الكوكبي وحدثنا عسل بن ذكوان قال حدثنا التوزي عن أبي عبيدة، قال الكوكبي وحدثنا عبد الرحمن بن محمد بن منصور قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني شعيب بن صخر، قال الكوكبي وحدثنا محمد بن القاسم الضرير قال حدثنا ابن عائشة عن محمد بن المختار عن أبيه، يزيد بعضهم على حديث بعضٍ، قالوا: كان عند معاوية بن أبي سفيان جماعة نفرٍ من سماره في ذات ليلة، فقال: والله لقد فني مني اللذات من المطاعم والمشارب إلا من صبيٍ صغير يلاعبني وألاعبه وأضمه إلى صدري، فقال عمرو بن العاص: أفلا أدلك يا أمير المؤمنين على امرأة لو تزوجتها عدت بها شاباً في سن ابن ثلاثني سنة ثم لا تزال معها أنعم الناس عيشاً بقية عمرك؟ قال معاوية: ومن هي؟ " قال محمد بن القاسم أبو العيناء دون الجماعة: هي فاطمة بنت عبد الرحمن بن سهل، وقالت الجماعة دون محمد بن القاسم: هي هند بنت سهيل بن عمرو، وأحسبه هو الثبت قال معاوية: أوليست تحت عبد الله بن عامر بن كريز.؟ قال: بلى، قال: فبئس ما عرضت به إلي، أن تذكر زوجة رجلٍ من خيار قريش، قال عمرو: رأيتك حدثت نفسك بشيءٍ فعرضت عليك ما عرضت، وقد يتزوج الرجل المرأة ويتزوجها غيره، فقال معاوية: اكتموا هذا الأمر لا تشهروه، فلعمري إن نال أحد حاجته بالرفق والتأني الحيلة لأنالنه منها. ثم دعا معاوية خادماً له من أبر خدمه عنده وخصهم لديه، فقال له: انطلق إلى عبد الله بن عامر فزره، وإذا حضر اباب فألطفه وأكرمه وأوقع في قلبه كثرة ذكري له وأني ربما ذكرته عند نسائي وحرمي وحيث لا يذكر فيه أحد من الرجال، وأن ذلك ليس إلا لقدره عندي ومنزلته مني، فإذا أوقعت ذلك في قلبه فأعلمني، ففعل الخادم ما أمره به حتى ظن عبد الله أنه ليس أحد بمنزلته عنده، فقال معاوية للخادم: انطلق الآن شبه الناصح والمتحظي عنده فمره أن يخطب إلى أمير المؤمنين إذا أحب. فتهيأ عبد الله بن عامر لذلك وهيأ له كلامه، فأدخله الخادم على معاوية فبره وألطفه وأقبل عليه بوجهه يحدثه، ودعا بالطعام وألوان الأشربة وأقبل يستطعمه الكلام، فحصر عبد الله وانقطع وانقبض وهابه، فقال معاوية حين رأى حصره وهيبته: إنه لن يمنعك من أمير المؤمنين الخلوة، قل ما أحببت وانبسط في كلامك وسل ما أحببت فدعا له وأثنى عليه وانصرف يومه ذلك ولم يكلمه في شيء، فدعا معاوية خادمه ذلك فأعلمه أن الرجل هاب وحصر؛ فاغد إليه ومره أن يسأل حاجته وشجعه وأعلمه أن أمير المؤمنين قاضٍ حاجته. فمضى الخادم إلى عبد الله فأمره بالعود إلى معاوية ومسألته حاجته فإنه لن يمنع ما يريد؛ فغدا عبد الله على معاوية فأكرمه وألطفه ودعا له بالطعام والشراب، فلما أكلا وشربا قال عبد الله: جئتك يا أمير المؤمنين في حاجةٍ على حسن ظني بأمير المؤمنين ومنزلتي منه، فإن وافق منه ما أحب فذاك الذي أبغي، وإن خالفه فأعوذ بالله من سخط أمير المؤمنين ومن موجدته، قال معاوية: تكلم يا ابن أخي بما بدا لك، قال عبد الله: جئتك أخطب ابنتك رملة، قال: فنظر إليه معاوية شبه المنكر عليه المستعظم له والمنقبض منه ثم قال: ننظر في ذلك، فقام ابن عامر وقد سقط في يديه وظن أنه أغضبه، فلما خرج دعا معاوية خادمه فقال: انطلق الآن فلا تظهر ثلاثة أيام، فإن ابن عامرٍ سيطلبك، ثم ألقه بعد وأعلمه أه أحمق رجل في قريش وأقلهم عقلاً حيث يخطب إلى أمير المؤمنين ابنته وعنده امرأة غيرها إنما يريد الإضرار بها وأن يؤذيها، وتشدد بذلك، ومره أن يعود ويكتب كتاباً يذكر فيه أنه لم يطلب هذا الأمر وهو يريد أن يضر بابنة أمير المؤمنين ويكون عنده غيرها، وأنه يخلي عن كل امرأةٍ تعظيماً لحقها، ففعل الخادم ذلك ثم لقي ابن عامر فبلغ منه ما أراد، فقال له ابن عامر: كيف الحيلة لإصلاح هذا الأمر؟ قال: تدخل إن شئت أو تكتب كتاباً تذكر فيه أنك مطلق لنسائك إكراماً لابنة أمير المؤمنين وتعظيماً لحقها، ففعل ذلك ابن عامر، فلما قرأ معاوية كتابه دعا بعشرةٍ من قريشٍ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنكم عرفتم حال ابن عامر في شرفه وحسبه ومكانه من أمير المؤمنين وقرابته، وقد خطب إلى أمير المؤمنين ابنته، وقد زوجه على ما ضمن من تطليق ما عنده، فقال عبد الله عند ذلك: فإن فاطمة بنت عبد الرحمن، كما قال أبو
العيناء، وقال غيره: فإن هند بنت سهيل بن عمرو طلق البتة، فدعا له معاوية والقوم جميعاً .ثم خرج عبد الله إلى دارٍ سوى الدار التي كانت فيها، ثم أرسل إليها أن اعتدي، فلما أتاها الرسول قالت له: ويحك مالك؟ قال: طلقك عبد الله، قالت: ما أظنه فعل هذا وعقله معه، ثم سألت عن الأمر فأخبرت، فدعت قهرمانها فأمرته أن يجهزها، ثم ارتحلت نحو المدينة وقالت: فرق معاوية بيني وبين صاحبي ليتزوجني، والله لا يصل إلى ذلك حتى يصل إلى أمه، وقيل لمعاوية إنها قد شخصت، قال: دعها فلتذهب حيث شاءت فلعمري لا تخرج من سلطاني إلا أن تخرج إلى أرض الشرك.ناء، وقال غيره: فإن هند بنت سهيل بن عمرو طلق البتة، فدعا له معاوية والقوم جميعاً .ثم خرج عبد الله إلى دارٍ سوى الدار التي كانت فيها، ثم أرسل إليها أن اعتدي، فلما أتاها الرسول قالت له: ويحك مالك؟ قال: طلقك عبد الله، قالت: ما أظنه فعل هذا وعقله معه، ثم سألت عن الأمر فأخبرت، فدعت قهرمانها فأمرته أن يجهزها، ثم ارتحلت نحو المدينة وقالت: فرق معاوية بيني وبين صاحبي ليتزوجني، والله لا يصل إلى ذلك حتى يصل إلى أمه، وقيل لمعاوية إنها قد شخصت، قال: دعها فلتذهب حيث شاءت فلعمري لا تخرج من سلطاني إلا أن تخرج إلى أرض الشرك.
فلا انقضت عدتها كتب معاوية إلى مروان بن الحكم، وهو عامله على المدينة، يأمره أن يخطبها عليه، فأرسل إليها بذلك، فأرسلت إليه: إن عدتي لم تنقض، فقال: نحن أعلم بعدتك ، فقالت: فإني لا أخبرك دون يوم الجمعة، ثم أرسلت إلى الحسن بن علي عليه السلام: إني أريد أن تأتيني لأمر أستفتيك فيه، فأرسل إليها: إن مثلي لا يأتي النساء للفتيا، فأرسلت إليه: إن لم تأتني أتيتك في مجلسٍ حاسرةً فإن كنت ترضى أن تخرج إليك امرأة من قريش حاسرةً حتى تفتيها فأنت ورأيك، فأعظم ذلك وخرج حتى أتاها، فأذنت له فدخل وأمسك جواريها بينه وبينها ثوباً، فحمدت الله وصلت على النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: أعندك يا ابن رسول الله خير؟ قال الحسن: والله لقد ألجأتني إلى أمر لم يكن من كلامي، من أحق أن يكون عنده الخير مني وأدنى طرفي رسول الله وعلي بن أبي طالب صلى الله عليهما، قالت: إنه كان من معاوية في فرقته بيني وبين صاحبي ما أحسب أنه قد بلغك، ووالله مالي فيه من حاجةً، ولقد اخترتك لنفسي، فإن وجدت أحداً أحق بي منك فقد رضيت بحكمك، أو ما شئت، قال الحسن رضي الله عنه: قد علمت ما كان بيني وبين معاوية حتى أصلح الله ذلك، وهذا أمر ما أحدث به نفسي، ومالي يومي هذا فيه من حاجة، قالت: أذكرك الله أن ترد علي نفسي بعد إذ بذلتها لك واخترتك، قال: مالي إلى ذلك سبيل، فلما رأت تأبيه عليها قالت لجواريها نحين الثوب عني، فنحين الثوب فإذا بمثل القمر لأربع عشرة، وكانت من أحسن النساء وأتمهن وكان الحسن صاحب نساء، فلما راى جمالها، ولم يكن رأى مثلها، أخذت بقلبه، فقال: قد رضيت وقبلت، فأرسلت إلى رجال من قريش فأشهدتهم أنها قد جعلت أمرها إلى الحسن بن علي، فحمد الله وأثنى عليه وأشهدهم أنه قد تزوجها علاى كذا وكذا، وبلغ الخبر مروان فأرسل إلى السحن فحبسه، وأرسل إليها فحبسها وأقام عليها الرقباء، وكتب إلى معاوية يعلمه أن الحسن وثب فتزوجها بغير علم قاضٍ ولا سلطانٍ ولا ولي، جرأة عليك وخلافاً لك، وإني قد أمرت بحبسهما إلى إن يأتين منك رأي، فكتب إليه معاوية: قد فهمت ما كتبت به في أمر الحسن وأمرها، وقد أجبتك في ذلك بكتاب بعثت به إليك مختوماً، فاجمع إليك ثلاثين رجلاً من قريش، ثم فض الخاتم بحضرة الحسن وحضرة القوم، ثم اقرأ كتابي واعمل بما فيه، ففعل ذلك مروان، فإذا فيه أما بعد فإنك كتبت إلي تذكر من تزويج الحسن بغير حكم حاكم ولا علم سلطان، وسألتني أن أكتب إليك برأيي فيهما ومكانهما، ولعمري ما بغل من أمر معاوية أن يحرم شيئاً قد أحله الله أو يحل شيئاً قد حرمه الله، والحسن إنما ترك أن يعلم السلطان لمخافته مني، لما سبق من خطبتي المرأة قبله، واختارته وآثرته علي، فإذا قرأت كتابي هذا فخل عن الحسن، وادفع إليه زوجته، ولا تعرض لهما في شيءٍ يؤذيهما، وادفع إلى الحسن ما مالي قبلك عشرة آلاف دينار معونةً له على تزويجه، وادفع إلى زوجته خمسة آلاف دينار، وأحسن جوارهما، فلما قرأ مروان الكتاب قبل ما أمر به وأعانهما أيضاً من ماله، ومنع معاوية عن ابن عامرٍ ابنته وقال: إنما زوجتك على أن أتزوج امرأتك وبنتي صغية حتى تبلغ، فاستأذن ابن عامرٍ للحج وأتى المدينة فرأى الحسن على بابه فأقبل إليه فسلم، فرحب به السحن وأنزله، ثم قال ابن عامر: أبا محمد أتأذن في الدخول على فاطمة بلفظ أبي العيناء والسلام عليها؟ قال: وكرامة، ثم أرسل إليها هذا ابن عمك عبد الله يريد الدخول عليك فأذني له، فأذنت له وجلست وأخذت زينتها، ثم قام الحسن فدخل عليه فإذا هي تبكي، فقال الحسن: يا هذا قد علمت مثل هذا، وقد صير الله الأمر إلى ما تريد، وأنا طيب النفس بالنزول عنها والتخلية بينك وبينها غير زاهد فيها ولا قالٍ لها، ولكن كراهة مساءتك، قال ابن عامر: لا والله مالي بذاك من حاجة، وقالت هي: والله لا أرجع إليه وقد طلقني بغير ذنب ولا حدثٍ إلا طمعاً في ابنة معاوية، قال الحسن: فما بكاؤكما؟ قالت: ذكرت ابنتي حيث نظرت إلى وجهه، وكان لعبد الله بن عامر منها ابنة، وكانت عند أخوات عبد الله بالمدينة. ثم كشف عبد الله عن شيءٍ تحت ثوبه فغذا سفطان في أحدهما جوهر وفي الآخر در، فقال: يا أبا محمد إن هذا شيء كان لي عندها سألتها عنه وما أطمع أن ترده علي، وما أظن أحداً تسخو نفسه عن مثله، فردته علي، فأقسمت عليك لما أخذت منه
حاجتك، قال الحسن: مالي فيه من حاجةٍ وأنت أحق بما لك، ولكن حاجتي إليك غير هذا، أحب أن تسعفني بها، قال: ما هي؟ قال: ابنتك هي ابنتي وأحب أن تضمها إلى أمها، قال: هي لك، فأرسلها إليها من ساعتها فحملت وكل ما كان لها من خدم ومالٍ فدفعها إلى الحسن. قال الحسن: مالي فيه من حاجةٍ وأنت أحق بما لك، ولكن حاجتي إليك غير هذا، أحب أن تسعفني بها، قال: ما هي؟ قال: ابنتك هي ابنتي وأحب أن تضمها إلى أمها، قال: هي لك، فأرسلها إليها من ساعتها فحملت وكل ما كان لها من خدم ومالٍ فدفعها إلى الحسن.
قال أبو بكر محمد بن زكرياء: فأخبرنا أبو عثمان عبيد الله بن عثمان بن عمر القرشي التيمي قال أخبرني أبي وكان أبوه قاضي المنصور قال: لما طلق عبد الله بن عامر بن كريز هند بنت سهيل بن عمرو وله منها ابنة وتزوجها الحسن بن علي عليه السلام فلم يدر ما الحيلة لها لما كان في نفسه منها، فبعث إلى ابنته ليقبضها فصرفه السحن بالرجال فكلمه وكان من قوله: ماحجر رجلٍ عندي أشرف ولا أفضل من حجر الحسن بن علي عليه السلام، ولكنها امرأة قد بلغت وأحب كينونتها عندي والأنس بها، فلما رأت ذلك هند قالت للحسن: إني ولا له أعرف أنه لا يدعها لأحدٍ إلا لي فتأذن لي أن آتيه؟ قال: نعم لأنك المأمونة وهو المأمون، وكان قد قبض ابنته إليه، فأرسلت إليه: إني آتيك ليلة كذا وكذا، فأقام لها ابن عامر في داره الخارجة وصفاء بالشمع وفي قبته التي كان يسكنها من دراته وصائف، وجلس على سرير إلى باب خلفه وقد بسط له، وجاءت فجلست أسفل من سريره، وجاءت ابنتها فاعتنقتها وتباكيا، فقالت هند لانب عامر: إني جئتك في بنتي ولا حجر لها خير من حجري ولا أدب أنفع لها من أدبي، والله إن أحب ما فيها إلي أنها منك، فإن رأيت أن تهبها لي وتشفعني فيها فعلت، قال: هي لك، ثم دعا بسبنية خزٍ فملئت خزاً، ودعا من أصناف الثياب بثوبٍ فملاًه من كل صنف، ودعا بأربعة آلاف دينار وحلل ما يدرى ما قيمتها ثم ولى إلى الباب الذي خلف سريره فقام بين البابين ثم قال: لك ما بين سريري هذا إلى ما دخلت فيه من ملكي، فانصرفت بذلك المتاع المال والرقيق.
قال محمد بن زكريا، قال أبو عثمان وأخبرني أبي قال: كان ابن عامر قد استودع هنداً بنت سهيل بن عمرو أسفاظاً فيها حلي كثير ودر وجوهر لم يأمن عليها أحداً غيرها، وطلقها وهو عند معاوية، وهي بالمدينة، قد انتقلت من منزله وتزوجها الحسن بن علي رضوان الله عليه فأرسل إليها ابن عامر يطلب ما استودعها، فأنكرت الرسول أن يكون استودعها شيئاً أوله عندها شيء! فلما كثرت الرسل فيما بينها وبينه لقي ابن عامر الحسن بن علي عليهما السلام، فقال له: كنت استودعت هنداً وديعةً وقد أرسلت إليها فيها، وقد سبق إلى قلبي أن جحدها لمن أرسلته محبة أن لا يفشو ذلك، وأنها لا تحب دفعه إلا إلي، فإن رأيت أن تأذن لي عليها فعلت، فقال: نعم، فجاء الحسن فأعلمها أن ابن عامرٍ بالباب، فشدت عليها ثيابها، فلما دخل ابن عامر غلبته العبرة وبكت الأخرى قبل أن يتكلم أحدهما، فقال الحسن بن علي رضوان الله عليه لما رأى ذلك، إن شئتما كنت خير محل. فقال ابن عامر: إذاً والله لا نجتمع أبداً، فسألها عما وضع عندها فقالت: نعم والله ما كنت لأقر به لأحدٍ أبداً ولا أدفعه إلى سواك أبداً، يا جارية ضعي لي هناك فراشاً، فوضع لها فراش واستقر مجلسها، ثم قالت: ارفعي الفراش الذي كان تحتي فرفع ثم قالت: احفري، فحفرت تحت فراشها فأخرجت تلك الأسفاط بخاتم ابن عامر لم تحرك، فقالت: واله ما رأيتها وما زلت أنقله معي حيث ما كنت مع فراشي، إلى أن رده الله إليك، قال ابن عامر: خذي منه ما أحببت، وفتح بعضها ليعطيها فحلقت لا تأخذ منه شيئاً، فقام عبد الله بن عامر وقد قبض متاعه.
