اللهم استجب

سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني وحق إسمك الأعظم الذي تعلمه ولا أعلمه أسألك أن تَشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً  من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك  وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  //اللهم تقبل/ واستجب//https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

المصحف

 تحميل المصحف

القرآن الكريم وورد word doc icon تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد تحميل سورة العاديات مكتوبة pdf

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 سبتمبر 2022

ج1 وج2.عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعلامة بدر الدين العيني الجزء الأول

 

ج1 عمدة القاري شرح صحيح البخاري
للعلامة بدر الدين العيني
الجزء الأول

عمدة القاري شرح صحيح البخاري
للعلامة بدر الدين العيني
الجزء الأول
عمدة القاري شرح صحيح البخاري
للعلامة بدر الدين العيني
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أوضح وجوه معالم الدين وأفضح وجوه الشك بكشف النقاب عن وجه اليقين بالعلماء المستنبطين الراسخين والفضلاء المحققين الشامخين الذين نزهوا كلام سيد المرسلين مميزين عن زيف المخلطين المدلسين ورفعوا مناره بنصب العلائم وأسندوا عمده بأقوى الدعائم حتى صار مرفوعا بالبناء العالي المشيد وبالأحكام الموثق المدمج المؤكد مسلسلا بسلسة الحفظ والإسناد غير منقطع ولا واه إلى يوم التناد ولا موقوف على غيره من المباني ولا معضل ما فيه من المعاني
( والصلاة ) على من بعث بالدين الصحيح الحسن والحق الصريح السنن الخالي عن العلل القادحة والسالم من الطعن في أدلته الراجحة محمد المستأثر بالخصال الحميدة والمجتبى المختص بالخلال السعيدة وعلى آله وصحبه الكرام مؤيدي الدين ومظهري الإسلام وعلى التابعين بالخير والإحسان وعلى علماء الأمة في كل زمان ما تغرد قمرى على الورد والبان وناح عندليب على نور الأقحوان
( وبعد ) فإن عانى رحمة ربه الغنى أبا محمد محمود بن أحمد العيني عامله ربه ووالديه بلطفه الخفي يقول أن السنة إحدى الحجج القاطعة وأوضح المحجة الساطعة وبها ثبوت أكثر الأحكام وعليها مدار العلماء الأعلام وكيف لا وهي القول والفعل من سيد الأنام في بيان الحلال والحرام الذين عليهما مبني الإسلام فصرف الإعمار في استخراج كنوزها من أهم الأمور وتوجيه الأفكار في استكشاف رموزها من تعمير العمور لها منقبة تجلت عن الحسن والبها ومرتبة جلت بالبهجة والسنا وهي أنوار الهداية ومطالعها ووسائل الدراية وذرائعها وهي من مختارات العلوم عينها ومن متنقدات نقود المعارف فضها وعينها ولولاها لما بان الخطأ عن الصواب ولا تميز الشراب من السراب ولقد تصدت طائفة من السلف الكرام ممن كساهم الله تعالى جلابيب الفهم والأفهام ومكنهم من انتقاد الألفاظ الفصيحة المؤسسة على المعاني الصحيحة وأقدرهم على الحفظ بالحفاظ من المتون والألفاظ إلى جمع سنن من سنن سيد المرسلين هادية إلى طرائق شرائع الدين وتدوين ما تفرق منها في أقطار بلاد المسلمين بتفرق الصحابة والتابعين الحاملين وبذلك حفظت السنن وحفظ لها السنن وسلمت عن زيغ المبتدعين وتحريف الجهلة المدعين فمنهم الحافظ الحفيظ الشهير المميز الناقد البصير الذي شهدت بحفظه العلماء الثقات واعترفت بضبطه المشايخ الأثبات ولم ينكر فضله علماء هذا الشأن ولا تنازع في صحة تنقيده اثنان الإمام الهمام حجة الإسلام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري أسكنه الله تعالى بحابيح جنانه بعفوه الجاري وقد دون في السنة كتابا فاق على أمثاله وتميز على أشكاله ووشحه بجواهر الألفاظ من درر المعاني ورشحه بالتبويبات الغريبة المباني بحيث قد أطبق على قبوله بلا خلاف علماء الأسلاف والأخلاف فلذلك أصبح العلماء الراسخون الذين تلألأ في ظلم الليالي أنوار قرائحهم الوقادة واستنار على صفحات الأيام آثار خواطرهم النقادة قد حكموا بوجوب معرفته وأفرطوا في قريضته ومدحته ثم

(1/2)


تصدى لشرحه جماعة من الفضلاء وطائفة من الأذكياء من السلف النحارير المحققين وممن عاصرناهم من المهرة المدققين فمنهم من أخذ جانب التطويل وشحنه من الأبحاث بما عليه الاعتماد والتعويل ومنهم من لازم الاختصار في البحث عما في المتون ووشحه بجواهر النكات والعيون ومنهم من أخذ جانب التوسط مع سوق الفوائد ورصعه بقلائد الفرائد ولكن الشرح أي الشرح ما يشفي العليل ويبل الأكباد ويروي الغليل حتى يرغب فيه الطلاب ويسرع إلى خطبته الخطاب سيما هذا الكتاب الذي هو بحر يتلاطم أمواجا رأيت الناس يدخلون فيه أفواجا فمن خاض فيه ظفر بكنز لا ينفد أبدا وفاز بجواهره التي لا تحصى عددا وقد كان يختلج في خلدي أن أخوض في هذا البحر العظيم لأفوز من جواهره ولآليه بشيء جسيم ولكني كنت أستهيب من عظمته أن أحول حوله ولا أرى لنفسي قابلية لمقابلتها هوله ثم إني لما رحلت إلى البلاد الشمالية الندية قبل الثمانمائة من الهجرة الأحمدية مستصحبا في أسفاري هذا الكتاب لنشر فضله عند ذوي الألباب ظفرت هناك من بعض مشايخنا بغرائب النوادر وفوائد كاللآلي الزواهر مما يتعلق باستخراج ما فيه من الكنوز واستكشاف ما فيه من الرموز ثم لما عدت إلى الديار المصرية ديار خير وفضل وأمنية أقمت بها برهة من الخريف مشتغلا بالعلم الشريف ثم اخترعت شرحا لكتاب معاني الآثار المنقولة من كلام سيد الأبرار تصنيف حجة الإسلام الجهبذ العلامة الإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي أسكنه الله تعالى من الجنان في أحسن المآوي ثم أنشأت شرحا على سنن أبي داود السجستاني بوأه الله دار الجنان فعاقني من عوائق الدهر ما شغلني عن التتميم واستولى على من الهموم ما يخرج عن الحصر والتقسيم ثم لما انجلى عني ظلامها وتجلى علي قتامها في هذه الدولة المؤيدية والأيام الزاهرة السنية ندبتني إلى شرح هذا الكتاب أمور حصلت في هذا الباب
( الأول ) أن يعلم أن في الزوايا خبايا وأن العلم من منايح الله عز و جل ومن أفضل العطايا ( والثاني ) إظهار ما منحني الله من فضله الغزير وإقداره إياي على أخذ شيء من علمه الكثير والشكر مما يزيد النعمة ومن الشكر إظهار العلم للأمة ( والثالث ) كثرة دعاء بعض الأصحاب بالتصدي لشرح هذا الكتاب على أني قد أملتهم بسوف ولعل ولم يجد ذلك بما قل وجل وخادعتهم عما وجهوا إلي بأخادع الالتماس ووادعتهم من يوم إلى يوم وضرب أخماس لأسداس والسبب في ذلك أن أنواع العلوم على كثرة شجونها وغزارة تشعب فنونها عز على الناس مرامها واستعصى عليهم زمامها صارت الفضائل مطموسة المعالم مخفوضة الدعائم وقد عفت أطلالها ورسومها واندرست معالمها وتغير منثورها ومنظومها وزالت صواها وضعفت قواها
( كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر )
ومع هذا فالناس فيما تعبت فيه الأرواح وهزلت فيه الأشباح على قسمين متباينين قسم هم حسدة ليس عندهم إلا جهل محض وطعن وقدح وعض لكونهم بمعزل عن انتزاع أبكار المعاني وعن تفتيق ما رتق من المباني فالمعاني عندهم تحت الألفاظ مستورة وأزهارها من وراء إلا كمام زاهرة منظورة
( إذا لم يكن للمرء عين صحيحة
فلا غروان يرتاب والصبح مسفر )
وصنف هم ذوو فضائل وكمالات وعندهم لأهل الفضل اعتبارات المنصفون اللاحظون إلى أصحاب الفضائل والتحقيق وإلى أرباب الفواضل والتدقيق بعين الإعظام والإجلال والمرفرفون عليهم أجنحة الأكرام والأشبال والمعترفون بما تلقنوا من الألفاظ ما هي كالدر المنثور والأرى المنشور والسحر الحلال والماء الزلال وقليل ما هم وهم كالكثير فالواحد منهم كالجم الغفير فهذا الواحد هو المراد الغارد ولكن أين ذاك الواحد ثم إني أجبتهم بأن من تصدى للتصنيف يجعل نفسه هدفا للتعسيف ويتحدث فيه بما فيه وما ليس فيه وينبذ كلامه بما فيه التقبيح والتشويه فقالوا ما أنت بأول من عورض ولا بأول من كلامه قد نوقض فإن هذا داء قديم وليس منها سالم إلا وهو سليم فالتقيد بهذا يسد أبواب العلوم عن فتحها وإلا كتراث به يصد عن التمييز بين محاسن الأشياء وقبحها
( هذا ) ولما لم يرتدعوا عن سؤالهم ولم أجد بدا عن آمالهم شمرت ذيل الحزم عن ساق الجزم وأنخت مطيتي

(1/3)


وحللت حقيبتي ونزلت في فناء ربع هذا الكتاب لا ظهر ما فيه من الأمور الصعاب وأبين ما فيه من المعضلات وأوضح ما فيه من المشكلات وأورد فيه من سائر الفنون بالبيان ما صعب منه على الأقران بحيث أن الناظر فيه بالأنصاف المتجنب عن جانب الاعتساف أن أراد ما يتعلق بالمنقول ظفر بآماله وأن أراد ما يتعلق بالمعقول فاز بكماله وما طلب من الكمالات يلقاه وما ظفر من النوادر والنكات يرضاه على أنهم قد ظنوا في قوة لإبلاغهم المرام وقدره على تحصيل الفهم والأفهام ولعمري ظنهم في معرض التعديل لأن المؤمن لا يظن في أخيه إلا بالجميل مع أني بالتقصير لمعترف ومن بحر الخطايا لمغترف ولكني أتشبه بهم متمنيا أن تكون لي حلية في ميادينهم وشجرة مثمرة في بساتينهم على أني لا أرى لنفسي منزلة تعد من منازلهم ولا لذاتي منهل مورد يكون بين مناهلهم ولكني أرجو والرجاء من عادة الحازمين الضابطين واليأس من عادة الغافلين القانطين ثم أني قدحت أفكاري بزناد الذكاء حتى أورت أنوارا انكشفت بها مستورات هذا الكتاب وتصديت لتجليته على منصة التحقيق حتى كشف عن وجهه النقاب واجتهدت بالسهر الطويل في الليالي الطويلة حتى ميزت من الكلام ما هي الصحيحة من العليلة وخضت في بحار التدقيق سائلا من الله الإجابة والتوفيق حتى ظفرت بدرر استخرجتها من الأصداف وبجواهر أخرجتها من الغلاف حتى أضاء بها ما أبهم من معانيه على أكثر الطلاب وتحلى بها ما كان عاطلا من شروح هذا الكتاب فجاء بحمد الله وتوفيقه فوق ما في الخواطر فائقا على سائر الشروح بكثرة الفوائد والنوادر مترجما بكتاب (
عمدة القاري
في شرح البخاري ) ومأمولي من الناظر فيه أن ينظر بالإنصاف ويترك جانب الطعن والاعتساف فإن رأى حسنا يشكر سعى زائره ويعترف بفضل عاثره أو خللا يصلحه أداء حق الأخوة في الدين فإن الإنسان غير معصوم عن زلل مبين
( فإن تجد عيبا فسد الخللا
فجل من لا عيب فيه وعلا )
فالمنصف لا يشتغل بالبحث عن عيب مفضح والمتعسف لا يعترف بالحق الموضح
( فعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا )
فالله عز و جل يرضى عن المنصف في سواء السبيل ويوفق المتعسف حتى يرجع عن الأباطيل ويمتع بهذا الكتاب المسلمين من العالمين العاملين فإني جعلته ذخيرة ليوم الدين وأخلصت فيه باليقين والله لا يضيع أجر المحسنين وهو على كل شيء قدير وبالإجابة لدعانا جدير وبه الإعانة في التحقيق وبيده أزمة التوفيق
أما إسنادي في هذا الكتاب إلى الإمام البخاري رحمه الله فمن طريقين عن محدثين كبيرين ( الأول ) الشيخ الإمام العلامة مفتي الأنام شيخ الإسلام حافظ مصر والشام زين الدين عبد الرحيم بن أبي المحاسن حسين بن عبد الرحمن العراقي الشافعي أسكنه الله تعالى بحابيح جنانه وكساءه جلابيب عفوه وغفرانه توفي ليلة الأربعاء الثامنة من شعبان من سنة ست وثمانمائة بالقاهرة فسمعته عليه من أوله إلى آخره في مجالس متعددة آخرها آخر شهر رمضان المعظم قدره من سنة ثمان وثمانين وسبعمائة بجامع القلعة بظاهر القاهرة المعزية حماها الله عن الآفات بقراءة الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن منصور الأشموني الحنفي رحمه الله بحق سماعه لجميع الكتاب من الشيخين أبي علي عبد الرحيم بن عبد الله بن يوسف الأنصاري وقاضي القضاة علاء الدين علي بن عثمان بن مصطفى بن التركماني مجتمعين قال الأول أخبرنا أبو العباس أحمد بن علي بن يوسف الدمشقي وأبو عمر وعثمان بن عبد الرحمن بن رشيق الربعي وأبو الطاهر إسماعيل بن عبد القوي بن أبي العز بن عزوان سماعا عليهم خلا من باب المسافر إذا جد به السير تعجل إلى أهله في أواخر كتاب الحج إلى أول كتاب الصيام وخلا من باب ما يجوز من الشروط في المكاتب إلى باب الشروط في الجهاد وخلا من باب غزو المرأة في البحر إلى دعاء النبي إلى الإسلام فأجازه منهم قالوا أخبرنا هبة الله بن علي بن مسعود البوصيري وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن حامد الأرتاحي قال البوصيري أنا أبو عبد الله محمد بن بركات السعيدي وقال الأرتاحي أخبرنا علي بن عمر الفراء إجازة قالا أخبرتنا كريمة بنت أحمد المروزية قالت أخبرنا أبو الهيثم محمد بن مكي الكشميهني وقال الثاني أخبرنا جماعة منهم أبو الحسن علي بن محمد بن هرون القاري قال أنا عبد الله الحسين بن المبارك الزبيدي قال أخبرنا أبو الوقت

(1/4)


عبد الأول بن عيسى السجزي قال أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودي قال أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حمويه قال هو والكشميهني أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري قال ثنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله
( والثاني ) الشيخ الإمام العالم المحدث الكبير تقي الدين محمد بن معين الدين محمد بن زين الدين عبد الرحمن بن حيدرة بن عمرو بن محمد الدجوي المصري الشافعي رحمه الله رحمة واسعة فسمعته عليه من أوله إلى آخره في مجالس متعددة آخرها آخر شهر رمضان المعظم قدره من سنة خمس وثمانمائة بالقاهرة بقراءة الشيخ الإمام القاضي شهاب الدين أحمد بن محمد الشهير بابن التقي المالكي بحق قراءته جميع الكتاب على الشيخين المسندين زين الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن هرون الثعلبي وصلاح الدين خليل بن طرنطاي بن عبد الله الزيني العادلي بسماع الأول على والده وعلى أبي الحسن علي بن عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن تيمية بسماع والده من أبي عبد الله الحسين بن الزبيدي في الرابعة وبسماع ابن تيمية من أبي الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة القلانسي بسماعهما من أبي الوقت وبسماع الأول أيضا على أبي عبد الله محمد بن مكي بن أبي الذكر الصقلي بسماع ابن أبي الذكر من أبي الزبيدي ( ح ) وبسماع والده أيضا في الرابعة من الإمام الحافظ أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن صلاح قال أنا منصور بن عبد المنعم الفراوي قال أنا المشايخ الأربعة أبو المعالي محمد بن إسماعيل الفارسي وأبو بكر وجيه بن طاهر الشحامي وأبو محمد بن عبد الوهاب بن شاه الشاذياخي وأبو عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي سماعا وإجازة قال الفارسي ومحمد بن الفضل أنا سعيد بن أبي سعيد العيار قال أنا أبو علي بن محمد بن عمر بن شبويه وقال الشحامي والشاذياخي ومحمد بن الفضل الفراوي أنا أبو سهل بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحفصي قال أنا أبو الهيثم محمد بن مكي بن محمد الكشميهني بسماعه وسماع ابن شبويه من الفربري ثنا الإمام البخاري رحمه الله ( ح ) وبسماع الثاني وهو خليل الطرنطاي من أبي العباس أحمد بن أبي طالب نعمة بن حسن بن علي بن بيات الصالحي ابن الشحنة الحجار وأم محمد وزيرة ابنة عمرو بن أسعد بن المنجا قال أنا ابن الزبيدي قال أنا أبو الوقت عبد الأول السجزي قال أنا جمال الإسلام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودي قال أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه قال أنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري قال ثنا الإمام البخاري رحمه الله تعالى
( فوائد ) الأولى سمى البخاري كتابه بالجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله وسننه وأيامه وهو أول كتابه وأول كتاب صنف في الحديث الصحيح المجرد وصنفه في ست عشرة سنة ببخارى قاله ابن طاهر وقيل بمكة قاله ابن البجير سمعته يقول صنفت في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثا إلا بعدما استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته ويجمع بأنه كان يصنف فيه بمكة والمدينة والبصرة وبخارى فإنه مكث فيه ست عشرة سنة كما ذكرنا وفي تاريخ نيسابور للحاكم عن أبي عمرو إسماعيل ثنا أبو عبد الله محمد بن علي قال سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول أقمت بالبصرة خمس سنين معي كتبي أصنف وأحج كل سنة وأرجع من مكة إلى البصرة قال وأنا أرجو أن الله تعالى يبارك للمسلمين في هذه المصنفات
( الثانية ) اتفق علماء الشرق والغرب على أنه ليس بعد كتاب الله تعالى أصح من صحيحي البخاري ومسلم فرجح البعض منهم المغاربة صحيح مسلم على صحيح البخاري والجمهور على ترجيح البخاري على مسلم لأنه أكثر فوائد منه وقال النسائي ما في هذه الكتب أجود منه قال الإسماعيلي ومما يرجح به أنه لا بد من ثبوت اللقاء عنده وخالفه مسلم واكتفى بأمكانه وشرطهما أن لا يذكر إلا ما رواه صحابي مشهور عن النبي له راويان ثقتان فأكثر ثم يرويه عنه تابعي مشهور بالرواية عن الصحابة له أيضا راويان ثقتان فأكثر ثم يرويه عنه من أتباع الأتباع الحافظ المتقن المشهور على ذلك الشرط ثم كذلك

(1/5)


( الثالثة ) قد قال الحاكم الأحاديث المروية بهذه الشريطة لم يبلغ عددها عشرة آلاف حديث وقد خالفا شرطهما فقد أخرجا في الصحيحين حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إنما الأعمال بالنيات ولا يصح إلا فردا كما سيأتي إن شاء الله تعالى وحديث المسيب بن حزن والد سعيد بن المسيب في وفاة أبي طالب ولم يرو عنه غير ابنه سعيد وأخرج مسلم حديث حميد بن هلال عن أبي رفاعة العدوي ولم يرو عنه غير حميد وقال ابن الصلاح وأخرج البخاري حديث الحسن البصري عن عمرو بن ثعلب إني لأعطي الرجل والذي أدع أحب إلي لم يرو عنه غير الحسن قلت فقد روى عنه أيضا الحكم بن الأعرج نص عليه ابن أبي حاتم وأخرج أيضا حديث قيس بن أبي حازم عن مرداس الأسلمي يذهب الصالحون الأول فالأول ولم يرو عنه غير قيس قلت فقد روى عنه أيضا زياد بن علاقة كما ذكره ابن أبي حاتم وأخرج مسلم حديث عبد الله بن الصامت عن رافع بن عمرو الغفاري ولم يرو عنه غير عبد الله قلت ففي الغيلانيات من حديث سليمان بن المغيرة ثنا ابن حكم الغفاري حدثني جدي عن رافع بن عمرو فذكر حديثا وأخرج حديث أبي بردة عن الأغر المزني ( إنه ليغان على قلبي ) ولم يرو عنه غير أبي بردة قلت قد ذكر العسكري أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما روى عنه أيضا وروى عنه معاوية بن قرة أيضا وفي معرفة الصحابة لابن قانع قال ثابت البناني عن الأغر أغر مزينة وأغرب من قول الحاكم قول الميانشي في ( إيضاح ما لا يسع المحدث جهله ) شرطهما في صحيحيهما ألا يدخلا فيه إلا ما صح عندهما وذلك ما رواه عن رسول الله اثنان من الصحابة فصاعدا وما نقله عن كل واحد من الصحابة أربعة من التابعين فأكثر وأن يكون عن كل واحد من التابعين أكثر من أربعة والظاهر أن شرطهما اتصال الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من مبتداه إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة
( الرابعة ) جملة ما فيه من الأحاديث المسندة سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا بالأحاديث المكررة وبحذفها نحو أربعة آلاف حديث وقال أبو حفص عمر بن عبد المجيد الميانشي الذي اشتمل عليه كتاب البخاري من الأحاديث سبعة آلاف وستمائة ونيف قال واشتمل كتابه وكتاب مسلم على ألف حديث ومائتي حديث من الأحكام فروت عائشة رضي الله تعالى عنها من جملة الكتاب مائتين ونيفا وسبعين حديثا لم تخرج غير الأحكام منها إلا يسيرا قال الحاكم فحمل عنها ربع الشريعة ومن الغريب ما في كتاب الجهر بالبسملة لابن سعد إسماعيل ابن أبي القاسم البوشنجي نقل عن البخاري أنه صنف كتابا أورد فيه مائة ألف حديث صحيح
( الخامسة ) فهرست أبواب الكتاب ذكرها مفصلة الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي بإسناده عن الحموي فقال عدد أحاديث صحيح البخاري رحمه الله بدأ الوحي سبعة أحاديث الإيمان خمسون العلم خمسة وسبعون الوضوء مائة وتسعة أحاديث غسل الجنابة ثلاثة وأربعون الحيض سبعة وثلاثون التيمم خمسة عشر فرض الصلاة حديثان الصلاة في الثياب تسعة وثلاثون القبلة ثلاثة عشر المساجد ستة وثلاثون سترة المصلى ثلاثون مواقيت الصلاة خمسة وسبعون الأذان ثمانية وعشرون فضل صلاة الجماعة وإقامتها أربعون الإمامة أربعون إقامة الصفوف ثمانية عشر افتتاح الصلاة ثمانية وعشرون القراءة ثلاثون الركوع والسجود والتشهد اثنان وخمسون انقضاء الصلاة سبعة عشر اجتناب أكل الثوم خمسة أحاديث صلاة النساء والصبيان خمسة عشر الجمعة خمسة وستون صلاة الخوف ستة أحاديث العيد أربعون الوتر خمسة عشر الاستسقاء خمسة وثلاثون الكسوف خمسة وعشرون سجود القرآن أربعة عشر القصر ستة وثلاثون الاستخارة ثمانية التحريض على قيام الليل أحد وأربعون النوافل ثمانية عشر الصلاة بمسجد مكة تسعة العمل في الصلاة ستة وعشرون السهو أربعة عشر الجنائز مائة وأربعة وخمسون الزكاة مائة وثلاثة عشر صدقة الفطر عشرة الحج مائتان وأربعون العمرة اثنان وثلاثون الإحصار أربعون جزاء الصيد أربعون الصوم ستة وستون ليلة القدر عشرة قيام رمضان ستة الاعتكاف عشرون البيوع مائة واحد وتسعون السلم تسعة عشر الشفعة ثلاثة أحاديث الإجارة أربعة وعشرون الحوالة ثلاثون الكفالة ثمانية أحاديث الوكالة سبعة عشر المزارعة والشرب تسعة وعشرون الاستقراض وأداء الديون خمسة وعشرون الأشخاص ثلاثة عشر الملازمة حديثان اللقطة خمسة عشر المظالم والغصب أحد وأربعون

(1/6)


الشركة اثنان وسبعون الرهن تسعة أحاديث العتق أحد وعشرون المكاتب ستة الهبة تسعة وستون الشهادات ثمانية وخمسون الصلح اثنان وعشرون الشروط أربعة وعشرون الوصايا أحد وأربعون الجهاد والسير مائتان وخمسة وخمسون بقية الجهاد أيضا اثنان وأربعون فرض الخمس ثمانية وخمسون الجزية والموادعة ثلاثة وستون بدأ الخلق مائتان وحديثان الأنباء والمغازي أربعمائة وثمانية وعشرون جزاء الآخر بعد المغازي مائة وثمانية وثلاثون التفسير خمسمائة وأربعون فضائل القرآن أحد وثمانون النكاح والطلاق مائتان وأربعة وأربعون النفقات اثنان وعشرون الأطعمة سبعون العقيقة أحد عشر الصيد والذبائح وغيره تسعون الأضاحي ثلاثون الأشربة خمسة وستون الطب تسعة وسبعون اللباس مائة وعشرون المرضى أحد وأربعون اللباس أيضا مائة الأدب مائتان وستة وخمسون الاستئذان سبعة وسبعون الدعوات ستة وسبعون ومن الدعوات ثلاثون الرقاق مائة الحوض ستة عشر الجنة والنار سبعة وخمسون القدر ثمانية وعشرون الأيمان والنذر أحد وثلاثون كفارة اليمين خمسة عشر الفرائض خمس وأربعون الحدود ثلاثون المحاربون اثنان وخمسون الديات أربعة وخمسون استتابة المرتدين عشرون الإكراه ثلاثة عشر ترك الحيل ثلاثة وعشرون التعبير ستون الفتن ثمانون الأحكام اثنان وثمانون الأمان اثنان وعشرون إجازة خبر الواحد تسعة عشر الاعتصام ستة وتسعون التوحيد وعظمة الرب سبحانه وتعالى وغير ذلك إلى آخر الكتاب مائة وسبعون
( السادسة ) جملة من حدث عنه البخاري في صحيحه خمس طبقات ( الأولى ) لم يقع حديثهم إلا كما وقع من طريقه إليهم منهم محمد بن عبد الله الأنصاري حدث عنه عن حميد عن أنس ومنهم مكي بن إبراهيم وأبو عاصم النبيل حدث عنهما عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع ومنهم عبيد الله بن موسى حدث عنه عن معروف عن أبي الطفيل عن علي وحدث عنه عن هشام بن عروة وإسماعيل بن أبي خالد وهما تابعيان ومنهم أبو نعيم حدث عنه عن الأعمش والأعمش تابعي ومنهم علي بن عياش حدث عنه عن حريز بن عثمان عن عبد الله بن بشر الصحابي هؤلاء وأشباههم الطبقة الأولى وكأن البخاري سمع مالكا والثوري وشعبة وغيرهم فإنهم حدثوا عن هؤلاء وطبقتهم ( الثانية ) من مشايخه قوم حدثوا عن أئمة حدثوا عن التابعين وهم شيوخه الذين روى عنهم عن ابن جريج ومالك وابن أبي ذئب وابن عيينة بالحجاز وشعيب والأوزاعي وطبقتهما بالشام والثوري وشعبة وحماد وأبو عوانة وهما بالعراق والليث ويعقوب بن عبد الرحمن بمصر وفي هذه الطبقة كثرة ( الثالثة ) قوم حدثوا عن قوم أدرك زمانهم وأمكنه لقيهم لكنه لم يسمع منهم كيزيد بن هارون وعبد الرزاق ( الرابعة ) قوم في طبقته حدث عنهم عن مشايخه كأبي حاتم محمد بن إدريس الرازي حدث عنه في صحيحه ولم ينسبه عن يحيى بن صالح ( الخامسة ) قوم حدث عنهم وهم أصغر منه في الإسناد والسن والوفاة والمعرفة منهم عبد الله بن حماد الآملي وحسين القباني وغيرهما ولا بد من الوقوف على هذا لأن من لا معرفة له يظن أن البخاري إذا حدث عن مكي عن زيد بن أبي عبيد عن سلمة ثم حدث في موضع آخر عن بكر بن مضر عن عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن يزيد بن أبي عبيد الله عن سلمة أن الإسناد الأول سقط منه شيء وإنما يحدث في موضع عاليا وفي موضع نازلا فقد حدث في مواضع كثيرة جدا عن رجل عن مالك وفي موضع عن عبد الله بن محمد المسندي عن معاوية بن عمرو عن أبي اسحق الفزاري عن مالك وحدث في مواضع عن رجل عن شعبة وحدث في مواضع عن ثلاثة عن شعبة منها حديثه عن حماد بن حميد عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة وحدث في مواضع عن رجل عن الثوري وحدث في مواضع عن ثلاثة عنه فحدث عن أحمد بن عمر عن ابن أبي النضر عن عبيد الله الأشجعي عن الثوري وأعجب من هذا كله أن عبد الله ابن المبارك أصغر من مالك وسفيان وشعبة ومتأخر الوفاة وحدث البخاري عن جماعة من أصحابه عنه وتأخرت وفاتهم ثم حدث عن سعيد بن مروان عن محمد بن عبد العزيز عن أبي رزمة عن أبي صالح سلمويه عن عبد الله بن المبارك فقس على هذا أمثاله وقد حدث البخاري عن قوم خارج الصحيح وحدث عن رجل عنهم في الصحيح

(1/7)


منهم أحمد بن منيع وداود بن رشيد وحدث عن قوم في الصحيح وحدث عن آخرين عنهم منهم أبو نعيم وأبو عاصم والأنصاري وأحمد بن صالح وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين فإذا رأيت مثل هذا فأصله ما ذكرنا وقد روي عن البخاري لا يكون المحدث محدثا كاملا حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه
( السابعة ) في الصحيح جماعة جرحهم بعض المتقدمين وهو محمول على أنه لم يثبت جرحهم بشرطه فإن الجرح لا يثبت إلا مفسرا مبين السبب عند الجمهور ومثل ذلك ابن الصلاح بعكرمة وإسماعيل بن أبي أويس وعاصم بن علي وعمرو بن مرزوق وغيرهم قال واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة ممن اشتهر الطعن فيهم قال وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يقبل إلا إذا فسر سببه قلت قد فسر الجرح في هؤلاء أما عكرمة فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهم لنافع لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكذبه مجاهد وابن سيرين ومالك وقال أحمد يرى رأي الخوارج الصفرية وقال ابن المديني يرى رأي نجدة ويقال كان يرى السيف والجمهور وثقوه واحتجوا به ولعله لم يكن داعية وأما إسماعيل بن أبي أويس فإنه أقر على نفسه بالوضع كما حكاه النسائي عن سلمة بن شعيب عنه وقال ابن معين لا يساوي فلسين هو وأبوه يسرقان الحديث وقال النضر بن سلمة المروزي فيما حكاه الدولابي عنه كذاب كان يحدث عن مالك بمسائل ابن وهب وأما عاصم بن علي فقال ابن معين لا شيء وقال غيره كذاب ابن كذاب وأما أحمد فصدقه وصدق أباه وأما عمرو بن مرزوق فنسبه أبو الوليد الطيالسي إلى الكذب وأما أبو حاتم فصدقه وصدق أباه فوثقه وأما سويد بن سعيد فمعروف بالتلقين وقال ابن معين كذاب ساقط وقال أبو داود سمعت يحيى يقول هو حلال الدم وقد طعن الدارقطني في كتابه المسمى بالاستدراكات والتتبع على البخاري ومسلم في مائتي حديث فيهما ولأبي مسعود الدمشقي عليهما استدراك وكذا لأبي علي الغساني في تقييده
( الثامنة ) في الفرق بين الاعتبار والمتابعة والشاهد وقد أكثر البخاري من ذكر المتابعة فإذا روى حماد مثلا حديثا عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي نظرنا هل تابعه ثقة فرواه عن أيوب فإن لم نجد ثقة غير أيوب عن ابن سيرين فثقة غيره عن ابن سيرين عن أبي هريرة وإلا فصحابي غير أبي هريرة عن النبي عليه السلام فأي ذلك وجد علم أن له أصلا يرجع إليه وإلا فلا فهذا النظر هو الاعتبار وأما المتابعة فأن يرويه عن أيوب غير حماد أو عن ابن سيرين غير أيوب أو عن أبي هريرة غير ابن سيرين أو عن النبي غير أبي هريرة فكل نوع من هذه يسمى متابعة وأما الشاهد فأن يروى حديث آخر بمعناه وتسمى المتابعة شاهدا ولا ينعكس فإذا قالوا في مثل هذا تفرد به أبو هريرة أو ابن سيرين أو أيوب أو حماد كان مشعرا بانتفاء وجوه المتابعات كلها فيه ويدخل في المتابعة والاستشهاد رواية بعض الضعفاء وفي الصحيح جماعة منهم ذكروا في المتابعات والشواهد ولا يصلح لذاك كل ضعيف ولهذا يقول الدارقطني وغيره فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به مثال المتابع والشاهد حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه الصلاة و السلام قال لو أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به ورواه ابن جريج عن عمرو وعن عطاء بدون الدباغ تابع عمرو أسامة بن زيد فرواه عن عطاء عن ابن عباس أنه عليه الصلاة و السلام قال ألا نزعتم جلدها فدبغتموه فانتفعتم به وشاهد حديث عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس رفعه أيما إهاب دبغ فقد طهر فالبخاري يأتي بالمتابعة ظاهرا كقوله في مثل هذا تابعه مالك عن أيوب أي تابع مالك حمادا فرواه عن أيوب كرواية حماد فالضمير في تابعه يعود إلى حماد وتارة يقول تابعه مالك ولا يزيد فيحتاج إذن إلى معرفة طبقات الرواة ومراتبهم
( التاسعة ) في ضبط الأسماء المتكررة المختلفة في الصحيحين ( أبي ) كله بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف إلا آبي اللحم فإنه بهمزة ممدودة مفتوحة ثم باء مكسورة ثم ياء مخففة لأنه كان لا يأكله وقيل لا يأكل ما ذبح للصنم ( البراء ) كله بتخفيف الراء إلا أبا معشر البراء وأبا العالية البراء فبالتشديد وكله ممدود وقيل أن المخفف يجوز قصره حكاه النووي والبراء هو الذي يبرى العود ( يزيد ) كله بالمثناة التحتية والزاي إلا ثلاثة بريد بن عبد الله بن أبي

(1/8)


بردة يروي غالبا عن أبي بردة بضم الباء الموحدة وبالراء والثاني محمد بن عرعرة بن البرند بموحدة وراء مكسورتين وقيل بفتحهما ثم نون والثالث علي بن هاشم بن البريد بموحدة مفتوحة ثم راء مكسورة ثم مثناه تحت ( يسار ) كله بالياء آخر الحروف والسين المهملة إلا محمد بن بشار شيخهما فبموحدة ثم معجمة وفيهما سيار ابن سلامة وسيار بن أبي سيار بمهملة ثم بمثناة ( بشر ) كله بموحدة ثم شين معجمة إلا أربعة فبالضم ثم مهملة عبد الله بن بسر الصحابي وبسر بن سعيد وبسر بن عبيد الله الحضرمي وبسر بن محجن وقيل هذا بالمعجمة كالأول ( بشير ) كله بفتح الموحدة وكسر المعجمة إلا اثنين فبالضم وفتح الشين وهما بشير بن كعب وبشير بن يسار وإلا ثالثا فبضم المثناة وفتح المهملة وهو يسير بن عمرو ويقال أسير ورابعا فبضم النون وفتح المهملة قطن بن نسير ( حارثة ) كله بالحاء المهملة والمثلثة إلا جارية ابن قدامة ويزيد بن جارية فبالجيم والمثناة ولم يذكر غيرهما ابن الصلاح وذكر الجياني عمرو بن أبي سفيان بن أسيد ابن جارية الثقفي حليف بني زهرة قال حديثه مخرج في الصحيحين والأسود بن العلاء بن جارية حديثه في مسلم ( جرير ) كله بالجيم وراء مكررة إلا حريز بن عثمان وأبا حريز بن عبد الله بن الحسين الراوي عن عكرمة فبالحاء والزاي آخرا ويقاربه حدير بالحاء والدال والد عمران ووالد زياد وزيد ( حازم ) كله بالحاء المهملة إلا أبا معاوية محمد بن خازم فبالمعجمة كذا اقتصر عليه ابن الصلاح وتبعه النووي وأهملا بشير بن جازم الإمام الواسطي آخر رجاله ومحمد بن بشير العبدي كناه أبا حازم بالمهملة قال أبو علي الجياني والمحفوظ أنه بالمعجمة كذا كناه أبو أسامة في روايته عنه قاله الدارقطني ( حبيب ) كله بفتح المهملة إلا خبيب بن عدي وخبيب بن عبد الرحمن وخبيبا غير منسوب عن حفص بن عاصم وخبيبا كنية ابن الزبير فبضم المعجمة ( حيان ) كله بالفتح والمثناة إلا حبان بن منقذ والد واسع بن حبان وجد محمد بن يحيى ابن حبان وجد حبان بن واسع بن حبان والأحبان بن هلال منسوبا وغير منسوب عن شعبة ووهيب وهمام وغيرهم فبالموحدة وفتح الحاء والأحبان بن العرقة وحبان بن عطية وحبان بن موسى منسوبا وغير منسوب عن عبد الله هو ابن المبارك فبكسر الحاء وبالموحدة وذكر الجياني أحمد بن سنان بن أسد بن حبان روى له البخاري في الحج ومسلم في الفضائل وأهمله ابن الصلاح والنووي ( خراش ) كله بالخاء المعجمة إلا والد ربعي فبالمهملة ( حزام ) بالزاي في قريش وبالراء في الأنصار وفي المختلف والمؤتلف لابن حبيب في جذام حرام بن جذام وفي تميم بن مر حرام بن كعب وفي خزاعة حرام بن حبشية ابن كعب بن سلول بن كعب وفي عذرة حرام ابن حنبة وأما حزام بالزاي فجماعة في غير قريش منهم حزام بن هشام الخزاعي وحزام بن ربيعة الشاعر وعروة بن حزام الشاعر العدوي ( حصين ) كله بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين إلا أبا حصين عثمان بن عاصم فبالفتح وكسر الصاد وإلا أبا ساسان حضين بن المنذر فبالضم وضاد معجمة ( حكيم ) كله بفتح الحاء وكسر الكاف إلا حكيم بن عبد الله ورزيق بن حكيم فبالضم وفتح الكاف ( رباح ) كله بالموحدة إلا زياد بن رياح عن أبي هريرة في أشراط الساعة فبالمثناة عند الأكثرين وقال البخاري بالوجهين بالمثناة وبالموحدة وذكر أبو علي الجياني محمد بن أبي بكر بن عوف بن رياح الثقفي سمع أنسا وعنه مالك رويا له ورياح بن عبيدة من ولد عمر بن عبد الوهاب الرياحي روى له مسلم ورياح في نسب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقيل بالموحدة ( زبيد ) بضم الزاي هو ابن الحرث ليس فيهما غيره وأما زبيد بن الصلت فبعد الزاي ياء آخر الحروف مكررة وهو في الموطأ ( الزبير ) بضم الزاي إلا عبد الرحمن بن الزبير الذي تزوج امرأة رفاعة فبالفتح وكسر الباء ( زياد ) كله بالياء إلا أبا الزناد فبالنون ( سالم ) كله بالألف ويقاربه سلم بن زرير بفتح الزاي وسلم بن قتيبة وسلم بن أبي الذيال وسلم بن عبد الرحمن بحذفها ( سليم ) كله بالضم إلا ابن حبان فبالفتح ( شريح ) كله بالمعجمة والحاء المهملة إلا ابن يونس وابن نعمان وأحمد بن سريج فبالمهملة والجيم ( سلمة ) بفتح اللام إلا عمرو بن سلمة أمام قومه وبني سلمة القبيلة من الأنصار فبكسرها وفي عبد الخالق ابن سلمة وجهان ( سليمان ) كله بالياء إلا سلمان الفارسي وابن عامر والأغر وعبد الرحمن بن سالم فبفتحها وأبي حازم الأشجعي وأبي رجاء مولى ابن قدامة وكل منهم اسمه بغير ياء ولكن ذكر بالكنية ( سلام ) كله بالتشديد إلا عبد الرحمن بن سلام الصحابي ومحمد بن سلام شيخ البخاري فبالتخفيف وشدد جماعة شيخ البخاري وادعى صاحب المطالع

(1/9)


أن الأكثر عليه وأخطأ نعم المشدد محمد بن سلام بن السكن البيكندي الصغير وهو من أقرانه وفي غير الصحيحين جماعة بالتخفيف أيضا ( شيبان ) كله بالشين المعجمة ثم الياء آخر الحروف ثم الباء الموحدة ويقاربه سنان بن أبي سنان وابن ربيعة وأحمد بن سنان وسنان بن سلمة وأبو سنان ضرار بن مرة بالمهملة والنون ( عباد ) كله بالفتح والتشديد إلا قيس بن عباد فبالضم والتخفيف ( عبادة ) كله بالضم إلا محمد بن عبادة شيخ البخاري فبالفتح ( عبدة ) كله بإسكان الباء إلا عامر بن عبدة وبجالة بن عبدة ففيهما الفتح والإسكان والفتح أشهر وعن بعض رواة مسلم عامر بن عبد بلا هاء ولا يصح ( عبيد ) كله بضم العين ( عبيدة ) كله بالضم إلا السلماني وابن سفيان وابن حميد وعامر بن عبيدة فبالفتح وذكر الجياني عامر بن عبيدة قاضي البصرة ذكره البخاري في كتاب الأحكام ( عقيل ) كله بالفتح إلا عقيل بن خالد الأيلي ويأتي كثيرا عن الزهري غير منسوب وإلا يحيى بن عقيل وبني عقيل للقبيلة فبالضم ( عمارة ) كله بضم العين ( واقد ) كله بالقاف ( يسرة ) بفتح الياء آخر الحروف والسين المهملة وهو يسرة بن صفوان شيخ البخاري وأما بسرة بنت صفوان فليس ذكرها في الصحيحين ( الأنساب ) ( الأيلي ) كله بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف نسبة إلى أيلة قرية من قرى مصر ولا يرد شيبان بن فروخ الأبلي بضم الهمزة والموحدة شيخ مسلم لأنه لم يقع في صحيح مسلم منسوبا وهو نسبة إلى أبلة مدينة قديمة وهي مدينة كور دجلة وكانت المسلحة والمدينة العامرة أيام الفرس قبل أن تخط البصرة ( البصرى ) كله بالباء الموحدة المفتوحة والمكسورة نسبة إلى البصرة مثلثة الباء إلا مالك بن أوس بن الحدثان النصري وعبد الواحد النصري وسالما مولى النصريين فبالنون ( البزاز ) بزايين معجمتين محمد بن الصباح وغيره إلا خلف بن هشام البزار والحسن بن الصباح فآخرهما راء مهملة ذكرهما ابن الصلاح وأهمل يحيى بن محمد بن السكن بن حبيب وبشر بن ثابت فآخرهما راء مهملة أيضا فالأول حدث عنه البخاري في صدقة الفطر والدعوات والثاني استشهد به في صلاة الجمعة ( الثوري ) كله بالمثلثة إلا أبا يعلى محمد بن الصلت التوزي بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الواو المفتوحة وبالزاي ذكره البخاري في كتاب الردة ( الجريري ) بضم الجيم وفتح الراء إلا يحيى بن بشر الحريري شيخهما على ما ذكره ابن الصلاح ولم يعلم له المزي إلا علامة مسلم فقط فبالحاء المفتوحة وعد ابن الصلاح من الأول ثلاثة ثم قال وهذا ما فيهم بالجيم المضمومة وأهمل رابعا وهو عباس ابن فروح روى له مسلم في الاستسقاء وخامسا وهو أبان بن ثعلب روى له مسلم أيضا ( الحارثي ) كله بالحاء وبالمثلثة ويقاربه سعد الجاري بالجيم وبعد الراء ياء مشددة نسبة إلى الجاري مرقى السفن بساحل المدينة ( الحزامي ) كله بالحاء والزاي وقوله في صحيح مسلم في حديث أبي اليسر كان لي على فلان الحرامى قيل بالزاي وبالراء وقيل الجذامى بالجيم والذال المعجمة ( الحرامي ) بالمهملتين في الصحيحين جماعة منهم جابر بن عبد الله ( السلمي ) في الأنصار بفتح اللام وحكى كسرها وفي بني سليم بضمهما وفتح اللام ( الهمداني ) كله بإسكان الميم والدال المهملة قال الجياني أبو أحمد بن المرار بن حمويه الهمذاني بفتح الميم والذال معجمة يقال أن البخاري حدث عنه في الشروط ( واعلم ) أن كل ما في البخاري أخبرنا محمد قال أخبرنا عبد الله فهو ابن مقاتل المروزي عن ابن المبارك وما كان أخبرنا محمد عن أهل العراق كأبي معاوية وعبدة ويزيد بن هارون والفزاري فهو ابن سلام البيكندي وما كان فيه عبد الله غير منسوب فهو عبد الله بن محمد الجعفي المسندي مولى محمد بن إسماعيل البخاري وما كان أخبرنا يحيى غير منسوب فهو ابن موسى البلخي واسحق غير منسوب هو ابن راهويه فافهم
( العاشرة ) قد أكثر البخاري من أحاديث وأقوال الصحابة وغيرهم بغير إسناد فإن كان بصيغة جزم كقال وروى ونحوهما فهو حكم منه بصحته وما كان بصيغة التمريض كروى ونحوه فليس فيه حكم بصحته ولكن ليس هو واهيا إذ لو كان واهيا لما أدخله في صحيحه ( فإن قلت ) قد قال ما أدخلت في الجامع إلا ما صح يخدش فيه ذكره ما كان بصيغة التمريض قلت معناه ما ذكرت فيه مسندا إلا ما صح وقال القرطبي لا يعلق في كتابه إلا ما كان في نفسه صحيحا مسندا لكنه لم يسنده ليفرق بين ما كان على شرطه في أصل كتابه وبين ما ليس كذلك وقال الحميدي والدارقطني وجماعة من المتأخرين أن هذا إنما يسمى تعليقا إذا كان بصيغة الجزم تشبيها بتعليق الجدار لقطع الاتصال وإنما سمي تعليقا إذا انقطع من

(1/10)


أول إسناده واحد فأكثر ولا يسمى بذلك ما سقط وسط إسناده أو آخره ولا ما كان بصيغة تمريض نبه عليه ابن الصلاح
( مقدمة ) اعلم أن لكل علم موضوعا ومبادي ومسائل فالموضوع ما يبحث في ذلك العلم عن أعراضه الذاتية والمبادي هي الأشياء التي يبنى عليها العلم وهي إما تصورات أو تصديقات فالتصورات حدود أشياء تستعمل في ذلك العلم والتصديقات هي المقدمات التي منها يؤلف قياسات العلم والمسائل هي التي يشتمل العلم عليها فموضوع علم الحديث هو ذات رسول الله من حيث أنه رسول الله عليه الصلاة و السلام ومباديه هي ما تتوقف عليه المباحث وهو أحوال الحديث وصفاته ومسائله هي الأشياء المقصودة منه وقد قيل لا فرق بين المقدمات والمباديء وقيل المقدمات أعم من المبادي لأن المبادي ما يتوقف عليه دلائل المسائل بلا وسط والمقدمة ما تتوقف عليه المسائل والمبادي بوسط أو لا بوسط وقيل المبادي ما يبرهن بها وهي المقدمات والمسائل ما يبرهن عليها والموضوعات ما يبرهن فيها ( قلت ) وجه الحصر أن ما لا بد للعلم أن كان مقصودا منه فهو المسائل وغير المقصود إن كان متعلق المسائل فهو الموضوع وإلا فهو المبادي وهي حده وفائدته واستمداده ( أما ) حده فهو علم يعرف به أقوال رسول الله وأفعاله وأحواله وأما فائدته فهي الفوز بسعادة الدارين وأما استمداده فمن أقوال الرسول عليه السلام وأفعاله أما أقواله فهو الكلام العربي فمن لم يعرف الكلام العربي بجهاته فهو بمعزل عن هذا العلم وهي كونه حقيقة ومجازا وكناية وصريحا وعاما وخاصا ومطلقا ومقيدا ومحذوفا ومضمرا ومنطوقا ومفهوما واقتضاء وإشارة وعبارة ودلالة وتنبيها وإيماء ونحو ذلك مع كونه على قانون العربية الذي بينه النحاة بتفاصيله وعلى قواعد استعمال العرب وهو المعبر عنه بعلم اللغة وأما أفعاله فهي الأمور الصادرة عنه التي أمرنا باتباعه فيها ما لم يكن طبعا أو خاصة فها نحن نشرع في المقصود بعون الملك المعبود ونسأله الإعانة على الاختتام متوسلا بالنبي خير الأنام وآله وصحبه الكرام
بسم الله الرحمن الرحيم
( قال الشيخ الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري رحمه الله تعالى آمين باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله وقول الله جل ذكره ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) )
بيان حال الافتتاح ذكروا أن من الواجب على مصنف كتاب أو مؤلف رسالة ثلاثة أشياء وهي البسملة والحمدلة والصلاة ومن الطرق الجائزة أربعة أشياء وهي مدح الفن وذكر الباعث وتسمية الكتاب وبيان كيفية الكتاب من التبويب والتفصيل أما البسملة والحمدلة فلأن كتاب الله تعالى مفتوح بهما ولقوله كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله وببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع رواه الحافظ عبد القادر في أربعينه وقوله عليه الصلاة و السلام كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم رواه أبو داود والنسائي وفي رواية ابن ماجة كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد أقطع ورواه ابن حبان وأبو عوانة في صحيحيهما وقال ابن الصلاح هذا حديث حسن بل صحيح ( قوله أقطع ) أي قليل البركة وكذلك أجذم من جذم بكسر الذال المعجمة يجذم بفتحها ويقال أقطع وأجذم من القطع والجذام أو من القطعة وهي العطش والجذام فيكون معناهما أنه لا خير فيه كالمجذوم والنخل التي لا يصيبها الماء وأما الصلاة فلأن ذكره مقرون بذكره تعالى ولقد قالوا في قوله تعالى ( ورفعنا لك ذكرك ) معناه ذكرت حيثما ذكرت وفي رسالة الشافعي رحمه الله تعالى عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال لا أذكر إلا ذكرت أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وروى ذلك مرفوعا عن رسول الله إلى جبريل عليه السلام إلى رب العالمين قاله النووي في شرح مسلم ( فإن قيل ) من ذكر الصلاة كان من الواجب عليه أن يذكر السلام معها لقرنها في الأمر بالتسليم ولهذا كره أهل العلم ترك ذلك ( قلت ) يرد هذا ورود الصلاة في آخر التشهد مفردة ( فإن قيل ) ورد تقديم السلام فلهذا قالوا هذا السلام فكيف نصلي ( قلت ) يمكن أن يجاب بما روى النسائي أن النبي كان يقول في آخر قنوته وصلى الله على النبي وبقوله عليه السلام رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي والبخيل الذي ذكرت عنده فلم يصل علي ويجوز أن يدعي أن المراد من التسليم الاستسلام والانقياد فقد ورد ذلك في سورة النساء ويعضد ذلك تخصيصه بالمؤمنين حيث كانوا مكلفين بأحكامه عليه السلام ويجوز أن يدعي أن الجملة

(1/11)


الثانية تأكيد للأولى ثم إن البخاري رحمه الله لم يأت من هذه الأشياء إلا بالبسملة فقط وذكر بعضهم أنه بدأ بالبسملة للتبرك لأنها أول آية في المصحف أجمع على كتابتها الصحابة قلت لا نسلم أنها أول آية في المصحف وإنما هي آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور وهذا مذهب المحققين من الحنفية وهو قول ابن المبارك وداود وأتباعه وهو المنصوص عن أحمد على أن طائفة قالوا أنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل وهو قول مالك وبعض الحنفية وبعض الحنابلة وعن الأوزاعي أنه قال ما أنزل الله في القرآن بسم الله الرحمن الرحيم إلا في سورة النمل وحدها وليست بآية تامة وإنما الآية ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) وروى عن الشافعي أيضا أنها ليست من أوائل السور غير الفاتحة وإنما يستفتح بها في السور تبركا بها ثم أنهم اعتذروا عن البخاري بأعذار هي بمعزل عن القبول ( الأول ) أن الحديث ليس على شرطه فإن في سنده قرة بن عبد الرحمن ولئن سلمنا صحته على شرطه فالمراد بالحمد الذكر لأنه قد روى بذكر الله تعالى بدل حمد الله وأيضا تعذر استعماله لأن التحميد إن قدم على التسمية خولف فيه العادة وإن ذكر بعدها لم يقع به البداءة قلت هذا كلام واه جدا لأن الحديث صحيح صححه ابن حبان وأبو عوانة وقد تابع سعيد بن عبد العزيز قرة كما أخرجه النسائي ولئن سلمنا أن الحديث ليس على شرطه فلا يلزم من ذلك ترك العمل به مع المخالفة لسائر المصنفين ولو فرضنا ضعف الحديث أو قطعنا النظر عن وروده فلا يلزم من ذلك أيضا ترك التحميد المتوج به كتاب الله تعالى والمفتتح به في أوائل السور عن الكتب والخطب والرسائل وقولهم فالمراد بالحمد الذكر ليس بجواب عن تركه لفظ الحمد لأن لفظة الذكر غير لفظة الحمد وليس الآتي بلفظة الذكر آتيا بلفظة الحمد المختص بالذكر في افتتاح كلام الله تعالى والمقصود التبرك باللفظ الذي افتتح به كلام الله تعالى وقولهم أيضا تعذر استعماله إلى آخره كلام من ليس له ذوق من الإدراكات لأن الأولية أمر نسبي فكل كلام بعده كلام هو أول بالنسبة إلى ما بعده فحينئذ من سمى ثم حمدا يكون بادئا بكل واحد من البسملة والحمدلة أما البسملة فلأنها وقعت في أول كلامه وأما الحمدلة فلأنها أول أيضا بالنسبة إلى ما بعدها من الكلام ألا ترى أنهم تركوا العاطف بينهما لئلا يشعر بالتبعية فيخل بالتسوية وبهذا أجيب عن الاعتراض بقولهم بين الحديثين تعارض ظاهر إذ الابتداء بأحدهما يفوت الابتداء بالآخر ( الثاني ) إن الافتتاح بالتحميد محمول على ابتداآت الخطب دون غيرهما زجرا عما كانت الجاهلية عليه من تقديم الشعر المنظوم والكلام المنثور لما روى أن أعرابيا خطب فترك التحميد فقال عليه السلام كل أمر الحديث قلت فيه نظر لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ( الثالث ) أن حديث الافتتاح بالتحميد منسوخ بأنه عليه السلام لما صالح قريشا عام الحديبية كتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمر فلولا نسخ لما تركه قلت هذا أبعد الأجوبة لعدم الدليل على ذلك لم لا يجوز أن يكون الترك لبيان الجواز ( الرابع ) أن كتاب الله عز و جل مفتتح بها وكتب رسوله عليه السلام مبتدأة بها فلذلك تأسى البخاري بها قلت لا يلزم من ذلك ترك التحميد ولا فيه إشارة إلى تركه ( الخامس ) إن أول ما نزل من القرآن اقرأ و ( يا أيها المدثر ) وليس في ابتدائهما حمدا لله فلم يجز أن يأمر الشارع بما كتاب الله على خلافه قلت هذا ساقط جدا لأن الاعتبار بحالة الترتيب العثماني لا بحالة النزول إذ لو كان الأمر بالعكس لكان ينبغي أن يترك التسمية أيضا ( السادس ) إنما تركه لأنه راعى قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) فلم يقدم بين يدي الله ولا رسوله شيئا وابتدأ بكلام رسوله عوضا عن كلام نفسه ( قلت ) الآتي بالتحميد ليس بمقدم شيئا أجنبيا بين يدي الله ورسوله وإنما هو ذكره بثنائه الجميل لأجل التعظيم على أنه مقدم بالترجمة وبسوق السند وهو من كلام نفسه فالعجب أنه يكون بالتحميد الذي هو تعظيم الله تعالى مقدما ولا يكون بالكلام الأجنبي وقولهم الترجمة وإن تقدمت لفظا فهي كالمتأخرة تقديرا لتقدم الدليل على مدلوله وضعا وفي حكم التبع ليس بشيء لأن التقديم والتأخير من أحكام الظاهر لا التقدير فهو في الظاهر مقدم وإن كان في نية التأخير وقولهم لتقدم الدليل على مدلوله لا دخل له ههنا فافهم ( السابع ) إن الذي اقتضاه لفظ الحمد أن يحمد لا أن يكتبه والظاهر أنه حمد بلسانه قلت يلزم على هذا عدم إظهار التسمية مع ما فيه من المخالفة لسائر المصنفين والأحسن فيه ما سمعته من بعض أساتذتي

(1/12)


الكبار أنه ذكر الحمد بعد التسمية كما هو دأب المصنفين في مسودته كما ذكره في بقية مصنفاته وإنما سقط ذلك من بعض المبيضين فاستمر على ذلك والله تعالى أعلم
( بيان الترجمة ) لما كان كتابه مقصورا على أخبار النبي صدره بباب بدأ الوحي لأنه يذكر فيه أول شأن الرسالة والوحي وذكر الآية تبركا ولمناسبتها لما ترجم له لأن الآية في أن الوحي سنة الله تعالى في أنبيائه عليهم السلام وقال بعضهم لو قال كيف كان الوحي وبدؤه لكان أحسن لأنه تعرض لبيان كيفية الوحي لا لبيان كيفية بدء الوحي وكان ينبغي أن لا يقدم عليه عقب الترجمة غيره ليكون أقرب إلى الحسن وكذا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان رسول الله أجود الناس لا يدل على بدء الوحي ولا تعرض له غير أنه لم يقصد بهذه الترجمة تحسين العبارة وإنما مقصوده فهم السامع والقارىء إذا قرأ الحديث علم مقصوده من الترجمة فلم يشتغل بها تعويلا منه على فهم القارىء واعترض بأنه ليس قوله لكان أحسن مسلما لأنا لا نسلم أنه ليس بيانا لكيفية بدء الوحي إذ يعلم مما في الباب أن الوحي كان ابتداؤه على حال المقام ثم في حال الخلوة بغار حراء على الكيفية المذكورة من الغط ونحوه ثم ما فر هو منه لازم عليه على هذا التقدير أيضا إذ البدء عطف على الوحي كما قرره فيصح أن يقال ذلك إيرادا عليه وليس قوله كان ينبغي أيضا مسلما إذ هو بمنزلة الخطبة وقصد التقرب فالسلف كانوا يستحبون افتتاح كلامهم بحديث النية بيانا لإخلاصهم فيه وليس وكذا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مسلما إذ فيه بيان حال رسول الله عند ابتداء نزول الوحي أو عند ظهور الوحي والمراد من حال ابتداء الوحي حاله مع كل ما يتعلق بشأنه أي تعلق كان كما في التعلق الذي للحديث الهرقلي وهو أن هذه القصة وقعت في أحوال البعثة ومباديها أو المراد بالباب بجملته بيان كيفية بدء الوحي لا من كل حديث منه فلو علم من مجموع ما في الباب كيفية بدء الوحي من كل حديث شيء مما يتعلق به لصحت الترجمة
( بيان اللغة ) لباب أصله البوب قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ويجمع على أبواب وقد قالوا أبوبة وقال القتال الكلابي واسمه عبد الله بن المجيب يرثي حنظلة بن عبد الله بن الطفيل
( هتاك أخبية ولاج أبوبة
ملء الثواية فيه الجد واللين )
قال الصغاني وإنما جمع الباب أبوبة للازدواج ولو أفرده لم يجز وأبواب مبوبة كما يقال أصناف مصنفة والبابة الخصلة والبابات الوجوه وقال ابن السكيت البابة عند العرب الوجه والمراد من الباب ههنا النوع كما في قولهم من فتح بابا من العلم أي نوعا وإنما قال باب ولم يقل كتاب لأن الكتاب يذكر إذا كان تحته أبواب وفصول والذي تضمنه هذا الباب فصل واحد ليس إلا فلذلك قال باب ولم يقل كتاب قوله كيف اسم لدخول الجار عليه بلا تأويل في قولهم على كيف تبيع الأحمرين ولإبدال الاسم الصريح نحو كيف أنت أصحيح أم سقيم ويستعمل على وجهين أن يكون شرطا نحو كيف تصنع أصنع وأن يكون استفهاما إما حقيقيا نحو كيف زيدا وغيره نحو ( كيف تكفرون بالله ) فإنه أخرج مخرج التعجب ويقع خبرا نحو كيف أنت وحالا نحو كيف جاء زيد أي على أي حالة جاء زيد ويقال فيه كي كما يقال في سوف هو قوله كان من الأفعال الناقصة تدل على الزمان الماضي من غير تعرض لزواله في الحال أو لا زواله وبهذا يفرق عن ضارفان معناه الانتقال من حال إلى حال ولهذا يجوز أن يقال كان الله ولا يجوز صار قوله بدء الوحي البدء على وزن فعل بفتح الفاء وسكون الدال وفي آخره همز من بدأت الشيء بدأ ابتدأت به وفي العباب بدأت بالشيء بدأ ابتدأت به وبدأت الشيء

(1/13)


فعلته ابتداء ( وبدأ الله الخلق ) وابدأهم بمعنى وبدا بغير همز في آخره معناه ظهر تقول بدا الأمر بدوا مثل قعد قعودا أي ظهر وأبديته أظهرته وقال القاضي عياض روى بالهمز مع سكون الدال من الابتداء وبغير همز مع ضم الدال وتشديد الواو من الظهور وبهذا يرد على من قال لم تجيء الرواية بالوجه الثاني فالمعنى على الأول كيف كان ابتداؤه وعلى الثاني كيف كان ظهوره وقال بعضهم الهمز أحسن لأنه يجمع المعنيين وقيل الظهور أحسن لأنه أعم وفي بعض الروايات باب كيف كان ابتداء الوحي والوحي في الأصل الإعلام في خفاء قال الجوهري الوحي الكتاب وجمعه وحي مثل حلى وحلى قال لبيد
( فمدافع الريان عرى رسمها
خلقا كما ضمن الوحي سلامها )
والوحي أيضا الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك يقال وحيت إليه الكلام وأوحيت وهو أن تكلمه بكلام تخفيه قال العجاج وحى لها القرار فاستقرت ويروى أوحى لها ووحى وأوحى أيضا كتب قال العجاج حتى نحاهم جدنا والناحي لقدر كان وحاه الواحي وأوحى الله تعالى إلى أنبيائه وأوحى أشار قال تعالى ( فأوحى إليهم أن سبحوه بكرة وعشيا ) ووحيت إليك بخبر كذا أي أشرت وقال الإمام أبو عبد الله التيمي الأصبهاني الوحي أصله التفهيم وكل ما فهم به شيء من الإشارة والإلهام والكتب فهو وحي قيل في قوله تعالى ( فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ) أي أشرت وقال الإمام أي كتب وقوله تعالى ( وأوحى ربك إلى النحل ) أي الهم وأما الوحي بمعنى الإشارة فكما قال الشاعر
( يرمون بالخطب الطوال وتارة
وحى الملاحظ خيفة الرقباء )
وأوحى ووحى لغتان والأولى أفصح وبها ورد القرآن وقد يطلق ويراد بها اسم المفعول منه أي الموحى وفي اصطلاح الشريعة هو كلام الله المنزل على نبي من أنبيائه والرسول عرفه كثير منهم بمن جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه وهذا تعريف غير صحيح لأنه يلزم على هذا أن يخرج جماعة من الرسل عن كونهم رسلا كآدم ونوح وسليمان عليهم السلام فإنهم رسل بلا خلاف ولم ينزل عليهم كتاب وكذا قال صاحب البداية الرسول هو النبي الذي معه كتاب كموسى عليه السلام والنبي هو الذي ينبىء عن الله تعالى وإن لم يكن معه كتاب كيوشع عليه السلام وتبعه على ذلك الشيخ قوام الدين والشيخ أكمل الدين في شرحيهما والتعريف الصحيح أن الرسول من نزل عليه كتاب أو أتى إليه ملك والنبي من يوقفه الله تعالى على الأحكام أو يتبع رسولا آخر فكل رسول نبي من غير عكس قوله وقول الله تعالى القول ما ينطق به اللسان تاما كان أو ناقصا ويطلق على الكلام والكلم والكلمة ويطلق مجازا على الرأي والاعتقاد كقولك فلان يقول بقول أبي حنيفة رضي الله عنه ويذهب إلى قول مالك ويستعمل في غير النطق قال أبو النجم
( قالت له الطير تقدم راشدا
إنك لا ترجع إلا حامدا )
ومنه قوله عز و جل ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) وقوله تعالى ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) قوله من بعده بعد نقيض قبل وهما اسمان يكونان ظرفين إذا أضيفا وأصلهما الإضافة فمتى حذفت المضاف إليه لعلم المخاطب بنيتهما على الضم ليعلم أنه مبني إذا كان الضم لا يدخلهما إعرابا لأنهما لا يصلح وقوعهما موقع الفاعل ولا موقع المبتدأ ولا الخبر فافهم
( بيان الصرف ) كيف لا يتصرف لأنه جامد والبدء مصدر من بدأت الشيء كما مر والوحي كذلك من وحيت إليه وحيا وههنا اسم فافهم ومصدر أوحى إيحاء والرسول صفة مشبهة يقال أرسلت فلانا في رسالة فهو مرسل ورسول وهذه صيغة يستوي فيها الواحد والجمع والمذكر والمؤنث مثل عدو وصديق قال عز و جل ( أنا رسول رب العالمين ) ولم يقل أنا رسل لأن فعيلا وفعولا يستوي فيهما هذه الأشياء وفي العباب الرسول المرسل والجمع رسل ورسل ورسلاء

(1/14)


وهذا عن الفراء والقول مصدر تقول قال يقول قولا وقولة ومقالا ومقالة وقالا يقال أكثر القال والقيل وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ) ويقال القال الابتداء والقيل الجواب وأصل قلت قولت بالفتح ولا يجوز أن يكون بالضم لأنه يتعدى ورجل قول وقوم قول ورجل مقول ومقوال وقولة مثل تؤدة وتقولة عن الفراء وتقوالة عن الكسائي أي ليس كثير القول والمقول اللسان والمقول القيل بلغة أهل اليمن وقلنا به أي قلناه
( بيان الإعراب ) قوله باب بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي هذا باب ويجوز فيه التنوين بالقطع عما بعده وتركه للإضافة إلى ما بعده وقال بعض الشراح يجوز فيه باب بصورة الوقف على سبيل التعداد فلا إعراب له حينئذ وخدشه بعضهم ولم يبين وجهه غير أنه قال ولم تجيء به الرواية قلت لا محل للخدش فيه لأن مثل هذا استعمل كثيرا في أثناء الكتب يقال عند انتهاء كلام باب أو فصل بالسكون ثم يشرع في كلام آخر وحكمه حكم تعداد الكلمات ولا مانع من جوازه غير أنه لا يستحق الإعراب لأن الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب ورأيت كثيرا من الفضلاء المحققين يقولون فصل مهما فصل لا ينون ومهما وصل ينون لأن الإعراب يكون بالتركيب وقوله لم تجيء به الرواية لا يصلح سندا للمنع لأن التوقف على الرواية إنما يكون في متن الكتاب أو السنة وأما في غيرهما من التراكيب يتصرف مهما يكون بعد أن لا يكون خارجا عن قواعد العربية ووقع في رواية أبي ذر عن مشايخه الثلاثة هكذا كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله الخ بدون لفظة باب ( فإن قلت ) ما يكون محل كيف من الإعراب على هذا الوجه قلت يجوز أن يكون حالا كما في قولك كيف جاء زيد أي على أي حالة جاء زيد والتقدير ههنا على أي حالة كان ابتداء الوحي إلى رسول الله وقول بعضهم ههنا والجملة في محل الرفع لا وجه له لأن الجملة من حيث هي لا تستحق من الإعراب شيئا إلا إذا وقعت في موقع المفرد وهو في مواضع معدودة قد بينت في موضعها وليس ههنا موقع يقتضي الرفع وإنما الذي يقتضي هو النصب على الحالية كما ذكرنا وهو من جملة تلك المواضع فافهم قوله جملة خبرية ولكنها لما كانت دعاء صارت إنشاء لأن المعنى اللهم صل على محمد وكذا الكلام في سلم قوله وقول الله تعالى يجوز فيه الوجهان الرفع على الابتداء وخبره قوله ( إنا أوحينا إليك ) الخ والجر عطف على الجملة التي أضيف إليها الباب والتقدير باب كيف كان ابتداء الوحي وباب معنى قول الله عز و جل وإنما لم يقدر وباب كيف قول الله لأن قول الله تعالى لا يكيف وقال بعض الشراح قال النووي في تلخيصه وقول الله مجرور ومرفوع معطوف على كيف قلت وجه العطف في كونه مجرورا ظاهر وأما الرفع كيف يكون بالعطف على كيف وليس فيه الرفع فافهم قوله ( إليك ) في محل النصب على المفعولية قوله ( كما أوحينا ) كلمة ما ههنا مصدرية والتقدير كوحينا ومحلها الجر بكاف التشبيه قوله ( إلى نوح ) بالصرف وكان القياس فيه منع الصرف للعجمة والعلمية إلا أن الخفة فيها قاومت أحد السببين فصرفت لذلك وقوم يجرون نحوه على القياس فلا يصرفونه لوجود السببين واللغة الفصيحة التي عليها التنزيل
( بيان المعاني ) اعلم أن كيف متضمنة معنى همزة الاستفهام لأنه سؤال عن الحال وهو الاستفهام وقد يكون للإنكار والتعجب كما في قوله تعالى ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا ) المعنى أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان وهو الإنكار والتعجب ونظيره قولك أتطير بغير جناح وكيف تطير بغير جناح قوله ( إنا أوحينا ) كلمة إن للتحقيق والتأكيد وقد علم أن المخاطب إذا كان خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر نفيا وإثباتا والتردد فيه استغنى عن ذكر مؤكدات الحكم وإن كان متصورا لطرفيه مترددا فيه طالبا للحكم حسن تقويته بمؤكد واحد من أن أو اللام أو غيرهما كقولك لزيد عارف أو إن زيدا عارف وإن كان منكرا للحكم الذي أراده المتكلم وجب توكيده بحسب الإنكار فكلما زاد الإنكار استوجب زيادة التأكيد فتقول لمن لا يبالغ في إنكار صدقك إني صادق ولمن بالغ فيه إني لصادق ولمن أوغل فيه والله إني لصادق ويسمى الضرب الأول ابتدائيا والثاني طلبيا والثالث إنكاريا ويسمى إخراج الكلام على هذه الوجوه إخراجا على مقتضى الظاهر وكثيرا ما يخرج على خلافه لنكتة من النكات كما عرف في موضعه والنكتة في تأكيد قوله ( أوحينا إليك ) بقوله إن لأجل الكلام السابق لأن الآية جواب لما تقدم من قوله تعالى ( يسألك

(1/15)


أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ) الآية فأعلم الله تعالى أن أمره كأمر النبيين من قبله يوحى إليه كما يوحى إليهم وقال عبد القاهر في نحو قوله تعالى ( وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) ( وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) ( التوبة ويا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) وغير ذلك مما يشابه هذه أن التأكيد في مثل هذه المقامات لتصحيح الكلام السابق والاحتجاج له وبيان وجه الفائدة فيه ثم النون في قوله ( أوحينا ) للتعظيم وقد علم أن نا وضعت للجماعة فإذا أطلقت على الواحد يكون للتعظيم فافهم
( بيان البيان ) الكاف في قوله ( كما أوحينا ) للتشبيه وهي الكاف الجارة والتشبيه هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر في وصف من أوصاف أحدهما في نفسه كالشجاعة في الأسد والنور في الشمس والمشبه ههنا الوحي إلى محمد والمشبه به الوحي إلى نوح والنبيين من بعده ووجه التشبيه هو كونه وحي رسالة لا وحي إلهام لأن الوحي ينقسم على وجوه والمعنى أوحينا إليك وحي رسالة كما أوحينا إلى الأنبياء عليهم السلام وحي رسالة لا وحي إلهام
( بيان التفسير ) هذه الآية الكريمة في سورة النساء وسبب نزول الآية وما قبلها أن اليهود قالوا للنبي إن كنت نبيا فأتنا بكتاب جملة من السماء كما أتى به موسى عليه السلام فأنزل الله تعالى ( يسألك أهل الكتاب ) الآيات فأعلم الله تعالى أنه نبي يوحى إليه كما يوحى إليهم وأن أمره كأمرهم ( فإن قلت ) لم خصص نوحا عليه السلام بالذكر ولم يذكر آدم عليه السلام مع أنه أول الأنبياء المرسلين قلت أجاب عنه بعض الشراح بجوابين الأول أنه أول مشرع عند بعض العلماء والثاني أنه أول نبي عوقب قومه فخصصه به تهديدا لقوم محمد وفيهما نظر أما الأول فلا نسلم أنه أول مشرع بل أول مشرع هو آدم عليه السلام فإنه أول نبي أرسل إلى بنيه وشرع لهم الشرائع ثم بعده قام بأعباء الأمر شيث عليه السلام وكان نبيا مرسلا وبعده إدريس عليه السلام بعثه الله إلى ولد قابيل ثم رفعه الله إلى السماء وأما الثاني فلأن شيث عليه السلام هو أول من عذب قومه بالقتل وذكر الفربري في تاريخه أن شيث عليه السلام سار إلى أخيه قابيل فقاتله بوصية أبيه له بذلك متقلدا بسيف أبيه وهو أول من تقلد بالسيف وأخذ أخاه أسيرا وسلسله ولم يزل كذلك إلى أن قبض كافرا والذي يظهر لي من الجواب الشافي عن هذا أن نوحا عليه السلام هو الأب الثاني وجميع أهل الأرض من أولاد نوح الثلاثة لقوله تعالى ( وجعلنا ذريته هم الباقين ) فجميع الناس من ولد سام وحام ويافث وذلك لأن كل من كان على وجه الأرض قد هلكوا بالطوفان إلا أصحاب السفينة وقال قتادة لم يكن فيها إلا نوح عليه السلام وامرأته وثلاثة بنيه سام وحام ويافث ونساؤهم فجميعهم ثمانية وقال ابن إسحق كانوا عشرة سوى نسائهم وقال مقاتل كانوا اثنين وسبعين نفسا وعن ابن عباس كانوا ثمانين إنسانا أحدهم جرهم والمقصود لما خرجوا من السفينة ماتوا كلهم ما خلا نوحا وبنيه الثلاثة وأزواجهم ثم مات نوح عليه السلام وبقي بنوه الثلاثة فجميع الخلق منهم وكان نوح عليه السلام أول الأنبياء المرسلين بعد الطوفان وسائر الأنبياء عليهم السلام بعده ما خلا آدم وشيث وإدريس فلذلك خصه الله تعالى بالذكر ولهذا عطف عليه الأنبياء لكثرتهم بعده
( بيان تصدير الباب بالآية المذكورة ) اعلم أن عادة البخاري رحمه الله تعالى أن يضم إلى الحديث الذي يذكره ما يناسبه من قرآن أو تفسير له أو حديث على غير شرطه أو أثر عن بعض الصحابة أو عن بعض التابعين بحسب ما يليق عنده ذلك المقام ومن عادته في تراجم الأبواب ذكر آيات كثيرة من القرآن وربما اقتصر في بعض الأبواب عليها فلا يذكر معها شيئا أصلا وأراد بذكر هذه الآية في أول هذا الكتاب الإشارة إلى أن الوحي سنة الله تعالى في أنبيائه عليهم السلام
1 - حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير قال حدثنا سفيان قال حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال سمعت رسول الله يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة

(1/16)


ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه
( بيان تعلق الحديث بالآية ) إن الله تعالى أوحى إلى نبينا وإلى جميع الأنبياء عليهم السلام إن الأعمال بالنيات والحجة له قوله تعالى ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) وقوله تعالى ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ) الآية والإخلاص النية قال أبو العالية وصاهم بالإخلاص في عبادته وقال مجاهد أوصيناك به والأنبياء دينا واحدا ومعنى شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء عليهم السلام ثم فسر الشرع المشترك بينهم فقال ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )
( بيان تعلق الحديث بالترجمة ) ذكر فيه وجوه الأول أن النبي خطب بهذا الحديث لما قدم المدينة حين وصل إلى دار الهجرة وذلك كان بعد ظهوره ونصره واستعلائه فالأول مبدأ النبوة والرسالة والاصطفاء وهو قوله باب بدء الوحي والثاني بدء النصر والظهور ومما يؤيده أن المشركين كانوا يؤذون المؤمنين بمكة فشكوا إلى النبي وسألوه أن يغتالوا من أمكنهم منهم ويغدروا به فنزلت ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور ) فنهوا عن ذلك وأمروا بالصبر إلى أن هاجر النبي فنزلت ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) الآية فأباح الله قتالهم فكان إباحة القتال مع الهجرة التي هي سبب النصرة والغلبة وظهور الإسلام الثاني أنه لما كان الحديث مشتملا على الهجرة وكانت مقدمة النبوة في حقه هجرته إلى الله تعالى ومناجاته في غار حراء فهجرته إليه كانت ابتداء فضله باصطفائه ونزول الوحي عليه مع التأييد الإلهي والتوفيق الرباني الثالث أنه إنما أتى به على قصد الخطبة والترجمة للكتاب وقال محمد بن إسماعيل التيمي لما كان الكتاب معقودا على أخبار النبي طلب المصنف تصديره بأول شأن الرسالة وهو الوحي ولم ير أن يقدم عليه شيئا لا خطبة ولا غيرها بل أورد حديث إنما الأعمال بالنيات بدلا من الخطبة وقال بعضهم ولهذه النكتة اختار سياق هذه الطريق لأنها تضمنت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بهذا الحديث على المنبر فلما صلح أن يدخل في خطبة المنابر كان صالحا أن يدخل في خطبة الدفاتر قلت هذا فيه نظر لأن الخطبة عبارة عن كلام مشتمل على البسملة والحمدلة والثناء على الله تعالى بما هو أهله والصلاة على النبي ويكون في أول الكلام والحديث غير مشتمل على ذلك وكيف يقصد به الخطبة مع أنه في أوسط الكلام وقول القائل فلما صلح أن يدخل في خطبة المنابر إلى آخره غير سديد لأن خطبة المنابر غير خطبة الدفاتر فكيف تقوم مقامها وذلك لأن خطبة المنابر تشتمل على ما ذكرنا مع اشتمالها على الوصية بالتقوى والوعظ والتذكير ونحو ذلك بخلاف خطبة الدفاتر فإنها بخلاف ذلك أما سمع هذا القائل لكل مكان مقال غاية ما في الباب أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه خطب للناس وذكر في خطبته في جملة ما ذكر هذا الحديث ولم يقتصر على ذكر الحديث وحده ولئن سلمنا أنه اقتصر في خطبته على هذا الحديث ولكن لا نسلم أن تكون خطبته به دليلا على صلاحه أن تكون خطبة في أوائل الكتب لما ذكرنا فهل يصلح أن يقوم التشهد موضع القنوت أو العكس ونحو ذلك وذكروا فيه أوجها أخرى كلها مدخولة
( بيان رجاله وهم ستة الأول الحميدي هو أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله بن الزبير بن عبد الله بن حميد بن أسامة بن زهير بن الحرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي يجتمع مع رسول الله في قصي ومع خديجة بنت خويلد بن أسد زوج النبي في أسد بن عبد العزى من رؤساء أصحاب ابن عيينة توفي بمكة سنة تسع عشرة ومائتين وروى أبو داود والنسائي عن رجل عنه وروى مسلم في المقدمة عن سلمة بن شبيب عنه الثاني سفيان بن عيينة ابن أبي عمران ميمون مولى محمد بن مزاحم أخي الضحاك إمام جليل في الحديث والفقه والفتوى وهو أحد مشايخ الشافعي ولد سنة سبع ومائة وتوفي غرة رجب سنة ثمان وتسعين ومائة الثالث يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة بن الحارث بن زيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري المدني تابعي مشهور من أئمة

(1/17)


المسلمين ولى قضاء المدينة وأقدمه المنصور العراق وولاه القضاء بالهاشمية وتوفي بها سنة ثلاث وقيل أربع وأربعين ومائة روى له الجماعة الرابع محمد بن إبراهيم بن الحرث بن خالد بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة كان كثير الحديث توفي سنة عشرين ومائة روى له الجماعة الخامس علقمة بن وقاص الليثي يكنى بأبي واقد ذكره أبو عمرو بن منده في الصحابة وذكره الجمهور في التابعين توفي بالمدينة أيام عبد الملك بن مروان السادس عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بكسر الراء وفتح الياء آخر الحروف بن عبد الله بن قرط بن رزاح بفتح الراء أوله ثم زاي مفتوحة أيضا ابن عدي أخي مرة وهصيص ابني كعب بن لؤي العدوي القرشي يجتمع مع رسول الله في كعب الأب الثامن وأمه حنتمة بالحاء المهملة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر أخي عامر وعمران ابني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب وقال أبو عمر والصحيح أنها بنت هاشم وقيل بنت هشام فمن قال بنت هشام فهي أخت أبي جهل ومن قال بنت هاشم فهي ابنة عم أبي جهل
( بيان ضبط الرجال ) الحميدي بضم الحاء وفتح الميم وسفيان بضم السين على المشهور وحكى كسرها وفتحها أيضا وأبوه عيينة بضم العين المهملة وفتح الياء آخر الحروف وبعدها ياء أخرى ساكنة ثم نون مفتوحة وفي آخره هاء ويقال بكسر العين أيضا وعلقمة بفتح العين المهملة والوقاص بتشديد القاف
( بيان الأنساب ) الحميدي نسبة إلى جده حميد المذكور بالضم وقال السمعاني نسبة إلى حميد بطن من أسد بن عبد العزى بن قصي وقيل منسوب إلى الحميدات قبيلة وقد يشتبه هذا بالحميدي المتأخر صاحب الجمع بين الصحيحين وهو العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد بن يصل بكسر الياء آخر الحروف والصاد المهملة المكسورة ثم لام الأندلسي الإمام ذو التصانيف في فنون سمع الخطيب وطبقته وبالأندلس ابن حزم وغيره وعنه الخطيب وابن ماكولا وخلق ثقة متقن مات ببغداد سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربع مائة وهو يشتبه بالحميدي بالفتح وكسر الميم نسبة لإسحاق بن تكينك الحميدي مولى الأمير الحميد الساماني والأنصاري نسبة إلى الأنصار واحدهم نصير كشريف وأشراف وقيل ناصر كصاحب وأصحاب وهو وصف لهم بعد الإسلام وهم قبيلتان الأوس والخزرج ابنا حارثة بالحاء المهملة ابن ثعلبة بن مازن ابن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام والتيمي نسبة إلى عدة قبائل اسمها تيم منها تيم قريش منها خلق كثير من الصحابة فمن بعدهم منها محمد بن إبراهيم المذكور والليثي نسبة إلى ليث بن بكر
( بيان فوائد تتعلق بالرجال ) ليس في الصحابة من اسمه عمر بن الخطاب غيره وفي الصحابة عمر ثلاثة وعشرون نفسا على خلاف في بعضهم وربما يلتبس بعمر وبزيادة واو في آخره وهم خلق فوق المائتين بزيادة أربعة وعشرين على خلاف في بعضهم وفي الرواة عمر بن الخطاب غير هذا الاسم ستة الأول كوفي روى عنه خالد بن عبد الله الواسطي الثاني راسبي روى عنه سويد أبو حاتم الثالث إسكندري روى عن ضمام بن إسماعيل الرابع عنبري روى عن أبيه عن يحيى بن سعيد الأنصاري الخامس سجستاني روى عن محمد بن يوسف الفريابي السادس سدوسي بصري روى عن معتمر بن سليمان وليس في الكتب الستة من اسمه علقمة بن وقاص غيره وجملة من اسمه يحيى بن سعيد في الحديث ستة عشر وفي الصحيح جماعة يحيى بن سعيد بن أبان الأموي الحافظ ويحيى بن سعيد بن حيان أبو التيمي الإمام ويحيى بن سعيد بن العاص الأموي تابعي ويحيى بن سعيد بن فروخ القطاني التيمي الحافظ أحد الأعلام ولهم يحيى بن سعيد العطار براء في آخره واه وعبد الله بن الزبير في الكتب الستة ثلاثة أحدهم الحميدي المذكور والثاني حميدي الصحابي والثالث البصري روى له ابن ماجه والترمذي في الشمائل وفي الصحابة أيضا عبد الله بن الزبير بن المطلب بن هاشم وليس لهما ثالث في الصحابة رضي الله عنهم
( بيان لطائف إسناده ) منها أن رجال إسناده ما بين مكي ومدني فالأولان مكيان والباقون مدنيون ومنها رواية تابعي عن تابعي وهما يحيى ومحمد التيمي وهذا كثير وإن شئت قلت فيه ثلاثة تابعيون بعضهم عن بعض بزيادة علقمة على

(1/18)


قول الجمهور كما قلنا أنه تابعي لا صحابي ومنها رواية صحابي عن صحابي على قول من عده صحابيا وألطف من هذا أنه يقع رواية أربعة من التابعين بعضهم عن بعض ورواية أربعة من الصحابة بعضهم عن بعض وقد أفرد الحافظ أبو موسى الأصبهاني جزأ لرباعي الصحابة وخماسيهم ومن الغريب العزيز رواية ستة من التابعين بعضهم عن بعض وقد أفرده الخطيب البغدادي بجزء جمع اختلاف طرقه وهو حديث منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف عن الربيع بن خيثم عن عمرو بن ميمون الأودي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن امرأة من الأنصار عن أبي أيوب عن النبي في أن ( قل هو الله أحد ) تعدل ثلث القرآن وقال يعقوب بن شيبة وهو أطول إسناد روى قال الخطيب والأمر كما قال قال وقد روى هذا الحديث أيضا من طريق سبعة من التابعين ثم ساقه من حديث أبي إسحق الشيباني عن عمرو بن مرة عن هلال عن عمرو عن الربيع عن عبد الرحمن فذكره ومنها أنه أتى فيه بأنواع الرواية فأتى بحدثنا الحميدي ثم بعن في قوله عن سفيان ثم بلفظ أخبرني محمد ثم بسمعت عمر رضي الله عنه يقول فكأنه يقول هذه الألفاظ كلها تفيد السماع والاتصال كما سيأتي عنه في باب العلم عن الحميدي عن ابن عيينة أنه قال حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت واحد والجمهور قالوا أعلى الدرجات لهذه الثلاثة سمعت ثم حدثنا ثم أخبرنا واعلم أنه إنما وقع عن سفيان في رواية أبي ذر وفي رواية غيره حدثنا سفيان وعن هذا اعترض على البخاري في قوله عن سفيان لأنه قال جماعة بأن الإسناد المعنعن يصير الحديث مرسلا وأجيب بأن ما وقع في البخاري ومسلم من العنعنة فمحمول على السماع من وجه آخر وأما غير المدلس فعنعنته محمولة على الاتصال عند الجمهور مطلقا في الكتابين وغيرهما لكن بشرط إمكان اللقاء وزاد البخاري اشتراط ثبوت اللقاء قلت وفي اشتراط ثبوت اللقاء وطول الصحبة ومعرفته بالرواية عنه مذاهب أحدها لا يشترط شيء من ذلك ونقل مسلم في مقدمة صحيحه الإجماع عليه والثاني يشترط ثبوت اللقاء وحده وهو قول البخاري والمحققين والثالث يشترط طول الصحبة والرابع يشترط معرفته بالرواية عنه والحميدي مشهور بصحبة ابن عيينة وهو أثبت الناس فيه قال أبو حاتم هو رئيس أصحابه ثقة إمام وقال ابن سعد هو صاحبه وراويته والأصح أن إن كعن بالشرط المتقدم وقال أحمد وجماعة يكون منقطعا حتى يتبين السماع ومنها أن البخاري قد ذكر في هذا الحديث الألفاظ الأربعة وهي أن وسمعت وعن وقال فذكرها ههنا وفي الهجرة والنذور وترك الحيل بلفظ سمعت رسول الله وفي باب العتق بلفظ عن وفي باب الإيمان بلفظ أن وفي النكاح بلفظ قال وقد قام الإجماع على أن الإسناد المتصل بالصحابي لا فرق فيه بين هذه الألفاظ ومنها أن البخاري رحمه الله ذكر في بعض رواياته لهذا الحديث سمعت رسول الله عليه وسلم وفي بعضها سمعت النبي ويتعلق بذلك مسألة وهي هل يجوز تغيير قال النبي إلى قال الرسول أو عكسه فقال ابن الصلاح والظاهر أنه لا يجوز وإن جازت الرواية بالمعنى لاختلاف معنى الرسالة والنبوة وسهل في ذلك الإمام أحمد رحمه الله وحماد بن سلمة والخطيب وصوبه النووي قلت كان ينبغي أن يجوز التغيير مطلقا لعدم اختلاف المعنى ههنا وإن كانت الرسالة أخص من النبوة وقد قلنا أن كل رسول نبي من غير عكس وهو الذي عليه المحققون ومنهم من لم يفرق بينهما وهو غير صحيح ومن الغريب ما قاله الحليمي في هذا الباب أن الإيمان يحصل بقول الكافر آمنت بمحمد النبي دون محمد الرسول وعلل بأن النبي لا يكون إلا لله والرسول قد يكون لغيره
( بيان نوع الحديث ) هذا فرد غريب باعتبار مشهور باعتبار آخر وليس بمتواتر خلافا لما يظنه بعضهم فإن مداره على يحيى بن سعيد وقال الشيخ قطب الدين رحمه الله يقال هذا الحديث مع كثرة طرقه من الأفراد وليس بمتواتر لفقد شرط التواتر فإن الصحيح أنه لم يروه عن النبي سوى عمر ولم يروه عن عمر إلا علقمة ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم ولم يروه عن محمد إلا يحيى بن سعيد الأنصاري ومنه انتشر فهو مشهور بالنسبة إلى آخره غريب بالنسبة إلى أوله وهو مجمع على صحته وعظم موقعه وروينا عن أبي الفتوح الطائي بسند صحيح متصل أنه قال رواه عن يحيى بن سعيد أكثر من مائتي نفس وقد اتفقوا على أنه لا يصح مسندا إلا من هذه الطريق المذكورة وقال الخطابي لا أعلم خلافا بين أهل العلم أن هذا الحديث لا يصح مسندا عن النبي إلا من حديث عمر رضي الله عنه قلت

(1/19)


يريد ما ذكره الحافظ أبو يعلى الخليل حيث قال غلط فيه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد المكي في الحديث الذي يرويه مالك والخلق عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر رضي الله عنه فقال فيه عبد المجيد عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال الأعمال بالنية قال ورواه عنه نوح بن حبيب وإبراهيم بن عتيق وهو غير محفوظ من حديث زيد بن أسلم بوجه من الوجوه قال فهذا مما أخطأ فيه الثقة عن الثقة قالوا إنما هو حديث آخر ألصق به هذا قلت أحال الخطابي الغلط على نوح وأحال الخليل الغلط على عبد المجيد انتهى قلت قد رواه عن النبي غير عمر من الصحابة رضي الله عنهم وإن كان البزار قال لا نعلم روى هذا الحديث إلا عن عمر عن رسول الله عليه السلام وبهذا الإسناد وكذا قال ابن السكوني في كتابه المسمى بالسنن الصحاح المأثورة لم يروه عن النبي بإسناد غير عمر بن الخطاب وكذا الإمام أبو عبد الله محمد بن عتاب حيث قال لم يروه عن النبي غير عمر رضي الله عنه وقال ابن منده رواه عن النبي غير عمر سعد بن أبي وقاص وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأنس وابن عباس ومعاوية وأبو هريرة وعبادة بن الصامت وعتبة بن عبد الأسلمي وهزال بن سويد وعتبة بن عامر وجابر بن عبد الله وأبو ذر وعتبة بن المنذر وعقبة بن مسلم رضي الله تعالى عنهم وأيضا قد توبع علقمة والتيمي ويحيى بن سعيد على روايتهم قال ابن منده هذا الحديث رواه عن عمر غير علقمة ابنه عبد الله وجابر وأبو جحيفة وعبد الله بن عامر بن ربيعة وذو الكلاع وعطاء بن يسار وواصل ابن عمرو الجذامي ومحمد بن المنكدر ورواه عن علقمة غير التيمي سعيد بن المسيب ونافع مولى بن عمر وتابع يحيى بن سعيد على روايته عن التيمي محمد بن محمد بن علقمة أبو الحسن الليثي وداود بن أبي الفرات ومحمد بن إسحاق وحجاج بن أرطاة وعبد الله بن قيس الأنصاري ولا يدخل هذا الحديث في حد الشاذ وقد اعترض على بعض علماء أهل الحديث حيث قال الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد تفرد به ثقة أو غيره فأورد عليه الإجماع على العمل بهذا الحديث وشبهه وأنه في أعلى مراتب الصحة وأصل من أصول الدين مع أن الشافعي رضي الله عنه حده بكلام بديع فإنه قال هو وأهل الحجاز الشاذ هو أن يروي الثقة مخالفا لرواية الناس لا أن يروي ما لا يروي الناس وهذا الحديث وشبهه ليس فيه مخالفة بل له شواهد تصحح معناه من الكتاب والسنة وقال الخليلي إن الذي عليه الحفاظ أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ به ثقة أو غيره فما كان عن غير ثقة فمردود وما كان عن ثقة توقف فيه ولا يحتج به وقال الحاكم أنه ما انفرد به ثقة وليس له أصل يتابع قلت ما ذكروه يشكل بما ينفرد به العدل الضابط كهذا الحديث فإنه لا يصح إلا فردا وله متابع أيضا كما سلف ثم اعلم أنه لا يشك في صحة هذا الحديث لأنه من حديث الإمام يحيى بن سعيد الأنصاري رواه عنه حفاظ الإسلام وأعلام الأئمة مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن المبارك وعبد الوهاب وخلايق لا يحصون كثرة وقد ذكره البخاري من حديث سفيان ومالك وحماد بن زيد وعبد الوهاب كما سيأتي قال أبو سعيد محمد بن علي الخشاب الحافظ روى هذا الحديث عن يحيى بن سعيد نحو مأتين وخمسين رجلا وذكر ابن منده في مستخرجه فوق الثلاثمائة وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني سمعت الحافظ أبا مسعود عبد الجليل بن أحمد يقول في المذاكرة قال الإمام عبد الله الأنصاري كتبت هذا الحديث عن سبعمائة رجل من أصحاب يحيى بن سعيد وقال الحافظ أبو موسى المديني وشيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي أنه رواه عن يحيى سبع مائة رجل فإن قيل قد ذكر في تهذيب مستمر الأوهام لابن ماكولا أن يحيى بن سعيد لم يسمعه من التيمي وذكر في موضع آخر أنه يقال لم يسمعه التيمي من علقمة قلت رواية البخاري عن يحيى بن سعيد أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة ترد هذا وبما ذكرنا أيضا يرد ما قاله ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار أن هذا الحديث قد يكون عند بعضهم مردودا لأنه حديث فرد

(1/20)


( بيان تعدد الحديث في الصحيح ) قد ذكره في ستة مواضع أخرى من صحيحه عن ستة شيوخ آخرين أيضا الأول في الإيمان في باب ما جاء إن الأعمال بالنية عن عبد الله بن مسلمة القعنبي ثنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله قال الأعمال بالنية ولكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه الثاني في العتق في باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه عن محمد بن كثير عن سفيان الثوري حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد عن علقمة قال سمعت عمر رضي الله عنه يقول عن النبي قال الأعمال بالنية ولامرىء ما نوى فمن كانت هجرته الحديث بمثل ما قبله الثالث في باب هجرة النبي عن مسدد حدثنا حماد بن زيد عن يحيى عن محمد عن علقمة سمعت عمر رضي الله عنه قال سمعت النبي يقول الأعمال بالنية فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله الرابع في النكاح في باب من هاجر أو عمل خيرا لتزويج امرأة فله ما نوى عن يحيى بن قزعة حدثنا مالك عن يحيى عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن علقمة عن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله العمل بالنية وإنما لامرىء ما نوى الحديث بلفظه في الإيمان إلا أنه قال ينكحها بدل يتزوجها الخامس في الإيمان والنذور في باب النية في الإيمان عن قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب سمعت يحيى بن سعيد يقول أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله عليه وسلم يقول إنما الأعمال بالنية وإنما لامرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه السادس في باب ترك الحيل عن أبي النعمان محمد بن الفضل حدثنا حماد بن زيد عن يحيى عن محمد عن علقمة قال سمعت عمر يخطب قال سمعت النبي يقول يأيها الناس إنما الأعمال بالنية وإنما لامرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه
( بيان من أخرجه غيره ) أخرجه مسلم في صحيحه في آخر كتاب الجهاد عن عبد الله بن مسلمة عن مالك بلفظ إنما الأعمال بالنية وإنما لامرىء ما نوى الحديث مطولا وأخرجه أيضا عن محمد بن رمح بن المهاجر عن الليث وعن ابن الربيع العتكي عن حماد بن زيد وعن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب الثقفي وعن إسحاق بن إبراهيم عن أبي خالد الأحمر وعن ابن نمير عن حفص بن غياث ويزيد بن هارون وعن محمد بن العلاء عن ابن المبارك وعن ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة كلهم عن يحيى بن سعيد عن محمد عن علقمة عن عمر وفي حديث سفيان سمعت عمر على المنبر يخبر عن رسول الله وأخرجه أبو داود في الطلاق عن محمد بن كثير عن سفيان والترمذي في الحدود عن ابن المثنى عن الثقفي والنسائي عن يحيى بن حبيب عن حماد بن زيد وعن سليمان بن منصور عن ابن المبارك وعن إسحاق بن إبراهيم عن أبي خالد الأحمر وعن عمرو بن منصور عن القعنبي وعن الحرث عن أبي القاسم جميعا عن مالك ذكره في أربعة أبواب من سننه الإيمان والطهارة والعتاق والطلاق ورواه ابن ماجه في الزهد من سننه عن أبي بكر عن يزيد بن هارون وعن ابن رمح عن الليث كل هؤلاء عن يحيى عن محمد عن علقمة عن عمر به ورواه أيضا أحمد في مسنده والدارقطني وابن حبان والبيهقي ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمد عليها من لم يخرجه سوى مالك فإنه لم يخرجه في موطئه ووهم ابن دحية الحافظ فقال في إملائه على هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ ورواه الشافعي عنه وهذا عجيب منه
( بيان اختلاف لفظه ) قد حصل من الطرق المذكورة أربعة ألفاظ إنما الأعمال بالنيات الأعمال بالنية العمل بالنية وادعى النووي في تلخيصه قلتها والرابع إنما الأعمال بالنية وأورده القضاعي في الشهاب بلفظ خامس الأعمال بالنيات بحذف إنما وجمع الأعمال والنيات قلت هذا أيضا موجود في بعض نسخ البخاري وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني لا يصح إسنادها وأقره النووي على ذلك في تلخيصه وغيره وهو غريب منهما وهي رواية صحيحة

(1/21)


أخرجها ابن حبان في صحيحه عن علي بن محمد العتابي ثنا عبد الله بن هاشم الطوسي ثنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد عن علقمة عن عمر قال قال رسول الله الأعمال بالنيات الحديث وأخرجه أيضا الحاكم في كتابه الأربعين في شعار أهل الحديث عن أبي بكر ابن خزيمة ثنا القعنبي ثنا مالك عن يحيى بن سعيد به سواء ثم حكم بصحته وأورده ابن الجارود في المنتقى بلفظ سادس عن ابن المقري حدثنا سفيان عن يحيى به إن الأعمال بالنية وإن لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا الحديث وأورده الرافعي في شرحه الكبير بلفظ آخر غريب وهو ليس للمرء من عمله إلا ما نواه وفي البيهقي من حديث أنس مرفوعا لا عمل لمن لا نية له وهو بمعناه لكن في إسناده جهالة
( بيان اختياره هذا في البداية ) أراد بهذا إخلاص القصد وتصحيح النية وأشار به إلى أنه قصد بتأليفه الصحيح وجه الله تعالى وقد حصل له ذلك حيث أعطى هذا الكتاب من الحظ ما لم يعط غيره من كتب الإسلام وقبله أهل المشرق والمغرب وقال ابن مهدي الحافظ من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ بهذا الحديث وقال لو صنفت كتابا لبدأت في كل باب منه بهذا الحديث وقال أبو بكر بن داسة سمعت أبا داود يقول كتبت عن النبي خمسمائة ألف حديث انتخبت منها أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث في الأحكام فأما أحاديث الزهد والفضائل فلم أخرجها ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث الأعمال بالنيات والحلال بين والحرام بين ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ولا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه وقال القاضي عياض ذكر الأئمة أن هذا الحديث ثلث الإسلام وقيل ربعه وقيل أصول الدين ثلاثة أحاديث وقيل أربعة قال الشافعي وغيره يدخل فيه سبعون بابا من الفقه وقال النووي لم يرد الشافعي رحمه الله تعالى انحصار أبوابه في هذا العدد فإنها أكثر من ذلك وقد نظم طاهر بن مفوز الأحاديث الأربعة ( عمدة الدين عندنا كلمات
أربع من كلام خير البرية )
( اتق الشبهات وازهد ودع ما
ليس يعنيك واعملن بنية )
فإن قيل ما وجه قولهم إن هذا الحديث ثلث الإسلام قلت لتضمنه النية والإسلام قول وفعل ونية ولما بدأ البخاري كتابه به لما ذكرنا من المعنى ختمه بحديث التسبيح لأن به تتعطر المجالس وهو كفارة لما قد يقع من الجالس فإن قيل لم اختار من هذا الحديث مختصره ولم يذكر مطوله ههنا قلت لما كان قصده التنبيه على أنه قصد به وجه الله تعالى وأنه سيجزى بحسب نيته ابتدأ بالمختصر الذي فيه إشارة إلى أن الشخص يجزى بقدر نيته فإن كانت نيته وجه الله تعالى يجزى بالثواب والخير في الدارين وإن كانت نيته وجها من وجوه الدنيا فليس له حظ من الثواب ولا من خير الدنيا والآخرة وقال بعض الشارحين سئلت عن السر في ابتداء البخاري بهذا الحديث مختصرا ولم لا ذكره مطولا كما ذكر في غيره من الأبواب فأجبته في الحال بأن عمر قاله على المنبر وخطب به فأراد التأسي به قلت قد ذكره البخاري أيضا مطولا في ترك الحيل وفيه أنه خطب به كما سيأتي فإذن لم يقع كلامه جوابا فإن قلت لم قدم رواية الحميدي على غيره من مشايخه الذين روى عنهم هذا الحديث قلت هذا السؤال ساقط لأنه لو قدم رواية غيره لكان يقال لم قدم هذا على غيره ويمكن أن يقال أن ذاك لأجل كون رواية الحميدي أخصر من رواية غيره وفيه الكفاية على دلالة مقصوده وقال بعضهم قدم الرواية عن الحميدي لأنه قرشي مكي إشارة إلى العمل بقوله قدموا قريشا ولا تقدموها وإشعارا بأفضلية مكة على غيرها من البلاد ولأن ابتداء الوحي كان منها فناسب بالرواية عن أهلها في أول بدء الوحي ومن ثمة ثنى بالرواية عن مالك لأنه فقيه الحجاز ولأن المدينة تلو مكة في الفضل وقد بينتها في نزول الوحي قلت ليس البخاري ههنا في صدد بيان فضيلة قريش ولا في بيان فضيلة مكة حتى يبتدىء برواية شخص قرشي مكي ولئن سلمنا فما وجه تخصيص الحميدي من بين الرواة القرشيين المكيين وأيضا قوله قدموا قريشا إنما هو في الإمامة الكبرى ليس إلا وفي غيرها يقدم الباهلي العالم على القرشي الجاهل وقوله ولأن ابتداء الوحي إلى آخره إنما يستقيم أن لو كان الحديث

(1/22)


في أمر الوحي وإنما الحديث في النية فلا يلزم من ذلك ما قاله فافهم
( بيان اللغة ) قوله سمعت من سمعت الشيء سمعا وسماعا وسماعة والسمع سمع الإنسان فيكون واحدا وجمعا قال الله تعالى ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) لأنه في الأصل مصدر كما ذكرنا ويجمع على أسماع وجمع القلة أسمع وجمع الأسمع أسامع ثم النحاة اختلفوا في سمعت هل يتعدى إلى مفعولين على قولين أحدهما نعم وهو مذهب الفارسي قال لكن لا بد أن يكون الثاني مما يسمع كقولك سمعت زيدا يقول كذا ولو قلت سمعت زيدا أخاك لم يجز والصحيح أنه لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد والفعل الواقع بعد المفعول في موضع الحال أي سمعته حال قوله كذا قوله على المنبر بكسر الميم مشتق من النبر وهو الارتفاع قال الجوهري نبرت الشيء أنبره نبرا رفعته ومنه سمى المنبر قلت هو من باب ضرب يضرب وفي العباب نبرت الشيء أنبره مثل كسرته أكسره أي رفعته ومنه سمي المنبر لأنه يرتفع ويرفع الصوت عليه فإن قلت هذا الوزن من أوزان الآلة وقد علم أنها ثلاثة مفعل كمحلب ومفعال كمفتاح ومفعلة كمكحلة وكان القياس فيه فتح الميم لأنه موضع العلو والارتفاع قلت هذا ونحوه من الأسماء الموضوعة على هذه الصيغة وليست على القياس وقال الكرماني وهو بلفظ الآلة لأنه آلة الارتفاع وفيه نظر لأن الآلة هي ما يعالج بها الفاعل المفعول كالمفتاح ونحوه والمنبر ليس كذلك وإنما هو موضع العلو والارتفاع والصحيح ما ذكرناه قوله الأعمال جمع عمل وهو مصدر قولك عمل يعمل عملا والتركيب يدل على فعل يفعل فإن قلت ما الفرق بين العمل والفعل قلت قال الصغاني وتركيب الفعل يدل على إحداث شيء من العمل وغيره فهذا يدل على أن الفعل أعم منه والفعل بالكسر الاسم وجمعه فعال وأفعال وبالفتح مصدر قولك فعلت الشيء أفعله فعلا وفعالا قوله بالنيات جمع نية من نوى ينوي من باب ضرب يضرب قال الجوهري نويت نية ونواة أي عزمت وانتويت مثله قال الشاعر ( صرمت أميمة خلتي وصلاتي
ونوت ولما تنتوي كنواتي )
تقول لو تنو في كما نويت فيها وفي مودتها والنيات بتشديد الياء هو المشهور وقد حكى النووي تخفيف الياء وقال بعض الشارحين فمن شدد وهو المشهور كانت من نوى ينوي إذا قصد ومن خفف كان من ونى ينى إذا أبطأ وتأخر لأن النية تحتاج في توجيهها وتصحيحها إلى إبطاء وتأخر قلت هذا بعيد لأن مصدر ونى ينى ونيا قال الجوهري يقال ونيت في الأمر أنى ونيا أي ضعفت فأنا وان ثم اختلفوا في تفسير النية فقيل هو القصد إلى الفعل وقال الخطابي هو قصدك الشيء بقلبك وتحرى الطلب منك له وقال التيمي النية ههنا وجهة القلب وقال البيضاوي النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا وقال النووي النية القصد وهو عزيمة القلب وقال الكرماني ليس هو عزيمة القلب لما قال المتكلمون القصد إلى الفعل هو ما نجده من أنفسنا حال الإيجاد والعزم قد يتقدم عليه ويقبل الشدة والضعف بخلاف القصد ففرقوا بينهما من جهتين فلا يصح تفسيره به قلت العزم هو إرادة الفعل والقطع عليه والمراد من النية ههنا هذا المعنى فلذلك فسر النووي القصد الذي هو النية بالعزم فافهم على أن الحافظ أبا الحسن علي بن المفضل المقدسي قد جعل في أربعينه النية والإرادة والقصد والعزم بمعنى ثم قال وكذا أزمعت على الشيء وعمدت إليه وتطلق الإرادة على الله تعالى ولا تطلق عليه غيرها قوله امرىء الامرىء الرجل وفيه لغتان امرىء كزبرج ومرء كفلس ولا جمع له من لفظه وهو من الغرائب لأن عين فعله تابع للام في الحركات الثلاث دائما وكذا في مؤنثه أيضا لغتان امرأة ومرأة وفي الحديث استعمل اللغة الأولى منهما من كلا النوعين إذ قال لكل امرىء وإلى امرأة قوله هجرته بكسر الهاء على وزن فعلة من الهجر وهو ضد الوصل ثم غلب ذلك على الخروج من أرض إلى أرض وترك الأولى للثانية قاله في النهاية وفي العباب الهجر ضد الوصل وقد هجره يهجره بالضم هجرا أو هجرانا والاسم الهجرة ويقال الهجرة الترك والمراد بها هنا ترك الوطن والانتقال إلى غيره وهي في الشرع مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوف الفتنة وطلب إقامة الدين وفي الحقيقة مفارقة ما يكرهه الله تعالى إلى ما يحبه ومن ذلك سمى الذين تركوا توطن مكة وتحولوا

(1/23)


إلى المدينة من الصحابة بالمهاجرين لذلك قوله إلى دنيا بضم الدال على وزن فعلى مقصورة غير منونة والضم فيه أشهر وحكى ابن قتيبة وغيره كسر الدال ويجمع على دنى ككبر جمع كبرى والنسبة إليها دنيوي ودنيي بقلب الواو ياء فتصير ثلاث ياآت وقال الجوهري سميت الدنيا لدنوها من الزوال وجمعها دنى كالكبرى والكبر والصغرى والصغر وأصله دنو فحذفت الواو لاجتماع الساكنين والنسبة إليها دنياوي قلت الصواب أن يقال قلبت الواو ألفا ثم حذفت لالتقاء الساكنين وقال بعض الأفاضل ليس فيها تنوين بلا خلاف نعلمه بين أهل اللغة والعربية وحكى بعض المتأخرين من شراح البخاري أن فيها لغة غريبة بالتنوين وليس بجيد فإنه لا يعرف في اللغة وسبب الغلط أن بعض رواة البخاري رواه بالتنوين وهو أبو الهيثم الكشميهني وأنكر ذلك عليه ولم يكن ممن يرجع إليه في ذلك وأخذ بعضهم يحكي ذلك لغة كما وقع لهم نحو ذلك في خلوف فم الصائم فحكوا فيه لغتين وإنما يعرف أهل اللغة الضم وأما الفتح فرواية مردودة لا لغة قلت جاء التنوين في دنيا في اللغة قال العجاج في جمع دنيا طال ما قد عنت وقال المثلم بن رياح بن ظالم المري
إني مقسم ما ملكت فجاعل
أجرا لآخرة ودنيا تنفع
فإن ابن الأعرابي أنشده بتنوين دنيا وليس ذلك بضرورة على ما لا يخفى وقال ابن مالك استعمال دنيا منكرا فيه أشكال لأنها أفعل التفضيل فكان حقها أن يستعمل باللام نحو الكبرى والحسنى إلا أنها خلعت عنها الوصفية رأسا وأجرى مجرى ما لم يكن وصفا ونحوه قول الشاعر
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة
يوما سراة كرام الناس فادعينا
فإن الجلى مؤنث الأجل فخلعت عنها الوصفية وجعلت اسما للحادثة العظيمة قلت من الدليل على جعلها بمنزلة الاسم الموضوع قلب الواو ياء لأنه لا يجوز ذلك إلا في الفعلى الاسم وقال التيمي الدنيا تأنيث الأدنى لا ينصرف مثل حبلى لاجتماع أمرين فيها أحدهما الوصفية والثاني لزوم حرف التأنيث وقال الكرماني ليس ذلك لاجتماع أمرين فيها إذ لا وصفية ههنا بل امتناع صرفه للزوم التأنيث للألف المقصورة وهو قائم مقام العلتين فهو سهو منه قلت ليس بسهو منه لأن الدنيا في الأصل صفة لأن التقدير الحياة الدنيا كما في قوله تعالى ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) وتركهم موصوفها واستعمالهم إياها نحو الاسم الموضوع لا ينافي الوصفية الأصلية ثم في حقيقتها قولان للمتكلمين أحدهما ما على الأرض مع الهواء والجو والثاني كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة قال النووي هو الأظهر قوله يصيبها من أصاب يصيب إصابة والمراد بالإصابة الحصول أو الوجدان وفي العباب أصابه أي وجده ويقال أصاب فلان الصواب فأخطأ الجواب أي قصد الصواب فأراده فأخطأ مراده وقال أبو بكر بن الأنباري في قوله تعالى ( تجري بأمره رخاء حيث أصاب ) أي حيث أراد وتجيء هذه المعاني كلها ههنا قوله ينكحها أي يتزوجها كما جاء هكذا في الرواية الأخرى وقد يستعمل بمعنى الاقتران بالشيء ومنه قوله تعالى ( وزوجناهم بحور عين ) أي قرناهم قاله الأكثرون وقال مجاهد وآخرون أنكحناهم وهو من باب ضرب يضرب تقول نكح ينكح نكحا ونكاحا إذا تزوج وإذا جامع أيضا وفي العباب النكح والنكاح الوطء والنكح والنكاح التزوج وأنكحها زوجها قال والتركيب يدل على البضع
( بيان الإعراب ) قوله يقول جملة من الفعل والفاعل محلها النصب على الحال من رسول الله عليه وسلم والباء في قوله بالنيات للمصاحبة كما في قوله تعالى ( اهبط بسلام ) ( وقد دخلوا بالكفر ) ومعلقها محذوف والتقدير إنما الأعمال تحصل بالنيات أو توجد بها ولم يذكر سيبويه في معنى الباء إلا الإلصاق لأنه معنى لا يفارقها فلذلك اقتصر عليه ويجوز أن تكون للاستعانة على ما لا يخفى وقول بعض الشارحين الباء تحتمل السببية بعيد جدا فافهم قوله لكل امرىء بكسر الراء وهي لغة القرآن معرب من وجهين فإذا كان فيه ألف الوصل كان فيه ثلاث لغات الأولى وهي لغة القرآن قال الله تعالى ( إن امرؤ هلك ) ( ويحول بين المرء وقلبه ) وهو إعرابها على كل

(1/24)


حال تقول هذا امرؤ ورأيت امرأ ومررت بامرىء معرب من مكانين الثانية فتح الراء على كل حال الثالثة ضمها على كل حال فإن حذفت ألف الوصل قلت هذا مرء ورأيت مرأ ومررت بمرء وجمعه من غير لفظه رجال أو قوم قوله ما نوى أي الذي نواه فكلمة ما موصولة ونوى صلتها والعائد محذوف أي نواه فإن جعلت ما مصدرية لا تحتاج إلى حذف إذ ما المصدرية عند سيبويه حرف والحروف لا تعود عليها الضمائر والتقدير لكل امرىء نيته قوله فمن كانت هجرته الفاء ههنا لعطف المفصل على المجمل لأن قوله فمن كانت هجرته إلى آخره تفصيل لما سبق من قوله إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى قوله إلى دنيا متعلق بالهجرة إن كانت لفظة كانت تامة أو خبر لكانت إن كانت ناقصة قال الكرماني فإن قلت لفظ كانت إن كان باقيا في المضي فلا يعلم أن الحكم بعد صدور هذا الكلام من الرسول أيضا كذلك أم لا وإن نقل بسبب تضمين من لحرف الشرط إلى معنى الاستقبال فبالعكس ففي الجملة الحكم إما للماضي أو للمستقبل قلت جاز أن يراد به أصل الكون أي الوجود مطلقا من غير تقييد بزمان من الأزمنة الثلاثة أو يقاس أحد الزمانين على الآخر أو يعلم من الإجماع على أن حكم المكلفين على السواء أنه لا تعارض انتهى قلت في الجواب الأول نظر لا يخفى لأن الوجود من حيث هو هو لا يخلو عن زمن من الأزمنة الثلاثة قوله يصيبها جملة في محل الجر لأنها صفة لدنيا وكذلك قوله يتزوجها قوله فهجرته الفاء فيه هي الفاء الرابطة للجواب لسبق الشرط وذلك لأن قوله هجرته خبر والمبدأ أعني قوله فمن كانت يتضمن الشرط قوله إلى ما هاجر إليه إما أن يكون متعلقا بالهجرة والخبر محذوف أي هجرته إلى ما هاجر إليه غير صحيحة أو غير مقبولة وإما أن يكون خبر فهجرته والجملة خبر المبتدأ الذي هو من كانت لا يقال المبتدأ والخبر بحسب المفهوم متحدان فما الفائدة في الإخبار لأنا نقول ينتفي الاتحاد ههنا لأن الجزاء محذوف وهو فلا ثواب له عند الله والمذكور مستلزم له دال عليه أو التقدير فهي هجرة قبيحة فإن قلت فما الفائدة حينئذ في الإتيان بالمبتدأ والخبر بالاتحاد وكذا في الشرط والجزاء قلت يعلم منه التعظيم نحو أنا أنا وشعري شعري ومن هذا القبيل فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله وقد يقصد به التحقير نحو قوله فهجرته إلى ما هاجر إليه وقدر أبو الفتح القشيري فمن كانت هجرته نية وقصدا فهجرته حكما وشرعا واستحسن بعضهم هذا التأويل وليس هذا بشيء لأنه على هذا التقدير يفوت المعنى المشعر على التعظيم في جانب والتحقير في جانب وهما مقصودان في الحديث
( بيان المعاني ) قوله إنما للحصر وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه وقال أهل المعاني ومن طرق القصر إنما والقصر تخصيص أحد الأمرين بالآخر وحصره فيه وإنما يفيد إنما معنى القصر لتضمنه معنى ما وإلا من وجوه ثلاثة الأول قول المفسرين في قوله تعالى ( إنما حرم عليكم الميتة ) بالنصب معناه ما حرم عليكم إلا الميتة وهو مطابق لقراءة الرفع لأنها تقتضي انحصار التحريم على الميتة بسبب أن ما في قراءة الرفع يكون موصولا صلته حرم عليكم واقعا اسما لأن أي أن الذي حرمه عليكم الميتة فحذف الراجع إلى الموصول فيكون في معنى أن المحرم عليكم الميتة وهو يفيد الحصر كما أن المنطلق زيد وزيد المنطلق كلاهما يقتضي انحصار الانطلاق على زيد الثاني قول النحاة أن إنما لإثبات ما يذكر بعده ونفى ما سواه الثالث صحة انفصال الضمير معه كصحته مع ما وإلا فلو لم يكن إنما متضمنة لمعنى ما وإلا لم يصح انفصال الضمير معه ولهذا قال الفرزدق أنا الذائد الحامي الزمار وإنما يدافع عن احسابهم أنا أو مثلي ففصل الضمير وهو أنا مع إنما حيث لم يقل وإنما أدافع كما فصل عمرو بن معدي كرب مع إلا في قوله ( قد علمت سلمى وجاراتها
ما قطر الفارس إلا أنا )
وهذا الذي ذكرناه هو قول المحققين ثم اختلفوا فقيل إفادته له بالمنطوق وقيل بالمفهوم وقال بعض الأصوليين إنما لا تفيد إلا التأكيد ونقل صاحب المفتاح عن أبي عيسى الربعي أنه لما كانت كلمة أن لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه ثم اتصلت بها ما المؤكدة التي تزاد للتأكيد كما في حيثما لا النافية على ما يظنه من لا وقوف له على علم النحو ضاعفت تأكيدها فناسب أن يضمن معنى القصر أي معنى ما وإلا لأن القصر ليس إلا لتأكيد الحكم على تأكيد ألا تراك متى قلت لمخاطب يردد المجيء

(1/25)


الواقع بين زيد وعمرو زيد جاء لا عمرو كيف يكون قولك زيد جاء إثباتا للمجيء لزيد صريحا وقولك لا عمرو إثباتا للمجيء لزيد ضمنا لأن الفعل وهو المجيء واقع وإذا كان كذلك وهو مسلوب عن عمرو فيكون ثابتا لزيد بالضرورة قلت أراد بمن لا وقوف له على علم النحو الإمام فخر الدين الرازي فإنه قال أن ما في إنما هي النافية وتقرير ما قاله هو أن أن للإثبات وما للنفي والأصل بقاؤهما على ما كانا وليس أن لإثبات ما عدا المذكور وما لنفي المذكور وفاقا فتعين عكسه ورد بأنها لو كانت النافية لبطلت صدارتها مع أن لها صدر الكلام واجتمع حرفا النفي والإثبات بلا فاصل ولجاز نصب إنما زيد قائما وكان معنى إنما زيد قائم تحقق عدم قيام زيد لأن ما يلي حرف النفي منفي ووجه الكرماني قول من يقول أن ما نافية بقوله وليس كلاهما متوجهين إلى المذكور ولا إلى غير المذكور بل الإثبات متوجه إلى المذكور والنفي إلى غير المذكور إذ لا قائل بالعكس اتفاقا ثم قال واعترض عليه بأنه لا يجوز اجتماع ما النفيية بأن المثبتة لاستلزام اجتماع المتصدرين على صدر واحد ولا يلزم من إثبات النفي لأن النفي هو مدخول الكلمة المحققة فلفظة ما هي المؤكدة لا النافية فتفيد الحصر لأنه يفيد التأكيد على التأكيد ومعنى الحصر ذلك ثم أجاب عن هذا الاعتراض بقوله المراد بذلك التوجيه أن إنما كلمة موضوعة للحصر وذلك سر الوضع فيه لأن الكلمتين والحالة هذه باقيتان على أصلهما مرادتان بوضعهما فلا يرد الاعتراض وأما توجيهه بكونه تأكيدا على تأكيد فهو من باب إيهام العكس إذ لما رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد ظن أن كل ما فيه تأكيد على تأكيد حصر وليس كذلك وإلا لكان والله أن زيد القائم حصرا وهو باطل قلت الاعتراض باق على حاله ولم يندفع بقوله أن إنما كلمة موضوعة للحصر إلى آخره على ما لا يخفى ولا نسلم أنها موضوعة للحصر ابتداء وإنما هي تفيد معنى الحصر من حيث تحقق الأوجه الثلاثة التي ذكرناها فيها وقوله ظن أن كل ما فيه تأكيد إلى آخره غير سديد لأنه لم يكن ذلك أصلا لأنه لا يلزم من كون الحصر تأكيدا على تأكيد كون كل ما فيه تأكيد على تأكيد حصرا حتى يلزم الحصر في نحو والله أن زيد القائم فعلى قول المحققين كل حصر تأكيد على تأكيد وليس كل تأكيد على تأكيد حصرا فافهم وإذا تقرر هذا فاعلم أن إنما تقتضي الحصر المطلق وهو الأغلب الأكثر وتارة تقتضي حصرا مخصوصا كقوله تعالى ( إنما أنت منذر ) وقوله ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ) فالمراد حصره في النذارة لمن لا يؤمن وإن كان ظاهره الحصر فيها لأن له صفات غير ذلك والمراد في الآية الثانية الحصر بالنسبة إلى من آثرها أو هو من باب تغليب الغالب على النادر وكذا قوله إنما أنا بشر أراد بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم وبالنسبة إلى جواز النسيان عليه ومثل ذلك يفهم بالقرائن والسياق ( فإن قلت ) ما الفرق بين الحصرين قلت الأول أعني قوله عليه الصلاة و السلام إنما الأعمال بالنيات قصر المسند إليه على المسند والثاني أعني قوله وإنما لكل امرىء ما نوى قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنما يعمل كل امرىء ما نوى إذ القصر بإنما لا يكون إلا في الجزء الأخير وفي الجملة الثانية حصران الأول من إنما والثاني من تقديم الخبر على المبتدأ قوله وإنما لكل امرىء ما نوى تأكيد للجملة الأولى وحمله على التأسيس أولى لإفادته معنى لم يكن في الأول على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى وكل اسم موضوع لاستغراق إفراد المنكر نحو ( كل نفس ذائقة الموت ) والمعرف المجموع نحو ( وكلهم آتيه ) وإجزاء المفرد المعرف نحو كل زيد حسن فإذا قلت أكلت كل رغيف لزيد كانت لعموم الإفراد فإن أضفت الرغيف لزيد صارت لعموم أجزاء فرد واحد والتحقيق إن كلا إذا أضيفت إلى النكرة تقتضي عموم الإفراد وإذا أضيفت إلى المعرفة تقتضي عموم الاجزاء تقول كل رمان مأكول ولا تقول كل الرمان مأكول
( بيان البيان ) في قوله إلى دنيا يصيبها تشبيه وهو الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى أو في وصف من أوصاف أحدهما في نفسه كالشجاعة في الأسد والنور في الشمس وأركانه أربعة المشبه والمشبه به وأداة التشبيه ووجهه وقد ذكرنا أن المراد بالإصابة الحصول فالتقدير فمن كانت هجرته إلى تحصيل الدنيا فهجرته حاصلة لأجل الدنيا غير مفيدة له في الآخرة فكأنه شبه تحصيل الدنيا بإصابة الغرض بالسهم بجامع حصول المقصود
( بيان البديع ) فيه من أقسامه التقسيم بعد الجمع والتفصيل بعد الجملة وهو قوله فمن كانت هجرته إلى دنيا إلى آخره

(1/26)


لا سيما في الرواية التي فيها فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا إلى آخره وهذه الرواية في غير رواية الحميدي على ما بينا وأثبتها الداودي في رواية الحميدي أيضا وقال بعضهم غلط الداودي في إثباتها وقال الكرماني ووقع في روايتنا وجميع نسخ أصحابنا مخروما قد ذهب شطره وهو قوله فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ولست أدري كيف وقع هذا الإغفال من أي جهة من عرض من رواته وقد ذكره البخاري في هذا الكتاب في غير موضع من غير طريق الحميدي فجاء به مستوفي مذكورا بشطريه ولا شك في أنه لم يقع من جهة الحميدي فقد رواه لنا الأثبات من طريقة تاما غير ناقص
( الأسئلة والأجوبة ) الأول ما قيل ما فائدة قوله وإنما لكل امرىء ما نوى بعد قوله إنما الأعمال بالنيات وأجيب عنه من وجوه الأول ما قاله النووي أن فائدته اشتراط تعيين المنوي فإذا كان على الإنسان صلاة فائتة لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة بل يشترط أن ينوي كونها ظهرا أو عصرا أو غيرها ولولا اللفظ الثاني لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين وفيه نظر لأن الرجل إذا فاتته صلاة واحدة في يوم معين ثم أراد أن يقضي تلك الصلاة بعينها فإنه لا يلزمه ذكر كونها ظهرا أو عصرا الثاني ما ذكره بعض الشارحين من أنه لمنع الاستنابة في النية لأن الجملة الأولى لا تقتضي منع الاستنابة في النية إذ لو نوى واحد عن غيره صدق عليه أنه عمل بنية والجملة الثانية منعت ذلك انتهى وينتقض هذا بمسائل منها نية الولي عن الصبي في الحج على مذهب هذا القائل فإنها تصح ومنها حج الإنسان عن غيره فإنه يصح بلا خلاف ومنها إذا وكل في تفرقة الزكاة وفوض إليه النية ونوى الوكيل فإنه يجزيه كما قاله الإمام والغزالي والحاوي الصغير الثالث ما ذكره ابن السمعاني في أماليه أن فيه دلالة على أن الأعمال الخارجة عن العبادة قد تفيد الثواب إذا نوى بها فاعلها القربة كالأكل والشرب إذا نوى بهما التقوية على الطاعة والنوم إذا قصد به ترويح البدن للعبادة والوطء إذا أراد به التعفف عن الفاحشة كما قال في بضع أحدكم صدقة الحديث الرابع ما ذكره بعضهم أن الأفعال التي ظاهرها القربة وموضوع فعلها للعبادة إذا فعلها المكلف عادة لم يترتب الثواب على مجرد الفعل وإن كان الفعل صحيحا حتى يقصد بها العبادة وفيه نظر لا يخفى الخامس تكون هذه الجملة تأكيدا للجملة الأولى فذكر الحكم بالأولى وأكده بالثانية تنبيها على شرف الإخلاص وتحذيرا من الرياء المانع من الإخلاص السؤال الثاني هو أنه لم يقل في الجزاء فهجرته إليهما وإن كان أخصر بل أتى بالظاهر فقال فهجرته إلى الله ورسوله وأجيب بأن ذلك من آدابه في تعظيم اسم الله عز و جل أن لا يجمع مع ضمير غيره كما قال للخطيب بئس خطيب القوم أنت حين قال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى وبين له وجه الإنكار فقال له قل ( ومن يعص الله ورسوله ) فإن قيل فقد جمع رسول الله الضمير وذلك فيما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله كان إذا تشهد الحديث وفيه ومن يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا قلت إنما كان إنكاره على الخطيب لأنه لم يكن عنده من المعرفة بتعظيم الله عز و جل ما كان عليه السلام يعلمه من عظمته وجلاله ولا كان له وقوف على دقائق الكلام فلذلك منعه والله أعلم السؤال الثالث ما فائدة التنصيص على المرأة مع كونها داخلة في مسمى الدنيا وأجيب من وجوه الأول أنه لا يلزم دخولها في هذه الصيغة لأن لفظة دنيا نكرة وهي لا تعم في الأثبات فلا تقتضي دخول المرأة فيها الثاني أنه للتنبيه على زيادة التحذير فيكون من باب ذكر الخاص بعد العام كما في قوله تعالى ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) وقوله ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) الآية وقال بعض الشارحين وليس منه قوله تعالى ( ونخل ورمان ) بعد ذكر الفاكهة وإن غلط فيه بعضهم لأن فاكهة نكرة في سياق الأثبات فلا تعم لكن وردت في معرض الامتنان قلت الفاكهة اسم لما يتفكه به أي يتنعم به زيادة على المعتاد وهذا المعنى موجود

(1/27)


في النخل والرمان فحينئذ يكون ذكرهما بعد ذكر الفاكهة من قبيل عطف الخاص على العام فعلمت أن هذا القائل هو الغالط إن قلت أبو حنيفة رضي الله عنه لم يجعلها من الفاكهة حتى لو حلف لا يأكل فاكهة فأكل رطبا أو رمانا أو عنبا لم يحنث قلت أبو حنيفة لم يخرجهما من الفاكهة بالكلية بل إنما قال إن هذه الأشياء إنما يتغذى بها أو يتداوى بها فأوجب قصورا في معنى التفكه للاستعمال في حاجة البقاء ولهذا كان الناس يعدونها من التوابل أو من الأقوات الثالث ما قاله ابن بطال عن ابن سراج أنه إنما خص المرأة بالذكر من بين سائر الأشياء في هذا الحديث لأن العرب كانت في الجاهلية لا تزوج المولى العربية ولا يزوجون بناتهم إلا من الأكفاء في النسب فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين في مناكحهم وصار كل واحد من المسلمين كفؤا لصاحبه فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها حتى سمى بعضهم مهاجر أم قيس الرابع أن هذا الحديث ورد على سبب وهو أنه لما أمر بالهجرة من مكة إلى المدينة تخلف جماعة عنها فذمهم الله تعالى بقوله ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم ) الآية ولم يهاجر جماعة لفقد استطاعتهم فعذرهم واستثناهم بقوله ( إلا المستضعفين من الرجال ) الآية وهاجر المخلصون إليه فمدحهم في غير ما موضع من كتابه وكان في المهاجرين جماعة خالفت نيتهم نية المخلصين منهم من كانت نيته تزوج امرأة كانت بالمدينة من المهاجرين يقال لها أم قيس وادعى ابن دحية أن اسمها قيلة فسمى مهاجر أم قيس ولا يعرف اسمه فكان قصده بالهجرة من مكة إلى المدينة نية التزوج بها لا لقصد فضيلة الهجرة فقال النبي ذلك وبين مراتب الأعمال بالنيات فلهذا خص ذكر المرأة دون سائر ما ينوى به الهجرة من أفراد الأغراض الدنيوية لأجل تبين السبب لأنها كانت أعظم أسباب فتنة الدنيا قال النبي ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وذكر الدنيا معها من باب زيادة النص على السبب كما أنه لما سئل عن طهورية ماء البحر زاد حل ميتته ويحتمل أن يكون هاجر لمالها مع نكاحها ويحتمل أنه هاجر لنكاحها وغيره لتحصيل دنيا من جهة ما فعرض بها السؤال الرابع ما قيل لم ذم على طلب الدنيا وهو أمر مباح والمباح لا ذم فيه ولا مدح وأجيب بأنه إنما ذم لكونه لم يخرج في الظاهر لطلب الدنيا وإنما خرج في صورة طالب فضيلة الهجرة فأبطن خلاف ما أظهر السؤال الخامس ما قيل أنه أعاد في الجملة الأولى ما بعد الفاء الواقعة جوابا للشرط مثل ما وقعت في صدر الكلام ولم يعد كذلك في الجملة الثانية وأجيب بأن ذلك للإعراض عن تكرير ذكر الدنيا والغض منها وعدم الاحتفال بأمرها بخلاف الأولى فإن التكرير فيها ممدوح ( أعد ذكر نعمان لنا أن ذكره
هو المسك ما كررته يتضوع )
السؤال السادس ما قيل أن النيات جمع قلة كالأعمال وهي للعشرة فما دونها لكن المعنى أن كل عمل إنما هو بنية سواء كان قليلا أو كثيرا أجيب بأن الفرق بالقلة والكثرة إنما هو في النكرات لا في المعارف
( بيان السبب والمورد ) اشتهر بينهم أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس رواه الطبراني في المعجم الكبير بإسناد رجاله ثقات عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس فإن قيل ذكر أبو عمر في الاستيعاب في ترجمة أم سليم أن أبا طلحة الأنصاري خطبها مشركا فلما علم أنه لا سبيل له إليها إلا بالإسلام أسلم وتزوجها وحسن إسلامه وهكذا روى النسائي من حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام إذ أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها فقالت إني قد أسلمت فإن أسلمت نكحتك فأسلم فكان الإسلام صداق ما بينهما بوب عليه النسائي التزويج على الإسلام وروى النسائي أيضا من حديثه قال خطب أبو طلحة أم سليم فقالت والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فذاك مهري ولا أسألك

(1/28)


غيره فأسلم فكان ذلك مهرها قال ثابت فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم الإسلام فدخل بها الحديث وأخرجه ابن حبان في صحيحه من هذا الوجه فظاهر هذا أن إسلامه كان ليتزوج بها فكيف الجمع بينه وبين حديث الهجرة المذكور مع كون الإسلام أشرف الأعمال وأجيب عنه من وجوه الأول أنه ليس في الحديث أنه أسلم ليتزوجها حتى يكون معارضا لحديث الهجرة وإنما امتنعت من تزويجه حتى هداه الله للإسلام رغبة في الإسلام لا ليتزوجها وكان أبو طلحة من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم فلا يظن به أنه إنما أسلم ليتزوج أم سليم الثاني أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها أنه لا يصح منه الإسلام رغبة فيها فمتى كان الداعي إلى الإسلام الرغبة في الدين لم يضر معه كونه يعلم أنه يحل له بذلك نكاح المسلمات الثالث أنه لا يصح هذا عن أبي طلحة فالحديث وإن كان صحيح الإسناد ولكنه معلل بكون المعروف أنه لم يكن حينئذ نزل تحريم المسلمات على الكفار وإنما نزل بين الحديبية وبين الفتح حين نزل قوله تعالى ( لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) كما ثبت في صحيح البخاري وقول أم سليم في هذا الحديث ولا يحل لي أن أتزوجك شاذ مخالف للحديث الصحيح وما أجمع عليه أهل السير فافهم وقد علمت سبب الحديث ومورده وهو خاص ولكن العبرة بعموم اللفظ فيتناول سائر أقسام الهجرة فعدها بعضهم خمسة الأولى إلى أرض الحبشة الثانية من مكة إلى المدينة الثالثة هجرة القبائل إلى الرسول الرابعة هجرة من أسلم من أهل مكة الخامسة هجرة ما نهى الله عنه واستدرك عليه بثلاثة أخرى الأولى الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة فإن الصحابة هاجروا إليها مرتين الثانية هجرة من كان مقيما ببلاد الكفر ولا يقدر على إظهار الدين فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى دار الإسلام كما صرح به بعض العلماء الثالثة الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن كما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمر وقال سمعت رسول الله يقول ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها الحديث ورواه أحمد في مسنده فجعله من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال صاحب النهاية يريد به الشام لأن إبراهيم عليه الصلاة و السلام لما خرج من العراق مضى إلى الشام وأقام به ( فإن قيل ) قد تعارضت الأحاديث في هذا الباب فروى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قوله لا هجرة بعد الفتح وفي رواية له لا هجرة بعد الفتح اليوم أو بعد رسول الله وروى البخاري أيضا أن عبيد بن عمرو سأل عائشة رضي الله عنها عن الهجرة فقالت لا هجرة اليوم كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام والمؤمن يعبد ربه حيث شاء ولكن جهاد ونية وروى البخاري ومسلم أيضا عن مجاشع بن مسعود قال انطلقت بأبي معبد إلى النبي ليبايعه على الهجرة قال انقضت الهجرة لأهلها فبايعه على الإسلام والجهاد وفي رواية أنه جاء بأخيه مجالد وروى أحمد من حديث أبي سعيد الخدري ورافع بن خديج وزيد بن ثابت رضي الله عنهم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية فهذه الأحاديث دالة على انقطاع الهجرة وروى أبو داود والنسائي من حديث معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها وروى أحمد من حديث ابن السعدي مرفوعا لا تنقطع الهجرة مادام العدو يقاتل وروى أحمد أيضا من حديث جنادة بن أبي أمية مرفوعا أن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد قلت وفق الخطابي بين هذه الأحاديث بأن الهجرة كانت في أول الإسلام فرضا ثم صارت بعد فتح مكة مندوبا إليها غير مفروضة قال فالمنقطعة منها هي الفرض والباقية منها هي الندب على أن حديث معاوية فيه مقال وقال ابن الأثير الهجرة هجرتان إحداهما التي وعد الله عليها بالجنة كان الرجل يأتي النبي ويدع أهله وماله لا يرجع في شيء منه فلما فتحت مكة انقطعت هذه الهجرة والثانية من هاجر من الأعراب وغزا مع المسلمين ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة وهو المراد بقوله لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة قلت وفي الحديث الآخر ما يدل على أن المراد بالهجرة الباقية هي هجر السيئات وهو ما رواه أحمد في مسنده من حديث معاوية وعبد

(1/29)


الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أن النبي قال الهجرة خصلتان إحداهما تهجر السيئات والأخرى تهاجر إلى الله وإلى رسوله ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت طبع الله على كل قلب بما فيه وكفى الناس العمل وروى أحمد أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال جاء رجل أعرابي فقال يا رسول الله أين الهجرة إليك حيث كنت أم إلى أرض معلومة أم لقوم خاصة أم إذا مت انقطعت قال فسكت رسول الله ساعة ثم قال أين السائل عن الهجرة قال ها أنا ذا يا رسول الله قال إذا أقمت الصلاة وآتيت الزكاة فأنت مهاجر وإن مت بالخضرمة قال يعني أرضا باليمامة وفي رواية له الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ثم أنت مهاجر وإن مت بالخضرمة
( استنباط الأحكام ) وهو على وجوه الأول احتجت الأئمة الثلاثة به في وجوب النية في الوضوء والغسل فقالوا التقدير فيه صحة الأعمال بالنيات والألف واللام فيه لاستغراق الجنس فيدخل فيه جميع الأعمال من الصوم والصلاة والزكاة والحج والوضوء وغير ذلك مما يطلب فيه النية عملا بالعموم ويدخل فيه أيضا الطلاق والعتاق لأن النية إذا قارنت الكناية كانت كالصريح وقال النووي تقديره إنما الأعمال تحسب إذا كانت بنية ولا تحسب إذا كانت بلا نية وفيه دليل على أن الطهارة وسائر العبادات لا تصح إلا بنية وقال الخطابي قوله إنما الأعمال بالنيات لم يرد به أعيان الأعمال لأنها حاصلة حسا وعيانا بغير نية وإنما معناه أن صحة أحكام الأعمال في حق الدين إنما تقع بالنية وأن النية هي الفاصلة بين ما يصح وما لا يصح وكلمة إنما عاملة بركنيها إيجابا ونفيا فهي تثبت الشيء وتنفي ما عداه فدلالتها أن العبادة إذا صحبتها النية صحت وإذا لم تصحبها لم تصح ومقتضى حق العموم فيها يوجب أن لا يصح عمل من الأعمال الدينية أقوالها وأفعالها فرضها ونفلها قليلها وكثيرها إلا بنية وقال البيضاوي الحديث متروك الظاهر لأن الذوات غير منتفية والمراد به نفي أحكامها كالصحة والفضيلة والحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه ولأن اللفظ يدل بالتصريح على نفي الذات وبالتبع على نفي جميع الصفات فلما منع الدليل دلالته على نفي الذات بقي دلالته على نفي جميع الصفات وقال الطيبي كل من الأعمال والنيات جمع محلى باللام الاستغراقية فأما أن يحملا على عرف اللغة فيكون الاستغراق حقيقيا أو على عرف الشرع وحينئذ إما أن يراد بالأعمال الواجبات والمندوبات والمباحات وبالنيات الإخلاص والرياء أو أن يراد بالأعمال الواجبات وما لا يصح إلا بالنية كالصلاة لا سبيل إلى اللغوي لأنه ما بعث إلا لبيان الشرع فكيف يتصدى لما لا جدوى له فيه فحينئذ يحمل إنما الأعمال بالنيات على ما اتفق عليه أصحابنا أي ما الأعمال محسوبة لشيء من الأشياء كالشروع فيها والتلبس بها إلا بالنيات وما خلا عنها لم يعتد بها فإن قيل لم خصصت متعلق الخبر والظاهر العموم كمستقر أو حاصل فالجواب أنه حينئذ يكون بيانا للغة لا إثباتا لحكم الشرع وقد سبق بطلانه ويحمل إنما لكل امرىء ما نوى على ما تثمره النيات من القبول والرد والثواب والعقاب ففهم من الأول إنما الأعمال لا تكون محسوبة ومسقطة للقضاء إلا إذا كانت مقرونة بالنيات ومن الثاني أن النيات إنما تكون مقبولة إذا كانت مقرونة بالإخلاص انتهى وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعي والحسن بن حي ومالك في رواية إلى أن الوضوء لا يحتاج إلى نية وكذلك الغسل وزاد الأوزاعي والحسن التيمم وقال عطاء ومجاهد لا يحتاج صيام رمضان إلى نية إلا أن يكون مسافرا أو مريضا وقالوا التقدير فيه كمال الأعمال بالنيات أو ثوابها أو نحو ذلك لأنه الذي يطرد فإن كثيرا من الأعمال يوجد ويعتبر شرعا بدونها ولأن إضمار الثواب متفق عليه على إرادته ولأنه يلزم من انتفاء الصحة انتفاء الثواب دون العكس فكان هذا أقل إضمارا فهو أولى ولأن إضمار الجواز والصحة يؤدي إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد وهو ممتنع لأن العامل في قوله بالنيات مفرد بإجماع النحاة فلا يجوز أن يتعلق بالأعمال لأنها رفع بالابتداء فيبقى بلا خبر فلا يجوز فالتقدير إما مجزئة أو صحيحة أو مثيبة فالمثيبة أولى بالتقدير لوجهين أحدهما أن عند عدم النية لا يبطل أصل العمل وعلى إضمار الصحة والإجزاء يبطل فلا يبطل بالشك والثاني أن قوله ولكل امرىء ما نوى يدل على الثواب والأجر لأن الذي له إنما هو الثواب وأما العمل فعليه وقالوا في هذا كله نظر من وجوه الأول أنه لا حاجة إلى إضمار

(1/30)