غلام يمازح أبا نواس وهو ضجرحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال أخبرني أبو علي بن سعيد الشيباني قال حدثني هارون بن سفيان مولى بجيلة قال: كنت مع أبي نواس يوماً في بعض طرق بغداد وهو ضجر قليل النشاط، فجاء غلام حسن الوجه رائق، فجعل يمازحه ويعبث به وأبو نواس لا يلتفت إليه، فانصرف الغلام وهو يقول: أصبحت والله يا أبا نواس بارداً، فقال لي أبو نواس أمعك ألواح:؟ قلت، نعم، قال اكتب:
اذهب نجوت من الهجاء ولذعه ... وأما ولثغة أحمد بن نجاح
لولا فتور في كلامك يشتهى ... وترفقي لك بعد واستملاحي
وتكسر في مقلتيك هو الذي ... عطف القلوب عليك بعد جماح
لعلمت أنك لا تمازح شاعراً ... في ساعةٍ ليست بحين مزاح
المجلس السادس والسبعون
معنى كل يوم هو في شأنحدثنا الحسين بن الحسين بن عبد الرحمن الأنطاكي قال: حدثنا محمد بن الحسن يعني أبا الحارث الرملي قال حدثنا صفوان بن صالح الجمشقي قال حدثنا الوزير بن صبيح الثقفي قال حدثنا يونس بن ميسرة بن حلبس عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: " كل يومٍ هو في شأنٍ " الرحمن: 29 من شأنه يغفر ذنباً ويكشف كرباً ويجيب داعياً ويرفع قوماً يضع آخرين.
قال القاضي: وقد روينا هذا الخبر من طريق آخر وفيه : ويعطي سائلاً. اللهم فاجعلنا ممن غفرت ذنبه وكشفت كربه، وأجبت دعاءه وأعطيته سؤله ورجاءه، وممن ترفعه بتوفيقك إياه لطاعتك وحسن عبادتك، وأجرنا أن نكون ممن تضعه وتخفض قدره وتحط منزلته لتقصيره في تأدية حقك ومخالفته لأمرك، واحلل الضيعة بأعدائك وأعدائنا من العتاة المسرفين، والطغاة المترفين، والبغاة الجبارين، والفجرة، الظالمين، إنك ولي المؤمنين ومهلك الكفرة الضالين.
خداش ومذهب الخداشيةحدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا عبد الأول عن ابن أبي خالد قال: كان خداش صاحب الخداشية يفسد قوماً من أهل الدعوة برايه، وهو رأي الخرمية، إباحة المحارم، وكان ممن رأى هذا الرأي مالك بن الهيثم والحريش بن سليم الأعجمي، وكان خداش يقول لهم: لا صوم ولا صلاة ولا حج، ويقول: إنما تأويل الصوم أن يصام عن ذكر الإمام ولا يباح باسمه لأحد، والصلاة الدعاء للإمام وذكره وطاعته، الحج أن تحجوا الإمام أي تقصدوه فإنه ليس في الحج إلى الكعبة درك، ولا في ترك الأكل والشرب للصائم منفعة، ولا في الركوع والسجود طائل، فلا ينبغي أن تمتنعوا مما تحبون من طعام أو شراب أو جماع أو غير ذلك في كل حين، ولا جناح عليكم فيه، ويتأول لهم من القرآن قوله عز وجل: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا " المائدة: 93 الآية ، وكان خداش نصرانياً بالكوفة ثم أسلم ولحق بخراسان وهو الذي يقول فيه الشاعر:
تفرقت الظباء على خداشٍ ... فما يدري خداش ما يصيد
قال القاضي رحمه الله: وقد كان المنصور عند خروج من خرج عليه ونهدوا لمحاربته تمثل بهذا البيت عند أخبار بعض المخبرين له عنهم.
الخرميةوأما رأي الخرمية هذا فقد كثر المتدينون به والعاملون عليه من غير أن يعتقدوه ديناً لهم، لكنهم ركبوا المجون والخلاعة، وانقادوا لدواعي نفوسهم الأمارة بالسوء الخداعة، وانهمكوا في الشهوات الخسيسة، واستثقلوا عبادة الله وطاعته المفضية بهم إلى المراتب النفيسة، والله نسأل التوفيق والعصمة.
الرشيد وأعرابي باقعةحدثني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو الفضل الربعي قال حدثني أبي قال: خرج الرشيد في بعض متنزهاته فلما أسرع السير في بعض البراري انفرد من الناس على نحو من ميل، فرفع له خباء منصوب فأمه حتى وقف عليه، فإذا فيه أعرابي جالس، فسلم عليه الرشيد، فرد عليه الأعرابي السلام ثم رفع رأسه إليه فقال: من أنت يا حسن الوجه؟ فقال له الرشيد: أنا من أبغض الناس إلى الناس، قال الأعرابي: أنت إذاً من معد، قال نعم، قال: من أي معد؟ قال: من أبغض معد إلى معد، قال: فأنت إذاً من مضر، قال: نعم، قال: فمن أي مضر أنت؟ قال: من أبغض مضر إلى مضر، قال: فأنت إذاً من كنانة، قال: نعم، قال: من أي كنانة؟ قال: من أبغض كنانة إلى كنانة، قال: فأنت إذاً من قريش، قال: نعم، قال: من أي قريش أنت؟ قال: من أبغض قريش إلى قريش، قال: فأنت إذاً من بني هاشم، قال نعم، قال: فمن أي بني هاشم أنت؟ قال: من أبغض بني هاشم إلى بني هاشم، قال: فأنت إذاً من ولد العباس، قال: نعم، قال: فمن أي ولد العباس؟ قال: من أبغض بني العباس إلى بني العباس، قال: فوثب الأعرابي قائماً ثم قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وتوافت الجيوش، فقال الرشيد: احملوه قاتله الله أعرابياً ما أدهاه!!
هشام بن عبد الملك يعزل إبراهيم المخزومي
حدثنا أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن الحسن الأنصاري قال حدثنا عبد العزيز بن محمد المخزومي قال: كتب هشام بن عبد الملك إلى إبراهيم بن هشام المخزومي، وكان عامله على الحجاز: أما بعد فإن أمير المؤمنين قد قلد ما كان ولاك من الحجاز خالد بن عبد الملك، وإن أمير المؤمنين لم يعزلك حتى كنت وإياه كما قال القطامي:
أمور ما يدبرها حكيم ... بلى فنهى وهيب ما استطاعا
وكلن الأديم إذا تفرى ... بل وتعيباً غلب الصناعا
وإني والله ما عزلتك حتى لم يبق من أديمك شيء أتمسك به.
فلما ورد كتابه على إبراهيم تغير وجهه وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أصبحت اليوم والياً، وأنا الساعة سوقة، فقام إليه رجل من بني أسد بن خزيمة فقال:
فإن تكن الامارة عنك راحت ... فإنك للهشام وللوليد
وقد مر الذي أصبحت فيه ... على مروان ثم على سعيد
قال: فسري عنه وأحسن جائزة الأسدي.
قال القاضي: قول هشام حتى كنت وإياه عطف وإياه الذي هو النصب على التاء، وهي في موضع رفع، لأنه من باب المفعول معه، كقولهم: ما صنعت وإياكن ومنه قول الشاعر:
فكان وإياها كحران لم يفق ... عن الماء إذ لاقاه حتى تعذرا
أبو الأسود يريد وليدةحدثنا يزداد بن عبد الرحمن قال قال أبو موسى، يعني تينة، حدثني القحذمي قال: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى بحير بن ريسان الحيمري فقال:
بحير بن ريسان الذي ساد حميراً ... بأفعاله الدائرات تدور
وإني لأرجو من بحيرٍ وليدةً ... وذاك على المرء الكريم يسير
فقال: يا أبا الأسود سألتنا على قدرك، ولو سألتنا لعى قدرنا ما رضينا بها لك، قال: إما لا فا جعلها روقة أي تعجب مالكها.
أعرابي ثكل تسعة من أبنائهحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أبو عمارة المستملي قال حدثنا الأصمعي قال: رأيت أعرابياً بمكة يصيح وأويلاه واثكلاه، فقلت له: ما ثكلك يا أعرابي؟ قال: ستعة من الذكور في تسعةٍ من الشهور كأنهم البدور، قلت: لا إخالك إلا وقد قلت في ذلك شعراً، قال: أجل، ثم أنشدني:
ألا يزجر الدهر عنا المنونا ... يوقي البنات وفني البنينا
وكنت أبا تسعةٍ كالبدور ... قد فقأوا أعين الحاسيدنا
فمروا على حادثات الزمان ... كمر الدراهم بالناقدينا
أضر بهم ريب هذا المنون ... حتى أبادهم أجمعينا
وحتى بكاهم حسادهم ... فقد أقرحوا بالدموع الجفونا
وحسبك من حادث بامرئ ... ترى حاسديه له راحمينا
أفتنت سعيداً
حدثنا محمد بن مخلد قال حدثنا أحمد بن محمد بن بكر بن خالد قال حدثنا أبو العباس داود بن رشيد قال حدثنا أبو نميلة عن عمرو بن زائدة قال حدثتني امرأة بني أسد قالت: زففنا عروساً في الحي، فمررنا بسعيد بن جبير والمغنية تقول:
لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت ... سعيداً فأضحى قد قلى كل مسلم
وألقى مفاتيح المساجد واشترى ... وصال الغواني بالكتاب المنمنم
قال ابن مخلد فقال سعيد: كذب.
الأصمعي يصحف في شعر الراعيحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا القاسم بن إسماعيل قال حدثنا أبو ذفافة بن سعيد بن سلم الباهلي قال: قرأنا على الأصمعي شعر الراعي، فمر في قصيدته ما بال دفك بالفراش مذيلا:
وكأن ريضها إذا باشرتها ... كانت معودة الرحيل ذلولا
فقلنا له: ما معنى باشرتها؟ قال: ركبتها من المباشرة، فحكينا ذلك لأبي عبيدة فقال: صحف والله الأصمعي، إنما هو إذا يا سرتها وهذا كقول الآخر:
إذا يوسرت كانت ذلولاً أديبةً ... وتحسبها إن عوسرت لم تؤدب
قال القاضي: الأمر في هذا لعمري كما قال أبو عبيدة، واستشهاده فيه صحيح على ما وصف.
الأصمعي لا يأبه لاعتراض ابن الأعرابيحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الطيب بن محمد الباهلي قال حدثنا أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي قال قرأنا على الأصمعي شعر العجاج، فمر بنا:
من أن تبدلت بآد آدا ... لم يك ينآد فأمسى انآدا
فقد أراني أصل القعادا
قال: ودخل ابن الأعرابي فأومأ إلينا: سلوه ما القعاد، فقال: الشيوخ الذين قعدوا عن الغزل كبراً وكذلك هو من النساء، فقال ابن الأعرابي: أما القعاد من الرجال فصحيح، وأما النساء فقواعد كما قال الله عز وجل: " والقواعد من النساء " النور: 60 قال: فو الله ما التفت الأصمعي إليه، ثم أنشد للقطامي:
أبصارهن إلى الشبان مائلة ... وقد أراهم عني غير صداد
فما الفرق بين صداد وقعاد، فما نطق ابن الأعرابي بحرفٍ وقام فخرج.
قال القاضي: الأمر في هذا على ما قال الأصمعي، وقد أغفل ابن الأعرابي إنكاره منه ما أنكره.
خطبة للحجاج بعد دير الجماجمحدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الكلبي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا محمد، يعني ابن عبيد الله بن عباس، عن عطاء، يعني ابن مصعب، عن عاصم قال: خطب الحجاج أهل العراق بعد دير الجماجم، فقال: يا أهل العراق إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف، ثم أفضى إلى الأصماخ والأمخاخ، ثم ارتفع فعشش، ثم باض وفرخ، ثم دب ودرج، فحشاكم نفاقاً وشقاقاً، وأشعركم خلافاً، اتخذتموه دليلاً تتبعونه، وقائداً تطيعونه، ومؤامراً تشاورونه، فكيف تنفعكم تجربة أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر وأجمعتم على الكفر، وظننتم أن الله عز وجل يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذاً وتنهزمون سراعاً يوم الزاوية بما كان من فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم ونكوص وليكم، إذا وليتم كالإبل الشاذة عن أوطانها النوازع، لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حين عضكم السلاح وتجشمتكم الرماح يوم ير الجماجم، وما يوم دير الجماجم، بها كانت المعارك والملاحم ب؟:
ضربٍ يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
يا أهل العراق: الكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات، والنزوة بعد النزوات، إن بعثناكم إلى ثغوركم غللتم وجبنتم، وإن أمنتم أرجفتم وإن خفتم نافقتم، لا تتذكرون نعمة، ولا تشكرون معروفاً. هل استخفكم ناكث أو استغواكم غاوٍ أو استفزكم عاصٍ أو استنصركم ظالم أو استعضدكم خالع إلا لبيتم ثم دعوته وأجبتم صيحته، ونفرتم إليه خفافاً وثقالاً وفرسناناً ورجالاً؟؟! يا أهل العراق: هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟! يا أهل العراق: ألم تنفعكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟ ألم يشدد الله عليكم وطأته ويذقكم حر سيفه وأليم بأسه ومثلاته؟! ثم التفت إلى أخل الشام فقال: يا أهل الشام، إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ينفي عنها القذر، ويباعد عنها الحجر، ويكنها من المطر، ويحميها من الضباب ويحرسها من الذباب. يا أهل الشام أنتم الجنة والرداء، وأنتم الملاءة والحذاء، أنتم الأولياء والأنصار، والشعار دون الثار، بكم يذب عن البيضة والحوزة، وبكم ترمي كتائب الأعداء ويهزم من عاند وتولى.
القاضي شريح يتزوج زينب التميمية
حدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا عبد الله بن الضحاك قال حدثنا الهيثم بن عدي عن الشعبي قال، قال لنا شريح: يا شعبي عليكم بنساء بني تميم فإنهن النساء، قلنا: وكيف ذلك يا أبا أمية؟ قال: رجعت يوماً من جنازةٍ مظهراً فمررت بخباءٍ فإذا بعجوز معها جارية رؤد، فاستسقيت فقالت: اللبن أعجب إليك أم الماء أم النبيذ؟ قال قلت: اللبن أعجب إلي. قالت: يا بنية اسقيه لبناً فإني أظنه غريباً، فسقتني، فلما شربت قلت: من هذه الجارية؟ قالت: هذه بنتي زينب بنت حدير أحدى نساء بني تميم ثم من بني حنظلة ثم من بني طهية، قلت: أتزوجينيها، قالت: نعم إن كنت كفؤنا، قال: فانصرفت إلى منزلي، فامتنعت من القائلة، فلما صليت الظهر وجهت إلى إخواني الثقات: مسروق بن الأجدع والأسود بن يزيد فصليت العصر ثم رحت إلى عمها وهو في مسجده، فلما رآني تنحى لي عن مجلسه، فقلت: أنت أحق بمجلسك، ونحن طالبو حاجةٍ، فقال: مرحباً بك يا أبا أمية، ما حاجتك؟ قلت: إني ذكرت زينب بنت أخيك، فقال: والله ما بها عنك رغبة ولا بك عنها مقصر، قال: وتكلمت فزوجني ثم انصرفت فما وصلت إلى منزلي حتى ندمت وقلت: ماذا صنعت بنفسي، فهممت أن أرسل إليها بطلاقها، ثم قلت: لا أجمع بين حمقتين، ولكني أضمها إلي، فإن رأيت ما أحب حمدت الله تعالى، وإن تكن الأخرى طلقتها. فأرسلت إليها بصداقها وكرامتها، فلما أهديت إلي وقام النساء عنها قلت: يا هذه إن من السنة إذا أهديت المرأة إلى زوجها أن تصلي ركعتين خلفه ويسألا الله عز وجل البركة، فقمت أصلي فإذا هي خلفي، فلما فرغت رجعت إلى مكانها، ومددت يدي فقالت: على رسلك، فقلت: إحداهن ورب الكعبة، فقالت: الحمد لله وصلى الله على محمد وآله، أما بعد، فإني امرأة غريبة، ولا والله ما ركبت مركباً هو أصعب علي من هذا، وأنت رجل لا أعرف أخلاقك، فخبرني بما تحب آته وبما تكره أزدجر عنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولك. قال فقلت: الحمد لله وصلى الله على محمد وآله، أما بعد فقد قدمت خير مقدمٍ، قدمت على أهل دارٍ زوجك سيد رجالهم، وأنت إن شاء الله سيدة نسائهم، أحب كذا وأكره كذا، قالت: فحدثني عن أختانك، أتحب أن يزوروك؟ قال قلت: إني رجل قاضٍ وأكره أن يملوني، وأكره أن ينقطعوا عني، قال: فأقمت معها سنةً أنا كل يومٍ أشد سروراً مني باليوم الذي مضى، فرجعت يوماً من مجلس القضاء فإذا عجوز تأمر وتنهي في منزلي، فقلت: من هذه يا زينب؟ قالت: هذه ختنتك، هذه أمي، قلت: كيف حالك يا هذه؟ قالت: كيف حالك يا أبا أمية، وكيف رأيت أهلك؟ قال قلت: كل الخير، قالت: إن المرأة لا تكون أسوأ خلقاً منها في حالتين: إذا ولدت غلاماً وإذا حظيت عند زوجها، فإن رابك من أهلك ريب فالسوط السوط، قلت: أشهد أنها ابنتك، قد كفيتني الرياضة وأحسنت الأدب. فكانت تجيئني في كل حولٍ مرةً فتوصي بهذه الوصية ثم تنصرف، فأقمت معها عشرين سنة ما غضبت عليها يوماً ولا ليلةً، إلا يوماً وكنت لها ظالماً وذلك أني ركعت ركعتي الفجر وأبصرت عقرباً فعجلت عن قتلها فكفأت عليها الإناء وبادرت إلى الصلاة وقلت: يا زينب إياك والاناء، فعجلت إليه فحركته فضربتها العقرب، فلو رأيتني يا شعبي وأنا أمص إصبعيها وأقرأ عليهما المعوذتين، وكان لي جار يقال له قيس بن جرير لا يزال يقرع مريئته، فعند ذلك أقول:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلت يميني يوم أضرب زينبا
وأنا الذي أقول:
إذا زينب زارها أهلها ... حشدت وأكرمت زوارها
وإن هي زارتهم زرتها ... وإن لم تكن لي هوى دارها
يا شعبي، فعليك بنساء بني تميم فإنهن النساء.