محذوف من الصحة أو الكمال أو الثواب إذ الإضمار خلاف الأصل وإنما حقيقته العمل الشرعي فلا يحتاج حينئذ إلى إضمار وأيضا فلا بد من إضمار يتعلق به الجار والمجرور فلا حاجة إلى إضمار مضاف لأن تقليل الإضمار أولى فيكون التقدير إنما الأعمال وجودها بالنية ويكون المراد الأعمال الشرعية قلت لا نسلم نفي الاحتياج إلى إضمار محذوف لأن الحديث متروك الظاهر بالإجماع والذوات لا تنتفي بلا خلاف فحينئذ يحتاج إلى إضمار وإنما يكون الإضمار خلاف الأصل عند عدم الاحتياج فإذا كان الدليل قائما على الإضمار يضمر إما الصحة وإما الثواب على اختلاف القولين وقولهم فيكون التقدير إنما الأعمال وجودها بالنية مفض إلى بيان اللغة لا إثبات الحكم الشرعي وهو باطل الثاني أنه لا يلزم من تقدير الصحة تقدير ما يترتب على نفيها من نفي الثواب ووجوب الإعادة وغير ذلك فلا يحتاج إلى أن يقدر إنما صحة الأعمال والثواب وسقوط القضاء مثلا بالنية بل المقدر واحد وإن ترتب على ذلك الواحد شيء آخر فلا يلزم تقديره قلت دعوى عدم الملازمة المذكورة ممنوعة لأنه يلزم من نفي الصحة نفي الثواب ووجوب الإعادة كما يلزم الثواب عند وجود الصحة يفهم ذلك بالنظر الثالث أن قولهم أن تقدير الصحة يؤدي إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد لا يخلو إما أن يريدوا به أن الكتاب دال على صحة العمل بغير نية لكونها لم تذكر في الكتاب فهذا ليس بنسخ على أن الكتاب ذكرت فيه نية العمل في قوله عز و جل ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) فهذا هو القصد والنية ولو سلم لهم أن فيه نسخ الكتاب بخبر الواحد فلا مانع من ذلك عند أكثر أهل الأصول قلت قولهم فهذا ليس بنسخ غير صحيح لأن هذا عين النسخ بيانه أن آية الوضوء تخبر بوجوب غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس وليس فيها ما يشعر بالنية مطلقا فاشتراطها بخبر الواحد يؤدي إلى رفع الإطلاق وتقييده وهو نسخ وقولهم على أن الكتاب ذكر فيه نية العمل لا يضرهم لأن المراد من قوله ( إلا ليعبدوا الله ) التوحيد والمعنى إلا ليوحدوا الله فليس فيها دلالة على اشتراط النية في الوضوء وقولهم ولو سلم لهم إلى آخره غير مسلم لهم لأن جماهير الأصوليين على عدم جواز نسخ الكتاب بالخبر الواحد على أن المنقول الصحيح عن الشافعي عدم جواز نسخ الكتاب بالسنة قولا واحدا وهو مذهب أهل الحديث أيضا وله في نسخ السنة بالكتاب قولان الأظهر من مذهبه أنه لا يجوز والآخر أنه يجوز وهو الأولى بالحق كذا ذكره السمعاني من أصحاب الشافعي في القواطع ثم نقول أن الحديث عام مخصوص فإن أداء الدين ورد الودائع والأذان والتلاوة والأذكار وهداية الطريق وإماطة الأذى عبادات كلها تصح بلا نية إجماعا فتضعف دلالته حينئذ ويخفى عدم اعتبارها أيضا في الوضوء وقد قال بعض الشارحين دعوى الصحة في هذه الأشياء بلا نية إجماعا ممنوعة حتى يثبت الإجماع ولن يقدر عليه ثم نقول النية تلازم هذه الأعمال فإن مؤدي الدين يقصد براءة الذمة وذلك عبادة وكذلك الوديعة وأخواتها فإنها لا ينفك تعاطيهن عن القصد وذلك نية قلت هذا كله صادر لا عن تعقل لأن أحدا من السلف والخلف لم يشترط النية في هذه الأعمال فكيف لا يكون إجماعا وقوله النية تلازم هذه الأعمال إلى آخره لا تعلق له فيما نحن فيه فإنا لا ندعي عدم وجود النية في هذه الأشياء وإنما ندعي عدم اشتراطها ومؤدي الدين مثلا إذا قصد براءة الذمة برئت ذمته وحصل له الثواب وليس لنا فيه نزاع وإذا أدى من غير قصد براءة الذمة هل يقول أحد أن ذمته لم تبرأ ثم التحقيق في هذا المقام هو أن هذا الكلام لما دل عقلا على عدم إرادة حقيقته إذ قد يحصل العمل من غير نية بل المراد بالأعمال حكمها باعتبار إطلاق الشيء على أثره وموجبه والحكم نوعان نوع يتعلق بالآخرة وهو الثواب في الأعمال المفتقرة إلى النية والإثم في الأعمال المحرمة ونوع يتعلق بالدنيا وهو الجواز والفساد والكراهة والإساءة ونحو ذلك والنوعان مختلفان بدليل أن مبنى الأول على صدق العزيمة وخلوص النية فإن وجد وجد الثواب وإلا فلا ومبنى الثاني على وجود الأركان والشرائط المعتبرة في الشرع حتى لو وجدت صح وإلا فلا سواء اشتمل على صدق العزيمة أولا وإذا صار اللفظ مجازا عن النوعين المختلفين كان مشتركا بينهما بحسب الوضع النوعي فلا يجوز إرادتهما جميعا أما عندنا فلأن المشترك لا عموم له وأما عند الشافعي فلأن المجاز لا عموم له بل يجب حمله على أحد النوعين فحمله الشافعي على النوع الثاني بناء على أن المقصود الأهم من بعثة النبي بيان الحل والحرمة والصحة والفساد ونحو ذلك فهو أقرب إلى الفهم فيكون المعنى أن صحة الأعمال لا تكون إلا بالنية فلا يجوز الوضوء بدونها

(1/31)


وحمله أبو حنيفة على النوع الأول أي ثواب الأعمال لا يكون إلا بالنية وذلك لوجهين الأول أن الثواب ثابت اتفاقا إذ لا ثواب بدون النية فلو أريد الصحة أيضا يلزم عموم المشترك أو المجاز الثاني أنه لو حمل على الثواب لكان باقيا على عمومه إذ لا ثواب بدون النية أصلا بخلاف الصحة فإنها قد تكون بدون النية كالبيع والنكاح وفرعت الشافعية على أصلهم مسائل منها أن بعضهم أوجب النية في غسل النجاسة لأنه عمل واجب قال الرافعي ويحكى عن ابن سريج وبه قال أبو سهل الصعلوكي فيما حكاه صاحب التتمة وحكى ابن الصلاح وجها ثالثا أنها تجب لإزالة النجاسة التي على البدن دون الثوب وقد رد ذلك بحكاية الإجماع فقد حكى الماوردي في الحاوي والبغوي في التهذيب أن النية لا تشترط في إزالة النجاسة قال الروياني لا يصح النقل في البحر عندي عنهما أي عن ابن سريج والصعلوكي وإنما لم يشترطوا النية في إزالة النجاسة لأنها من باب التروك فصار كترك المعاصي وقال بعض الأفاضل وقد يعترض على هذا التعليل لأن الصوم من باب التروك أيضا وهذا لا يبطل بالعزم على قطعه وقد أجمعوا على وجوب النية فيه قلت التروك إذا كان المقصود فيها امتثال أمر الشارع وتحصيل الثواب فلا بد من النية فيها وإن كانت لإسقاط العذاب فلا يحتاج إليها فالتارك للمعاصي محتاج فيها لتحصيل الثواب إلى النية قوله وقد أجمعوا على وجوب النية فيه نظر لأن عطاء ومجاهدا لا يريان وجوب النية فيه إذا كان في رمضان ومنها اشتراط النية في الخطبة فيه وجهان للشافعية كهما في الأذان قاله الروياني في البحر وفي الرافعي في الجمعة أن القاضي حسين حكى اشتراط نية الخطبة وفرضيتها كما في الصلاة ومنها أنه إذا نذر اعتكاف مدة متتابعة لزمه وأصح الوجهين عندهم أنه لا يجب التتابع بلا شرط فعلي هذا لو نوى التتابع بقلبه ففي لزومه وجهان أصحهما لا كما لو نذر أصل الاعتكاف بقلبه كذا نقله الرافعي عن صحيح البغوي وغيره قال الروياني وهو ظاهر نقل المزني قال والصحيح عندي اللزوم لأن النية إذا اقترنت باللفظ عملت كما لو قال أنت طالق ونوى ثلاثا ومنها إذا أخذ الخوارج الزكاة اعتد بها على الأصح ثالثها إن أخذت قهرا فنعم وإلا فلا وبه قال مالك وقال ابن بطال ومما يجزىء بغير نية ما قاله مالك أن الخوارج إن أخذوا الزكاة من الناس بالقهر والغلبة أجزأت عمن أخذت منه لأن أبا بكر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم أخذوا الزكاة من أهل الردة بالقهر والغلبة ولو لم يجزىء عنهم ما أخذت منهم وقال ابن بطال واحتج من خالفهم وجعل حديث النية على العموم أن أخذ الخوارج الزكاة غلبة لا ينفك المأخوذ منه أنه عن الزكاة وقد أجمع العلماء أن أخذ الإمام الظالم لها يجزئه فالخارجي في معنى الظالم لأنهم من أهل القبلة وشهادة التوحيد وأما أبو بكر رضي الله عنه فلم يقتصر على أخذ الزكاة من أهل الردة بل قصد حربهم وغنيمة أموالهم وسبيهم لكفرهم ولو قصد أخذ الزكاة فقط لرد عليهم ما فضل عنها من أموالهم ومنها قال الشافعي في البويطي كما نقله الروياني عن القاضي أبي الطيب عنه قد قيل أن من صرح بالطلاق والظهار والعتق ولم يكن له نية في ذلك لم يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى طلاق ولا ظهار ولا عتق ويلزمه في الحكم ومنها أن لو قال لامرأته أنت طالق يظنها أجنبية طلقت زوجته لمصادفة محله وفي عكسه تردد لبعض العلماء مأخذه إلى النية وإلى فوات المحل فلو قال لرقيق أنت حر يظنه أجنبيا عتق وفي عكسه التردد المذكور ومنها لو وطىء امرأة يظنها أجنبية فإذا هي مباحة له أثم ولو اعتقدها زوجته أو أمته فلا إثم وكذا لو شرب مباحا يعتقده حراما أثم وبالعكس لا يأثم ومثله ما إذا قتل من يعتقده معصوما فبان له أنه مستحق دمه أو أتلف ما لا يظنه لغيره فبان ملكه ومنها اشتراط النية لسجود التلاوة لأنه عبادة وهو قول الجمهور خلافا لبعضهم ومنها استدلوا به على وجوب النية على الغاسل في غسل الميت لأنه عبادة وغسل واجب وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ويدل عليه نص الشافعي على وجوب غسل الغريق وأنه لا يكفي إصابة الماء له ولكن أصح الوجهين كما قاله الرافعي في المحرر أنه لا تجب النية على الغاسل ومنها أنه لا يجب على الزوج النية إذا غسل زوجته المجنونة من حيض أو نفاس أو الذمية إذا امتنعت فغسلها الزوج وهو أصح الوجهين كما صححه النووي في التحقيق في مسألة المجنونة وأما الذمية المتمنعة فقال في شرح المهذب الظاهر أنه على الوجهين في المجنونة بل قد جزم ابن الرفعة في الكفاية في غسل الذمية لزوجها المسلم أن المسلم هو الذي ينوي ولكن الذي صححه النووي في التحقيق

(1/32)


في الذمية غير الممتنعة اشتراط النية عليها نفسها ومنها أنهم قالوا لما علم أن محل النية القلب فإذا اقتصر عليه جاز إلا في الصلاة على وجه شاذ لهم لا يعبأ به وإن اقتصر على اللسان لم يجز إلا في الزكاة على وجه شاذ أيضا وإن جمع بينهما فهو آكد واشترطوا المقارنة في جميع النيات المعتبرة إلا الصوم للمشقة وإلا الزكاة فإنه يجوز تقديمها قبل وقت إعطائها قيل والكفارات فإنه يجوز تقديمها قبل الفعل والشروع ثم هل يشترط استحضار النية أول كل عمل وإن قل وتكرر فعله مقارنا لأوله فيه مذاهب أحدها نعم وثانيها يشترط ذلك في أوله ولا يشترط إذا تكرر بل يكفيه أن ينوي أول كل عمل ولا يشترط تكرارها فيما بعد ولا مقارنتها ولا الاتصال وثالثها يشترط المقارنة دون الاتصال ورابعها يشترط الاتصال وهو أخص من المقارنة وهذه المذاهب راجعة إلى أن النية جزء من العبادة أو شرط لصحتها والجمهور على الأول ولا وجه للثاني وإذا أشرك في العبادة غيرها من أمر دنيوي أو رياء فاختار الغزالي اعتبار الباعث على العمل فإن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن له فيه أجر وإن كان القصد الديني هو الأغلب كان له الأجر بقدره وإن تساويا تساقطا واختار الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه لا أجر فيه مطلقا سواء تساوى القصدان أو اختلفا وقال المحاسبي إذا كان الباعث الديني أقوى بطل عمله وخالف في ذلك الجمهور وقال ابن جرير الطبري إذا كان ابتداء العمل لله لم يضره ما عرض بعده في نفسه من عجب هذا قول عامة السلف رحمهم الله الثاني من الاستنباط احتج به أبو حنيفة ومالك وأحمد في أن من أحرم بالحج في غير أشهر الحج أنه لا ينعقد عمرة لأنه لم ينوها فإنما له ما نواه وهو أحد أقوال الشافعي إلا أن الأئمة الثلاثة قالوا ينعقد إحرامه بالحج ولكنه يكره ولم يختلف قول الشافعي أنه لا ينعقد بالحج وإنما اختلف قوله هل يتحلل بأفعال العمرة وهو قوله المتقدم أو ينعقد إحرامه عمرة وهو نصه في المختصر وهو الذي صححه الرافعي والنووي فعلى القول الأول لا تسقط عنه عمرة الإسلام وعلى القول الذي نص عليه في المختصر تسقط عنه عمرة الإسلام الثالث احتج به مالك في اكتفائه بنية واحدة في أول شهر رمضان وهو رواية عن أحمد لأن كله عبادة واحدة وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في رواية لا بد من النية لكل يوم لأن صوم كل يوم عبادة مستقلة بذاتها فلا يكتفي بنية واحدة الرابع احتج به أبو حنيفة والثوري ومالك في أن الصرورة يصح حجه عن غيره ولا يصح عن نفسه لأنه لم ينوه عن نفسه وإنما له ما نواه وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق والأوزاعي إلى أنه لا ينعقد عن غيره ويقع ذلك عن نفسه والحديث حجة عليهم ( فإن قيل ) روى أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة فقال أحججت قط قال لا قال فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة وهذه رواية ابن ماجه بإسناد صحيح وفي رواية أبي داود حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة قلت قال الدارقطني الصحيح من الرواية اجعلها في نفسك ثم حج عن شبرمة فإن قلت كيف يأمره بذلك والإحرام وقع عن الأول قلت يحتمل أنه كان في ابتداء الإسلام حين لم يكن الإحرام لازما على ما روي عن بعض الصحابة أنه تحلل في حجة الوداع عن الحج بأفعال العمرة فكان يمكنه فسخ الأول وتقديم حج نفسه وقد استدل بعضهم لأبي حنيفة ومن معه بما رواه الطبراني ثم البيهقي من طريقه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال سمع النبي رجلا يلبي عن أبيه فقال أيها الملبي عن أبيه احجج عن نفسك ثم قال هذا ضعيف فيه الحسن بن عمارة وهو متروك قلت ما استدل أبو حنيفة إلا بما رواه البخاري ومسلم أن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الحج وإنه شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال نعم حجي عن أبيك وفي لفظ أخرجه أحمد لو كان على أبيك دين فقضيته عنه كان يجزيه قالت نعم قال فحجي عن أبيك ولم يستفسر هل حججت أم لا الخامس قالت الشافعية فيه حجة على أبي حنيفة حيث ذهب إلى أن المقيم إذا نوى في رمضان صوم قضاء أو كفارة أو تطوع وقع عن رمضان قالوا أنه وقع عن غير رمضان إذ ليس له إلا ما نواه ولم ينو صوم

(1/33)


رمضان وتعينه شرعا لا يغني عن نية المكلف لأداء ما كلف به وذهب مالك والشافعي وأحمد أنه لا بد من تعيين رمضان لظاهر الحديث قلت هذا نوى عبادة الصوم فحصل له ذلك والفرض فيه متعين فيصاب بأصل النية كالمتوحد في الدار يصاب باسم جنسه وقولهم لا بد من تعيين رمضان لظاهر الحديث غير صحيح لأن ظاهر حديث الأعمال بالنيات لا يدل على تعيين رمضان وإنما يدل على وجوب مطلق النية في العبادات وقد وجد مطلق النية كما قلنا السادس احتجت به بعض الشافعية على أبي حنيفة في ذهابه إلى أن الكافر إذا أجنب أو أحدث فاغتسل أو توضأ ثم أسلم أنه لا تجب إعادة الغسل والوضوء عليه وقالوا هو وجه لبعض أصحاب الشافعي وخالف الجمهور في ذلك فقالوا تجب إعادة الغسل والوضوء عليه لأن الكافر ليس من أهل العبادة وبعضهم يعلله بأنه ليس من أهل النية قلت هذا مبني على اشتراط النية في الوضوء عندهم وعدم اشتراطها عنده ولما ثبت ذلك عنده بالبراهين لم يبق للاحتجاج بالحديث المذكور عليه وجه السابع احتجوا به على الأوزاعي في ذهابه إلى أن المتيمم لا تجب له النية أيضا كالمتوضأ قلت له أن يقول التيمم عبارة عن القصد وهو النية وقد رد عليه بعضهم بقوله ورد عليه بالإجماع على أن الجنب لو سقط في الماء غافلا عن كونه جنبا أنه لا ترتفع جنابته قطعا فلولا وجوب النية لما توقف صحة غسله عليها قلت دعوى الإجماع مردودة لأن الحنفية قالوا برفع الجنابة في هذه الصورة الثامن احتج به طائفة من الشافعية في اشتراط النية لسائر أركان الحج من الطواف والسعي والوقوف والحلق وهذا مردود لأن نية الإحرام شاملة لهذه الأركان فلا تحتاج إلى نية أخرى كأركان الصلاة التاسع احتج به الخطابي على أن المطلق إذا طلق بصريح لفظ الطلاق ونوى عددا من أعداد الطلاق كمن قال لامرأته أنت طالق ونوى ثلاثا كان ما نواه من العدد واحدة أو اثنين أو ثلاثا وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وعند أبي حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي وأحمد واحدة قلت استدلوا بقوله تعالى ( وبعولتهن أحق بردهن ) أثبت له حق الرد فلا تتحقق الحرمة الغليظة ولا يصح الاحتجاج بالحديث بأنه نوى ما لا يحتمله لفظه فلم يتناوله الحديث فلا تصح نيته كما لو قال زوري أباك العاشر احتجت به بعض الشافعية على الحنفية في قولهم في الكناية في الطلاق كقوله أنت بائن أنه إن نوى ثنتين فهي واحدة بائنة وإن نوى الطلاق ولم ينو عددا فهي واحدة بائنة أيضا قالوا الحديث حجة عليهم وذهب الشافعي والجمهور إلى أنه إن نوى ثنتين فهي كذلك وإن لم ينو عددا فهي واحدة رجعية قلت هذا الكلام لا يحتمل العدد لأنه يتركب من الأفراد وهذا فرد وبين العدد والفرد منافاة فإذا نوى العدد فقد نوى ما لا يحتمله كلامه فلا يصح فلا يتناوله الحديث فإذا لا يصير حجة عليهم الحادي عشر فيه رد على المرجئة في قولهم الإيمان إقرار باللسان دون الاعتقاد بالقلب الثاني عشر احتج به بعضهم على أنه لا يؤاخذ به الناسي والمخطىء في الطلاق والعتاق ونحوهما لأنه لا نية لهما قلت يؤاخذ المخطىء فيصح طلاقه حتى لو قال اسقني مثلا فجرى على لسانه أنت طالق وقع الطلاق لأن القصد أمر باطن لا يوقف عليه فلا يتعلق الحكم لوجود حقيقته بل يتعلق بالسبب الظاهر الدال وهو أهلية القصد بالعقل والبلوغ فإن قيل ينبغي على هذا أن يقع طلاق النائم قلت المانع هو الحديث أيضا فالنوم ينافي أصل العمل بالعقل لأن النوم مانع عن استعمال نور العقل فكانت أهلية القصد معدومة بيقين فافهم الثالث عشر فيه حجة على بعض المالكية من أنهم لا يدينون من سبق لسانه إلى كلمة الكفر إذا ادعى ذلك وخالفهم الجمهور ويدل لذلك ما رواه مسلم في صحيحه من قصة الرجل الذي ضلت راحلته ثم وجدها فقال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك قال النبي أخطأ من شدة الفرح الرابع عشر فيه أنه لا تصح العبادة من المجنون لأنه ليس من أهل النية كالصلاة والصوم والحج ونحوها ولا عقوده كالبيع والهبة والنكاح وكذلك لا يصح منه الطلاق والظهار واللعان والإيلاء ولا يجب عليه القود ولا الحدود الخامس عشر فيه حجة لأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق في عدم وجوب القود في شبه العمد لأنه لم ينو قتله إلا أنهم اختلفوا في الدية فجعلها الشافعي ومحمد بن الحسن أثلاثا وجعلها الباقون أرباعا وجعلها أبو ثور أخماسا وأنكر مالك شبه العمد وقال ليس في كتاب الله إلا الخطأ والعمد فأما شبه العمد فلا نعرفه واستدل هؤلاء بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا إلا أن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط

(1/34)


والعصا مائة من الإبل الحديث السادس عشر في قول علقمة سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر يقول رد لقول من يقول أن الواحد إذا ادعى شيئا كان في مجلس جماعة لا يمكن أن ينفرد بعلمه دون أهل المجلس ولا يقبل حتى يتابعه عليه غيره لما قاله بعض المالكية مستدلين بقصة ذي اليدين السابع عشر فيه أنه لا بأس للخطيب أن يورد أحاديث في أثناء خطبته وقد فعل بذلك الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم الثامن عشر اختلفوا في قوله الأعمال فقال بعضهم هي مختصة بالجوارح وأخرجوا الأقوال والصحيح الذي عليه الجمهور أنه يتناول فعل الجوارح والقلوب والأقوال وقال بعض الشارحين الأعمال ثلاثة بدني وقلبي ومركب منهما فالأول كل عمل لا يشترط فيه النية كرد المغصوب والعواري والودائع والنفقات والثاني كالاعتقادات والحب في الله والبغض فيه وما أشبه ذلك والثالث كالوضوء والصلاة والحج وكل عبادة بدنية يشترط فيها النية قولا كانت أو فعلا فإن قيل النية أيضا عمل لأنه من أعمال القلب فإن احتاج كل عمل إلى نية فالنية أيضا تحتاج إلى نية وهلم جرا قلت المراد بالعمل عمل الجوارح في نحو الصلاة والزكاة وذلك خارج عنه بقرينة العقل دفعا للتسلسل فإن قلت فما قولك في إيجاب معرفة الله تعالى للغافل عنه أجيب عنه بأنه لا دخل له في البحث لأن المراد تكليف الغافل عن تصور التكليف لا عن التصديق بالتكليف ولهذا كان الكفار مكلفين لأنهم تصوروا التكليف لما قيل لهم أنكم مكلفون وإن كانوا غافلين عن التصديق وقال بعضهم معرفة الله تعالى لو توقفت على النية مع أن النية قصد المنوي بالقلب لزم أن يكون عارفا بالله قبل معرفته وهو محال
( فائدة ) قال التيمي النية أبلغ من العمل ولهذا المعنى تقبل النية بغير العمل فإذا نوى حسنة فإنه يجزى عليها ولو عمل حسنة بغير نية لم يجز بها فإن قيل فقد روي عن النبي قال من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له واحدة ومن عملها كتبت له عشرا وروي أيضا أنه قال نية المؤمن خير من عمله فالنية في الحديث الأول دون العمل وفي الثاني فوق العمل وخير منه قلنا أما الحديث الأول فلأن الهام بالحسنة إذا لم يعملها خالف العامل لأن الهام لم يعمل والعامل لم يعمل حتى هم ثم عمل وأما الثاني فلأن تخليد الله العبد في الجنة ليس لعمله وإنما هو لنيته لأنه لو كان لعمله لكان خلوده فيها بقدر مدة عمله أو أضعافه إلا أنه جازاه بنيته لأنه كان ناويا أن يطيع الله تعالى أبدا لو بقي أبدا فلما اخترمته منيته دون نيته جزاه الله عليها وكذا الكافر لأنه لو كان يجازى بعمله لم يستحق التخليد في النار إلا بقدر مدة كفره غير أنه نوى أن يقيم على كفره أبدا لو بقي فجزاه على نيته وقال الكرماني أقول يحتمل أن يقال أن المراد منه أن النية خير من عمل بلا نية إذ لو كان المراد خير من عمل مع النية يلزم أن يكون الشيء خيرا من نفسه مع غيره أو المراد أن الجزاء الذي هو للنية خير من الجزاء الذي هو للعمل لاستحالة دخول الرياء فيها أو أن النية خير من جملة الخيرات الواقعة بعمله لأن النية فعل القلب وفعل الأشرف أشرف أو أن المقصود من الطاعات تنوير القلب وتنوير القلب بها أكثر لأنها صفته أو أن نية المؤمن خير من عمل الكافر لما قيل ورد ذلك حين نوى مسلم بناء قنطرة فسبق كافر إليه فإن قلت هذا حكمه في الحسنة فما حكمه في السيئة قلت المشهور أنه لا يعاقب عليها بمجرد النية واستدلوا عليها بقوله تعالى ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) فإن اللام للخير فجاء فيها بالكسب الذي لا يحتاج إلى تصرف بخلاف على فإنها لما كانت للشر جاء فيها بالاكتساب الذي لا بد فيه من التصرف والمعالجة ولكن الحق أن السيئة أيضا يعاقب عليها بمجرد النية لكن على النية لا على الفعل حتى لو عزم أحد على ترك صلاة بعد عشرين سنة يأثم في الحال لأن العزم من أحكام الإيمان ويعاقب على العزم لا على ترك الصلاة فالفرق بين الحسنة والسيئة أن بنية الحسنة يثاب الناوي على الحسنة وبنية السيئة لا يعاقب عليها بل على نيتها فإن قلت من جاء بنية الحسنة فقد جاء بالحسنة ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها فيلزم أن من جاء بنية الحسنة فله عشر أمثالها فلا يبقى فرق بين نية الحسنة ونفس الحسنة قلت لا نسلم أن من جاء بنية الحسنة فقد جاء بالحسنة بل يثاب على الحسنة فظهر الفرق انتهى وقد دل ما رواه أبو يعلى في مسنده عن النبي أنه قال يقول الله تعالى للحفظة يوم القيامة اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر فيقولون ربنا لم نحفظ ذلك عنه ولا هو في صحفنا فيقول إنه نواه على كون النية خيرا من العمل

(1/35)


2 - ( حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحرث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول قالت عائشة رضي الله عنها ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ) لما كان الباب معقودا لبيان الوحي وكيفيته شرع بذكر الأحاديث الواردة فيه غير أنه قدم حديث الأعمال بالنيات تنبيها على أنه قصد من تصنيف هذا الجامع التقرب إلى الله تعالى فإن الأعمال بالنيات وأيضا فإنه مشتمل على الهجرة وكانت مقدمة النبوة في حقه هجرته إلى الله تعالى وإلى الخلوة بمناجاته في غار حراء فهجرته إليه كانت ابتداء فضله عليه باصطفائه ونزول الوحي عليه مع التأييد الإلهي والتوفيق الرباني
( بيان رجاله ) وهم ستة الأول عبد الله بن يوسف المصري التنيسي وهو من أجل من روى الموطأ عن مالك رحمه الله تعالى سمع الأعلام مالكا والليث بن سعد ونحوهما وعنه الأعلام يحيى بن معين والذهلي وغيرهما وأكثر عنه البخاري في صحيحه وقال كان أثبت الشاميين وروى أبو داود والنسائي والترمذي عن رجل عنه ولم يخرج له مسلم مات بمصر سنة ثمان عشرة ومائتين وقال البخاري لقيته بمصر سنة سبع عشرة ومائتين ومنه سمع البخاري الموطأ عن مالك وليس في الكتب الستة عبد الله بن يوسف سواه ونسبته إلى تنيس بكسر التاء المثناة من فوق والنون المكسورة المشددة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة بلدة بمصر ساحل البحر واليوم خراب سميت بتنيس بن حام بن نوح عليه السلام وأصله من دمشق ثم نزل بتنيس وفي يوسف ستة أوجه ضم السين وفتحها وكسرها مع الهمزة وتركها وهو اسم عبراني وقيل عربي قال الزمخشري وليس بصحيح لأنه لو كان عربيا لانصرف لخلوه عن سبب آخر سوى التعريف فإن قلت فما تقول فيمن قرأ يوسف بكسر السين أو يوسف بفتحها هل يجوز على قراءته أن يقال هو عربي لأنه على وزن المضارع المبني للفاعل أو المفعول من آسف وإنما منع الصرف للتعريف ووزن الفعل قلت لا لأن القراءة المشهورة قامت بالشهادة على أن الكلمة أعجمية فلا تكون تارة عربية وتارة أعجمية ونحو يوسف يونس رويت فيه هذه اللغات الثلاث ولا يقال هو عربي لأنه في لغتين منها بوزن المضارع من آنس وأونس ثم الذين ذهبوا إلى أنه عربي قالوا اشتقاقه من الأسف وهو الحزن والأسيف وهو العبد وقد اجتمعا في يوسف النبي عليه السلام فلذلك سمي يوسف وهذا فيه نظر لأن يعقوب عليه السلام لما سماه يوسف لم يلاحظ فيه هذا المعنى بل الصحيح على ما قلنا أنه عبراني ومعناه جميل الوجه في لغتهم الثاني من الرجال الإمام مالك رحمه الله تعالى إمام دار الهجرة وهو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث وهو ذو أصبح الأصبحي الحميري أبو عبد الله المدني وعدادهم في بني تميم بن مرة من قريش حلفاء عثمان بن عبيد الله التيمي أخي طلحة بن عبيد الله وقال أبو القاسم الدولقي أخذ مالك عن تسعمائة شيخ منهم ثلاثمائة من التابعين وستمائة من تابعيهم ممن اختاره وارتضى دينه وفهمه وقيامه بحق الرواية وشروطها وسكنت النفس إليه وترك الرواية عن أهل دين وصلاح لا يعرفون الرواية ومن الأعلام الذين روى عنهم إبراهيم بن أبي عبلة المقدسي وأيوب السختياني وثور بن زيد الديلمي وجعفر بن محمد الصادق وحميد الطويل وربيعة ابن أبي عبد الرحمن وزيد بن أسلم وسعيد المقبري وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق والزهري ونافع مولى ابن عمر وهشام بن عروة ويحيى بن سعيد الأنصاري وأبو الزبير المكي وعائشة

(1/36)


بنت سعد بن أبي وقاص وقال أصحابنا في طبقات الفقهاء وفي مناقب أبي حنيفة أن مالك بن أنس كان يسأل أبا حنيفة رضي الله عنه ويأخذ بقوله وبعضهم ذكر أنه كان ربما سمع منه متنكرا وذكروا أيضا أن أبا حنيفة سمع منه أيضا ومن الأعلام الذين رووا عنه سفيان الثوري ومات قبله وسفيان بن عيينة وشعبة بن الحجاج ومات قبله وأبو عاصم النبيل وعبد الله بن المبارك وعبد الرحمن الأوزاعي وهو أكبر منه وعبد الله بن مسلمة القعنبي وعبد الله بن جريج وأبو نعيم الفضل بن دكين وقتيبة بن سعيد والليث بن سعد وهو من أقرانه ومحمد بن مسلم الزهري وهو من شيوخه وقيل لا يصح وهو الأصح وروى عنه الإمام الشافعي رضي الله عنه وهو أحد مشايخه روى عنه وأخذ عنه العلم وأما الذين رووا عنه الموطأ والذين رووا عنه مسائل الآي فأكثر من أن يحصوا قد بلغ فيهم أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في كتاب جمعه في ذلك نحو ألف رجل وأخذ القراءة عرضا عن نافع بن أبي نعيم وقال البخاري أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما وقال ابن معين كل من روى عنه مالك ثقة إلا أبا أمية وقال غير واحد هو أثبت أصحاب نافع والزهري وعن الشافعي رضي الله عنه إذا جاءك الحديث عن مالك فشد به يديك وإذا جاء الأثر فمالك النجم وعنه مالك بن أنس معلمي وعنه أخذنا العلم وعنه قال محمد بن الحسن الشيباني أقمت عند مالك بن أنس ثلاث سنين وكسرا وكان يقول أنه سمع منه لفظا أكثر من سبعمائة حديث وكان إذا حدثهم عن مالك امتلأ منزله وكثر الناس عليه حتى يضيق بهم الموضع وإذا حدثهم عن غير مالك من شيوخ الكوفيين لم يجئه إلا اليسير وقال الواقدي وكان مالك شعرا شديد البياض ربعة من الرجال كبير الرأس أصلع وكان لا يخضب وكان يلبس الثياب العدنية الجياد ويكره خلق الثياب ويعيبه ويراه من المثلة وهو أيضا من العلماء الذين ابتلوا في دين الله قال ابن الجوزي ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان ويقال سعى به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس وهو ابن عم أبي جعفر المنصور وقالوا له إنه لا يرى إيمان بيعتكم هذه لشيء فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط ومدت يده حتى انخلع كتفه وارتكب منه أمرا عظيما توفي ليلة أربع عشرة من صفر وقيل من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة وصلى عليه عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أمير المدينة يومئذ ودفن بالبقيع وزرنا قبره غير مرة نسأل الله تعالى العودة ومولده في ربيع الأول سنة أربع وتسعين وفيها ولد الليث بن سعد أيضا وكان حمل به في البطن ثلاث سنين وليس في الرواة مالك بن أنس غير هذا الإمام وغير مالك بن أنس الكوفي روى عنه حديث واحد عن هانىء بن حرام وقيل حرام ووهم بعضهم فأدخل حديثه في حديث الإمام نبه عليه الخطيب في كتابه المتفق والمفترق وهو أحد المذاهب الستة المبتدعة والثاني الإمام أبو حنيفة مات ببغداد سنة خمسين ومائة عن سبعين سنة والثالث الشافعي مات بمصر سنة أربع ومائتين عن أربع وخمسين سنة والرابع أحمد بن حنبل مات سنة إحدى وأربعين ومائتين عن ثمانين سنة ببغداد والخامس سفيان الثوري مات بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة عن أربع وستين سنة والسادس داود بن علي الأصبهاني مات سنة تسعين ومائتين عن ثمان وثمانين سنة ببغداد وهو إمام الظاهرية وقد جمع الإمام أبو الفضل يحيى بن سلامة الخصكفي الخطيب الشافعي القراء السبعة في بيت وائمة المذاهب في بيت فقال
جمعت لك القراء لما أردتهم
ببيت تراه للأئمة جامعا
أبو عمرو عبد الله حمزة عاصم
علي ولا تنس المديني نافعا
وإن شئت أركان الشريعة فاستمع لتعرفهم فاحفظ إذا كنت سامعا
محمد والنعمان مالك أحمد
وسفيان واذكر بعد داود تابعا
الثالث هشام بن عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي أبو المنذر وقيل أبو عبد الله أحد الأعلام تابعي مدني رأى ابن عمر ومسح برأسه ودعا له وجابرا وغيرهما ولد مقتل الحسين رضي الله عنه سنة إحدى وستين ومات ببغداد سنة خمس وأربعين ومائة روى له الجماعة ولم نعرف أحدا شاركه في اسمه مع اسم أبيه الرابع أبو عبد الله

(1/37)


عروة والد هشام المذكور المدني التابعي الجليل المجمع على جلالته وإمامته وكثرة علمه وبراعته وهو أحد الفقهاء السبعة وهم هو وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وسليمان بن يسار وخارجة بالخاء المعجمة والراء ثم الجيم بن زيد بن ثابت وفي السابع ثلاثة أقوال أحدها أبو سلمة بن عبد الرحمن الثاني سالم بن عبد الله بن عمر الثالث أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعلى القول الأخير جمعهم الشاعر
ألا إن من لا يقتدي بأئمة
فقسمته ضيزى من الحق خارجة
فخذهم عبيد الله عروة قاسم
سعيد أبو بكر سليمان خارجة
وأم عروة أسماء بنت الصديق وقد جمع الشرف من وجوه فرسول الله صهره وأبو بكر جده والزبير والده وأسماء أمه وعائشة خالته ولد سنة عشرين ومات سنة أربع وتسعين وقيل سنة ثلاث وقيل تسع روى له الجماعة وليس في الستة عروة بن الزبير سواه ولا في الصحابة أيضا الخامس أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تكنى بأم عبد الله كناها رسول الله بابن أختها عبد الله بن الزبير وقيل بسقط لها وليس بصحيح وعائشة مأخوذة من العيش وحكى عيشة لغة فصيحة وأمها أم رومان بفتح الراء وضمها زينب بنت عامر وهي أم عبد الرحمن أخي عائشة أيضا ماتت سنة ست في قول الواقدي والزبير وهو الأصح تزوجها رسول الله بمكة قبل الهجرة بسنتين وقيل بثلاث وقيل بسنة ونصف أو نحوها في شوال وهي بنت ست سنين وقيل سبع وبنى بها في شوال أيضا بعد وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة أقامت في صحبته ثمانية أعوام وخمسة أشهر وتوفي عنها وهي بنت ثماني عشرة وعاشت خمسا وستين سنة وكانت من أكبر فقهاء الصحابة وأحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية روي لها ألفا حديث ومائتا حديث وعشرة أحاديث اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثا وانفرد البخاري بأربعة وخمسين ومسلم بثمانية وخمسين روت عن خلق من الصحابة وروى عنها جماعات من الصحابة والتابعين قريب من المائتين ماتت بعد الخمسين إما سنة خمس أو ست أو سبع أو ثمان في رمضان وقيل في شوال وأمرت أن تدفن ليلا بعد الوتر بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وهل هي أفضل من خديجة بنت خويلد فيه خلاف فقال بعضهم عائشة أفضل وقال آخرون خديجة أفضل وبه قال القاضي والمتولي وقطع ابن العربي المالكي وآخرون وهو الأصح وكذلك الخلاف موجود هل هي أفضل أم فاطمة والأصح أنها أفضل من فاطمة وسمعت بعض أساتذتي الكبار أن فاطمة أفضل في الدنيا وعائشة أفضل في الآخرة والله أعلم وجملة من في الصحابة اسمه عائشة عشرة عائشة هذه وبنت سعد وبنت حز وبنت الحارث القريشية وبنت أبي سفيان الأشهلية وبنت عبد الرحمن بن عتيك زوجة ابن رفاعة وبنت عمير الأنصارية وبنت معاوية بن المغيرة أم عبد الملك بن مروان وبنت قدامة بن مظعون وعائشة من الأوهام وإنما هي بنت عجرد وسمعت ابن عباس وليس في الصحيحين من اسمه عائشة من الصحابة سوى الصديقة وفيهما عائشة بنت طلحة بن عبيد الله عن خالتها عائشة أصدقها مصعب ألف ألف وكانت بديعة جدا وفي البخاري عائشة بنت سعد بن أبي وقاص تروي عن أبيها وفي ابن ماجه عائشة بنت مسعود بن العجماء العدوية عن أبيها وعنها ابن أخيها محمد بن طلحة وليس في مجموع الكتب الستة غير ذلك وثم عائشة بنت سعد أخرى بصرية تروي عن الحسن ( فإن قلت ) ما أصل قولهم في عائشة وغيرها من أزواج النبي أم المؤمنين قلت أخذوه من قوله تعالى ( وأزواجه أمهاتهم ) وقرأ مجاهد وهو أب لهم وقيل أنها قراءة أبي بن كعب وهن أمهات في وجوب احترامهن وبرهن وتحريم نكاحهن لا في جواز الخلوة والمسافرة وتحريم نكاح بناتهن وكذا النظر في الأصح وبه جزم الرافعي ومقابله حكاه الماوردي وهل يقال لأخوتهن أخوال المسلمين ولأخواتهن خالات المؤمنين ولبناتهن أخوات المؤمنين فيه خلاف عند العلماء والأصح المنع لعدم التوقيف ووجه مقابله أنه مقتضى ثبوت الأمومة وهو ظاهر النص لكنه مؤول قالوا ولا يقال آباؤهن وأمهاتهن أجداد المؤمنين وجداتهم وهل يقال فيهن أمهات المؤمنات فيه خلاف والأصح أنه لا يقال بناء على الأصح أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال وعن عائشة رضي

(1/38)


الله عنها أنها قالت أنا أم رجالكم لا أم النساء وهل يقال للنبي أبو المؤمنين فيه وجهان والأصح الجواز ونص عليه الشافعي أيضا أي في الحرمة ومعنى قوله تعالى ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) لصلبه وعن الأستاذ أبي إسحاق أنه لا يقال أبونا وإنما يقال هو كأبينا لما روي أنه أنه قال إنما أنا لكم كالوالد السادس الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم أخو أبي جهل لأبويه وابن عم خالد بن الوليد شهد بدرا كافرا فانهزم وأسلم يوم الفتح وحسن إسلامه وأعطاه النبي يوم حنين مائة من الإبل قتل باليرموك سنة خمس عشرة وكان شريفا في قومه وله اثنان وثلاثون ولدا منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء السبعة على قول وليس في الصحابة الحارث بن هشام إلا هذا وإلا الحارث بن هشام الجهني روى عنه المصريون ذكره ابن عبد البر وقال بعض الشارحين هذا الحديث أدخله الحفاظ في مسند عائشة دون الحارث وليس للحارث هذا في الصحيحين رواية وإنما له رواية في سنن ابن ماجه فقط وعده ابن الجوزي فيمن روى من الصحابة حديثين مراده في غير الصحيحين وليس في الصحابة في الصحيحين من اسمه الحارث غير الحارث بن ربعي أبي قتادة على أحد الأقوال في اسمه والحارث بن عوف أبي واقد الليثي وهما بكنيتهما أشهر وأما خارج الصحيحين فجماعات كثيرون فوق المائة والخمسين قلت أدخل الإمام أحمد في مسنده الحارث بن هشام فإنه رواه عن عامر بن صالح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن الحارث بن هشام قال سألت رسول الله الحديث واعلم أن الحارث قد يكتب بلا ألف تخفيفا وهشام بكسر الهاء وبالشين المعجمة
( بيان لطائف إسناده ) منها أن رجاله كلهم مدنيون خلا شيخ البخاري ومنها أن فيه تابعيا عن تابعي ومنها أن قولها سأل رسول الله يحتمل وجهين أحدهما أن تكون عائشة رضي الله عنها حضرته والآخر أن يكون الحارث أخبرها بذلك فعلى الأول ظاهر الاتصال وعلى الثاني مرسل صحابي وهو في حكم المسند ومنها أن في الأول حدثنا عبد الله وفي الثاني أخبرنا مالك والبواقي بلفظة عن المسماة بالعنعنة قال القاضي عياض لا خلاف أنه يجوز في السماع من لفظ الشيخ أن يقول السامع فيه حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعته يقول وقال لنا فلان وذكر فلان وإليه مال الطحاوي وصحح هذا المذهب ابن الحاجب ونقل هو وغيره عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة وهو مذهب جماعة من المحدثين منهم الزهري ومالك وسفيان بن عيينة ويحيى القطان وقيل أنه قول معظم الحجازيين والكوفيين وقال آخرون بالمنع في القراءة على الشيخ إلا مقيدا مثل حدثنا فلان قراءة عليه وأخبرنا قراءة عليه وهو مذهب ابن المبارك وأحمد بن حنبل ويحيى بن يحيى التميمي والمشهور عن النسائي وصححه الآمدي والغزالي وهو مذهب المتكلمين وقال آخرون بالمنع في حدثنا والجواز في أخبرنا وهو مذهب الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق ونقل عن أكثر المحدثين منهم ابن جريج والأوزاعي والنسائي وابن وهب وقيل أنه أول من أحدث هذا الفرق بمصر وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث والأحسن أن يقال فيه أنه اصطلاح منهم أرادوا التمييز بين النوعين وخصصوا قراءة الشيخ بحدثنا لقوة إشعاره بالنطق والمشافهة واختلف في المعنعن فقال بعضهم هو مرسل والصحيح الذي عليه الجماهير أنه متصل إذا أمكن لقاء الراوي المروي عنه وقال النووي ادعى مسلم إجماع العلماء على أن المعنعن وهو الذي فيه فلان عن فلان محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا يعني مع براءتهم من التدليس ونقل أي مسلم عن بعض أهل عصره أنه قال لا يحمل على الاتصال حتى يثبت أنهما التقيا في عمرهما مرة فأكثر ولا يكفي إمكان تلاقيهما وقال هذا قول ساقط واحتج عليه بأن المعنعن محمول على الاتصال إذا ثبت التلاقي مع احتمال الإرسال وكذا إذا أمكن التلاقي قال النووي والذي رده هو المختار الصحيح الذي عليه أئمة هذا الفن البخاري وغيره وقد زاد جماعة عليه فاشترط القابسي أن يكون قد أدركه إدراكا بينا وأبو المظفر السمعاني طول الصحبة بينهما
( بيان تعدد الحديث ومن أخرجه غيره ) قد رواه البخاري أيضا في بده الخلق عن فروة عن علي بن مسهر عن

(1/39)


همام ورواه مسلم في الفضائل عن أبي بكر بن أبي شيبة عن ابن عيينة عن أبي كريب عن أبي أسامة وعن ابن نمير عن أبي بشر عنه
( بيان اللغات ) قوله الوحي قد فسرناه فيما مضى ولنذكر ههنا أقسامه وصوره أما أقسامه في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فعلى ثلاثة أضرب أحدها سماع الكلام القديم كسماع موسى عليه السلام بنص القرآن ونبينا بصحيح الآثار الثاني وحي رسالة بواسطة الملك الثالث وحي تلق بالقلب كقوله إن روح القدس نفث في روعي أي في نفسي وقيل كان هذا حال داود عليه السلام والوحي إلى غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمعنى الإلهام كالوحي إلى النحل وأما صوره على ما ذكره السهيلي فسبعة الأولى المنام كما جاء في الحديث الثانية أن يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس كما جاء فيه أيضا الثالثة أن ينفث في روعه الكلام كما مر في الحديث المذكور آنفا وقال مجاهد وغيره في قوله تعالى ( ان يكلمه الله إلا وحيا ) وهو أن ينفث في روعه بالوحي الرابعة أن يتمثل له الملك رجلا كما في هذا الحديث وقد كان يأتيه في صورة دحية قلت اختصاص تمثله بصورة دحية دون غيره من الصحابة لكونه أحسن أهل زمانه صورة ولهذا كان يمشي متلثما خوفا أن يفتتن به النساء الخامسة أن يتراءى له جبريل عليه السلام في صورته التي خلقها الله تعالى له بستمائة جناح ينتشر منها اللؤلؤ والياقوت السادسة أن يكلمه الله تعالى من وراء حجاب إما في اليقظة كليلة الإسراء أو في النوم كما جاء في الترمذي مرفوعا أتاني ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى الحديث وحديث عائشة الآتي ذكره فجاءه الملك فقال اقرأ ظاهره أن ذلك كان يقظة وفي السيرة فأتاني وأنا نائم ويمكن الجمع بأنه جاء أولا مناما توطئة وتيسيرا عليه وترفقا به وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مكث بمكة خمس عشرة سنة يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئا وثماني سنين يوحى إليه السابعة وحي إسرافيل عليه السلام كما جاء عن الشعبي أن النبي وكل به إسرافيل عليه السلام فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء ثم وكل به جبريل عليه السلام وفي مسند أحمد بإسناد صحيح عن الشعبي أن رسول الله نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل القرآن فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة عشرا بمكة وعشرا بالمدينة فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة وأنكر الواقدي وغيره كونه وكل به غير جبريل عليه السلام وقال أحمد بن محمد البغدادي أكثر ما كان في الشريعة مما أوحى إلى رسول الله على لسان جبريل عليه السلام قوله أحيانا جمع حين وهو الوقت يقع على القليل والكثير قال الله تعالى ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر ) أي مدة من الدهر قال الجوهري الحين الوقت والحين المدة وفلان يفعل كذا أحيانا وفي الأحايين والحاصل أن الحين يطلق على لحظة من الزمان فما فوقه وعند الفقهاء الحين والزمان يقع على ستة أشهر حتى لو حلف لا يكلمه حينا أو زمانا أو الحين أو الزمان فهو على ستة أشهر قالوا لأن الحين قد يراد به الزمان القليل وقد يراد به أربعون سنة قال الله تعالى ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر ) أي أربعون سنة وقد يراد به ستة أشهر قال الله تعالى ( تؤتي أكلها كل حين ) قلت هذا إذا لم ينو شيئا أما إذا نوى شيئا فهو على ما نواه لأنه حقيقة كلامه قوله مثل صلصلة الجرس الصلصلة بفتح الصادين المهملتين الصوت المتدارك الذي لا يفهم أول وهلة ويقال هي صوت كل شيء مصوت كصلصلة السلسلة وفي العباب صلصلة اللجام صوته إذا ضوعف وقال الخطابي يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يشتبه أول ما يقرع سمعه حتى يفهمه من بعد وقال أبو علي الهجري في أماليه الصلصلة للحديد والنحاس والصفر ويابس الطين وما أشبه ذلك صوته وفي المحكم صل يصل صليلا وصلصل وتصلصل صلصلة وتصلصلا صوت فإن توهمت ترجيع صوت قلت صلصل وتصلصل وقال القاضي الصلصلة صوت الحديد فيما له طنين وقيل معنى الحديث هو قوة صوت حفيف أجنحة الملائكة لتشغله عن غير

(1/40)


ذلك ويؤيده الرواية الأخرى كأنه سلسلة على صفوان أي حفيف الأجنحة والجرس بفتح الراء هو الجلجل الذي يعلق في رأس الدواب وقال الكرماني الجرس شبه ناقوس صغير أو صطل في داخله قطعة نحاس معلق منكوسا على البعير فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت الصطل فتحصل صلصلة والعامة تقول جرص بالصاد وليس في كلام العرب كلمة اجتمع فيها الصاد والجيم إلا الصمج وهو القنديل وأما الجص فمعرب قال ابن دريد اشتقاقه من الجرس أي الصوت والحس وقال ابن سيده الجرس والجرس والجرس الأخيرة عن كراع الحركة والصوت من كل ذي صوت وقيل الجرس بالفتح إذا أفرد فإذا قالوا ما سمعت له حسا ولا جرسا كسروا فاتبعوا اللفظ باللفظ قال الصغاني قال ابن السكيت الجرس والجرس الصوت ولم يفرق وقال الليث الجرس مصدر الصوت المجروس والجرس بالكسر الصوت نفسه وجرس الحرف نغمة الصوت والحروف الثلاثة لا جروس لها أعني الواو والياء والألف اللينة وسائر الحروف مجروسة قوله فيفصم فيه ثلاث روايات الأولى وهي أفصحها بفتح الياء آخر الحروف وإسكان الفاء وكسر الصاد وقال الخطابي معناه يقطع ويتجلى ما يغشاني منه قال وأصل الفصم القطع ومنه ( لا انفصام لها ) وقيل أنه الصدع بلا إبانة وبالقاف قطع بإبانة فمعنى الحديث أن الملك فارقه ليعود الثانية بضم أوله وفتح ثالثه وهي رواية أبي ذر الهروي قلت هو على صيغة المجهول من المضارع الثلاثي فافهم الثالثة بضم أوله وكسر الثالثة من أفصم المطر إذا أقلع وهي لغة قليلة قلت هذا من الثلاثي المزيد فيه ومنه أفصمت عنه الحمى قوله وقد وعيت بفتح العين أي فهمت وجمعت وحفظت قال صاحب الأفعال وعيت العلم حفظته ووعيت الأذن سمعت وأوعيت المتاع جمعته في الوعاء وقال ابن القطاع وأوعيت العلم مثل وعيته وقوله تعالى ( والله أعلم بما يوعون ) أي بما يضمرون في قلوبهم من التكذيب وقال الزجاج بما يحملون في قلوبهم فهذا من أوعيت المتاع قوله يتمثل أي يتصور مشتق من المثال وهو أن يتكلف أن يكون مثالا لشيء آخر وشبيها له قوله الملك جسم علوي لطيف يتشكل بأي شكل شاء وهو قول أكثر المسلمين وقالت الفلاسفة الملائكة جواهر قائمة بأنفسها ليست بمتحيزة البتة فمنهم من هي مستغرقة في معرفة الله تعالى فهم الملائكة المقربون ومنهم مدبرات هذا العالم إن كانت خيرات فهم الملائكة الأرضية وإن كانت شريرة فهم الشياطين قوله رجلا قال في العباب الرجل خلاف المرأة والجمع رجال ورجالات مثل جمال وجمالات وقال الكسائي جمعوا رجلا رجلة مثل عنبة وأراجل قال أبو ذؤيب الهذلي ( أهم بنيه صيفهم وشتاؤهم
وقالوا تعد واغز وسط الأراجل )
يقول أهمتهم نفقة صيفهم وشتائهم وقالوا لأبيهم تعد أي انصرف عنا وتصغير الرجل رجيل ورويجل أيضا على غير قياس كأنه تصغير راجل ومنه قوله أفلح الرويجل إن صدق فإن قلت هل يطلق على المؤنث من هذه المادة قلت نعم قيل المرأة رجلة أنشد أبو علي وغيره ( خرقوا جيب فتاتهم
لم يراعوا حرمة الرجلة )
وفي شرح الإيضاح استشهد به أبو علي على قوله الرجلة مؤنث الرجل وقول الفقهاء الرجل كل ذكر من بني آدم جاوز حد البلوغ منقوض به وبإطلاق الرجل على الصغير أيضا في قوله تعالى ( وإن كان رجل يورث كلالة ) قوله وإن جبينه الجبين طرف الجبهة وللإنسان جبينان يكتنفان الجبهة ويقال الجبين غير الجبهة وهو فوق الصدغ وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها قوله ليتفصد بالفاء والصاد المهملة أي يسيل من التفصد وهو السيلان ومنه الفصد وهو قطع العرق لإسالة الدم قوله عرقا بفتح الراء وهو الرطوبة التي تترشح من مسام البدن
( بيان الصرف ) قوله أشده علي الأشد أفعل التفضيل من شد يشد قوله فيفصم من فصم يفصم فصما من باب ضرب يضرب ولما كانت الفاء من الحروف الرخوة قالت الاشتقاقيون الفصم هو القطع بلا إبانة والقاف لما كانت من الحروف الشديدة والقلقلة التي فيها ضغط وشدة قالوا القصم بالقاف هو القطع بإبانة واعتبروا في المعنين المناسبة قوله الملك أصله ملأك تركت الهمزة لكثرة الاستعمال واشتقاقه من الألوكة وهي الرسالة يقال ألكني إليه أي أرسلني ومنه سمى الملك لأنه رسول من الله تعالى وجمعه ملائكة قال الزمخشري الملائكة جمع ملأك على وزن الأصل كالشمائل جمع

(1/41)


شمأل وإلحاق التاء لتأنيث الجمع قلت إنما قال كذلك حتى لا يظن أنه جمع ملك لأن وزنه فعل وهو لا يجمع على فعائل ولكن أصله ملأك ولما أريد جمعه رد إلى أصله كما أن الشمائل وهي الرياح جمع شمأل بالهمز في الأصل لا جمع شمال لأن فعالا لا يجمع على فعائل وفي العباب الألوك والألوكة والمالكة والمالك الرسالة وإنما سميت الرسالة الألوكة لأنها تولك في الفم من قول العرب الفرس يألك اللجام ألكا أي يعلكه علكا وقال ابن عباد قد يكون الألوك الرسول وقال الصغاني والتركيب يدل على تحمل الرسالة قوله وعيت من وعاه إذا حفظه يعيه وعيا فهو واع وذاك موعى وأذن واعية
( بيان الإعراب ) قوله رسول الله منصوب لأنه مفعول سأل وقوله الوحي بالرفع فاعل يأتيك قوله أحيانا نصب على الظرف والعامل فيه قوله يأتيني مؤخرا قوله مثل بالنصب قال الكرماني هو حال أي يأتيني مشابها صوته صلصلة الجرس قلت ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي يأتيني إتيانا مثل صلصلة الجرس ويجوز فيه الرفع من حيث العربية لا من حيث الرواية والتقدير هو مثل صلصلة الجرس قوله وهو أشده الواو فيه للحال قوله فيفصم عطف على قوله يأتيني والفاء من جملة حروف العطف كما علم في موضعها ولكن تفيد ثلاثة أمور الترتيب إما معنوي كما في قام زيد فعمرو وإما ذكري وهو عطف مفصل على مجمل نحو ( فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه ) والتعقيب وهو في كل شيء بحسبه والسببية وذلك غالب في العاطفة جملة أو صفة نحو ( فوكزه موسى فقضى عليه ) و ( لآكلون من شجر من زقوم فمالؤن منها البطون فشاربون عليه من الحميم ) قوله وقد وعيت الواو للحال وقد علم أن الماضي إذا وقع حالا يجوز فيه الواو وتركه ولكنه لا بد من قد إما ظاهرة أو مقدرة وههنا جاء بالواو وبقد ظاهرة والمقدرة بلا واو نحو قوله تعالى ( أو جاؤكم حصرت صدورهم ) والتقدير قد حصرت قوله ما قال جملة في محل النصب لأنها مفعول لقوله وقد وعيت وكلمة ما موصولة وقوله قال جملة صلتها والعائد محذوف تقديره ما قاله واعلم أن الجملة لا حظ لها من الإعراب إلا إذا وقعت موقع المفرد وذلك بحكم الاستقراء في ستة مواضع خبر المبتدأ وخبر باب إن وخبر باب كان والمفعول الثاني من باب حسبت وصفة النكرة والحال قوله وأحيانا عطف على أحيانا الأولى قوله الملك بالرفع فاعل لقوله يتمثل قوله لي اللام فيه للتعليل أي لأجلي ويجوز أن يكون بمعنى عند أي يتمثل عندي الملك رجلا كما في قولك كتبت لخمس خلون قوله رجلا نصب على أنه تمييز قاله أكثر الشراح وفيه نظر لأن التمييز ما يرفع الإبهام المستقر عن ذات مذكورة أو مقدرة فالأول نحو عندي رطل زيتا والثاني نحو طاب زيد نفسا قالوا والفرق بينهما أن زيتا رفع الإبهام عن رطل ونفسا لم يرفع إبهاما لا عن طاب ولا عن زيد إذ لا إبهام فيهما بل رفع إبهام ما حصل من نسبته إليه وههنا لا يجوز أن يكون من القسم الأول وهو ظاهر ولا من الثاني لأن قوله يتمثل ليس فيه إبهام ولا في قوله الملك ولا في نسبة التمثل إلى الملك فإذن قولهم هذا نصب على التمييز غير صحيح بل الصواب أن يقال أنه منصوب بنزع الخافض وأن المعنى يتصور لي الملك تصور رجل فلما حذف المضاف المنصوب بالمصدرية أقيم المضاف إليه مقامه وأشار الكرماني إلى جواز انتصابه بالمفعولية إن ضمن تمثل معنى اتخذ أي اتخذ الملك رجلا مثالا وهذا أيضا بعيد من جهة المعنى على ما لا يخفى وإلى انتصابه بالحالية ثم قال فإن قلت الحال لا بد أن يكون دالا على الهيئة والرجل ليس بهيئة قلت معناه على هيئة رجل انتهى قلت الأحوال التي تقع من غير المشتقات لا تؤول بمثل هذا التأويل وإنما تؤول من لفظها كما في قولك هذا بسرا أطيب منه رطبا والتقدير متبسرا ومترطبا وأيضا قالوا الاسم الدال على الاستمرار لا يقع حالا وإن كان مشتقا نحو أسود وأحمر لأنه وصف ثابت فمن عرف زيدا عرف أنه أسود وأيضا الحال في المعنى خبر عن صاحبه فيلزم أن يصدق عليه والرجل لا يصدق على الملك قوله فيكلمني الفاء فيه وفي قوله فأعي للعطف المشير إلى التعقيب قوله ما يقول جملة في محل النصب على أنه مفعول لقوله فأعي والعائد إلى الموصول محذوف تقديره ما يقوله قوله قالت عائشة يحتمل وجهين أحدهما أن يكون معطوفا على الإسناد الأول بدون حرف العطف كما هو مذهب بعض النحاة صرح به ابن مالك فحينئذ يكون حديث عائشة مسندا والآخر أن يكون كلاما برأسه غير مشارك للأول فعلى هذا يكون هذا من تعليقات البخاري قد ذكره تأكيدا بأمر الشدة وتأييدا

(1/42)


له على ما هو عادته في تراجم الأبواب حيث يذكر ما وقع له من قرآن أو سنة مساعدا لها ونفى بعضهم أن يكون هذا من التعاليق ولم يقم عليه دليلا فنفيه منفي إذ الأصل في العطف أن يكون بالأداة وما نص عليه ابن مالك غير مشهور بخلاف ما عليه الجمهور قوله ولقد رأيت الواو للقسم واللام للتأكيد وقد للتحقيق ورأيت بمعنى أبصرت فلذلك اكتفى بمفعول واحد قوله ينزل عليه الوحي جملة وقعت حالا وقد علم أن المضارع إذا كان مثبتا ووقع حالا لا يسوغ فيه الواو وإن كان منفيا جاز فيه الأمر أن قوله الشديد صفة جرت على غير من هي له لأنه صفة البرد لا اليوم قوله فيفصم عطف على قوله ينزل قوله عرقا نصب على التمييز
( بيان المعاني ) قوله كيف يأتيك الوحي فيه مجاز عقلي وهو إسناد الإتيان إلى الوحي كما في أنبت الربيع البقل لأن الإنبات لله تعالى لا للربيع وهو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له عند المتكلم في الظاهر ويسمى هذا القسم أيضا مجازا في الإسناد وأصله كيف يأتيك حامل الوحي فأسند إلى الوحي للملابسة التي بين الحامل والمحمول وفيه من المؤكدات واو القسم أكدت به عائشة رضي الله عنها ما قاله من قوله وهو أشده علي ولام التأكيد وقد التي وضعها للتحقيق في مثل هذا الموضع كما في نحو قوله تعالى ( قد أفلح من زكاها ) وذلك لأن مرادها الإشارة إلى كثرة معاناته التعب والكرب عند نزول الوحي وذلك لأنه كان إذا ورد عليه الوحي يجد له مشقة ويغشاه الكرب لثقل ما يلقى عليه قال تعالى ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم كما روي أنه كان يأخذه عند الوحي الرحضاء أي البهر والعرق من الشدة وأكثر ما يسمى به عرق الحمى ولذلك كان جبينه يتفصد عرقا كما يفصد وإنما كان ذلك ليبلو صبره ويحسن تأديبه فيرتاض لاحتمال ما كلفه من أعباء النبوة وقد ذكر البخاري في حديث يعلى بن أمية فأدخل رأسه فإذا رسول الله محمر الوجه وهو يغط ثم سرى عنه ومنه في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال كان نبي الله عليه وسلم إذا أنزل عليه كرب لذلك وتربد وجهه وفي حديث الإفك قالت عائشة رضي الله عنها فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه لينحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه قلت الرحضاء بضم الراء وفتح الحاء المهملة وبالضاد المعجمة الممدودة العرق في أثر الحمى والبهر بالضم تتابع النفس وبالفتح المصدر قوله يغط من الغطيط وهو صوت يخرجه النائم مع نفسه قوله تربد بتشديد الباء الموحدة أي تغير لونه قوله البرحاء بضم الباء الموحدة وفتح الراء وبالحاء المهملة الممدودة وهو شدة الكرب وشدة الحمى أيضا قوله مثل الجمان بضم الجيم وتخفيف الميم جمع جمانة وهي حبة تعمل من فضة كالدرة
( بيان البيان ) فيه استعارة بالكناية وهو أن يكون الوحي مشبها برجل مثلا ويضاف إلى المشبه الإتيان الذي هو من خواص المشبه به والاستعارة بالكناية أن يكون المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه ويراد به المشبه به هذا الذي مال إليه السكاكي وإن نظر فيه القزويني وفيه تشبيه الجبين بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق ولذلك وقع عرقا تمييزا لأنه توضيح بعد إبهام وتفصيل بعد إجمال وكذلك يدل على المبالغة باب التفعل لأن أصله وضع للمبالغة والتشديد ومعناه أن الفاعل يتعانى ذلك الفعل ليحصل بمعاناته كتشجع إذ معناه استعمل الشجاعة وكلف نفسه إياها ليحصلها
( الأسئلة والأجوبة ) الأول ما قيل أن السؤال عن كيفية إتيان الوحي والجواب على النوع الثاني من كيفية الحامل للوحي وأجيب بأنا لا نسلم أن السؤال عن كيفية إتيان الوحي بل عن كيفية حامله ولئن سلمنا فبيان كيفية الحامل مشعر بكيفية الوحي حيث قال فيكلمني أي تارة يكون كالصلصلة وتارة يكون كلاما صريحا ظاهر الفهم والدلالة قلت بل نسلم أن السؤال عن كيفية إتيان الوحي لأن بلفظة كيف يسأل عن حال الشيء فإذا قلت كيف زيد معناه أصحيح أم سقيم والجواب أيضا مطابق لأنه قال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس غاية ما في الباب أن الجواب عن السؤال مع زيادة لأن السائل سأل عن كيفية إتيان الوحي وبينه بقوله يأتيني مثل صلصلة الجرس مع بيان حامل الوحي أيضا بقوله وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني وإنما زاد على الجواب لأنه ربما فهم من السائل أنه يعود يسأل عن كيفية حامل الوحي أيضا فأجابه

(1/43)


عن ذلك قبل أن يحوجه إلى السؤال فافهم الثاني ما قيل لم قال في الأول وعيت ما قال بلفظ الماضي وفي الثاني فأعي ما يقول بلفظ المضارع وأجيب بأن الوعي في الأول حصل قبل الفصم ولا يتصور بعده وفي الثاني الوعي حال المكالمة ولا يتصور قبلها أو لأنه كان الوعي في الأول عند غلبة التلبس بالصفات الملكية فإذا عاد إلى حالته الجبلية كان حافظا فأخبر عن الماضي بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة أو يقال لفظة قد تقرب الماضي إلى الحال وأعي فعل مضارع للحال فهذا لما كان صريحا يحفظه في الحال وذلك يقرب من أن يحفظه إذ يحتاج فيه إلى استثبات الثالث ما قيل أن أبا داود قد روى من حديث عمر رضي الله عنه كنا نسمع عنده مثل دوي النحل وههنا يقول مثل صلصلة الجرس وبينهما تفاوت وأجيب بأن ذلك بالنسبة إلى الصحابة وهذا بالنسبة إلى النبي عليه الصلاة و السلام الرابع ما قيل كيف مثل بصلصلة الجرس وقد كره صحبته في السفر لأنه مزمار الشيطان كما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان وقيل كرهه لأنه يدل على أصحابه بصوته وكان يحب أن لا يعلم العدو به حتى يأتيهم فجأة حكاه ابن الأثير قلت يحتمل أن تكون الكراهة بعد إخباره عن كيفية الوحي الخامس ما قيل ذكر في هذا الحديث حالتين من أحوال الوحي وهما مثل صلصلة الجرس وتمثل الملك رجلا ولم يذكر الرؤيا في النوم مع إعلامه لنا أن رؤياه حق أجيب من وجهين أحدهما أن الرؤيا الصالحة قد يشركه فيها غيره بخلاف الأولين والآخر لعله علم أن قصد السائل بسؤاله ما خص به ولا يعرف إلا من جهته وقال بعضهم كان عند السؤال نزول الوحي على هذين الوجهين إذ الوحي على سبيل الرؤيا إنما كان في أول البعثة لأن أول ما بدىء رسول الله من الوحي الرؤيا ثم حبب إليه الخلاء كما روي في الحديث وقيل ذلك في ستة أشهر فقط وقال آخرون كانت الموجودة من الرؤيا بعد إرسال الملك منغمرة في الوحي فلم تحسب ويقال كان السؤال عن كيفية الوحي في حال اليقظة السادس ما قيل ما وجه الحصر في القسمين المذكورين أجيب بأن سنة الله لما جرت من أنه لا بد من مناسبة بين القائل والسامع حتى يصح بينهما التحاور والتعليم والتعلم فتلك المناسبة إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية عليه وهو النوع الأول أو باتصاف القائل بوصف السامع وهو النوع الثاني السابع ما قيل ما الحكمة في ضربه في الجواب بالمثل المذكور أجيب بأنه كان معتنيا بالبلاغة مكاشفا بالعلوم الغيبية وكان يوفر على الأمة حصتهم بقدر الاستعداد فإذا أريد أن ينبئهم بما لا عهد لهم به من تلك العلوم صاغ لها أمثلة من عالم الشهادة ليعرفوا بما شاهدوه ما لم يشاهدوه فلما سأله الصحابي عن كيفية الوحي وكان ذلك من المسائل الغويصة ضرب لها في الشاهد مثلا بالصوت المتدارك الذي يسمع ولا يفهم منه شيء تنبيها على أن إتيانها يرد على القلب في لبسة الجلال فيأخذ هيبة الخطاب حين ورودها بمجامع القلوب ويلاقي من ثقل القول ما لا علم له بالقول مع وجود ذلك فإذا كشف عنه وجد القول المنزل بينا فيلقى في الروع واقعا موقع المسموع وهذا معنى قوله فيفصم عني وهذا الضرب من الوحي شبيه بما يوحى إلى الملائكة على ما رواه أبو هريرة عن النبي قال إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنها سلسلة على الحجر ) فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) هذا وقد تبين لنا من هذا الحديث أن الوحي كان يأتيه على صفتين أولاهما أشد من الأخرى وذلك لأنه كان يرد فيهما من الطباع البشرية إلى الأوضاع الملكية فيوحى إليه كما يوحى إلى الملائكة والأخرى يرد فيها الملك إلى شكل البشر وشاكلته وكانت هذه أيسر الثامن ما قيل من المراد من الملك في قوله يتمثل لي الملك رجلا أجيب بأنه جبريل عليه السلام لأن اللام فيه للعهد ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون المراد به إسرافيل عليه السلام لأنه قرن بنبوته ثلاث سنين كما ذكرنا فإن عورض بأن إسرافيل لم ينزل القرآن قط وإنما كان ينزل بالكلمة من الوحي أجيب بأنه لم يذكر ههنا شيء من نزول القرآن وإنما الملك الذي نزل بالقرآن هو المذكور في الحديث الآتي حيث قال فجاءه الملك فقال له اقرأ الحديث ولقد حضرت يوما مجلس حديث بالقاهرة وكان فيه جماعة من الفضلاء لا سيما من المنتسبين إلى معرفة علم الحديث فقرأ القارىء من أول البخاري حتى وصل إلى قوله فجاءه الملك فقال له اقرأ فسألتهم عن الملك من هو فقالوا جبريل عليه السلام فقلت ما الدليل على ذلك من النقل فتحيروا ثم تصدى واحد منهم فقال لا نعلم ملكا نزل عليه عليه الصلاة

(1/44)


والسلام غير جبريل قلت قد نزل عليه إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين كما رواه أحمد في مسنده كما ذكرناه فعند ذلك قال قال الله عز و جل ( نزل به الروح الأمين ) أي بالقرآن والروح الأمين هو جبريل عليه السلام قلت قد سمي بالروح غير جبريل قال الله تعالى ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا ) وعن ابن عباس هو ملك من أعظم الملائكة خلقا فأفحم عند ذلك فقلت جبريل قد تميز عنه بصفة الأمانة لأن الله تعالى سماه أمينا وسمى ذلك الملك روحا فقط على أنه قد روى عن الشعبي وسعيد بن جبير والضحاك أن المراد بالروح في قوله تعالى ( يوم يقوم الروح ) هو جبريل عليه السلام فقال من أين علمنا أن المراد من الروح الأمين هو جبريل عليه السلام قلت بتفسير المفسرين من الصحابة والتابعين وتفسيرهم محمول على السماع لأن العقل لا مجال فيه على أن من جملة أسباب العلم الخبر المتواتر وقد تواترت الأخبار من لدن النبي إلى يومنا هذا أن الذي نزل بالقرآن على نبينا عليه السلام هو جبريل عليه السلام من غير نكير منكر ولا رد راد حتى عرف بذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى وروي أن عبد الله بن صوريا من أحبار فدك حاج رسول الله وسأله عمن يهبط عليه بالوحي فقال جبريل فقال ذاك عدونا ولو كان غيره لآمنا بك وقد عادانا مرارا وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاما مسكينا فدفع عنه جبريل وقال إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه وإن لم يكن إياه فعلى أي حق تقتلونه فنزل قوله تعالى ( قل من كان عدوا لجبريل ) الآية وروي أنه كان لعمر رضي الله عنه أرض بأعلى المدينة وكان ممره على مدارس اليهود فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال والله لا أجيبكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد وأرى إثارة في كتابكم ثم سألهم عن جبريل فقالوا ذلك عدونا يطلع محمدا على أسرارنا وهو صاحب كل خسف وعذاب ويؤيد ما ذكرنا ما روي مرفوعا إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماء منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله تعالى فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول ما يرفع رأسه جبريل عليه السلام فيكلمه من وحيه بما أراد ثم يمر جبريل عليه السلام على الملائكة كلما مر على سماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ( قال الحق وهو العلي الكبير ) فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي جبريل عليه السلام حيث أمره الله تعالى التاسع ما قيل كيف كان سماع النبي والملك الوحي من الله تعالى أجيب بأن الغزالي رحمه الله تعالى قال وسماع النبي والملك عليهما السلام الوحي من الله تعالى بغير واسطة يستحيل أن يكون بحرف أو صوت لكن يكون بخلق الله تعالى للسامع علما ضروريا بثلاثة أمور بالمتكلم وبأن ما سمعه كلامه وبمراده من كلامه والقدرة الأزلية لا تقصر عن اضطرار النبي والملك إلى العلم بذلك وكما أن كلامه تعالى ليس من جنس كلام البشر فسماعه الذي يخلقه لعبده ليس من جنس سماع الأصوات ولذلك عسر علينا فهم كيفية سماع موسى عليه الصلاة و السلام لكلامه تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت كما يعسر على الأكمه كيفية إدراك البصر للألوان أما سماعه عليه الصلاة و السلام فيحتمل أن يكون بحرف وصوت دال على معنى كلام الله تعالى فالمسموع الأصوات الحادثة وهي فعل الملك دون نفس الكلام ولا يكون هذا سماعا لكلام الله تعالى من غير واسطة وإن كان يطلق عليه أنه سماع كلام الله تعالى وسماع الأمة من الرسول عليه الصلاة و السلام كسماع الرسول من الملك وطريق الفهم فيه تقديم المعرفة بوضع اللغة التي تقع بها المخاطبة وحكي القرافي خلافا للعلماء في ابتداء الوحي هل كان جبريل عليه السلام ينقل له ملك عن الله عز و جل أو يخلق له علم ضروري بأن الله تعالى طلب منه أن يأتي محمدا أو غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بسورة كذا أو خلق له علما ضروريا بأن يأتي اللوح المحفوظ فينقل منه كذا العاشر ما قيل ما حقيقة تمثل جبريل عليه الصلاة و السلام له رجلا أجيب بأنه يحتمل أن الله تعالى أفنى الزائد من خلقه ثم أعاده عليه ويحتمل أن يزيله عنه ثم يعيده إليه بعد التبليغ نبه على ذلك إمام الحرمين وأما التداخل فلا يصح على مذهب أهل الحق الحادي عشر ما قيل إذا لقي جبريل النبي عليه الصلاة و السلام في صورة دحية فأين تكون روحه فإن كان في الجسد الذي له ستمائة جناح فالذي أتى لا روح جبريل ولا جسده وإن كان في هذا

(1/45)


الذي هو في صورة دحية فهل يموت الجسد العظيم أم يبقى خاليا من الروح المنتقلة عنه إلى الجسد المشبه بجسد دحية أجيب بأنه لا يبعد أن لا يكون انتقالها موجب موته فيبقى الجسد حيا لا ينقص من مفارقته شيء ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثاني كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طير خضر وموت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلا بل بعادة أجراها الله تعالى في بني آدم فلا يلزم في غيرهم الثاني عشر ما قيل ما الحكمة في الشدة المذكورة أجيب لأن يحسن حفظه أو يكون لابتلاء صبره أو للخوف من التقصير وقال الخطابي هي شدة الامتحان ليبلو صبره ويحسن تأديبه فيرتاض لاحتمال ما كلف من أعباء النبوة أو ذلك لما يستشعره من الخوف لوقوع تقصير فيما أمر به من حسن ضبطه أو اعتراض خلل دونه وقد أنزل عليه عليه الصلاة و السلام بما ترتاع له النفوس ويعظم به وجل القلوب في قوله تعالى ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) الثالث عشر ما قيل ما وجه سؤال الصحابة عنه عليه الصلاة و السلام عن كيفية الوحي أجيب بأنه إنما كان لطلب الطمأنينة فلا يقدح ذلك فيهم وكانوا يسألونه عليه الصلاة و السلام عن الأمور التي لا تدرك بالحس فيخبرهم بها ولا ينكر ذلك عليهم
( استنباط الأحكام وهو على وجوه الأول فيه إثبات الملائكة ردا على من أنكرهم من الملاحدة والفلاسفة الثاني فيه أن الصحابة كانوا يسألونه عن كثير من المعاني وكان عليه السلام يجمعهم ويعلمهم وكانت طائفة تسأل وأخرى تحفظ وتؤدي وتبلغ حتى أكمل الله تعالى دينه الثالث فيه دلالة على أن الملك له قدرة على التشكل بما شاء من الصور
3 - ( حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت أول ما بدىء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوت العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما أنا بقاريء قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله

(1/46)


أو مخرجي هم قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة ابن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله والرجز فاهجر فحمي الوحي وتتابع تابعه عبد الله بن يوسف وأبو صالح وتابعه هلال بن رداد عن الزهري وقال يونس ومعمر بوادره )
هذا الحديث من مراسيل الصحابة رضي الله عنهم فإن عائشة رضي الله عنها لم تدرك هذه القضية فتكون سمعتها من النبي أو من صحابي وقال ابن الصلاح وغيره ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من أحداث الصحابة مما لم يحضروه ولم يدركوه فهو في حكم الموصول المسند لأن روايتهم عن الصحابة وجهالة الصحابي غير قادحة وقال الأستاذ أبو إسحق الإسفرايني لا يحتج به إلا أن يقول أنه لا يروى إلا عن صحابي قال النووي والصواب الأول وهو مذهب الشافعي والجمهور وقال الطيبي الظاهر أنها سمعت من النبي لقولها قال فأخذني فغطني فيكون قولها أول ما بدىء به رسول الله حكاية ما تلفظ به عليه الصلاة و السلام كقوله تعالى ( قل للذين كفروا ستغلبون ) بالتاء والياء قلت لم لا يجوز أن يكون هذا بطريق الحكاية عن غيره عليه الصلاة و السلام فلا يكون سماعها منه عليه الصلاة و السلام وعلى كل تقدير فالحديث في حكم المتصل المسند
( بيان رجاله ) وهم ستة الأول أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن بكير بضم الباء الموحدة القرشي المخزومي المصري نسبه البخاري إلى جده يدلسه ولد سنة أربع وقيل خمس وخمسين ومائة وتوفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين وهو من كبار حفاظ المصريين وأثبت الناس في الليث بن سعد روى البخاري عنه في مواضع وروى عن محمد بن عبد الله هو الذهلي عنه في مواضع قاله أبو نصر الكلاباذي وقال المقدسي تارة يقول حدثنا محمد ولا يزيد عليه وتارة محمد بن عبد الله وإنما هو محمد بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذهلي وتارة ينسبه إلى جده فيقول محمد بن عبد الله وتارة محمد بن خالد بن فارس ولم يقل في موضع حدثنا محمد بن يحيى وروى مسلم حدثنا عن أبي زرعة عن يحيى وروى ابن ماجة عن رجل عنه قال أبو حاتم كان يفهم هذا الشأن ولا يحتج به يكتب حديثه وقال النسائي ليس بثقة ووثقه غيرهما وقال الدارقطني عندي ما به بأس وأخرج له مسلم عن الليث وعن يعقوب بن عبد الرحمن ولم يخرج له عن مالك شيئا ولعله والله أعلم لقول الباجي وقد تكلم أهل الحديث في سماعه الموطأ عن مالك مع أن جماعة قالوا هو أحد من روى الموطأ عن مالك الثاني الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث الفهمي مولاهم المصري عالم أهل مصر من تابعي التابعين مولى عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي وقيل مولى خالد بن ثابت وفهم من قيس غيلان ولد بقلقشندة على نحو أربع فراسخ من القاهرة سنة ثلاث أو أربع وتسعين ومات في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة وقبره في قرافة مصر يزار وكان إماما كبيرا مجمعا على جلالته وثقته وكرمه وكان على مذهب الإمام أبي حنيفة قاله القاضي ابن خلكان وليس في الكتب الستة من اسمه الليث بن سعد سواه نعم في الرواة ثلاثة غيره أحدهم مصري وكنيته أبو الحرث أيضا وهو ابن أخي سعيد بن الحكم والثاني يروى عن ابن وهب ذكرهما ابن يونس في تاريخ مصر والثالث تنيسي حدث عن بكر بن سهل الثالث أبو خالد عقيل بضم العين المهملة وفتح القاف ابن خالد بن عقيل بفتح العين الأيلى بالمثناة تحت القرشي الأموي مولى عثمان بن عفان الحافظ مات سنة إحدى وأربعين ومائة وقيل سنة أربع بمصر فجأة وليس في الكتب الستة من اسمه عقيل بضم العين غيره الرابع هو الإمام أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحرث

(1/47)


ابن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي الزهري المدني سكن الشام وهو تابعي صغير سمع أنسا وربيعة بن عباد وخلقا من الصحابة ورأى ابن عمر وروى عنه ويقال سمع منه حديثين وعنه جماعات من كبار التابعين منهم عطاء وعمر بن عبد العزيز ومن صغارهم ومن الأتباع أيضا مات بالشام وأوصى بأن يدفن على الطريق بقرية يقال لها شغب وبدا في رمضان سنة أربع وعشرين ومائة وهو ابن اثنين وسبعين سنة قلت شغب بفتح الشين وسكون الغين المعجمتين وفي آخره باء موحدة وبدا بفتح الباء الموحدة الخامس عروة بن الزبير بن العوام السادس عائشة أم المؤمنين وقد مر ذكرهما
( بيان لطائف إسناده ) منها أن هذا الإسناد على شرط الستة إلا يحيى فعلى شرط البخاري ومسلم ومنها أن رجاله ما بين مصري ومدني ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي وهما الزهري وعروة
( بيان تعدد الحديث ومن أخرجه غيره ) هذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في التفسير والتعبير عن عبد الله بن محمد عن عبد الرزاق عن معمر وفي التفسير عن سعيد بن مروان عن محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة عن أبي صالح سلمويه عن ابن المبارك عن يونس وفي الإيمان عن أبي رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن عبد الملك عن أبيه عن جده عن عقيل وعن أبي الطاهر عن أبي وهب عن يونس كلهم عن الزهري وأخرجه مسلم في الإيمان والترمذي والنسائي في التفسير
( بيان اللغات ) قوله أول ما بدىء به قد ذكر بعضهم أول الشيء في باب أول وبعضهم في باب وأل وذكره الصغاني في هذا الباب وقال الأول نقيض الآخر وأصله أوأل على وزن أفعل مهموز الوسط قلبت الهمزة واوا وأدغمت الواو في الواو ويدل على هذا قولهم هذا أول منك والجمع الأوائل والأوالىء على القلب وقال قوم أصله وول على وزن فوعل فقلبت الواو الأولى همزة وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع واوين بينهما ألف الجمع وهو إذا جعلته صفة لم تصرفه تقول لقيته عاما أول وإذا لم تجعله صفة صرفته تقول لقيته عاما أولا قال ابن السكيت ولا تقل عام الأول وقال أبو زيد يقال لقيته عام الأول ويوم الأول بجر آخره وهو كقولك أتيت مسجد الجامع وقال الأزهري هذا من باب إضافة الشيء إلى نعته قوله بدىء به من بدأت بالشيء بدأ ابتدأت به وبدأت الشيء فعلته ابتداء وبدأ الله الخلق وأبدأهم بمعنى قوله من الوحي قد مر تفسير الوحي مستوفي قوله الرؤيا على وزن فعلى كحبلى يقال رأى رؤيا بلا تنوين وجمعها روى بالتنوين على وزن دعى قوله فلق الصبح بفتح الفاء واللام وهو ضياء الصبح وكذلك فرق الصبح بفتح الفاء والراء وإنما يقال هذا في الشيء البين الواضح ويقال الفرق أبين من فلق الصبح قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ( فالق الاصباح ) ضوء الشمس وضوء القمر بالليل حكاه البخاري في كتاب التعبير ويقال الفلق مصدر كالانفلاق وفي المطالع قال الخليل الفلق الصبح قلت فعلى هذا تكون الإضافة فيه للتخصيص والبيان ويقال الفلق الصبح لكنه لما كان مستعملا في هذا المعنى وفي غيره أضيف إليه إضافة العام إلى الخاص كقولهم عين الشيء ونفسه وفي العباب يقال هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح ومنه حديث عائشة رضي الله عنها أول ما بدىء به رسول الله الرؤيا الصالحة وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح أي مبينة مثل مجىء الصبح قال الكرماني والصحيح أنه بمعنى المفلوق وهو اسم للصبح فأضيف أحدهما إلى الآخر لاختلاف اللفظين وقد جاء الفلق منفردا عن الصبح قال تعالى ( قل أعوذ برب الفلق ) قلت تنصيصه على الصحيح غير صحيح بل الصحيح أنه إما اسم للصبح وجوزت الإضافة فيه لاختلاف اللفظين وإما مصدر بمعنى الانفلاق وهو الانشقاق من فلقت الشيء أفلقه بالكسر فلقا إذا شققته وأما الفلق في الآية فقد اختلف الأقوال فيه قوله الخلاء بالمد وهو الخلوة يقال خلا الشيء يخلو خلوا وخلوت به خلوة وخلاء والمناسب ههنا أن يفسر الخلاء بمعنى الاختلاء أو بالخلاء الذي هو المكان الذي لا شيء به على ما لا يخفى على من له ذوق من المعاني الدقيقة قوله بغار حراء الغار بالغين المعجمة فسره جميع شراح البخاري بأنه النقب في الجبل وهو قريب من معنى الكهف قلت الغار هو الكهف وفي العباب الغار كالكهف في الجبل ويجمع على غيران ويصغر على غوير فتصغيره يدل على أنه واوي فلذلك ذكره في العباب في فصل غور وحراء بكسر الحاء وتخفيف الراء بالمد وهو مصروف على الصحيح ومنهم من منع صرفه ويذكر على الصحيح أيضا ومنهم من أنثه ومنهم من قصره أيضا فهذه ست لغات قال القاضي

(1/48)


عياض يمد ويقصر ويذكر ويؤنث ويصرف ولا يصرف والتذكير أكثر فمن ذكره صرفه ومن أنثه لم يصرفه يعني على إرادة البقعة أو الجهة التي فيها الجبل وضبطه الأصيلي بفتح الحاء والقصر وهو غريب وقال الخطابي العوام يخطؤن في حراء في ثلاثة مواضع يفتحون الحاء وهي مكسورة ويكسرون الراء وهي مفتوحة ويقصرون الألف وهي ممدودة وقال التيمي العامة لحنت في ثلاثة مواضع فتح الحاء وقصر الألف وترك صرفه وهو مصروف في الاختيار لأنه اسم جبل وقال الكرماني إذا جمعنا بين كلاميهما يلزم اللحن في أربعة مواضع وهو من الغرائب إذ بعدد كل حرف لحن ولقائل أن يقول كسر الراء ليس بلحن لأنه بطريق الإمالة وهو جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال عن يسارك إذا سرت إلى منى له قلة مشرفة إلى الكعبة منحنية وذكر الكلبي أن حراء وثبير سميا باسمي ابني عم عاد الأولى قلت ثبير بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة بعدها الياء آخر الحروف وهو جبل يرى من منى والمزدلفة قوله فيتحنث بالحاء المهملة ثم النون ثم الثاء المثلثة وقد فسره في الحديث بأنه التعبد وقال الصغاني التحنث إلقاء الحنث يقال تحنث أي تنحى عن الحنث وتأثم أي تنحى عن الإثم وتحرج أي تنحى عن الحرج وتحنث اعتزل الأصنام مثل تحنف وفي المطالع يتحنث معناه يطرح الإثم عن نفسه بفعل ما يخرجه عنه من البر ومنه قول حكيم أشياء كنت أتحنث وفي رواية كنت أتبرر بها أي أطلب البر بها وأطرح الإثم وقول عائشة رضي الله تعالى عنها ولا أتحنث إلى نذري أي أكتسب الحنث وهو الذنب وهذا عكس ما تقدم وقال الخطابي ونظيره في الكلام التحوب والتأثم أي ألقى الحوب والإثم عن نفسه قالوا وليس في كلامهم تفعل في هذا المعنى غير هذه وقال الكرماني هذه شهادة نفي كيف وقد ثبت في الكتب الصرفية أن باب تفعل يجيء للتجنب كثيرا نحو تحرج وتخون أي اجتنب الحرج والخيانة وغير ذلك قلت جاءت منه ألفاظ نحو تحنث وتأثم وتحرج وتحوب وتهجد وتنجس وتقذر وتحنف وقال الثعلبي فلان يتهجد إذا كان يخرج من الهجود وتنجس إذا فعل فعلا يخرج به عن النجاسة وقال أبو المعالي في المنتهى تحنث تعبد مثل تحنف وفلان يتحنث من كذا بمعنى يتأثم فيه وهو أحد ما جاء تفعل إذا تجنب وألقى عن نفسه وقال السهيلي التحنث التبرر تفعل من البر وتفعل يقتضي الدخول في الشيء وهو الأكثر فيها مثل تفقه وتعبد وتنسك وقد جاءت ألفاظ يسيرة تعطي الخروج عن الشيء وإطراحه كالتأثم والتحرج والتحنث بالثاء المثلثة لأنه من الحنث والحنث الحمل الثقيل وكذلك التقذر إنما هو تباعد عن القذر وأما التحنف بالفاء فهو من باب التعبد وقال المازري يتحنث يفعل فعلا يخرج به من الحنث والحنث الذنب وقال التيمي هذا من المشكلات ولا يهتدي له سوى الحذاق وسئل ابن الأعرابي عن قوله يتحنث فقال لا أعرفه وسألت أبا عمرو الشيباني فقال لا أعرف يتحنث إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام قلت قد وقع في سيرة ابن هشام يتحنف بالفاء قوله قبل أن ينزع إلى أهله بكسر الزاي أي قبل أن يرجع وقد رواه مسلم كذلك يقال نزع إلى أهله إذا حن إليهم فرجع إليهم يقال هل نزعك غيره أي هل جاء بك وجذبك إلى السفر غيره أي غير الحج وناقة نازع إذا حنت إلى أوطانها ومرعاها وهو من نزع ينزع بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل وقال صاحب الأفعال والأصل في فعل يفعل إذا كان صحيحا وكانت عينه أو لامه حرف حلق أن يكون مضارعه مفتوحا إلا أفعالا يسيرة جاءت بالفتح والضم مثل جنح يجنح ودبغ يدبغ وإلا ما جاء من قولهم نزع ينزع بالفتح والكسر وهنأ يهنىء وقال غيره هنأني الطعام يهنأني ويهنأني بالفتح والكسر قلت قاعدة عند الصرفيين أن كل مادة تكون من فعل يفعل بالفتح فيهما يلزم أن يكون فيها حرف من حروف الحلق وكل مادة من الماضي والمضارع فيهما حرف من حروف الحلق لا يلزم أن يكون من باب فعل يفعل بالفتح فيهما فافهم والأهل في اللغة العيال وفي العباب آل الرجل أهله وعياله وآله أيضا أتباعه وقال أنس رضي الله عنه سئل رسول الله من آل محمد قال كل تقي والفرق بين الآل والأهل أن الآل يستعمل في الأشراف بخلاف الأهل فإنه أعم وأما قوله تعالى ( كدأب آل فرعون ) فلتصوره بصورة الأشراف وقال ابن عرفة أراد من آل فرعون من آل إليه بدين أو مذهب أو نسب ومنه قوله تعالى ( ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ) قوله ويتزود من التزود وهو اتخاذ الزاد والزاد هو الطعام الذي يستصحبه المسافر يقال زودته فتزود قوله فغطني بالغين المعجمة والطاء المهملة أي

(1/49)


ضغطني وعصرني يقال غطني وغشيني وضغطني وعصرني وغمزني وخنقني كله بمعنى قال الخطابي ومنه الغط في الماء وغطيط النائم ترديد النفس إذا لم يجد مساغا عند انضمام الشفتين والغت حبس النفس مرة وإمساك اليد أو الثوب على الفم والأنف والغط الخنق وتغييب الرأس في الماء قال الخطابي والغط في الحديث الخنق قوله الجهد بضم الجيم وفتحها ومعناه الغاية والمشقة وفي المحكم الجهد والجهد الطاقة وقيل الجهد المشقة والجهد الطاقة وفي الموعب الجهد ما جهد الإنسان من مرض أو من مشاق والجهد بلوغك غاية الأمر الذي لا تألو عن الجهد فيه وجهدته بلغت مشقته وأجهدته على أن يفعل كذا وقال ابن دريد جهدته حملته على أن يبلغ مجهوده وقال ابن الأعرابي جهد في العمل وأجهد وقال أبو عمرو أجهد في حاجتي وجهد وقال الأصمعي جهدت لك نفسي وأجهدت نفسي قوله ثم أرسلني أي أطلقني من الإرسال قوله علق بتحريك اللام وهو الدم الغليظ والقطعة منه علقة قوله يرجف فؤاده أي يخفق ويضطرب والرجفان شدة الحركة والاضطراب وفي المحكم رجف الشيء يرجف رجفا ورجوفا ورجفانا ورجيفا وأرجف خفق واضطرب اضطرابا شديدا والفؤاد هو القلب وقيل أنه عين القلب وقيل باطن القلب وقيل غشاء القلب وسمي القلب قلبا لتقلبه وقال الليث القلب مضغة من الفؤاد معلقة بالنياط وسمي قلبا لتقلبه قوله زملوني زملوني هكذا هو في الروايات بالتكرار وهو من التزميل وهو التلفيف والتزمل الاشتمال والتلفف ومنه التدثر ويقال لكل ما يلقى على الثوب الذي يلي الجسد دثار وأصل المزمل والمدثر المتزمل والمتدثر أدغمت التاء فيما بعدها قوله الروع بفتح الراء وهو الفزع وفي المحكم الروع والرواع والتروع الفزع وقال الهروي هو بالضم موضع الفزع من القلب قوله كلا معناه النفي والردع عن ذلك الكلام والمراد ههنا التنزيه عنه وهو أحد معانيها وقد يكون بمعنى حقا أو بمعنى إلا التي للتنبيه يستفتح بها الكلام وقد جاءت في القرآن على أقسام جمعها ابن الأنباري في باب من كتاب الوقف والابتداء له وهي مركبة عند ثعلب من كاف التشبيه ولا النافية قال وإنما شددت لامها لتقوية المعنى ولدفع توهم بقاء معنى الكلمتين وعند غيره هي بسيطة وعند سيبويه والخليل والمبرد والزجاج وأكثر البصريين حرف معناه الردع والزجر لا معنى لها عندهم إلا ذلك حتى يجيزون أبدا الوقف عليها والابتداء بما بعدها وحتى قال جماعة منهم متى سمعت كلا في سورة فاحكم بأنها مكية لأن فيها معنى التهديد والوعيد وأكثر ما نزل ذلك بمكة لأن أكثر العتو كان بها قالوا وقد تكون حرف جواب بمنزلة أي ونعم وحملوا عليه ( كلا والقمر ) فقالوا معناه أي والقمر قوله ما يخزيك الله بضم الياء آخر الحروف وبالخاء المعجمة من الخزي وهو الفضيحة والهوان وأصل الخزي على ما ذكره ابن سيده الوقوع في بلية وشهوة بذلة وأخزى الله فلانا أبعده قاله في الجامع وفي رواية مسلم من طريق معمر عن الزهري يحزنك بالحاء المهملة وبالنون من الحزن ويجوز على هذا فتح الياء وضمها يقال حزنه وأحزنه لغتان فصيحتان قرىء بهما في السبع وقال اليزيدي أحزنه لغة تميم وحزنه لغة قريش قال تعالى ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) من حزن وقال ( ليحزنني أن تذهبوا به ) من أحزن على قراءة من قرأ بضم الياء والحزن خلاف السرور يقال حزن بالكسر يحزن حزنا إذا اغتم وحزنه غيره وأحزنه مثل شكله وأشكله وحكى عن أبي عمرو أنه قال إذا جاء الحزن في موضع نصب فتحت الحاء وإذا جاء في موضع رفع وجر ضممت وقرىء ( وابيضت عيناه من الحزن ) وقال ( تفيض من الدمع حزنا ) قال الخطابي وأكثر الناس لا يفرقون بين الهم والحزن وهما على اختلافهما يتقاربان في المعنى إلا أن الحزن إنما يكون على أمر قد وقع والهم إنما هو فيما يتوقع ولا يكون بعد قوله لتصل الرحم قال القزاز وصل رحمه صلة وأصله وصلة فحذفت الواو كما قالوا زنة من وزن وأصل صل هو أمر من وصل أوصل حذفت الواو تبعا لفعله فاستغنى عن الهمزة فحذفت فصار صل على وزن عل ومعنى لتصل الرحم تحسن إلى قراباتك على حسب حال الواصل والموصول إليه فتارة تكون بالمال وتارة تكون بالخدمة وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك والرحم القرابة وكذلك الرحم بكسر الراء قوله وتحمل الكل بفتح الكاف وتشديد اللام وأصله الثقل ومنه قوله تعالى ( وهو كل على مولاه ) وأصله من الكلال وهو الإعياء أي ترفع الثقل أراد تعين الضعيف المنقطع ويدخل في حمل الكل الإنفاق

(1/50)


على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك لأن الكل من لا يستقل بأمره وقال الداودي الكل المنقطع قوله وتكسب المعدوم بفتح التاء هو المشهور الصحيح في الرواية والمعروف في اللغة وروى بضمها وفي معنى المضموم قولان أصحهما معناه تكسب غيرك المال المعدوم أي تعطيه له تبرعا ثانيهما تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من معدومات الفوائد ومكارم الأخلاق يقال كسبت مالا وأكسبت غيري مالا وفي معنى المتفق حينئذ قولان أصحهما أن معناه كمعنى المضموم يقال كسبت الرجل مالا وأكسبته مالا والأول أفصح وأشهر ومنع القزاز الثاني وقال إنه حرف نادر وأنشد على الثاني
وأكسبني مالا وأكسبته حمدا
وقول الآخر
يعاتبني في الدين قومي وإنما
ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
روى بفتح التاء وضمها والثاني أن معناه تكسب المال وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله ثم تجود به وتنفقه في وجوه المكارم وكانت العرب تتمادح بذلك وعرفت قريش بالتجارة وضعف هذا بأنه لا معنى لوصف التجارة بالمال في هذا الموطن إلا أن يريد أنه يبذله بعد تحصيله وأصل الكسب طلب الرزق يقال كسب يكسب كسبا وتكسب واكتسب وقال سيبويه فيما حكاه ابن سيده تكسب أصاب وتكسب تصرف واجتهد وقال صاحب المجمل يقال كسبت الرجل مالا فكسبه وهذا مما جاء على فعلته ففعل وفي العباب الكسب طلب الرزق وأصله الجمع والكسب بالكسر لغة والفصيح فتح الكاف تقول كسبت منه شيئا وفلان طيب الكسب والمكسب والمكسب والمكسبة مثال المغفرة والكسبة مثل الجلسة وكسبت أهلي خيرا وكسبت الرجل مالا فكسبه وقال ثعلب كل الناس يقولون كسبك فلان خيرا إلا ابن الأعرابي فإنه يقول أكسبك فلان خيرا قال والأفصح في الحديث تكسب بفتح التاء والمعدوم عبارة عن الرجل المحتاج العاجز عن الكسب وسماه معدوما لكونه كالميت حيث لم يتصرف في المعيشة وذكر الخطابي أن صوابه المعدم بحذف الواو أي تعطي العائل وترفده لأن المعدوم لا يدخل تحت الأفعال وقال الكرماني التيمي لم يصب الخطابي إذ حكم على اللفظة الصحيحة بالخطأ فإن الصواب ما اشتهر بين أصحاب الحديث ورواه الرواة وقال بعضهم لا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له قلت الصواب ما قاله الخطابي وكذا قال الصغاني في العباب الصواب وتكسب المعدم أي تعطي العائل وترفده نعم المعدوم له وجه على معنى غير المعنى الذي فسروه وهو أن يقال وتكسب الشيء الذي لا يوجد تكسبه لنفسك أو تملكه لغيرك وإليه أشار صاحب المطالع قوله وتقري الضيف بفتح التاء تقول قريت الضيف أقريه قرى بكسر القاف والقصر وقراء بفتح القاف والمد ويقال للطعام الذي تضيفه به قرى بالكسر والقصر وفاعله قار كقضى فهو قاض وقال ابن سيده قرى الضيف قرى وقراء أضافه واستقراني واقتراني وأقراني طلب مني القرى وأنه لقري للضيف والأنثى قرية عن اللحياني وكذلك أنه لمقري للضيف ومقراء والأنثى مقرأة ومقراء الأخيرة عن اللحياني وفي أمالي الهجري ما اقتريت الليلة يعني لم آكل من القرى شيئا أي لم آكل طعاما قوله وتعين على نوائب الحق النوائب جمع نائبة وهي الحادثة والنازلة خيرا أو شرا وإنما قال نوائب الحق لأنها تكون في الحق والباطل قال لبيد رضي الله عنه
نوائب من خير وشر كلاهما فلا الخير ممدود ولا الشر لازب
تقول ناب الأمر نوبة نزل وهي النوائب والنوب قوله قد تنصر أي صار نصرانيا وترك عبادة الأوثان وفارق طريق الجاهلية والجاهلية المدة التي كانت قبل نبوة رسول الله لما كانوا عليه من فاحش الجهالات وقيل هو زمان الفترة مطلقا قوله وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية أقول لم أر شارحا من شراح البخاري حقق هذا الموضع بما يشفي الصدور فنقول بعون الله وتوفيقه قوله الكتاب مصدر تقول كتبت كتبا وكتابا وكتابة والمعنى وكان يكتب الكتابة العبرانية ويجوز أن يكون الكتاب اسما وهو الكتاب المعهود ومنه قوله تعالى ( ألم ذلك الكتاب ) والعبراني بكسر العين وسكون الباء نسبة إلى العبر وزيدت الألف والنون في النسبة على غير القياس وقال ابن الكلبي ما أخذ على غربي الفرات إلى برية العرب يسمى العبر وإليه ينسب العبريون من اليهود لأنهم لم يكونوا عبروا الفرات وقال محمد بن جرير إنما نطق إبراهيم عليه الصلاة و السلام بالعبرانية حين عبر النهر فارا من النمرود وقد كان النمرود

(1/51)


قال للذين أرسلهم خلفه إذا وجدتم فتى يتكلم بالسريانية فردوه فلما أدركوه استنطقوه فحول الله لسانه عبرانيا وذلك حين عبر النهر فسميت العبرانية لذلك وفي العباب والعبرية والعبرانية لغة اليهود والمفهوم من قوله فيكتب من الإنجيل بالعبرانية أن الإنجيل ليس بعبراني لأن الباء في قوله بالعبرانية تتعلق بقوله فيكتب والمعنى فيكتب باللغة العبرانية من الإنجيل وهذا من قوة تمكنه في دين النصارى ومعرفة كتابتهم كان يكتب من الإنجيل بالعبرانية إن شاء وبالعربية إن شاء وقال التيمي الكلام العبراني هو الذي أنزل به جميع الكتب كالتوراة والإنجيل ونحوهما وقال الكرماني فهم منه أن الإنجيل عبراني قلت ليس كذلك بل التوراة عبرانية والإنجيل سرياني وكان آدم عليه الصلاة و السلام يتكلم باللغة السريانية وكذلك أولاده من الأنبياء وغيرهم غير أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام حولت لغته إلى العبرانية حين عبر النهر أي الفرات كما ذكرنا وغير ابنه إسماعيل عليه الصلاة و السلام فإنه كان يتكلم باللغة العربية فقيل لأن أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها آدم عليه الصلاة و السلام لأنه كان يعلم سائر اللغات وكتبها في الطين وطبخه فلما أصاب الأرض الغرق أصاب كل قوم كتابهم فكان إسماعيل عليه الصلاة و السلام أصاب كتاب العرب وقيل تعلم إسماعيل عليه الصلاة و السلام لغة العرب من جرهم حين تزوج امرأة منهم ولهذا يعدونه من العرب المستعربة لا العاربة ومن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من كان يتكلم باللغة العربية هو صالح وقيل شعيب أيضا عليه الصلاة و السلام وقيل كان آدم عليه الصلاة و السلام يتكلم باللغة العربية فلما نزل إلى الأرض حولت لغته إلى السريانية وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما تاب الله عليه رد عليه العربية وعن سفيان أنه ما نزل وحي من السماء إلا بالعربية فكانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تترجمه لقومها وعن كعب أول من نطق بالعربية جبريل عليه السلام وهو الذي ألقاها على لسان نوح عليه الصلاة و السلام فألقاها نوح عليه الصلاة و السلام على لسان ابنه سام وهو أبو العرب والله أعلم فإن قلت ما أصل السريانية قلت قال ابن سلام سميت بذلك لأن الله سبحانه وتعالى حين علم آدم الأسماء علمه سرا من الملائكة وأنطقه بها حينئذ قوله هذا الناموس بالنون والسين المهملة وهو صاحب السر كما ذكره البخاري في أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال صاحب المجمل وأبو عبيد في غريبه ناموس الرجل صاحب سره وقال ابن سيده الناموس السر وقال صاحب الغريبين هو صاحب سر الملك وقيل أن الناموس والجاسوس بمعنى واحد حكاه القزاز في جامعه وصاحب الواعي وقال الحسن في شرح السيرة أصل الناموس صاحب سر الرجل في خيره وشره وقال ابن الأنباري في زاهره الجاسوس الباحث عن أمور الناس وهو بمعنى التجسس سواء وقال بعض أهل اللغة التجسس بالجيم البحث عن عورات الناس وبالحاء المهملة الاستماع لحديث القوم وقيل هما سواء وقال ابن ظفر في شرح المقامات صاحب سر الخير ناموس وصاحب سر الشر جاسوس وقد سوى بينهما رؤبة ابن العجاج وقال بعض الشراح وهو الصحيح وليس بصحيح بل الصحيح الفرق بينهما على ما نقل النووي في شرحه عن أهل اللغة الفرق بينهما بأن الناموس في اللغة صاحب سر الخير والجاسوس صاحب سر الشر وقال الهروي الناموس صاحب سر الخير وهو هنا جبريل عليه الصلاة و السلام سمى به لخصوصه بالوحي والغيب والجاسوس صاحب سر الشر وقال الصغاني في العباب ناموس الرجل صاحب سره الذي يطلعه على باطن أمره ويخصه به ويستره عن غيره وأهل الكتاب يسمون جبريل عليه السلام الناموس الأكبر والناموس أيضا الحاذق والناموس الذي يلطف مدخله قال الأصمعي قال رؤبة
لا تمكن الخناعة الناموسا
وتخصب اللعابة الجاسوسا
بعشر أيديهن والضغبوسا
خصب الغواة العومج المنسوسا
والناموس أيضا قترة الصائد والناموسة عريسة الأسد ومنه قول عمرو بن معدي كرب أسد في ناموسته والناموس والنماس النمام والناموس الشرك لأنه يوارى تحت الأرض والناموس ما التمس به الرجل من الاختيال تقول نمست السر أنمسه بالكسر نمسا كتمته ونمست الرجل ونامسته أي ساررته وقال ابن الأعرابي لم يأت في الكلام فاعول لام الكلمة فيه سين إلا الناموس صاحب سر الخير والجاسوس للشر والجاروس الكثير الأكل والناعوس

(1/52)


الحية والبابوس الصبي الرضيع والراموس القبر والقاموس وسط البحر والقابوس الجميل الوجه والعاطوس دابة يتشأم بها والناموس النمام والجاموس ضرب من البقر وقيل أعجمي تكلمت به العرب وقيل الحاسوس بالحاء غير المعجمة قلت قال الصغاني الحاسوس بالحاء المهملة الذي يتحسس الأخبار مثل الجاسوس يعني بالجيم وقيل الحاسوس في الخير والجاسوس في الشر وقال ابن الأعرابي الحاسوس المشؤم من الرجال ويقال سنة حاسوس وحسوس إذا كانت شديدة قليلة الخير والقابوس قيل لفظ أعجمي عربوه وأصله كاووس فأعرب فوافق العربية ولهذا لا ينصرف للعجمة والتعريف وأبو قابوس كنية النعمان بن المنذر ملك العرب والعاطوس بالعين المهملة والبابوس بالبائين الموحدتين قال ابن عباد هو الولد الصغير بالرومية والناموس بالنون والميم وقد جاء فاعول أيضا آخره سين فاقوس بلدة من بلاد مصر قوله جذعا بالذال المعجمة المفتوحة يعني شابا قويا حتى أبالغ في نصرتك ويكون لي كفاية تامة لذلك والجذع في الأصل للدواب فاستعير للإنسان قال ابن سيده قيل الجذع الداخل في السنة الثانية ومن الإبل فوق الحق وقيل الجزع من الإبل لأربع سنين ومن الخيل لسنتين ومن الغنم لسنة والجمع جذعان وجذاع بالكسر وزاد يونس جذاع بالضم وأجذاع قال الأزهري والدهر يسمى جذعا لأنه شاب لا يهرم وقيل معناه يا ليتني أدرك أمرك فأكون أول من يقوم بنصرك كالجذع الذي هو أول الإنسان قال صاحب المطالع والقول الأول أبين قوله قط بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة في أفصح اللغات وهي ظرف لاستغراق ما مضى فيختص بالنفي واشتقاقه من قططته أي قطعته فمعنى ما فعلت قط ما فعلته فيما انقطع من عمري لأن الماضي منقطع عن الحال والاستقبال وبنيت لتضمنها معنى مذ وإلى لأن المعنى مذ أن خلقت إلى الآن وعلى حركة لئلا يلتقي ساكنان وبالضمة تشبيها بالغايات وقد يكسر على أصل التقاء الساكنين وقد تتبع قافه طاءه في الضم وقد تخفف طاؤه مع ضمها أو إسكانها قوله مؤزرا بضم الميم وفتح الهمزة بعدها زاي معجمة مشددة ثم راء مهملة أي قويا بليغا من الأزر وهو القوة والعون ومنه قوله تعالى ( فآزره ) أي قواه وفي المحكم آزره ووازره أعانه على الأمر الأخير على البدل وهو شاذ وقال ابن قتيبة مما تقوله العوام بالواو وهو بالهمز آزرته على الأمر أي أعنته فأما وازرته فبمعنى صرت له وزيرا قوله ثم لم ينشب أي لم يلبث وهو بفتح الياء آخر الحروف وسكون النون وفتح الشين المعجمة وفي آخره باء موحدة وكأن المعنى فجاءه الموت قبل أن ينشب في فعل شيء وهذه اللفظة عند العرب عبارة عن السرعة والعجلة ولم أر شارحا ذكر باب هذه المادة غير أن شارحا منهم قال وأصل النشوب التعلق أي لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات وبابه من نشب الشيء في الشيء بالكسر نشوبا إذا علق فيه وفي حديث الأحنف بن قيس أنه قال خرجنا حجاجا فمررنا بالمدينة أيام قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه فقلت لصاحبي قد أفل الحج وإني لا أرى الناس إلا قد نشبوا في قتل عثمان ولا أراهم إلا قاتليه أي وقعوا فيه وقوعا لا منزع لهم عنه قوله وفتر الوحي معناه احتبس قاله الكرماني قلت معناه احتبس بعد متابعته وتواليه في النزول وقال ابن سيده فتر الشيء يفتر ويفتر فتورا وفتارا سكن بعد حدة ولان بعد شدة وفتر هو والفتر الضعف
( بيان اختلاف الروايات ) قوله من الوحي الرؤيا الصالحة وفي صحيح مسلم الصادقة وكذا رواه البخاري في كتاب التعبير أيضا ووقع هنا أيضا الصادقة في رواية معمر ويونس وكذا ساقه الشيخ قطب الدين في شرحه ومعناهما واحد وهي التي لم يسلط عليه فيها ضغث ولا تلبس شيطان وقال المهلب الرؤيا الصالحة هي تباشير النبوة لأنه لم يقع فيها ضغث فيتساوى مع الناس في ذلك بل خص بصدقها كلها وقال ابن عباس رضي الله عنهما رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحي قوله وكان يخلو بغار حراء وقال بعضهم وكان يجاور بغار حراء ثم فرق بين المجاورة والاعتكاف بأن المجاورة قد تكون خارج المسجد بخلاف الاعتكاف ولفظ الجوار جاء في حديث جابر الآتي في كتاب التفسير في صحيح مسلم فيه جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي الحديث وحراء بكسر الحاء وبالمد في الرواية الصحيحة وفي رواية الأصيلي بالفتح والقصر وقد مر الكلام فيه مستوفي قوله فيتحنث قال أبو أحمد العسكري رواه بعضهم يتحنف بالفاء وكذا وقع في سيرة ابن هشام بالفاء قوله قبل أن ينزع وفي رواية مسلم قبل أن يرجع ومعناهما

(1/53)


واحد قوله حتى جاءه الحق ورواه البخاري في التفسير حتى فجئه الحق وكذا في رواية مسلم أي أتاه بغتة يقال فجىء يفجأ بكسر الجيم في الماضي وفتحها في الغابر وفجأ يفجأ بالفتح فيهما قوله ما أنا بقارىء وقد جاء في رواية ما أحسن أن أقرأ وقد جاء في رواية ابن إسحق ماذا أقرأ وفي رواية أبي الأسود في مغازيه أنه قال كيف أقرأ قوله فغطني وفي رواية الطبري فغتني بالتاء المثناة من فوق والغت حبس النفس مرة وإمساك اليد والثوب على الفم والأنف والغط الخنق وتغييب الرأس في الماء وعبارة الداودي معنى غطني صنع بي شيئا حتى ألقاني إلى الأرض كمن تأخذه الغشية وقال الخطامي وفي غير هذه الروايات فسأبني من سأبت الرجل سأبا إذا خنقته ومادته سين مهملة وهمزة وباء موحدة وقال الصغاني رحمه الله ومنه حديث النبي وذكر اعتكافه بحراء فقال فإذا أنا بجبريل عليه الصلاة و السلام على الشمس وله جناح بالمشرق وجناح بالمغرب فهلت منه وذكر كلاما ثم قال أخذني فسلقني بحلاوة القفاء ثم شق بطني فاستخرج القلب وذكر كلاما ثم قال لي اقرأ فلم أدر ما أقرأ فأخذ بحلقي فسأبني حتى أجهشت بالبكاء فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق فرجع بها رسول الله ترجف بوادره قوله فهلت أي خفت من هاله إذا خوفه ويروى فسأتني بالسين المهملة والهمزة والتاء المثناة من فوق قال الصغاني قال أبو عمر وسأته يسأته سأتا إذا خنقه حتى يموت مثل سأبه وقال أبو زيد مثله إلا أنه لم يقل حتى يموت ويروى فدعتني من الدعت بفتح الدال وسكون العين المهملتين وفي آخره تاء مثناة من فوق قال ابن دريد الدعت الدفع العنيف عربي صحيح يقال دعته يدعته إذا دفعه بالدال وبالذال المعجمة زعموا قلت ومنه حديث الآخر أن الشيطان عرض لي وأنا أصلي فدعته حتى وجدت برد لسانه ثم ذكرت قول أخي سليمان عليه السلام رب هب لي ملكا الحديث قلت بمعناه ذأته بالذال المعجمة قال أبو زيد ذأته إذا خنقه أشد الخنق حتى أدلع لسانه قوله يرجف فؤاده وفي رواية مسلم بوادره وهو بفتح الباء الموحدة اللحمة التي بين المنكب والعنق ترجف عند الفزع قوله والله ما يخزيك من الخزيان كما ذكرناه وهكذا رواه مسلم من رواية يونس وعقيل عن الزهري ورواه من رواية معمر عن الزهري يحزنك من الحزن وهو رواية أبي ذر أيضا ههنا قوله وتكسب بفتح التاء هو الرواية الصحيحة المشهورة وفي رواية الكشميهني بالضم قوله المعدوم بالواو وهي الرواية المشهورة وقال الخطابي الصواب المعدم وقد ذكرناه وذكر البخاري في هذا الحديث في كتاب التفسير وتصدق الحديث وذكره مسلم ههنا وهو من أشرف خصاله وذكر في السيرة زيادة أخرى إنك لتؤدي الأمانة ذكرها من حديث عمرو بن شرحبيل قوله فكان يكتب الكتاب العبراني ويكتب من الإنجيل بالعبرانية وفي رواية يونس ومعمر ويكتب من الإنجيل بالعربية ولمسلم وكان يكتب الكتاب العربي والجميع صحيح لأن ورقة كان يعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية فكان يكتب الكتاب العبراني كما كان يكتب الكتاب العربي لتمكنه من الكتابين واللسانين وقال الداودي يكتب من الإنجيل الذي هو بالعبرانية بهذا الكتاب العربي فنسبه إلى العبرانية إذ بها كان يتكلم عيسى عليه السلام قلت لا نسلم أن الإنجيل كان عبرانيا ولا يفهم من الحديث ذلك والذي يفهم من الحديث أنه كان يعلم الكتابة العبرانية ويكتب من الإنجيل بالعبرانية ولا يلزم من ذلك أن يكون الإنجيل عبرانيا لأنه يجوز أن يكون سريانيا وكان ورقة ينقل منه باللغة العبرانية وهذا يدل على علمه بالألسن الثلاثة وتمكنه فيها حيث ينقل السريانية إلى العبرانية قوله يا ابن عم كذا وقع ههنا وهو الصحيح لأنه ابن عمها ووقع في رواية لمسلم يا عم وقال بعضهم هذا وهم لأنه وإن كان صحيحا لإرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين فتعين الحمل على الحقيقة قلت هذا ليس بوهم بل هو صحيح لأنها سمته عمها مجازا وهذا عادة العرب يخاطب الصغير الكبير بيا عم احتراما له ورفعا لمرتبته ولا يحصل هذا الغرض بقولها يا ابن عم فعلى هذا تكون تكلمت باللفظين وكون القصة متحدة لا تنافي التكلم باللفظين قوله الذي نزل الله وفي رواية الكشميهني أنزل الله وفي التفسير أنزل على ما لم يسم فاعله والفرق بين أنزل ونزل أن الأول يستعمل في إنزال الشيء دفعة واحدة والثاني يستعمل في تنزيل الشيء

(1/54)


دفعة بعد دفعة وقتا بعد وقت ولهذا قال الله تعالى في حق القرآن ( نزل عليك الكتاب بالحق ) وفي حق التوراة والإنجيل ( وأنزل التوراة والإنجيل ) فإن قلت قال ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) قلت معناه أنزلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا دفعة واحدة ثم نزل على الرسول من بيت العزة في عشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث قوله على موسى عليه السلام هكذا هو في الصحيحين وجاء في غير الصحيحين نزل الله على عيسى وكلاهما صحيح أما عيسى فلقرب زمنه وأما موسى فلأن كتابه مشتمل على الأحكام بخلاف كتاب عيسى فإنه كان أمثالا ومواعظ ولم يكن فيه حكم وقال بعضهم لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه بخلاف عيسى وكذلك وقعت النقمة على يد النبي بفرعون هذه الأمة وهو أبو جهل بن هشام ومن معه قلت هذا بعيد لأن ورقة ما كان يعلم بوقوع النقمة على أبي جهل في ذلك الوقت كما كان في علمه بوقوع النقمة على فرعون على يد موسى عليه السلام حتى يذكر موسى ويترك عيسى وقال آخرون ذكر موسى تحقيقا للرسالة لأن نزوله على موسى متفق عليه بين اليهود والنصارى بخلاف عيسى فإن بعض اليهود ينكرون نبوته وقال السهيلي أن ورقة كان تنصر والنصارى لا يقولون في عيسى أنه نبي يأتيه جبريل عليه السلام وإنما يقولون أن أقنوما من الأقانيم الثلاثة اللاهوتية حل بناسوت المسيح على اختلاف بينهم في ذلك الحلول وهو أقنوم الكلمة والكلمة عندهم عبارة عن العلم فلذلك كان المسيح في زعمهم يعلم الغيب ويخبر بما في الغد في زعمهم الكاذب فلما كان هذا مذهب النصارى عدل عن ذكر عيسى إلى ذكر موسى لعلمه ولاعتقاده أن جبريل عليه السلام كان ينزل على موسى عليه السلام ثم قال لكن ورقة قد ثبت إيمانه بمحمد قلت لا يحتاج إلى هذا التمحل فإنه روى عنه مرة ناموس موسى ومرة ناموس عيسى فقد روى أبو نعيم في دلائل النبوة بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة أن خديجة أولا أتت ابن عمها ورقة فأخبرته فقال لئن كنت صدقت إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل وروى الزبير بن بكار أيضا من طريق عبد الله بن معاذ عن الزهري في هذه القصة أن ورقة قال ناموس عيسى وعبد الله بن معاذ ضعيف فعند إخبار خديجة له بالقصة قال لها ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية وعند إخبار النبي له قال له ناموس موسى والكل صحيح فافهم قوله يا ليتني فيها جذعا هكذا رواية الجمهور وفي رواية الأصيلي جذع بالرفع وكذا وقع لابن ماهان بالرفع في صحيح مسلم والأكثرون فيه أيضا على النصب قوله إذ يخرجك وفي رواية للبخاري في التعبير حين يخرجك قوله الأعودي وذكر البخاري في التفسير إلا أوذي من الأذى وهو رواية يونس قوله وإن يدركني يومك وزاد في رواية يونس حيا وفي سيرة ابن إسحاق إن أدركت ذلك اليوم يعني يوم الإخراج وفي سيرة ابن هشام ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى رأسه منه يقبل يافوخه وقيل ما في البخاري هو القياس لأن ورقة سابق بالوجود والسابق هو الذي يدركه من يأتي بعده كما جاء أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي ثم قيل ولرواية ابن إسحاق وجه لأن المعنى إن أر ذلك اليوم فسمى رؤيته إدراكا وفي التنزيل ( لا تدركه الأبصار ) أي لا تراه على أحد القولين قلت هذا تأويل بعيد فلا يحتاج إليه لأنه لا فرق بين أن يدركني وبين أن أدركت في المعنى لأن أن تقرب معنى الماضي من المستقبل وهو ظاهر لا يخفى قوله وفتر الوحي وزاد البخاري بعد هذا في التعبير وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤس الجبال فكلما أوفي بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه يتراءى له جبريل عليه السلام فقال يا محمد إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه حتى يرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفي بذروة جبل يتراءى له جبريل فقال له مثل ذلك وهذا من بلاغات معمر ولم يسنده ولا ذكر راويه ولا أنه قاله ولا يعرف هذا من النبي مع أنه قد يحمل على أنه كان أول الأمر قبل رؤية جبريل عليه الصلاة و السلام كما جاء مبينا عن ابن إسحاق عن بعضهم أو أنه فعل ذلك لما أحرجه تكذيب قومه كما قال تعالى ( فلعلك باخع نفسك ) أو خاف أن الفترة لأمر أو سبب فخشي أن يكون عقوبة من ربه ففعل ذلك بنفسه ولم يرد بعد شرع بالنهي عن

(1/55)


ذلك فيعترض به ونحو هذا فرار يونس عليه السلام حين تكذيب قومه والله أعلم
( بيان الصرف ) قوله يحيى فعل مضارع في الأصل فوضع علما قوله بكير تصغير بكر بفتح الباء وهو من الإبل بمنزلة الفتى من الناس والبكرة بمنزلة الفتات والليث اسم من أسماء الأسد والجمع الليوث وفلان أليث من فلان أي أشد وأشجع وعقيل تصغير عقل المعروف أو عقل بمعنى الدية وشهاب بكسر الشين المعجمة شعلة نار ساطعة والجمع شهب وشهبان بالضم عن الأخفش مثال حساب وحسبان وشهبان بالكسر عن غيره وأن فلانا لشهاب حرب إذا كان ماضيا فيها شجاعا وجمعه شهبان والشهاب بالفتح اللبن الممزوج بالماء وعروة في الأصل عروة الكوز والقميص والعروة أيضا من الشجر الذي لا يزال باقيا في الأرض لا يذهب وجمعه عرى والعروة الأسد أيضا وبه سمي الرجل عروة والزبير تصغير زبر وهو العقل والزبر الزجر والمنع أيضا والزبر الكتابة وعائشة من العيش وهو ظاهر قوله بدىء به على صيغة المجهول قوله الرؤيا مصدر كالرجعي مصدر رجع ويختص برؤيا المنام كما اختص الرأي بالقلب والرؤية بالعين قوله ثم حبب على صيغة المجهول أيضا والخلاء مصدر بمعنى الخلوة قوله فيتحنث من باب التفعل وهو للتكلف ههنا كتشجع إذا استعمل الشجاعة وكلف نفسه إياها لتحصل وكذلك قوله وهو التعبد من هذا الباب وهو استعمال العبادة لتكليف نفسه إياه وكذلك قوله ويتزود من هذا الباب وكذلك قوله تنصر من هذا الباب قوله أو مخرجي أصله مخرجون جمع اسم الفاعل فلما أضيف إلى ياء المتكلم سقطت نونه للإضافة فانقلبت واوه ياء وأدغمت في ياء المتكلم
( بيان الإعراب ) قوله أول ما بدىء كلام إضافي مرفوع بالابتداء وخبره قوله الرؤيا الصالحة وكلمة من في قوله من الوحي لبيان الجنس قاله القزاز كأنها قالت من جنس الوحي وليست الرؤيا من الوحي حتى تكون للتبعيض وهذا مردود بل يجوز أن يكون للتبعيض لأن الرؤيا من الوحي كما جاء في الحديث أنها جزء من النبوة قوله الصالحة صفة للرؤيا إما صفة موضحة للرؤيا لأن غير الصالحة تسمى بالحلم كما ورد الرؤيا من الله والحلم من الشيطان وإما مخصصة أي الرؤيا الصالحة لا الرؤيا السيئة أو لا الكاذبة المسماة بأضغاث الأحلام والصلاح إما باعتبار صورتها وإما باعتبار تعبيرها قال القاضي يحتمل أن يكون معنى الرؤيا الصالحة والحسنة حسن ظاهرها ويحتمل أن المراد صحتها ورؤيا السوء تحتمل الوجهين أيضا سوء الظاهر وسوء التأويل قوله في النوم لزيادة الإيضاح والبيان وإن كانت الرؤيا مخصوصة بالنوم كما ذكرنا عن قريب أو ذكر لدفع وهم من يتوهم أن الرؤيا تطلق على رؤية العين قوله وكان لا يرى رؤيا بلا تنوين لأنه كحبلى قوله مثل منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف والتقدير إلا جاءت مجيئا مثل فلق الصبح أي شبيهة لضياء الصبح وقال أكثر الشراح أنه منصوب على الحال وما قلنا أولى لأن الحال مقيدة وما ذكرنا مطلق فهو أولى على ما يخفى على النابغة من التراكيب قوله الخلاء مرفوع بقوله حبب لأنه فاعل ناب عن المفعول والنكتة فيه التنبيه على أن ذلك من وحي الإلهام وليس من باعث البشر قوله حراء بالتنوين والجر بالإضافة كما ذكرنا قوله فيتحنث عطف على قوله يخلو ولا يخلو عن معنى السببية لأن اختلاءه هو السبب للتحنث قوله فيه أي في الغار محله النصب على الحال قوله وهو التعبد الضمير يرجع إلى التحنث الذي يدل عليه قوله فيتحنث كما في قوله تعالى ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) أي العدل أقرب للتقوى وهذه جملة معترضة بين قوله فيتحنث فيه وبين قوله الليالي لأن الليالي منصوب على الظرف والعامل فيه يتحنث لا قوله التعبد وإلا يفسد المعنى فإن التحنث لا يشترط فيه الليالي بل هو مطلق التعبد وأشار الطيبي بأن هذه الجملة مدرجة من قول الزهري لأن مثل ذلك من دأبه ويدل عليه ما رواه البخاري في التفسير من طريق يونس عن الزهري قوله ذوات العدد منصوب لأنه صفة الليالي وعلامة النصب كسر التاء وأراد بها الليالي مع أيامهن على سبيل التغليب لأنها أنسب للخلوة قال الطيبي وذوات العدد عبارة عن القلة نحو ( دراهم معدودة ) وقال الكرماني يحتمل أن يراد بها الكثرة إذ الكثير يحتاج إلى العدد لا القليل وهو المناسب للمقام قلت أصل مدة الخلوة معلوم وكان شهرا وهو شهر رمضان كما رواه ابن إسحق في السيرة وإنما أبهمت عائشة رضي الله عنها العدد ههنا لاختلافه بالنسبة إلى المدة التي يتخللها مجيئه إلى أهله قوله ويتزود بالرفع عطف على قوله يتحنث

(1/56)


وليس هو بعطف على أن ينزع لفساد المعنى قوله لذلك أي للخلو أو للتعبد قوله لمثلها أي لمثل الليالي قوله حتى جاءه الحق كلمة حتى ههنا للغاية وههنا محذوف والتقدير حتى جاءه الأمر الحق وهو الوحي الكريم قوله فجاءه الملك الألف واللام فيه للعهد أي جبريل عليه السلام وهذه الفاء ههنا الفاء التفسيرية نحو قوله تعالى ( فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ) إذ القتل نفس التوبة على أحد التفاسير وتسمى بالفاء التفصيلية أيضا لأن مجيء الملك تفصيل للمجمل الذي هو مجيء الحق ولا شك أن المفصل نفس المجمل ولا يقال أنه تفسير الشيء بنفسه لأن التفسير وإن كان عين المفسر به من جهة الإجمال فهو غيره من جهة التفصيل ولا يجوز أن تكون الفاء هنا الفاء التعقيبية لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي حتى يعقب به بل مجىء الملك هو نفس الوحي هكذا قالت الشراح وفيه بحث لأنه يجوز أن يكون المراد من قوله حتى جاءه الحق الإلهام أو سماع هاتف ويكون مجىء الملك بعد ذلك بالوحي فحينئذ يصح أن تكون الفاء للتعقيب قوله فقال اقرأ الفاء هنا للتعقيب قوله ما أنا بقارىء قالت الشراح كلمة ما نافية واسمها هو قوله أنا وخبرها هو قوله بقارىء ثم الباء فيه زائدة لتأكيد النفي أي ما أحسن القراءة وغلطوا من قال أنها استفهامية لدخول الباء في الخبر وهي لا تدخل على ما الاستفهامية ومنعوا استنادهم بما جاء في رواية ما أقرأ بقولهم يجوز أن يكون ما ههنا أيضا نافية قلت تغليطهم ومنعهم ممنوعان أما قولهم أن الباء لا تدخل على ما الاستفهامية فهو ممنوع لأن الأخفش جوز ذلك أما قولهم يجوز أن يكون ما في رواية ما أقرأ نافية فاحتمال بعيد بل الظاهر أنها استفهامية تدل على ذلك رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال كيف أقرأ والعجب من شارح أنه ذكر هذه الرواية في شرحه وهي تصرح بأن ما استفهامية ثم غلط من قال أنها استفهامية قوله الجهد بالرفع والنصب أما الرفع فعلى كونه فاعلا لبلغ يعني بلغ الجهد مبلغه فحذف مبلغه وأما النصب فعلى كونه مفعولا والفاعل محذوف يجوز أن يكون التقدير بلغ مني الجهد الملك أو بلغ الغط مني الجهد أي غاية وسعى وقال التوربشتي لا أرى الذي يروي بنصب الدال إلا قد وهم فيه أو جوزه بطريق الاحتمال فإنه إذا نصب الدال عاد المعنى إلى أنه غطه حتى استفرغ قوته في ضغطه وجهد جهده بحيث لم يبق فيه مزيد وقال الكرماني وهذا قول غير سديد فإن البنية البشرية لا تستدعي استنفاد القوة الملكية لا سيما في مبدأ الأمر وقد دلت القصة على أنه اشمأز من ذلك وتداخله الرعب وقال الطيبي لا شك أن جبريل عليه السلام في حالة الغط لم يكن على صورته الحقيقية التي تجلى بها عند سدرة المنتهى وعندما رآه مستويا على الكرسي فيكون استفراغ جهده بحسب صورته التي تجلى له وغطه وإذا صحت الرواية اضمحل الاستبعاد قوله فرجع بها أي بالآيات وهي قوله ( اقرأ باسم ربك ) إلى آخرهن وقال بعضهم أي بالآيات أو بالقصة فقوله أو بالقصة لا وجه له أصلا على ما لا يخفى قوله يرجف فؤاده جملة في محل النصب على الحال وقد علم أن المضارع إذا كان مثبتا ووقع حالا لا يحتاج إلى الواو قوله وأخبرها الخبر جملة حالية أيضا قوله لقد خشيت اللام فيه جواب القسم المحذوف أي والله لقد خشيت وهو مقول قال قوله فانطلقت به خديجة أي انطلقا إلى ورقة لأن الفعل اللازم إذا عدى بالباء يلزم منه المصاحبة فيلزم ذهابهما بخلاف ما عدى بالهمزة نحو أذهبته فإنه لا يلزم ذلك قوله ابن عم خديجة قال النووي هو بنصب ابن ويكتب بالألف لأنه بدل من ورقة فإنه ابن عم خديجة لأنها بنت خويلد بن أسد وهو ورقة بن نوفل بن أسد ولا يجوز جر ابن ولا كتابته بغير الألف لأنه يصير صفة لعبد العزى فيكون عبد العزى ابن عم خديجة وهو باطل وقال الكرماني كتابة الألف وعدمها لا تتعلق بكونه متعلقا بورقة أو بعبد العزى بل علة إثبات الألف عدم وقوعه بين العلمين لأن العم ليس علما ثم الحكم بكونه بدلا غير لازم لجواز أن يكون صفة أو بيانا له قلت ما ادعى النووي لزوم البدل حتى يخدش في كلامه فإنه وجه ذكره ومثل ذلك عبد الله بن مالك ابن بحينة ومحمد بن علي ابن الحنفية والمقداد بن عمرو ابن الأسود وإسماعيل بن إبراهيم ابن علية وإسحاق بن إبراهيم ابن راهويه وأبو عبد الله بن يزيد ابن ماجه فبحينة أم عبد الله والحنفية أم محمد والأسود ليس بجد المقداد وإنما هو قد تبناه وعلية أم إسماعيل وراهويه لقب إبراهيم وماجه لقب يزيد وكل ذلك يكتب بالألف ويعرب بإعراب الأول ومثل ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول بتنوين أبي ويكتب ابن سلول بالألف ويعرب إعراب عبد الله في الأصح قوله ما شاء

(1/57)


الله كلمة ما موصولة وشاء صلتها والعائد محذوف وأن مصدرية مفعول شاء والتقدير ما شاء الله كتابته قوله قد عمى حال قوله اسمع من ابن أخيك إنما أطلقت الأخوة لأن الأب الثالث لورقة هو الأخ للأب الرابع لرسول الله كأنه قال ابن أخي جدك على سبيل الإضمار وفي ذكر لفظ الأخ استعطاف أو جعلته عما لرسول الله عليه وسلم أيضا احتراما له على سبيل التجوز قوله ماذا ترى في إعرابه أوجه الأول أن يكون ما إستفهاما وذا إشارة نحو ماذا التداني ماذا الوقوف الثاني أن يكون ما استفهاما وذا موصولة كما في قول لبيد رضي الله عنه
ألا تسألان المرء ماذا يحاول
فما مبتدأ بدليل إبداله المرفوع منها وذا موصول بدليل افتقاره للجملة بعده وهو أرجح الوجهين في ( ويسئلونك ماذا ينفقون ) الثالث أن يكون ماذا كله استفهاما على التركيب كقولك لماذا جئت الرابع أن يكون ماذا كله اسم جنس بمعنى شيء أو موصولا الخامس أن يكون ما زائدة وذا للإشارة السادس أن يكون ما استفهاما وذا زائدة إجازة جماعة منهم ابن مالك في نحو ماذا صنعت قوله يا ليتني فيها أي في أيام النبوة أو في الدعوة وقال أبو البقاء العكبري المنادي ههنا محذوف تقديره يا محمد ليتني كنت حيا نحو ( يا ليتني كنت معهم ) تقديره يا قوم ليتني والأصل فيه أن يا إذا وليها ما لا يصلح للنداء كالفعل في نحو ( ألا يا اسجدوا ) والحرف في نحو يا ليتني والجملة الإسمية نحو يا لعنة الله والأقوام كلهم فقيل هي للنداء والمنادى محذوف وقيل لمجرد التنبيه لئلا يلزم الإجحاف بحذف الجملة كلها وقال ابن مالك في الشواهد ظن أكثر الناس أن يا التي تليها ليت حرف نداء والمنادى محذوف وهو عندي ضعيف لأن قائل ليتني قد يكون وحده فلا يكون معه منادي كقول مريم ( يا ليتني مت قبل هذا ) وكأن الشيء إنما يجوز حذفه إذا كان الموضع الذي ادعى فيه حذفه مستعملا فيه ثبوته كحذف المنادي قبل أمر أو دعاء فإنه يجوز حذفه لكثرة ثبوته ثمة فمن ثبوته قبل الأمر ( يا يحيى خذ الكتاب ) وقبل الدعاء ( يا موسى ادع لنا ربك ) ومن حذفه قبل الأمر ( الا يا اسجدوا ) في قراءة الكسائي أي يا هؤلاء اسجدوا قبل الدعاء قول الشاعر
( ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر )
أي يا دار اسلمي فحسن حذف المنادي قبلها اعتياد ثبوته بخلاف ليت فإن المنادي لم تستعمله العرب قبلها ثابتا فادعاء حذفه باطل فتعين كون يا هذه لمجرد التنبيه مثل ألا في نحو
( ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة )
قلت دعواه ببطلان الحذف غير سديدة لأن دليله لم يساعده أما قوله لأن قائل ليتني قد يكون وحده الخ فظاهر الفساد لأنه يجوز أن يقدر فيه نفسي فيخاطب نفسه على سبيل التجريد فالتقدير في الآية يا نفسي ليتني مت قبل هذا وههنا أيضا يكون التقدير يا نفسي ليتني كنت فيها جذعا وأما قوله ولأن الشيء إنما يجوز حذفه فظاهر البعد لأنه لا ملازمة بين جواز الحذف وبين ثبوت استعماله فيه فافهم قوله جذعا بالنصب والرفع وجه النصب أن يكون خبر كان المقدر تقديره ليتني أكون جذعا وإليه مال الكسائي وقال القاضي عياض هو منصوب على الحال وهو منقول عن النحاة البصرية وخبر ليت حينئذ قوله فيها والتقدير ليتني كائن فيها حال شبيبة وصحة وقوة لنصرتك وقال الكوفيون ليت أعملت عمل تمنيت فنصب الجزئين كما في قول الشاعر
( يا ليت أيام الصبا رواجعا )
وجه الرفع ظاهر وهو كونه خبر ليت قوله إذ يخرجك قومك قال ابن مالك استعمل فيه إذ في المستقبل كإذا وهو استعمال صحيح وغفل عنه أكثر النحويين ومنه قوله تعالى ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر ) وقوله تعالى ( وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب ) وقوله ( فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم ) قال وقد استعمل كل منهما في موضع الآخر ومن استعمال إذا موضع إذ نحو قوله تعالى ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ) لأن الانفضاض واقع فيما مضى وقال بعضهم هذا الذي ذكره ابن مالك قد أقره عليه غير واحد وتعقبه شيخنا بأن النحاة لم يغفلوا عنه بل منعوا وروده وأولوا ما ظاهره ذلك وقالوا في مثل هذا استعمل الصيغة الدالة على المضي لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في التعبير حين يخرجك قومك وعند التحقيق ما ادعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز ومجازهم أولى لما يبتنى عليه من أن إيقاع المستقبل في صورة المضي تحقيقا لوقوعه أو استحضارا للصورة الآتية في هذه دون تلك قلت بل غفلوا عنه لأن التنبيه على مثل

(1/58)


هذا ليس من وظيفتهم وإنما هو من وظيفة أهل المعاني وقوله بل منعوا وروده كيف يصح وقد ورد في القرآن في غير ما موضع وقوله وأولوا ما ظاهره ينافي قوله منعوا وروده وكيف نسب التأويل إليهم وهو ليس إليهم وإنما هو إلى أهل المعاني قوله ومجازهم أولى الخ بعيد عن الأولوية لأن التعليل الذي علله لهم هو عين ما عله ابن مالك في قوله استعمل إذ في المستقبل كإذا وبالعكس فمن أين الأولوية قوله أو مخرجي هم جملة اسمية لأن هم مبتدأ ومخرجي مقدما خبره ولا يجوز العكس لأن مخرجي نكرة فإن إضافته لفظية إذ هو اسم فاعل بمعنى الاستقبال وقد قلنا أن أصله مخرجون جمع مخرج من الإخراج فلما أضيف إلى ياء المتكلم سقطت النون وأدغمت الياء في الياء فصار مخرجي بتشديد الياء ويجوز أن يكون مخرجي مبتدأ وهم فاعلا سد مسد الخبر على لغة أكلوني البراغيث ولو روى مخرجي بسكون الياء أو فتحها مخففة على أنه مفرد يصح جعله مبتدأ وما بعده فاعلا سد مسد الخبر كما تقول أو مخرجي بنو فلان لاعتماده على حرف الاستفهام لقوله احي والداك والمنفصل من الضمائر يجري مجرى الظاهر ومنه قول الشاعر
أمنجز أنتم وعدا وثقت به
أم اقتفيتم جميعا نهج عرقوب
وقال ابن مالك الأصل في أمثال هذا تقديم حرف العطف على الهمزة كما تقدم على غيرها من أدوات الاستفهام نحو ( وكيف تكفرون ) و ( فأنى تؤفكون ) و ( فأين تذهبون ) والأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف كهذا المثال وكان ينبغي أن يقال وأمخرجي فالواو للعطف على ما قبلها من الجمل والهمزة للاستفهام لأن أداة الاستفهام جزء من جملة الاستفهام وهي معطوفة على ما قبلها من الجمل والعاطف لا يتقدم عليه جزء ما عطف عليه ولكن خصت الهمزة بتقديمها على العاطف تنبيها على أنه أصل أدوات الاستفهام لأن الاستفهام له صدر الكلام وقد خولف هذا الأصل في غير الهمزة فأرادوا التنبيه عليه وكانت الهمزة بذلك أولى لأصالتها وقد غفل الزمخشري عن هذا المعنى فادعى أن بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة معطوفا عليها بالعاطف ما بعده قلت لم يغفل الزمخشري عن ذلك وإنما ادعى هذه الدعوى لدقة نظر فيه وذلك لأن قوله أو مخرجي هم جواب ورد على قوله إذ يخرجك على سبيل الاستبعاد والتعجب فكيف يجوز أن يقدر فيه تقديم حرف العطف على الهمزة ولأن هذه إنشائية وتلك خبرية فلأجل ذلك قدمت الهمزة على أن أصلها أمخرجي هم بدون حرف العطف ولكن لما أريد مزيد استبعاد وتعجب جيء بحرف العطف على مقدر تقديره أمعادي هم ومخرجي هم وأما إنكار الحذف في مثل هذه المواضع فمستبعد لأن مثل هذه الحذوف من حلية البلاغة لا سيما حيث الإمارة قائمة عليها والدليل عليها هنا وجود العاطف ولا يجوز العطف على المذكور فيجب أن يقدر بعد الهمزة ما يوافق المعطوف تقريرا للاستبعاد قوله وأن يدركني كلمة إن للشرط ويدركني مجزوم بها ويومك مرفوع لأنه فاعل يدركني والمضاف فيه محذوف أي يوم إخراجك أو يوم انتشار نبوتك قوله أنصرك مجزوم لأنه جواب الشرط ونصرا منصوب على المصدرية ومؤزرا صفته قوله ورقة بالرفع فاعل لقوله لم ينشب وكلمة أن في قوله أن توفي مفتوحة مخففة وهي بدل اشتمال من ورقة أي لم تلبث وفاته
( بيان المعاني ) قوله الصالحة صفة موضحة عند النحاة وصفة فارقة عند أهل المعاني وقوله في النوم من قبيل أمس الدابر كان يوما عظيما لأنه ليس للكشف ولا للتخصيص ولا للمدح ولا للذم فتعين أن يكون للتأكيد قوله ما أنا بقارىء قيل أن مثل هذا يفيد الاختصاص قلت قال الطيبي مثل هذا التركيب لا يلزم أن يفيد الاختصاص بل قد يكون للتقوية والتوكيد أي لست بقارىء البتة لا محالة وهو الظاهر ههنا والمناسب للمقام قوله ( اقرأ باسم ربك ) قدم الفعل الذي هو متعلق الباء وإن كان تأخيره للاختصاص كما في قوله عز و جل ( بسم الله مجراها ومرساها ) لكون الأمر بالقراءة أهم وتقديم الفعل أوقع لذلك وقوله اقرأ أمر بإيجاد القراءة مطلقا لا تختص بمقروء دون مقروء وقوله باسم ربك حال أي اقرأ مفتتحا باسم ربك أي قل بسم الله الرحمن الرحيم ثم اقرأ وقال الطيبي وهذا يدل على أن البسملة مأمور بقراءتها في ابتداء كل قراءة فتكون قراءتها مأمورة في ابتداء هذه السورة أيضا قلت هذا التقدير خلاف الظاهر فإن جبريل عليه الصلاة و السلام لم يقل له إلا أن يقول ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم ) قال الواحدي