شروح وتعليقات على خبر شريحقال القاضي: قد روينا خبر شريح في نكاحه زينب من غير طريق، عثرنا على هذا منها فأثبتناه، وهو كافٍ من غيره. وفي بعض ما رويناه، بيت يلي قوله:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلت يميني يوم أضرب زينبا
وهو:
وزينب شمس والنساء كواكب ... إذا طلعت لم تبق منهن كوكبا
قال القاضي: وقد أغار شريح في هذا البيت على قول النابغة في مدح النعمان بن المنذر:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملكٍ دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
قال القاضي: قوله في الخبر جارية رؤد يريد وصفها بأنها في اقتبال شبابها كما قال الشاعر:
خمصانة قلق موشحها ... رؤد الشباب غلا بها عظم
وقوله: أهديت إلى زوجها فيه لغتان: هديت العروس إلى زوجها هداءً وأهديت إهداءً، وطرح الألف أكثر، فكأنه من الهداية لا من الهدية، وهو أشبه وأليق بالمعنى، ومن الهداء قول زهير:
فإن تكن النساء مخبآتٍ ... فحق لكل محصنةٍ هداء
وأما قول زينب لشريح هذه ختنتك فقد تكلم في هذا قوم من الفقهاء واللغويين، وحاجة الفقهاء إلى معرفة ذلك بينه، وإذ قد يوصي المرء لأصهار فلان وأختانه؛ وقد يحلف لا يكلم اصهار فلان وأختانه، فقال قوم: يكون الأختان من قبل الرجل والأصهار من قبل المرأة. وذهب قوم في هذا إلى التداخل والاشتراك وهذا أصح المذهبين عندي، وقد قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام.
محمد النبي أخي وصهري ... أحب الناس كلهم إليا
والنبي أبو زوجته؛ ويدلك على هذا قولهم: قد أصهر فلان إلى فلان، وبين القوم مصاهرة وصهر، فجرى هذا مجرى النسب والمناسبة في إجرائهما على الطرفين والعبارة بهما عن الجهتين، وقد قال الله تعالى: " وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً " الفرقان:54 وقد جاء عن أهل التأويل في قول الله تعالى: " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة " النحل: 72 أقوال: قال بعضهم: هم الأصهار، وقال بعضهم: هم الأختان، وظاهر هذا العمل على اختلاف المعنيين بحسب ما ذهب إليه من قدمنا الحكاية عنه، وقد قال: وجائز أن يكون عبر باللفظين عن معنى واحد، وقد قال بعضهم: الحفدة الخدم، قال الشاعر:
حفد الولائد حولهن وأسلمت ... بأكفهن أزمة الأجمال
وقال رؤبة يخاطب أباه:
إن بنيك لكرام نجده ... ولو دعوت لأتوك حفدة
أي سراعاً إلى معاونتك واتباع أمرك، ومن هذا قولهم: وإليك نسعى ونحفد أي نجد في عبادتك ونسعى في طاعتك.
المجلس السابع والسبعون
خطبة عمر في الجابية واستجابته لدعوة قسطنطينحدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم بن إسحاق بن الحارث أبو النضر العقيلي قال حدثنا أبو إسحاق طلحة بن عبد الله بن محمد الطلحي النديم قال حدثنا أبو بكر أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي قال: سمعت أبا عبيد الله محمد بن سليمان بن عطاء بن قيس يقول حدثني أبي سليمان بن عطاء عن مسلمة بن عبد الله الجهني عن عمه أبي مشجعة بن ربعي قال: لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية لفرض الخراج، وذلك بعد وقعة اليرموك، قال: فشهدته دعا بكرسي من كراسي الكنيسة فقام عليه فقال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: أيها الناس أكرموا الناس، إن خياركم أصحابي، ألا ثم الذين يلونهم، ألا ثم الذين يلونهم، ألا ثم يظهر الكذب ويكثر الحلف حتى يحلف الرجل وان لم يستحلف، ويشهد وإن لم يستشهد، ألا فمن أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة. يد ربكم مع الجماعة، ألا وإن الشيطان ذئب بني آدم، فهو مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ألا لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له إلا كان الشيطان ثالثهما، ألا ومن ساءته سيئاته وسرته حسناته فهو مؤمن. قمت فيكم بقدر ما قام النبي صلى الله عليه وسلم فينا.
ثم ارتحل حتى نزل أذرعات، وقد ولى على الشام يزيد بن أبي سفيان، فدعا بغدائه، فلما فرغ من الثريد وضعت بين يديه قصعة أخرى، فصاح وقال: ما هذا؟ فأرسل يزيد إلى معاوية، وكان صاحب أمره، فقال معاوية: ما الذي أنكرت يا أمير المؤمنين؟ قال: ما بالي توضع بين يدي قصعة ثم ترفع وتوضع أخرى؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنك هبطت أرضاً كثيرة الأطعمة فخفت عليك وخامتها، فأشر إلى أيها شئت حتى ألزمكه، فأشار إلى الثريد، فقال قسطنطين لمعاوية: جاد ما خرجت منها.
فلما فرغ من غدائه قالم قسطنطين وهو صاحب بصرى بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبا عبيدة قد فرض علي الخراج فاكتب لي به، فأنكر عمر ذلك وقال: ما فرض عليك؟ قال: فرض علي أربعة دراهم وعباءة على كل جلجلة يعني الجماجم فقال عمر رضي الله عنه لأبي عبيدة: ما يقول هذ1؟ قال: كذب، ولكني كنت صالحته على ما ذكر ليستمتع به المسلمون في شتائهم هذا، ثم تقدم أنت فتكون الذي يفرض عليهم الخراج، فقال له عمر: أبو عبيدة أصدق عندنا منك، فقال قسطنطين: صدق أبو عبيدة وكذبت أنا، قال: فويحك، ما أردت بمقالتك؟ قال: أردت أن أخدعك، ولكن افرض علي يا أمير المؤمنين أنت الآن، قال: فجاثاه النبطي مجاثاة الخصم عامة النهار، ففرض على الغني ثمانية وأربعين درهماً، وعلى الوسط أربعةً وعشرين درهماً، وعلى المفلس المدقع اثني عشر، وشرط عليهم عمر أن يشاطرهم منازلهم وينزل فيها المسلمون، وعلى أن لا يضربوا بناقوس، ولا يرفعوا صليباً إلا في جوف كنيسة، وعلى أن لا يحدثوا إلا ما في أيديهم، وعلى أن لا يقروا خنزيراً بين أظهر المسلمين، وعلى أن يقروا ضيفهم يوماً وليلة، وعلى أن يحملوا راجلهم من رستاقٍ إلى رستاق، وعلى أن يناصحوهم ولا يغشوهم، وعلى أن لا يمالئوا عليهم عدواً، فمن وفى لنا وفينا له منعناه مما نمنع نمنه نساءنا وأبناءنا، ومن انتهك شيئاً من ذلك استحللنا بذلك سفك دمه وسباء أهله وماله.
فقال له قسطنطين : يا أمير المؤمنين اكتب لي به كتاباً، قال: نعم، ثم ذكر عمر فقال: إني أستثني عليك معرة الجيش، فقال النبطي: لك ثنياك، وقبح الله من أقال:. فلما فرغ قال له قسطنطين: يا أمير المؤمنين، قم في الناس فأعلمهم كتابك لي ليتناهوا عن ظلمنا والفساد علينا، فقالم عمر فخطب خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له قال النبطي: إن الله عز وجل لا يضل أحداً، فقال عمر رضي الله عنه: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، شيئاً تكلم به، فعاد عمر في الخطبة، ثم أعاد النبطي المقالة، فقال: أخبروني ما يقول، قالوا: إنه يقول إن الله لا يضل أحداً، فقال عمر: والذي نفسي بيده لئن عدت لأضربن الذي فيه عيناك، ومضى عمر في خطبته، فلما فرغ قام قسطنطين فقال: يا أمير المؤمنين، لي إليك حاجةً فاقضها لي، فإن لي عليك حقاً، قال: وما حقك علينا؟ قال: إني أول من أقر لك بالصغار، قال: وما حاجتك إن كان لك فيها منفعة فعلنا، قال: تغدى عندي أنت وأصحابك، قال: ويحك إن ذلك يضرك، قال: ولكنها مكرمة وشرف أناله، قال: فانطلق حتى نأتيك، فانطلق فهيأ في كنيسة بصرى ونجدها وهيأ فيها الأطعمة وقباب الخبيص وكانوناً عليه المجمر، فلما جاء عمر وأصحابه نزلوا في بعض البيادر، ثم خرج يمشي وتبعه الناس والنبطي بين يديه، ثم بدا لعمر فقال: لا يتبعني أحد، ومضى هو والنبطي، فلما أن دخل الكنيسة إذا هو بالستور والبسط وقباب الخبيص والمجمر، فقال عمر للنبطي: ويلك، لو نظر من خلفي إلى ما هاهنا لفسدت علي قلوبهم، اهتك ما أرى، قال: يا أمير المؤمنين، إني أحب أن ينظروا إلى نعمة الله علي، قال: إن أردت أن نأكل طعامك فاصنع ما آمرك به، فهتك الستور وتزع البسط وأخرج عنه المجمر، ثم قال: اخرج إلى رحالنا فأتنا بأنطاع، فأخذها عمر فبسطها في الكنيسة، ثم عمد إلى ذلك الخبيص وما كان هيأ فعكس بعضه على بعض وقال: أعتدك شيء آخر؟ قال: نعم عندنا بقل وشواء، قال: إيتني به، فأخذه فخلط الشواء بالخبيص بعضه على بعض وجعل يحمل بيديه ويجعله على الأنطاع.
قال طلحة فأخبرنا أحمد بن معاوية قال: فأمليت هذا الحديث على رجل من أصحاب الحديث فزادني فيه، قال فقال النبطي: يا أمير المؤمنين، إن هذا الطعام لا يؤكل هكذا، قال فقال عمر: ويل لك ولأصحابك إذا جاء من يحسن يأكل هذا، ثم قال: ادع الناس، فجاءوا فجثوا على ركبهم وأقبلوا يأكلون، فربما وقعت اللقمة من الخبيص في فم الرجل فيقول: إن هذا طعام ما رأيناه، فيقول عمر: ويلك أما تسمع؟ كيف لو رأوا ما رأيت؟!
فلما فرغوا قال النبطي لمعاوية: إن الأحبار والرهبان قد اجتمعوا، وهم يريدون أن ينظروا إلى أمير المؤمنين، وإنما عليه أخلاق وسخة، فهل لك أن تخدعه حتى ينزعها ويلبس ثياباً حتى يقضي جمعته، فقال له معاوية: أما أنا فلا أدخل في هذا بعد إذ نجوت منه أمس، فقال له النبطي: يا أمير المؤمنين، ثيابك قد اتسخت، فإن رأيت أن تعطيناها حتى نغسلها ونرمها، قال: نعم، فغسل الثياب وتركها في الماء، ثم هيأ له قميصاً مروياً ورداء قصبياً فلما حضرت الجمعة قال له عمر: إيتني بثيابي، فقال له: يا أمير المؤمنين، ما جفت، ونحن نعيرك ثوبين حتى تقضي جمعتك، فقال: أرني، فلما نظر إلى القميص قال: ويحك كأنما رفي هذا رفواً، أغربهما عني وائتني بثيابي، فجاء بها تقطر، فجعل يتناولها، وجعل النبطي يأخذ بطرف الثوب وعمر بالطرف الآخر ويعصرها، ثم دعا بكرسي من كراسي الكنيسة فقام عليه يخطب الناس ويمسح ثيابه ويمددها، قال: فسأله أي شيءٍ كانت ثيابه؟ قال: غزل كتانٍ. قال: وجاءت الرهبان فقاموا وراء الناس وعليهم البرانس تبرق بريقاً، ومعهم عصي فيها تفاح الفضة، ومعهم المواكب، فلما نظروا إلى هيئته قالوا: أنتم الرهبان!! لا والله، ولكن هذه الرهبانية، ما أنتم عنده إلا ملوك.
مشاطرة السكان بدمشق منازلهمقال: ثم ارتحل عمر حتى أتى دمشق فشاطرهم منازلهم وكنائسهم، وجعل يأخذ الحيز القبلي من الكنيسة لمسجد المسلمين لأنها أنظف وأظهر، وجعل يأخذ هو بطرف الحبل ويأخذ النبطي بطرف الحبل حتى شاطرهم منازلهم، قال: فربما أزحف فأخذ الحبل منه فأعقبه. ففرغ عمر من دمشق وحمص وبعث أبا عبيدة إلى قنسرين وحلب ومنبج، ففعل بها كما فعل عمر، ورجع عمر من حمص إلى المدينة.
عياض بن غنم وصلح الرهاقال: فلما نزل أبو عبيدة منبج بعث عياض بن غنم في عشرين فارساً فأتى الرها وقد اجتمع بها أهل الجزيرة من الأنباط، فأتاها ابن غنم فوقف عند بابها الشرقي على فرس أحمر محذوف، فأخبرنا أحمد بن معاوية عن محمد ابن سليمان بن عطاء، قال حدثني أبي عن جدي عمن سمع عياضاً وهو يدعوهم إلى الإسلام فأبوا عليه، فعرض عليهم الجزية فأقروا، وقد عرفوا شرط عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الشام فقالوا: نعم نقر على أن نشترط، قال: نعم فاشترطوا ونشترط، فاشترطوا كنائسهم التي في أيديهم على أن يؤدوا خراجها وما لجأ إليها من طائر وصلمهم التي في كنيستهم قال محمد بن سليمان بن عطاء: الصلم الخشبة التي يزعمون أن عيسى بن مريم عليه السلام صلب عليها لم يقل صلبهم وسور مدينتهم، قال عياض: فإني أشترط أنا أيضاً، فاشترط عليهم أن يشاطرهم منازلهم وينزل فيها المسلمون، وعلى أن لا يحدثوا كنيسةً إلا ما في أيديهم، وعلى أن لا يرفعوا صليباً ولا يضربوا بناقوسٍ إلا في جوف كنيسة، وأن يقروا ضيف المسلمين يوماً وليلة، وعلى أن يحملوا راجل المسلمين من رستاقٍ، إلى رستاق وعلى أن لا يعمروا خنزيراً بين ظهراني المسلمين، وعلى أن يناصحوا المسلمين ولا يغشوهم ولا يمالئوا عليهم عدواً، ومن وفى لنا وفينا له ومنعناه مما نمنع منه نساءنا وأبناءنا، ومن انتهك شيئاً من ذلك استحللنا سفك دمه وسباء أهله وماله، فقالوا: اكتب بيننا وبينك كتاباً، فتورك عياض على فرسه، فلما فرغ قالوا: اشهد لنا، قال: فكتب شهد الله وملائكته وكفى بالله شيهداً. ودفع الكتاب إليهم فدخل في شرطهم جميع أهل الجزيرة. وأما الأرض فهي للمسلمين وأنتم عمالهم فيها.
تعليقات للقاضيقال القاضي: قوله: فمن أراد بحبوحة الجنة يعني فضاءها وسعتها كما قال جرير:
قومي تميم هم القوم الذين هم ... ينفون تغلب عن بحبوحة الدار
وفي هذا الخبر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل أهل الجزية طبقات، ففرض على أغنيائهم مقداراً من الجزية، وعلى المتوسط منهم مقداراً متوسطاً بين ما فرضه على أعلاهم طبقة وما جعله على أدونهم في الوجد منزلةً، وظهر ذلك من فعله واستفاض في الصحابة فلم يظره من أحدهم إنكار له ولا مخالفة فيه، ثم تلاه في ذلك أئمة أهل العلم بالدين في جميع أمصار المسلمين، وبهذا نقول؛ وكان الشافعي يرى ألا يتجاوز في قد الجزية ديناراً أو عدله، واستقصاء الكلام والحجاج في هذا يطول، وهو مرسوم في مواضعه من كتبنا في الفقه.
عمر يرحل لنفسه
حدثنا أحمد بن إسحاق بن بهلول أبو جعفر الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا إسحاق بن عيسى الطباخ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده قال: خرجت مع عمر إلى الشام، فاستيقظنا ليلةً وقد رحل لنا رواحلنا وهو يرحل لنفسه وهو يقول:
لا يأخذ الليل عليك بالهم ... والبس له هذا القميص واعم
وكن شريك رافعٍ وأسلم ... ثم اخدم الأقوام حتى تخدم
قال فقلت: رحمك الله يا أمير المؤمنين لو أيقظتنا لكفيناك.
قال القاضي: كأن أبا تمام سمع هذا فأخذ منه قوله:
فمن خدم الأقوام يرجو نوالهم ... فإني لم أخدمك إلا لأخدما
وقوله: مؤمله حتى مؤملا
قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمروروينا في معنى ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما أتى هذا الخبر به عن بعض السلف أنه قال لا بن عمر بن عبد العزيز: ما رأيت رجلاً أكرم من أبيك، سمرت معه ذات ليلةٍ فخفت المصباح، فقام إليه فأصلحه، فقلت له: يا أمير المؤمنين هلا أمرت بإصلاحه، فقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.
إنا لا نتخذ الإخوان خولاً
وروي نحو هذا عن الأبرش الكلبي وقد قام ليصلح المصباح، فقال له صاحب المجلس: مه ليس من المروءة أن يستخدم الرجل ضيفه؛ ويروى أنه قال: إنا لا نتخذ الاخوان خولاً.
فروة بن مسيك يفد على الرسولحدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو عثمان قال أخبرنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: كان بين مراد وبين بني الحارث بن كعب قتال في الجاهلية فاستعانت بنو الحارث بهمدان على مراد، فقتل من هؤلاء ألف ومن هؤلاء ألف، وذلك يوم الرزم، فدخل فروة بن مسيك بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أين كنت عن قومك يوم الرزم؟ فقال فروة: يا رسول الله:
إن نهزم فهزامون قدماً ... وان نهزم فغير مهزمينا
كذاك الحرب صولتها سجال ... تكر صروفها حيناً فحينا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أردت هذا، وإن الذي أصيب به قومك هو الذي حرضهم على الإسلام.