(1/59)


أخبرنا الحسن بن محمد الفارسي قال أخبرنا محمد بن عبد الله بن الفضل التاجر قال أخبرنا محمد بن الحسن الحافظ قال حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن صالح قال حدثنا أبو صالح قال حدثني الليث قال حدثني عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني محمد بن عباد بن جعفر المخزومي أنه سمع بعض علمائهم يقول كان أول ما نزل الله عز و جل على رسوله ( اقرأ باسم ربك الذي ) إلى قوله ( ما لم يعلم ) قال هذا صدر ما أنزل على رسول الله يوم حراء ثم أنزل آخرها بعد ذلك وما شاء الله ولئن سلمنا أن البسملة مأمور بها في القراءة فلا يلزم من ذلك الوجوب لأنه يجوز أن يكون الأمر على وجه الندب والاستحباب لأجل التبرك في ابتداء القراءة قوله ( ربك الذي خلق ) وصف مناسب مشعر بعلية الحكم بالقراءة والإطلاق في خلق أولا على منوال يعطى ويمنع وجعله توطئة لقوله ( خلق الإنسان ) إيذانا بأن الإنسان أشرف المخلوقات ثم الامتنان عليه بقوله ( علم الإنسان ) يدل على أن العلم أجل النعم قوله ( علم بالقلم ) إشارة إلى العلم التعليمي و ( علم الإنسان ما لم يعلم ) إشارة إلى العلم اللدني قوله لقد خشيت على نفسي أشار في تأكيد كلامه باللام وقد إلى تمكن الخشية في قلبه وخوفه على نفسه حتى روى صاحب الغريبين في باب العين والدال والميم أن رسول الله قال لخديجة رضي الله عنها أظن أنه عرض لي شبه جنون فقالت كلا إنك تكسب المعدوم وتحمل الكل انتهى فأجابت خديجة أيضا بكلام فيه قسم وتأكيد بأن واللام في الخبر في صورة الجملة الإسمية وذلك إزالة لحيرته ودهشته وذلك من قبيل قوله تعالى ( وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) لأن قوله ( وما أبرىء ) ما أزكي نفسي أورث المخاطب حيرة في أنه كيف لا ينزه نفسه عن السوء مع كونها مطمئنة زكية فأزال تلك الحيرة بقوله إن النفس لأمارة بالسوء في جميع الأشخاص أي بالشهوة والرذيلة إلا من عصمه الله تعالى وكذلك قوله تعالى ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) وقوله تعالى ( وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) وأمثال ذلك في التنزيل كثيرة وكل هذا من إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر قوله يا ليتني كلمة ليت للتمني تتعلق بالمستحيل غالبا وبالممكن قليلا وتمنى ورقة أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا ليكون أمكن إلى نصره وإنما قال ذلك على وجه التحسر لأنه كان يتحقق أنه لا يعود شابا قوله أو مخرجي هم قد ذكرنا أن الهمزة فيه للاستفهام وإنما كان ذلك على وجه الإنكار والتفجع لذلك والتألم منه لأنه استبعد إخراجه من غير سبب لأنها حرم الله تعالى وبلد أبيه إسماعيل ولم يكن منه فيما مضى ولا فيما يأتي سبب يقتضي ذلك بل كان منه أنواع المحاسن والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله ما هو لائق بمحله والعادة أن كل ما أتى للنفوس بغير ما تحب وتألف وإن كان ممن يحب ويعتقد يعافه ويطرده وقد قال الله تعالى حكاية عنهم ( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون )
( بيان البيان ) قوله مثل فلق الصبح فيه تشبيه وقد علم أن أداة التشبيه الكاف وكأن ومثل ونحو وما يشتق من مثل وشبه ونحوهما والمشبه ههنا الرؤيا والمشبه به فلق الصبح ووجه الشبه هو الظهور البين الواضح الذي لا يشك فيه قوله يا ليتني فيها جذعا فيه استعارة الحيوان للإنسان ومبناه على التشبيه حيث أطلق الجذع الذي هو الحيوان المنتهي إلى القوة وأراد به الشباب الذي فيه قوة الرجل وتمكنه من الأمور
( الأسئلة والأجوبة ) وهي على وجوه الأول ما قيل لم أبتدىء بالرؤيا أولا وأجيب بأنه إنما ابتدىء بها لئلا يفجأه الملك ويأتيه بصريح النبوة ولا تحتملها القوى البشرية فبدىء بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة من صدق الرؤيا مع سماع الصوت وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة ورؤية الضوء ثم أكمل الله له النبوة بإرسال الملك في اليقظة وكشف له عن الحقيقة كرامة له الثاني ما قيل ما حقيقة الرؤيا الصادقة أجيب بأن الله تعالى يخلق في قلب النائم أو في حواسه الأشياء كما يخلقها في اليقظان وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا غيره عنه فربما يقع ذلك في اليقظة كما رآه في المنام وربما جعل ما رآه علما على أمور أخر يخلقها الله في ثاني الحال أو كان قد خلقها فتقع تلك كما جعل الله تعالى الغيم علامة للمطر الثالث ما قيل لم حبب إليه الخلوة أجيب بأن معها فراغ القلب وهي معينة على التفكر والبشر لا ينتقل عن طبعه إلا بالرياضة البليغة فحبب إليه الخلوة لينقطع عن مخالطة البشر فينسى المألوفات من عادته فيجد الوحي منه مرادا سهلا لا حزنا ولمثل هذا المعنى كانت مطالبة الملك له بالقراءة والضغطة ويقال كان ذلك اعتبار أو فكرة

(1/60)


كاعتبار إبراهيم عليه الصلاة و السلام لمناجاة ربه والضراعة إليه ليريه السبيل إلى عبادته على صحة إرادته وقال الخطابي حبب العزلة إليه لأن فيها سكون القلب وهي معينة على التفكر وبها ينقطع عن مألوفات البشر ويخشع قلبه وهي من جملة المقدمات التي أرهصت لنبوته وجعلت مبادي لظهورها الرابع ما قيل أن عبادته عليه وسلم قبل البعث هل كانت شريعة أحد أم لا فيه قولان لأهل العلم وعزى الثاني إلى الجمهور إنما كان يتعبد بما يلقى إليه من نور المعرفة واختار ابن الحاجب والبيضاوي أنه كلف التعبد بشرع واختلف القائلون بالثاني هل ينتفي ذلك عنه عقلا أم نقلا فقيل بالأول لأن في ذلك تنفيرا عنه ومن كان تابعا فبعيد منه أن يكون متبوعا وهذا خطأ منه كما قال المازري فالعقل لا يحيل ذلك وقال حذاق أهل السنة بالثاني لأنه لو فعل لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله ولافتخر به أهل تلك الشريعة والقائل بالأول اختلف فيه على ثمانية أقوال أحدها أنه كان يتعبد بشريعة إبراهيم الثاني بشريعة موسى الثالث بشريعة عيسى الرابع بشريعة نوح حكاه الآمدي الخامس بشريعة آدم حكي عن ابن برهان السادس أنه كان يتعبد بشريعة من قبله من غير تعيين السابع أن جميع الشرائع شرع له حكاه بعض شراح المحصول من المالكية الثامن الوقف في ذلك وهو مذهب أبي المعالي الإمام واختاره الآمدي فإن قلت قد قال الله تعالى ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم ) قلت المراد في توحيد الله وصفاته أو المراد اتباعه في المناسك كما علم جبريل عليه السلام إبراهيم عليه السلام الخامس ما قيل ما كان صفة تعبده أجيب بأن ذلك كان بالتفكر والاعتبار كاعتبار أبيه إبراهيم عليه الصلاة و السلام السادس ما قيل هل كلف النبي بعد النبوة بشرع أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجيب بأن الأصوليين اختلفوا فيه والأكثرون على المنع واختاره الإمام والآمدي وغيرهما وقيل بل كان مأمورا بأخذ الأحكام من كتبهم ويعبر عنه بأن شرع من قبلنا شرع لنا واختاره ابن الحاجب وللشافعي فيه قولان أصحهما الأول واختاره الجمهور السابع ما قيل متى كان نزول الملك عليه أجيب بأن ابن سعد روى بإسناده أن نزول الملك عليه بحراء يوم الإثنين لسبع عشرة خلت من رمضان ورسول الله يومئذ ابن أربعين سنة الثامن ما قيل ما الحكمة في غطه ثلاث مرات قلت ليظهر في ذلك الشدة والاجتهاد في الأمور وأن يأخذ الكتاب بقوة ويترك الأناة فإنه أمر ليس بالهوينا وكرره ثلاثا مبالغة في التثبت التاسع ما قيل ما الحكمة فيه على رواية ابن إسحاق أن الغط كان في النوم أجيب بأنه يكون في تلك الغطات الثلاث من التأويل بثلاث شدائد يبتلى بها أولا ثم يأتي الفرح والسرور الأولى ما لقيه هو وأصحابه من شدة الجوع في الشعب حتى تعاقدت قريش أن لا يبيعوا منهم ولا يصلوا إليهم والثانية ما لقوا من الخوف والإيعاد بالقتل والثالثة ما لقيه من الإجلاء عن الوطن والهجرة من حرم إبراهيم عليه الصلاة و السلام العاشر ما قيل ما الخشية التي خشيها رسول الله حيث قال لقد خشيت على نفسي أجيب بأن العلماء اختلفوا فيها على اثنى عشر قولا الأول أنه خاف من الجنون وأن يكون ما رآه من أمر الكهانة وجاء ذلك في عدة طرق وأبطله أبو بكر بن العربي وأنه لجدير بالأبطال الثاني خاف أن يكون هاجسا وهو الخاطر بالبال وهو أن يحدث نفسه ويجد في صدره مثل الوسواس وأبطلوا هذا أيضا لأنه لا يستقر وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة الثالث خاف من الموت من شدة الرعب الرابع خاف أن لا يقوى على مقاومة هذا الأمر ولا يطيق حمل أعباء الوحي الخامس العجز عن النظر إلى الملك وخاف أن تزهق نفسه وينخلع قلبه لشدة ما لقيه عند لقائه السادس خاف من عدم الصبر على أذى قومه السابع خاف من قومه أن يقتلوه حكاه السهيلي ولا غرو أنه بشر يخشى من القتل والأذى ثم يهون عليه الصبر في ذات الله تعالى كل خشية ويجلب إلى قلبه كل شجاعة وقوة الثامن خاف مفارقة الوطن بسبب ذلك التاسع ما ذهب إليه أبو بكر الإسماعيلي أنها كانت منه قبل أن يحصل له العلم الضروري بأن الذي جاءه ملك من عند الله تعالى وكان أشق شيء عليه أن يقال عنه شيء العاشر خاف من وقوع الناس فيه الحادي عشر ما قاله ابن أبي جمرة أن خشيته كانت من الوعك الذي أصابه من قبل الملك الثاني عشر هو إخبار عن الخشية التي حصلت له على غير مواطئة بغتة كما يحصل للبشر إذا دهمه أمر لم يعهده وقال القاضي عياض هذا أول بادىء التباشير في النوم واليقظة وسمع الصوت قبل لقاء الملك

(1/61)


وتحقق رسالة ربه فقد خاف أن يكون من الشيطان فأما بعد أن جاءه الملك بالرسالة فلا يجوز الشك عليه فيه ولا يخشى تسلط الشيطان عليه وقال النووي هذا ضعيف لأنه خلاف تصريح الحديث فإن هذا كان بعد غط الملك وإتيانه بإقرأ باسم ربك قال قلت إلا أن يكون معنى خشيت على نفسي أن يخبرها بما حصل له أولا من الخوف لا أنه خائف في حال الإخبار فلا يكون ضعيفا الحادي عشر من الأسئلة ما قيل من أين علم رسول الله أن الجائي إليه جبريل عليه الصلاة و السلام لا الشيطان وبم عرف أنه حق لا باطل أجيب بأنه كما نصب الله لنا الدليل على أن الرسول صادق لا كاذب وهو المعجزة كذلك نصب للنبي دليلا على أن الجائي إليه ملك لا شيطان وأنه من عند الله لا من غيره الثاني عشر ما قيل ما الحكمة في فتور الوحي مدة أجيب بأنه إنما كان كذلك ليذهب ما كان وجده من الروع وليحصل له التشوق إلى العود الثالث عشر ما قيل ما كان مدة الفترة أجيب بأنه وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين وبه جزم ابن إسحاق وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع في شهر مولده وهو ربيع الأول وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان وليس فترة الوحي المقدرة بثلاث سنين وهو ما بين نزول اقرأ أو يا أيها المدثر عدم مجيء جبريل عليه السلام إليه بل تأخر نزول القرآن عليه فقط الرابع عشر ما قيل ما الحكمة في تخصيصه التعبد بحراء من بين سائر الجبال أجيب بأن حراء هو الذي نادى رسول الله حين قال له ثبير اهبط عني فإني أخاف أن تقتل على ظهري فاعذرني يا رسول الله فلعل هذا هو السر في تخصيصه به وقال أبو عبد الله بن أبي جمرة لأنه يرى بيت ربه منه وهو عبادة وكان منزويا مجموعا لتحنثه الخامس عشر ما قيل أن قوله ثم لم ينشب ورقة أن توفي يعارضه ما روي في سيرة ابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب لما أسلم وهذا يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام أجيب بأنا لا نسلم المعارضة فإن شرط التعارض المساواة وما روي في السيرة لا يقاوم الذي في الصحيح ولئن سلمنا فلعل الراوي لما في الصحيح لم يحفظ لورقة بعد ذلك شيئا من الأمور فلذلك جعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى ما علمه منه لا بالنسبة إلى ما في نفس الأمر السادس عشر ما وجه تخصيص ورقة بن نوفل ناموس النبي بالناموس الذي أنزل على موسى عليه الصلاة و السلام دون سائر الأنبياء مع أن لكل نبي ناموسا أجيب بأن الناموس الذي أنزل على موسى ليس كناموس الأنبياء فإنه أنزل عليه كتاب بخلاف سائر الأنبياء فمنهم من نزل عليه صحف ومنهم من نبىء بأخبار جبريل عليه السلام ومنهم من نبىء بأخبار ملك الرصاف
( استنباط الأحكام ) وهو على وجوه الأول فيه تصريح من عائشة رضي الله تعالى عنها بأن رؤيا النبي من جملة أقسام الوحي وهو محل وفاق الثاني فيه مشروعية اتخاذ الزاد ولا ينافي التوكل فقد اتخذه سيد المتوكلين الثالث فيه الحض على التعليم ثلاثا بما فيه مشقة كما فتل الشارع أذن ابن عباس في إدارته على يمينه في الصلاة وانتزع شريح القاضي من هذا الحديث أن لا يضرب الصبي إلا ثلاثا على القرآن كما غط جبريل محمدا عليهما الصلاة والسلام ثلاثا الرابع فيه دليل للجمهور أن سورة ( اقرأ باسم ربك ) أول ما نزل وقول من قال أن أول ما نزل ( يا أيها المدثر ) عملا بالرواية الآتية في الباب فأنزل الله تعالى ( يا أيها المدثر ) محمول على أنه أول ما نزل بعد فترة الوحي وأبعد من قال أن أول ما نزل الفاتحة بل هو شاذ وجمع بعضهم بين القولين الأولين بأن قال يمكن أن يقال أول ما نزل من التنزيل في تنبيه الله على صفة خلقه ( اقرأ ) وأول ما نزل من الأمر بالإنذار ( يا أيها المدثر ) وذكر ابن العربي عن كريب قال وجدنا في كتاب ابن عباس أول ما نزل من القرآن بمكة اقرأ والليل ونون ويا أيها المزمل ويا أيها المدثر وتبت وإذا الشمس والأعلى والضحى وألم نشرح لك والعصر والعاديات والكوثر والتكاثر والدين ثم الفلق ثم الناس ثم ذكر سورا كثيرة ونزل بالمدينة ثمانية وعشرون سورة وسائرها بمكة وكذلك يروى عن ابن الزبير وقال السخاوي ذهبت عائشة رضي الله عنها والأكثرون إلى أن أول ما نزل ( اقرأ باسم ربك ) إلى قوله ( ما لم يعلم ) ثم ن والقلم إلى قوله ويبصرون ويا أيها المدثر والضحى ثم نزل باقي سورة اقرأ بعد يا أيها المدثر ويا أيها المزمل الخامس قال السهيلي في قوله ( اقرأ

(1/62)


باسم ربك ) دليل من الفقه على وجوب استفتاح القراءة ببسم الله غير أنه أمر مبهم لم يتبين له بأي اسم من أسمائه يستفتح حتى جاء البيان بعد في قوله ( بسم الله مجراها ومرساها ) ثم في قوله ( وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) ثم بعد ذلك كان ينزل جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة وقد ثبتت في سواد المصحف بإجماع من الصحابة على ذلك وحين نزلت بسم الله الرحمن الرحيم سبحت الجبال فقالت قريش سحر محمد الجبال ذكره النقاش قلت دعوى الوجوب تحتاج إلى دليل وكذلك دعوى نزول جبريل عليه السلام ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة وثبوتها في سواد المصحف لا يدل على وجوب قراءتها وما ذكره النقاش في تفسيره فقد تكلموا فيه السادس فيه أن الفازع لا ينبغي أن يسأل عن شيء حتى يزول عنه فزعه حتى قال مالك أن المذعور لا يلزمه بيع ولا إقرار ولا غيره السابع فيه أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب للسلامة من مصارع الشر والمكاره فمن كثر خيره حسنت عاقبته ورجى له سلامة الدين والدنيا الثامن فيه جواز مدح الإنسان في وجهه لمصلحة ولا يعارضه قوله ( احثوا في وجوه المداحين التراب ) لأن هذا فيما يمدح بباطل أو يؤدي إلى باطل التاسع فيه أنه ينبغي تأنيس من حصلت له مخافة وتبشيره وذكر أسباب السلامة له العاشر فيه أبلغ دليل على كمال خديجة رضي الله تعالى عنها وجزالة رأيها وقوة نفسها وعظم فقهها وقد جمعت جميع أنواع أصول المكارم وأمهاتها فيه لأن الإحسان إما إلى الأقارب وإما إلى الأجانب وإما بالبدن وإما بالمال وإما على من يستقل بأمره وإما على غيره الحادي عشر فيه جواز ذكر العاهة التي بالشخص ولا يكون ذلك غيبة قلت ينبغي أن يكون هذا على التفصيل فإن كان لبيان الواقع أو للتعريف أو نحو ذلك فلا بأس ولا يكون غيبة وإن كان لأجل استنقاصه أو لأجل تعييره فإن ذلك لا يجوز الثاني عشر فيه أن من نزل به أمر يستحب له أن يطلع عليه من يثق بنصحه وصحة رأيه الثالث عشر فيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام
( فوائد الأولى ) خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أم المؤمنين تزوجها رسول الله وهو ابن خمس وعشرين سنة وهي أم أولاده كلهم خلا إبراهيم فمن مارية ولم يتزوج غيرها قبلها ولا عليها حتى ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح وقيل بخمس وقيل بأربع فأقامت معه أربعا وعشرين سنة وستة أشهر ثم توفيت وكانت وفاتها بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام واسم أمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم من بني عامر بن لؤي وهي أول من آمن من النساء باتفاق بل أول من آمن مطلقا على قول ووقع في كتاب الزبير بن بكار عن عبد الرحمن بن زيد قال آدم عليه السلام مما فضل الله به ابني علي أن زوجته خديجة كانت عونا له على تبليغ أمر الله عز و جل وأن زوجتي كانت عونا لي على المعصية الثانية ورقة بفتح الراء بن نوفل بفتح النون والفاء بن أسد بن عبد العزى وقال الكرماني فإن قلت ما قولك في ورقة أيحكم بإيمانه قلت لا شك أنه كان مؤمنا بعيسى عليه السلام وأما الإيمان بنبينا عليه السلام فلم يعلم أن دين عيسى قد نسخ عند وفاته أم لا ولئن ثبت أنه كان منسوخا في ذلك الوقت فالأصح أن الإيمان التصديق وهو قد صدقه من غير أن يذكر ما ينافيه قلت قال ابن منده اختلف في إسلام ورقة وظاهر هذا الحديث وهو قوله فيه يا ليتني كنت فيها جذعا وما ذكر بعده من قوله يدل على إسلامه وذكر ابن إسحاق أن النبي لما أخبره قال له ورقة بن نوفل والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة وفي مستدرك الحاكم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي قال لا تسبوا ورقة فإنه كان له جنة أو جنتان ثم قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وروى الترمذي من حديث عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت سئل رسول الله عن ورقة فقالت له خديجة أنه كان صدقك ولكنه مات قبل أن تظهر فقال النبي رأيته في المنام وعليه ثياب بيض ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك ثم قال هذا حديث غريب وعثمان بن عبد الرحمن ليس عند أهل الحديث بالقوي وقال السهيلي في إسناده ضعف لأنه يدور على عثمان هذا ولكن يقويه قوله رأيت الفتى يعني ورقة وعليه ثياب حرير لأنه أول من آمن بي وصدقني ذكره ابن إسحق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل وقال المرزباني كان ورقة من علماء قريش وشعرائهم وكان يدعى

(1/63)


القس وقال النبي رأيته وعليه حلة خضراء يرفل في الجنة وكان يذكر الله في شعره في الجاهلية ويسبحه فمن ذلك قوله
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم
أنا النذير فلا يغرركم أحد
لا تعبدن إلها غير خالقكم
فإن دعوكم فقولوا بيننا جدد
سبحان ذي العرش سبحانا لعود له وقبله سبح الجودي والجمد
مسخر كل ما تحت السماء له
لا ينبغي أن ينادي ملكه أحد
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته
يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له
والإنس والجن فيما بينها برد
أين الملوك التي كانت لعزتها
من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كدر لا بد من ورده يوما كما وردوا
نسبه أبو الفرج إلى ورقة وفيه أبيات تنسب إلى أمية بن أبي الصلت ومن شعره قوله
فإن يك حقا يا خديجة فاعلمي
حديثك إيانا فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما
من الله وحي يشرح الصدر منزل
( الثالثة ) أنه قد عرفت أن خديجة هي التي انطلقت بالنبي إلى ورقة وقد جاء في السيرة من حديث عمرو بن شرحبيل أن الصديق رضي الله عنه دخل على خديجة وليس رسول الله عندها ثم ذكرت خديجة له ما رآه فقالت يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة فلما دخل أخذ أبو بكر بيده فقال انطلق بنا إلى ورقة فقال ومن أخبرك فقال خديجة فانطلقا إليه فقصا عليه فقال إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض فقال له لا تفعل إذ أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني فلما خلا ناداه يا محمد قل ( بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ) حتى بلغ ( ولا الضالين ) قل لا إله إلا الله فأتى ورقة فذكر ذلك له فقال له ورقة أبشر ثم أبشر فأنا أشهد بأنك الذي بشر به عيسى ابن مريم وإنك على مثل ناموس موسى وإنك نبي مرسل وإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ولئن أدركني ذاك لأجاهدن معك فلما توفي ورقة قال لقد رأيت القس في الجنة وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني يعني ورقة وفي سير سليمان بن طرحان التيمي أنها ركبت إلى بحيرا بالشام فسألته عن جبريل عليه السلام فقال لها قدوس يا سيدة قريش أنى لك بهذا الاسم فقالت بعلي وابن عمي أخبرني أنه يأتيه فقال ما علم به إلا نبي فإنه السفير بين الله وبين أنبيائه وأن الشيطان لا يجترىء أن يتمثل به ولا أن يتسمى باسمه وفي الأوائل لأبي هلال من حديث سويد بن سعيد حدثنا الوليد بن محمد عن الزهري عن عروة عن عائشة أن خديجة رضي الله عنها خرجت إلى الراهب ورقة وعداس فقال ورقة أخشى أن يكون أحد شبه بجبريل عليه السلام فرجعت وقد نزل ( ن والقلم وما يسطرون ) فلما قرأ هذا على ورقة قال أشهد أن هذا كلام الله تعالى فإن قلت ما التوفيق بين هذه الأخبار قلت بأن تكون خديجة قد ذهبت به مرة وأرسلته مع الصديق أخرى وسافرت إلى بحيرا أو غيره مرة أخرى وهذا من شدة اعتنائها بسيد المرسلين
( قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني زملوني فأنزل الله تعالى ( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ) فحمى الوحي وتتابع )

(1/64)


ابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري وقد مر وأبو سلمة بفتحتين اسمه عبد الله أو إسمعيل أو اسمه كنيته ابن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرة بالجنة القرشي الزهري المدني التابعي الإمام الجليل المتفق على إمامته وجلالته وثقته وهو أحد الفقهاء السبعة على أحد الأقوال سمع جماعة من الصحابة والتابعين وعنه خلائق من التابعين منهم الشعبي فمن بعدهم وتزوج أبوه تماضر بضم التاء المثناة من فوق وكسر المعجمة بنت الأصبع بفتح الهمزة وسكون المهملة وفي آخره عين غير معجمة وهي الكلبية من أهل دومة الجندل ولم تلد لعبد الرحمن غير أبي سلمة توفي بالمدينة سنة أربع وتسعين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة في خلافة الوليد وجابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بالمهملة والراء ابن عمرو بن سواد بتخفيف الواو ابن سلمة بكسر اللام ابن سعد بن علي بن أسد بن ساردة ابن تريد بالتاء المثناة من فوق ابن جشم بضم الجيم وفتح الشين المعجمة ابن الخزرج الأنصاري السلمي بفتح السين واللام وحكي في لغة كسرها المدني أبو عبد الله أو عبد الرحمن أو أبو محمد أحد الستة المكثرين روي له عن النبي ألف حديث وخمسمائة حديث وأربعون حديثا أخرجا له مائتي حديث وعشرة أحاديث اتفقا منها على ثمانية وخمسين وانفرد البخاري بستة وعشرين ومسلم بمائة وستة وعشرين وأمه نسيبة بنت عقبة بن عدي مات بعد أن عمي سنة ثمان أو ثلاث أو أربع أو تسع وسبعين وقيل سنة ثلاث وستين وكان عمره أربعا وتسعين سنة وصلى عليه أبان بن عثمان والي المدينة وهو آخر الصحابة موتا بالمدينة وجابر بن عبد الله في الصحابة ثلاثة جابر بن عبد الله هذا وجابر بن عبد الله بن رباب بن النعمان بن سنان وجابر بن عبد الله الراسبي نزيل البصرة وأما جابر في الصحابة فأربعة وعشرون نفرا وجابر بن عبد الله في غير الصحابة خمسة الأول سلمي يروي عن أبيه عن كعب الأحبار الثاني محاربي عنه الأوزاعي الثالث غطفاني يروي عن عبد الله بن الحسن العلوي الرابع مصري عنه يونس بن عبد الأعلى الخامس يروي عن الحسن البصري وكان كذابا وجابر يشتبه بجاثر بالثاء المثلثة موضع الباء الموحدة وبخاتر بالخاء المعجمة ثم ألف ثم تاء مثناة من فوق ثم راء فالأول أبو القبيلة التي بعث الله منها صالحا عليه الصلاة و السلام وهو ثمود بن جاثر بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام وأخوه جديس بن جاثر والثاني معن له أخبار وحكايات مشهورة
( حكم الحديث ) قال الكرماني مثل هذا أي ما لم يذكر من أول الإسناد واحدا أو أكثر يسمى تعليقا ولا يذكره البخاري إلا إذا كان مسندا عنده إما بالإسناد المتقدم كأنه قال حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل أنه قال قال ابن شهاب أو بإسناد آخر وقد ترك الإسناد ههنا لغرض من الأغراض المتعلقة بالتعليق لكون الحديث معروفا من جهة الثقات أو لكونه مذكورا في موضع آخر أو نحوه قال بعضهم وأخطأ من زعم أن هذا معلق قلت يعرض بذلك للكرماني ولا معنى للتعريض لأن الحديث صورته في الظاهر من التعليق وإن كان مسندا عنده في موضع آخر فإنه أخرجه أيضا في الأدب وفي التفسير أتم من هذا وأوله عن يحيى بن أبي كثير قال سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال ( يا أيها المدثر ) قلت يقولون ( اقرأ باسم ربك ) الذي خلق فقال أبو سلمة سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن ذلك قلت له مثل الذي قلت فقال جابر لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله قال جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري ثم ذكر نحوه وقال في التفسير حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ( ح ) وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أخبرني فذكره وأخرجه مسلم بألفاظه
( ومن لطائف إسناده ) أن كلهم مدنيون وفيه تابعي عن تابعي فإن قلت لم قال قال ابن شهاب ولم يقل وروى أو وعن ابن شهاب ونحو ذلك قلت قالوا إذا كان الحديث ضعيفا لا يقال فيه قال لأنه من صيغ الجزم بل يقال حكى أو قيل أو يقال بصيغة التمريض وقد اعتنى البخاري بهذا الفرق في صحيحه كما سترى وذلك من غاية إتقانه فإن قيل ما كان مراده من إخراجه بهذه الصورة مع أنه أخرجه مسندا في صحيحه في موضع آخر قلت لعله وضعه على هذه الصورة قبل أن وقف عليه مسندا فلما وقف عليه مسندا ذكره وترك الأول على حاله لعدم خلوه عن فائدة

(1/65)


( بيان اللغات ) قوله عن فترة الوحي وهو احتباسه وقد مر الكلام فيه مستوفي قوله على كرسي هو بضم الكاف وكسرها والضم أفصح وجمعه كراسي بتشديد الياء وتخفيفها قال ابن السكيت كل ما كان من هذا النحو مفرده مشدد كعارية وسرية جاز في جمعه التشديد والتخفيف وقال الماوردي في تفسيره أصل الكرسي العلم ومنه قيل لصحيفة يكون فيها علم كراسة وقال الزمخشري الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد وفي العباب الكرسي من قولهم كرس الرجل بالكسر إذا ازدحم علمه على قلبه فإن قلت ما هذه الياء فيه قلت ليست ياء النسبة وإنما هو موضوع على هذه الصيغة فإذا أريد النسبة إليه تحذف الياء منه ويؤتى بياء النسبة فيقال كرسي أيضا فافهم قوله فرعبت منه بضم الراء وكسر العين على ما لم يسم فاعله ورواية الأصيلي بفتح الراء وبضم العين وهما صحيحان حكاهما الجوهري وغيره قال يعقوب رعب ورعب واقتصر النووي في شرحه الذي لم يكمله على الأول وقال بعضهم الرواية بضم العين واللغة بفتحها حكاه السفاقسي والرعب الخوف يقال رعبته فهو مرعوب إذا أفزعته ولا يقال أرعبته تقول رعب الرجل على وزن فعل كضرب بمعنى خوفه هذا إذا عديته فإن ضممت العين قلت رعبت منه وإن بنيته على ما لم يسم فاعله ضممت الراء فقلت رعبت منه وفي البخاري في التفسير ومسلم هنا فجئثت منه بضم الجيم وكسر الهمزة وسكون الثاء المثلثة من جئث الرجل أي أفزع فهو مجؤث أي مذعور ومادته جيم ثم همزة ثم ثاء مثلثة قال القاضي كذا هو للكافة في الصحيحين وروى فجثثت بضم الجيم وكسر الثاء المثلثة الأولى وسكون الثانية وهو بمعنى الأول ومادته جيم ثم ثاآن مثلثتان وفي بعض الروايات حتى هويت إلى الأرض أي سقطت أخرجها مسلم وهو بفتح الواو وفي بعضها فأخذتني رجفة وهي كثرة الاضطراب قوله زملوني في أكثر الأصول زملوني زملوني مرتين وفي رواية كريمة مرة واحدة وللبخاري في التفسير ولمسلم أيضا دثروني وهو هو كما سيأتي إن شاء الله تعالى قوله ( يا أيها المدثر ) أصله المتدثر وكذلك المزمل أصله المتزمل والمدثر والمزمل والمتلفف والمشتمل بمعنى وسماه الله تعالى بذلك إيناسا له وتلطفا ثم الجمهور على أن معناه المتدثر بثيابه وحكى الماوردي عن عكرمة أن معناه المتدثر بالنبوة وأعبائها قوله ( قم فأنذر ) أي حذر العذاب من لم يؤمن بالله وفيه دلالة على أنه أمر بالإنذار عقيب نزول الوحي للإتيان بالفاء التعقيبية فإن قلت النبي أرسل بشيرا ونذيرا فكيف أمر بالإنذار دون البشارة قلت البشارة إنما تكون لمن دخل في الإسلام ولم يكن إذ ذاك من دخل فيه قوله ( وربك فكبر ) أي عظمه ونزهه عما لا يليق به وقيل أراد به تكبيرة الافتتاح للصلاة وفيه نظر قوله ( وثيابك فطهر ) أي من النجاسات على مذهب الفقهاء وقيل أي فقصر وقيل المراد بالثياب النفس أي طهرها من كل نقص أي اجتنب النقائص قوله ( والرجز ) بكسر الراء في قراءة الأكثر وقرأ حفص عن عاصم بضمها وهي الأوثان في قول الأكثرين وفي مسلم التصريح به وفي التفسير عن أبي سلمة التصريح به وقيل الشرك وقيل الذنب وقيل الظلم وأصل الرجز في اللغة العذاب ويسمى عبادة الأوثان وغيرها من أنواع الكفر رجزا لأنه سبب العذاب قوله فحمي بفتح الحاء وكسر الميم معناه كثر نزوله من قولهم حميت النار والشمس أي كثرت حرارتها ومنه قولهم حمي الوطيس والوطيس التنور استعير للحرب قوله وتتابع تفاعل من التتابع قالت الشراح كلهم ومعناهما واحد فأكد أحدهما بالآخر قلت ليس معناهما واحدا فإن معنى حمي النهار اشتد حره ومعنى تتابع تواتر وأراد بحمي الوحي اشتداده وهجومه وبقوله تتابع تواتره وعدم انقطاعه وإنما لم يكتف بحمي وحده لأنه لا يستلزم الاستمرار والدوام والتواتر فلذلك زاد قوله وتتابع فافهم فإنه من الأسرار الربانية والأفكار الرحمانية ويؤيد ما ذكرنا رواية الكشميهني وتواتر موضع وتتابع والتواتر مجيء الشيء يتلو بعضه بعضا من غير خلل ولقد أبعد من قال وتتابع توكيد معنوي لأن التأكيد المعنوي له ألفاظ مخصوصة كما عرف في موضعه فإن قال ما أردت به التأكيد الاصطلاحي يقال له هذا إنما يكون بين لفظين معناهما واحد وقد بينا المغايرة بين حمي وتتابع والرجوع إلى الحق من جملة الدين
( بيان الإعراب ) قوله قال ابن شهاب فعل وفاعل قوله وأخبرني معطوف على محذوف هو مقول القول تقديره قال ابن شهاب أخبرني عروة بكذا وأخبرني أبو سلمة بكذا فلأجل قصده بيان الإخبار عن عروة بن الزبير

(1/66)


وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أتى بواو العطف وإلا فمقول القول لا يكون بالواو ونحوه فافهم قوله أن جابر بن عبد الله بفتح أن لأنها في محل النصب على المفعولية قوله وهو يحدث جملة اسمية وقعت حالا أي قال في حالة التحديث عن احتباس الوحي عن النزول أو قال جابر في حالة التحديث أن رسول الله قوله بينا أصله بين بلا ألف فأشبعت الفتحة فصارت ألفا ويزاد عليها ما فيصير بينما ومعناهما واحد وهو من الظروف الزمانية اللازمة للإضافة إلى الجملة الإسمية والعامل فيه الجواب إذا كان مجردا من كلمة المفاجأة وإلا فمعنى المفاجأة المتضمنة هي إياها ويحتاج إلى جواب يتم به المعنى وقيل اقتضى جوابا لأنها ظرف يتضمن المجازاة والأفصح في جوابه إذ وإذا خلافا للأصمعي والمعنى أن في أثناء أوقات المشي فاجأني السماع قوله إذ سمعت جواب بينا على ما ذكرنا قوله فإذا الملك كلمة إذا ههنا للمفاجأة وهي تختص بالجمل الإسمية ولا تحتاج إلى الجواب ولا يقع في الابتداء ومعناها الحال لا الاستقبال نحو خرجت فإذا الأسد بالباب وهي حرف عند الأخفش واختاره ابن مالك وظرف مكان عند المبرد واختاره ابن عصفور وظرف زمان عند الزجاج واختاره الزمخشري فإن قلت ما الفاء في فإذا قلت زائدة لازمة عند الفارسي والمازني وجماعة وعاطفة عند أبي الفتح وللسببية المحضة عند أبي إسحاق قوله جالس بالرفع كذا في البخاري وفي مسلم جالسا بالنصب قال النووي كذا هو في الأصول وجاء في رواية فإذا الملك الذي جاءني بحراء واقف بين السماء والأرض وفي طريق آخر على عرش بين السماء والأرض ولمسلم فإذا هو على العرش في الهواء وفي رواية على كرسي وهو تفسير العرش المذكور قال أهل اللغة العرش السرير فإن قلت وجه الرفع ظاهر لأنه خبر عن الملك الذي هو مبتدأ وقوله الذي جاءني بحراء صفته فما وجه النصب قلت على الجملة الحالية من الملك فإن قلت إذا نصب جالسا على الحال فماذا يكون خبر المبتدأ وقد قلت أن إذا المفاجأة تختص بالاسمية قلت حينئذ يكون الخبر محذوفا مقدرا ويكون التقدير فإذا الملك الذي جاءني بحراء شاهدته حال كونه جالسا على كرسي أو نحو ذلك قوله بين السماء والأرض ظرف ولكنه في محل الجر لأنه صفة لكرسي والفاء في فرعبت تصلح للسببية وكذا في فرجعت لأن رؤية الملك على هذه الحالة سبب لرعبه ورعبه سبب لرجوعه والفاء في فقلت وفي فأنزل الله على أصلها للتعقيب قوله وربك منصوب بقوله ( فكبر وثيابك ) بقوله ( فطهر والرجز ) بقوله ( فاهجر ) فإن قلت ما الفا آت في الآية قلت الفاء في ( فأنذر ) تعقيبية وبقية الفاآت كالفاء في قوله تعالى ( بل الله فاعبد ) فقيل جواب لا ما مقدرة وقيل زائدة وإليه مال الفارسي وعند الأكثرين عاطفة والأصل تنبه فاعبد الله ثم حذف تنبه وقدم المنصوب على الفاء إصلاحا للفظ لئلا تقع الفاء صدرا قوله فحمي الفاء فيه عاطفة والتقدير فبعد إنزال الله هذه الآية حمي الوحي
( استنباط الفوائد ) منها الدلالة على وجود الملائكة ردا على زنادقة الفلاسفة ومنها إظهار قدرة الله تعالى إذ جعل الهواء للملائكة يتصرفون فيه كيف شاؤا كما جعل الأرض لبني آدم يتصرفون فيها كيف شاؤا فهو ممسكهما بقدرته ومنها أنه عبر بقوله فحمي تتميما للتمثيل الذي مثلت به عائشة أولا وهو كونها جعلت الرؤيا كمثل فلق الصبح فإن الضوء لا يشتد إلا مع قوة الحر والحق ذلك بتتابع لئلا يقع التمثيل بالشمس من كل الجهات لأن الشمس يلحقها الأفول والكسوف ونحوهما وشمس الشريعة باقية على حالها لا يلحقها نقص
( وتابعه عبد الله بن يوسف وأبو صالح وتابعه هلال بن رداد عن الزهري وقال يونس ومعمر بوادره )
تابعه فعل ومفعول وعبد الله فاعله والضمير يرجع إلى يحيى بن بكير شيخ البخاري المذكور في أول الحديث المذكور آنفا وقوله وأبو صالح عطف على عبد الله بن يوسف وهو أيضا تابع يحيى بن بكير والحاصل أن عبد الله بن يوسف وأبا صالحا تابعا يحيى بن بكير في الرواية عن الليث بن سعد فرواه عن الليث ثلاثة يحيى بن بكير وعبد الله بن يوسف وأبو صالح أما متابعة عبد الله بن يوسف ليحيى بن بكير في روايته عن الليث بن سعد فأخرجها البخاري في التفسير والأدب وأخرجه مسلم في الإيمان عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به والترمذي في التفسير عن عبد الله بن حميد عن عبد الرازق به وقال حسن صحيح وأخرجه النسائي في التفسير أيضا عن محمود بن خالد عن عمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي به وعن محمد بن رافع عن محمد بن المثنى عن الليث عن ابن شهاب به وأما رواية أبي صالح عن الليث بهذا الحديث

(1/67)


فأخرجها يعقوب بن سفيان في تاريخه عنه مقرونا بيحيى بن بكير قوله وتابعه هلال بن رداد أي تابع عقيل بن خالد هلال بن رداد عن محمد بن مسلم الزهري فإن قلت كيف أعيد الضمير المنصوب في وتابعه إلى عقيل وربما يتوهم أنه عائد إلى أبي صالح أو إلى عبد الله بن يوسف لكونهما قريبين منه قلت قوله عند الزهري هو الذي عين عود الضمير إلى عقيل ودفع التوهم المذكور لأن الذي روى عن الزهري في الحديث المذكور هو عقيل والحاصل أن هلال بن رداد روى الحديث المذكور عن الزهري كما رواه عقيل بن خالد عنه وحديثه في الزهريات للذهلي وهذا أول موضع جاء فيه ذكر المتابعة والفرق بين المتابعتين أن المتابعة الأولى أقوى لأنها متابعة تامة والمتابعة الثانية أدنى من الأولى لأنها متابعة ناقصة فإذا كان أحد الراويين رفيقا للآخر من أول الإسناد إلى آخره تسمى بالمتابعة التامة وإذا كان رفيقا له لا من الأول يسمى بالمتابعة الناقصة ثم النوعان ربما يسمى المتابع عليه فيهما وربما لا يسمى ففي المتابعة الأولى لم يسم المتابع عليه وهو الليث وفي الثانية يسمى المتابع عليه وهو الزهري فقد وقع في هذا الحديث المتابعة التامة والمتابعة الناقصة ولم يسم المتابع عليه في الأولى وسماه في الثانية على ما لا يخفى وقال النووي ومما يحتاج إليه المعتني بصحيح البخاري
( فائدة ) ننبه عليها وهي أنه تارة يقول تابعه مالك عن أيوب وتارة يقول تابعه مالك ولا يزيد فإذا قال مالك عن أيوب فهذا ظاهر وأما إذا اقتصر على تابعه مالك فلا يعرف لمن المتابعة إلا من يعرف طبقات الرواة ومراتبهم وقال الكرماني فعلى هذا لا يعلم أن عبد الله يروي عن الليث أو عن غيره قلت الطريقة في هذا أن تنظر طبقة المتابع بكسر الباء فتجعله متابعا لمن هو في طبقته بحيث يكون صالحا لذلك ألا ترى كيف لم يسم البخاري المتابع عليه في المتابعة الأولى وسماه في الثانية فافهم قوله وقال يونس ومعمر بوادره مراده أن أصحاب الزهري اختلفوا في هذه اللفظة فروى عقيل عن الزهري في الحديث يرجف فؤاده كما مضى وتابعه على هذه اللفظة هلال بن رداد وخالفه يونس ومعمر فروى عن الزهري يرجف فؤاده
( بيان رجاله ) وهم ستة الأول عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري وقد ذكر الثاني أبو صالح قال أكثر الشراح هو عبد الغفار بن داود بن مهران بن زياد بن داود بن ربيعة بن سليمان بن عمير البكري الحراني ولد بأفريقية سنة أربعين ومائة وخرج به أبوه وهو طفل إلى البصرة وكانت أمه من أهلها فنشأ بها وتفقه وسمع الحديث من حماد بن سلمة ثم رجع إلى مصر مع أبيه وسمع من الليث بن سعد وابن لهيعة وغيرهما وسمع بالشام إسماعيل بن عياش وبالجزيرة موسى بن أعين واستوطن مصر وحدث بها وكان يكره أن يقال له الحراني وإنما قيل له الحراني لأن أخويه عبد الله وعبد الرحمن ولدا بها ولم يزالا بها وحزان مدينة بالجزيرة من ديار بكر واليوم خراب سميت بحران بن آزر أخي إبراهيم عليه الصلاة و السلام روى عنه يحيى بن معين والبخاري وروى أبو داود عن رجل عنه وخرج له النسائي وابن ماجه ومات بمصر سنة أربع وعشرين ومائتين وقال بعضهم هذا وهم وإنما هو أبو صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث المصري ولم يتبين لي وجهه في الترجيح لأن البخاري روى عن كليهما الثالث هلال بن رداد براء ثم دالين مهملتين الأولى منهما مشددة وهو طائي حمصي أخرج البخاري هنا متابعة لعقيل وليس له ذكر في البخاري إلا في هذا الموضع ولم يخرج له باقي الكتب الستة روى عن الزهري وعنه ابنه أبو القاسم محمد قال الذهلي كان كاتبا لهشام ولم يذكره البخاري في تاريخه ولا ابن أبي حاتم في كتابه وإنما ذكر ابن أبي حاتم ثم ولده محمدا إذ ليس له ذكر في الكتب الستة قال ابن أبي حاتم هلال بن رداد مجهول ولم يذكره الكلاباذي في رجال الصحيح رأسا الرابع محمد بن مسلم الزهري وقد مر ذكره الخامس يونس بن يزيد بن مشكان بن أبي النجاد بكسر النون الأيلي بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف القرشي مولى معاوية ابن أبي سفيان سمع خلقا من التابعين منهم القاسم وعكرمة وسالم ونافع والزهري وغيرهم وعنه الأعلام جرير بن حازم وهو تابعي فهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر والأوزاعي والليث وخلق مات سنة تسع وخمسين ومائة بمصر روى له الجماعة وفي يونس ستة أوجه ضم النون وكسرها وفتحها مع الهمزة وتركها والضم بلا همزة أفصح السادس أبو عروة معمر بن أبي عمرو بن راشد الأزدي الحراني مولاهم عالم اليمن شهد جنازة

(1/68)


الحسن البصري وسمع خلقا من التابعين منهم عمرو بن دينار وأيوب وقتادة وعنه جماعة من التابعين منهم عمرو بن دينار وأبو إسحاق السبيعي وأيوب ويحيى بن أبي كثير وهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر قال عبد الرزاق سمعت منه عشرة آلاف حديث مات باليمن سنة أربع أو ثلاث أو اثنتين وخمسين ومائة عن ثمان وخمسين سنة وله أوهام كثيرة احتملت له قال أبو حاتم صالح الحديث وما حدث به بالبصرة ففيه أغاليط وضعفه يحيى بن معين في رواية عن ثابت ومعمر بفتح الميمين وسكون العين وليس في الصحيحين معمر بن راشد غير هذا بل ليس فيهما من اسمه معمر غيره نعم في صحيح البخاري معمر بن يحيى بن سام الضبي وقيل إنه بتشديد الميم روى له البخاري حديثا واحدا في الغسل وفي الصحابة معمر ثلاثة عشر وفي الرواة معمر في الكتب الأربعة ستة وفيها معمر بالتشديد بخلف خمسة وفي غيرها خلق معمر بن بكار شيخ لمطين في حديثه وهم ومعمر بن أبي سرح مجهول ومعمر بن الحسن الهذلي مجهول وحديثه منكر ومعمر بن زائدة لا يتابع على حديثه ومعمر بن زيد مجهول ومعمر بن أبي سرح مجهول ومعمر بن عبد الله عن شعبة لا يتابع على حديثه والله أعلم
( فائدة ) أبو صالح في الرواة في مجموع الكتب الستة أربعة عشر أبو صالح عبد الغفار أبو صالح عبد الله بن صالح وقد ذكرناهما أبو صالح الأشعري الشامي أبو صالح الأشعري أيضا ويقال الأنصاري أبو صالح الحارثي أبو صالح الحنفي اسمه عبد الرحمن بن قيس ويقال أنه ماهان أبو صالح الحوري لا يعرف اسمه أبو صالح السمان اسمه ذكوان أبو صالح الغفاري سعيد بن عبد الرحمن أبو صالح المكي محمد بن زنبور روى عن عيسى بن يونس أبو صالح مولى طلحة بن عبد الله القرشي التيمي أبو صالح مولى عثمان بن عفان أبو صالح مولى ضباعة اسمه مينا أبو صالح مولى أم هانىء اسمه باذان وكلهم تابعيون خلا ابن زنبور وكاتب الليث وبعضهم عد الأخير صحابيا وله حديث رواه الحسن بن سفيان في مسنده وليس في الصحابة على تقدير صحته من يكنى بهذه الكنية غيره وأما في غير الكتب الستة فإنهم جماعة فوق العشرة بينهم الرامهرمزي في فاصله قوله بوادره بفتح الباء الموحدة جمع بادرة وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق تضطرب عند فزع الإنسان وقال أبو عبيدة تكون من الإنسان وغيره وقال الأصمعي الفريصة اللحمة التي بين الجنب والكتف التي لا تزال ترعد من الدابة وجمعها فرائص وقال ابن سيده في المخصص البادرتان من الإنسان لحمتان فوق الرغثاوين وأسفل التندوة وقيل هما جانبا الكركرة وقيل هما عرقان يكتنفانها قال والبادرة من الإنسان وغيره وقال الهجري في أماليه ليست للشاة بادرة ومكانها مردغة للشاة وهما الأرتبان تحت صليفي العنق لا عظم فيهما وادعى الداودي أن البوادر والفؤاد واحد قلت الرغثاوان بضم الراء وسكون الغين المعجمة بعدها ثاء مثلثة قال الليث الرغثاوان مضيفتان بين التندوة والمنكب بجانبي الصدر وقال شهر الرغثاء ما بين الإبط إلى أسفل الثدي مما يلي الإبط وكذلك قاله ابن الأعرابي قوله مردغة بفتح الميم وسكون الراء وفتح الدال المهملة والغين المعجمة وهي واحدة المرادغ قال أبو عمر وهي ما بين العنق إلى الترقوة قوله صليفي العنق بفتح الصاد المهملة وكسر اللام وبالفاء قال أبو زيد الصليفان رأسا الفقرة التي تلي الرأس من شقيهما
4 - ( حدثنا موسى بن إسمعيل قال حدثنا أبو عوانة قال حدثنا موسى بن أبي عائشة قال حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) قال كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه فقال ابن عباس فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله يحركهما وقال سعيد أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه فأنزل الله تعالى ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ) قال جمعه له في صدرك وتقرأه ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) قال فاستمع له

(1/69)


وأنصت ( ثم إن علينا بيانه ) ثم إن علينا أن تقراه فكان رسول الله بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي كما قراه
المناسبة بين الحديثين ظاهرة لأن المذكور فيما مضى هو ذات بعض القرآن وههنا التعرض إلى بيان كيفية التلقين والتلقن وقدم ذلك لأن الصفات تابعة للذوات
( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول أبو سلمة موسى بن إسماعيل المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف نسبة إلى منقر ابن عبيد بن مقاعس البصري الحافظ الكبير المكثر الثبت الثقة التبوذكي بفتح التاء المثناة من فوق وضم الباء الموحدة ثم واو ساكنة ثم ذال معجمة مفتوحة نسبة إلى تبوذك نسب إليه لأنه نزل دار قوم من أهل تبوذك قاله ابن أبي خيثمة وقال أبو حاتم لأنه اشترى دارا بتبوذك وقال السمعاني نسبة إلى بيع السماد بفتح السين المهملة وهو السرجين يوضع في الأرض ليجود نباته وقال ابن ناصر نسبة إلى بيع ما في بطون الدجاج من الكبد والقلب والقانصة توفي في رجب سنة ثلاث وعشرين ومائتين بالبصرة روى عنه يحيى بن معين والبخاري وأبو داود وغيرهم من الأعلام وروى له مسلم والترمذي عن رجل عنه والذي رواه مسلم حديث واحد حديث أم زرع رواه عن الحسن الحلواني عنه قال الداودي كتبنا عنه خمسة وثلاثين ألف حديث الثاني أبو عوانة بفتح العين المهملة والنون واسمه الوضاح بن عبد الله اليشكري بضم الكاف ويقال الكندي الواسطي مولى يزيد بن عطاء البزار الواسطي وقيل مولى عطاء بن عبد الله الواسطي كان من سبي جرجان رأى الحسن وابن سيرين وسمع من محمد بن المنكدر حديثا واحدا وسمع خلقا بعدهم من التابعين وأتباعهم وروى عنه الأعلام منهم شعبة ووكيع وابن مهدي قال عفان كان صحيح الكتاب ثبتا وقال ابن أبي حاتم كتبه صحيحة وإذا حدث من حفظه غلط كثيرا وهو صدوق مات سنة ست وسبعين ومائة وقيل سنة خمس وسبعين الثالث موسى بن أبي عائشة أبو الحسن الكوفي الهمداني بالميم الساكنة والدال المهملة مولى آل جعدة بفتح الجيم ابن أبي هبيرة بضم الهاء روى عن كثير من التابعين وعنه الأعلام الثوري وغيره ووثقه السفيانان ويحيى والبخاري وابن حبان وأبو عائشة لا يعرف اسمه الرابع سعيد بن جبير بضم الجيم وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف ابن هشام الكوفي الأسدي الوالبي بكسر اللام وبالباء الموحدة منسوب إلى بني والبة بالولاء ووالبة هو ابن الحرث بن ثعلبة بن دودان بدالين مهملتين وضم الأولى ابن أسد بن خزيمة إمام مجمع عليه بالجلالة والعلو في العلم والعظم في العبادة قتله الحجاج صبرا في شعبان سنة خمس وتسعين ولم يعش الحجاج بعده إلا أياما ولم يقتل أحدا بعده سمع خلقا من الصحابة منهم العبادلة غير عبد الله بن عمرو وعنه خلق من التابعين منهم الزهري وكان يقال له جهبذ العلماء الخامس عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو العباس الهاشمي ابن عم رسول الله وأمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحرث أخت ميمونة أم المؤمنين كان يقال له الحبر والبحر لكثرة علمه وترجمان القرآن وهو واحد الخلفاء وأحد العبادلة الأربعة وهم عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص وقول الجوهري في الصحاح بدل ابن العاص ابن مسعود مردود عليه لأنه منابذ لما قال أعلام المحدثين كالإمام أحمد وغيره وقال أحمد ستة من الصحابة أكثروا الرواية عن رسول الله أبو هريرة وابن عباس وابن عمرو وعائشة وجابر بن عبد الله وأنس رضي الله تعالى عنهم وأبو هريرة أكثرهم حديثا روى ابن عباس عن النبي ألف حديث وستمائة وستين حديثا اتفقا منها على خمسة وتسعين حديثا وانفرد البخاري بمائة وعشرين ومسلم بتسعة وأربعين ولد بالشعب قبل الهجرة بثلاث سنين وتوفي النبي وهو ابن ثلاث عشرة سنة وقال أحمد خمس عشرة سنة والأول هو المشهور مات بالطائف سنة ثمان وستين وهو ابن إحدى وسبعين سنة على الصحيح في أيام ابن الزبير وصلى عليه محمد بن الحنفية وقد عمي في آخر عمره رضي الله تعالى عنه
( بيان لطائف إسناده ) منها أنه كله على شرط الستة ومنها أن رواته ما بين مكي وكوفي وبصري ووسطي ومنها

(1/70)


أنهم كلهم من الأفراد لا أعلم من شاركهم في اسمهم مع اسم أبيهم ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي وهما موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير
( بيان تعدد الحديث ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري هنا عن موسى بن إسمعيل وأبي عوانة وفي التفسير وفضائل القرآن عن قتيبة عن جرير كلهم عن موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير وأخرجه مسلم في الصلاة عن إسحاق بن إبراهيم وقتيبة وغيرهما عن جرير وعن قتيبة عن أبي عوانة كلاهما عن موسى بن أبي عائشة به ولمسلم فإذا ذهب قرأه كما وعد الله وللبخاري في التفسير ووصف سفيان يريد أن يحفظه وفي أخرى يخشى أن ينفلت منه ولمسلم في الصلاة لتعجل به أخذه ( إن علينا جمعه وقرآنه ) إن علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه فتقرأه فإذا أقرأناه فاتبع قرآنه قال أنزلناه فاستمع له إن علينا أن نبينه بلسانك رواه الترمذي من حديث سفيان بن عيينة عن موسى عن سعيد عن ابن عباس قال كان رسول الله إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه يريد أن يحفظه فأنزل الله تعالى ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) قال فكان يحرك به شفتيه وحرك سفيان شفتيه ثم قال حديث حسن صحيح
( بيان اللغات ) قوله يعالج أي يحاول من تنزيل القرآن عليه شدة ومنه ما جاء في حديث آخر ولى حره وعلاجه أي عمله وتعبه ومنه قوله من كسبه وعلاجه أي من محاولته وملاطفته في اكتسابه ومنه معالجة المريض وهي ملاطفته بالدواء حتى يقبل عليه والمعالجة الملاطفة في المراودة بالقول والفعل ويقال محاولة الشيء بمشقة قوله فأنزل الله تعالى لا تحرك به أي بالقرآن وقال الزمخشري رحمه الله وكان رسول الله إذا لقن الوحي نازع جبريل عليه السلام القراءة ولم يصير إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفا من أن يتفلت منه فأمر بأن يستنصت له ملقيا إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي إليه وحيه ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه والمعنى ( لا تحرك به لسانك ) بقراءة الوحي مادام جبريل عليه السلام يقرؤ لتعجل به لتأخذ به على عجلة ولئلا يتفلت منه ثم علل النهي عن العجلة بقوله ( إن علينا جمعه ) في صدرك وإثبات قراءته في لسانك قال الزمخشري ( فإذا قرأناه ) جعل قراءة جبريل قراءته والقرآن القراءة ( فاتبع قرآنه ) فكن معقبا له فيه ولا تراسله وطأ من نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ فنحن في ضمان تحفيظه ( ثم إن علينا بيانه ) إذا أشكل عليك شيء من معانيه كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعا كما ترى بعض الحراص على العلم ونحوه ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه ) قوله قال أي ابن عباس في تفسير جمعه أي جمع الله لك في صدرك وقال في تفسير وقرآنه أي تقرأه يعني المراد بالقرآن القراءة لا الكتاب المنزل على محمد للإعجاز بسورة منه أي أنه مصدر لا علم للكتاب قوله فاستمع هو تفسير فاتبع يعني قراءتك لا تكون مع قراءته بل تابعة لها متأخرة عنها فتكون أنت في حال قراءته ساكتا والفرق بين السماع والاستماع أنه لا بد في باب الافتعال من التصرف والسعي في ذلك الفعل ولهذا ورد في القرآن ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) بلفظ الاكتساب في الشر لأنه لا بد فيه من السعي بخلاف الخير فالمستمع هو المصغي القاصد للسماع وقال الكرماني عقيب هذا الكلام وقال الفقهاء تسن سجدة التلاوة للمستمع لا للسامع قلت هذا لا يمشي على مذهب الحنفية فإن قصد السماع ليس بشرط في وجوب السجدة مع أن هذا يخالف ما جاء في الحديث ( السجدة على من تلاها وعلى من سمعها ) قوله وانصت همزته همزة القطع قال تعالى ( فاستمعوا له وأنصتوا ) وفيه لغتان أنصت بكسر الهمزة وفتحها فالأولى من نصت ينصت نصتا والثانية من أنصت ينصت إنصاتا إذا سكت واستمع للحديث يقال انصتوه وانصتوا له وأنصت فلان فلانا إذا أسكته وانتصت سكت وذكر الأزهري في نصت وأنصت وانتصت الكل بمعنى واحد قوله ( ثم إن علينا بيانه ) فسره بقوله ثم إن علينا أن تقرأ وفي مسلم أن تبينه بلسانك وقيل بحفظك إياه وقيل بيان ما وقع فيه من حلال وحرام حكاه القاضي قوله جبريل عليه السلام هو ملك الوحي إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام الموكل بإنزال العذاب والزلازل والدمادم ومعناه عبد الله بالسريانية لأن جبر عبد بالسريانية وأيل اسم من أسماء الله تعالى وروى عبد بن حميد في تفسيره عن عكرمة أن اسم جبريل عبد الله واسم ميكائيل عبيد الله وقال السهيلي جبريل سرياني ومعناه عبد الرحمن أو عبد العزيز كما جاء عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا والموقوف أصح وذهبت

(1/71)


طائفة إلى أن الإضافة في هذه الأسماء مقلوبة فأيل هو العبد وأوله اسم من أسماء الله تعالى والجبر عند العجم هو إصلاح ما فسد وهي توافق معناه من جهة العربية فإن في الوحي إصلاح ما فسد وجبر ما وهي من الدين ولم يكن هذا الاسم معروفا بمكة ولا بأرض العرب ولهذا أنه لما ذكره لخديجة رضي الله عنها انطلقت لتسأل من عنده علم من الكتاب كعداس ونسطور الراهب فقالا قدوس قدوس ومن أين هذا الاسم بهذه البلاد ورأيت في أثناء مطالعتي في الكتب أن اسم جبريل عليه الصلاة و السلام عبد الجليل وكنيته أبو الفتوح واسم ميكائيل عبد الرزاق وكنيته أبو الغنائم واسم إسرافيل عبد الخالق وكنيته أبو المنافخ واسم عزرائيل عبد الجبار وكنيته أبو يحيى وقال الزمخشري قرىء جبرئيل فعليل وجبرئل بحذف الياء وجبريل بحذف الهمزة وجبريل بوزن قنديل وجبرال بلام مشددة وجبرائيل بوزن جبراعيل وجبرايل بوزن جبراعل ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة قلت هذه سبع لغات وذكر فيه ابن الأنباري تسع لغات منها سبعة هذه والثامنة جبرين بفتح الجيم وبالنون بدل اللام والتاسعة جبرين بكسر الجيم وبالنون أيضا وقرأ ابن كثير جبريل بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بفتح الجيم والراء مهموزا والباقون بكسر الجيم والراء غير مهموز
( بيان الإعراب ) قوله يعالج في محل النصب لأنه خبر كان قوله شدة بالنصب مفعول يعالج وقال الكرماني يجوز أن يكون مفعولا مطلقا له أي يعالج معالجة شديدة قلت فعلى هذا يحتاج إلى شيئين أحدهما تقدير المفعول به ليعالج والثاني تأويل الشدة بالشديدة وتقدير الموصوف لها فافهم قوله وكان مما يحرك شفتيه اختلفوا في معنى هذا الكلام وتقديره فقال القاضي معناه كثيرا ما كان يفعل ذلك قال وقيل معناه هذا من شأنه ودأبه فجعل ما كناية عن ذلك ومثله قوله في كتاب الرؤيا كان مما يقول لأصحابه من رأى منكم رؤيا أي هذا من شأنه وأدغم النون في ميم ما وقال بعضهم معناه ربما لأن من إذا وقع بعدها ما كانت بمعنى ربما قاله الشيرازي وابن خروف وابن طاهر والأعلم وأخرجوا عليه قول سيبويه وأعلم أنهم مما يحذفون كذا وأنشدوا قول الشاعر ( وإنا لمما نضرب الكبش ضربة
على رأسه نلقى اللسان من الفم )
وقال الكرماني أي كان العلاج ناشئا من تحريك الشفتين أي مبدأ العلاج منه أو بمعنى من إذ قد تجىء للعقلاء أيضا أي وكان ممن يحرك شفتيه وقال بعضهم فيه نظر لأن الشدة حاصلة له قبل التحريك قلت في نظره نظر لأن الشدة وإن كانت حاصلة له قبل التحريك ولكنها ما ظهرت إلا بتحريك الشفتين لأن هذا أمر مبطن ولم يقف عليه الراوي إلا بالتحريك ثم استصوب ما نقل من هؤلاء من المعنى المذكور ومع هذا فيه خدش لأن من في البيت وفي كلام سيبويه ابتدائية وما فيهما مصدرية وأنهم جعلوا كأنهم خلقوا من الضرب والحذف مثل ( خلق الإنسان من عجل ) ثم الضمير في كان على قولهم يرجع إلى النبي وعلى تأويل الكرماني يرجع إلى العلاج الذي يدل عليه قوله يعالج والأصوب أن يكون الضمير للرسول ويجوز هنا تأويلان آخران أحدهما أن تكون كلمة من للتعليل وما مصدرية وفيه حذف والتقدير وكان يعالج أيضا من أجل تحريك شفتيه ولسانه كما جاء في رواية أخرى للبخاري في التفسير من طريق جرير عن موسى ابن أبي عائشة لفظة كان رسول الله إذا نزل جبريل بالوحي فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه وتحريك اللسان مع الشفتين مع طول القراءة لا يخلو عن معالجة الشدة والآخر أن يكون كان بمعنى وجد بمعنى ظهر وفيه ضمير يرجع إلى العلاج والتقدير وظهر علاجه الشدة من تحريك شفتيه قوله فأنزل الله عطف على قوله كان يعالج قوله قال أي ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير جمعه أي جمع الله لك في صدرك وقال في تفسير وقرآنه أي تقرأه يعني المراد من القرآن القراءة كما ذكرناه عن قريب وفي أكثر الروايات جمعه لك صدرك وفي رواية كريمة والحموي ( جمعه لك في صدرك ) قال القاضي رواه الأصيلي بسكون الميم مع ضم العين ورفع الراء من صدرك ولأبي ذر جمعه لك في صدرك وعند النسفي جمعه لك صدرك فإن قلت إذا رفع الصدر بالجمع ما وجهه قلت يكون مجاز الملابسة الظرفية إذ الصدر ظرف الجمع فيكون مثل أنبت الربيع البقل فالتقدير جمع الله في صدرك

(1/72)


( بيان المعاني ) قوله كان رسول الله لفظة كان في مثل هذا التركيب تفيد الاستمرار وأعاده في قوله وكان مما يحرك مع تقدمه في قوله كان يعالج وهو جائز إذا طال الكلام كما في قوله تعالى ( أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا ) الآية وغيرها قوله فأنا أحركهما لك وفي بعض النسخ لكم وتقديم فاعل الفعل يشعر بتقوية الفعل ووقوعه لا محالة قوله فقال ابن عباس رضي الله عنه إلى قوله فأنزل الله جملة معترضة بالفاء وذلك جائز كما قال الشاعر ( واعلم فعلم المرء ينفعه
أن سوف يأتي كل ما قدرا )
فإن قلت ما فائدة الاعتراض قلت زيادة البيان بالوصف على القول فإن قلت كيف قال في الأول كان يحركهما وفي الثاني بلفظ رأيت قلت العبارة الأولى أعم من أنه رأى بنفسه تحريك رسول الله أم سمع أنه حركهما كذا قال الكرماني ولا حاجة إلى ذلك لأن ابن عباس رضي الله عنهما لم ير النبي في تلك الحالة لأن سورة القيامة مكية باتفاق ولم يكن ابن عباس إذ ذاك ولد لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين والظاهر أن نزول هذه الآيات كان في أول الأمر ولكن يجوز أن يكون النبي أخبره بذلك بعد أو أخبره بعض الصحابة أنه شاهد النبي وأما سعيد بن جبير فرأى ذلك من ابن عباس بلا خلاف ومثل هذا الحديث يسمى بالمسلسل بتحريك الشفة لكن لم يتصل بسلسلة وقل في المسلسل الصحيح وقال الكرماني فإن قلت القرآن يدل على تحريك رسول الله لسانه لا شفتيه فلا تطابق بين الوارد والمورود فيه قلت التطابق حاصل لأن التحريكين متلازمان غالبا أو لأنه كان يحرك الفم المشتمل على اللسان والشفتين فيصدق كل منهما وتبعه بعض الشراح على هذا وهذا تكلف وتعسف بل إنما هو من باب الاكتفاء والتقدير في التفسير من طريق جرير فكان مما يحرك شفتيه ولسانه كما في قوله تعالى ( سرابيل تقيكم الحر ) أي والبرد ويدل عليه رواية البخاري في التفسير من طريق جرير فكان مما يحرك لسانه وشفتيه والملازمة بين التحريكين ممنوعة على ما لا يخفى وتحريك الفم مستبعد بل مستحيل لأن الفم اسم لما يشتمل عليه الشفتان وعند الإطلاق لا يشتمل على الشفتين ولا على اللسان لا لغة ولا عرفا فافهم قوله كما كان قرأ وفي بعض النسخ كما كان قرأه بضمير المفعول أي كما كان قرأ القرآن وفي بعضها كما قرأ بدون لفظة كان
( الأسئلة والأجوبة ) منها ما قيل ما كان سبب معالجة الشدة وأجيب بأنه ما كان يلاقيه من الكد العظيم ومن هيبة الوحي الكريم قال تعالى ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) ومنها ما قيل ما كان سبب تحريك لسانه وشفتيه وأجيب بأنه كان يفعل ذلك لئلا ينسى وقال تعالى ( سنقرؤك فلا تنسى الأعلى ) وقال الشعبي إنما كان ذلك من حبه له وحلاوته في لسانه فنهى عن ذلك حتى يجتمع لأن بعضه مرتبط ببعضه ومنها ما قيل ما فائدة المسلسل من الأحاديث وأجيب بأن فائدته اشتماله على زيادة الضبط واتصال السماع وعدم التدليس ومثله حديث المصافحة ونحوها
( استنباط الأحكام ) منه الاستحباب للمعلم أن يمثل للمتعلم بالفعل ويريه الصورة بفعله إذا كان فيه زيادة بيان على الوصف بالقول ومنه أن أحدا لا يحفظ القرآن إلا بعون الله تعالى ومنه وفضله قال تعالى ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر القمر و22 ) ومنه فيه دلالة على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو مذهب أهل السنة وذلك لأن ثم تدل على التراخي كذا قاله الكرماني قلت تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع عند الكل إلا عند من جوز تكليف ما لا يطاق وأما تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فاختلفوا فيه فذهب الأكثرون إلى جوازه واختاره ابن الحاجب وقال الصيرفي والحنابلة ممتنع وقال الكرخي بالتفصيل وهو أن تأخيره عن وقت الخطاب ممتنع في غير المجمل كبيان التخصيص والتقييد والنسخ إلى غير ذلك وجائز في المجمل كالمشترك وقال الجبائي تأخير البيان عن وقت الخطاب ممتنع في غير النسخ وجائز في النسخ
5 - ( حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري ح وحدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال كان رسول الله أجود الناس وكان أجود

(1/73)


ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة ) وجه مناسبة إيراد هذا الحديث في هذا الباب هو أن فيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في رمضان فكان جبريل عليه السلام يتعاهده في كل سنة فيعارضه بما نزل عليه فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه به مرتين كما ثبت في الصحيح عن فاطمة رضي الله عنها وعن زوجها وصلى الله على أبيها وكان هذا من أحكام الوحي والباب في الوحي
( بيان رجاله ) وهم ثمانية تقدم منهم ابن عباس والزهري ومعمر ويونس فبقيت أربعة الأول عبدان بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة وبالدال المهملة وهو لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد ميمون وقيل أيمن العتكي بالعين المهملة المفتوحة وبالتاء المثناة من فوق أبو عبد الرحمن المروزي مولى المهلب بفتح اللام المشددة ابن أبي صفرة بضم الصاد المهملة سمع مالكا وحماد بن زيد وغيرهما من الأعلام روى عنه الذهلي والبخاري وغيرهما وروى مسلم وأبو داود والنسائي عن رجل عنه مات سنة إحدى أو اثنين وعشرين أو عشرين ومائتين عن ست وسبعين سنة وعبدان لقب جماعة أكبرهم هذا وعبدان أيضا ابن بنت عبد العزيز بن أبي رواد وقال ابن طاهر إنما قيل له ذلك لأن كنيته أبو عبد الرحمن واسمه عبد الله فاجتمع من اسمه وكنيته عبدان وقال بعض الشارحين وهذا لا يصح بل ذاك من تغيير العامة للأسامي وكسرهم لها في زمن صغر المسمى أو نحو ذلك كما قالوا في علي علان وفي أحمد بن يوسف السلمي وغيره حمدان وفي وهب بن بقية الواسطي وهبان قلت الذي قاله ابن طاهر هو الأوجه لأن عبدان تثنية عبد ولما كان أول اسمه عبد وأول كنيته عبد قيل عبدان الثاني عبد الله هو ابن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم المروزي الإمام المتفق على جلالته وإمامته وورعه وسخائه وعبادته الثقة الحجة الثبت وهو من تابعي التابعين وكان أبوه تركيا مملوكا لرجل من همدان وأمه خوارزمية ولد سنة ثمان عشرة ومائة ومات في رمضان سنة إحدى وثمانين بهيت في العراق منصرفا من الغزو وهيت بكسر الهاء وفي آخره تاء مثناة من فوق مدينة على شاطىء الفرات سميت بذلك لأنها في هوة وعبد الله بن المبارك هذا من أفراد الكتب الستة ليس فيها من يسمى بهذا الاسم نعم في الرواة غيره خمسة أحدهم بغدادي حدث عن همام الثاني خراساني وليس بالمعروف الثالث شيخ روى عنه الأثرم الرابع جوهري روى عن أبي الوليد الطيالسي الخامس بزار روى عنه سهل البخاري الثالث بشر بكسر الباء الموحدة والشين المعجمة الساكنة ابن محمد أبو محمد المروزي السختياني روى عنه البخاري منفردا به عن باقي الكتب الستة هنا وفي التوحيد وفي الصلاة وغيرها ذكره ابن حبان في ثقاته وقال كان مرجئا مات سنة أربع وعشرين ومائتين الرابع عبيد الله بلفظ التصغير في عبد بن عبد الله بن عتبة بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق وفتح الباء الموحدة ابن مسعود بن غافل بالغين المعجمة ابن حبيب بن شمخ بن فار بالفاء وتخفيف الراء بن مخزوم ابن طاهلة بن كاهل بكسر الهاء بن الحرث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر الهذلي المدني الإمام الجليل التابعي أحد الفقهاء السبعة سمع خلقا من الصحابة منهم ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وعنه جمع من التابعين وهو معلم عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وكان قد ذهب بصره توفي سنة تسع أو ثمان أو خمس أو أربع وتسعين
( بيان تعدد الحديث ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري في خمسة مواضع هنا كما ترى وفي صفة النبي عن عبدان أيضا عن ابن المبارك عن يونس وفي الصوم عن موسى بن إبراهيم وفي فضائل القرآن عن يحيى بن قزعة عن إبراهيم وفي بدأ الخلق عن ابن مقاتل عن عبد الله عن يونس عن الزهري وأخرجه مسلم في فضائل النبي عن أربعة عن منصور بن أبي مزاحم وأبي عمران محمد بن جعفر عن إبراهيم وعن أبي كريب عن ابن المبارك عن يونس وعن عبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر ثلاثتهم عن الزهري به
( بيان لطائف إسناده ) منها أنه اجتمع فيه عدة مراوزة ابن المبارك وراوياه ومنها أن البخاري حدث الحديث

(1/74)


هذا عن الشيخين عبدان وبشر كليهما عن عبد الله بن المبارك والشيخ الأول ذكر لعبد الله شيخا واحدا وهو يونس والثاني ذكر له الشيخين يونس ومعمرا أشار إليه بقوله ومعمر نحوه أي نحو حديث يونس نحوه باللفظ وعن معمر بالمعنى ولأجل هذا زاد فيه لفظ نحوه ومنها زيادة الواو في قوله وحدثنا بشر وهذا يسمى واو التحويل من إسناد إلى آخر ويعبر عنها غالبا بصورة ( ح ) مهملة مفردة وهكذا وقع في بعض النسخ وقال النووي وهذه الحاء كثيرة في صحيح مسلم قليلة في صحيح البخاري انتهى وعادتهم أنه إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد ذلك مسمى ( ح ) أي حرف الحاء فقيل أنها مأخوذة من التحول لتحوله من إسناد إلى إسناد وأنه يقول القارىء إذا انتهى إليها حاء مقصورة ويستمر في قراءة ما بعده وفائدته أن لا يركب الإسناد الثاني مع الإسناد الأول فيجعلا إسنادا واحدا وقيل أنها من حال بين الشيئين إذا حجز لكونها حالة بين الإسنادين وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشيء وقيل أنها رمز إلى قوله الحديث فأهل المغرب يقولون إذا وصلوا إليها الحديث وقد كتب جماعة من الحفاظ موضعها ( صح ) فيشعر بأنها رمز صح لئلا يتوهم أنه سقط متن الإسناد الأول
( بيان اللغات ) قوله أجود الناس هو أفعل التفضيل من الجود وهو العطاء أي أعطى ما ينبغي لمن ينبغي ومعناه هو أسخى الناس لما كانت نفسه أشرف النفوس ومزاجه أعدل الأمزجة لا بد أن يكون فعله أحسن الأفعال وشكله أملح الأشكال وخلقه أحسن الأخلاق فلا شك بكونه أجود وكيف لا وهو مستغن عن الفانيات بالباقيات الصالحات قوله في رمضان أي شهر رمضان قال الزمخشري الرمضان مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء فأضيف إليه الشهر وجعل علما ومنع من الصرف للتعريف والألف والنون وسموه بذلك لارتماضهم فيه من حر الجوع ومقاساة شدته قوله فيدارسه من المدارسة من باب المفاعلة من الدرس وهو القراءة على سرعة وقدرة عليه من درست الكتاب أدرسه وأدرسه وقرأ أبو حيوة ( وبما كنتم تدرسون ) مثال تجلسون درسا ودراسة قال الله تعالى ( ودرسوا ما فيه ) وأدرس الكتاب قرأه مثل درسه وقرأ أبو حيوة ( وبما كنتم تدرسون ) من الإدراس ودرس الكتب تدريسا شدد للمبالغة ومنه مدرس المدرسة والمدارسة المقارأة وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( وليقولوا دارست ) أي قرأت على اليهود وقرأوا عليك وههنا لما كان النبي وجبريل عليه السلام يتناوبان في قراءة القرآن كما هو عادة القراء بأن يقرأ مثلا هذا عشرا والآخر عشرا أتى بلفظة المدارسة أو أنهما كانا يتشاركان في القراءة أي يقرآن معا وقد علم أن باب المفاعلة لمشاركة اثنين نحو ضاربت زيدا وخاصمت عمرا قوله الريح المرسلة بفتح السين أي المبعوثة لنفع الناس هذا إذا جعلنا اللام في الريح للجنس وأن جعلناها للعهد يكون المعنى من الريح المرسلة للرحمة قال تعالى ( وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ) وقال تعالى ( والمرسلات عرفا ) أي الرياح المرسلات للمعروف على أحد التفاسير
( بيان الإعراب ) قوله أجود الناس كلام إضافي منصوب لأنه خبر كان قوله وكان أجود ما يكون يجوز في أجود الرفع والنصب أما الرفع فهو أكثر الروايات ووجهه أن يكون اسم كان وخبره محذوف حذفا واجبا لأنه نحو قولك أخطب ما يكون الأمير قائما ولفظة ما مصدرية أي أجود أكوان الرسول وقوله في رمضان في محل النصب على الحال واقع موقع الخبر الذي هو حاصل أو واقع وقوله حين يلقاه حال من الضمير الذي في حاصل المقدر فهو حال عن حال ومثلهما يسمى بالحالين المتداخلتين والتقدير كان أجود أكوانه حاصلا في رمضان حال الملاقاة ووجه آخر أن يكون في كان ضمير الشان وأجود ما يكون أيضا كلام إضافي مبتدأ وخبره في رمضان والتقدير كان الشأن أجود أكوان رسول الله في رمضان أي حاصل في رمضان عند الملاقاة ووجه آخر أن يكون الوقت فيه مقدرا كما في مقدم الحاج والتقدير كان أجود أوقات كونه وقت كونه في رمضان وإسناد الجود إلى أوقاته على سبيل المبالغة كأسناد الصوم إلى النهار في نحو نهاره صائم وأما النصب فهو رواية الأصيلي ووجهه أن يكون خبر كان واعترض عليه بأنه يلزم من ذلك أن يكون خبرها هو اسمها وأجاب بعضهم عن ذلك بأن يجعل اسم

(1/75)


كان ضمير النبي وأجود خبرها والتقدير وكان رسول الله مدة كونه في رمضان أجود منه في غيره قلت هذا لا يصح لأن كان إذا كان فيه ضمير النبي لا يصح أن يكون أجود خبرا لكان لأنه مضاف إلى الكون ولا يخبر بكون عما ليس بكون فيجب أن يجعل مبتدأ وخبره في رمضان والجملة خبر كان وإن استتر فيه ضمير الشأن فظاهر فافهم وقال النووي الرفع أشهر ويجوز فيه النصب قلت من جملة مؤكدات الرفع وروده بدون كان في صحيح البخاري في باب الصوم قوله وكان يلقاه قال الكرماني يحتمل كون الضمير المرفوع لجبريل عليه السلام والمنصوب للرسول وبالعكس قلت الراجح أن يكون الضمير المرفوع لجبريل عليه السلام بقرينة قوله حين يلقاه جبريل قوله فيدارسه عطف على قوله يلقاه وقوله القرآن بالنصب لأنه المفعول الثاني للمدارسة إذ الفعل المتعدي إذا نقل إلى باب المفاعلة يصير متعديا إلى اثنين نحو جاذبته الثوب قوله فلرسول الله مبتدأ وخبره قوله أجود واللام فيه مفتوحة لأنه لام الابتداء زيد على المبتدأ للتأكيد
( الأسئلة والأجوبة ) منها ما قيل أن ههنا أربع جمل فما الجهة الجامعة بينها وأجيب بأن المناسبة بين الجمل الثلاث وهي قوله كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان و فلرسول الله الخ ظاهرة لأنه أشار بالجملة الأولى إلى أنه أجود الناس مطلقا وأشار بالثانية إلى أن جوده في رمضان يفضل على جوده في سائر أوقاته وأشار بالثالثة إلى أن جوده في عموم النفع والإسراع فيه كالريح المرسلة وشبه عمومه وسرعة وصوله إلى الناس بالريح المنتشرة وشتان ما بين الأمرين فإن أحدهما يحيي القلب بعد موته والآخر يحيي الأرض بعد موتها وأما المناسبة بين الجملة الرابعة وهي قوله وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن وبين الجملة الباقية فهي أن جوده الذي في رمضان الذي فضل على جوده في غيره إنما كان بأمرين أحدهما بكونه في رمضان والآخر بملاقاته جبريل عليه الصلاة و السلام ومدارسته معه القرآن ولما كان ابن عباس رضي الله عنهما في صدد بيان أقسام جوده على سبيل تفضيل بعضه على بعض أشار فيه إلى بيان السبب الموجب لا على جوده وهو كونه في رمضان وملاقاته جبريل فإن قلت ما وجه كون هذين الأمرين سببا موجبا لأعلى جوده قلت أما رمضان فإنه شهر عظيم وفيه الصوم وفيه ليلة القدر وهو من أشرف العبادات فلذلك قال الصوم لي وأنا أجزي به فلا جرم يتضاعف ثواب الصدقة والخير فيه وكذلك العبادات وعن هذا قال الزهري تسبيحة في رمضان خير من سبعين في غيره وقد جاء في الحديث إنه يعتق فيه كل ليلة ألف ألف عتيق من النار وأما ملاقاة جبريل عليه السلام فإن فيها زيادة ترقيه في المقامات وزيادة اطلاعه على علوم الله سبحانه وتعالى ولا سيما عند مدارسته القرآن معه مع نزوله إليه في كل ليلة ولم ينزل إلى غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما نزل إليه فهذا كله من الفيض الإلهي الذي فتح لي في هذا المقام الذي لم يفتح لغيري من الشراح فلله الحمد والمنة ومنها ما قيل ما الحكمة في مدارسته القرآن في رمضان وأجيب بأنها كانت لتجديد العهد واليقين وقال الكرماني وفائدة درس جبريل عليه الصلاة و السلام تعليم الرسول بتجويد لفظه وتصحيح إخراج الحروف من مخارجها وليكون سنة في هذه الأمة كتجويد التلامذة على الشيوخ قراءتهم وأما تخصيصه رمضان فلكونه موسم الخيرات لأن نعم الله تعالى على عباده فيه زائدة على غيره وقيل الحكمة في المدارسة أن الله تعالى ضمن لنبيه أن لا ينساه فأقره بها وخص بذلك رمضان لأن الله تعالى أنزل القرآن فيه إلى سماء الدنيا جملة من اللوح المحفوظ ثم نزل بعد ذلك على حسب الأسباب في عشرين سنة وقيل نزلت صحف إبراهيم عليه السلام أول ليلة منه والتوراة لست والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين ومنها ما قيل المفهوم منه أن جبريل عليه الصلاة و السلام كان ينزل على النبي في كل ليلة من رمضان وهذا يعارضه ما روي في صحيح مسلم في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ وأجيب بأن المحفوظ في مسلم أيضا مثل ما في البخاري ولئن سلمنا صحة الرواية المذكورة فلا تعارض لأن معناه بمعنى الأول لأن قوله حتى ينسلخ بمعنى كل ليلة
( بيان استنباط الفوائد ) منها الحث على الجود والأفضال في كل الأوقات والزيادة منها في رمضان وعند الاجتماع

(1/76)


بالصالحين ومنها زيارة الصلحاء وأهل الفضل ومجالستهم وتكرير زيارتهم ومواصلتها إذا كان المزور لا يكره ذلك ومنها استحباب استكثار القراءة في رمضان ومنها استحباب مدارسة القرآن وغيره من العلوم الشرعية ومنها أنه لا بأس بأن يقال رمضان من غير ذكر شهر على الصحيح على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى ومنها أن القراءة أفضل من التسبيح وسائر الأذكار إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا لفعلاه دائما أو في أوقات مع تكرر اجتماعهما فإن قلت المقصود تجويد الحفظ قلت أن الحفظ كان حاصلا والزيادة فيه تحصل ببعض هذه المجالس
6 - ( حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشأم في المدة التي كان رسول الله ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال أبو سفيان فقلت أنا أقربهم نسبا فقال أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال كيف نسبه فيكم قلت هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله قلت لا قال فهل كان من آبائه من ملك قلت لا قال فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم فقلت بل ضعفاؤهم قال أيزيدون أم ينقصون قلت بل يزيدون قال فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قلت لا قال فهل يغدر قلت لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة قال فهل قاتلتموه قلت نعم قال فكيف كان قتالكم إياه قلت الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه قال ماذا يأمركم قلت يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة فقال للترجمان قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه

(1/77)


فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ثم دعا بكتاب رسول الله الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ( ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولو اشهدوا بأنا مسلمون ) قال أبو سفيان فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي حين اخرجنا لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام وكان ابن الناظور صاحب إيلياء وهرقل سقفا على نصارى الشأم يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس فقال بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك قال ابن الناظور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة قالوا ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله فلما استخبره هرقل قال اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن وسأله عن العرب فقال هم يختتنون فقال هرقل هذا ملك هذه الأمة قد ظهر ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي وأنه نبي فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال ردوهم علي وقال إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل

(1/78)


وجه مناسبة ذكر هذا الحديث في هذا الباب هو أنه مشتمل على ذكر جمل من أوصاف من يوحى إليهم والباب في كيفية بدء الوحي وأيضا فإن قصة هرقل متضمنة كيفية حال النبي في ابتداء الأمر وأيضا فإن الآية المكتوبة إلى هرقل والآية التي صدر بها الباب مشتملتان على أن الله تعالى أوحى إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بإقامة الدين وإعلان كلمة التوحيد يظهر ذلك بالتأمل
( بيان رجاله ) وهم ستة وقد ذكر الزهري وعبيد الله بن عبد الله وابن عباس وبقيت ثلاثة الأول أبو اليمان بفتح الياء آخر الحروف وتخفيف الميم واسمه الحكم بفتح الحاء المهملة والكاف ابن نافع بالنون والفاء الحمصي البهراني مولى امرأة من بهراء بفتح الباء الموحدة وبالمد يقال لها أم سلمة روى عن خلق منهم إسماعيل بن عياش وعنه خلائق منهم أحمد ويحيى بن معين وأبو حاتم والذهلي ولد سنة ثمان وثلاثين ومائة وتوفي سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومائتين وليس في الكتب الستة من اسمه الحكم بن نافع غير هذا وفي الرواة الحكم بن نافع آخر روى عنه الطبراني وهو قاضي القلزم والثاني شعيب بن أبي حمزة بالحاء المهملة والزاي دينار القرشي الأموي مولاهم أبو بشر الحمصي سمع خلقا من التابعين منهم الزهري وعنه خلق وهو ثقة حافظ متقن مات سنة اثنتين وقيل ثلاث وستين ومائة وقد جاوز السبعين وهذا الاسم مع أبيه من أفراد الكتب الستة ليس فيها سواه والثالث أبو سفيان واسمه صخر بالمهملة ثم بالمعجمة ابن حرب بالمهملة والراء وبالباء الموحدة ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي المكي ويكنى بأبي حنظلة أيضا ولد قبل الفيل بعشر وأسلم ليلة الفتح وشهد الطائف وحنينا وأعطاه النبي من غنائم حنين مائة من الإبل وأربعين أوقية وفقئت عينه الواحدة يوم الطائف والأخرى يوم اليرموك تحت راية ابنه يزيد فنزل بالمدينة ومات بها سنة إحدى وثلاثين وقيل سنة أربع وهو ابن ثمان وثمانين سنة وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو والد معاوية وأخته صفية بنت حزن بن بحير بن الهدم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة وهي عمة ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين روى عنه ابن عباس وابنه معاوية وأبو سفيان في الصحابة جماعة لكن أبو سفيان ابن حرب من الأفراد
( بيان الأسماء الواقعة فيه ) منهم هرقل بكسر الهاء وفتح الراء على المشهور وحكى جماعة إسكان الراء وكسر القاف كخندف منهم الجوهري ولم يذكر القزاز غيره وكذا صاحب المرغب ولما أنشد صاحب المحكم بيت لبيد بن ربيعة ( غلب الليالي خلف آل محرق
وكما فعلن بتبع وبهرقل )
بكسر الهاء وسكون الراء قال أراد هرقلا بفتح الراء فاضطر فغير والهرقل المنخل ودل هذا أن تسكين الراء ضرورة ليست بلغة وجاء في الشعر أيضا على المشهور كدينار الهرقلي أصفرا واحتج بعضهم في تسكين الراء بما أنشده أبو الفرج لدعبل بن علي الخزاعي في ابن عباد وزير المأمون ( أولى الأمور بضيعة وفساد
أمر يدبره أبو عباد )
( وكأنه من دير هرقل مفلت
فرد يجر سلاسل الأقياد )
قلت لا يحتج بدعبل في مثل هذا ولئن سلمنا يكون هذا أيضا للضرورة وزعم الجواليقي أنه عجمي تكلمت به العرب وهو اسم علم له غير منصرف للعلمية والعجمة ملك إحدى وثلاثين سنة ففي ملكه مات النبي ولقبه قيصر كما أن كل من ملك الفرس يقال له كسرى والترك يقال له خاقان والحبشة النجاشي والقبط فرعون ومصر العزيز وحمير تبع والهند دهمى والصين فغفور والزنج غانة واليونان بطلميوس واليهود قيطون أو ماتح والبربر جالوت والصابئة نمرود واليمن تبعا وفرعانة إخشيد والعرب من قبل العجم النعمان وأفريقية جرجير وخلاط شهرمان والسندفور والحزز رتبيل والنوبة كابل والصقالبة ماجدا والأرمن تقفور والأجات خدواند كار وأشروشنه أفشين وخوارزم خوارزم شاه وجرجان صول وآذربيجان أصبهيذ وطبرستان سالار وإقليم خلاط شهرمان ونيابة ملك الروم مشق وإسكندرية ملك مقوقس وهرقل أول من ضرب الدينار وأحدث

(1/79)


البيعة فإن قلت ما معنى الحديث الصحيح إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده قلت معناه لا قيصر بعده بالشام ولا كسرى بعده بالعراق قاله الشافعي في المختصر وسبب الحديث أن قريشا كانت تأتي الشام والعراق كثيرا للتجارة في الجاهلية فلما أسلموا خافوا انقطاع سفرهم إليهما لمخالفتهم أهل الشام والعراق بالإسلام فقال لا قيصر ولا كسرى أي بعدهما في هذين الإقليمين ولا ضرر عليكم فلم يكن قيصر بعده بالشام ولا كسرى بعده بالعراق ولا يكون ومعنى قيصر التبقير والقاف على لغتهم غير صافية وذلك أن أمه لما أتاها الطلق به ماتت فبقر بطنها عنه فخرج حيا وكان يفخر بذلك لأنه لم يخرج من فرج واسم قيصر في لغتهم مشتق من القطع لأن أحشاء أمه قطعت حتى أخرج منها وكان شجاعا جبارا مقداما في الحروب ومنهم دحية بفتح الدال وكسرها ابن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن امرىء القيس ابن الخزرج بخاء مفتوحة معجمة ثم زاي ساكنة ثم جيم وهو العظيم واسمه زيد مناة سمي بذلك لعظم بطنه ابن عامر بن بكر بن عامر الأكبر بن عوف وهو زيد اللات وقيل ابن عامر الأكبر بن بكر بن زيد اللات وهو ما ساقه المزي أولا قال وقيل عامر الأكبر بن عوف بن بكر بن عوف بن عبد زيد اللات بن رفيدة بضم الراء وفتح الفاء بن ثور بن كلب بن وبرة بفتح الباء ابن تغلب بالغين المعجمة بن حلوان بن عمران بن الحاف بالحاء المهملة والفاء بن قضاعة بن معد بن عدنان وقيل قضاعة إنما هو ابن مالك بن حمير بن سبا كان من أجل الصحابة وجها ومن كبارهم وكان جبريل عليه الصلاة و السلام يأتي النبي في صورته وذكر السهيلي عن ابن سلام في قوله تعالى ( أو لهوا انفضوا إليها ) قال كان اللهو نظرهم إلى وجه دحية لجماله وروي أنه كان إذا قدم الشام لم تبق معصر إلا خرجت للنظر إليه قال ابن سعد أسلم قديما ولم يشهد بدرا وشهد المشاهد بعدها وبقي إلى خلافة معاوية وقال غيره شهد اليرموك وسكن المزة قرية بقرب دمشق ومزة بكسر الميم وتشديد الزاي المعجمة وليس في الصحابة من اسمه دحية سواه ولم يخرج من الستة حديثه إلا السجستاني في سننه وهو من أصحاب المحدثين قاله ابن البرقي وقال البزار لما ساق الحديث من طريق عبد الله بن شداد بن الهاد عنه لم يحدث عن النبي إلا هذا الحديث ومنهم أبو كبشة رجل من خزاعة كان يعبد الشعرى العبور ولم يوافقه أحد من العرب على ذلك قاله الخطابي وفي المختلف والمؤتلف للدارقطني أن اسمه وجز بن غالب من بني غبشان ثم من بني خزاعة وقال أبو الحسن الجرجاني النسابة في معنى نسبة الجاهلية إلى النبي لأبي كبشة إنما ذلك عداوة له ودعوة إلى غير نسبه المعلوم المشهور وكان وهب بن عبد مناف بن زهرة جده أبو آمنة يكنى بأبي كبشة وكذلك عمرو بن زيد بن أسد النجاري أبو سلمى أم عبد المطلب كان يدعى أبا كبشة وهو خزاعي وكان وجز بن غالب بن حارث أبو قيلة أم وهب بن عبد مناف بن زهرة أبو أم جده لأمه يكنى أبا كبشة وهو خزاعي وكان أبوه من الرضاعة الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي يكنى بذلك أيضا وقيل أنه والد حليمة مرضعته حكاه ابن ماكولا وذكر الكلبي في كتاب الدفائن أن أبا كبشة هو حاضن النبي زوج حليمة ظئر النبي واسمه الحارث كما سلف وقد روى عن النبي حديثا ونقل ابن التين في الجهاد عن الشيخ أبي الحسن أن أبا كبشة جد ظئر النبي فقيل له قيل أن في أجداده ستة يسمون أبا كبشة فأنكر ذلك
( بيان الأسماء المبهمة ) منها ابن الناطور قال القاضي هو بطاء مهملة وعند الحموي بالمعجمة قال أهل اللغة فلان ناطور بني فلان وناظرهم بالمعجمة المنظور إليه منهم والناطور بالمهملة الحافظ النخل عجمي تكلمت به العرب قال الأصمعي هو من النظر والنبط يجعلون الظاء طاء وفي العباب في فصل الطاء المهملة الناطر والناطور حافظ الكرم والجمع النواطير وقال ابن دريد الناطور ليس بعربي فافهم ومنها ملك غسان وهو الحارث بن أبي شمر أراد حزب النبي وخرج إليهم في غزوة ونزل قبيل بن كندة ماء يقال له غسان بالمشلل فسموا به وقال الجوهري غسان اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا إليه منهم بنو جفنة رهط الملوك ويقال غسان اسم قبيلة وقال ابن هشام غسان ماء بسد مأرب ويقال له ماء

(1/80)


بالمشلل قريب من الجحفة وحكى المسعودي أن غسان ما بين زبيد وزمع بأرض اليمن والمشلل بضم الميم وفتح الشين المعجمة وتشديد اللام المفتوحة قال في العباب جبل يهبط منه إلى قديد وقال صاحب المطالع المشلل قديد من ناحية البحر وهو الجبل الذي يهبط منه إلى قديد وقال صاحب المطالع المشلل قديد من ناحية البحر وهو الجبل الذي يهبط منه إلى قديد ومنها بنو الأصفر وهم الروم سموا بذلك لأن حبشيا غلب على ناحيتهم في بعض الدهور فوطىء نساءهم فولدت أولادا فيهم بياض الروم وسواد الحبشة فكانوا صفرا فنسب الروم إلى الأصفر لذلك قاله ابن الأنباري وقال الحربي نسبة إلى الأصفر بن الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام قال القاضي عياض وهو الأشبه وعبارة القزاز قال قوم بنو الأصفر من الروم وهم ملوكهم ولذلك قال علي بن زيد
وبنو الأصفر الكرام ملوك الر روم
لم يبق منهم مذكور
قال ويقال إنما سموا بذلك لأن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام كان رجلا أحمر أشعر الجلد كان عليه خواتيم من شعر وهو أبو الروم وكان الروم رجلا أصفر في بياض شديد الصفرة فمن أجل ذلك سموا به وتزوج عيصو بنت عمه إسماعيل بن إسحاق عليهما السلام فولدت له الروم بن عيصو وخمسة أخرى فكل من في الروم فهو من نسل هؤلاء الرهط وفي المغيث تزوج الروم بن عيصو إلى الأصفر ملك الحبشة فاجتمع في ولده بياض الروم وسواد الحبشة فأعطوا جمالا وسموا ببني الأصفر وفي تاريخ دمشق لابن عساكر تزوج بها طيل الرومي إلى النوبة فولد له الأصفر وفي التيجان لابن هشام إنما قيل لعيصو بن إسحاق الأصفر لأن جدته سارة حلته بالذهب فقيل له ذلك لصفرة الذهب قال وقال بعض الرواة أنه كان أصفر أي أسمر إلى صفرة وذلك موجود في ذريته إلى اليوم فإنهم سمر كحل الأعين وفي خطف البارق كانت امرأة ملكت على الروم فخطبها كبار دولتها واختصموا فيها فرضوا بأول داخل عليهم يتزوجها فدخل رجل حبشي فتزوجها فولدت منه ولدا سمته أصفر لصفرته فبنو الأصفر من نسله ومنها الروم وهم هذا الجيل المعروف قال الجوهري هم من ولد الروم بن عيصو واحدهم رومي كزنجي وزنج وليس بين الواحد والجمع إلا الياء المشددة كما قالوا تمرة وتمر ولم يكن بين الواحد والجمع إلا الهاء وقال الواحدي هم جيل من ولد أرم بن عيص بن إسحاق غلب عليهم فصار كالاسم للقبيلة وقال الرشاطي الروم منسوبون إلى رومي بن النبطي ابن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام فهؤلاء الروم من اليونانيين وقوم من الروم يزعمون أنهم من قضاعة من تنوخ وبهراء وسليخ وكانت تنوخ أكثرها على دين النصارى وكل هذه القبائل خرجوا مع هرقل عند خروجهم من الشام فتفرقوا في بلاد الروم ومنها قريش وهم ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة واسمه عامر دون سائر ولد كنانة وهم مالك وملكان ومويلك وغزوان وعمر وعامر أخوة النضر لأبيه وأمه وأمهم مرة بنت مر أخت تميم بن مر وهذا قول الشعبي وابن هشام وأبي عبيدة ومعمر بن المثنى وهو الذي ذكره الجوهري ورجحه السمعاني وغيره قال النووي وهو قول الجمهور وقال الرافعي قال الأستاذ أبو منصور هو قول أكثر النسابين وبه قال الشافعي وأصحابه وهو أصح ما قيل وقيل أن قريشا بنو فهر بن مالك وفهر جماع قريش ولا يقال لمن فوقه قرشي وإنما يقال له كناني رجحه الزبيدي بن بكار وحكاه عن عمه مصعب بن عبد الله قال وهو قول من أدركت من نساب قريش ونحن أعلم بأمورنا وأنسابنا وذكر الرافعي وجهين غريبين قال ومنهم من قال هم ولد الياس بن مضر ومنهم من قال هم ولد مضر بن نزار وفي العباب قريش قبيلة وأبوهم النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر وكل من كان من ولد النضر فهو قرشي دون ولد كنانة ومن فوقه وقال قوم سميت قريش بقريش بن يخلد بن غالب بن فهر وكان صاحب عيرهم فكانوا يقولون قدمت عير قريش وخرجت عير قريش قال الصغاني ذكر إبراهيم الحربي في غريب الحديث من تأليفه في تسمية قريش قريشا سبعة أقوال وبسط الكلام وأنا أجمع ذلك مختصرا فقال سأل عبد الملك أباه عن ذلك فقال لتجمعهم إلى الحرم والثاني أنهم كانوا يتقرشون البياعات فيشترونها والثالث أنه جاء النضر بن كنانة في ثوب له يعني اجتمع في ثوبه فقالوا قد تقرش في ثوبه والرابع قالوا جاء إلى قومه فقالوا كأنه جمل قريش أي شديد والخامس أن ابن عباس سأله عمرو بن العاص رضي الله عنهم لم سميت قريشا قال بدابة في البحر تسمى قريشا

(1/81)


والسادس قال عبد الملك بن مروان سمعت أن قصيا كان يقال له القرشي لم يسم قرشي قبله والسابع قال معروف بن خربوذ سميت قريشا لأنهم كانوا يفتشون الحاج عن خلتهم فيسدونها انتهى وقال الزهري إنما نبذت فهرا أمه بقريش كما يسمى الصبي غرارة وشملة وأشباه ذلك وقيل من القرش وهو الكسب وقال الزبير قال عمي سميت قريش برجل يقال له قريش بن بدر بن يخلد بن النضر كان دليل بني كنانة في تجاراتهم فكان يقال قدمت عير قريش وأبوه بدر صاحب بدر الموضع وقال غير عمي سميت بقريش بن الحارث بن يخلد اسمه بدر التي سميت به بدر وهو احتفرها وقال الكرماني وسأل معاوية ابن عباس رضي الله عنهما بم سميت قريش قال بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى والتصغير للتعظيم وقال الليث القرش الجمع من ههنا وههنا وضم بعض إلى بعض يقال قرش يقرش قرشا وقال ابن عباد قرش الشيء خفيقه وصوته يقال سمعت قرشه أي وقع حوافر الخيل وقرش الشيء إذا قطعه وقرضه وقال غيره قرش بكسر الراء جمع لغة في فتحها والقرش دابة من دواب البحر وأقرشت الشجة إذا صدعت العظم ولم تهشمه والتقريش التحريش والإغراء والتقريش الاكتساب وتقرشوا تجمعوا وتقرش فلان الشيء إذا أخذه أولا فأولا فإن أردت بقريش الحي صرفته وإن أردت به القبيلة لم تصرفه والأوجه صرفه قال تعالى ( لإيلاف قريش ) والنسبة إليه قرشي وقريشي بالياء وحذفها ومنها قوله إلى صاحب له يقال هو صفاطر الأسقف الرومي وقيل في اسمه يقاطر
( بيان أسماء الأماكن فيه ) قوله بالشأم مهموز ويجوز تركه وفيه لغة ثالثة شآم بفتح الشين والمد وهو مذكر ويؤنث أيضا حكاه الجوهري والنسبة إليه شامي وشآم بالمد على فعال وشاءمى بالمد والتشديد حكاها الجوهري عن سيبويه وأنكرها غيره لأن الألف عوض من ياء النسب فلا يجمع بينهما سمى بشامات هناك حمر وسود وقال الرشاطي الشام جمع شامة سميت بذلك لكثرة قراها وتداني بعضها ببعض فشبهت بالشامات وقيل سميت بسام بن نوح عليه السلام وذلك لأنه أول من نزلها فجعلت السين شينا وقال أبو عبيد لم يدخلها سام قط وقال أبو بكر بن الأنباري يجوز أن يكون مأخوذا من اليد الشومى وهي اليسرى لكونها من يسار الكعبة وحد الشام طولا من العريش إلى الفرات وقيل إلى بالس وقال أبو حيان في صحيحه أول الشام بالس وآخره العريش وأما حده عرضا فمن جبل طي من نحو القبلة إلى بحر الروم وما يسامت ذلك من البلاد وقال ابن حوقل أما طول الشام فخمس وعشرون مرحلة من ملطية إلى رفح وأما عرضه فأعرض ما فيه طرفاه فأحد طرفيه من الفرات من جسر منبح على منبح ثم على قورص في حد قسرين ثم على العواصم في حد أنطاكية ثم مقطع جبل اللكام ثم على المصيصة ثم على أذنه ثم على طرسوس وذلك نحو عشر مراحل وهذا هو السمت المستقيم وأما الطرف الآخر فهو من حد فلسطين فيأخذ من البحر من حد يافا حتى ينتهي إلى الرملة ثم إلى بيت المقدس ثم إلى أريحا ثم إلى زعز ثم إلى جبل الشراه إلى أن ينتهي إلى معان ومقدار هذا ست مراحل فأما ما بين هذين الطرفين من الشام فلا يكاد يزيد عرضه موضعا من الأردن ودمشق وحمص على أكثر من ثلاثة أيام وقال الملك المؤيد وقد عد ابن حوقل ملطية من جملة بلاد الشام وابن خرداذية جعلها من الثغور الجزيرية والصحيح أنها من الروم ودخله النبي قبل النبوة وبعدها ودخله أيضا عشرة آلاف صحابي قاله ابن عساكر في تاريخه وقال الكرماني دخله نبينا مرتين قبل النبوة مرة مع عمه أبي طالب وهو ابن ثنتي عشرة سنة حتى بلغ بصرى وهو حين لقيه الراهب والتمس الرد إلى مكة ومرة في تجارة خديجة رضي الله تعالى عنها إلى سوق بصرى وهو ابن خمس وعشرين سنة ومرتين بعد النبوة إحداهما ليلة الإسراء وهو من مكة والثانية في غزوة تبوك وهو من المدينة قوله بإيلياء وهي بيت المقدس وفيه ثلاث لغات أشهرها كسر الهمزة واللام وإسكان الياء آخر الحروف بينهما وبالمد والثانية مثلها إلا أنه بالقصر والثالثة الياء بحذف الياء الأولى وإسكان اللام وبالمد حكاهن ابن قرقول وقال قيل معناه بيت الله وفي الجامع أحسبه عبرانيا ويقال الإيلياء كذا رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده في مسند ابن عباس رضي الله عنهما ويقال بيت المقدس وبيت المقدس قوله بصرى بضم الباء الموحدة مدينة حوران مشهورة ذات قلعة وهي قريبة من طرف العمارة والبرية التي بين الشام والحجاز

(1/82)


وضبطها الملك المؤيد بفتح الباء والمشهور على السنة الناس بالضم ولها قلعة ذات بناء وبساتين وهي على أربعة مراحل من دمشق مدينة أولية مبنية بالحجارة السود وهي من ديار بني فزارة وبني مرة وغيرهم وقال ابن عساكر فتحت صلحا في ربيع الأول لخمس بقين سنة ثلاث عشرة وهي أول مدينة فتحت بالشام قوله إلى مدائن ملكك جمع مدينة ويجمع أيضا على مدن بإسكان الدال وضمها قالوا المدائن بالهمز أفصح من تركه وأشهر وبه جاء القرآن قال الجوهري مدن بالمكان أقام به ومنه سميت المدينة وهي فعيلة وقيل مفعلة من دينت أي ملكت وقيل من جعله من الأول همزه ومن الثاني حذفه كما لا يهمز معايش وقال الجوهري والنسبة إلى المدينة النبوية مدني وإلى مدينة المنصور مديني وإلى مداين كسرى مدايني للفرق بين النسب لئلا تختلط قلت ما ذكره محمول على الغالب وإلا فقد جاء فيه خلاف ذلك كما يجيء في أثناء الكتاب إن شاء الله تعالى قوله بالرومية بضم الراء وتخفيف الياء مدينة معروفة للروم وكانت مدينة رياستهم ويقال أن روماس بناها قلت قد ذكرت في تاريخي أنها تسمى رومة أيضا وهي الرومية الكبرى وهي مدينة مشهورة على جانبي نهر الصغر وهي مقرة خليفة النصارى المسمى بالباب وهي على جنوبي حوز البنادقة وبلاد رومية غربي قلفرية وقال الإدريسي طول سورها أربعة وعشرون ميلا وهو مبني بالآجر ولها واد يشق وسط المدينة وعليه قناطير يجاز عليها من الجهة الشرقية إلى الغربية وقال أيضا امتداد كنيستها ستمائة ذراع في مثله وهي مسقفة بالرصاص ومفروشة بالرخام وفيها أعمدة كثيرة عظيمة وفي صدر الكنيسة كرسي من ذهب يجلس عليه الباب وتحته باب مصفح بالفضة يدخل منه إلى أربعة أبواب واحد بعد آخر يفضي إلى سرداب فيه مدفن بطرس حواري عيسى عليه الصلاة و السلام وفي الرومية كنيسة أخرى فيها مدفن بولص قوله إلى حمص بكسر الحاء وسكون الميم بلدة معروفة بالشام سميت باسم رجل من العمالقة اسمه حمص بن المهر بن حاف كما سميت حلب بحلب بن المهر وكانت حمص في قديم الزمان أشهر من دمشق وقال الثعلبي دخلها تسعمائة رجل من الصحابة افتتحها أبو عبيدة بن الجراح سنة ست عشرة قال الجواليقي وليست عربية تذكر وتؤنث قال البكري ولا يجوز فيها الصرف كما يجوز في هند لأنه اسم أعجمي وقال ابن التين يجوز الصرف وعدمه لقلة حروفه وسكون وسطه قلت إذا أنثته تمنعه من الصرف لأن فيه حينئذ ثلاث علل التأنيث والعجمة والعلمية فإذا كان سكون وسطه يقاوم أحد السببين يبقى بسببين أيضا وبالسببين يمنع من الصرف كما في ماه وجور ويقال سميت برجل من عاملة هو أول من نزلها وقال ابن حوقل هي أصح بلاد الشام تربة وليس فيها عقارب وحيات قوله في دسكرة بفتح الدال والكاف وسكون السين المهملة وهو بناء كالقصر حوله بيوت وليس بعربي وهي بيوت الأعاجم وفي جامع القزاز الدسكرة الأرض المستوية وقال أبو زكريا التبريزي الدسكرة مجتمع البساتين والرياض وقال ابن سيده الدسكرة الصومعة وأنشد الأخطل
في قباب حول دسكرة
حولها الزيتون قد ينعا
وفي المغيث لأبي موسى الدسكرة بناء على صورة القصر فيها منازل وبيوت للخدم والحشم وفي الجامع الدسكرة تكون للملوك تتنزه فيها والجمع الدساكرة وقيل الدساكر بيوت الشراب وفي الكامل للمبرد قال أبو عبيدة هذا الشعر مختلف فيه فبعضهم ينسبه إلى الأحوص وبعضهم إلى يزيد بن معاوية وقال علي بن سليمان الأخفش الذي صح أنه ليزيد وزعم ابن السيد في كتابه المعروف بالغرر شرح كامل المبرد أنه لأبي دهبل الجمحي وقال الحافظ مغلطاي بعد أن نقل أن البيت المذكور للأخطل وفيه نظر من حيث أن هذا البيت ليس للأخطل وذلك أني نظرت عدة روايات من شعره ليعقوب وأبي عبيدة والأصمعي والسكري والحسن بن المظفر النيسابوري فلم أر فيها هذا البيت ولا شيئا على رويه قلت قائله يزيد بن معاوية بن أبي سفيان من قصيدة يتغزل بها في نصرانية كانت قد ترهبت في دير خراب عند الماطرون وهو بستان بظاهر دمشق يسمى اليوم المنطور وأولها
آب هذا الليل فاكتنعا
وأمر النوم فامتنعا
راعيا للنجم ارقبه فإذا ما كوكب طلعا

(1/83)


حان حتى أنني لا أرى
أنه بالغور قد رجعا
ولها بالماطرون إذا
أكل النمل الذي جمعا
خزفة حتى إذا ارتبعت ذكرت من جلق بيعا
في قباب حول دسكرة حو لها
الزيتون قد ينعا
وهي من الرمل آب أي رجع قوله فاكتنعا أي فرسا قوله خزفة بكسر الخاء المعجمة ما يختزق من التمر أي يجتني قوله ينعا بفتح الياء آخر الحروف والنون من ينع التمر يينع من باب ضرب يضرب ينعا وينعا وينوعا إذا نضج وكذلك أينع
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيها رواية حمصي عن حمصي عن شامي عن مدني ومنها أنه قال أولا حدثنا وثانيا أخبرنا وثالثا بكلمة عن ورابعا بلفظ أخبرني محافظة على الفرق الذي بين العبارات أو حكاية عن ألفاظ الرواة بأعيانها مع قطع النظر عن الفرق أو تعليما لجواز استعمال الكل إذا قلنا بعدم الفرق بينها ومنها ليس في البخاري مثل هذا الإسناد يعني عن أبي سفيان لأنه ليس له في الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي حديث غيره ولم يرو عنه إلا ابن عباس رضي الله تعالى عنهم
( بيان تعدد الحديث ) قال الكرماني قد ذكر البخاري حديث هرقل في كتابه في عشرة مواضع قلت ذكره في أربعة عشر موضعا الأول ههنا كما ترى الثاني في الجهاد عن إبراهيم بن حمزة عن إبراهيم بن سعد عن صالح الثالث في التفسير عن إبراهيم بن موسى عن هشام الرابع فيه أيضا عن عبد الله بن محمد عن عبد الرزاق قالا حدثنا معمر كلهم عن الزهري به الخامس في الشهادات عن إبراهيم بن حمزة عن إبراهيم بن سعد عن صالح عن الزهري مختصرا سألتك هل يزيدون أو ينقصون السادس في الجزية عن يحيى بن بكير عن الليث عن يونس عن الزهري مختصرا السابع في الأدب عن أبي بكير عن الليث عن عقيل عن الزهري مختصرا أيضا الثامن فيه أيضا عن محمد بن مقاتل عن عبد الله عن يونس عن الزهري مختصرا التاسع في الإيمان العاشر في العلم الحادي عشر في الأحكام الثاني عشر في المغازي الثالث عشر في خبر الواحد الرابع عشر في الاستئذان
( بيان من أخرجه غيره ) أخرجه مسلم في المغازي عن خمسة من شيوخه إسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمرو وأبي رافع وعبد بن حميد والحلواني عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به بطوله وعن الآخرين عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح عن الزهري به وأخرجه أبو داود في الأدب والترمذي في الاستئذان والنسائي في التفسير ولم يخرجه ابن ماجه
( بيان اللغات ) قوله في ركب بفتح الراء جمع راكب كتجر وتاجر وقيل اسم جمع كقوم وذود وهو قول سيبويه وهم أصحاب الإبل في السفر العشرة فما فوقها قاله ابن السكيت وغيره وقال ابن سيده أرى أن الركب يكون للخيل والإبل وفي التنزيل ( والركب أسفل منكم ) فقد يجوز أن يكون منهما جميعا وقول علي رضي الله عنه ما كان معنا يومئذ فرس إلا فرس عليه المقداد بن الأسود يصحح أن الركب ههنا ركاب الإبل قالوا والركبة بفتح الراء والكاف أقل منه وإلا ركوب بالضم أكثر منه وجمع الركب اركب وركوب والجمع أراكب والركاب الإبل واحدها راحلة وجمعها ركب وفي بعض طرق هذا الحديث أنهم كانوا ثلاثين رجلا منهم أبو سفيان رواه الحاكم في الإكليل وفي رواية ابن السكن نحو من عشرين وسمى منهم المغيرة بن شعبة في مصنف ابن أبي شيبة بسند مرسل وفيه نظر لأنه إذ ذاك كان مسلما قاله بعضهم ولكن إسلامه لا ينافي مرافقتهم وهم كفار إلى دار الحرب قوله تجار بضم التاء المثناة من فوق وتشديد الجيم وكسرها وبالتخفيف جمع تاجر ويقال أيضا تجر كصاحب وصحب قوله وحوله بفتح اللام يقال حوله وحواله وحوليه وحواليه أربع لغات واللام مفتوحة فيهن أي يطوفون به من جوانبه قال الجوهري ولا تقل حواليه بكسر اللام قوله عظماء الروم جمع عظيم قوله وترجمانه وفي الجامع الترجمان الذي يبين الكلام يقال بفتح التاء وضمها والفتح أحسن عند قوم وقيل الضم يدل

(1/84)


على أن التاء أصل لأنه يكون فعللان كعقرباب ولم يأت فعللان وفي الصحاح والجمع التراجم مثل زعفران وزعافر ولك أن تضم التاء كضمة الجيم ويقال الترجمان هو المعبر عن لغة بلغة وهو معرب وقيل عربي والتاء فيه أصلية وأنكر على الجوهري قوله أنها زائدة وتبعه ابن الأثير فقال في نهايته والتاء والنون زائدتان قوله فإن كذبني بالتخفيف من كذب يكذب كذبا وكذبا وكذبة وفي العباب وأكذوبة وكاذبة ومكذوبا ومكذوبة وزاد ابن الأعرابي مكذبة وكذبانا مثل غفران وكذبى مثل بشرى فهو كاذب وكذاب وكذوب وكيذبان وكيذبان ومكذبان وكذبة مثل تؤدة وكذبذب وكذبذبان بالضمات الثلاث ولم يذكر سيبويه فيما ذكر من الأمثلة وكذبذب بالتشديد وجمع الكذوب كذب مثال صبور وصبر ويقال كذب كذابا بالضم والتشديد أي متناهيا وقرأ عمر بن عبد العزيز ( وكذبوا بآياتنا كذابا ) ويكون صيغة على المبالغة كوضاء وحسان والكذب نقيض الصدق ثم معنى قوله فإن كذبني أي نقل إلى الكذب وقال لي خلاف الواقع وقال التيمي كذب يتعدى إلى المفعولين يقال كذبني الحديث وكذا نظيره صدق قال الله تعالى ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا ) وهما من غرائب الألفاظ ففعل بالتشديد يقتصر على مفعول واحد وفعل بالتخفيف يتعدى إلى مفعولين قوله من أن يأثروا بكسر الثاء المثلثة وضمها من أثرت الحديث بالقصر آثره بالمد وضم المثلثة وكسرها أثرا ساكنة الثاء حدثت به ويقال أثرت الحديث أي رؤيته ومعناه لولا الحياء من أن رفقتي يروون عني ويحكون في بلادي عني كذبا فأعاب به لأن الكذب قبيح وإن كان على العدو لكذبت ويعلم منه قبح الكذب في الجاهلية أيضا وقيل هذا دليل لمن يدعي أن قبح الكذب عقلي وقال الكرماني لا يلزم منه لجواز أن يكون قبحه بحسب العرف أو مستفادا من الشرع السابق قلت بل العقل يحكم بقبح الكذب وهو خلاف مقتضى العقل ولم تنقل إباحة الكذب في ملة من الملل قوله لكذبت عنه أي لأخبرت عن حاله بكذب لبغضي إياه ولمحبتي نقصه قوله قط فيها لغتان أشهرهما فتح القاف وتشديد الطاء المضمومة قال الجوهري معناها الزمان يقال ما رأيته قط قال ومنهم من يقول قط بضمتين وقط بتخفيف الطاء وفتح القاف وضمها مع التخفيف وهي قليلة قوله فأشراف الناس أي كبارهم وأهل الإحسان وقال بعضهم المراد بالأشراف هنا أهل النخوة والتكبر منهم لا كل شريف حتى لا يرد مثل أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وأمثالهما ممن أسلم قبل هذا السؤال قلت هذا على الغالب وإلا فقد سبق إلى أتباعه أكابر أشراف زمنه كالصديق والفاروق وحمزة وغيرهم وهم أيضا كانوا أهل النخوة والأشراف جمع شريف من الشرف وهو العلو والمكان العالي وقد شرف بالضم فهو شريف وقوم شرفاء وأشراف وقال ابن السكيت الشرف والمجد لا يكونان إلا بالآباء والحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكن له أبا وقال ابن دريد الشرف علو الحسب قوله سخطة بفتح السين وهو الكراهة للشيء وعدم الرضى به وقال بعضهم سخطة بضم أوله وفتحه وليس بصحيح بل السخطة بالتاء إنما هي بالفتح فقط والسخط بلا تاء يجوز فيه الضم والفتح مع أن الفتح يأتي بفتح الخاء والسخط بالضم يجوز فيه الوجهان ضم الخاء معه وإسكانها وفي العباب السخط والسخط مثال خلق وخلق والسخط بالتحريك والمسخط خلاف الرضى تقول منه سخط يسخط أي غضب وأسخطه أي أغضبه وتسخط أي تغضب وفي بعض الشروح والمعنى أن من دخل في الشيء على بصيرة يمتنع رجوعه بخلاف من لم يدخل على بصيرة ويقال أخرج بهذا من ارتد مكرها أو غير مكره لا لسخط دين الإسلام بل لرغبة في غيره لحظ نفساني كما وقع لعبد الله بن جحش قوله يغدر بكسر الدال والغدر ترك الوفاء بالعهد وهو مذموم عند جميع الناس قوله سجال بكسر السين وبالجيم وهو جمع سجل وهو الدلو الكبير والمعنى الحرب بيننا وبينه نوب نوبة لنا ونوبة له كما قال الشاعر ( فيوم علينا ويوم لنا
ويوم نساء ويوم نسر )
والمساجلة المفاخرة بأن تصنع مثل صنعه في جري أو سعي قوله ينال أي يصيب من نال ينال نيلا ونالا قوله ويأمرنا بالصلاة أراد بها الصلاة المعهودة التي مفتتحها التكبير ومختمها التسليم قوله والصدق وهو القول المطابق للواقع ويقابله الكذب قوله والعفاف بفتح العين الكف عن المحارم وخوارم المروءة وقال صاحب المحكم العفة

(1/85)


الكف عما لا يحل ولا يجمل يقال عف يعف عفا وعفافا وعفافة وعفة وتعفف واستعف ورجل عف وعفيف والأنثى عفيفة وجمع العفيف أعفة وأعفاء قوله والصلة وهي كل ما أمر الله تعالى أن يوصل وذلك بالبر والإكرام وحسن المراعاة ويقال المراد بها صلة الرحم وهي تشريك ذوي القرابات في الخيرات واختلفوا في الرحم فقيل هو كل ذي رحم محرم بحيث لو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى حرمت مناكحتهما فلا يدخل أولاد الأعمام فيه وقيل هو عام في كل ذي رحم في الميراث محرما أو غيره قوله يأتسي أي يقتدي ويتبع وهو بهمزة بعد الياء قوله بشاشة القلوب بفتح الباء وبشاشة الإسلام وضوحه يقال بش به وتبشبش ويقال بش بالشيء يبش بشاشة إذا أظهر بشرى عند رؤيته وقال الليث البش اللطف في المسألة والإقبال على أخيك وقال ابن الأعرابي هو فرح الصدر بالصديق وقال ابن دريد بشه إذا ضحك إليه ولقيه لقاء جميلا قوله الأوثان جمع وثن وهو الصنم وهو معرب شنم قوله اخلص بضم اللام أي أصل يقال خلص إلى كذا أي وصل إليه قوله لتجشمت بالجيم والشين المعجمة أي لتكلفت الوصول إليه ولتكلفت على خطر ومشقة قوله إلى عظيم بصرى أي أميرها وكذا عظيم الروم أي الذي يعظمه الروم وتقدمه قوله إن توليت أي أعرضت عن الإسلام قوله اليريسين بفتح الياء آخر الحروف وكسر الراء ثم الياء الأخرى الساكنة ثم السين المهملة المكسورة ثم الياء الأخرى الساكنة جمع يريس على وزن فعيل نحو كريم وجاء الأريسين بقلب الياء الأولى همزة وجاء اليريسيين بتشديد الياء بعد السين جمع يريسي منسوب إلى يريس وجاء أيضا بالنسبة كذلك إلا أنه بالهمزة في أوله موضع الياء أعني الأريسين جمع أريس منسوب إلى أريس فهذه أربعة أوجه وقال ابن سيده الأريس الأكار عند ثعلب والأريس الأمير عن كراع حكاه في باب فعيل وعدله بأبيل والأصل عنده أريس فعيل من الرياسة فقلب وفي الجامع الأريس الزارع والجمع أرارسة قال الشاعر
إذا فاز فيكم عبدود فليتكم
أرارسة ترعون دين الأعاجم
فوزن أريس فعيل ولا يمكن أن تكون الهمزة فيه من غير أصله لأنه كان تبقى عينه وفاؤه من لفظ واحد وهذا لم يأت في كلامهم إلا في أحرف يسيرة نحو كوكب ديدن وددن وبابوس والأريس عند قوم الأمير كأنه من الأضداد وفي الصحاح أرس يأرس أرسا صار أريسا وهو الأكار وأرس مثله وهو الأريس وجمعه الأريسون وأراريس وهي شامية وقال ابن فارس الهمزة والراء والسين ليست عربية وفي العباب والأريس مثل جليس والأريس مثل سكيت الأكار فالأول جمعه أريسون والثاني أريسيون وأرارسة وأراريس والفعل منه أرس يأرس أرسا وقال ابن الأعرابي أرس تأرسا صار أكارا مثل أرس أرسا قال ويقال أن الأراريس الزارعون وهي شامية وبئر أريس من آبار المدينة وهي التي وقع فيها خاتم النبي وقال بعض الشراح والصحيح المشهور أنهم الأكارون أي الفلاحون والزارعون أي عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك ونبه بهؤلاء على جميع الرعايا لأنهم الأغلب في رعاياهم وأسرع انقيادا وأكثر تقليدا فإذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا ويقال أن الأريسين الذين كانوا يحرثون أرضهم كانوا مجوسا وكان الروم أهل كتاب فيريد أن عليك مثل وزر المجوس إن لم تؤمن وتصدق وقال أبو عبيدة هم الخدم والخول يعني بصده إياهم عن الدين كما قال تعالى ( ربنا إنا أطعنا سادتنا ) أي عليك مثل إثمهم حكاه ابن الأثير وقيل المراد الملوك والرؤساء الذين يقودون الناس إلى المذاهب الفاسدة وقيل هم المتبخترون قال القرطبي فعلى هذا يكون المراد عليك إثم من تكبر عن الحق وقيل هم اليهود والنصارى أتباع عبد الله بن أريس الذي ينسب إليه الأريسية من النصارى رجل كان في الزمن الأول قتل هو ومن معه نبيا بعثه الله إليهم قال أبو الزناد وحذره النبي إذ كان رئيسا متبوعا مسموعا أن يكون عليه إثم الكفر وإثم من عمل بعمله وأتبعه قال عليه الصلاة و السلام من عمل سيئة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة قوله الصخب بفتح الصاد والخاء المعجمة ويقال بالسين أيضا بدل الصاد وضعفه الخليل وهو اختلاط الأصوات وارتفاعها وقال أهل اللغة الصخب هو أصوات مبهمة لا تفهم قوله أمر بفتح الهمزة وكسر الميم قال ابن الأعرابي كثر وعظم وقال ابن سيدة والاسم منه الأمر بالكسر وقال الزمخشري الأمرة على وزن بركة الزيادة ومنه قول

(1/86)


أبي سفيان أمر أمر محمد عليه السلام وفي الصحاح عن أبي عبيدة آمرته بالمد وأمرته لغتان بمعنى كثرته وأمر هو أي كثر وقال الأخفش أمر أمره يأمر أمرا اشتد والاسم الأمر وفي أفعال ابن القطاع أمر الشيء أمرا وأمر أي كثر وفي المجرد لكراع يقال زرع أمر وأمر كثير وفي أفعال ابن ظريف أمر الشيء امرا وإمارة وفي أمثال العرب من قل ذل ومن أمر قل وفي الجامع أمر الشيء إذا كثر والأمرة الكثرة والبركة والنماء وأمرته زيادته وخيره وبركته قوله على نصارى الشام سموا نصارى لنصرة بعضهم بعضا أو لأنهم نزلوا موضعا يقال له نصرانة ونصرة أو ناصرة أو لقوله ( من أنصاري إلى الله ) وهو جمع نصراني قوله خبيث النفس أي كسلها وقلة نشاطها أو سوء خلقها قوله بطارقته بفتح الباء هو جمع بطريق بكسر الباء وهم قواد الملك وخواص دولته وأهل الرأي والشورى منه وقيل البطريق المختال المتعاظم ولا يقال ذلك للنساء وفي العباب قال الليث البطريق القائد بلغة أهل الشام والروم فمن هذا عرفت أن تفسير بعضهم البطريق بقوله وهو خواص دولة الروم تفسير غير موجه قوله قد استنكر ناهيئتك أي أنكرناها ورأيناها مخالفة لسائر الأيام والهيئة السمت والحالة والشكل قوله حزاء بفتح الحاء المهملة وتشديد الزاي المعجمة وبالمد على وزن فعال أي كاهنا ويقال فيه الحازي يقال حزى يحزي حزا يحزو وتحزى إذا تكهن قال الأصمعي حزيت الشيء أحزيه حزيا وحزوا وفي الصحاح حزى الشيء يحزيه ويحزوه إذا قدر وخرص والحازي الذي ينظر في الأعضاء وفي خيلان الوجه يتكهن وفي المحكم حزى الطير حزوا زجرها قوله فلا يهمنك شأنهم بضم الياء يقال أهمني الأمر أقلقني وأحزنني والهم الحزن وهمني أذاني أي إذا بالغ في ذلك ومنه المهموم قال الأصمعي هممت بالشيء أهم به إذا أردته وعزمت عليه وهممت بالأمر أيضا إذا قصدته يهمني وهم يهم بالكسر هميما ذاب ومراده أنهم أحقر من أن يهتم لهم أو يبالي بهم والشأن الأمر قوله فلم يرم بفتح الياء آخر الحروف وكسر الراء أي لم يفارقها يقال ما رمت ولم أرم ولا يكاد يستعمل إلا مع حرف النفي ويقال ما يريم يفعل أي ما يبرح ويقال رامه يريمه ريما أي يريحه ويقال لا يرمه أي لا يبرحه قال ابن ظريف ما رامني ولا يريمني لم يبرح ولا يقال إلا منفيا قوله يا معشر الروم قال أهل اللغة هم الجمع الذين شأنهم واحد والإنس معشر والجن معشر والأنبياء معشر والفقهاء معشر والجمع معاشر قوله الفلاح والرشد الفلاح الفوز والتقى والنجاة والرشد بضم الراء وإسكان الشين وبفتحهما أيضا لغتان وهو خلاف الغي وقال أهل اللغة هو إصابة الخير وقال الهروي هو الهدى والاستقامة وهو بمعناه يقال رشد يرشد ورشد يرشد لغتان قوله فحاصوا بالحاء والصاد المهملتين أي نفروا وكروا راجعين يقال حاص يحيص إذا نفر وقال الفارسي وفي مجمع الغرائب هو الروغان والعدول عن طريق القصد وقال الخطابي يقال حاص وجاض بمعنى واحد يعني بالجيم والضاد المعجمة وكذا قال أبو عبيد وغيره قالوا ومعناه عدل عن الطريق وقال أبو زيد معناه بالحاء رجع وبالجيم عدل قوله آنفا أي قريبا أو هذه الساعة والآنف أول الشيء وهو بالمد والقصر والمد أشهر وبه قرأ جمهور القراء السبعة وروى البزار عن ابن كثير القصر وقال المهدوي المد هو المعروف قوله اختبر أي امتحن شدتكم أي رسوخكم في الدين قوله فقد رأيت أي شدتكم
( بيان اختلاف الروايات ) قوله حدثنا أبو اليمان وفي رواية الأصيلي وكريمة حدثنا الحكم بن نافع وأبو اليمان كنية الحكم قوله وحوله عظماء الروم وفي رواية ابن السكن فأدخلت عليه وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان وفي بعض السير دعاهم وهو جالس في مجلس ملكه عليه التاج وفي شرح السنة دعاهم لمجلسه قوله ودعا ترجمانه وفي رواية الأصيلي وغيره بترجمانه قوله بهذا الرجل ووقع في رواية مسلم من هذا الرجل وهو على الأصل وعلى رواية البخاري ضمن أقرب معنى أبعد فعداه بالباء قوله الذي يزعم وفي رواية ابن اسحق عن الزهري يدعي قوله فكذبوه فوالله لولا الحياء سقط فيه لفظة قال من رواية كريمة وأبي الوقت تقديره فكذبوه قال فوالله أي أبو سفيان فبالاسقاط يحصل الإشكال على ما لا يخفى ولذا قال الكرماني فوالله كلام أبي سفيان لا كلام الترجمان قوله لكذبت عنه رواية الأصيلي وفي رواية غيره لكذبت عليه ولم تقع هذه اللفظة في مسلم ووقع فيه لولا مخافة أن يؤثروا على الكذب وعلى يأتي بمعنى عن كما قال الشاعر ( إذا رضيت على بنو قشير
)
أي عنى ووقع لفظة عنى أيضا في البخاري

(1/87)


في التفسير قوله ثم كان أول بالنصب في رواية وسنذكر وجهه قوله فهل قال هذا القول منكم أحد قبله وفي رواية الكشمهيني والأصيلي بدل قبله مثله قوله فهل كان من آبائه من ملك فيه ثلاث روايات إحداها أن كلمة من حرف جر وملك صفة مشبهة أعني بفتح الميم وكسر اللام وهي رواية كريمة والأصيلي وأبي الوقت والثانية أن كلمة من موصولة وملك فعل ماض وهي رواية ابن عساكر والثالثة بإسقاط حرف الجر وهي رواية أبي ذر والأولى أصح وأشهر ويؤيده رواية مسلم هل كان في آبائه ملك بحذف من كما هي رواية أبي ذر وكذا هو في كتاب التفسير في البخاري قوله فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فقلت بل ضعفاؤهم ووقع في رواية ابن اسحق تبعه منا الضعفاء والمساكين والأحداث فأما ذوو الأنساب والشرف فما تبعه منهم أحد قوله ولا تشركوا به وفي رواية المستملي لا تشركوا به بلا واو فيكون تأكيدا لقوله وحده قوله ويأمرنا بالصلاة والصدق وفي رواية البخاري ويأمرنا بالصلاة والصدقة وفي مسلم ويأمرنا بالصلاة والزكاة وكذا في رواية البخاري في التفسير والزكاة وفي الجهاد من رواية أبي ذر عن شيخه الكشميهني والسرخسي بالصلاة والصدق والصدقة وقال بعضهم ورجحها شيخنا أي رجح الصدقة على الصدق ويقويها رواية المؤلف في التفسير الزكاة واقتران الصلاة بالزكاة معتاد في الشرع قلت بل الراجح لفظة الصدق لأن الزكاة والصدقة داخلتان في عموم قوله والصلة لأن الصلة اسم لكل ما أمر الله تعالى به أن يوصل وذلك يكون بالزكاة والصدقة وغير ذلك من أنواع البر والإكرام وتكون لفظة الصدق فيه زيادة فائدة وقوله واقتران الصلاة بالزكاة معتاد في الشرع لا يصلح دليلا للترجيح على أن أبا سفيان لم يكن يعرف حينئذ اقتران الزكاة بالصلاة ولا فرضيتها قوله يأتسي بتقديم الهمزة في رواية الكشميهني وفي رواية غيره يتأسى بتقديم التاء المثناة من فوق قوله حين يخالط بشاشة القلوب هكذا وقع في أكثر النسخ حين بالنون وفي بعضها حتى بالتاء المثناة من فوق ووقع في المستخرج للإسماعيلي حتى أو حين على الشك والروايتان وقعتا في مسلم أيضا ووقع في مسلم أيضا إذا بدل حين وقال الشيخ قطب الدين رحمه الله كذا رويناه فيه على الشك وقال القاضي الروايتان وقعتا في البخاري ومسلم وروى أيضا بشاشة القلوب بالإضافة ونصب البشاشة على المفعولية أي حين يخالط الإيمان بشاشة القلوب وروى بشاشة بالرفع وإضافتها إلى الضمير أعني ضمير الإيمان وبنصب القلوب وزاد البخاري في الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب لا يسخطه أحد وزاد ابن السكن في روايته في معجم الصحابة يزداد فيه عجبا وفرحا وفي رواية ابن اسحق وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه قوله لتجشمت لقاءه وفي مسلم لأحببت لقاءه والأول أوجه قوله لغسلت عن قدميه وفي رواية عبد الله بن شداد عن أبي سفيان لو علمت أنه هو لمشيت إليه حتى أقبل رأسه وأغسل قدميه وزاد فيها ولقد رأيت جبهته يتحادر عرقها من كرب الصحيفة يعني لما قرىء عليه كتاب النبي قوله سلام على من اتبع الهدى وفي رواية البخاري في الاستئذان السلام بالتعريف قوله بدعاية الإسلام وفي مسلم بداعية الإسلام وكذا رواية البخاري في الجهاد بداعية الإسلام قوله فإنما عليك إثم اليريسين وفي رواية ابن إسحق عن الزهري بلفظ فإن عليك إثم الأكارين وكذا رواه الطبراني والبيهقي في دلائل النبوة وزاد البرقاني في روايته يعني الحراثين وفي رواية المديني من طريق مرسلة فإن عليكم إثم الفلاحين والإسماعيلي فإن عليك إثم الركوسيين وهم أهل دين النصارى والصابية يقال لهم الركوسية وقال الليث بن سعد عن يونس فيما رواه الطبراني في الكبير من طريقه الأريسيون العشارون يعني أهل المكس قوله يا أهل الكتاب هكذا هو بإثبات الواو في أوله وذكر القاضي أن الواو ساقطة في رواية الأصيلي وأبي ذر قلت إثبات الواو هو رواية عبدوس والنسفي والقابسي قوله عنده الصخب ووقع في مسلم اللغط وفي البخاري في الجهاد وكثر لغطهم وفي التفسير وكثر اللغط وهو الأصوات المختلفة قوله فما زلت موقنا زاد في حديث عبد الله بن شداد عن أبي سفيان فما زلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت أخرجه الطبراني قوله ابن الناطور بالطاء المهملة وفي رواية الحموي بالظاء المعجمة ووقع في رواية الليث عن يونس ابن ناطورا بزيادة الألف في آخره فعلى هذا هو اسم أعجمي قوله صاحب إيلياء

(1/88)


بالنصب وفي رواية أبي ذر بالرفع قوله أسقف على نصارى الشام على صيغة المجهول من الثلاثي المزيد فيه وهو رواية المستملي والسرخسي وفي رواية الكشميهني سقف على صيغة المجهول أيضا من التسقيف وفي رواية وقع هنا سقفا بضم السين والقاف وتشديد الفاء ويروى أسقفا بضم الهمزة وسكون السين وضم القاف وتخفيف الفاء ويروى أسقفا مثله إلا أنه بتشديد الفاء ذكرهما الجواليقي وغيره وقال الإسماعيلي فيه من أساقفة نصارى الشام موضع سقف وقال صاحب المطالع وفي رواية أبي ذر والأصيلي عن المروزي سقف وعند الجرجاني سقفا وعند القابسي أسقفا وهذا أعرفها مشدد الفاء فيهما وحكى بعضهم أسقفا وسقفا وهو من النصارى رئيس الدين فيما قاله الخليل وسقف قدم لذلك وقال ابن الأنباري يحتمل أن يكون سمى بذلك لانحنائه وخضوعه لتدينه عندهم وأنه قيم شريعتهم وهو دون القاضي والأسقف الطويل في انحناء في العربية والاسم منه السقف والسقيفي وقال الداودي هو العالم ويقال سقف كفعل أعجمي معرب ولا نظير لأسقف إلا أسرب قلت حكى ابن سيده ثالثا وهو الأسكف للصانع ولا يرد الأترج لأنه جمع والكلام في المفرد وقال النووي الأشهر بضم الهمزة وتشديد الفاء وقال ابن فارس السقف بالتحريك طول في انحناء ورجل أسقف قال ابن السكيت ومنه اشتقاق أسقف النصارى قوله أصبح يوما خبيث النفس وصرح في رواية ابن إسحق بقولهم له لقد أصبحت مهموما قوله ملك الختان ضبط على وجهين أحدهما بفتح الميم وكسر اللام وهو رواية الكشميهني والآخر ضم الميم وإسكان اللام وكلاهما صحيح قوله هم يختتنون وفي رواية الأصيلي يختنون والأول أفيد وأشمل قوله فقال هرقل هذا يملك هذه الأمة هذا رواية أبي ذر عن الكشميهني وحده على صورة الفعل المضارع وأكثر الرواة على هذا ملك هذه الأمة بضم الميم وسكون اللام وفي رواية القابسي هذا ملك هذه الأمة بفتح الميم وكسر اللام وقال صاحب المطالع الأكثرون على رواية القابسي هذا هو الأظهر وقال عياض أرى رواية أبي ذر مصحفة لأن ضمة الميم اتصلت بها فتصحفت ولما حكاها صاحب المطالع قال أظنه تصحيفا وقال النووي كذا ضبطناه عن أهل التحقيق وكذا هو في أكثر أصول بلادنا قال وهي صحيحة أيضا ومعناها هذا المذكور يملك هذه الأمة وقد ظهر والمراد بالأمة هنا أهل العصر قوله فأذن بالقصر من الإذن وفي رواية المستملي وغيره بالمد ومعناه اعلم من الإيذان وهو الإعلام قوله فتبايعوا بالتاء المثناة من فوق والباء الموحدة وبعد الألف ياء آخر الحروف وفي رواية الكشميهني فتتابعوا بتاءين مثناتين من فوق وبعد الألف باء موحدة وفي رواية الأصيلي فنبايع بنون الجماعة بعدها الباء الموحدة قوله لهذا النبي باللام في رواية أبي ذر وفي رواية غيره هذا بدون اللام قوله وأيس بالهمزة ثم الياء آخر الحروف هكذا في رواية الكشميهني وفي رواية الأصيلي يئس بتقديم الياء على الهمزة وهما بمعنى والأول مقلوب من الثاني فافهم
( بيان الصرف ) قوله سفيان من سفى الريح التراب تسفيه سفيا إذا ذرته وفاؤه مثلثة قوله حرب مصدر في الأصل قوله ماد فيها بتشديد الدال من باب المفاعلة وأصله مادد أدغمت الدال في الدال وجوبا لاجتماع المثلين ومضارعه يماد وأصله يمادد ومصدره مماددة ومماد وأصل هذا الباب أن يكون بين اثنين وأصله من المدة وهي القطعة من الزمان يقع على القليل والكثير أي اتفقوا على الصلح مدة من الزمان وهذه المدة هي صلح الحديبية الذي جرى بين النبي وكفار قريش سنة ست من الهجرة لما خرج في ذي القعدة معتمرا قصدته قريش وصالحوه على أن يدخلها في العام القابل على وضع الحرب عشر سنين فدخلت بنو بكر في عهد قريش وبنو خزاعة في عهده ثم نقضت قريش العهد بقتالهم خزاعة حلفاء رسول الله فأمر الله تعالى بقتالهم بقوله ( ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم ) وفي كتاب أبي نعيم في مسند عبد الله بن دينار كانت مدة الصلح أربع سنين والأول أشهر قوله أدنوه بفتح الهمزة من الإدناء وأصله أدنيو استثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان وهما الياء والواو فحذفت الياء لأن الواو علامة الجمع ثم أبدلت كسرة النون ضمة لتدل على الواو المحذوفة فصار أدنوا على وزن أفعوا قوله تتهمونه من باب الافتعال تقول اتهم يتهم اتهاما وأصله اوتهم لأنه من الوهم قلبت الواو تاء وأدغمت التاء في التاء وأصل تتهمونه توتهمونه