أنت الذي يكذب من يحدث بأنعم الله؟
حدثنا أبو طالب الكاتب علي بن محمد بن الجهم قال حدثنا أبو بكر أحمد بن منصور الزيادي قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن زياد بن جبل عن أبي كعب الحارثي، وهو ذو الإداوة، قال: سمعته يقول: خرجت في طلب إبل لي ضوال، فتزودت لبناً في إداوة، قال ثم قلت في نفسي: ما أنصفت ربي فأين الوضوء؟ قال: فهرقت اللبن وملآتها ماء، فقلت: هذا وضوء وهذا شراب، قال فكنت أبغي إبلي فإذا أردت أن أتوضأ اصطببت من الإداوة ماءً فتوضأت، وإذا أردت أن أشرب اصطببت لبناً فشربته، فمكثت بذلك ثلاثاً فقالت له أسماء النجرانية: يا أبا كعب أحقيناً كان أم حليباً، فقال: إنك لظالمة، كان يعصم من الجوع ويروي من الظمأ، أما إني حدثت بهذا نفراً من قومي منهم علي بن الحارث سيد بني قنان فقال: ما أظن الذي تقول كأن تقول، قال قلت: الله أعلم بذلك، قال فرجعت إلى منزلي فبت ليلتي تلك، قال: فإذا أنا به صلاة الصبح على بابي فخرجت إليه، قال فقلت: يرحمك الله لم تعنيت إلي؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ قال: لا ، فإني أحق بذلك أن آتيك، ما نمت الليلة إلا أتاني آتٍ فقال: أنت الذي يكذب من يحدث بأنعم الله؟! موقف المتكلمين من الكرامات
قال القاضي: قد أنكر جماعة من المتكلمين أن يظهر الله تعالى من آياته ما يخرج عن عادات الناس على مرور الزمان وكرور الأيام إلا لنبي، علماً له شاهداً بصدقه ودليلاً على صحة نبوته، أو في زمان نبي ونفوا جواز هذا وأن يؤيد به أحد من الآدميين ليس بني وأن كان على غاية الصلاح في دينه، والطهارة في نفسه وقوة يقينه، وجمهور المعتزلة من أشد الناس دفعاً له وتكذيباً لمن حكى شيئاً منه، وقد كان أبو بكر ابن الإخشيد يجيز هذا إذا جرى على يد من ليس بنبي إذ أيد به على وجه يرجع إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم والشهادة بصحة رسالته وأبو بكر من أماثل المعتزلة في علمه وبيانه ونظره وتدينه. ورأيت بعض من شاهدناه من نظاري المعتزلة وذوي التدين منهم يجيز إظهار مثل ذلك، هذا للصالحين وعلى أيدي الأبرار المخلصين، وفي ذكر ما يحتج به لأهل هذا القول وعليهم وإثبات ما روي فيه من الأخبار المستفيضة المنتشرة وما حكي عمن ظهرت عدالته واشتهر علمه وأمانته طول ليس هذا موضع استقصائه، وليس هذا الباب مما يدفعه عقل ولا نظر ولا سمع ولا خبر.
وقد كان بعض المتكلمين ورواة الأخبار من المتثبتين يجيزون ظهور هذه الحوائج على أيدي الأنبياء والصالحين من أئمتهم وأئمة الدين بعدهم، ويمنع من ظهورها على من يدعي النبوة كاذباً ويتدين ديناً باطلاً، ويذهبون إلى أن في تجويز ذلك إفساد الأدلة والتباس الحجة والتسوية بني ذوي الهدى والضلالة والولاية والعداوة، وأجازوا ظهور هذه الأشياء على يد من يدعي الربوبية على وجه الفتنة وتغليظ الفتنة، كالذي روي من أمر الدجال وأنه يتبعه جنة ونارن وقالوا: ليس في إضلال الناس ولا لبس في دينهم، لأن الأسنان مرسوم بما لا ينفك منه مما يدل على حدثه وأنه مخلوق كائن بعد أن لم يكن، فأما الدجال فإنه مع ما فيه من سمة الحدث التي يشارك فيها سائر الناس مرمي بالعاهة الظاهرة لأعين الناظرين، النافية للشك في أمره عن قلوب العاقلين. وأما النبوة فصدق من يدعيها وكذب من هو مبطل في ادعائها، فإن هذين الفريقين مشتركان من جهة الخلقة والصورة والهيئة الإنسانية.
المجلس الثامن والسبعون
حديث الرسول عن فتنة الدجالأخبرنا القاضي أبن الفرج المعافى بن زكريا الجريري قال حدثنا عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري قال حدثنا جعفر بن محمد بن الحجاج بن فرقد القطان قال حدثنا إسماعيل يعني ابن رجاء قال حدثنا معقل يعني ابن عبيد الله عن ابن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن أسماء قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حدث أصحابه حديثاً غليظاً حتى فاضت أعين القوم ينتحبون عن فتنة الدجال، ثم قام عنهم فخرج وهم كذلك، فسكبت له وضوءاً في الإناء فدخل ثم خرج فتوضأ ثم رجع إليهم وهم على تلك الحال، والوضوء يقطر منه، فاعتمد على عارضتي الباب ثم قال: مهيم، قالت أسماء: فكنت جاريةً ناهداً جرية على مسألته، فقلت حين لم يجيبوه: مهيم يا رسول الله، خلعت قلوبنا بالأعور الدجال وقد كان حدث القوم في حديثه عن الدجال أنه تنحاز إليه ثمار الأرض وأطعمتها فقلت له: فكيف يا رسول الله يومئذ؟ والله إني لأعجن عجيني ثم ما يأني لي حتى إني لأخشى أن يفتنني، تعني الجوع، قال: لا بأس، لا بأس، إن خرج وأنا حي فأنا حجيجه، وإن يخرج بعدي فالله خليفتي على كل مسلم.
وحدثني أن مما وصفه به أنه قال: ما أشكل عليكم فيه فإنه أسود جعد أعور مكتوب بين عينيه: كافر، يقرأه كل مسلم كاتب أو غير كاتب.
قال القاضي: وقد روي أن التبي صلى الله عليه وسلم ذكر له ما يقال إنه يتبع الدجال من الطعام والشراب ونحوهما، فقال: هو أهون على الله من ذلك.
والأخبار الواردة في أمر الدجال وظهوره ومهلكه كثيرة جداً، ونسأل الله أن يعيذنا من فتنته، ويجيرنا من ضلالته، ويعصمنا من فتنة المحيا والممات برحمته.
إنها حسناء فلا تفركحدثنا أحمد بن إسحاق ابن بهلول قال حدثني أبي قال حدثنا معن بن عيسى قال: سمعت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف بالكعبة فإذا أعرابي طوال على عنقه مثل المهاة البيضاء وهو يقول:
عدت لهذي جملاً ذلولا ... موطأ أتبع السهولا
أعدلها بالكف أن تميلا ... أحذر أن تسقط أو تزولا
أرجو بذاك نائلاً جزيلا
فقال عمر: يا عبد الله، من هذه المرأة التي قد وهبت حجك لها؟ قال: امرأتي، أما والله إنها على ذاك لحمقاء مرغمة، أكول قمامة، لا يبقى لها حامة، ولكنها حسناء فلا تفرك وأم عيالٍ فلا تترك، فقال عمر: فشأنك إذاً بها.
شروح وتعليقاتقال القاضي: قوله: مثل المهاة البيضاء يعني البقرة الوحشية، ويقال للبلورة مهاة، وكأنه قصد بهذا القول البيان عن الصفاء والحسن والضياء. ويقال ما لهذا العيش مهاه أي نور وبهجة، كما قال الشاعر:
وليس لعيشنا هذا مهاه ... وليست دارنا الدنيا بدار
يروى مهاة بتاءٍ في الوصل يوقف عليها بالهاء، لأنها للتأنيث، وهي فعلة مثل حصاة ويروى مهاه على أن الهاء أصلية وهي لام الفعل وزنها فعال مثل سفاه. وقوله: أعدلها بالكف أن تميلا قيل معناه: عن أن تميل، والكوفيون يتأولونه بمعنى لئلا تميل، وقالوا مثل هذا في قوله تعالى: " وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بكم " الأنبياء:31 أنه بمعنى ألا تميد بكم، وقالوا في قوله عز وجل: " يبين الله لكم أن تضلوا النساء: 176 معناه أن لا تضلوا. وأنشدوا في هذا قول الشاعر:
رأينا ما يرى البصراء فيها ... فآلينا عليها أن تباعا
أي أن لا تباع.
وأنكر البصريون هذا وقالوا: المعنى يبين الله لكم كراهية أن تضلوا وحملوا معنى البيت على نحو هذا الوجه.
وقوله: إنها لحمقاء مرغامة إن كانت الرواية هكذا فهو من المراغمة، وهي المشاقة والمخالفة، وإن كان الصحيح من الرواية مرعامة بالعين المبهمة فهو من الرعام وهو المخاط. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: صلوا في مرابض الغنم وامسحوا رعامها فإنها من دواب الجنة. فإن كانت الرواية هكذا فإنه وصفها بالحمق، تقول العرب: أحمق يمتخط بكوعه. ومن قال في الخبر مرغامة بالغين المعجمة فإنه ينبغي أن يقول رغامها بفتح الياء. وقوله: لا تبقى لها حامة أي طائفة تطوف لإفنائها خبز بيتها. وقوله: ولكنها حسناء فلا تفرك زعم أهل العلم باللغة أن العرب تقول: فركت المرأة زوجها تفركه إذا أبغضته، وأنهم يقولون في الرجل إذا أبغض أمرأته: قد صلفت عنده، ولا يقولون فركها. وقد جاء في هذا الخبر حسناء فلا تفرك فإن كان هذا الكلام محفوظاً وكان رواية من يضبط هذا ويوثق بنقله ومعرفته فهو صحيح مستعمل، مسقط لقول من زعم أنه مرفوض مهمل، وإن كانت الرواية غير ثابتةٍ فما ذكره اللغويون الذين عنوا بكلام العرب وميزوا مستعملة من مهمله أولى باتباعهم والأخذ بروايتهم وإثبات ما أثبتوه ونفي ما نفوه وأسقطوه. وقد قيل إن امرأ القيس كان مفركاً أي تبغضه النساء، ويقال امرأة فارك كما قال متمم بن نويرة:
أقول لهندٍ حين لم أرض فعلها ... أهذا دلال العشق أم فعل فارك
ويجمع الفارك فوارك، مثل قاعد وقواعد، وطالق وطوالق، وطاهر وطواهر، كما قال ذو الرمة:
إذا الليل عن نشزٍ تجلى رمينه ... بأبصار أمثال النساء الفوارك
وهذا من الجمع المطرد في العربية سماعاً وقياساً.
أسئلة علي لابنه الحسن
حدثنا بدر بن الهيثم الحضرمي قال حدثنا علي بن المنذر الطريقي قال حدثنا عثمان بن سعيد قال حدثنا عثمان بن سعيد قال حدثنا محمد بن عبدي الله أبو رجاء من أهل تستر قال حدثنا شعبة بن الحجاج الواسطي عن أبي إسحاق الهمداني عن الحارث الأعور أن علياً عليه السلام ساءل ابنه الحسن عليه السلام عن أشياء من أمر المروءة، فقال: يا بني ما السداد؟ قال: يا أبة السداد دفع المنكر بالمعروف، قال: فما الشرف؟ قال: اصطناع العشيرة وحمل الجريرة، قال: فما المروءة؟ قال: العفاف وإصلاح المرء ماله، قال: فما الدقة؟ قال: النظر في اليسير ومنع الحقير، قال: فما اللؤم؟ قال: إحراز المرء نفسه وبذله عرسه من اللؤم، قال: فما السماحة؟ قال: البذل في اليسر والعسر، قال: فما الشح؟ قال: أن ترى ما في يديك شرفاً وما أنفقته تلفاً، قال: فما الإخاء؟ قال: الوفاء في الشدة والرخاء، قال: فما الجبن؟ قال: الجرأة على الصديق والنكول عن العدو، قال: فما الغنيمة؟ قال الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا هي الغنيمة الباردة، قال: فما الحلم؟ قال: كظم الغيظ وملك النفس، قال: فما الغنى؟ قال: رضى النفس بما قسم الله عز وجل لها وإن قل فإنما الغنى غنى النفس، قال: فما الفقر؟ قال: شره النفس في كل شيء، قال: فما المنعة؟ قال: شدة الباس ومنازعة أشد الناس، قال: فما الذل؟ قال الفزع عند المصدوقة، قال: فما الجرأة؟ قال موافقة الأقران، قال: فما الكلفة؟ قال كلامك فيما لا يعنيك، قال: فما المجد؟ قال: إن تعطي في الغرم وأن تعفو عن الجرم، قال: فما العقل؟ قال: حفظ القلب عن كل ما استرعيته، قال: فما الخرق؟ قال: معاداتك لإمامك ورفعك عليه كلامك، قال: فما السناء؟ قال إيتان الجميل وترك القبيح، قال: فما الحزم؟ قال: طول الأناة والرفق بالولاة والاحتراس من الناس بسوء الظن هو الحزم، قال: فما السرو؟ قال: موافقة الإخوان وحفظ الجيران، قال: فما السفه؟ قال: إتباع الدناة ومصاحبة الغواة، قال: فما الغفلة؟ قال: تركك المسجد وطاعتك المفسد، قال: فما الحرمان؟ قال: تركك حظك وقد عرض عليك، قال: فما السيد؟ قال: السيد الأحمق في ماله المتهاون في عرضه، يشتم فلا يجيب المتحرز بأمر عشيرته هو السيد.
علي يروي كلمات للرسولقال ثم قال علي عليه السلام: يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل، ولا وحشة أوحش من العجب، ولا مظاهرة أوثق من المشاروة، ولا عقل كالتدبير، ولا حسب كحسن الخلق، ولا ورع كالكف، ولا عبادة كالتفكر، ولا إيمان كالحياء والصبر. وآفة الحديث الكذب، وآفة العلم النسيان، وآفة الحلم السفه، وآفة العبادة الفترة، وآفة الظرف الصلف، وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الجمال الخيلاء، وآفة الحسب الفخر. يا بني لا تستخفن برجل تراه أبداً، فإن كان أكبر منك فعد أنه أبوك، وإن كان في مثل عمرك فهو أخوك، وإن كان أصغر منك فاحسب أنه ابنك. فهذا ما ساءل علي بن أبي طالب ابنه الحسن عليهما السلام عن أشياء من المروءة وما أجابه الحسن رضي الله عنه.
تعليق القاضيقال القاضي: في هذا الخبر من جوابات الحسن أباه عما ساءله عنه من الحكمة وجزيل الفائدة ما ينتفع به من راعاه وحفظه، ووعاه وعمل به، وأدب نفسه بالعمل عليه، وهذبها بالرجوع إليه، وتتوفر فائدته بالوقوف عنده. وفيما رواه في أضعافه أمير المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم مالا غنى بكل لبيب عليم ومدرهٍ حكيم عن حفظه وتأمله، والمسعود من هدي لتقبله، والمجدود من وفق لامتثاله وتقبله.
المغيرة بن حبناء عند طلحة الطلحاتحدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم قال أخبرنا أبو عبيدة قال: قدم المغيرة بن حبناء أحد بني مالك بن حنظلة على طلحة الطلحات يطلب صلته، فأخرج إليه حجري ياقوت في درجين فقال: أيما أحب إليك عشرة آلاف أو الحجران؟ فقال: ما كنت لأختار الحجارة على الدراهم، فأمر له بعشرة آلاف، ثم قال: أيها الأمير إن نفسي تنازعني إلى أحد الحجرين، فدفعه إليه، فأنشأ يقول:
أرى الناس غاضوا ثم فاضوا ولا أرى ... بني خلفٍ إلا رواء الموارد
إذا نفعوا عادوا لمن ينفعونه ... وكائن ترى من نافع غير عائد
فألقى إليه الحجر الأخر.
أعرابي قاتل اللصوص ونجاحدثنا يزداد بن عبد الرحمن قال قال أبو موسى يعني عيسى بن إسماعيل تينة حدثني الرياشي أن لصوصاً وقعوا على قوم فيهم أعرابي فسلبوهم ثيابهم، وقاتل الأعرابي حتى نجا، فأنشأ يقول:
سائلا سيفي هل رويته ... حين عز الري من هام اللصوص
فر أصحابي وقاتلتهم ... باذلاً نفسي لهم دون القميص
كاد يدعو وينادي بائع ... من يفوز اليوم بالثوب الرخيص
عمر بن هبيرة يلجأ إلى يزيد بن المهلب
ليحمل عنه غرماً
حدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا أبو إسحاق طلحة بن محمد الطلحي النديم قال حدثنا أحمد بن معاوية قال، وقال عبد الله بن الكوفي: أغرم سليمان بن عبد الملك عمر بن هبيرة من غزاته في البحر ألف ألف درهم، فمشى إلى يزيد بن المهلب وقد ولي العراق بعثمان بن حيان المري والقعقاع ابن خالد العبسي والهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي وغيرهم من قيس، فلما انتهوا إلى باب سرادق يزيد أذن لهم الحاجب في دخوله، وأعلمهم أنه يغسل راسه، فلما فرغ خرج في سبنية فألقى نفسه على فرشه ثم قال: ما ألف بينكم؟ فقال عثمان: هذا ابن هبيرة شيخنا وسيدنا، كان الوليد حمل معه مالاً حيث وجهه إلى البحر، فأعطاه جنده، فخرج عليه من غرمه ألف ألف درهم، فقلنا: يزيد سيد أهل اليمن ووزير لسليمان وصاحب العراق ومن قد تحمل أمثالها عمن ليس مثلنا، ووالله لو وسعتها أموال قيس لاحتملناها. ثم تكلم القعقاع فقال: يا ابن المهلب هذا خير ساقه الله إليك، وليس أحد أولى به منك، فافعل به كبعض فعلاتك الأول، فلن يصدك عن قضاء هذا الحق ضيق ولا بخل، وقد أتيناك مع ابن هبيرة فيما حمل، فهب لنا أموالنا واستر في العرب عورتنا. ثم تكلم الهذيل بن زفر فقال: يا ابن المهلب، إني لو وجدت من الممشى إليك بداً لما مشيت إليك، لأن أموالك بالعراق، وإنما أتيتنا خائفاً، ثم أقمت فينا ضيفاً، ثم تخرج من عندنا محروباً. وايم الله لئن تركناك بالشام لنأتينك بالعراق، وما ها هنا أقرب في الحظوة وأوجب للذمام. ثم تكلم ابن خيثمة فقال: إني لا أقول لك يا ابن المهلب ما قال هؤلاء، أخبرني إن أنت عجزت عن احتمال ما على ابن هبيرة فعلى من المعول، لا والله ماعند قيس له فكاك، ولا في أموالهم متسع، ولا عند الخليفة له فرج. ثم تكلم ابن هبيرة فقال: أما أنا فقد قضيت حاجتي رددت أم أنجحت لأنه ليس لي أمامك متقدم ولا خلفك متأخر، وهذه حاجة كانت في نفسي فقضيتها. فضحك يزيد بن المهلب وقال: إن التعذر أخو البخل، ولا أعتذر، فاحتكموا، فقال القعقاع: نصف المال، فقال يزيد: قد فعلت، أرنا يا غلام غداءك، قال: فجيء بالطعام فأنكرنا منه أكثر مما عرفنا، فلما فرغنا أمر بتطييبنا وحملاننا وإجادة الكسوة لنا، قال: ثم خرجنا، حتى إذا مررنا قال ابن هبيرة: أخبروني عما بقي من يحمله بعد ابن المهلب؟ لقد صغر الله أقداركم وأخطاركم، والله ما يدري يزيد ما بين النصف والتمام، وما هما عنده إلا سواء، ارجعوا إليه فكلموه في الباقي، قال: وقد كان يزيد ظن بهم أن سيرجعون إليه في التمام، فقال للحاجب: إذا عادوا فأدخلهم، فلما عادوا أدخلهم، فقال لهم يزيد: إن ندمتم أقلناكم، وإن استقللتم زدناكم، فقال له ابن هبيرة: يا ابن المهلب، إن البعير إذا أوقر أثقلته أذناه وأنا بما بقي مثقل، فقال: قد حملتها عنك، ثم ركب إلى سليمان فقال: يا أمير المؤمنين إنك إنما رشحتني لتبلغ بين وإني لا أضيق عن شيءٍ اتسع له مالك، وما في أيدينا عوارٍ لك تصطنع بها الناس وتبتني بها المكارم، ولولا مكانك ظلعنا بالصغير. ثم قال: إنه أتاني ابن هبيرة في وجوه أصحابه، فقال له سليمان: أمسك أتاك في مال الله عنده، خب ضب، جموع منوع، خدوع هلوع، هيه فصنعت ماذا؟ قال: حملتها عنه، قال: احملها إذاً إلى بيت مال المسلمين، قال: والله ما حملتها خدعةً وأنا حاملها بالغداة، ثم حملها فلما أخبر سليمان بذلك دعا يزيد فلما رآه ضحك وقال: ذكت بك ناري، ووريت بك زنادي، غرمها علي وحمدها لك، قد وفت لي يميني فارجع المال إليك، ففعل.