(1/89)


ففعل به مثل ما ذكرنا وكذا سائر مواده قوله بالكذب بفتح الكاف وكسر الذال مصدر كذب وكذلك الكذب بكسر الكاف وسكون الذال وقد ذكرناه مرة قوله يأتسي من الإيتساء من باب الافتعال ومادته همزة وسين وياء قوله ليذر الكذب أي ليدع الكذب وقد أماتوا ماضي هذا الفعل وفي العباب تقول ذره أي دعه وهو يذره أي يدعه وأصله وذره يذره مثال وسعه يسعه وقد أميت صدره ولا يقال وذره ولا واذره ولكن تركه وهو تارك إلا أن يضطر إليه شاعر وقيل هو من باب منع يمنع محمولا على ودع يدع لأنه بمعناه قالوا ولو كان من باب وحل يوحل لقيل في مستقبله يوذر كيوحل ولو لم يكن محمولا لم تخل عينه أو لامه من حروف الحلق وهذا القول أصح وإذا أردت ذكر مصدره فقل ذره تركا ولا تقل ذره وذرا قوله دحية أصله من دحوت الشيء دحوا أي بسطته قال تعالى ( والأرض بعد ذاك دحاها ) أي بسطها قوله الهدى مصدر من هداه يهديه وفي الصحاح الهدى الرشاد والدلالة يذكر ويؤنث يقال هداه الله للدين هدى وهديته الطريق والبيت هداية أي عرفته هذه لغة أهل الحجاز وغيرهم تقول هديته إلى الطريق وإلى الدار حكاهما الأخفش وهدى واهتدى بمعنى قوله بدعاية الإسلام بكسر الدال أي يدعوه وهو مصدر كالشكاية من شكى والرماية من رمى وقد تقام المصادر مقام الأسماء وفي رواية بداعية الإسلام على ما ذكرنا وهي أيضا بمعنى الدعوة وقد يجيء المصدر على وزن فاعلة كقوله تعالى ( ليس لوقعتها كاذبة ) أي كذب قوله استنكرنا من الاستنكار من باب الاستفعال وأصل باب الاستفعال أن يكون للطلب وقد يخرج عن بابه وهذه اللفظة من هذا القبيل يقال استنكرت الشيء إذا أنكرته وقال الليث الاستنكار استفهامك أمرا تنكره قوله حزاء مبالغة حاز على وزن فعال بالتشديد قوله فلم يرم أصله يريم فلما دخل عليه الجازم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وقد ذكرنا تفسيره قوله أيس على وزن فعل بكسر العين وقال ابن السكيت أيست منه يئيس إياسا أي قنطت لغة في يئست منه أيأس يأسا والإياس انقطاع الطمع
( بيان الإعراب ) قوله أن عبد الله بن عباس كلمة أن ههنا وفي أن أبا سفيان وفي أن هرقل مفتوحات في محل الجر بالباء المقدرة كما في قولك أخبرني أن زيدا منطلق والتقدير بأن زيدا منطلق أي أخبرني بانطلاق زيد قوله في ركب جملة في موضع النصب على الحال والتقدير أرسل هرقل إلى أبي سفيان حال كونه كائنا في جملة الركب وقوله من قريش في محل الجر على أنه صفة للركب وكلمة من تصلح أن تكون لبيان الجنس كما في قوله تعالى ( يلبسون ثيابا خضرا من سندس ) ويجوز أن تكون للتبعيض قوله وكانوا تجارا الواو فيه تصلح أن تكون للحال بتقدير قد فإن قلت في حال الطلب لم يكونوا تجارا قلت تقديره ملتبسين بصفة التجار قوله في المدة جملة في محل النصب على الحال والألف واللام فيها بدل من المضاف إليه أي في مدة الصلح بالحديبية قوله أبا سفيان بالنصب مفعول لقوله ماذا قوله وكفار قريش كلام إضافي منصوب عطفا على أبا سفيان ويجوز أن يكون مفعولا معه قوله فأتوه الفاء فيه فصيحة إذ تقدير الكلام فأرسل إليه في طلب إتيان الركب إليه فجاء الرسول فطلب إتيانهم فأتوه ونحوه قوله تعالى ( فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت ) أي فضرب فانفجرت فإن قلت ما معنى فاء الفصيحة قلت سميت بها لأنها يستدل بها على فصاحة المتكلم وهذا إنما سموها بها على رأي الزمخشري وهي تدل على محذوف هو سبب لما بعدها سواء كان شرطا أو معطوفا وقال الزمخشري في قوله تعالى ( فانفجرت ) الفاء متعلقة بمحذوف أي فضرب فانفجرت أو فإن ضربت فقد انفجرت كما ذكرنا في قوله تعالى ( فتاب عليكم ) وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام فصيح فإن قلت هم في أين موضع كانوا حتى أرسل إليهم أبو سفيان قلت في الجهاد في البخاري أن الرسول وجدهم ببعض الشام وفي رواية أبي نعيم في الدلائل تعيين الموضع وهي غزة قال وكانت وجه متجرهم وكذا رواه ابن إسحاق في المغازي عن الزهري قوله وهم بإيلياء الواو فيه للحال والباء في بإيلياء بمعنى في قوله فدعاهم في مجلسه الضمير المرفوع في فدعاهم يرجع إلى هرقل والمنصوب إلى أبي سفيان ومن معه وقوله في مجلسه حال أي في حال كونه في مجلسه فإن قلت دعا يستعمل بكلمة إلى يقال دعا إليه قال الله تعالى ( والله يدعو إلى دار السلام ) وكان ينبغي أن يقال فدعاهم إلى مجلسه قلت دعا ههنا من قبيل قولهم دعوت فلانا أي صحت به وكلمة في لا تتعلق به ولا هي صلته وإنما هي حال كما ذكرنا تتعلق بمحذوف وتقديره كما ذكرنا أو تكون في بمعنى إلى كما في قوله تعالى ( فردوا أيديهم في أفواههم )

(1/90)


أي إلى أفواههم ويدل عليه رواية شرح السنة دعاهم لمجلسه قوله وحوله عظماء الروم الواو فيه للحال وحوله نصب على الظرف ولكنه في تقدير الرفع لأنه خبر المبتدأ أعني قوله عظماء الروم قوله ثم دعاهم عطف على قوله فدعاهم فإن قلت هذا تكرار فما الفائدة فيه قلت ليس بتكرار لأنه أولا دعاهم بأن أمر بإحضارهم من الموضع الذي كانوا فيه فلما حضروا استأذن لهم فتأمل زمانا حتى أذن لهم وهو معنى قوله ثم دعاهم ولهذا ذكره بكلمة ثم التي تدل على التراخي وهكذا عادة الملوك الكبار إذا طلبوا شخصا يحضرون به ويوقفونه على بابهم زمانا حتى يأذن لهم بالدخول ثم يؤذن لهم بالدخول ولا شك أن ههنا لا بد من دعوتين الدعوة في الحالة الأولى والدعوة في الحالة الثانية قوله ودعا ترجمانه بنصب الترجمان لأنه مفعول وعلى رواية بترجمانه تكون الباء زائدة لأن دعا يتعدى بنفسه كما في قوله تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) قوله فقال أيكم الفاء فيه فصيحة أيضا والضمير في قال يرجع إلى الترجمان والتقدير أي فقال هرقل للترجمان قل أيكم أقرب فقال الترجمان أيكم أقرب ثم أن لفظة أقرب إن كان أفعل التفضيل فلا بد أن تستعمل بأحد الوجوه الثلاثة الإضافة واللام ومن وقد جاء ههنا مجردا عنها وأيضا معنى القرب لا بد أن يكون من شيء فلا بد من صلة وأجيب بأن كليهما محذوفان والتقدير أيكم أقرب من النبي من غيركم قوله فقلت أنا أقربهم نسبا أي من حيث النسب وإنما كان أبو سفيان أقرب لأنه من بني عبد مناف وقد أوضح ذلك البخاري في الجهاد بقوله قال ما قرابتك منه قلت هو ابن عمي قال أبو سفيان ولم يكن في الركب من بني عبد مناف غيري انتهى وعبد مناف هو الأب الرابع للنبي وكذا لأبي سفيان وأطلق عليه ابن عم لأنه نزل كلا منهما منزلة جده فعبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وأبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وإنما خص هرقل الأقرب لأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرا وباطنا أكثر من غيره ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب قوله فقال أي هرقل ادنوه مني وإنما أمر بإدنائه ليمعن في السؤال قوله فاجعلوهم عند ظهره أي عند ظهر أبي سفيان إنما قال ذلك لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب وقد صرح بذلك الواقدي في روايته قوله قل لهم أي لأصحاب أبي سفيان قوله هذا أشار به إلى أبي سفيان وأراد بقوله عن الرجل النبي والألف واللام فيه للعهد قوله فإن كذبني بالتخفيف فكذبوه بالتشديد أي فإن نقل إلى الكذب وقال لي خلاف الواقع قوله فوالله من كلام أبي سفيان كما ذكرنا قوله لكذبت عنه جواب لولا قوله ثم كان أول بالرفع اسم كان وخبره قوله أن قال وأن مصدرية تقديره قوله وجاء النصب ووجهه أن يكون خبرا لكان فإن قلت أين اسم كان على هذا التقدير وما موضع قوله أن قال قلت يجوز أن يكون اسم كان ضمير الشأن ويكون قوله أن قال بدلا من قوله ما سألني عنه أو يكون التقدير بأن قال أي بقوله ويجوز أن يكون أن قال اسم كان وقوله أول ما سألني خبره والتقدير ثم كان قوله كيف نسبه فيكم أول ما سألني منه قوله ذو نسب أي صاحب نسب عظيم والتنوين للتعظيم كما في قوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة ) أي حياة عظيمة قوله قط قد ذكرنا أنه لا يستعمل إلا في الماضي المنفي فإن قلت فأين النفي ههنا قلت الاستفهام حكمه حكم النفي قوله قبله قبله نصب على الظرف وأما على رواية مثله بدل قبله يكون بدلا عن قوله هذا القول قوله منكم أي من قومكم فالمضاف محذوف قوله فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فيه حذف همزة الاستفهام والتقدير اتبعه أشراف الناس أم اتبعه ضعفاؤهم وفي رواية البخاري في التفسير بهمزة الاستفهام ولفظه اتبعه أشراف الناس وأم ههنا متصلة معادلة لهمزة الاستفهام قوله بل ضعفاؤهم أي بل اتبعه ضعفاء الناس وكذلك الكلام في قوله أيزيدون أم ينقصون قوله سخطة نصب على التعليل ويجوز أن يكون نصبا على الحال على تأويل ساخطا قوله ونحن منه أي من الرجل المذكور وهو النبي في مدة أراد بها مدة الهدنة وهي صلح الحديبية نص عليه النووي وليس كذلك وإنما يريد غيبته عن الأرض وانقطاع أخباره عنه ولذلك قال ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا لأن الإنسان قد يتغير ولا يدري الآن هل هو على ما فارقناه أو بدل شيئا وقال الكرماني في قوله لا ندري إشارة إلى أن عدم غدره غير مجزوم به قلت ليس كذلك بل لكون الأمر مغيبا عنه

(1/91)


وهو في الاستقبال تردد فيه بقوله لا ندري قوله فيها أي في المدة قوله قال أي أبو سفيان قوله كلمة مرفوع لأنه فاعل لقوله لم يمكني قوله أدخل بضم الهمزة من الإدخال قوله فيها أي في الكلمة ذكر الكلمة وأراد بها الكلام قوله شيئا مفعول لقوله ادخل قوله غير هذه الكلمة يجوز في غير الرفع والنصب أما الرفع فعلى كونه صفة لكلمة وأما النصب فعلى كونه صفة لقوله شيئا واعترض كيف يكون غير صفة لهما وهما نكرة وغير مضاف إلى المعرفة وأجيب بأنه لا يتعرف بالإضافة إلا إذا اشتهر المضاف بمغايرة المضاف إليه وههنا ليس كذلك قوله وكيف كان قتالكم إياه قال بعض الشارحين فيه انفصال ثاني الضميرين والاختيار أن لا يجيء المنفصل إذا تأتى مجيء المتصل وقال شارح آخر قتالكم إياه أفصح من قتالكموه باتصال الضمير فلذلك فصله قلت الصواب معه نص عليه الزمخشري قوله الحرب مبتدأ وقوله سجال خبره لا يقال الحرب مفرد والسجال جمع فلا مطابقة بين المبتدأ والخبر لأنا نقول الحرب اسم جنس وقال بعضهم الحرب اسم جمع ولهذا جعل خبره اسم جمع قلت لا نسلم أن السجال اسم جمع بل هو جمع وبين الجمع واسم الجمع فرق كما علم في موضعه ويجوز أن يكون سجال بمعنى المساجلة ولا يكون جمع سجل فلا يرد السؤال أصلا قوله قال ماذا يأمركم أي قال هرقل وكلمة ما استفهام وذا إشارة ويجوز أن يكون كله استفهاما على التركيب كقولك لماذا جئت ويجوز أن يكون ذا موصولة بدليل افتقاره إلى الصلة كما في قول لبيد ألا تسألان المرء ماذا يحاول ويجوز أن يكون ذا زائدة أجاز ذلك جماعة منهم ابن مالك في نحو ماذا صنعت قوله لم يكن ليذر الكذب اللام فيه تسمى لام الجحود لملازمتها للجحد أي النفي وفائدتها توكيد النفي وهي الداخلة في اللفظ على الفعل مسبوقة بما كان أو لم يكن ناقصتين مسندتين لما أسند إليه الفعل المقرون باللام نحو ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) ( لم يكن الله ليغفر لهم ) وقال النحاس الصواب تسميتها لام النفي لأن الجحد في اللغة إنكار ما تعرفه لا مطلق الإنكار قوله حين تخالط بشاشته القلوب قد ذكرنا التوجيه فيه قوله فذكرت أنه أي بأنه ومحل أن جر بهذه وكذلك أن في قوله ( أن تعبدوا الله ) قوله ثم دعا بكتاب رسول الله فيه حذف تقديره قال أبو سفيان ثم دعا هرقل ومفعول دعا أيضا محذوف قدره الكرماني بقوله ثم دعا هرقل الناس بكتاب رسول الله وقدره بعضهم ثم دعا من وكل ذلك إليه قلت الأحسن أن يقال ثم دعا من يأتي بكتاب رسول الله وإنما احتيج إلى التقدير لأن الكتاب مدعو به وليس بمدعو فلهذا عدى إليه بالباء ويجوز أن تكون الباء زائدة والتقدير ثم دعا الكتاب على سبيل المجاز أو ضمن دعا معنى اشتغل ونحوه قوله بعث به مع دحية أي أرسله معه ويقال أيضا بعثه وابتعثه بمعنى أرسله وكلمة مع بفتح العين على اللغة الفصحى وبها جاء القرآن ويقال أيضا بإسكانها وقيل مع لفظ معناه الصحبة ساكن العين ومفتوحها غير أن المفتوحة تكون اسما وحرفا والساكنة حرف لا غير قوله فإذا فيه كلمة إذا هذه للمفاجأة قوله من محمد يدل على أن من تأتي في غير الزمان والمكان ونحوه قوله ( من المسجد الحرام ) ( انه من سليمان ) قوله سلام مرفوع على الابتدا وهذا من المواضع التي يكون المبتدأ فيها نكرة بوجه التخصيص وهو مصدر في معنى الدعاء وأصله سلم الله أو سلمت سلاما إذ المعنى فيه ثم حذف الفعل للعلم به ثم عدل عن النصب إلى الرفع لغرض الدوام والثبوت وأصل المعنى على ما كان عليه وقد كان سلاما في الأصل مخصوصا بأنه صادر من الله تعالى ومن المتكلم لدلالة فعله وفاعله المتقدمين عليه فوجب أن يكون باقيا على تخصيصه قوله أما بعد كلمة أما فيها معنى الشرط فلذلك لزمتها الفاء وتستعمل في الكلام على وجهين أحدهما أن يستعملها المتكلم لتفصيل ما أجمله على طريق الاستئناف كما تقول جاءني أخوتك أما زيد فأكرمته وأما خالد فأهنته وأما بشر فأعرضت عنه والآخر أن يستعملها أخذا في كلام مستأنف من غير أن يتقدمها كلام وأما ههنا من هذا القبيل وقال الكرماني أما للتفصيل فلا بد فيه من التكرار فأين قسيمه ثم قال المذكور قبله قسيمه وتقديره أما الابتداء فباسم الله تعالى وأما المكتوب فمن محمد ونحوه وأما بعد ذلك فكذا انتهى قلت هذا كله تعسف وذهول عن القسمة المذكورة ولم يقل أحد أن أما في مثل هذا الموضع تقتضي التقسيم والتحقيق ما قلنا وكلمة بعد مبنية على الضم إذ أصلها أما بعد كذا وكذا فلما قطعت عن الإضافة

(1/92)


بنيت على الضم وتسمى حينئذ غاية قوله بدعاية الإسلام أي أدعوك بالمدعو الذي هو الإسلام والباء بمعنى إلى وجوزت النحاة إقامة حروف الجر بعضها مقام بعض أي أدعوك إلى الإسلام قوله أسلم تسلم كلاهما مجزومان الأول لأنه أمر والثاني لأنه جواب الأمر والأول بكسر اللام لأنه من أسلم والثاني بفتحها لأنه مضارع من سلم قوله يؤتك الله مجزوم أيضا إما جواب ثان للأمر وإما بدل منه وإما جواب لأمر محذوف تقديره أسلم يؤتك الله على ما صرح به البخاري في الجهاد أسلم يؤتك الله وقال بعضهم يحتمل أن يكون الأمر الأول للدخول في الإسلام والثاني للدوام عليه كما في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) الآية قلت الأصوب أن يكون من باب التأكيد والآية في حق المنافقين معناها يا أيها الذين آمنوا نفاقا آمنوا إخلاصا كذا في التفسير قوله ويا أهل الكتاب عطف هذا الكلام على ما قبله بالواو والذي يدل على الجمع والتقدير أدعوك بدعاية الإسلام وأدعوك بقول الله ( يا أهل الكتاب ) إلى آخره وأما الرواية التي سقطت فيها الواو فوجهها أن يكون قوله ( يا أهل الكتاب ) بيانا لقوله بدعاية الإسلام قوله ( تعالوا ) بفتح اللام وأصله تعاليوا تقول تعال تعاليا تعاليوا قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين فصار تعالوا والمراد من أهل الكتاب أهل الكتابين اليهود والنصارى وقيل وفد نجران وقيل يهود المدينة قوله ( سواء ) أي مستوية بيننا وبينكم لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل وتفسير الكلمة قوله ( أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) يعني تعالوا إليها حتى لا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله لأن كل واحد منهما بشر مثلنا ولا نطيع أحبارنا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع الله قوله ( فإن تولوا ) أي عن التوحيد ( فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) أي لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا فإنا مسلمون دونكم وقال الزمخشري يجوز أن يكون من باب التعريض ومعناه اشهدوا اعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره قوله فلما قال أي هرقل قوله ما قال جملة في محل النصب لأنها مفعول قال وما موصولة والعائد محذوف تقديره ما قاله من السؤال والجواب قوله أخرجنا على صيغة المجهول في الموضعين ويجوز أن يكون الثاني على صيغة المعلوم بفتح الراء فافهم قوله لقد أمر جواب القسم المحذوف أي والله لقد أمر قوله إنه يخافه بكسر إن لأنه كلام مستأنف ولا سيما جاء في رواية باللام في خبرها وقال بعضهم أنه يخافه بكسر الهمزة لا بفتحها لثبوت اللام في خبرها قلت يجوز فتحها أيضا وإن كان على ضعف على أنه مفعول من أجله وقد قرىء في الشواذ ( الا أنهم ليأكلون ) بالفتح في أنهم والمعنى على الفتح في الحديث عظم أمره لأجل أنه يخافه ملك بني الأصفر قوله وكان ابن الناطور الواو فيه عاطفة لما قبلها داخلة في سند الزهري والتقدير عن الزهري أخبرني عبيد الله إلى آخره ثم قال الزهري وكان ابن الناطور يحدث فذكر هذه القصة فهي موصولة إلى ابن الناطور لا معلقة كما توهمه بعضهم وهذا موضع يحتاج فيه إلى التنبيه على هذا وعلى أن قصة ابن الناطور غير مروية بالإسناد المذكور عن أبي سفيان عنه وإنما هي عن الزهري وقد بين ذلك أبو نعيم في دلائل النبوة أن الزهري قال لقيته بدمشق في زمن عبد الملك بن مروان وقوله ابن الناطور كلام إضافي اسم كان وخبره قوله أسقف على اختلاف الروايات فيه وقوله صاحب إيلياء كلام إضافي يجوز فيه الوجهان النصب على الاختصاص والرفع على أنه صفة لابن الناطور أو خبر مبتدأ محذوف أي هو صاحب إيلياء وقال بعضهم نصب على الحال وفيه بعد قوله وهرقل بفتح اللام في محل الجر على أنه معطوف على إيلياء أي صاحب إيلياء وصاحب هرقل قوله يحدث جملة في محل الرفع لأنها خبر ثان لكان قوله أصبح خبر أن ويوما نصب على الظرف وخبيث النفس نصب على أنه خبر أصبح قوله قال ابن الناطور إلى قوله فقال لهم جمل معترضة بين سؤال بعض البطارقة وجواب هرقل إياهم قوله وكان هرقل حزاء عطف على مقدر تقديره قال ابن الناطور كان هرقل عالما وكان حزاء فلما حذف المعطوف عليه أظهر هرقل في المعطوف وحزاء نصب لأنه خبر كان قوله ينظر في النجوم خبر بعد خبر فعلى هذا محلها الرفع ويجوز أن يكون تفسيرا لقوله حزاء فحينئذ يكون محلها النصب قوله ملك الختان كلام إضافي مبتدأ وخبره قوله قد ظهر قوله

(1/93)


فمن يختتن فمن ههنا استفهامية قوله فبينما هم أصله بين أشبعت الفتحة فصار بينا ثم زيدت عليها ما والمعنى واحد وقوله هم مبتدأ وعلى أمرهم خبره وقوله أتى هرقل جوابه وقد يأتي بإذ وإذا والأفصح تركهما والتقدير بين أوقات أمرهم إذ أتى وأراد بالأمر مشورتهم التي كانوا فيها قوله أرسل به جملة في محل الجر لأنها صفة لرجل ولم يسم هذا الرجل من هو ولا سمى من أحضره أيضا قوله أمختتن الهمزة فيه للاستفهام قوله هذا يملك هذه الأمة قد ظهر قد ذكرنا أن فيه ثلاث روايات يحتاج إلى توجيهها على الوجه المرضي ولم أر أحدا من الشراح قديما وحديثا شفى العليل ههنا ولا أروى الغليل وإنما رأيت شارحا نقل عن السهيلي وعن شيخ نفسه أما الذي نقل عن السهيلي فهو قوله ووجهه السهيلي في أماليه بأنه مبتدأ وخبر أي هذا المذكور يملك هذه الأمة وهذا توجيه الرواية التي فيها هذا يملك هذه الأمة بالفعل المضارع وهذا فيه خدش لأن قوله قد ظهر يبقى سائبا من هذا الكلام وأما الذي نقل عن شيخه فهو أنه قد وجه قول من قال أن يملك يجوز أن يكون نعتا أي هذا رجل يملك هذه الأمة فقال في توجيهه يجوز أن يكون المحذوف وهو الموصول على رأي الكوفيين أي هذا الذي يملك وهو نظير قوله وهذا تحملين طليق وهذا أيضا فيه خدش من وجهين أحدهما ما ذكرنا والآخر أن قوله وهو نظير قوله وهذا تحملين طليق قياس غير صحيح لأن البيت ليس فيه حذف وإنما فيه أن الكوفيين قالوا أن لفظة هذا ههنا بمعنى الذي تقديره والذي تحملين طليق وأما البصريون فيمنعون ذلك ويقولون هذا اسم إشارة وتحملين حال من ضمير الخبر والتقدير وهذا طليق محمولا فنقول بعون الله تعالى أما وجه الرواية التي فيها يملك بالفعل المضارع فإن قوله هذا مبتدأ وقوله يملك جملة من الفعل والفاعل في محل الرفع خبره وقوله هذه الأمة مفعول يملك وقوله قد ظهر جملة وقعت حالا وقد علم أن الماضي المثبت إذا وقع حالا لا بد أن يكون فيه قد ظاهرة أو مقدرة وأما وجه الرواية التي فيها ملك هذه الأمة بضم الميم وسكون اللام فإن قوله هذا يحتمل وجهين من الإعراب أحدهما أن يكون مبتدأ محذوف الخبر تقديره هذا الذي نظرته في النجوم والآخر أن يكون فاعلا لفعل محذوف تقديره جاء هذا أشار به إلى قوله ملك الختان قد ظهر وبكون قوله ملك هذه الأمة مبتدأ وقوله قد ظهر خبره وتكون هذه الجملة كالكاشفة للجملة الأولى فلذلك ترك العاطف بينهما وأما وجه الرواية التي فيها هذا ملك هذه الأمة قد ظهر بفتح الميم وكسر اللام فإن قوله هذا يكون إشارة إلى رسول الله ويكون مبتدأ وقوله ملك هذه الأمة خبره وقوله قد ظهر حال منتظرة والعامل فيها معنى الإشارة في هذا وروى هنا أيضا هذا بملك هذه الأمة بالباء الجارة فإن صحت هذه الرواية تكون الباء متعلقة بقوله قد ظهر وبكون التقدير هذا الذي رأيته في النجوم قد ظهر بملك هذه الأمة التي تختتن فافهم قوله بالرومية صفة لصاحب والباء ظرفية قوله إلى حمص مفتوح في موضع الجر لأنه غير منصرف للعلمية والتأنيث والعجمة وقال بعضهم يحتمل أن يجوز صرفه قلت لا يحتمل أصلا لأن هذا القائل إنما غره فيما قاله سكون أوسط حمص فإن ما لا ينصرف إذا سكن أوسطه يكون في غاية الخفة وذلك يقاوم أحد السببين فيبقى الاسم بسبب واحد فيجوز صرفه ولكن هذا فيما إذا كان الاسم فيه علتان فبسكون الأوسط يبقى بسبب واحد وأما إذا كانت فيه ثلاث علل مثل ماه وجور فإنه لا ينصرف البتة لأن بعد مقاومة سكونه أحد الأسباب يبقى سببان وحمص كما ذكرنا فيها ثلاث علل فافهم قوله أنه نبي بفتح أن عطف على قوله على خروج النبي وأراد بالخروج الظهور قوله له في محل الجر لأنه صفة لدسكرة أي كائنة له وقوله بحمص يجوز أن يكون صفة لدسكرة ويجوز أن يكون حالا من هرقل قوله ثم اطلع أي خرج من الحرم وظهر على الناس قوله وأن يثبت بفتح أن وهي مصدرية عطف على قوله في الفلاح أي وهل لكم في ثبوت ملككم قوله وأيس من الإيمان جملة وقعت حالا بتقدير قد قوله آنفا قال بعضهم منصوب على الحال قلت لا يصح أن يكون حالا بل هو نصب على الظرف لأن معناه ساعة أو أول وقت كما ذكرنا قوله اختبر بها حال وقد علم أن المضارع المثبت إذا وقع حالا لا يجوز فيه الواو قوله آخر شأن هرقل أي آخر أمره في النبي في هذه القضية لأنه وقعت له قصص أخرى بعد ذلك وآخر بالنصب هو الصحيح من الرواية لأنه خبر كان وقوله ذلك اسمه

(1/94)


وهو إشارة إلى ما ذكر من الأمور فإن صحت الرواية بالرفع فوجهه أن يكون اسم كان وخبره ذلك مقدما
( بيان المعاني والبيان ) قوله الحرب بيننا وبينه سجال هذا تشبيه بليغ شبه الحرب بالسجال مع حذف أداة التشبيه لقصد المبالغة كما في قولك زيد أسد إذا أردت به المبالغة في بيان شجاعته فصار كأنه عين الأسد ولهذا حمل الأسد عليه وذكر السجال وأراد به النوب يعني الحرب بيننا وبينه نوب نوبة لنا ونوبة له كالمستقيين إذا كان بينهما دلوان يستقى أحدهما دلوا والآخر دلوا هذا إذا أريد من السجال الدلاء لأنه جمع سجل بالفتح وهو الدلو العظيم وأن أريد به المصدر كالمساجلة وهي المفاخرة وهي أن يصنع أحدهما ما يصنع الآخر لا يكون من هذا الباب فافهم قوله ولا تشركوا به أي بالله وهذه الجملة عطف على قوله اعبدوا الله وحده من عطف المنفي على المثبت وهو في الحقيقة عطف الخاص على العام من قبيل ( تنزل الملائكة والروح ) فإن عبادة الله أعم من عدم الإشراك به وفي رواية لا تشركوا به بدون الواو فتكون الجملة الثانية في حكم التأكيد لأن بين الجملتين كمال الاتصال فتكون الثانية مؤكدة للأولى ومنزلة منها منزلة التأكيد المعنوي من متبوعه في إفادة التقرير مع الاختلاف في اللفظ قوله واتركوا ما تقول آباؤكم حذف المفعول منه ليدل على العموم أعني عموم قوله ما كانوا عليه في الجاهلية وفي ذكر الآباء تنبيه على أنهم هم القدوة في مخالفتهم للنبي وهم عبدة الأوثان والنصارى واليهود قوله حين يخالط بشاشته القلوب مخالطة بشاشة الإيمان القلوب كناية عن انشراح الصدر والفرح به والسرور قوله فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله فيه من فن المشاكلة والمطابقة وذلك لأن في كلام هرقل سألتك بما يأمركم فكذلك في حكايته عن كلام أبي سفيان قال فذكرت أنه يأمركم بطريق المشاكلة وأبو سفيان في جوابه إياه فيما مضى لم يقل إلا قلت يقول اعبدوا الله فعدل ههنا عنه إلى قوله فذكرت أنه يأمركم وقال الكرماني في جواب هذا أن هرقل إنما غير عبارته تعظيما للرسول وتأدبا له قوله أسلم تسلم فيه جناس اشتقاقي وهو أن يرجع اللفظان في الاشتقاق إلى أصل واحد قوله فإن توليت أي أعرضت وحقيقة التولي إنما هو بالوجه ثم استعمل مجازا في الإعراض عن الشيء قلت هذا استعارة تبعية وقد علم أن الاستعارة على قسمين أصلية وتبعية وذلك باعتبار اللفظ لأنه إن كان اسم جنس سواء كان عينا أو معنى فالاستعارة أصلية كأسد وفيل وإن كان غير اسم جنس فالاستعارة تبعية وجه كونها تبعية أن الاستعارة تعتمد التشبيه والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا والأمور الثلاثة عن الموصوفية بمعزل فتقع الاستعارة أولا في المصادر ومتعلقات معاني الحروف ثم تسري في الأفعال والصفات والحروف قوله وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل قال الكرماني ولفظ الصاحب هنا بالنسبة إلى هرقل حقيقة وبالنسبة إلى إيلياء مجاز إذ المراد منه الحاكم فيه وإرادة المعنى الحقيقي والمعنى المجازي من لفظ واحد باستعمال واحد جائز عند الشافعي وأما عند غيره فهو مجاز بالنسبة إلى المعنيين باعتبار معنى شامل لهما ومثله يسمى بعموم المجاز قلت لا نسلم اجتماع الحقيقة والمجاز ههنا لأن فيه حذفا تقديره وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وصاحب هرقل ففي الأول مجاز وفي الثاني حقيقة فلا جمع ههنا وارتكاب الحذف أولى من ارتكاب المجاز فضلا عن الجمع بين الحقيقة والمجاز الذي هو كالمستحيل على ما عرف في موضعه قوله من هذه الأمة أي من أهل هذا العصر وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم فيه تجوز والأمة في اللغة الجماعة قال الأخفش هو في اللفظ واحد وفي المعنى جمع وكل جنس من الحيوان أمة وفي الحديث لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها والمراد من قوله ملك هذه الأمة قد ظهر العرب خاصة قوله فحاصوا حيصة حمر الوحش أي كحيصة حمر الوحش شبه نفرتهم وجهلهم مما قال لهم هرقل وأشار إليهم من اتباع الرسول بنفرة حمر الوحش لأنها أشد نفرة من سائر الحيوانات ويضرب المثل بشدة نفرتها وقال بعضهم شبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لمناسبة الجهل في عدم الفطنة بل هم أضل قلت هذا كلام من لا وقوف له في علمي المعاني والبيان ولا يخفى وجه التشبيه ههنا على من له أدنى ذوق في العلوم
( الأسئلة والأجوبة ) الأول ما قيل أن قصة أبي سفيان مع هرقل إنما كانت في أواخر عهد البعثة فما مناسبة ذكرها لما ترجم عليه الباب وهو كيفية بدء الوحي وأجيب بأن كيفية بدء الوحي تعلم من جميع ما في الباب وهو ظاهر لا يخفى

(1/95)


الثاني ما قيل أن هرقل لم خص الأقرب بقوله أيهم أقرب نسبا وأجيب بأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرا وباطنا ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب الثالث ما قيل لم عدل عن السؤال عن نفس الكذب إلى السؤال عن التهمة وأجيب بأنه لتقريرهم على صدقه لأن التهمة إذا انتفت انتفى سببها الرابع ما قيل أن أبا سفيان لما قال له هرقل فهل يغدر قال قلت لا فما معنى كلامه بعده ونحن منه في مدة إلى آخره أجيب بأنه لما قطع بعدم غدره لعلمه من أخلاقه الوفاء والصدق أحال الأمر على الزمن المستقبل لكونه مغيبا وأورده على التردد ومع هذا كان يعلم أن صدقه ووفاءه ثابت مستمر ولهذا لم يقدح هرقل على هذا القدر منه الخامس ما قيل ما وجه قول أبي سفيان الحرب بيننا وبينه سجال أجيب بأنه أشار بذلك إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر وغزوة أحد وقد صرح بذلك أبو سفيان يوم أحد في قوله يوم بيوم بدر والحرب سجال السادس ما قيل كيف خصص أبو سفيان الأربعة المذكورة بالذكر وهي الصلاة والصدق والعفاف والصلة وأجيب للإشارة إلى تمام مكارم الأخلاق وكمال أنواع فضائله لأن الفضيلة إما قولية وهي الصدق وإما فعلية وهي إما بالنسبة إلى الله تعالى وهي الصلاة لأنه تعظيم الله تعالى وإما بالنسبة إلى نفسه وهي العفة وإما بالنسبة إلى غيره وهي الصلة ولما كان مبنى هذه الأمور الصدق وصحتها موقوفة على التوحيد وترك الإشراك بالله تعالى أشار إليه بقوله أولا يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأشار بهذا القسم إلى التخلي عن الرذائل وبالقسم الأول إلى التحلي بالفضائل ويؤول حاصل الكلام إلى أنه ينهانا عن النقائص ويأمرنا بالكمالات فافهم السابع ما قيل لا تشركوا كيف يكون مأمورا به والعدم لا يؤمر به إذ لا تكليف إلا بفعل لا سيما في الأوامر وأجيب بأن المراد به التوحيد الثامن ما قيل لا تشركوا نهى فما معنى ذلك إذ لا يقال له أمر وأجيب بأن الإشراك منهي عنه وعدم الإشراك مأمور به مع أن كل نهي عن شيء أمر بضده وكل أمر بشيء نهي عن ضده قلت هذا الموضع فيه تفصيل لا نزاع في أن الأمر بالشيء نهي عن ترك ذلك الشيء بالتضمن نهي تحريم إن كان الأمر للوجوب ونهي كراهة إن كان للندب فإذا قال صم يلزمه أن لا يترك الصوم وإنما النزاع في أن الأمر هل هو نهي عن ضده الوجودي مثلا قولك اسكن عين قولك لا تتحرك بمعنى أن المعنى الذي عبر عنه بأسكن عين ما عبر عنه بلا تتحرك فتكون عبارتان لإفادة معنى واحد أم لا فيه النزاع لا في أن صيغة أسكن عين صيغة لا تتحرك فإنه ظاهر الفساد لم يذهب إليه أحد فذهب بعض الشافعية والقاضي أبو بكر أولا أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده بالمعنى المذكور وقال القاضي آخرا وكثير من الشافعية وبعض المعتزلة أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده لا أنه عينه إذ اللازم غير الملزوم وذهب إمام الحرمين والغزالي وباقي المعتزلة إلى أنه لا حكم لكل واحد منهما في ضده أصلا بل هو مسكوت عنه ومنهم من اقتصر فقال الأمر بالشيء عين النهي عن ضده أو يستلزمه ولم يتجاوز ومنهم من تجاوز إلى الجانب الآخر وقال النهي عن الشيء عين الأمر بضده أو يستلزمه وقال أبو بكر الجصاص وهو مذهب عامة العلماء الحنفية وأصحاب الشافعي وأهل الحديث أن الأمر بالشيء نهي عن ضده إذا كان له ضد واحد كالأمر بالإيمان نهي عن الكفر وإن كان له أضداد كالأمر بالقيام له أضداد من القعود والركوع والسجود والاضطجاع يكون الأمر به نهيا عن جميع أضداده كلها وقال بعضهم يكون نهيا عن واحد منها من غير عين وفصل بعضهم بين الأمر بالإيجاب والأمر بالندب فقال أمر الإيجاب يكون نهيا عن ضد المأمور به وعن أضداده لكونها مانعة من قبل الموجب وأمر الندب لا يكون كذلك فكانت أضداد المندوب غير منهي عنها لا نهي تحريم ولا نهي تنزيه ومن لم يفصل جعل أمر الندب نهيا عن ضده نهي ندب حتى يكون الامتناع عن ضد المندوب مندوبا كما يكون فعله مندوبا وأما النهي عن الشيء فأمر بضده إن كان له ضد واحد باتفاقهم كالنهي عن الكفر أمر بالإيمان وإن كان له أضداد فعند بعض الحنفية وبعض أصحاب الحديث يكون أمرا بالأضداد كلها كما في جانب الأمر وعند عامة الحنفية وعامة أصحاب الحديث يكون أمرا بواحد من الأضداد غير عين وذهب بعضهم إلى أنه يوجب حرمة ضده وقال بعضهم يدل على حرمة ضده وقال بعض الفقهاء يدل على كراهة ضده وقال بعضهم يوجب كراهة ضده ومختار القاضي أبي زيد وشمس الأئمة وفخر الإسلام ومن تابعهم أنه يقتضي كراهة ضده

(1/96)


والنهي عن الشيء يوجب أن يكون ضده في معنى سنة مؤكدة التاسع ما قيل وينهاكم عن عبادة الأوثان لم يذكره أبو سفيان فلم ذكره هرقل وأجيب بأنه قد لزم ذلك من قول أبي سفيان وحده ومن ولا تشركوا ومن واتركوا ما يقول آباؤكم ومقولهم كان عبادة الأوثان العاشر ما قيل ما ذكر هرقل لفظة الصلة التي ذكرها أبو سفيان فلم تركها وأجيب بأنها داخلة في العفاف إذ الكف عن الحرام وخوارم المروءة يستلزم الصلة وفيه نظر إلا أن يراد أن الاستلزام عقلي فافهم الحادي عشر ما قيل لم ما راعى هرقل الترتيب وقدم في الإعادة سؤال التهمة على سؤال الاتباع والزيادة والارتداد وأجيب بأن الواو ليست للترتيب أو أن شدة اهتمام هرقل بنفي الكذب على الله سبحانه وتعالى عنه بعثه على التقديم الثاني عشر ما قيل السؤال من أحد عشر وجها والمعاد في كلام هرقل تسعة حيث لم يقل وسألتك عن القتال وسألتك كيف كان قتالكم فلم ترك هذين الإثنين وأجيب لأن مقصوده بيان علامات النبوة وأمر القتال لا دخل له فيها إلا بالنظر إلى العاقبة وذلك عند وقوع هذه القصة كانت في الغيب وغير معلوم لهم أو لأن الراوي اكتفى بما سيذكره في رواية أخرى يوردها في كتاب الجهاد في باب دعاء النبي الناس إلى الإسلام بعد تكرر هذه القصة مع الزيادات وهو أنه قال وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم وزعمت أن قد فعل وأن حربكم وحربه يكون دولا وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة الثالث عشر ما قيل كيف قال هرقل وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها ومن أين علم ذلك وأجيب باطلاعه في العلوم المقررة عندهم من الكتب السالفة الرابع عشر ما قيل كيف قال في الموضعين فقلت وفي غيرهما لم يذكره وأجيب بأن هذين المقامين مقام تكبر وبطر بخلاف غيرهما الخامس عشر ما قيل كيف قال وكنت أعلم أنه خارج ومأخذه من أين وأجيب بأن مأخذه أما من القرائن العقلية وأما من الأحوال العادية وأما من الكتب القديمة كما ذكرنا السادس عشر ما قيل هذه الأشياء التي سألها هرقل ليست بقاطعة على النبوة وإنما القاطع المعجزة الخارقة للعادة فكيف قال وكنت أعلم أنه خارج بالتأكيدات والجزم وأجيب بأنه كان عنده علم بكونها علامات هذا النبي وبه قطع ابن بطال وقال أخبار هرقل وسؤاله عن كل فصل فصل إنما كان عن الكتب القديمة وإنما كان ذلك كله نعتا للنبي مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل السابع عشر ما قيل هل يحكم بإسلام هرقل بقوله فلو أني أعلم أني أخلص له لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت رجليه وأجيب بأنا لا نحكم به لأنه ظهر منه ما ينافيه حيث قال إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فعلمنا أنه ما صدر منه ما صدر عن التصديق القلبي والاعتقاد الصحيح بل لامتحان الرعية بخلاف إيمان ورقة فإنه لم يظهر منه ما ينافيه وفيه نظر لأنه يجوز أن يكون قوله ذلك خوفا على نفسه لما رآهم حاصوا حيصة الحمر الوحشية وأراد بذلك إسكاتهم وتطمينهم ومن أين وقفنا على ما في قلبه هل صدر هذا القول عن تصديق قلبي أم لا ولكن قال النووي لا عذر فيما قال لو أعلم لتجشمت لأنه قد عرف صدق النبي وإنما شح بالملك ورغب في الرياسة فآثرهما على الإسلام وقد جاء ذلك مصرحا به في صحيح البخاري ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي وما زالت عنه الرياسة وقال الخطابي إذا تأملت معاني هذا الكلام الذي وقع في مسألته عن أحوال الرسول وما استخرجه من أوصافه تبينت حسن ما استوصف من أمره وجوامع شأنه ولله دره من رجل ما كان أعقله لو ساعد معقوله مقدوره وقال أبو عمر آمن قيصر برسول الله وأبت بطارقته قلت قوله لو أعلم أني أخلص إليه يدل على أنه لم يكن يتحقق السلامة من القتل لو هاجر إلى النبي وقاس ذلك على قصة ضفاطر الذي أظهر لهم إسلامه فقتلوه ولكن لو نظر هرقل في الكتاب إليه إلى قوله أسلم تسلم وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لو أسلم لسلم من كل ما كان يخافه ولكن القدر ما ساعده ومما يقال أن هرقل آثر ملكه على الإيمان وتمادى على الضلال أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة ثمان بعد هذه القصة بدون السنتين ففي مغازي ابن إسحق وبلغ المسلمين لما نزلوا معان من أرض الشام أن هرقل نزل في مائة ألف من المشركين فحكى كيفية الواقعة وكذا روى ابن حبان في صحيحه عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله كتب إليه أيضا من تبوك يدعوه وأنه

(1/97)


قارب الإجابة ولم يجب فدل ظاهر هذا على استمراره على الكفر لكن يحتمل مع ذلك أنه كان يضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي مراعاة لملكه وخوفا من أن يقتله قومه لكن في مسند أحمد رحمه الله أنه كتب من تبوك إلى النبي أني مسلم فقال النبي كذب بل هو على نصرانيته فعلى هذا إطلاق أبي عمر أنه آمن أي أظهر التصديق لكنه لم يستمر عليه وآثر الفانية على الباقية وقال ابن بطال قول هرقل لو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه أي دون خلع ملكه ودون اعتراض عليه وكانت الهجرة فرضا على كل مسلم قبل فتح مكة فإن قيل النجاشي لم يهاجر وهو مؤمن قلت النجاشي كان ردأ للإسلام هناك وملجأ لمن أوذي من الصحابة وحكم الردء حكم المقاتل وكذا رده اللصوص والمحاربين عند مالك والكوفيين يقتل بقتلهم ويجب عليه ما يجب عليهم وإن لم يحضروا القتل خلافا للشافعي ومثله تخلف عثمان وطلحة وسعيد بن زيد عن بدر وضرب لهم الشارع بسهمهم وأجرهم وقال ابن بطال ولم يصح عندنا أن هرقل جهر بالإسلام وإنما عندنا أنه آثر ملكه على الجهر بكلمة الحق ولسنا نقنع بالإسلام دون الجهر به ولم يكن هرقل مكرها حتى يعذر وأمره إلى الله تعالى وقد حكى القاضي عياض فيمن اطمأن قلبه بالإيمان ولم يتلفظ وتمكن من الإتيان بكلمتي الشهادة فلم يأت بها هل يحكم بإسلامه أم لا اختلافا بين العلماء مع أن المشهور لا يحكم به وقيل أن قوله هل لكم في الفلاح والرشد فتبايعوا هذا الرجل يظهر أنه أعلن والله أعلم بحقيقة أمره الثامن عشر ما قيل أن قوله يؤتك الله أجرك مرتين يعارضه قوله تعالى ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) وأجيب بأن هذا كان عدلا وكان ذاك فضلا كما في قوله تعالى ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ونحو ذلك وأما أنه يؤتى الأجر مرتين مرة لإيمانه بعيسى عليه السلام ومرة لإيمانه بمحمد فهو موافق لقوله تعالى ( أولئك يؤتون أجرهم مرتين ) الآية التاسع عشر ما قيل في قوله فإن عليك إثم الأريسيين كيف يكون إثم غيره عليه وقد قال الله تعالى ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) وأجيب بأن المراد أن إثم الإضلال عليه والإضلال أيضا وزره كالضلال على أنه معارض بقوله ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ) العشرون ما قيل كيف علم هرقل أمر النبي حين نظر في النجوم وأجيب بأنه علم ذلك بمقتضى حساب المنجمين لأنهم زعموا أن المولد النبوي كان بقران العلويين برج العقرب وهما يقرنان في كل عشرين سنة مرة إلى أن يستوفي الثلاثة بروجها في ستين سنة وكان ابتداء العشرين الأولى المولد النبوي في القران المذكور وعند تمام العشرين الثانية مجيء جبريل عليه السلام بالوحي وعند تمام الثالثة فتح خيبر وعمرة القضاء التي جرت فتح مكة وظهور الإسلام وفي تلك الأيام رأى هرقل ما رأى وقالوا أيضا أن برج العقرب مائي وهو دليل ملك القوم الذين يختتنون فكان ذلك دليلا على انتقال الملك إلى العرب وأما اليهود فليسوا مرادا ههنا لأن هذا لمن سينتقل إليه الملك لا لمن انقضى ملكه الحادي والعشرون ما قيل كيف سوغ البخاري إيراد هذا الخبر المشعر بتقوية خبر المنجم والاعتماد على ما يدل عليه أحكامهم وأجيب بأنه لم يقصد ذلك بل قصد أن يبين أن البشارات بالنبي جاءت من كل طريق وعلى لسان كل فريق من كاهن أو منجم محق أو مبطل إنسي أو جني الثاني والعشرون ما قيل أن قوله حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي وأنه نبي يدل على أن كلا من هرقل وصاحبه قد أسلم فكيف حكمت بإسلام صاحبه ولم تحكم بإسلام هرقل وأجيب بأن ذلك استمر على إسلامه وقتل وهرقل لم يستمر وآثر ملكه على الإسلام وقد روى ابن إسحاق أن هرقل أرسل دحية إلى ضفاطر الرومي وقال أنه في الروم أجوز قولا مني وأن ضفاطر المذكور أظهر إسلامه وألقى ثيابه التي كانت عليه ولبس ثيابا بيضا وخرج إلى الروم فدعاهم إلى الإسلام وشهد شهادة الحق فقاموا إليه فضربوه حتى قتلوه قال فلما خرج دحية إلى هرقل قال له قد قلت لك أنا نخافهم على أنفسنا فضفاطر كان أعظم عندهم مني وقال بعضهم فيحتمل أن يكون هو صاحب رومية الذي أبهم هنا ثم قال لكن يعكر عليه ما قيل أن دحية لم يقدم على هرقل بهذا الكتاب المكتوب في سنة الحديبية وإنما قدم عليه بالكتاب المكتوب في غزوة تبوك فعلى هذا يحتمل أن يكون وقعت لضفاطر قضيتان إحداهما التي ذكرها ابن الناطور وليس فيها أنه أسلم ولا أنه قتل والثانية التي ذكرها ابن إسحاق فإن فيها قصته مع دحية بالكتاب إلى قيصر وأنه أسلم فقتل والله أعلم قلت غزوة تبوك كانت في سنة تسع من الهجرة وذكر ابن جرير الطبري بعث دحية بالكتاب إلى قيصر في سنة

(1/98)


ثمان وذكر السهيلي رحمه الله أن هرقل وضع كتاب رسول الله الذي كتبه إليه في قصبة من ذهب تعظيما وأنهم لم يزالوا يتوارثونه كابرا عن كابر في أعز مكان حتى كان عند اذفرنش الذي تغلب على طيطلة وما أخذها من بلاد الأندلس ثم كان عند ابنه المعروف بشليطن وحكى أن الملك المنصور قلاون الألفي الصالحي أرسل سيف الدين طلح المنصوري إلى ملك الغرب بهدية فأرسله ملك الغرب إلى ملك الإفرنج في شفاعة فقبلها وعرض عليه الإقامة عنده فامتنع فقال له لأتحفنك بتحفة سنية فأخرج له صندوقا مصفحا من ذهب فأخرج منه مقلمة من ذهب فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه فقال هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر فما زلنا نتوارثه إلى الآن وأوصانا آباؤنا أنه مادام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم لنا الملك ثم اختلف الإخباريون هل هرقل هو الذي حاربه المسلمون في زمن أبي بكر وعمر أو ابنه فقال بعضهم هو إياه وقال بعضهم هو ابنه والذي أثبته في تاريخي عن أهل التواريخ والأخبار أن هرقل الذي كتب إليه رسول الله قد هلك وملك بعده ابنه قيصر واسمه مورق وكان في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ثم ملك بعده ابنه هرقل بن قيصر وكان في خلافة عمر رضي الله عنه وعليه كان الفتح وهو المخرج من الشام أيام أبي عبيدة وخالد بن الوليد رضي الله عنهما فاستقر بالقسطنطينية وعدة ملوكهم أربعون ملكا وسنوهم خمسمائة وسبع سنين والله أعلم
( بيان استنباط الأحكام ) وهو على وجوه الأول يستفاد من قوله إلى عظيم الروم ملاطفة المكتوب إليه وتعظيمه فإن قلت لم لم يقل إلى ملك الروم قلت لأنه معزول عن الحكم بحكم دين الإسلام ولا سلطنة لأحد إلا من قبل رسول الله فإن قلت إذا كان الأمر كذلك فلم لم يقل إلى هرقل فقط قلت ليكون فيه نوع من الملاطفة فقال عظيم الروم أي الذي تعظمه الروم وقد أمر الله تعالى بتليين القول لمن يدعى إلى الإسلام وقال تعالى ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) الثاني فيه تصدير الكتاب ببسم الله الرحمن الرحيم وإن كان المبعوث إليه كافرا فإن قلت كيف صدر سليمان عليه السلام كتابه باسمه حيث قال ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) قلت خاف من بلقيس أن تسب فقدم اسمه حتى إذا سبت يقع على اسمه دون اسم الله تعالى وقال الشيخ قطب الدين وفيه أن السنة في المكاتبات أن يبدأ بنفسه فيقول من فلان إلى فلان وهو قول الأكثرين وكذا في العنوان أيضا يكتب كذلك واحتجوا بهذا الحديث وبما أخرجه أبو داود عن العلاء بن الحضرمي وكان عامل النبي على البحرين وكان إذا كتب إليه بدأ بنفسه وفي لفظ بدأ باسمه وقال حماد بن زيد كان الناس يكتبون من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان أما بعد قال بعضهم وهو إجماع الصحابة وقال أبو جعفر النحاس وهذا هو الصحيح وقال غيره وكره جماعة من السلف خلافه وهو أن يكتب أولا باسم المكتوب إليه ورخص فيه بعضهم وقال يبدأ باسم المكتوب إليه روي أن زيد بن ثابت كتب إلى معاوية فبدأ باسم معاوية وعن محمد بن الحنفية وأيوب السختياني أنهما قالا لا بأس بذلك وقيل يقدم الأب ولا يبدأ ولد باسمه على والده والكبير السن كذلك قلت يرده حديث العلاء لكتابته إلى أفضل البشر وحقه أعظم من حق الوالد وغيره الثالث فيه التوقي في المكاتبة واستعمال عدم الإفراط الرابع فيه دليل لمن قال بجواز معاملة الكفار بالدراهم المنقوشة فيها اسم الله تعالى للضرورة وإن كان عن مالك الكراهة لأن ما في هذا الكتاب أكثر مما في هذا المنقوش من ذكر الله تعالى الخامس فيه الوجوب بعمل خبر الواحد وإلا لم يكن لبعثه مع دحية فائدة مع غيره من الأحاديث الدالة عليه السادس فيه حجة لمن منع أن يبتدأ الكافر بالسلام وهو مذهب الشافعي وأكثر العلماء وأجازه جماعة مطلقا وجماعة للاستئلاف أو الحاجة وقد جاء عنه النهي في الأحاديث الصحيحة وفي الصحيحين أن رسول الله قال لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام الحديث وقال البخاري وغيره ولا يسلم على المبتدع ولا على من اقترف ذنبا كبيرا ولم يتب منه ولا يرد عليهم السلام واحتج البخاري بحديث كعب بن مالك وفيه نهى رسول الله عن كلامنا السابع فيه استحباب أما بعد في المكاتبة والخطبة وفي أول من قالها خمسة أقوال داود عليه السلام أو قس بن ساعدة أو كعب بن لؤي أو يعرب بن قحطان أو سحبان الذي يضرب به المثل في الفصاحة الثامن فيه أن من أدرك من أهل الكتاب

(1/99)


نبينا فآمن به فله أجران التاسع قال الخطابي في هذا الخبر دليل على أن النهي عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو إنما هو في حمل المصحف والسور الكثيرة دون الآية والآيتين ونحوهما وقال ابن بطال إنما فعله لأنه كان في أول الإسلام ولم يكن بد من الدعوة العامة وقد نهى وقال لا تسافر بالقرآن إلى أرض العدو وقال العلماء ولا يمكن المشركون من الدراهم التي فيها ذكر الله تعالى قلت كلام الخطابي أصوب لأنه يلزم من كلام ابن بطال النسخ ولا يلزم من كلام الخطابي والحديث محمول على ما إذا خيف وقوعه في أيدي الكفار العاشر فيه دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم وهو واجب والقتال قبله حرام إن لم تكن بلغتهم الدعوة وإن كانت بلغتهم فالدعاء مستحب هذا مذهب الشافعي وفيه خلاف للجماعة ثلاثة مذاهب حكاها المازري والقاضي عياض أحدها يجب الإنذار مطلقا قاله مالك وغيره والثاني لا يجب مطلقا والثالث يجب إن لم تبلغهم الدعوة وإن بلغتهم فيستحب وبه قال نافع والحسن والثوري والليث والشافعي وابن المنذر قال النووي وهو قول أكثر العلماء وهو الصحيح قلت مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يستحب أن يدعو الإمام من بلغته مبالغة في الإنذار ولا يجب ذلك كمذهب الجمهور الحادي عشر فيه دليل على أن ذا الحسب أولى بالتقديم في أمور المسلمين ومهمات الدين والدنيا ولذلك جعلت الخلفاء من قريش لأنه أحوط من أن يدنسوا أحسابهم الثاني عشر فيه دليل لجمهور الأصوليين أن للأمر صيغة معروفة لأنه أتى بقول اعبدوا الله في جواب ما يأمركم وهو من أحسن الأدلة لأن أبا سفيان من أهل اللسان وكذلك الراوي عنه ابن عباس بل هو من أفصحهم وقد رواه عنه مقرا له ومذهب بعض أصحاب الشافعي أنه مشترك بين القول والفعل بالاشتراك اللفظي وقال آخرون بالاشتراك المعنوي وهو التواطؤ بأن يكون القدر المشترك بينهما على ما عرف في الأصول الثالث عشر قال بعض الشارحين استدل به بعض أصحابنا على جواز مس المحدث والكافر كتابا فيه آية أو آيات يسيرة من القرآن مع غير القرآن قلت قال صاحب الهداية قوله لا يقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن بإطلاقه يتناول ما دون الآية أراد أنه لا يجوز للحائض والنفساء والجنب قراءة ما دون الآية خلافا للطحاوي وخلافا لمالك في الحائض ثم قال وليس لهم مس المصحف إلا بغلافه ولا أخذ درهم فيه سورة من القرآن إلا بصرته ولا يمس المحدث المصحف إلا بغلافه ويكره مسه بالكم وهو الصحيح بخلاف الكتب الشرعية حيث يرخص في مسها بالكم لأن فيه ضرورة ولا بأس بدفع المصحف إلى الصبيان لأن في المنع تضييع حفظ القرآن وفي الأمر بالتطهير حرجا لهم هذا هو الصحيح الرابع عشر فيه استحباب البلاغة والإيجاز وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة فإن قوله ( أسلم تسلم ) في نهاية الاختصار وغاية الإيجاز والبلاغة وجمع المعاني مع ما فيه من بديع التجنيس الخامس عشر فيه جواز المسافرة إلى أرض الكفار السادس عشر فيه جواز البعث إليهم بالآية من القرآن ونحوها السابع عشر فيه من كان سببا لضلالة أو منع هداية كان آثما الثامن عشر فيه أن الكذب مهجور وعيب في كل أمة التاسع عشر يجب الاحتراز عن العدو لأنه لا يؤمن أن يكذب على عدوه العشرون أن الرسل لا ترسل إلا من أكرم الأنساب لأن من شرف نسبه كان أبعد من الانتحال لغير الحق الحادي والعشرون فيه البيان الواضح أن صدق رسول الله وعلاماته كان معلوما لأهل الكتاب علما قطعيا وإنما ترك الإيمان من تركه منهم عنادا أو حسدا أو خوفا على فوات مناصبهم في الدنيا ( رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري )
أي روى الحديث المذكور صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أخرجه البخاري بتمامه في كتاب الحج من طريق إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان به ولكنه انتهى عند قول أبي سفيان حتى أدخل الله على الإسلام ولم يذكر قصة ابن الناطور وكذا أخرجه مسلم بدونها من رواية إبراهيم المذكور وصالح هو أبو محمد ويقال أبو الحارث بن كيسان الغفاري بكسر الغين المعجمة والفاء المخففة وبالراء والدوسي بفتح الدال المهملة مولاهم المدني مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه سمع ابن عمر وابن الزبير وغيرهما من التابعين وعنه من التابعين عمرو بن دينار وغيره سئل أحمد عنه فقال بخ بخ قال الحاكم توفي وهو ابن مائة سنة ونيف وستين سنة وكان لقي جماعة من الصحابة ثم بعد ذلك تلمذ عن الزهري وتلقن منه العلم وهو ابن تسعين سنة قال الواقدي توفي بعد الأربعين

(1/100)


ومائة قال غيره سنة خمس وأربعين قلت فعلى هذا يكون أدرك النبي وعمره نحو عشرين وفيما قاله الحاكم نظر وليس في الكتب الستة صالح بن كيسان غير هذا فافهم قوله ويونس أي رواه أيضا يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري وأخرج رواية البخاري أيضا بهذا الإسناد في الجهاد مختصرة من طريق الليث وفي الاستئذان مختصرة أيضا من طريق ابن المبارك كلاهما عن يونس عن الزهري بسنده بعينه ولم يسقه بتمامه وقد ساقه بتمامه الطبراني من طريق عبد الله بن صالح عن الليث وذكر فيه قصة ابن الناطور قوله ومعمر أي رواه أيضا معمر بن راشد عن الزهري وأخرج روايته أيضا البخاري بتمامها في التفسير فقد ظهر لك أن هؤلاء الثلاثة عند البخاري عن أبي اليمان الحكم بن نافع وأن الزهري إنما رواه لأصحابه بسند واحد عن شيخ واحد وهو عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما لا كما توهمه الكرماني حيث يقول اعلم أن هذه العبارة تحتمل وجهين أن يروي البخاري عن الثلاثة بالإسناد المذكور أيضا كأنه قال أخبرنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال أخبرنا هؤلاء الثلاثة عن الزهري وأن يروى عنه بطريق آخر كما أن الزهري أيضا يحتمل في روايته للثلاثة أن يروي عن عبيد الله عن عبد الله بن عباس وأن يروي لهم عن غيره وهذا توهم فاسد من وجهين أحدهما أن أبا اليمان لم يلحق صالح بن كيسان ولا سمع من يونس والآخر لو احتمل أن يروي الزهري هذا الحديث لهؤلاء الثلاثة أو لبعضهم عن شيخ آخر لكان ذلك خلافا قد يفضي إلى الاضطراب الموجب للضعف وهذا إنما نشأ منه لعدم تحريره في النقل واعتماده من هذا الفن على العقل
بسم الله الرحمن الرحيم
( كتاب الإيمان )
أي هذا كتاب الإيمان فيكون ارتفاع الكتاب على أنه خبر مبتدأ محذوف ويجوز العكس ويجوز نصبه على هاك كتاب الإيمان أو خذه ولما كان باب كيف كان بدء الوحي كالمقدمة في أول الجامع لم يذكره بالكتاب بل ذكره بالباب ثم شرع يذكر الكتب على طريقة أبواب الفقه وقدم كتاب الإيمان لأنه ملاك الأمر كله إذ الباقي مبني عليه مشروط به وبه النجاة في الدارين ثم أعقبه بكتاب العلم لأن مدار الكتب التي تأتي بعده كلها عليه وبه تعلم وتميز وتفصل وإنما أخره عن الإيمان لأن الإيمان أول واجب على المكلف أو لأنه أفضل الأمور على الإطلاق وأشرفها وكيف لا وهو مبدأ كل خير علما وعملا ومنشأ كل كمال دقا وجلا فإن قلت فلم قدم باب الوحي قلت قد ذكرت لك أن باب الوحي كالمقدمة في أول الجامع ومن شأنها أن تكون أمام المقصود وأيضا فالإيمان وجميع ما يتعلق به يتوقف عليه وشأن الموقوف عليه التقديم أو لأن الوحي أول خبر نزل من السماء إلى هذه الأمة ثم ذكر بعد ذلك كتاب الصلاة لأنها تالية الإيمان وثانيته في الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ) وأما السنة فقوله بني الإسلام على خمس الحديث ولأنها عماد الدين والحاجة إليها ماسة لتكررها كل يوم خمس مرات ثم أعقبها بالزكاة لأنها ثالثة الإيمان وثانية الصلاة فيهما ولاعتناء الشارع بها لذكرها أكثر من الصوم والحج في الكتاب والسنة ثم أعقبها بالحج لأن العبادة إما بدنية محضة أو مالية محضة أو مركبة منهما فرتبها على هذا الترتيب والمفرد مقدم على المركب طبعا فقدمه أيضا وضعا ليوافق الوضع الطبع وأما تقديم الصلاة على الزكاة فلما ذكرنا ولأن الحج ورد فيه تغليظات عظيمة بخلاف الصوم ولعدم سقوطه بالبدل لوجوب الإتيان به إما مباشرة أو استنابة بخلاف الصوم ثم أعقب الحج بالصوم لكونه مذكورا في الحديث المشهور مع الأربعة المذكورة وفي وضع الفقهاء الصوم مقدم على الحج نظرا إلى كثرة دورانه بالنسبة إلى الحج وفي بعض النسخ يوجد كتاب الصوم مقدما على كتاب الحج كأوضاع الفقهاء ثم أنه توج كل واحد منها بالكتاب ثم قسم الكتاب إلى الأبواب لأن كل كتاب منها تحته أنواع فالعادة أن يذكر كل نوع بباب وربما يفصل كل باب بفصول كما في بعض الكتب الفقهية والكتاب يجمع الأبواب لأنه من الكتب وهو الجمع والباب هو النوع وأصل موضوعه المدخل ثم استعمل في المعاني مجازا ثم لفظة الكتاب ههنا يجوز أن تكون بمعنى المكتوب كالحساب بمعنى المحسوب وهو في الأصل مصدر تقول كتب يكتب كتبا وكتابة وكتابا ولفظ ( ك ت ب ) في جميع

(1/101)


تصرفاته راجع إلى معنى الجمع والصم ومنه الكتيبة وهي الجيش لاجتماع الفرسان فيها وكتبت القربة إذ خرزتها وكتبت البغلة إذا جمعت بين شفرتيها بحلقة أو سير وكتبت الناقة تكتيبا إذا صررتها ثم أنه يوجد في كثير من النسخ على أول كل كتاب من الكتب بسم الله الرحمن الرحيم وذلك عملا بقوله كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم أو أقطع فهذا وإن كانت البسملة مغنية عنه لكنه كررها لزيادة الاعتناء على التمسك بالسنة وللتبرك بابتداء اسم الله تعالى في أول كل أمر
( باب الإيمان وقول النبي بني الإسلام على خمس )
أي هذا باب في ذكر قول النبي بني الإسلام على خمس فيكون ارتفاع باب على أنه خبر مبتدأ محذوف ويجوز النصب على خذ باب قول النبي وفي بعض النسخ باب الإيمان وقول النبي بني الإسلام على خمس والأولى أصح لأنه ذكر أولا كتاب الإيمان ولا يناسب بعده إلا الأبواب التي تدل على الأنواع وذكر باب الإيمان بعد ذكر كتاب الإيمان لا طائل تحته على ما لا يخفى وليس في رواية الأصيلي ذكر لفظ باب وقد أخرج قوله بني الإسلام على خمس الحديث هنا مسندا وفي غيره أيضا على ما نبينه عن قريب إن شاء الله تعالى وقال بعضهم واقتصاره على طرفه من تسمية الشيء باسم بعضه قلت لا تسمية هنا ولا إطلاق اسم بعض الشيء على الشيء وإنما البخاري لما أراد أن يبوب على هذا الحديث بابا ذكر أولا بعضه لأجل التبويب واكتفى عن ذكر كله عند الباب بذكره إياه مسندا فيما بعد فافهم
والكلام في الإيمان على أنواع الأول في معناه اللغوي قال الزمخشري رحمه الله الإيمان أفعال من الأمن يقال آمنته وآمنته غيري ثم يقال آمنه إذا صدقه وحقيقته آمنه التكذيب والمخالفة وأما تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقر واعترف وأما ما حكى أبو زيد عن العرب ما آمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت فحقيقته صرت ذا أمن به أي ذا سكون وطمأنينة وقال بعض شراح كلامه وحقيقة قولهم آمنت صرت ذا أمن وسكون ثم ينقل إلى الوثوق ثم إلى التصديق ولا خفاء أن اللفظ مجاز بالنسبة إلى هذين المعنيين لأن من آمنه التكذيب فقد صدقه ومن كان ذا أمن فهو في وثوق وطمأنينة فهو انتقال من الملزوم إلى اللازم
الثاني في معناه باعتبار عرف الشرع فقد اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان في عرف الشرع على أربع فرق فرقة قالوا الإيمان فعل القلب فقط وهؤلاء قد اختلفوا على قولين أحدهما هو مذهب المحققين وإليه ذهب الأشعري وأكثر الأئمة كالقاضي عبد الجبار والأستاذ أبي إسحق الإسفرايني والحسين بن الفضل وغيرهم أنه مجرد التصديق بالقلب أي تصديق الرسول في كل ما علم مجيئه به بالضرورة تصديقا جازما مطلقا أي سواء كان لدليل أو لا فقولهم مجرد التصديق إشارة إلى أنه لا يعتبر فيه كونه مقرونا بعمل الجوارح والتقييد بالضرورة لإخراج ما لا يعلم بالضرورة أن الرسول جاء به كالاجتهاديات كالتصديق بأن الله تعالى عالم بالعلم أو عالم بذاته والتصديق بكونه مرئيا أو غير مرئي فإن هذين التصديقين وأمثالهما غير داخلة في مسمى الإيمان فلهذا لا يكفر منكر الاجتهاديات بالإجماع والتقييد بالجازم لإخراج التصديق الظني فإنه غير كاف في حصول الإيمان والتقييد بالإطلاق لدفع وهم خروج اعتقاد المقلد فإن إيمانه صحيح عند الأكثرين وهو الصحيح فإن قيل اقتصر النبي عند سؤال جبريل عليه السلام عن الإيمان في الحديث الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذكر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فلم زيد عليه الإيمان بكل ما جاء به رسول الله قلت لاشتمال الإيمان بالكتب عليه لأن من جملة الكتب القرآن وهو يدل على وجوب أخذ كل ما جاء به باعتقاد حقيقته والعمل به لقوله تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه ) والقول الثاني أن الإيمان معرفة الله تعالى وحده بالقلب والإقرار باللسان ليس بركن فيه ولا شرط حتى أن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقربه فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان وأما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلة في حد الإيمان وهذا بعيد من الصواب لمخالفة ظاهر الحديث والصواب ما حكاه

(1/102)