حين تأتى حماد عجرد في استرداد غلام آبق
حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد قال أخبرنا عمر بن حماد عجرد وكان حماد يكنى به قال: آخر شعرٍ قاله أبي أنا كنا بواسط فأبق له غلام فبلغنا أنه بالكوفة، فوجه أبي في طلبه، فأخبرت أنه عند ابن أخي إسحاق بن الصباح الكندي، وكان على الكوفة، فلم أصل إلى الغلام، فكتبت إلى أبي بخبره وقلت: انظر من يثقل على إسحاق فخذ كتابه يشفع لك عنده، قال: فكتب إلي:
أما كتابك يا بي فإنه ... جزع وليس بحازمٍ من يجزع
انظر وصيتي التي أوصيكها ... فاعمل بها إن كنت مني تسمع
لا تطلبن إلى الأمير شفاعةً ... إن الشفاعة عنده لا تنفع
ولو آن ذلك في الحكومة نافعي ... عند الأمير لكان لي من يشفع
لكنه وكثيرة آلاؤه ... وسماؤه بالغيث ليست تقلع
إن كان يطلب للصنيعة موضعاً ... حسناً فعندي للصنيعة موضع
ما كان إسحاق ليصنع بابنه ... في الحكم إلا مثل ما بك يصنع
فإذا قضى فاقنع فإن قضاءه ... لي إن قضى لي أو علي لمقنع
قال الحسين: فأنشدتها في مسجد الكوفة فتلقفها أهل الكوفة فبلغت إسحاق فأرسل إلي فقال: يا ابن أخير أنت هاهنا مقيم ولم تعلمني؟ وأمر بالغلام فرد علي ووصلني بخمسمائة درهم، فانصرفت إلى أبي فوجدته قد مات.
أقوال منثورة ومنظومة في المشورةحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أبي عن أبي جعفر محمد بن عمران قال يقال: توأم الرأي خير من الفذ ورأي الثلاثة لا ينقض. قال محمد: ويقال نصف عقلك مع أخيك، يعني في المشاروة. قال محمد: ويقال رأي الفذ لا تستغني به الخاصة ولا يصلح للعامة. قال محمد: ويقال ما هلك امرؤ عن مشورةٍ ولا سعد امرؤ باستغناء برأي، وإذا أراد الله أن يهلك عبداً أغناه برايه فكان أول ما يهلكه، قال الله عز وجل: " وشاورهم في الأمر " آل عمران: 159 من غير حاجة منه إليهم ولكن لتبقى سنة، وقال الشاعر:
خليلي ليس الرأي في صدر واحدٍ ... أشيرا علي اليوم ما تريان
وقال الآخر:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضةً ... مكان الخوافي نافع للقوادم
في العجلة والبطءوحدثنا محمد بن القاسم قال حدثني أبي عن أبي جعفر محمد بن عمران قال يقال: بيتوا الرأي يكشف لكم عن محضه. قال ويقال: العجلة تسلب الوقار. قال ويقال في مثلٍ: أسرع تبطئ.
عتبة بن ربيعة يعرض على الرسول
أن يكف عن أمره
حدثنا أبو بكر ابن الأنباري قال حدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا أحمد بن أيوب قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق عن زياد مولى بني هاشم عن محمد بن كعب القرظي قال، قال عتبة بن ربيعة وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم منفرد ناحيةً: أريد أن أقوم إلى محمدٍ فأعرض عليه أموراً ليكف عن أمره هذا فأيها شاء أعطيناه إذا رجع لنا عن هذا، فقالوا له: شأنك أبا الوليد، وكان عتبة سيداً حليماً فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي إنك منا بحيث قد علمت من السطة في النسب والمكان من العشيرة وانك قد أتيت قومك بما لم يأت أحد قومه بمثله: سفهت أحلامنا وكفرت آباءنا وعبت آلهتنا وفرقت كلمتنا، فإن كان هذا لمالٍ بتغيه جمعنا لك أموالنا حتى تكون أيسرنا، وإن كنت تميل إلى الرئاسة رأسناك علينا ولم نقطع أمراً دونك، وإن كان لرئي من الجن بعتادك أعذرنا في الجد والاجتهاد حتى ينصرف عنك فإن الرأي يحمل صاحبه على ما لا يصل معه إلى تركه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت يسمع، فلما سكت عتبة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمع يا أبا الوليد ما أقول: " بسم الله الرحمن الرحيم، حم، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قراناً عربياً لقوم يعلمون، بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون " فصلت:14 ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم آله في القراءة حتى انتهى إلى السجدة، فسجد وسجد معه المسلمون، وعتبة مصغٍ يستمع وقد اعتمد على يديه من وراء ظهره، فلما قطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القراءة قال له: يا أبا الوليد قد سمعت الذي قرأت عليك فأنت وذاك. فانصرف عتبة إلى قريشٍ في ناديها فقالوا: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي مضى به من عندكم. ثم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: والله لقد سمعت من محمدٍ كلاماً ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، فأطيعوني في هذه وأنزلوها بي وخلوا محمداً وشأنه واعتزلوه فو الله ليكونن لما سمعت من قوله نبأ، فإن أصابته العرب كفيتموه بأيدي غيركم، وإن كان ملكاً أو نبياً كنتم أسعد الناس به لأن ملكه ملككم وشرفه شرفكم، فقالوا: هيهات، سحرك محمد يا أبا الوليد، فقال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما شئتم.
الرسول يصف القرآنحدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا محمد وهو ابن سعدان قال حدثنا الحسين بن محمد عن يزيد بن عطاء وحكيم بن نافع عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم. إن هذا القرآن هو حبل الله، النور المبين والشفاء النافع، عصمة من تمسك به نجا، ولا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستثبت ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، فاتلوه فإن الله عز وجل يأجركم على تلاوته بكل حرفٍ عشر حسناتٍ. أما إني لا أقول لكم ألم حرف ولا ألفين أحدكم واضعاً إحدى رجليه يدع أن يقرأ سورة البقرة فإن الشيطان وإن أصفر البيوت صفر من كتاب الله.
علي غير مرتاح لوقوع الناس في الأحاديث
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا إدريس بن عبد الكريم قال حدثنا خلف قال حدثنا منصور بن عطاء، رجل من أصحابنا قال: سمعت حمزة الزيات يحدث عن أبي المختار الطائي عن ابن اخي الحارث عن الحارث قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت علياً عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت علياً عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين، فقال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل الذي ليس بالهزل، من تركه من جبارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن رد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن لما سمعته غير أن قالوا: " إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد " الجن: 1،2 من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، أو قال: من اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور.
من أعطي كل القرآن أوجزءاً منه
حدثنا سليمان بن يحيى بن الوليد المقري أبو أيوب الضبي قال حدثنا محمد بن سوار قال حدثنا عبد الوهاب عن بشر بن نمير عن القاسم مولى خالد بن يزيد عن أبي أمامة الحمصي قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أعطي ثلث القرآن فقد أعطي ثلث النبوة، ومن أعطي ثلثا القرآن فقد أعطي ثلثا النبوة، ومن أعطي القرآن كله فقد أعطي النبوة كلها غير أنه لا يوحى إليه.
ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق فيقرأ آية ويصعد درجه حتى ينجز ما معه من القرآن، ثم يقال له اقبض فيقبض، ثم يقال له اقبض فيقبض، ثم يقال له: أتدري ما في يديك؟ فإذا في يده اليمنى الخلد وفي اليسرى النعيم.
موعظة علي لكميل بن زيادحدثنا محمد بن أحمد المقدمي وحدثنا عبد الله بن عمر بن عبد الرحمن الوراق وحدثنا ابن عائشة قال حدثني أبي عن عمه عن كميل، وحدثني أبي قال حدثنا أحمد بن عبيد قال حدثنا المدائني، والألفاظ في الروايتين مختلطة، قالا، قال كميل بن زياد النخعي: أخذ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بيدي فأخرجني إلى ناحية الجبان، فلما أصحر تنفس ثم قال: يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاةٍ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق غاوٍ، يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق. يا كميل العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم يزكو على الإنفاق والمال تنقصه النفقة. يا كميل محبة العالم دين يدان به، في كسبه العلم لذته في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته، ونفقة المال تزول بزواله، والعلم حاكم والمال محكوم عليه. يا كميل مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر: أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. إن هاهنا لعلماً وأشار إلى صدره لو أصبت له حملة. ثم قال: اللهم بلى أصبته لقناً غير مأمون عليه يستعمل آلة الدين في الدنيا ويستظهر بحجج الله على أوليائه وبنعمه على كتابه، أو منقاداً لجملة الحق لا بصيرة له في إحيائه، يقدح الزيغ في قلبه بأول عارضٍ من شبهة، اللهم لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً بالذات، سلس القياد في الشهوات، ومغرماً بالجمع والادخار، وليسا من رعاة الدين، أقرب شبهاً بهما الأنعام السائمة، وكذلك يموت العلم بموت حملته.
ثم قال اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجةٍ إما ظاهر مشهور وإما خائف مغمور، لئلا تبطل حجج الله وبيناته فيكم، وأين أولئك؟ ألئك الأقلون عدداً، الأعظمون قدراً، بهم يحفظ الله حججه حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين، واستسهلوا ها واستوعر المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأرواحٍ معلقة بالمحل الأعلى. يا كميل، أولئك خلفاء الله في أرضه، الدعاة إلى دينه، هاه وأشوقاً إلى رؤيتهم، أستغفر الله لي ولك.
ما رأيت أقرأ لكتاب الله من عليحدثنا محمد بن الحسين بن زياد قال حدثنا حسني بن الأسود قال حدثنا يحيى بن أدم عن أبي بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: ما رأيت أحداً أقرأ لكتاب الله من علي بن أبي طالب عليه السلام.
علي لم يصب من الفيء إلا قارورةحدثنا أحمد بن محمد الأسدي قال حدثنا عباس بن الفرج الرياشي قال حدثنا أبو عاصم عن معاذ بن العلاء أخي أبي عمرو بن العلاء عن أبيه عن جده قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: ما أصبت من فيئكم إلا هذه القارورة أهداها إلي الدهقان بضم الدال ثم أتى إلى بيت المال فقال خذه وأنشأ يقول:
أفلح من كان له قوصرة ... يأكل منها كل يومٍ مرة
نيرزوا كل يوم
حدثنا إسماعيل بن الحسين القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن السعر التميمي قال: أهدي إلى علي بن أبي طالب فالوذج في جام يوم النوروز فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم النوروز، فقال: نيرزوا كل يوم، بالياء.
شعر لعبد الله بن زياد الحارثيحدثنا أبو بكر ابن دريد قال أنشدني عمي قال أنشدنا ابن عائشة لعبد الله بن زياد الحارثي:
لا يبلغ المجد أقوام وإن كرموا ... حتى يذلوا وان عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرةً ... لا عفو ذلٍ ولكن عفو أحلام
وإن دعا الجار لبوا عند دعوته ... في النائبات بإسراجٍ وإلجام
مستلئمين لهم عند الوغى زجل ... كأن أسيافهم أغرين بالهام
شعر لأعرابيأخبرنا أبو بكر قال أخبرنا أبو حاتم عن العتبي قال سمعت أعرابياً يقول:
إذا كان الهياج سحبت درعي ... وإن كان الرخاء جررت بردي
وأبذل للخليل تلاد مالي ... وإن قل التلاد بذلت جهدي
وأغني في الحروب غناء مثلي ... ولست بموحشٍ إن كنت وحدي
شعر في الدعوة إلى الفضيلةأنشدنا أبو بكر قال أنشدنا السكن قال أنشدنا محمد بن عباد:
إذا عثرة نابت صديقك فاغتنم ... مرمتها فالدهر بالناس قلب
وبادر بمعروف إذا كنت قادراً ... زوال اقتدار أو غنى عنك يعقب
إذا كنت في الأمرين تأتي مخيراً ... فأتقاهما لله أولى وأوجب
وأخر هديت السوء إن كان نازلاً ... ولو ساعةً إن القلوب تقلب
وكف عن السوءات لا تقربنها ... فكل مسيء محسن حين يعتب
فكم فائتٍ في فوته لك خيرة ... وإدراكه لو نلته لك أعطب
وكم مدركٍ أمنيةً كان داؤه ... بإدراكها والغيب عنه محجب
رشونا فقضيت حاجتناحدثنا أبو بكر قال أخبرنا الرياشي قال حدثنا أبو معقل قال سمعت عبد الله بن روبة قال: كانت لنا حاجة إلى السلطان فاستشفعنا إليه فلم يشفعنا فرشونا فقضى حاجتنا فقال رؤبة:
لما رأيت الشفعاء بلدوا ... وسألوا أميرهم فأنكدوا
نامستهم برشوةٍ فأفردوا ... وسهل الله بها ما شددوا
غزل جميل لأبي حيةأنشدنا أبو بكر قال أنشدنا عبد الرحمن عن عمه لأبي حية النميري:
إذا هن ساقطن الأحاديث للفتى ... سقوط حصى المرجان من سلك ناظم
رمين فأنفذن القلوب فلا ترى ... دماً مائراً إلا جرى في الحيازم
وخبرك الواشون أن لا أحبكم ... بلى وستور البيت ذات المحارم
أصد وما الصد الذي تحسبينه ... عزاء بنا إلا ابتلاع العلاقم
حياءً وبقيا أن تشيع نميمة ... بنا وبكم أفٍ لأهل النمائم
أما إنه لو كان غيرك أرقلت ... إليه القنا بالمرهفات اللهاذم
ويروى: أرقلت صعاد القنا بالراعفات الملاغم
ولكن وبيت الله ما طلا مسلماً ... كعز الثنايا واضحات المباسم
وإن دماً لو تعلمين جنيته ... على الحي جاني مثله غير سالم
جمع فأوعى وسئل فأكدى
أخبرنا أبو بكر قال أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: سئل المساحقي عن عبد الله بن الحسن فقال: جمع فأوعى، وسئل فأكدى، وحكم فتعدى.
رأي ابن المسيب في مصارع بني هاشمأخبرنا أبو بكر قال حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: ذكر لسعيد بن المسيب مصارع بني هاشم فقال: إني أظن أن الله جل اسمه أراد أن يطهر بهم بطن الأرض كما عمر بهم ظهروها.
صاحب يجيد تمزيق عرض صاحبهأخبرنا أبو بكر قال أنشدنا أبو حاتم عن أبي عبيدة:
لي صاحب ليس يخلو ... لسانه من جراحي
يجيد تمزيق عرضي ... على طريق المزاح
يجود بخير أو يهم بهأنشدنا أبو بكر قال أنشدنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن يونس:
فتى لا تراه الدهر إلا ونفسه ... تجود بخيرٍ أوتهم بخير
تيه الغنى ومذلة الفقرأنشدنا أبو بكر قال أنشدنا أبو عثمان عن التوزي عن أبي عبيدة عن يونس:
خلقان لا أرضى فعالهما ... تيه الغنى ومذلة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطراً ... وإذا افتقرت فته على الدهر
واصبر فلست بواجدٍ خلقاً ... أدنى إلى فرج من الصبر
أربع ضائعةحدثنا أبو بكر قال سمعت الأصمعي يقول قال بعض الحكماء: لاشيء أضيع من أربع: مودة تمنحها من لا وفاء له، وبلاء تصطنعه عند من لا شكر له، وأدب تؤدب به من لا ينتفع به، وسر تستودعه من لا صيانة له.
قول لسلم الخاسر أحسن ما مدح به معنأخبرنا أبو بكر قال أخبرنا أبو حاتم قال سمعت أبا عبيدة يقول: بلغني أنه قيل لمعن بن زائدة ما أحسن ما مدحت به؟ قال: بقول سلم الخاسر:
أبلغ الفتيان مألكةً ... أن خير الود ما نفعا
إن قرماً من بني مطرٍ ... أتلفت كفاه ما جمعا
كلما عدنا لنائله ... عاد في معروفه جذعا
عدم جواب اللئيم أشد عليه من الشتمأنشدنا أبو بكر ابن الأنباري قال أنشدنا أحمد بن عبيد قال أنشدنا الأصمعي:
وما شيء أحب إلى لئيمٍ ... إذا شتم الكريم من الجواب
متاركة اللئيم بلا جوابٍ ... أشد على اللئيم من السباب
شديد عادة منتزعةوحدثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدثني محمد بن المرزبان قال حدثنا محمد بن عمران الضبي قال: كانت لأبي الأسود الديلي من معاوية ناحية حسنة، فوعده وعداً فأبطأ عليه، فقال له أبو الأسود:
لا يكن برقك برقاً خلباً ... إن خير البرق ما الغيث معه
لا تهني بعد إذ أكرمتني ... فشديد عادة منتزعه
من مشى في حاجة أخيه المسلم
وحدثنا أبو بكر قال حدثنا عبد الله بن ناجية قال حدثنا عبد الله بن عمران العابدي المخزومي بمكة سنتة اثنتين وأربعين ومائتين قال حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مشى في حاجة أخيه المسلم كتب الله له بكل خطوةٍ سبعين حسنةً ومحا عنه سبعين سيئة من حين يخرج فيها، فإن قضيت الحاجة على يده خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وان مات بين ذلك دخل الجنة بغير حساب.
ألم اختار الوحدةوحدثنا أبو بكر قال حدثني أبي عن محمد بن الحسن الجوهري قال: دخلت على أحمد بن صاعد الصوري وهو جالس وحده في مسجده، فقلت له: ما لي أراك وحدك؟ فقال:
قنعت بعلم الله ذخري وواحدي ... بمكنون أسرارٍ تضمنها صدري
فلو جاز ستر السر بيني وبينه ... عن القلب والأحشاء ماعلما سري
النعم مغضوب عليها حدثنا أبو بكر قال حدثني محمد بن المرزبان قال حدثنا عبد الرحمن بن موسى قال حدثنا أبو عاصم أحمد بن يونس قال حدثنا روح بن عبد الرحمن البوشنجي قال سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما أرى النعم إلا مغضوباً عليها، أراها في غير أهلها.
وأنشدني محمد بن المرزبان قال أنشدني أبو عبد الله النهمي لسعيد بن حميد في هذا المعنى:
يا حجة الله في الأرزاق والقسم ... ومحنةً لذوي الأخطار والهمم
تراك أصبحت في نعماء سابغةٍ ... إلا وربك غضبان على النعم
وأنشدنا أبو الحسن ابن البراء:
ليست النعمة عند الله في مثلك نعمة
غضب الله عليها ... فابتلاها بك نقمة
أمرنا رسول الله بسبع ونهانا عن سبعحدثنا أبو بكر قال حدثنا علي بن محمد بن أبي الشوارب القاضي، قال حدثنا أبو الوليد قال حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة قال حدثنا الأشعث بن سليم قال: سمعت معاوية بن سويد بن مقرن يحدث عن البراء قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، وأمرنا بعيادة المريض وتشييع الجنائز وتشميت العاطس وإجابة الداعي ونصرة المظلوم وإبرار القسم وإفشاء السلام؛ ونهانا عن أنية الفضة وخاتم الذهب والميثرة والحرير والديباج والاستبرق والقسي.
تفسيرات لغويةقال اللغويون: التشميت هو الدعاء، يقال له التسميت والتشميت، والتشميت معجمة فيه أعراف وأفصح. من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم أدخل علياً على فاطمة عليهما السلام قال: لا تعجلا حتى آتيكما، فلما أتاهما شمت عليهما وانصرف، يعين دعا لهما. والميثرة: سرج من سروج العجم فيه حديد والاستبرق الغليظ من الديباج والقسي يثاب فيها حرير تعمل في ناحية مصر بقرية يقال لها القس.
أيمن بن خريم لا يقاتل مصلياً
وحدثنا أبو بكر قال، حدثنا محمد بن أحمد المقدمي قال حدثنا أبو حفص الفلاس، قال: أخبرنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن عبد الملك بن مروان قال لأيمن بن خريم بن فاتك: ألا تخرج فتقاتل معنا؟ فقال: إن أبي وعمي شهدا بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمراني أن لا أقاتل رجلاً يصلي، فإن أعطيتني براءةً من النار قاتلت معك، فتركه. وهو الذي يقول:
فلست مقاتلاً رجلاً يصلي ... على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلي وزري ... معاذ الله من سفهٍ وطيش
أأقتل مسلماً في غير جرم ... فليس بنافعي ما عشت عيشي
إلى متى هذا الفراقأنشدنا أبو بكر قال أنشدنا المظفر بن عبد الله رحمة الله عليه:
وقد ضقت ذرعاً بشق الإزار ... غداة الرحيل وبل الخمار
كأن الدموع على خدها ... بقية طلٍ على جلنار
تلبية لأبي نواسحدثنا أبو بكر قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الله بن عمر قال حدثنا سعيد بن اليمان قال حدثنا ابن صفوان قال: لما حج أبو نواس لبى فقال:
إلهنا ما أعدلك ... مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك ... لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك ... ما خاب عبد سألك
أنت له حيث سلك ... لولاك يا رب هلك
لبيك إن الحمد لك ... والملك لا شريك لك
والليل لما أن حلك ... والسابحات في الفلك
على مجاري المنسلك ... لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك ... كل نبيٍ وملك
وكل من أهل لك ... سبح أوصلى فلك
لبيك إن الحمد لك ... والملك لا شريك لك
يا مخطئاً ماأغفلك ... عجل وبادر أجلك
وأختم بخيرٍ عملك ... لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
في القوت غنىوأنشدني أبي رحمه الله: ليس بذل الوجوه في طلب الفضل عن القوت من فعال الكرام
فإذا ما أنالك الله قوتاً ... من حلالٍ فأنت أغنى الأنام
جود حاتمأنشدني أبو بكر قال أنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي لحاتم بن عبد الله:
سلي البائس المقرور يا أم مالكٍ ... إذا ما أتاني بين ناري ومجزري
أأبسط وجهي أنه أول القرى ... وأبذل معروفي له دون منكري
إن الحديث طرف من القرىوأنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
إنك يا ابن جعفر نعم الفتى ... ونعم مأوى طارقٍ إذا أتى
فرب ضيف طرق الحي سرى ... صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى
إن الحديث طرف من القرى ... ثم اللحاف بعد ذاك في الذرى
شريك يتلقى الخيزران
حدثنا أبو بكر قال حدثني أبي قال حدثنا أبو عكرمة الضبي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ عن أبي سفيان الحميري، قال: وحدثني محمد بن المرزبان قال حدثنا أبو بكر العامري قال حدثنا سليمان بن معصوم قال حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم والألفاظ في الروايتين مختلطة، قالا: حجت الخيزران أم موسى وهارون فخرج شريك يتلقاها وحمل معه خبزاً، فأبطأت فأقام ثلاثاً ينتظرها فيبس خبزه فجعل يبله بالماء ويأكله، فهجاه ابن عبدل قال أبو بكر: كذا في رواية أبي، وفي رواية ابن المرزبان فهجاه أبو المنهال العلاء الغنوي فقال:
فإن يكن الذي حدثت حقاً ... بأن قد أكرهوك على القضاء
فمالك حين تخرج كل يومٍ ... تلقى من يحج من النساء
وسودت القميص وصرت فيه ... تطوف يا شريك مع الإماء
مقيماً في قرى شاهي ثلاثاً ... بلا زادٍ سوى كسرٍ وماء
يزيد الناس خيراً كل يومٍ ... وترجع يا شريك إلى وراء
المودة أقرب الأنسابوأنشدنا أبو بكر قال أنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
ولقد سبرت الناس ثم خبرتهم ... وعلمت ما عرفوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة أقرب الأنساب
أرقني أن لا ضجيع ألا عبهحدثنا أبو بكر قال حدثني أبي قال حدثنا حميد بن الربيع الخزاز قال حدثني يونس بن بكير الشيباني قال حدثني أبو إسحاق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما زلنا نسمع حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا إنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة، وكان يفعل ذلك كثيراً، إذ مر بأمرأةٍ من نساء العرب مغلقة عليها بابها وهي تقول:
تطاول هذا الليل تسري كواكبه ... وأرقني أن لا ضجيع ألاعبه
ألا عبه طوراً وطوراً كأنما ... بدا قمر في ظلمة الليل حاجبه
يسر به من كان يلهو بقربه ... لطيف الحشا لا تجتويه صواحبه
فو الله لولا الله لا شيء غيره ... لنقض من هذا السرير جوانبه
ولكنني أخشى رقيباً موكلاً ... بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه
ثم تنفست الصعداء، وقالت: لهان على عمر بن الخطاب وحشتي وغيبة زوجي عني، وعمر واقف يستمع قولها، فقال لها: يرحمك الله يرحمك الله، ثم وجه إليها بكسوة ونفقة، وكتب في أن يقدم زوجها عليها.
وصايا أخلاقيةأنشدنا أبو بكر قال أنشدني أبي رحمه الله:
اسلك من الط... المناهج ... واصبر وإن حملت لا عج
انبذ همومك لا تضق ... ذرعاً بها فلها مفارج
راقض الحوائح ما استطعت وكن لهم أخيك فارج
فلخير أيام الفتى ... يوم قضى فيه الحوائج
وأنشدني ...رحمه الله:
ليس في كل ساعةٍ وأوان ... تتهيا صنائع الاحسان
فإذا أمكنت فبادر إليها حذراً من تعذر الإمكان
وأنشدني أبي رحمه الله:
وإني ليثنيني عن الجهل والخنا ... وعن شتم أقوام خلائق أربع
حياء وإسلام وتقوى وأنني ... كريم ومثلي قد يضر وينفع
تفسير ابن عمر لآية النوروحدثنا أبو بكر قال حدثني أبي قال حدثنا أبو علي العنبري قال حدثني علي بن ثابت الجزري عن الوازع بن نافع العقيلي عن سالم عن ابن عمر في قول الله عز وجل: " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاةٍ فيها مصباح النور: 35 قال: المشكاة: جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والمصباح: النور الذي في قلبه، والزجاجة قلبه " يوقد من شجرةٍ مباركةٍ " النور: 35 الشجرة إبراهيم عليه السلام " لا شرقية ولا غربيةٍ النور: 35 لا يهودي ولا نصراني، ثم قرأ: " ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين " آل عمران: 67.
مصير عبدة زوج هشام
حدثنا أبو بكر قال حدثني أبي قال حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الربعي قال حدثنا عياش بن عبد الواحد قال حدثني ابن عائشة قال حدثني أبي قال: كانت عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية عند هشام بن عبد الملك، وكانت من أجمل النساء، فدخل عليها يوماً وعليها ثياب سود رقاق من هذه التي يلبسها النصارى يوم عيدهم، فملأته سروراً حين نظر إليها ثم تأملها فقطب، فقالت: مالك يا أمير المؤمنين، أكرهت هذه، ألبس غيرها؟ قال: لا، ولكن، رأيت هذه الشامة التي على كشحك من فوق الثياب، وبك يذبح النساء وكانت بها الشامة في ذلك الموضع أما إنهم سينزلونك عن بغلةٍ شهباء يعني بني العباس وردةٍ، ثم يذبحونك ذبحاً قال وقوله يذبح بك النساء يعني إذا كانت دولة لأهلك ذبحوا بك من نساء القوم الذين ذبحوك فأخذها عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس فكان معها من الجوهر مالا يدرى ما هو، ومعها درع يواقيت وجوهر منسوج بالذهب، فأخذ ما كان معها وخلى سبيلها، فقالت في الظلمة: أي دابةٍ تحتي؟ قيل لها دهماء، لظلمة الليل، فقالت: نجوت، قال: فأقبلوا على عبد الله بن علي فقالوا: ما صنعت؟ أدنى ما يكون يبعث أبو جعفر إليها فتخبره بما أخذت منها فيأخذه منك.
اقتلها. فبعث في أثرها، وأضاء الصبح فإذا تحتها بغلة شهباء، وردة، فلحقها الرسول فقالت: مه، قال: أمرنا بقتلك، قالت: هذا أهون علي، فنزلت فشدت درعها من تحت قدميها وكميها على أطراف أصابعها وخمارها فما رئي من جسدها شيء، والذي لحقها مولى لآل العباس، قال ابن عائشة: فرأيت من يدخل دورنا يطلب اليواقيت للمهدي ليتم به تلك الدروع التي أخذت منها، وإنما كانت بدنا يغطي المرأة إذا قعدت.
من أفاعيل الزنج بالبصرةقال الحسن بن عبد الرحمن: ولما دخل الزنج البصرة فيما أخبرني مشايخنا لا يختلفون دخلوا دار جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس فجاءوا إلى بنته آمنة وهي عجوز كبيرة قد بلغت تسعين سنة، فلما رأتهم قالت: اذهبوا بي إليه فإنه ابن خال جدتي أم الحسين بنت جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي، قالوا: بل أمرنا بقتلك فقتلوها.
ابن الزبير ينشد معاوية ثلاث أبياتحدثني أبي قال حدثني أبو أحمد العباس قال أخبرنا عمر بن محمد أبو حفص قال حدثنا عبد الله بن خبيق قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله قال قال معاوية لعبد الله بن الزبير: أنشدني ثلاثة أبيات غريبة، قال: أنشدكها بثلاثين ألفاً تدفعها إلي، قال: حتى تنشد وأسمع، قال: فأنا أقول وتسمع وأنت الحكم، فأنشده أبيات الأفوه الأودي:
بلوت الناس قرناً بعد قرن ... فلم أر غير ختال وقال
ولم أر في الخطوب أشد ضراً ... وأضنى من معاداة الرجال
وذقت مرارة الأشياء طراً ... فما شيء أمر من السؤال
قال: فحكم له ودفع إليه ثلاثين ألفاً.
أحبوا العرب لثلاثحدثنا أبو بكر قال حدثنا أبو حصين قاضي الكوفة قال حدثنا العلاء بن عمرو الحنفي قال حدثنا يحيى بن يزيد عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي.
بلسان سؤول وقلب عقولوحدثنا أبو بكر قال حدثني أبو عيسى الختلي قال حدثنا أبو يعلى الساجي قال حدثنا الأصمعي عن عبد الحميد بن الحسن الهلالي عن مغيرة عن الشعبي قال: قيل لابن عباس: أين أصبت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول.
مقطعات في العتابوأنشدنا أبو بكر قال أنشدني أبي رحمه الله عليه:
أعاتب ذا المروءة من صديقي ... إذا ما رابني منه اجتناب
إذا ذهب العتاب فليس ود ... يبقى الود ما بقي العتاب
وأنشدني أبي:
أعاتب من أبقي على حفظ وده ... ولا قدر عندي للذي لا أعاتبه
وأنشدني أبي:
إن بعض العتاب يدني من ... العتب ويؤذي به المحب الحبيبا
وإذا ما القلوب لم تضمر الود ... د فلن يعطف العتاب القلوبا
المجلس التاسع والسبعون
أنفق ولا تخشى من ذي العرش إقلالا
حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا بن يحيى إملاء من لفظه في يوم الاثنين الثاني من شهر رمضان سنة تسع وتسعين وثلاثمائة قال حدثنا محمد بن أحمد بن صالح الأودي قال حدثنا يوسف بن موسى القطان قال حدثنا رجا بن مرجى قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنيني عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً قال: بذلك أمرت.
قال القاضي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً.
وقد قال الله عز وجل: " وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه هو خير الرازقين " سبأ39.
أعرابية قسرية عند خالد القسريحدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم قال أخبرنا الأصمعي قال: ذكروا أن خالد بن عبد الله القسري لما أحكم جسر دجلة واستقام له نهر المبارك أفشى عطايا كثيرة وأذن للناس إذناً عاماً، فدخلت عليه أعرابية قسرية فأنشأت تقول:
إليك يا ابن السادة الأماجد
يعمد في الحاجات كل عامدٍ
فالناس بين صادرٍ ووارد
مثل حجيج البيت نحو خالد
وأنت يا خالد خير والد
أصبحت عند الله بالمحامد
مجدك قبل الشمخ الرواكد
ليس طريف المجد مثل التالد
قال: فقال لها خالد: حاجتك كائنةً ما كانت، فقالت: أصلح الله الأمير، أناخ علينا الدهر بجرانه، وعضنا بأنيابه، فما ترك لنا صافناً ولا ماهناً، فكنت المنتجع وإليك المفزع، قال فقال لها خالد: هذه حاجة لك دوننا فقالت: والله لئن كان لي نفعها إن لك لأجرها وذخرها، مع أن أهل الجود لو لم يجدوا من يقبل العطاء لم يوصفوا بالسخاء، قال لها خالد: أحسنت فهل لك من زوج؟ فقالت: لا، وما كنت لأتزوج دعياً، وإن كان موسراً غنياً، وما كنت أشتري عاراُ يبقى بمالٍ يفنى، وإني بجزيل مال الأمير لغنية، قال الأصمعي: فأمر لها بعشرة ألاف درهم.
شرح الغريبقال القاضي: أما قولها فما ترك لنا صافناً ولا ما هناً: الصافن من الخيل فيما ذكر أبو عبيدة الذي يجمع بين يديه وبين طرف سنبك إحدى رجليه، والسنبك مقدم الحافر. قال وقال بعض العرب: بل الصافن الذي يجمع بين يديه، والذي يرفع طرف سنبك رجليه فهو مخيم، يقال أخام برجله.
وقال الفراء: الصافنات فيما ذكر الكلبي بإسناده: القائمة على ثلاث، وقد أناخت الأخرى على طرف الحافر من يدٍ أو رجلٍ، وهي في قراءة عبد الله " صوافن فإذا وجبت " الحج:36 يريد معقولةً على ثلاث، وقد رأيت العرب تجعل الصافن القائم على ثلاث أو غير ثلاث، وأشعارهم تدل على أنه القائم خاصة، والله أعلم بصوابه.
وقد روي عن ابن عمر أنه قال لرجل يريد نحر ناقته: انحرها معقولة اليمنى أو اليسرى قائمةً على ثلاث، سنة محمد صلى الله عليه وسلم، أو نحو هذا القول. وقد قرئ: " فاذكروا اسم الله عليها صوافن " الحج:36 على ما تقدم من الحكاية عن ابن مسعود وصوافي بمعنى خالصة لله عز وجل من الصفاء والخلوص، فأما قراءة الجمهور الأعم والسواد الأعظم فإنه صواف على جمع الصافة وهي المصطفة، ورسم مصاحف المسلمين شاهد لهذه القراءة بالصحة مع استفاضة النقل لها في الأمة، وقد قال عمرو بن كلثوم في معنى هذه اللفظة:
تركنا الخيل عاكفةً عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
وأما قولها: ولا ما هناً فإنها تعني ولا خادماً، ومن الماهن قول الشاعر:
وهزئن مني أن رأين مويهناً ... تبدو عليه شتامة المملوك
المويهن: تصغير ماهن، والخويدم تصغير خادم، والشتامة القبح والكلوح، يقال: وجه شتيم أي باس قبيح، ومن هذا الشتم والشتيمة في القول معناه قبحه وقذعه، والمشاتمة المسابة وهما من هجر القول وفحشه.
وقال بعض اللغويين: لا يقال عضنا الدهر وإنما يقال عظنا بالظاء، والمعروف فيه الضاد.
أعز شيئين درهم حلال وأخ في اللهحدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي قال: حدثنا محمد بن عيسى الواسطي قال: حدثنا ابن عائشة عن حزم بن أبي حزم قال: كان يونس بن عبيد يمر بنا في بني لاحق فيقول: ما أعرف اليوم شيئاً أعز من شيئين: درهم حلال وأخ في الله عز وجل. وأنشدنا إبراهيم قال أنشدنا أحمد بن يحيى:
خير إخوانك المشارك في المر ... وأين الشريك في المر أينا
لا يني شاهداً يسرك بالبش؟ ... ر وإن غبت كان أذناً وعينا
مثل سر العقيان إن مسه النا ... رجلاه التلام فازداد زينا
تفسير بعض الألفاظ ويروى: أخلصه القين وهو الحداد، العقيان من أسماء الذهب. وسره أخلصه وأشرفه، وسر كل شيء جيده ومختاره،والتلام هو الذي يجلى به، يقال له المدوس، وقيل: هو التلام يريد التلامذه والتلاميذ مثل الأساورة والأساوير وقيل إنها في قراءة عبد الله أساوير من ذهب وقال: التلام بالحذف دون التمام كما قال الشاعر:
عفت المنا بمتالعٍ فأبان
يريد المنازل فحذف اكتفاءً بدلالة ما بقي من الكلام وأقام وزن شعره مستغنياً فيه عن التمام
حكاية غريبة عن
توسط عمر بن عبد العزيز لدى يزيد بن المهلبحدثنا أبو النضر العقيلي قال: حدثنا أبو إسحاق الطلحي قال: أخبرنا أحمد بن معاوية قال: وقال ابن الكوفي وكان بشر بن مروان قد ادخر وهو على العراق عن ابنه عبد الملك وعن عيينة بن أسماء من غلات أراضيهم مالاً عظيماً، فلما ولي الحجاج أخرج تلك البقايا فوجد ما على عبد الملك وعيينة بن أسماء فقال: وما على بشرٍ أن يهب من مال الله تعالى لابنه وختنه هذا وأكثر منه، والله لآخذنهما به أخذ الضب ولده، وطالبهما فريثاه حتى هلك فلحقا بالشام فنزلا على عمر بن عبد العزيز فقالا له: إن بشراً كان أطعمنا شيئاً كثيراً من غلاتنا فبسطنا فيه أيدينا، وان الحجاج بسفهه وخرقه وظلمه أخرج علينا ثم أخذنا به، فلم نزل نخدعه عن أنفسنا حتى هلك، فكلم أمير المؤمنين في هبة ذلك لنا، فضحك عمر وقال: لست أثق لكما بكلامي، ولكن لكما عندي رأي فيه نجاح طلبتكما، قالا: فادللنا عليه، قال: نمشي إلى يزيد بن المهلب فإما أن يحملها من ماله، وإما أن يعيننا على سليمان فيهبها لكما، ولا والله ما كنت لأمشي إلى عربيٍ على الأرض غيره ليس من ولد مروان. ثم أتوا يزيد فقال له عمر: إن اأتيناك زواراً وهذان من قد عرفت، فلا تنظرن إلى جرم أبو يهما عند أبيك، فضحك يزيد وقال: عفا الله عنك يا أبا حفص، أرجع في ذنبٍ قد غفره أبي قبلي؟! والله ما عجز عن مكافأتهما في حياته ولا أوصاني بالثأر من بعده، فإنهما لأخواي وصاحباي، هاتوا حاجتكم، فقال عمر: إن الحجاج أخرج عليهما مما كان بشر ترك لهما من غلاتهما ألف ألف وخمسمائة ألف فما ترى؟ قال: رأيكم فاحتكموا، قال: تحمل منها ما شئت قال: علي نصفها، والمطلب إلى أمير المؤمنين في بقيتها، فإن حمله عني وإلا حملته، فقال عبد الملك بن بشر: والله ما ظلم الناس أن زعموا أنك سيدهم. ثم خرجوا وعمر يقول: ما رأينا مثل هذا العراقي في وطأته فعل قبلها مثلها، ثم حمل عن القيسيين وعن يزيد بن عاتكة، وهذه ألف ألف وخمسمائة ألف. ثم ركب يزيد إلى سليمان فدخل عليه وعنده جماعة من وجوه أهل اليمن فقام فقال: يا أمير المؤمنين، فقال له سليمان: أمسك، وأبيك إنك لقادر على خلواتي، اجلس، فقال يزيد: ما قمت لأجلس فأذن لي في الكلام، فقال: هات، فأخبره بمجيء عمر إليه وقال: قد حملت النصف وضمنت عليك الباقين والله يا أمير المؤمنين إن مقامي بالشام لمن تمام نعمة الله علي بأمير المؤمنين، إنه لم يعمد إلي أحد في حاجة إلا قضاها الله بك يا أمير المؤمنين على يدي، فقال سليمان: قد وهبنا ذلك كله لك، فلك حمده وعلينا غرمه.
الرشيد يستنشد الكرماني شعراً
في خلوب جارية الرشيدحدثنا الحسين بن القاسم الكواكبي قال: حدثني عمي أبو عبد الله أحمد بن فراس السامي قال حدثنا الجهم بن بدر قال: قال الكرماني في خلوب جارية الرشيد شعراً، فبلغ الرشيد فوجه إليه وأقعد الرشيد خلوب خلف ستر، ومر الكرماني بالفضل بن الربيع فقال: إن أمير المؤمنين قد وجه إلي فأنشده إن استنشدني؟ قال؛ نعم، بعد الأمان. فلما دخل قال له الرشيد: أأنت الكرماني؟ قال: نعم، قال: أنشدني، قال في الزهد؟ قال: لست هناك، قال: ففي المديح؟ قال: ولا، قال: فما أنشدك يا أمير المؤمنين؟ قال: شعرك في خلوب، قال: بعد الأمان يا أمير المؤمنين قال: نعم، فأنشده قوله فيها حتى بلغ:
لو لم أذقها طاب لي حبها ... لكنني ذقت فلا ذقت
فخرجت خلوب من وراء الستر فقالت: والله يا أمير المؤمنين ما ذقته ولا ذاقني، ولا رأيته ولا رآني، وقد أقر بالزنا فحده، قال: يا خلوب قد أعطيناه الأمان، قالت: لا أمان في حدٍ من حدود الله عز وجل، قال: قد سمعت يا كرماني، قال: يا أمير المؤمنين قال الله عز وجل: " والشعراء يتبعهم الغاوون " الشعراء:224 إلى قوله: " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " الشعراء:226 قال: صدقت، وأمر له بثلاثين ألف درهم.
طريقة الشعراءقال القاضين: ومن الموجود في طريقة الشعراء أنهم يقولون مالا يفعلون، ويصفون من يمدحونه أو يهجونه بما ليس فيه وبما لا علم لهم به، وقد قال في هذا عمران بن حطان للفرزدق:
أيها المادح العباد ليعطى ... إن لله ما بأيدي العباد
فسل الله ما طلبت إليهم ... وارج فضل المهيمن العواد
ولا تقل في الجواد ما ليس فيه ... وتسم البخيل باسم الجواد
وأنشدني عن ابن الرومي:
يقولون مالا يفعلون مسبة ... من الله مسبوب بها الشعراء
وما ذاك فيهم وحده بل زيادة ... يقولون ما لا يفعل الأمراء
ونظير خبر الكرماني مع الرشيد ما روي أن الفرزدق أنشد عبد الملك:
فبتن جنابتي مصرعاتٍ ... وبت أفض أغلاق الختام
فقال له: قد أقررت بما أوجب علي أن أقيم عليك الحد، فقال: يا أمير المؤمنين يمنعك من ذلك آية من كتاب الله عز وجل، فقال: وما هي؟ قال: قوله عز وجل: " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " الشعراء: 226.
هشام يستدعي حماداً الراوية ليسمع منه شعراً
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أبو الحسن بن البراء قال حدثني حميد بن محمد الكوفي قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله القرشي قال حدثني محمد بن أنس صاحب شعر الكميت قال: حماد الراوية: كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك وكان هشام يقليني على ذلك، فلما ولي هشام مكثت سنةً لا أخرج، فلما لم أذكر خرجت فصليت الجمعة وجلست على باب الفيل، وهو باب مسجد الكوفة، فإذا شرطيان قد وقفا علي فقالا لي: يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر، فقلت: من هذا كنت أحذر، ثم قلت لهما: هل لكما أن تدعاني آتي أهلي فأودعهم وداع من لا يرجع إليهم أبداً ثم أصير إليه معكما؟ قالا: ما إلى ذلك سبيل، فاستسلمت في أيديهما ودخلت على يوسف بن عمر في الإيوان الأحمر، فسلمت فرد علي السلام فطابت نفسي برده علي السلام، ثم رمى إلي بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر، إذا أتاك كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به غير مروعٍ ولا متعتعٍ، وادفع إليه خمسمائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرةً ليلةً إلى دمشق، فأخذت الخمسمائة الدينار ونظرت فإذا جمل مرحول فوضعت رجلي في الغرز وسرت احدى عشرة ليلةً، فلما كان اليوم الثاني عشر وافيت باب هشام فاستأذنت فأذن لي، فدخلت عليه في دار قوراء مفروشةٍ بالرخام، بين كل رخامتين قصبة من ذهب، وحيطانها على ذلك العمل، وإذا هشام جالس على طنفسة من خز أحمر وعليه ثياب خزٍ حمر مضمخة بالعنبر؛ فسلمت فاستدناني حتى قبلت رجله وأجلسني، فإذا أنا بجاريتين لم أر مثلهما قبلهما، في أذن كل واحدة منهما حلقة من ذهب فيها جوهرة تتوقد، فقال لي: يا حماد كيف أنت وكيف حالك؟ قلت: بخير يا أمير المؤمنين قال: أتدري لم بعثت إليك؟ قلت: لا، قال بعثت إليك لبيت خطر ببالي لم أدر من قائله، قلت وما هو؟ قال:
فدعت بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
قلت هذا يقوله عدي بن زيد العبادي في قصيدة له، فقال أنشدنيها، فأنشدته:
بكر العاذلون في وضح الصب؟ ... ح يقولون ما له لا يفيق
ويلومون فيك يا ابنه عبد الل؟ ... ه والقلب عندكم موثوق
لست أدري إذ أكثروا العذل عندي ... أعدو يلومني أم صديق
زانها حسنها بفرعٍ عميمٍ ... وأثيث صلت الجبين أنيق
وثنا يا مغلجات عذاب ... لا قصاراً ترى ولاهن روق
فدعت بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
ثم كان المزاج ماء سماء ... ليس ما آجن ولا مطروق
فقال: أحسنت يا حماد، يا جارية اسقيه فسقتني شربةً ذهبت بثلث عقلي، ثم قال: أعد، فأعدت فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه، ثم قال للأخرى: يا جارية اسقيه، فسقتني شربة ذهب ثلثا عقلي، فقلت: إن سقتني الثالثة افتضحت، ثم قال: سل حوائجك كائنةً ما كانت، قلت: إحدى الجاريتين قال: هما لك بما عليهما من حلي وحلل، ثم قال للأولى: اسقيه، فسقتني شربة سقطت فلم أعقل حتى أصبحت، فإذا أنا بالجاريتين عند رأس، وإذا خادم تقدم عشرة خدم مع كل واحد بدرة فقال: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خذ هذه فانتفع بها في شأنك، فأخذتها والجاريتين وانصرفت.
؟تعليقات وتفسيرات قال القاضي: قد رويت قصة هذا الشعر عن حماد أنها كانت مع الوليد بن يزيد وفيها ما ليس في هذا الخبر، وفي هذا الخبر ما ليس فيها، وجائز أن تكون القصتان جرتا في وقتين فيكونا غير متنافيتين وقد أثبتنا القصة الأخرى في بعض مجالس كتابنا هذا والله أعلم بصواب ذلك.
وقول عدي بن زيد في هذا الشعر يصف ثنايا هذه المرأة: ولا هن روق الروق الطوال، يقال ناب أروق وثنية روقاء والجمع روق مثل أحمر وحمراء وحمر، قال الأعشى:
وإذا ما الأكس شبه بالأر ... وق يوم الهيجا وقل البصاق
يقال ناب أكس وثنية كساء، إذا كانا قصيرين، وإنما وصف الحرب بالشدة وان ريق المحارب قد شبهت اسنانه على كسسها بالروق لتجردها وقلة البصاق فيها.
؟
النوشجاني يتغاضى للمأمون فلا يرضيه ذلكحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الحسين بن يحيى الكاتب قال حدثني من سمع قحطبة بن حميد بن قحطبة يقول: حضرت المأمون يناظر محمد بن القاسم النوشجاني في شيء ومحمد يغضي له ويصدقه فقال له المأمون: أراك تنقاد لي إلى ما تظن أنه يسرني قبل وجوب الحجة عليك ولو شئت أن أقتسر الأمور بفضل بيانٍ وطول لسان وأبهة الخلافة وسطوة الرياسة لصدقت وان كنت كاذباً، وصوبت وان كنت مخطئاً، وعدلت وإن كنت جائراً، ولكني لا أرضى إلا بإزالة الشبهة وغلبة الحجة، وإن شر الملوك عقلاً وأسخفهم رأياً من رضي بقولهم صدق الأمير.
لا بأس أن يكون الخال أشرف من العمحدثنا يزداد بن عبد الرحمن قال: حدثنا أبو موسى يعني تينة قال حدثنا القحذمي قال: تزوج قيس بن معد يكرب بنت الحارث بن عمرو من بني آكل المرار فولدت له الأشعث بن قيس ففال أبو هانئ الكندي:
بنات الحارث الملك بن عمروٍ ... تخيرها فتنكح في ذراها
لها الويلات إذا أنكحتموها ... الا طعنت بمديتها حشاها
وقد نبئتها ولدت غلاماً ... فلا عاش الغلام ولا هناها
فأجابه أبو قساس الكندي:
ألا أبلغ لديك أبا هني ... ألا تنهى لسانك عن رداها
فقد طالبت هنداً قبل قيسٍ ... لتنكحها فلم تك من هواها
فطافت في المناهل تبتغيها ... فلاقت منهلاً عذباً شفاها
شديد الساعدين أخا حروبٍ ... إذا ما سيل منقصة أباها
وما حثت مطيته إليها ... ولا من فوق ذروتها أتاها
قال عيسى قال القحذمي: وآل الأشعث ينشدون هذا الشعر ولا ينكرونه قال: وا لأشراف لا يبالون أن يكون أخوالهم أشرف من أعمامهم.
اللسان في اللغةقال القاضي: قوله في هذا الشعر: ألا تنهى لسانك عن رداها أنث اللسان، وذكر أهل العلم بالعربية أن العرب تذكر اللسان وتؤنثه وقيل من أنثه أراد به اللغة والرسالة كقول الشاعر:
إني أتتني لسان لا أسر بها ... من علو لا صخب فيها ولا سخر
مقولة لعلي في مفهوم القضاء والقدرحدثنا الحسين بن أحمد بن محمد الكلبي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا العباس بن بكار قال حدثنا أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال:
لما قدم علي رضي الله عنه من صفين قام إليه شيخ من أصحابه فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن مسيرنا إلى أهل الشام، بقضاء وقدر؟ فقال علي عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما قطعنا وادياً ولا علونا تلعةً إلا بقضاء وقدرٍ، فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي، فقال علي عليه السلام، ولم؟ بل عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم مصعدون، وفي منحدركم وأنتم منحدرون، وما كنتم في شيء من أموركم مكرهين ولا إليها مضطرين، فقال الشيخ: كيف يا أمير المؤمنين والقضاء والقدر ساقنا إليها؟ قال: ويحك لعلك ظننته قضاء لازماً وقدراً حاتماً، لو كان ذاك لسقط الوعد والوعيد، ولبطل الثواب والعقاب ولا أتت لائمة من الله لمذنب، ولا محمدة من الله لمحسن، ولا كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المذنب، ذلك مقال إخوان عبدة الأوثان وجنود الشيطان وخصماء الرحمن، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها، ولكن الله تعالى أمر بالخير تخييراً، ونهى عن الشر تحذيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يملك تفويضاً، ولا خلق السموات والأرض وما أرى فيهما من عجائب آياتهما باطلاً " ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار " ص: 27.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين فما كان القضاء والقدر الذي كان فيه مسيرنا ومنصرفنا؟ قال: ذلك أمر الله وحكمته. ثم قرأ علي رضي الله عنه " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " الإسراء:23 فقام الشيخ تلقاء وجهه ثم قال:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته ... يوم النشور من الرحمن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً ... جزاك ربك عنا فيه إحسانا
المجلس الثمانون
يا أبا بكر دعها فإن لكل قوم عيداً
أخبرنا المعافى بن زكريا قال: حدثنا أحمد بن محمد بن أبي شيبة قال حدثنا علي بن شعيب قال حدثنا ابن نمير قال حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة أنها كانت عندها جاريتان تغنيان في يوم عيد وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاها، فدخل عليها أبو بكر رضي الله عنه فانتهرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر دعها فإن لكل قومٍ عيداً وهذا عيدنا.
؟؟
الرخصة في الغناء المباحقال القاضي: قد ضمنا هذه المجالس نظائر لهذا الخبر، وذكرنا في غير موضع من كتبنا ما جاء من الرخصة في الغناء المباح وما يستعمل معه من آلات الملاهي كالدف ونحوه، وأن ذلك يختار ويؤمر به في الأعياد والعرسات وما يجري مجراها مما ينبسط عنده المسلمون وينشطون فيه في مجامعهم ومآدبهم. وذكرنا في عدة مواضع ما يكره من ترجيع الغناء و.طيط في تلاوة القرآن وإنشاد العشر، وأوضحنا سقوط من موه على الناس في ذلك وتعلق بسخيف الشبه فيه إرهاصاً لمعيشته وتوطئاً للحطام من مأكلته، وان في وفور السرور واستقامة الأمور بالتصرف فيما أباحه الله عز وجل وأذن فيه لمندوحه عما حظره وزجر عنه وعابه.
ابن ورقاء يحسب الشعر قرآناً
حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبن عثمان عن التوزي عن أبي عبيدة قال: خطب عتاب بن ورقاء الرياحي على المنبر فقال: أقول كما قال الله تعالى في كتابه:
ليس شيء على المنون بباقٍ ... غير وجه المسبح الخلاق
فقيل له: أيها الأمير، هذا قول عدي بن زيد، فقال: فنعم والله ما قال عدي بن زيد.
قال ابن دريد أخبرنا أبو عثمان في عقب هذا الحديث ولم يسنده إلى أحد قال: أتي عتاب بن ورقاء بامرأة من الخوارج فقال لها: يا عدوة الله ما حملك على الخروج علينا؟ أما سمعت الله يقول:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول
فقالت: جهلك بكتاب الله حملني على الخروج عليك وعلى أئمتك يا عدو الله.
كيف سار المثل الخير يبقى والشر أخبث زادحدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أبو الفضل الربعي قال حدثني أبي، وحدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أحمد بن عبيد قال حدثنا محمد بن السائب عن أبيه عن الشرقي بن القطامي وألفاظ الروايتين مختلفة ومعاينهما متقاربة قال، قال الرشيد للمفضل الضبي: أخبرني يا مفضل عن قول العرب:
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
فقال: يا أمير المؤمنين هذا مثل لهم سائر قبل الإسلام، وكان من حديث هذا المثل أن عبيد بن الأبرص الأسدي كان حكيماً من حكماء العرب وشاعراً مجيداً، قتله المنذر بن ماء السماء من أجل الغريين وكان من حديث هذا المثل قبل أن يقتله المنذر بثلاثة أحوال أن ناساً نزلوا عليه فقراهم وأحسن ضيافتهم وكان يقري الضيف ويحسن إلى المنقطع به، فلما أراد القوم الرحيل خرج معهم يشيعهم، فشيعهم حتى أبعدوا ونزلوا في موضع وقال غيره: فلما نزل القوم وعرسوا خرج عبيد وصاحب له يمشيان في الموضع الذي نزل القوم فيه، وسارا حتى أتيا حباً هناك فرأيا شجاعاً عظيماً أقرع يلهث قد أدلع لسانه من العطش، فأخذ صاحب عبيدٍ حجراً وهم أن يشدخه به، فقال له عبيد: ما أنت صانع؟ قال: أقتل هذا الشجاع فإنه عدو، قال عبيد: لا تفعل فإن الأسير قد يجار وإن كان عدواً، ثم استقى من الحب ماءً فسقى الشجاع، فجعل يشرب حتى روي، ثم تسبسب في الرمل فغاب، قال: ورجع عبيد إلى القوم فودعهم ثم رحلوا، ورجع عبيد إلى منزله فأقام حولين، فأتاه بعض الرعاة فخبره ان إبله قد شردت فركب راحلة له وخرج في طلب الإبل، وكان شجاعاً بطلاً، فسار عشر مراحل لا يرى له أثراً ولا يعرف لها خبراً، حتى إذا كان في بعض الليالي وقد كلت راحلته وتعب وأظلم الليل وهبت الرياح فلم ير سهلاً ولا جبلاً نفقت الراحلة، فقال: يا لك من ليلٍ ديجور ومن نفوق راحلةٍ بالليل، وكان الموضع الذي هو فيه يقال له الصادي وهناك ماء، فقال: والله ما أرى إلا الإقامة على هذا الماء والموت، ثم حط رحله عن راحلته وأسند ظهره إليه وطأطأ رأسه إلى الأرض وجمع أثوابه عليه، فإذا هاتف يهتف به من خلفه، يسمع صوته ولا يرى شخصه وهو يقول:
يا أيها الشخص المضل مذهبه ... وليس معه من أنيس يصحيه
دونك هذا البكر خذه فاركبه ... حتى إذا الليل توارى مغربه
بساطع الصبح ولاح كوكبه ... فحط عنه رحله وسبسبه
قال القاضي: ويرويى تواري غيهبه، والغيهب الظلمة. فالتفت وراءه فإذا بكر معقول عليه رحل، فوثب حتى حل عقاله وصار في متنه، فوثب البكر من غير أن يثيره حتى استقام على الطريق يسير به كالبرق الخاطف وكالريح العاصف لا يلوي على شيءٍ ولا يفتر من السير، حتى إذا كان في وجه الصبح ونظر عبيد إلى بياض الحيرة برك البكر فلم يقم، فاستحثه فلم يقم، فقال: إنه لمأمور، وثنى رجله فنزل عنه وولى ناحية فثار البكر يجر بزمامه، فقال عبيد: بكر يسري في ليلةٍ واحدةٍ عشر مراحل لا أسأله ما أنت ولا من الذي أرسلك إلي؟! ثم أدار وجهه إليه وهو يقول:
يا أيها الكبر قد أنجيت من كربٍ ... ومن فيافٍ تضل المدلج الهادي
ألا أنبت لنا بالقول نعرفه ... من الذي جاد بالنعماء في الوادي
اذهب سليماً فقد بلغت مأمننا ... بوركت من ذي سنامٍ حامل حادي
قال: فأجابه البكر وهو يقول:
أنا الشجاع الذي ألفيته رمضاً ... ينازع الماء من ذي المورد الصادي
فجدت بالماء لما ضن حامله ... رويت هامي ولم تولع بإنكادي
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
قال القاضي ويرى: ما أوعبت في الزاد
هذا جزاؤك من لا أمن به ... فسر سليماً وقاك الله من هاد
فقال له الرشيد: أحسنت يا مفضل، يا ربيع أعطه عشرين ألفاً، عشرة آلاف لمعرفته بالمثل وأصله، وعشرة آلاف لحسن روايته له.
قال القاضي: في هذا الخبر نفقت الراحلة وإنما يقال نفق الفرس وتنبل البعير.
ابن الزبير بنشد معاوية ثلاثة أبيات حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قل حدثني أبو أحمد العباس قال أخبرنا عمر بن محمد بن حفص قال حدثنا عبد الله بن خبيق قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله قال قال معاوية لعبد الله بن الزبير: أنشدني ثلاثة أبيات غريبة، قال: أنشدكها بثلاثين ألفاً تدفعها إلي، قال: حتى تنشد فأسمع، قال: فأنا أقول وتسمع وأنت الحكم، فأنشده أبياتاً للأفوه الأودي:
بلوت الناس قرناً بعد قرنٍ ... فلم أر غير ختالٍ وقال
ولم أر في الخطوب أشد شراً ... وأضنى من معاداة الرجال
وذقت مرارة الأشياء طراً ... فما شيء أشد من السؤال
قال: فحكم له ودفع إليه ثلاثين ألفاً.
عمر معجب بمعاويةحدثنا يزداد بن عبد الرحمن قال حدثنا أبو موسى يعني تينة قال حدثنا العتبي قال حدثني أبي قال: خرج عمر يسير في عمله، فلما قرب من دمشق تلقاه معاوية في موكب له رز، وعمر على حمار إلى جنبه عبد الرحمن ابن عوف على حمار آخر، فلم يرهما معاوية وطواهما، فقيل له: خلفت أمير المؤمنين وراءك، فرجع فلما رآه نزل عن دابته فأعرض عنه عمر ومشى حتى علق نفسه بأرنبته، فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين، أجهدت الرجل، فقال عمر: يا معاوية أأنت صاحب الموكب آنفاً مع ما يبلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ فقال معاوية: نعم، فرفع عمر رضي الله عنه صوته فقال: ولم ويلك؟ فقال: إنا في بلاد لا يمتنع فيها من جواسيس العدو، ولا بدلهم مما يرهبهم من آلة السلطان، فإن أمرتني أقمت عليه وإني نهيتني عنه انتهيت، فقال عمر: يا معاوية والله ما بلغني عنك أمر أكرهه فأعاتبك عليه إلا تركنني منه في أضيق من رواجب الفرس، فإن كان ما قلت حقاً إنه لرأي أديب، وإن كان باطلاً إنها لخدعة أريب، لا آمرك به ولا أنهاك عنه، فقال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين لأحسن الفتى المصدر فيما أرودته فيه، فقال عمر رضى الله عنه: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه.
تولية المهلب خراسانحدثنا أبو النضر العقيلي قال حدثنا أبو إسحاق الطلحي قال حدثنا أحمد ابن معاوية قال قال ابن الكوفي: لما قدم المهلب على الحجاج بعد فراغه من أمر الأزارقة وقتالهم، أكرمه الحجاج وشرفه وبلغ له الغاية، قال: فخرج الحجاج يوماً آخذاً بيد المهلب، حتى إذا انتهى إلى المحراب قالم ثم قال: يا أبا سعيد أنا أطول أم أنت؟ فقال: الأمير أطول مني وأنا أشخص منه، فلما انصرف من صلاته أخذ بيده فأدخله معه ثم قال له: سجسنان خير ولاية أم خراسان؟ قال: سجستان قال: وكيف؟ قال: لأنها ثغر كابل وزابلستان، وان خراسان ثغر الترك، قال أيهما أحب إليك أن يليه رجل مثلك؟ قال: إن أمثالي في الناس لكثير وما نحن حيث يرى الناس، قال: سر إلى سجستان، قال: غيري خير لك فيها مني وأنا بخراسان خير لك من غيري، قال: ولم؟ قال: لأن بدء نعمة الله علي بعد الإسلام كان في غزوتي خراسان مع الغفاري، وابن أبي بكرة بسجستان خير لك من لأن أهلها أحبوه لحسن أياديه فيهم وأنا بخراسان خير منه، قال: وما كنت تلي من أمر الغفاري؟ قال: كنت فيمن صحبه فلما نزلنا بيهق ودنونا من عدونا قال الغفاري: هل من فوارس ينظرون لنا أمامنا وإن أصابوا أحداً أتوا به، فانتدب منا مع صاحب شرطته عشرة فوارس فلقينا عدتنا من عدونا، فقال أصحابي: قد عاينا طلائع القوم فانصرفوا، فقلت: وما عليكم أن نشامهم؟ فأبوا وأنصرفوا وتقدمت فقتل الله العشرة على يدي، ثم انصرفت برؤوسهم ودوابهم وأسلابهم معي، وقد كان أصحابي نعوني إلى الغفاري، فلما رآني ضحك وقال:
كبا القوم عند عيان الرهان ... ونال المهلب حظ الفرس
ففاز المهلب بالمكرمات ... وآب عمير بحد التعس
ثم ولاني شرطته وخرج إلي من أمره. فولاه الحجاج خراسان، وكان واليها حتى هلك بها، فقال نهار بن توسعة يرثيه:
لله دركم غداة دفنتم ... سم العداة ونائلاً لا يحظر
إن تدفنوه فإن مثل بلائه ... في المسلمين وذكره لا يقبر
كان المدافع دون بيضة مصره ... والجابر العظم الذي لا يجبر
والكافي الثغر المخوف بحزمه ... وبيمن طائره الذي لا ينكر
أنى لها مثل المهلب بعده ... هيهات هيهات الجناب لأخضر
كل امرئ ولي الرعية بعده ... بدل لعمر أبيك منه أعور
ما ساسنا مثل المهلب سائس ... أعفى عن الذنب الذي لا يغفر
لا لا وأيمن في الحروب نقيبةً ... منه وأعدل في النهاب وأوقر
وأشد في حق العراق شكيمةً ... يخشى بوادرها الأمام الأكبر
جمع المروءة والسياسة التقى ... ومحاسن الأخرق منها أكثر
تجري له الطير الأيامن عمره ... ولو أنه خمسين عاماً يخطر
لما رأى الأمر العظيم وأنه ... سيحل بالمصرين أمر منكر
وأرنت العوذ المطافل حوله ... حذر السباء وزل عنها المئزر
ألقى القناع وسار نحو عصابةٍ ... خزرٍ فذاقوا الموت وهو مشمر
كان المهلب للعراق سكينة ... وولي حادثها الذي يستنكر
أبو الديك المعتوهحدثنا حمزة بن الحسين بن عمر السمسار قال حدثنا العباس بن محمد بن عبد الرحيم الأنصاري قال حدثني أبي قال قال أبو نعيم: أرسل إلي عمران بن إسحاق بن الصباح، وكان كثيراً ما يرسل إلى الفقهاء، وكان أبوه قبله يفعل ذلك، قال: فأتيته فإذا أبو الديك وكان معتوهاً ذاهب العقل مختلاً محتالاً جيد البديهة حسن الجواب على باب عمران بن إسحاق يخاصم ويجلب يختلط ويشير إلى الحائط كأنه يرى شيئاً يخاصمه، وكان ذلك لا يعتريه إلا عند الجوع وكان قد عرف بذلك، وكان علية أهل الكوفة: فقهاؤها وأمراؤها، يأمرون بتفقد ذلك. فدخلت على عمران فلم أجلس حتى قلت له: أيها الأمير، أبو الديك على الباب يخاصم ويخلط ولا أحسبه إلا جائعاً، فإن ذلك يعتريه مع الجوع، فقال عمران: يا غلام، المائدة، بها مهيأة، ثم قال: أبو الديك، فدخل، فلما عاين المائدة ورأى حسنها قال، قال الله تعالى في كتابه يحكي مسألة نبيه " ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا " المائدة: 114 الآية؛ وهذه المائدة لأول أهل الكوفة وآخرهم، والآية معرفة أبي نعيم بما كنت فيه؛ قال أبو نعيم: ثم أقبل علي فقال: يا أبا نعيم هذه فطنة العقلاء وأذهان الفقهاء واختيار العلماء، جزاك الله خيراً. ثم أقبل على عمران فقال: أيها الأمير، قال الله تعالى في كتابه: " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً " الدهر: 8 وأنا مسكين، يتيم من عقلي، أسير في حبس شيطان موكل بي.
فتيان بني عبد مناف وفتيان بني أسد حدثنا محمد بن سهل بن الفضل الكاتب قال حدثنا أبو زيد يعني عمر ابن شبة قال حدثني الوليد بن هشام قال قال معاوية للحارث بن نوفل: أدخل علي فتيان بني عبد مناف، فأدخلهم كأن وجوههم الدنانير، فنظر إليهم فقال: بأبي أنتم:
بنو المجد لم تقعد بهم أمهاتهم ... وآباؤهم آباء صدقٍ فأنجبوا
هم حفظوا غيبي كما كنت حافظاً ... لهم غيب أخرى مثلها لو تغيبوا
فقال عبد الله بن الزبير: يا أمير المؤمنين ألا أدخل عليك فتيان بني أسد قال: فأدخلهم كأن وجوههم الحيات، فقال معاوية:
أكلن حمضاً فالوجوه شيب ... شربن حتى نزح القليب
أبو الدرداء ينظم شعراً
حدثنا أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني محمد بن إسحاق المسيبي قال: سمعت شيخاً يقال له عبد الملك بن عمارة من ولد خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين من الأنصار يحدث أبي أن أبا الدرداء قيل له كل أصحابك قد قال الشعر غيرك، فنكس أو أطرق قليلاً ثم قال:
يريد العبد أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول العبد فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا
فقالوا: لقد أحسنت فزد، فقال: لا، إنما قلت حين قلتم إن أصحابك كلهم قد قالوا، فكرهت أن يعملوا عملاً لا أعمله، وليس الشعر من شأني.
لا تملأوا أعينكم من أئمة الجورحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن علي بن الحسن الخواص العابد قال حدثنا الحسن بن جرير الصوري قال حدثنا محمد بن عمرو العسقلاني قال حدثنا إبراهيم بن أدهم عن أبي عيسى المروزي قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول في إمرة عبد الملك بن مروان: لا تملأوا أعينكم من أئمة الجور ولا من أعوانهم إلا بإنكار بقلوبكم كيلا تحبط أعمالكم الصالحة.
السفاح يعمل بيتين لتخويف بني أميةحدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الحسين بن فهم قال حدثنا ابن النطاح قال: روينا أن السفاح عمل بيتين ووجه برجل إلى عسكر مروان ليقوم على الجبل ليلاً فيصيح بهما وينغمس فلا يوجد، وهما:
يا آل مروان أن الله مهلككم ... ومبدل أمنكم خوفاً وتشريدا
لا عمر الله من أنسالكم أحداً ... وبثكم في بلاد الخوف تطريدا
قال: ففعل ذلك فدخلت قلوبهم مخافة.
وصية علي لشريح
حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري قال حدثنا موسى بن شبيب بشيزر عن يونس بن موسى البصري عن الحسن بن حماد عن الرماح بن المنذر النهدي عن محمد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عليهم السلام أنه قال لشريح: لسانك عبدك مالم تتكلم، فإذا تكلمت فأنت عبده، فانظر ما تقضي وفيم تقضي وكيف تقضي وفيما تمضي وإليه تفضي.
قال القاضي: هذا الذي خاطب به أمير المؤمنين شريحاً من أحسن الكلام، وأشرفه لفظاً ومعنى ومتى تأمله من يلي الأحكام واعتبر به وأجرى أمره عليه فاز ورشد، وافلح وسعد، نسأل الله توفيقه وعصمته برأفته ورحمته.
المجلس الحادي والثمانون
أسئلة أبي ذر للرسول
حدثنا علي بن محمد بن أحمد البصري قال حدثنا الفضل بن جعفر بن همام أبو العباس البصري قال حدثنا عبد الله بن سعيد القيسي قال حدثنا يحيى بن سعيد السعدي قال حدثنا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير الليثي عن أبي ذر قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهو جالس وحده، فاغتنمت خلوته، فقال يا أبا ذر إن للمسجد تحيةً، قلت: ما تحيته يا رسول الله؟ قال: ركعتان، فركعتهما ثم التفت إليه فقلت: يا رسول الله أنت أمرتني بالصلاة فما الصلاة؟ قال: خير موضوع فمن شاء أقل ومن شاء أكثر، قلت: يا رسول لله أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الإيمان بالله ثم الجهاد في سبيل الله، قلت يا رسول الله أي المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: أحسنهم خلقاً، قلت: يا رسول الله فأي المسلمين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده، قلت فأي الهجرة أفضل؟ قال: من هجر السوء، قلت: فأي الليل أفضل؟ قال: جوف الليل العابر، قلت: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، قلت فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد من مقل إلى فقير في سر، قلت: فما الصوم؟ قال: قرض مجزي وعند الله أضعاف كثيرة، قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها، قلت: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده وهريق دمه، قلت: أي آية أنزلها الله عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي. ثم قال: يا أبا ذر، ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقةٍ ملقاةٍ بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة؛ قلت: يا رسول الله، كم النبيون؟ قال: مائة ألف وأربعةٌ وعشرون ألف نبي، قلت: يا رسول الله، كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم الغفير، قلت: من كان أول الأنبياء؟ قال: آدم، قلت: وكان من الأنبياء مرسلاً؟ قال: نعم نبياً مكلماً خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه. ثم قال: يا أبا ذر، أربعةٌ من الأنبياء، سريانيون: آدم وشيث وإدريس وهو أول من خط بالقلم ونوح، وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأول الأنبياء آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأول نبي من أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى صلى الله عليهما، وبينهما ألف نبي، قلت: يا رسول الله كم أنزل الله تعالى من كتاب؟ قال: مائة كتابٍ وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: أمثال كلها: أيها الملك المبتلى المغرور، لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً أن تكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه ويتفكر بما صنع، وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال فإن في هذه الساعة عوناً لتلك الساعات استجماماً للقلوب وتفريغاً لها، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شانه، حافظاً للسانه، فإن من حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا في ما يعنيه. وعلى العاقل أن يكون طالباً لثلاث: مرمة لمعاش، أو تزوداً لمعاد، أو تلذذاً في غير محرم. قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبراً كلها: عجبت لممن أيقن بالموت ثم يفرح، ولمن أيقن بالنار ثم يضحك، ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها، ولمن أيقن بالقدر كيف ينصب، ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل. قلت: يا رسول الله، هل في الدنيا مما أنزل الله عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: يا أبا ذر، تقرأ " قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى " الأعلى: 14 19 قلت: يا رسول الله، أوصني قال: أوصيك بتقوى الله فإنه زين لأمرك كله، قلت: يا رسول الله زدني، قال: عليك بتلاوة القرآن وذكر الله فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض، قلت: زدني، قال: عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك، قلت: زدني، قال: إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه، قلت: زدني، قال: قل الحق، وإن كان مراً، قلت؛ زدني، قال: حب المساكين وجالسهم، قلت: زدني، قال: لا تخف في الله لومة لائم، قلت: زدني، قال: ليحجزك عن الناس ما تعلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...