الكعبي عن جهم أن الإيمان معرفة الله تعالى مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد والفرقة الثانية قالوا أن الإيمان عمل باللسان فقد وهم أيضا فريقان الأول أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط ولكن شرط كونه إيمانا حصول المعرفة في القلب فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيمانا لأنها داخلة في مسمى الإيمان وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي الثاني أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان وهو قول الكرامية وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة فيثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة والفرقة الثالثة قالوا أن الإيمان عمل القلب واللسان معا أي في الإيمان الاستدلالي دون الذي بين العبد وبين ربه وقد اختلف هؤلاء على أقوال الأول أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وهو قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء وبعض المتكلمين الثاني أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا وهو قول بشر المريسي وأبي الحسن الأشعري الثالث أن الإيمان إقرار باللسان وإخلاص بالقلب فإن قلت ما حقيقة المعرفة بالقلب على قول أبي حنيفة رضي الله عنه قلت فسروها بشيئين الأول بالاعتقاد الجازم سواء كان اعتقادا تقليديا أو كان علما صادرا عن الدليل وهو الأكثر والأصح ولهذا حكموا بصحة إيمان المقلد الثاني بالعلم الصادر عن الدليل وهو الأقل فلذلك زعموا أن إيمان المقلد غير صحيح ثم اعلم أن لهؤلاء الفرقة اختلافا في موضع آخر أيضا وهو أن الإقرار باللسان هل هو ركن الإيمان أم شرط له في حق إجراء الأحكام قال بعضهم هو شرط لذلك حتى أن من صدق الرسول في جميع ما جاء به من عند الله تعالى فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يقر بلسانه وقال حافظ الدين النسفي هو المروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه وإليه ذهب الأشعري في أصح الروايتين وهو قول أبي منصور الماتريدي وقال بعضهم هو ركن لكنه ليس بأصلي له كالتصديق بل هو ركن زائد ولهذا يسقط حالة الإكراه والعجز وقال فخر الإسلام أن كونه ركنا زائدا مذهب الفقهاء وكونه شرطا لإجراء الأحكام مذهب المتكلمين والفرقة الرابعة قالوا أن الإيمان فعل القلب واللسان مع سائر الجوارح وهم أصحاب الحديث ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وقال الإمام وهو مذهب المعتزلة والخوارج والزيدية أما أصحاب الحديث فلهم أقوال ثلاثة الأول أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ثم كل معصية بعده كفر على حدة ولم يجعلوا شيئا من الطاعات إيمانا ما لم توجد المعرفة والإقرار ولا شيئا من المعاصي كفرا ما لم يوجد الجحود والإنكار لأن أصل الطاعات الإيمان وأصل المعاصي الكفر والفرع لا يحصل دون ما هو أصله وهو قول عبد الله بن سعيد القول الثاني أن الإيمان اسم للطاعات كلها فرائضها ونوافلها وهي بجملتها إيمان واحد وأن من ترك شيئا من الفرائض فقد انتقص إيمانه ومن ترك النوافل لا ينقص إيمانه القول الثالث أن الإيمان اسم للفرائض دون النوافل وأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن الإيمان إذا عدى بالباء فالمراد به في الشرع التصديق يقال آمن بالله أي صدق فإن الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية لا يقال فلان آمن بكذا إذا صلى أو صام بل يقال آمن لله كما يقال صلى لله فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريق اللغة وأما إذا ذكر مطلقا غير معدى فقد اتفقوا على أنه منقول نقلا ثانيا من معنى التصديق إلى معنى آخر ثم اختلفوا فيه على وجوه أحدها أن الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة أو من باب الاعتقادات أو الأقوال والأفعال وهو قول واصل بن عطاء وأبي الهذيل والقاضي عبد الجبار والثاني أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل وهو قول أبي علي الجبائي وأبي هاشم والثالث أن الإيمان عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد وهو قول النظام ومن أصحابه من قال شرط كونه مؤمنا عندنا وعند الله اجتناب كل الكبائر وأما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول معرفة الله تعالى ومعرفة كل ما نصب الله عليه دليلا عقليا أو نقليا ويتناول طاعة الله تعالى في جميع ما أمر به ونهى صغيرا كان أو كبيرا قالوا مجموع هذه الأشياء هو الإيمان ويقرب من مذهب المعتزلة مذهب الخوارج ويقرب من مذهبهما ما ذهب إليه السلف وأهل الأثر أن الإيمان عبارة عن مجموع ثلاثة أشياء التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان إلا أن بين هذه المذاهب فرقا وهو أن من ترك شيئا من الطاعات سواء أكان من الأفعال أو الأقوال خرج من الإيمان عند

(1/103)


المعتزلة ولم يدخل في الكفر بل وقع في مرتبة بينهما يسمونها منزلة بين المنزلتين وعند الخوارج دخل في الكفر لأن ترك كل واحدة من الطاعات كفر عندهم وعند السلف لم يخرج من الإيمان وقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي وهذه أول مسألة نشأت في الاعتزال ونقل عن الشافعي أنه قال الإيمان هو التصديق والإقرار والعمل فالمخل بالأول وحده منافق وبالثاني وحده كافر وبالثالث وحده فاسق ينجو من الخلود في النار ويدخل الجنة قال الإمام هذا في غاية الصعوبة لأن العمل إذا كان ركنا لا يتحقق الإيمان بدونه فغير المؤمن كيف يخرج من النار ويدخل الجنة قلت قد أجيب عن هذا الإشكال بأن الإيمان في كلام الشارع قد جاء بمعنى أصل الإيمان وهو الذي لا يعتبر فيه كونه مقرونا بالعمل كما في قوله الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث والإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان الحديث وقد جاء بمعنى الإيمان الكامل وهو المقرون بالعمل كما في حديث وفد عبد القيس أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا الله ورسوله أعلم قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس والإيمان بهذا المعنى هو المراد بالإيمان المنفي في قوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن الحديث وهكذا كل موضع جاء بمثله فالخلاف في المسألة لفظي لأنه راجع إلى تفسير الإيمان وأنه في أي المعنيين منقول شرعي وفي أيهما مجاز ولا خلاف في المعنى فإن الإيمان المنجي من دخول النار هو الثاني باتفاق جميع المسلمين والإيمان المنجي من الخلود في النار هو الأول باتفاق أهل السنة خلافا للمعتزلة والخوارج ومما يدل على ذلك قوله في حديث أبي ذر ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق الحديث وقوله يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان فالحاصل أن السلف والشافعي إنما جعلوا العمل ركنا من الإيمان بالمعنى الثاني دون الأول وحكموا مع فوات العمل ببقاء الإيمان بالمعنى الأول وبأنه ينجو من النار باعتبار وجوده وإن فات الثاني فبهذا يندفع الإشكال فإن قلت ما ماهية التصديق بالقلب قلت قال الإمام قولا حاصله أن المراد من التصديق الحكم الذهني بيان ذلك أن من قال أن العالم محدث ليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفا بالحدوث بل حكم ذلك القائل بكون العالم حادثا فالحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث له فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو الانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص به واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمرا واحدا يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم والدال غير المدلول ثم نقول هذا الحكم الذهني غير العلم لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به فعلمنا أن هذا الحكم الذهني مغاير للعلم فيكون المراد من التصديق هو هذا الحكم الذهني ويعلم من هذا الكلام أن المراد من التصديق ههنا هو التصديق المقابل للتصور واعترض عليه صدر الشريعة بأن ذلك غير كاف فإن بعض الكفار كانوا عالمين برسالة محمد لقوله تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) الآية وفرعون كان عالما برسالة موسى عليه السلام لقوله تعالى حكاية عن خطاب موسى عليه السلام له مشيرا إلى المعجزات التي أوتيها ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات ) الآية ومع ذلك كانوا كافرين ولو كان ذلك كافيا لكانوا مؤمنين لأن من صدق بقلبه فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى والإقرار باللسان شرط إجراء الأحكام كما هو مروي عن أبي حنيفة وأصح الروايتين عن الأشعري بل المراد به معناه اللغوي وهو أن ينسب الصدق إلى المخبر اختيارا قال وإنما قيدنا بهذا لأنه إن وقع في القلب صدق المخبر ضرورة كما إذا ادعى النبي النبوة وأظهر المعجزة ووقع صدقه في قلب أحد ضرورة من غير أن ينسب الصدق إلى النبي اختيارا لا يقال في اللغة أنه صدقه فعلم أن المراد من التصديق إيقاع نسبة الصدق إلى المخبر اختيار الذي هو الكلام النفسي ويسمى عقد الإيمان والكفار العالمون برسالة الأنبياء عليهم السلام إنما لم يكونوا مؤمنين لأنهم كذبوا الرسل فهم كافرون لعدم التصديق لهم ولقائل أن يقول التصديق بالمعنى اللغوي عين التصديق المقابل للتصور لأن إيقاع نسبة الصدق إلى المخبر هو الحكم بثبوت الصدق له وهو عين هذا التصديق وإنما لم يكن الكفار العالمون برسالة الرسل مؤمنين مع حصول التصديق لهم لأن من أنكر منهم رسالتهم أبطل تصديقه القلبي تكذيبه اللساني ومن لم ينكرها أبطله بترك الإقرار اختيارا لأن الإقرار شرط إجراء الأحكام

(1/104)


على رأي كما مر وركن الإيمان حالة الاختيار على رأي كما مر فلا يدل كفرهم على أن هذا التصديق غير كاف ولهذا لو حصل التصديق لأحد ومات من ساعته فجأة قبل الإقرار يكون مؤمنا إجماعا وبقي هنا شيء آخر وهو أن التصديق مأمور به فيكون فعلا اختياريا والتصديق المقابل للتصور ليس باختياري كما بين في موضعه فينبغي أن يجعل التصديق فعلا من أفعال النفس الاختيارية أو يقيد بأن يكون حصوله اختيارا بمباشرة سببه المعد لحصوله كما قيد المعترض التصديق اللغوي بذلك إلا أنه يلزم على هذا اختصاص التصديق بأن يكون علما صادرا عن الدليل إذا عرفت هذا فنقول احتج المحققون بوجوه منها ما يدل على أن الإيمان هو التصديق ومنها ما يدل على أن الإيمان بالاجتهاديات كاعتقاد كونه عز و جل مرئيا أو غير مرئي ونحوه غير واجب ومنها ما يدل على صحة إيمان المقلد وعدم اختصاص التصديق بما يكون عن دليل القسم الأول ثلاثة أوجه الأول أن الخطاب الذي توجه علينا بلفظ آمنوا بالله إنما هو بلسان العرب ولم تكن العرب تعرف من لفظ الإيمان فيه إلا التصديق والنقل عن التصديق لم يثبت فيه إذ لو ثبت لنقل إلينا تواترا واشتهر المعنى المنقول إليه لتوفر الدواعي على نقله ومعرفة ذلك المعنى لأنه من أكثر الألفاظ دورا على ألسنة المسلمين فلما لم ينقل كذلك عرفنا أنه باق على معنى التصديق الثاني الآيات الدالة على أن محل الإيمان هو القلب مثل قوله تعالى ( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ) وقوله تعالى ( من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ) ويؤيده قوله لأسامة حين قتل من قال لا إله إلا الله واعتذر بأنه لم يقله عن اعتقاد بل عن خوف القتل هلا شققت عن قلبه فإن قلت لا يلزم من كون محل الإيمان هو القلب كون الإيمان عبارة عن التصديق لجواز كونه عبارة عن المعرفة كما ذهب إليه جهم بن صفوان قلت لا سبيل إلى كونه عبارة عن المعرفة لوجهين الأول أن لفظ الإيمان في خطاب آمنوا بالله مستعمل في لسان العرب في التصديق وأنه غير منقول عنه إلى معنى آخر فلو كان عبارة عن المعرفة للزم صرفه عما يفهم منه عند العرب إلى غيره من غير قرينة وذلك باطل وإلا لجاز مثله في سائر الألفاظ وفيه إبطال اللغات ولزوم تطرق الخلل إلى الدلائل السمعية وارتفاع الوثوق عليها وهذا خلف الثاني أن أهل الكتاب وفرعون كانوا عارفين بنبوة محمد وموسى عليهما السلام ولم يكونوا مؤمنين لعدم التصديق فتعين كونه عبارة عن التصديق إذ لا قائل بثالث الوجه الثالث أن الكفر ضد الإيمان ولهذا استعمل في مقابلته قال الله تعالى ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ) والكفر هو التكذيب والجحود وهما يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما إذ لا تضاد عند تغاير المحلين فثبت أن الإيمان فعل القلب وأنه عبارة عن التصديق لأن ضد التكذيب التصديق فإن قلت جاز أن يكون حصول التكذيب والتصديق باللسان بدون التصديق القلبي لا وجودا ولا عدما أما وجودا ففي المنافق وأما عدما ففي المكره بالقتل على إجراء كلمة الكفر على لسانه إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان قال الله تعالى ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) نفي عن المنافقين الإيمان مع التصديق اللساني لعدم التصديق القلبي وقال تعالى ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) أباح للمكره التكذيب باللسان عند وجود التصديق القلبي القسم الثاني ثمانية أوجه الأول وهو ما يدل على أن الإقرار باللسان غير داخل فيه ما أشرنا أنه لا يدل وجوده على وجود الإيمان ولا عدمه على عدمه فجعل شرطا لإجراء الأحكام لأن الأصل في الأحكام أن تكون مبنية على الأمور الظاهرة إذا كان أسبابها الحقيقية خفية لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعسر وأن تقام هي مقامها كما في السفر مع المشقة والتقاء الختانين مع الإنزال فكذلك ههنا لما كان التصديق القلبي الذي هو مناط الأحكام الإسلامية أمرا باطنا جعل دليله الظاهر وهو الإقرار بالقلب قائما مقامه لأن الموضوع للدلالة على المعاني الحاصلة في القلب إذا قصد الإعلام بها على ما هو الأصل إنما هي العبارة لا الإشارة والكتابة وأمثالهما فيحكم بإيمان من تلفظ بكلمتي الشهادة سواء تحقق معه التصديق القلبي أو لا ويحكم بكفر من لم يتلفظ بهما مع تمكنه سواء كان معه التصديق القلبي أو لا ومن جعله ركنا فإنما جعله ركنا أيضا لدلالته على التصديق لا لخصوص كونه إقرارا ألا ترى أن الكافر إذا صلى بجماعة يحكم بإسلامه وتجري عليه أحكام أهل الإيمان عند أبي حنيفة وأصحابه خلافا للشافعي لأن الصلاة بالجماعة أيضا جعلت دليلا على تحقق الإيمان لقوله من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا

(1/105)


فهو منا أي الصلاة المختصة بنا وهي الصلاة بالجماعة بخلاف الصلاة منفردا وسائر العبادات لعدم اختصاصها بملتنا هذا كله في الإيمان الاستدلالي الذي تجري عليه الأحكام وأما الإيمان الذي يجري بين العبد وبين ربه فإنه يتحقق بدون الإقرار فيمن عرف الله تعالى وسائر ما يجب الإيمان به بالدليل واعتقد ثبوتها ومات قبل أن يجد من الوقت قدر ما يتلفظ بكلمتي الشهادة أو وجده لكنه لم يتلفظ بهما فإنه يحكم بأنه مؤمن لقوله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان وهذا قلبه مملوء من الإيمان فكيف لا يكون مؤمنا فإن قيل يلزم من هذا أن لا يكون الإقرار باللسان معتبرا في الإيمان وهو خلاف الإجماع لأن الإجماع منعقد على أنه معتبر وإنما الخلاف في كونه ركنا أو شرطا قلت منع الغزالي هذا الإجماع وحكم بكونه مؤمنا وأن الامتناع عن النطق يجري مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان ومن كلامه يفهم جواز ترك الإقرار حالة الاختيار أيضا في الجملة وهو بمعنى ثان لكونه ركنا زائدا الثاني أنه يدل على أن أعمال سائر الجوارح غير داخلة فيه لأنه عطف العمل الصالح على الإيمان في قوله تعالى ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ) وقوله ( الذين يؤمنون بالغيب ) الآية وقوله ( إنما يعمر مساجد الله ) الآية فهذه كلها تدل على خروجه عنه إذ لو دخل فيه يلزم من عطفه عليه التكرار من غير فائدة الثالث مقارنته بضد العمل الصالح كما في قوله تعالى ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) الآية ووجه دلالته على المطلوب أنه لا يجوز مقارنة الشيء بضد جزئه الرابع قوله تعالى ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) أي لم يخلطوه بارتكاب المحرمات ولو كانت الطاعة داخلة في الإيمان لكان الظلم منفيا عن الإيمان لأن ضد جزء الشيء يكون منفيا عنه وإلا يلزم اجتماع الضدين فيكون عطف الاجتناب منها عليه تكرارا بلا فائدة الخامس أنه تعالى جعل الإيمان شرطا لصحة العمل قال الله تعالى ( وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) وقال الله تعالى ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن ) وشرط الشيء يكون خارجا عن ماهيته السادس أنه تعالى خاطب عباده باسم الإيمان ثم كلفهم بالأعمال كما في آيات الصوم والصلاة والوضوء وذلك يدل على خروج العمل من مفهوم الإيمان وإلا يلزم التكليف بتحصيل الحاصل السابع أن النبي اقتصر عند سؤال جبريل عليه السلام عن الإيمان بذكر التصديق حيث قال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث ثم قال في آخره هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم ولو كان الإيمان اسما للتصديق مع شيء آخر كان النبي مقصرا في الجواب وكان جبريل عليه السلام آتيا ليلبس عليهم أمر دينهم لا ليعلمهم إياه الثامن أنه تعالى أمر المؤمنين بالتوبة في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة ) وقوله تعالى ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ) وهذا يدل على صحة اجتماع الإيمان مع المعصية لأن التوبة لا تكون إلا من المعصية والشيء لا يجتمع مع ضد جزئه القسم الثالث وجه واحد وهو أنه كان يحكم بإيمان من لم يخطر بباله كونه تعالى عالما بذاته أو بالعلم أو كونه عالما بالجزئيات على الوجه الكلي أو على الوجه الجزئي ولو كان التصديق بأمثال ذلك معتبرا في تحقق الإيمان لما حكم النبي بإيمان مثله القسم الرابع وجهان وتقريرهما موقوف على تحرير المسألة أولا وهي متفرعة على إطلاق التصديق في تعريف الإيمان فنقول قال أهل السنة من اعتقد أركان الدين من التوحيد والنبوة والصلاة والزكاة والصوم والحج تقليدا فإن اعتقد مع ذلك جواز ورود شبهة عليها وقال لا آمن ورود شبهة يفسدها فهو كافر وإن لم يعتقد جواز ذلك بل جزم على ذلك الاعتقاد فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال أنه مؤمن وإن كان عاصيا بترك النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة قواعد الدين كسائر فساق المسلمين وهو في مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة وإن شاء عذبه بقدر ذنبه وعاقبة أمره الجنة لا محالة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل والأوزاعي والثوري وأهل الظاهر وعبد الله بن سعيد القطان والحارث بن أسد وعبد العزيز بن يحيى المكي وأكثر المتكلمين وقال عامة المعتزلة أنه ليس بمؤمن ولا كافر وقال أبو هاشم أنه كافر فعندهم إنما يحكم بإيمانه إذا عرف ما يجب الإيمان به من أصول الدين بالدليل العقلي على وجه يمكنه مجادلة الخصوم وحل جميع ما يورد عليه من الشبه حتى إذا عجز عن شيء

(1/106)


من ذلك لم يحكم بإسلامه وقال الأشعري وقوم من المتكلمين لا يستحق أن يطلق عليه اسم الإيمان إلا بعد أن يعرف كل مسألة من مسائل أصول الدين بدليل عقلي غير أن الشرط أن يعرف ذلك بقلبه سواء أحسن العبارة عنه أو لا يعني لا يشترط أن يقدر على التعبير عن الدليل بلسانه ويبينه مرتبا موجها وقالوا هذا وإن لم يكن مؤمنا عندنا على الإطلاق لكنه ليس بكافر أيضا لوجود ما يضاد الكفر فيه وهو التصديق وقالوا وإنما قيدنا الدليل بالعقلي لأنه لا يجوز الاستدلال في إثبات أصول الدين بالدليل السمعي لأن ثبوت الدليل السمعي موقوف على ثبوت وجود الصانع والنبوة فلو أثبت وجود الصانع والنبوة به لزم الدور والمراد من التقليد هو اعتقاد حقية قول الغير على وجه الجزم من غير أن يعرف دليله وإذا عرف هذا جئنا إلى بيان وجهي المذهب الأصح الأول أن المقلد مأمور بالإيمان وقد ثبت أن الإيمان هو التصديق القلبي وقد أتى به فيكون مؤمنا وإن لم يعرف الدليل ونظر هذا الاحتجاج ما روى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لما قيل له ما بال أقوام يقولون يدخل المؤمن النار فقال لا يدخل النار إلا المؤمن فقيل له والكافر فقال كلهم مؤمنون يومئذ كذا ذكره في الفقه الأكبر فقد جعل الكفار مؤمنين في الآخرة لوجود التصديق منهم والكافر أيضا عند الموت يصير مؤمنا لأنه بمعاينة ملك الموت وأمارات عذاب الآخرة يضطر إلى التصديق إلا أن الإيمان في الآخرة وعند معاينة العذاب لا يفيد حصول ثواب الآخرة ولا يندفع به عقوبة الكفر وهذا هو المعنى من قول العلماء أن إيمان اليأس لا يصح أي لا ينفع ولا يقبل لا أنه لا يتحقق إذ حقيقة الإيمان التصديق وهو يتحقق إذ الحقائق لا تتبدل بالأحوال وإنما يتبدل الاعتبار والأحكام الثاني أن النبي كان يعد من صدقه في جميع ما جاء به من عند الله مؤمنا ولا يشتغل بتعليمه من الدلائل العقلية في المسائل الاعتقادية مقدار ما يستدل به مستدل ويناظر به الخصوم ويذب عن حريم الدين ويقدر على حل ما يورد عليه من الشبه ولا بتعليم كيفية النظر والاستدلال وتأليف القياسات العقلية وطرق المناظرة والإلزام وكذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه قبل إيمان من آمن من أهل الردة ولم يعلمهم الدلائل التي يصيرون بها مستبصرين من طرق العقل وكذا عمر رضي الله عنه لما فتح سواد العراق قبل هو وعماله إيمان من كان بها من الزط والأنباط وهما صنفان من الناس مع قلة أذهانهم وبلادة أفهامهم وصرفهم أعمارهم في الفلاحة وضرب المعاول وكري الأنهار والجداول ولو لم يكن إيمان المقلد معتبرا لفقد شرطه وهو الاستدلال العقلي لاشتغلوا بأحد أمرين إما بالإعراض عن قبول إسلامهم أو بنصب متكلم حاذق بصير بالأدلة عالم بكيفية المحاجة ليعلمهم صناعة الكلام حتى يحكموا بإيمانهم ولما امتنعوا عن كل واحد من هذين الأمرين وامتنع أيضا كل من قام مقامهم إلى يومنا هذا عن ذلك ظهر أن ما ذهب إليه الخصم باطل لأنه خلاف صنيع رسول الله وأصحابه العظام وغيرهم من الأئمة الأعلام النوع الثالث في أن الإيمان هل يزيد وينقص وهو أيضا من فروع اختلافهم في حقيقة الإيمان فقال بعض من ذهب إلى أن الإيمان هو التصديق أن حقيقة التصديق شيء واحد لا يقبل الزيادة والنقصان وقال آخرون أنه لا يقبل النقصان لأنه لو نقص لا يبقى إيمانا ولكن يقبل الزيادة لقوله تعالى ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) ونحوها من الآيات وقال الداودي سئل مالك عن نقص الإيمان وقال قد ذكر الله تعالى زيادته في القرآن وتوقف عن نقصه وقال لو نقص لذهب كله وقال ابن بطال مذهب جماعة من أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والحجة على ذلك ما أورده البخاري قال فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص وذكر الحافظ أبو القاسم هبة الله اللالكائي في كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء وابن عباس وابن عمر وعمار وأبو هريرة وحذيفة وسلمان وعبد الله بن رواحة وأبو أمامة وجندب بن عبد الله وعمير بن حبيب وعائشة رضي الله تعالى عنهم ومن التابعين كعب الأحبار وعروة وعطاء وطاوس ومجاهد وابن أبي مليكة وميمون بن مهران وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والحسن ويحيى بن أبي كثير والزهري وقتادة وأيوب ويونس وابن عون وسليمان التيمي وإبراهيم النخعي وأبو البحتري وعبد الكريم الجريري وزيد بن الحارث والأعمش ومنصور والحكم وحمزة الزيات وهشام بن حسان ومعقل بن عبيد الله الجريري ثم محمد بن أبي ليلى والحسن بن صالح ومالك بن مغول ومفضل بن مهلهل

(1/107)


وأبو سعيد الفزاري وزائدة وجرير بن عبد الحميد وأبو هشام عبد ربه وعبثر بن القاسم وعبد الوهاب الثقفي وابن المبارك وإسحاق بن إبراهيم وأبو عبيد بن سلام وأبو محمد الدارمي والذهلي ومحمد بن أسلم الطوسي وأبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود وزهير بن معاوية وزائدة وشعيب بن حرب وإسماعيل بن عياش والوليد بن مسلم والوليد بن محمد والنضر بن شميل والنضر بن محمد وقال سهل بن متوكل أدركت ألف أستاذ كلهم يقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وقال يعقوب بن سفيان أن أهل السنة والجماعة على ذلك بمكة والمدينة والبصرة والكوفة والشام منهم عبد الله بن يزيد المقري وعبد الملك الماجشون ومطرف ومحمد بن عبيد الله الأنصاري والضحاك بن مخلد وأبو الوليد وأبو النعمان والقعنبي وأبو نعيم وعبيد الله بن موسى وقبيصة وأحمد بن يونس وعمرو بن عون وعاصم بن علي وعبد الله بن صالح كاتب الليث وسعيد بن أبي مريم والنضر بن عبد الجبار وابن بكير وأحمد بن صالح وأصبغ بن الفرج وآدم بن أبي إياس وعبد الأعلى بن مسهر وهشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن وعبد الرحمن بن إبراهيم وأبو اليمان الحكم بن نافع وحيوة بن شريح ومكي بن إبراهيم وصدقة بن الفضل ونظراؤهم من أهل بلادهم وذكر أبو الحسن عبد الرحمن بن عمر في كتاب الإيمان ذلك عن خلق قال وأما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان فخشيه أن يتناول عليه موافقة الخوارج وقال رسته ما ذاكرت أحدا من أصحابنا من أهل العلم مثل علي بن المديني وسليمان يعني ابن حرب والحميدي وغيرهم إلا يقولون الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وكذا روى عن عمير بن حبيب وكان من أصحاب الشجرة وحكاه اللالكائي في كتاب السنن عن وكيع وسعيد بن عبد العزيز وشريك وأبي بكر بن أبي عياش وعبد العزيز بن أبي سلمة والحمادين وأبي ثور والشافعي وأحمد بن حنبل وقال الإمام هذا البحث لفظي لأن المراد بالإيمان إن كان هو التصديق فلا يقبلهما وإن كان الطاعات فيقبلهما ثم قال الطاعات مكملة للتصديق فكل ما قام من الدليل على أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان كان مصروفا إلى أصل الإيمان الذي هو التصديق وكل ما دل على كون الإيمان يقبل الزيادة والنقصان فهو مصروف إلى الكامل وهو مقرون بالعمل وقال بعض المتأخرين الحق أن الإيمان يقبلهما سواء كان عبارة عن التصديق مع الأعمال وهو ظاهر أو بمعنى التصديق وحده لأن التصديق بالقلب هو الاعتقاد الجازم وهو قابل للقوة والضعف فإن التصديق بجسمية الشبح الذي بين أيدينا أقوى من التصديق بجسميته إذا كان بعيدا عنا ولأنه يبتدىء في التنزل من أجلى البديهيات كقولنا النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ثم ينزل إلى ما دونه كقولنا الأشياء المتساوية بشيء واحد متساوية ثم إلى أجلى النظريات كوجود الصانع ثم إلى ما دونه ككونه مرئيا ثم إلى أخفاها كاعتقاد أن العرض لا يبقى زمانين وقال بعض المحققين الحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان بوجهين الأول القوة والضعف لأنه من الكيفيات النفسانية وهي تقبل الزيادة والنقصان كالفرح والحزن والغضب ولو لم يكن كذلك يقتضي أن يكون إيمان النبي وأفراد الأمة سواء وأنه باطل إجماعا ولقول إبراهيم عليه السلام ( ولكن ليطمئن قلبي ) الثاني التصديق التفصيلي في إفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالآخر وقال بعضهم في هذا المقام الذي يؤدي إليه نظري أنه ينبغي أن يكون الحق الحقيق بالقبول أن الإيمان بحسب التصديق يزيد بزيادة الكمية المعظمة وهي العدد قبل تقرر الشرائع بأن يؤمن الإنسان بجملة ما ثبت من الفرائض ثم يثبت فرض آخر فيؤمن به أيضا ثم وثم فيزداد إيمانه أو يؤمن بحقية كل ما جاء به النبي إجمالا قبل أن تبلغ إليه الشرائع تفصيلا ثم تبلغه فيؤمن بها تفصيلا بعدما آمن به إجمالا فيزداد إيمانه فإن قلت يلزم من هذا تفضيل من آمن بعد تقرير الشرائع على من مات في زمن الرسول من المهاجرين والأنصار لأن إيمان أولئك أزيد من إيمان هؤلاء قلت لا نسلم أن هذه الزيادة سبب التفضيل في الآخرة وسند المنع أن كل واحد من هذين الفريقين مؤمن بجميع ما يجب الإيمان به بحسب زمانه وهما متساويان في ذلك وأيضا إنما يلزم تفضيلهم على الصحابة بسبب زيادة عدد إيمانهم لو لم يكن لإيمانهم ترجيح باعتبار آخر وهو قوة اليقين وهو ممنوع لأن لإيمانهم ترجيحا ألا ترى إلى قوله لو وزن إيمان أبي بكر مع إيمان جميع الخلق لرجح إيمان أبي بكر رضي الله عنه ولا ينقص الإيمان بحسب العدد قبل تقرر الشرائع ولا يلزم ترك الإيمان بنقص ما يجب الإيمان به ويزيد وينقص

(1/108)


بحسب العدد بعد تقرر الشرائع بتكرار التصديق والتلفظ بكلمتي الشهادة مرة بعد أخرى بعد الذهول عنه تكرارا كثيرا أو قليلا ويزيد وينقص مطلقا أي قبل تقرر الشرائع وبعده بحسب الكيفية أي القوة والضعف بحسب ظهور أدلة حقية المؤمن به وخفائها وقوتها وضعفها وقوة اعتقاد المقلد في المقلد وضعفه وروى عن بعض المحققين أنه قال الأظهر أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان الصديقين والراسخين في العلم أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبهة ولا يزلزل إيمانهم معارض ولا تزال قلوبهم منشرحة للإسلام وإن اختلفت عليهم الأحوال النوع الرابع في أن الإسلام مغاير للإيمان أو هما متحدان فنقول الإسلام في اللغة الانقياد والإذعان وفي الشريعة الانقياد لله بقبول رسوله بالتلفظ بكلمتي الشهادة والإتيان بالواجبات والانتهاء عن المنكرات كما دل عليه جواب النبي حين سأله جبريل عليه السلام عن الإسلام في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال النبي الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان ويطلق الإسلام على دين محمد يقال دين الإسلام كما يقال دين اليهودية والنصرانية قال الله تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام ) وقال ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا ثم اختلف العلماء فيهما فذهب المحققون إلى أنهما متغايران وهو الصحيح وذهب بعض المحدثين والمتكلمين وجمهور المعتزلة إلى أن الإيمان هو الإسلام والإسمان مترادفان شرعا وقال الخطابي والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام ولا يطلق وذلك أن المسلم قد يكون في بعض الأحوال دون بعض والمؤمن مسلم في جميع الأحوال فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها ولم يختلف شيء منها وأصل الإيمان التصديق وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد فقد يكون المرء مسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن وقد يكون صادقا بالباطن غير منقاد في الظاهر قلت هذه إشارة إلى أن بينهما عموما وخصوصا مطلقا كما صرح به بعض الفضلاء والحق أن بينهما عموما وخصوصا من وجه لأن الإيمان أيضا قد يوجد بدون الإسلام كما في شاهق الجبل إذا عرف الله بعقله وصدق بوجوده ووحدته وسائر صفاته قبل أن تبلغه دعوة نبي وكذا في الكافر إذا اعتقد جميع ما يجب الإيمان به اعتقادا جازما ومات فجأة قبل الإقرار والعمل والحاصل أن بيان النسبة بين الإيمان والإسلام بالمساواة أو بالعموم والخصوص موقوف على تفسير الإيمان فقال المتأخرون هو تصديق الرسول بما علم مجيئه به ضرورة والحنفية التصديق والإقرار والكرامية الإقرار وبعض المعتزلة الأعمال والسلف التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان فهذه أقوال خمسة الثلاثة منها بسيطة وواحد مركب ثنائي والخامس مركب ثلاثي ووجه الحصر أنه إما بسيط أو لا والبسيط إما اعتقادي أو قولي أو عملي وغير البسيط إما ثنائي وإما ثلاثي وهذا كله بالنظر إلى ما عند الله تعالى أما عندنا فالإيمان هو بالكلمة فإذا قالها حكمنا بإيمانه اتفاقا بلا خلاف ثم لا تغفل أن النزاع في نفس الإيمان وأما الكمال فإنه لا بد فيه من الثلاثة إجماعا ثم أن الذين ذهبوا إلى أن الإيمان هو الإسلام والإسلام مترادفان استدلوا على ذلك بوجوه الأول أن الإيمان هو التصديق بالله والإسلام إما أن يكون مأخوذا من التسليم وهو تسليم العبد نفسه لله تعالى أو يكون مأخوذا من الاستسلام وهو الانقياد وكيف ما كان فهو راجع إلى ما ذكرنا من تصديقه بالقلب واعتقاده أنه تعالى خالقه لا شريك له الثاني قوله تعالى ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) وقوله تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام ) بين أن دين الله هو الإسلام وأن كل دين غير الإسلام غير مقبول والإيمان دين لا محالة فلو كان غير الإسلام لما كان مقبولا وليس كذلك الثالث لو كانا متغايرين لتصور أحدهما بدون الآخر ولتصور مسلم ليس بمؤمن وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم أن الإيمان هو التصديق بالله فقط وإلا لكان كثير من الكفار مؤمنين لتصديقهم بالله بل هو تصديق الرسول بكل ما علم مجيئه به بالضرورة كما مر ولئن سلمنا لكن لا نسلم أن التسليم ههنا بمعنى تسليم العبد نفسه لم لا يجوز أن يكون بمعنى الاستسلام وهو الانقياد ولأن أحد معاني التسليم الانقياد وحينئذ يلزم تغايرهما لجواز الانقياد ظاهرا بدون تصديق القلب وعن الثاني بأنا لا نسلم أن الإيمان الذي هو التصديق فقط دين بل الدين إنما يقال لمجموع الأركان المعتبرة في كل دين كالإسلام

(1/109)


بتفسير النبي ولهذا يقال دين الإسلام ولا يقال دين الإيمان وهذا أيضا فرق آخر ومعنى الآية ومن يبتغ دينا غير دين محمد فلن يقبل منه وعن الثالث بأن عدم تغايرهما بمعنى عدم الانفكاك لا يوجب اتحادهما معنى وأيضا المنافقون كلهم مسلمون بالتفسير المذكور غير مؤمنين فقد وجد أحدهما بدون الآخر ثم أنهم أولوا الآية بأن المراد بأسلمنا استسلمنا أي أنقذنا والخبر بأن سؤال جبريل عليه السلام ما كان عن الإسلام بل عن شرائع الإسلام وأسندوا هذا إلى بعض الرواة وأجيب بأن الاستسلام ههنا ينبغي أن يكون بالمعنى المذكور في تعريف الإسلام وإلا لما تمكن المنافقون من دعوى الإيمان وحينئذ لا فائدة في هذا التأويل والمذكور في الصحيحين وغيرهما ما ذكرنا ولا تعارضه هذه الرواية الغريبة المخالفة للظاهر قلت في إثبات وحدة الإيمان والإسلام صعوبة وعسر لأنا لو نظرنا إلى قوله تعالى ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) لزم اتحدهما إذ لو كان الإيمان غير الإسلام لم يقبل قط فتعين أن يكون عينه لأن الإيمان هو الدين والدين هو الإسلام لقوله تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام ) فينتج أن الإيمان هو الإسلام ولو نظرنا إلى قول النبي حين سأله جبريل عن الإيمان والإسلام الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره والإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا لزم تغايرهما بتصريح تفسيرهما ولأن قوله تعالى ( إن المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ) يدل على المغايرة بينهما لأن العطف يقتضي تغاير المعطوف والمعطوف عليه النوع الخامس في أن الإيمان هل هو مخلوق أم لا فذهب جماعة إلى أنه مخلوق فمنهم الحارث المحاسبي وجعفر بن حرب وعبد الله بن كلاب وعبد العزيز المكي وذكر عن أحمد بن حنبل وجماعة من أصحاب الحديث أنهم قالوا الإيمان غير مخلوق وأحسن ما قيل فيه ما روي عن الفقيه أبي الليث السمرقندي أنه قال أن الإيمان إقرار وهداية فالإقرار صنع العبد وهو مخلوق والهداية صنع الرب وهو غير مخلوق النوع السادس في قران المشيئة بالإيمان فقالت طائفة لا بد من قرانها وحكى هذا عن أكثر المتكلمين وقالت طائفة بجوازها وقال بعض الشافعية هو المختار وقول أهل التحقيق وقالت طائفة بجواز الأمرين قال بعض الشافعية هو حسن وقالت الحنفية لا يصح ذلك فمن قارن إيمانه بالمشيئة لم يصح إيمانه ورووا ما ذكر في كتاب أبي سعيد محمد بن علي بن مهدي النقاش عن أنس رضي الله تعالى عنه يرفعه من زعم أن الإيمان يزيد وينقص فقد خرج من أمر الله ومن قال أنا مؤمن إن شاء الله فليس له في الإسلام نصيب وفيه أيضا من حديث أبي هريرة يرفعه الإيمان ثابت ليس به زيادة ولا نقص نقصانه وزيادته كفر ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه يرفعه من زعم أن الإيمان يزيد وينقص فزيادته نقص ونقصه كفر وفي كل ذلك نظر ( النوع السابع ) اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على ما قاله النووي أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادا جازما خاليا من الشكوك ونطق مع ذلك بالشهادتين قال فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القبلة أصلا بل يخلد في النار إلا أن يعجز عن النطق لخلل في لسانه أو لعدم التمكن منه لمعالجة المنية أو لغير ذلك فإنه حينئذ يكون مؤمنا بالاعتقاد من غير لفظ وإذا نطق بهما لم يشترط معهما أن يقول وأنا برىء من كل دين خالف دين الإسلام على الأصح إلا أن يكون من كفار يعتقدون اختصاص الرسالة بالعرب ولا يحكم بإسلامه حتى يتبرأ ومن أصحابنا من اشترط التبرىء مطلقا وهو غلط لقوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ومنهم من استحبه مطلقا كالاعتراف بالبعث أما إذا اقتصر الكافر على قوله لا إله إلا الله ولم يقول محمد رسول الله فالمشهور من مذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يكون مسلما ومن أصحابنا من قال يصير مسلما ويطالب بالشهادة الأخرى فإن أبى جعل مرتدا وحجة الجمهور الرواية السالفة وهي مقدمة على هذه لأنها زيادة من ثقة وليس فيها نفي للشهادة الثانية وإنما أن فيها تنبيها على الأخرى وأعرب القاضي حسين فشرط في ارتفاع السيف عنه أن يقر بأحكامها مع النطق بها فأما مجرد قولها فلا وهو عجيب منه وقال النووي اشترط القاضي أبو الطيب من أصحابنا الترتيب بين كلمتي الشهادة في صحة الإسلام فيقدم الإقرار بالله على الإقرار برسوله ولم أر من وافقه ولا من خالفه وذكر الحليمي

(1/110)


في منهاجه ألفاظا تقوم مقام لا إله إلا الله في بعضها نظر لانتفاء ترادفها حقيقة فقال ويحصل الإسلام بقوله لا إله غير الله ولا إله سوى الله أو ما عدا الله ولا إله إلا الرحمن أو الباريء أو لا رحمن أو لا باريء إلا الله أو لا ملك أو لا رازق إلا الله وكذا لو قال لا إله إلا العزيز أو العظيم أو الحكيم أو الكريم وبالعكس قال ولو قال أحمد أبو القاسم رسول الله فهو كقوله محمد
( وهو قول وفعل ويزيد وينقص ) أي أن الإيمان قول باللسان وفعل بالجوارح فإن قلت الإيمان عنده قول وفعل واعتقاد فكيف ذكر القول والفعل ولم يذكر الاعتقاد الذي هو الأصل قلت لا نزاع في أن الاعتقاد لا بد منه والكلام في القول والفعل هل هما منه أم لا فلا جل ذلك ذكر ما هو المتنازع فيه وأجيب أيضا بأن الفعل أعم من فعل الجوارح فيتناول فعل القلب وفيه نظر من وجهين أحدهما هو أن يقال لا حاجة إلى ذكر القول أيضا لأنه فعل اللسان والآخر أن الاعتقاد من مقولة الانفعال أو الفعل وفيه تأمل فإن قلت ما وجه من أعاد الضمير أعني هو إلى الإسلام قلت وجهه أن الإيمان والإسلام واحد عند البخاري فإذا كان كلاهما واحدا يجوز عود الضمير إلى كل واحد منهما قوله يزيد وينقص أي الإيمان والإسلام قبل الزيادة والنقصان هذا على تقدير دخول القول والفعل فيه ظاهر وأما على تقدير أن يكون نفس التصديق فإنه أيضا يزيد وينقص أي قوة وضعفا أو إجمالا وتفصيلا أو تعدادا بحسب تعدد المؤمن به كما حققناه فما مضى وهذا الذي قاله البخاري منقول عن سفيان بن عيينة فإنه قال الإيمان قول وفعل يزيد وينقص فقال له أخوه إبراهيم لا تقل ينقص فغضب وقال اسكت يا صبي بل ينقص حتى لا يبقى منه شيء قال أبو الحسن عبد الرحمن بن عمر بن يزيد رسته حدثنا الحميدي حدثني يحيى بن سليم الطائفي قال سألت عشرة من الفقهاء فكلهم قالوا الإيمان قول وعمل الثوري وهشام بن حسان وابن جريج ومحمد بن عمرو بن عثمان والمثنى بن الصباح ونافع بن عمر الجمحي ومحمد بن مسلم الطائفي ومالك بن أنس وفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة قال رسته وحدثنا بعض أصحابنا عن عبد الرزاق قال سمعت معمرا والأوزاعي يقولان الإيمان قول وعمل يزيد وينقص قال الله تعالى ( ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم وزدناهم هدى ويزيد الله الذي اهتدوا هدى والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ويزداد الذين آمنوا إيمانا ) وقوله ( أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا ) وقوله جل ذكره ( فاخشوهم فزادهم إيمانا ) وقوله تعالى ( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) هذه ثمان آيات ذكرها دليلا على زيادة الإيمان وقد قلنا أنه كثيرا ما يستدل لترجمة الباب بالقرآن وبما وقع له من سنة مسندة وغيرها أو أثر من الصحابة أو قول للعلماء ونحو ذلك ولكن ذكر هذه الآيات ما كان يناسب إلا في باب زيادة الإيمان ونقصانه فإن قلت الآيات دلت على الزيادة فقط والمقصود بيان الزيادة والنقصان كليهما قلت قال الكرماني كل ما قبل الزيادة لا بد أن يكون قابلا للنقصان ضرورة ثم الآية الأولى في سورة الفتح وهو قوله تعالى ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليما حكيما ) قال الزمخشري أي أنزل الله في قلوبهم السكون والطمأنينة بسبب الصلح والأمن ليعرفوا فضل الله تعالى عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف والهدنة غب القتال فيزدادوا يقينا إلى يقينهم أو أنزل فيها السكون إلى ما جاء به محمد من الشرائع ليزدادوا يقينا إلى يقينهم أو أنزل فيها السكون إلى ما جاء به محمد عليه السلام من الشرائع ليزدادوا إيمانا بالشرائع مقرونا إلى إيمانهم وهو التوحيد وعن ابن عباس أول ما أتاهم به النبي التوحيد فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة والزكاة ثم الحج ثم الجهاد فازدادوا إيمانا إلى إيمانهم وأنزل فيها الوقار والعظمة لله ولرسوله ليزدادوا باعتقاد ذلك إيمانا إلى إيمانهم وقيل أنزل الله فيه الرحمة ليتراحموا فيزداد إيمانهم الآية الثانية في سورة الكهف وهي قوله تعالى ( نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا ) الآية ( نبأهم ) أي خبرهم والفتية جمع فتى والهدى من هداه يهديه أي دلالة موصلة إلى البغية وهو متعد والاهتداء لازم قال الزمخشري ( وزدناهم هدى )

(1/111)


بالتوفيق والتثبت ( وربطنا على قلوبهم ) وقوينا بالصبر على هجر الأوطان والنعيم والفرار بالدين إلى بعض الغير أن وحشرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام ( إذ قاموا ) بين يدي الجبار وهو دقيانوس من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم ( فقالوا ربنا رب السموات والأرض ) الآية الثالثة في سورة مريم وهي قوله تعالى ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا ) أي يزيد الله المهتدين هداية بتوفيقه والمراد من الباقيات الصالحات أعمال الآخرة كلها وقيل الصلوات وقيل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أي هي خير ثوابا من مفاخرات الكفار وخير مرد أي مرجعا وعاقبة الآية الرابعة في سورة محمد وهي قوله تعالى ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) أي زادهم الله هدى بالتوفيق ( وآتاهم تقواهم ) أعانهم عليها وعن السدي بين لهم ما يتقون وقريء وأعطاهم الآية الخامسة في سورة المدثر وهي قوله تعالى ( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقين الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ) أي عدة الملائكة الذين يلون أمر جهنم لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له ولأنهم أشد الخلق بأسا وأقواهم بطشا والتقدير لقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين واستيقان أهل الكتاب لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من عند الله وازداد المؤمنون إيمانا لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل الآية السادسة في سورة براءة من الله ورسوله وهي قوله تعالى ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) أي فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه السورة إيمانا إنكار واستهزاء بالمؤمنين واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به الآية السابعة في سورة آل عمران وهي قوله تعالى ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) المراد من الناس الأول نعيم بن مسعود الأشجعي ومن الثاني أهل مكة وروى أن أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد يا محمد موعدنا موسم بدر لقابل إن شئت فقال النبي إن شاء الله فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل من الظهران فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال يا نعيم إني واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر وأن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبان وقد بدا لي ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جراءة فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشر من الإبل فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد أفتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم فوالله لا يفلت منكم أحد وقيل مر بأبي سفيان ركب عبد القيس يريدون المدينة للميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب أن ثبطوهم فكره المسلمون الخروج فقال عليه الصلاة و السلام والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون حسبنا الله ونعم الوكيل وكان معهم تجارات فباعرها وأصابوا خيرا ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين فخرج أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا إنما خرجتم لتشربوا السويق الآية الثامنة في سورة الأحزاب وهي قوله تعالى ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) هذا إشارة إلى الخطب والبلاء قوله ( وما زادهم إلا إيمانا ) أي بالله وبمواعيده ( وتسليما ) لقضاياه وأقداره ( والحب في الله والبغض في الله من الإيمان ) والحب مرفوع بالابتداء والبغض معطوف عليه وقوله من الإيمان خبره وكلمة في أصلها للظرفية ولكنها ههنا تقال للسببية أي بسبب طاعة الله تعالى ومعصيته كما في قوله في النفس المؤمنة مائة من الإبل وقوله في التي حبست الهرة فدخلت النار فيها أي بسببها ومنه قوله ( فذلكن الذي لمتنني فيه ) وقوله ( لمسكم فيما أفضتم ) ثم هذه الجملة يجوز أن تكون عطفا على ما أضيف إليه الباب فتدخل في ترجمة الباب كأنه قال والحب في الله من الإيمان والبغض في الله من الإيمان ويجوز أن يكون ذكرها لبيان إمكان الزيادة والنقصان كذلك الآيات وروى أبو داود بإسناده إلى

(1/112)


أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا زيد بن الحباب عن الصعق بن حرب قال حدثني عقيل ابن الجعد عن أبي إسحق عن سويد بن غفلة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وروى ابن أبي شيبة أيضا عن أبي فضيل عن الليث عن عمرو بن مرة عن البراء قال قال رسول الله أوثق عرى الإسلام الحب في الله والبغض في الله وأخرج الترمذي من حديث معاذ بن أنس الجهني أن النبي قال من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان وقال هذا حديث منكر وأخرج أبو داود من حديث أبي أمامة أن رسول الله قال من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان
( وكتب عمر بن العزيز إلى عدي بن عدي إن للإيمان فراض وشرائع وحدودا وسننا فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص )
الكلام فيه على أنواع الأول في ترجمة عمر وعدي أما عمر فهو ابن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي القرشي الإمام العادل أحد الخلفاء الراشدين سمع عبد الله بن جعفر وأنسا وغيرهما وصلى أنس خلفه قبل خلافته ثم قال ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله من هذا الفتى تولى الخلافة سنة تسع وتسعين ومدة خلافته سنتان وخمسة أشهر نحو خلافة الصديق رضي الله عنه فملأ الأرض قسطا وعدلا وأمه حفصة بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولد بمصر وتوفي بدير سمعان بحمص يوم الجمعة لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة وقال القاضي جمال الدين بن واصل والظاهر عندي أن دير سمعان هو المعروف الآن بدير النقيرة من عمل معرة النعمان فإن قبره هو هذا المشهور وأوصى أن يدفن معه شيء كان عنده من شعر رسول الله وأظفاره وقال إذا مت فاجعلوه في كفني ففعلوا ذلك وقال الإمام أحمد بن حنبل يروى في الحديث أن الله تعالى يبعث على رأس كل مائة عام من يصحح لهذه الأمة دينها فنظرنا في المائة الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز قال النووي في تهذيب الأسماء حمله العلماء في المائة الأولى على عمر والثانية على الشافعي والثالثة على ابن شريح وقال الحافظ ابن عساكر هو الشيخ أبو الحسن الأشعري والرابعة على ابن أبي سهل الصعلوكي وقيل القاضي الباقلاني وقيل أبو حامد الإسفرايني وفي الخامسة على الغزالي انتهى وقال الكرماني لا مطمح لليقين فيه فللحنفية أن يقولوا هو الحسن بن زياد في الثانية والطحاوي في الثالثة وأمثالهما وللمالكية أنه أشهب في الثانية وهلم جرا وللحنابلة أنه الخلال في الثالثة والراغوني في الخامسة إلى غير ذلك وللمحدثين أنه يحيى بن معين في الثانية والنسائي في الثالثة ونحوهما ولأولي الأمر أنه المأمون والمقتدر والقادر وللزهاد أنه معروف الكرخي في الثانية والشبلي في الثالثة ونحوهما وأن تصحيح الدين متناول لجميع أنواعه مع أن لفظة من تحتمل التعدد في المصحح وقد كان قبيل كل مائة أيضا من يصحح ويقوم بأمر الدين وإنما المراد من انقضت المائة وهو حي عالم مشار إليه وليس له في البخاري سوى حديث واحد رواه في الاستقراض من حديث أبي هريرة في الفلس وفي الرواة أيضا عمر بن عبد العزيز بن عمران بن مقلاص روى له النسائي فقط وأما عدي فهو ابن عدي بفتح العين فيهما ابن عميرة بفتح العين ابن زرارة بن الأرقم بن عمر بن وهب بن ربيعة بن الحارث بن عدي أبو فروة الكندي الجزري التابعي روى عن أبيه وعمه العرس بن عميرة وهما صحابيان وعنه الحكم وغيره من التابعين وغيرهم قال البخاري هو سيد أهل الجزيرة ويقال اختلفوا في أنه صحابي أم لا والصحيح أنه تابعي وسبب الاختلاف أنه روى أحاديث عن النبي مرسلة فظنه بعضهم صحابيا وكان عدي عامل عمر بن عبد العزيز على الجزيرة والموصل واستعمال عمر له يدل على أنه لا صحبة له لأنه عاش بعد عمر ولم يبق أحد من الصحابة إلى خلافته وتوفي سنة عشرين ومائة وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه وليس له في الصحيحين شيء ولا في الترمذي الثاني أن هذا من تعاليق البخاري ذكره بصيغة

(1/113)


الجزم وهو حكم منه بصحته وأخرجه أبو الحسن عبد الرحمن بن عمر بن يزيد رسته في كتاب الإيمان تأليفه فقال حدثنا ابن مهدي حدثنا جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم قال كتب عمر رضي الله عنه فذكره وهذا إسناد صحيح وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا أبو أسامة عن جرير بن حازم قال حدثني عيسى بن عاصم قال حدثنا عدي بن عدي قال كتب إلي عمر بن عبد العزيز أما بعد فإن الإيمان فرائض وشرائع وحدود سنن إلى آخره ولما فهم البخاري من قول عمر فمن استكملها إلى آخره أي أنه قائل بأنه يقبل الزيادة والنقصان ذكره في هذا الباب عقيب الآيات المذكورة وقال الكرماني لقائل أن يقول لا يدل ذلك عليه بل على خلافه إذ قال للإيمان كذا وكذا فجعل الإيمان غير الفرائض وأخواتها وقال استكملها أي الفرائض ونحوها لا الإيمان فجعل الكمال لما للإيمان لا للإيمان قلت لو وقف الكرماني على رواية ابن أبي شيبة لما قال ذلك لأن في روايته جعل الفرائض وأخواتها عين الإيمان على ما لا يخفى وكذا في رواية ابن عساكر ههنا فإن الإيمان فرائض نحو رواية ابن أبي شيبة وقال بعضهم وبالأول جاء الموصول قلت جاء الموصول بالأول وبالثاني جميعا على ما ذكرنا الثالث في معناه فقوله فرائض أي أعمالا فريضة وشرائع أي عقائد دينية وحدودا أي منهيات ممنوعة وسننا أي مندوبات قال الكرماني وإنما فسرناها بذلك ليتناول الاعتقاديات والأعمال والتروك واجبة ومندوبة ولئلا يتكرر وقال ابن المرابط الفرائض ما فرض علينا من صلاة وزكاة ونحوهما والشرائع كالتوجه إلى القبلة وصفات الصلاة وعدد شهر رمضان وعدد جلد القاذف وعدد الطلاق إلى غير ذلك والسنن ما أمر به الشارع من فضائل الأعمال فمن أتى بالفرائض والسنن وعرف الشرائع فهو مؤمن كامل قوله فسأبينها أي فسأوضحها لكم إيضاحا يفهمه كل واحد منكم فإن قلت كيف أخر بيانها والتأخير عن وقت الحاجة غير جائز قلت أنه علم أنهم يعلمون مقاصدها ولكنه استظهر وبالغ في نصحهم وتنبيههم على المقصود وعرفهم أقسام الإيمان مجملا وأنه سيذكرها مفصلا إذا تفرغ لها فقد يكون مشغولا بأهم من ذلك ( وقال إبرهيم ولكن ليطمئن قلبي )
الكلام فيه على أنواع الأول إبراهيم هو ابن آزر وهو تارح بفتح الراء المهملة وفي آخره حاء مهملة فآزر اسم وتارح لقب له وقيل عكسه قال ابن هشام هو إبراهيم بن تارح وهو آزر بن ناحور بن ساروح بن أرعو بن فالخ بن عيبر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قابن بن فانوش بن شيث بن آدم عليه السلام ولا خلاف عندهم في عدد هذه الأسماء وسردها على ما ذكرنا وإن اختلفوا في ضبطها وإبراهيم اسم عبراني قال الماوردي معناه أب رحيم وكان آز رمن أهل حران وولد إبراهيم بكوثا من أرض العراق وكان إبراهيم يتجر في البز وهاجر من أرض العراق إلى الشام وبلغ عمره مائة وخمسا وسبعين سنة وقيل مائتي سنة ودفن بالأرض المقدسة وقبره معروف بقرية حبرون بالحاء المهملة وهي التي تسمى اليوم ببلدة الخليل الثاني أن معناه ليزداد وهو المعنى الذي أراده البخاري وروى ابن جرير الطبري بسنده الصحيح إلى سعيد بن جبير قال قوله ( ليطمئن قلبي ) أي يزداد يقيني وعن مجاهد قال لأزداد إيمانا إلى إيماني وقيل بالمشاهدة كأن نفسه طالبته بالرؤية والشخص قد يعلم الشيء من جهة ثم يطلبه من أخرى وقيل ليطمئن قلبي أي إذا سألتك أجبتني وقال الزمخشري فإن قلت كيف قال له أو لم تؤمن وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا قلت ليجيب بما أجاب فيه لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين انتهى قلت أن فيه فائدتين إحداهما وهي التفرقة بين علم اليقين وعين اليقين فإن في عين اليقين طمأنينة بخلاف علم اليقين والثانية أن لإدراك الشيء مراتب مختلفة قوة وضعفا وأقصاها عين اليقين فليطلبها الطالبون وقال الزمخشري وبلى إيجاب لما بعد النفي ومعناه بلى آمنت ولكن ليطمئن قلبي ليزيد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك فإن قلت بم تعلقت اللام في ليطمئن قلت بمحذوف تقديره ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب الثالث ما قيل كان المناسب للسياق أن يذكر هذه الآية عند سائر الآيات وأجيب بأن تلك الآيات دلت على الزيادة صريحا وهذه

(1/114)


تلزم الزيادة منها ففصل بينهما إشعارا بالتفاوت ( وقال معاذ اجلس بنا نؤمن ساعة )
معاذ بضم الميم ابن جبل بن عمرو بن أوس بن عايذ بالياء آخر الحروف والذال المعجمة ابن عدي بن كعب بن عمرو بن أدى بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بالتاء المثناة من فوق بن جشم بن الخزرج الأنصاري أسم وهو ابن ثماني عشرة سنة وشهد العقبة الثانية مع السبعين من الأنصار ثم شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله روي له عن رسول الله مائة حديث وسبعة وخمسون حديثا اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بثلاثة وانفرد مسلم بحديث واحد روى عنه عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو وأبو قتادة وجابر وأنس وغيرهم توفي في طاعون عمواس بفتح العين المهملة والميم موضع بين الرملة وبيت المقدس سنة ثماني عشرة وقيل سبع عشرة وعمره ثلاث وثلاثون سنة وهذا الأثر أخرجه رسته عن ابن مهدي حدثنا سفيان عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال عنه وهذا إسناد صحيح ورواه أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي عن عبد الجبار بن العلاء حدثنا وكيع عن الأعمش ومسعر عن جامع بن شداد به قوله نؤمن ساعة لا يمكن حمله على أصل الإيمان لأن معاذا كان مؤمنا وأي مؤمن فالمراد زيادة الإيمان أي اجلس حتى نكثر وجوه دلالات الأدلة الدالة على ما يجب الإيمان به وقال النووي معناه نتذاكر الخير وأحكام الآخرة وأمور الدين فإن ذلك إيمان وقال ابن المرابط نتذاكر ما يصدق اليقين في قلوبنا لأن الإيمان هو التصديق بما جاء من عند الله تعالى فإن قلت من هو الذي قال له معاذ اجلس بنا قلت قالوا هو الأسود بن هلال وروى ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا وكيع قال حدثنا الأعمش عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال المحاربي قال قال لي معاذ اجلس بنا نؤمن ساعة يعني نذكر الله فإن قلت روى ابن أبي شيبة أيضا عن أبي أسامة عن الأعمش عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال كان معاذ يقول لرجل من إخوانه اجلس بنا فلنؤمن ساعة فيجلسان يتذاكران الله ويحمدانه انتهى فهذا يدل على أن الذي قاله معاذ اجلس بنا نؤمن ساعة غير الأسود بن هلال قلت يجوز أن يكون قال له مرة وقال لغيره مرة أخرى فافهم ( وقال ابن مسعود اليقين الإيمان كله ) هو عبد الله بن مسعود بن غافل بالغين المعجمة والفاء ابن حبيب بن شمخ بن مخزوم ويقال ابن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هزيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نذار بن معد بن عدنان
أبو عبد الرحمن الهذلي وأمه أم عبد بنت عبدود بن سواء من هذيل أيضا لها صحبة أسلم بمكة قديما وهاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله وهو صاحب نعل رسول الله كان يلبسه إياها فإذا جلس أدخلها في ذراعه روى له عن رسول الله ثمانمائة حديث وثمانية وأربعون حديثا اتفقا منها على أربعة وستين وانفرد البخاري بأحد وعشرين ومسلم بخمسة وثلاثين مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين وهو ابن بضع وستين سنة وقيل بالكوفة والأول أصح وصلى عليه عثمان وقيل الزبير وقيل عمار بن ياسر روى له الجماعة وأخرج هذا الأثر رسته بسند صحيح عن أبي زهير قال حدثنا الأعمش عن أبي ظبيان عن علقمة عنه قال الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله ثم قال وحدثنا عبد الرحمن قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان بمثله وأخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد حديثه مرفوعا ولا يثبت رفعه وروى أحمد في كتاب الزهد عن وكيع عن شريك عن هلال عن عبد الله بن حكيم قال سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها قوله اليقين هو العلم وزوال الشك يقال منه يقنت الأمر بالكسر يقينا وأيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنى وأنا على يقين منه وذلك عبارة عن التصديق وهو أصل الإيمان فعبر بالأصل عن الجميع كقوله الحج عرفة يعني أصل الحج ومعظمه عرفة وفيه دلالة على أن الإيمان يتبعض لأن كلا وأجمعا لا يؤكد بهما إلا ذوا جزاء يصح افتراقها حسا أو حكما فعلم أن للإيمان كلا وبعضا فيقبل الزيادة والنقصان واعلم أن اليقين من الكيفيات النفسانية وهو في الإدراكات الباطنة من قسم التصديقات التي متعلقها الخارجي لا يحتمل النقيض بوجه من الوجوه وهو علم بمعنى اليقين

(1/115)


( وقال ابن عمر لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر )
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما القرشي العدو المكي وأمه وأم أخته حفصة زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون أسلم بمكة قديما مع أبيه وهو صغير وهاجر معه ولا يصح قول من قال أنه أسلم قبل أبيه وهاجر قبله واستصغر عن أحد وشهد الخندق وما بعدها وهو أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية وأحد العبادلة الأربعة وثانيهم ابن عباس وثالثهم عبد الله بن عمرو بن العاص ورابعهم عبد الله بن الزبير ووقع في مبهمات النووي وغيرها أن الجوهري أثبت ابن مسعود منهم وحذف ابن عمرو وليس كما ذكره كما ذكرناه فيما مضى ووقع في شرح الرافعي في الجنايات عد ابن مسعود منهم وحذف ابن الزبير وابن عمرو بن العاص وهو غريب منه روى له ألفا حديث وستمائة وثلاثون حديثا اتفقا منهما على مائة وسبعين حديثا وانفرد البخاري بأحد وثمانين ومسلم بأحد وثلاثين وهو أكثر الصحابة رواية بعد أبي هريرة مات بفخ بالفاء والخاء المعجمة موضع بقرب مكة وقيل بذي طوى سنة ثلاث وقيل أربع وسبعين سنة بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر وقيل بستة عن أربع وقيل ست وثمانين سنة قال يحيى بن بكير توفي بمكة بعد الحج ودفن بالمحصب وبعض الناس يقولون بفخ قلت وقيل بسرف وكلها مواضع بقرب مكة بعضها أقرب إلى مكة من بعض قال الصغاني فخ وادي الزاهر وصلى عليه الحجاج وفي الصحابة أيضا عبد الله بن عمر حرمي يقال أن له صحبة يروى عنه حديث في الوضوء وقد روى مسلم معنى قول ابن عمر رضي الله عنهما من حديث النواس بن سمعان قال سألت رسول الله عن البر والإثم فقال البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس قوله التقوى هي الخشية قال الله تعالى ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا ) ومثله في أول الحج والشعراء ( إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون ) يعني ألا تخشون الله وكذلك قول هود وصالح ولوط وشعيب لقومهم وفي العنكبوت وإبراهيم ( إذ قال لقوم اعبدوا الله واتقوه ) يعني اخشوه ( واتقوا الله حق تقاته ) ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس ) وحقيقة التقوى أن يقي نفسه تعاطي ما تستحق به العقوبة من فعل أو ترك وتأتي في القرآن على معان الإيمان نحو قوله تعالى ( والزمهم كلمة التقوى ) أي التوحيد والتوبة نحو قوله تعالى ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا ) أي تابوا والطاعة نحو ( أن انذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ) وترك المعصية نحو قوله تعالى ( وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله ) أي ولا تعصوه والإخلاص نحو قوله تعالى ( فإنها من تقوى القلوب ) أي من إخلاص القلوب فإن قلت ما أصله قلت أصله من الوقاية وهو فرط الصيانة ومنه المتقي اسم فاعل من وقاه الله فاتقى والتقوى والتقى واحد والواو مبدلة من الياء والتاء مبدلة من الواو إذ أصله وقيا قلت الياء واوا فصار وقوى ثم أبدلت من الواو تاء فصار تقوى وإنما أبدلت من الياء واوا في نحو تقوى ولم تبدل في نحو ريا لأن ريا صفة وإنما يبدلون الياء في فعلى إذا كان اسما والياء موضع اللام كشروى من شريت وتقوى لأنها من التقية وإن كانت صفة تركوها على أصلها قوله حتى يدع أي يترك قال الصرفيون وأما توا ماضي يدع ويذر ولكن جاء ( ما ودعك ربك ) بالتخفيف قوله حاك بالتخفيف من حاك يحيك ويقال حك يحك وأحاك يحيك يقال ما يحيك فيه الملام أي ما يؤثر وقال شمر الحائك الراسخ في قلبك الذي يهمك وقال الجوهري حاك السيف وأحاك بمعنى يقال ضربه فما حاك فيه السيف إذا لم يعمل فيه فالحيك أخذ القول في القلب وفي بعض نسخ المغاربة صوابه ما حك بتشديد الكاف وفي بعض نسخ العراقية ما حاك بالتشديد من المحاكة وقال النووي ما حاك بالتخفيف هو ما يقع في القلب ولا ينشرح له صدره وخاف الإثم فيه وقال التيمي حاك في الصدر أي ثبت فالذي يبلغ حقيقة التقوى تكون نفسه متيقنة للإيمان سالمة من الشكوك وقال الكرماني حقيقة التقوى أي الإيمان لأن المراد من التقوى وقاية النفس عن الشرك وفيه إشارة إلى أن بعض المؤمنين بلغوا إلى كنه الإيمان وبعضهم لا فتجوز الزيادة والنقصان وفي بعض الروايات قال لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان بدل التقوى

(1/116)


( وقال مجاهد شرع لكم أوصيناك يا محمد وإياه دينا واحدا )
مجاهد هو ابن جبير بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة وفي آخره راء ويقال جبير والأول أصح المخزومي مولى عبد الله بن السائب المخزومي وقيل غيره سمع ابن عباس وابن عمر وأبا هريرة وجابر أو عبد الله بن عمرو وغيرهم قال مجاهد عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة واتفقوا على توثيقه وجلالته وهو إمام في الفقه والتفسير والحديث مات سنة مائة وقيل إحدى وقيل اثنتين وقيل أربع ومائة وهو ابن ثلاث وثمانين سنة بمكة وهو ساجد روى له الجماعة وأخرج أثره هذا عبد بن حميد في تفسيره بسند صحيح عن شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه ورواه ابن المنذر بإسناده بلفظة وصاه قوله وإياه يعني نوحا عليه السلام أي هذا الذي تظاهرت عليه أدلة الكتاب والسنة من زيادة الإيمان ونقصانه هو شرع الأنبياء عليهم السلام الذين قبل نبينا كما هو شرع نبينا لأن الله سبحانه وتعالى قال ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ) ويقال جاء نوح عليه السلام بتحريم الحرام وتحليل الحلال وهو أول من جاء من الأنبياء بتحريم الأمهات والبنات والأخوات ونوح أول نبي جاء بعد إدريس عليه السلام وقد قيل أن الذي وقع في أثر مجاهد تصحيف والصواب أوصيناك يا محمد وأنبياءه وكيف يقول مجاهد بإفراد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة قلت ليس بتصحيف بل هو صحيح ونوح أفرد في الآية وبقية الأنبياء عليهم السلام عطفت عليه وهم داخلون فيما وصى به نوحا وكلهم مشتركون في هذه الوصية فذكر واحد منهم يغني عن الكل على أن نوحا أقرب المذكورين وهو أولى بعود الضمير إليه فافهم ( وقال ابن عباس شرعة ومنهاجا سبيلا وسنة )
يعني عبد الله بن عباس فسر قوله تعالى ( شرعة ومنهاجا ) بالسبيل والسنة وقال الجوهري النهج الطريق الواضح وكذا المنهاج والشرعة الشريعة ومنه قوله تعالى ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) والشريعة ما شرعه الله لعباده من الدين وقد شرع لهم يشرع شرعا أي سن فعلى هذا هو من باب اللف والنشر الغير المرتب وفي بعض النسخ سنة وسبيلا فهو مرتب وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة شرعة ومنهاجا قال الدين واحد والشريعة مختلفة وقال ابن إسحق قال بعضهم الشرعة الدين والمنهاج الطريق وقيل هما جميعا الطريق والطريق هنا الدين ولكن اللفظ إذا اختلف أتى به بألفاظ يؤكد بها القصة وقال محمد بن يزيد شرعة معناها ابتداء الطريق والمنهاج الطريق المستمر وآثر ابن عباس هذا أخرجه الأزهري في تهذيبه عن ابن ماهك عن حمزة عن عبد الرزاق عن الثوري عن أبي إسحق عن التميمي يعني أربدة عن ابن عباس رضي الله عنهما به فإن قلت في الآيتين تعارض لأن الآية الأولى تقتضي اتحاد شرعة الأنبياء والثانية تقتضي أن لكل نبي شرعة قلت لا تعارض لأن الاتحاد في أصول الدين والتعدد في فروعه فعند اختلاف المحل لا يثبت التعارض
( باب دعاؤكم إيمانكم )
يعني فسر ابن عباس قوله تعالى ( قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم ) فقال المراد من الدعاء الإيمان فمعنى دعاؤكم إيمانكم وأخرجه ابن المنذر بسنده إليه أنه قال لولا دعاؤكم لولا إيمانكم وقال ابن بطال لولا دعاؤكم الذي هو زيادة في إيمانكم قال النووي وهذا الذي قاله حسن لأن أصل الدعاء النداء والاستغاثة ففي الجامع سئل ثعلب عنه فقال هو النداء ويقال دعا الله فلان بدعوة فاستجاب له وقال ابن سيده هو الرغبة إلى الله تعالى دعاه دعاء ودعوى حكاها سيبويه وفي الغريبين الدعاء الغوث وقد دعا أي استغاث قال تعالى ( ادعوني أستجب لكم ) وقال بعض الشارحين قال البخاري ومعنى الدعاء في اللغة الإيمان ينبغي أن يثبت فيه فإني لم أره عند أحد من أهل اللغة وقال الكرماني تفسيره في الآيتين يدل على أنه قابل للزيادة والنقصان أو أنه سمى الدعاء إيمانا والدعاء عمل واعلم أن من قوله وقال ابن مسعود إلى هنا غير ظاهر الدلالة على الدعوى وهو موضع بحث ونظر وقال النووي اعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ثم دعا بكتاب رسول الله الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحم ن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولو اشهدوا بأنا مسلمون آل عمران قال أبو سفيان فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام وكان ابن الناظور صاحب إيلياء وهرقل سقفا على نصارى الشأم يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس فقال بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك قال ابن الناظور وكان هرقل حزاء ينظر في كثير من نسخ البخاري هذا باب دعاؤكم إيمانكم إلى آخر الحديث بعده وهذا غلط فاحش وصوابه ما ذكرناه أولا وهو دعاؤكم إيمانكم ولا يصح إدخال باب هنا لوجوه منها أنه ليس له تعلق بما نحن فيه ومنها أنه ترجم أولا بقوله بني الإسلام ولم يذكره

(1/117)


قبل هذا وإنما ذكره بعده ومنها أنه ذكر الحديث بعده وليس هنا مطابقا للترجمة وقال الكرماني وعندنا نسخة مسموعة على الفربري وعليها خطة وهو هكذا دعاؤكم إيمانكم بلا باب ولا واو قلت رأيت نسخة عليها خط الشيخ قطب الدين الحلبي الشارح وفيها باب دعاؤكم إيمانكم وقال صاحب التوضيح وعليه مشى شيخنا في شرحه وليس ذلك بجيد لأنه ليس مطابقا للترجمة
1 - حدثنا عبيد الله بن موسى قال أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان )
هذا الحديث هو ترجمة الباب وقد ذكرنا أن الصحيح أنه ليس بينه وبين قوله باب قول النبي بني الإسلام على خمس باب آخر فافهم وقال النووي أدخل البخاري هذا الحديث في هذا الباب لينبىء أن الإسلام يطلق على الأفعال وأن الإسلام والإيمان قد يكون بمعنى واحد
( بيان رجاله ) وهم أربعة الأول عبيد الله بن موسى بن باذام بالباء الموحدة والذال المعجمة ولو لفظ فارسي ومعناه اللوز العبسي بفتح العين المهملة وتسكين الباء الموحدة مولاهم الكوفي الثقة سمع الأعمش وخلقا من التابعين وعنه البخاري وأحمد وغيرهما وروى مسلم وأصحاب السنن الأربعة عن رجل عنه وكان عالما بالقرآن رأسا فيه توفي بالإسكندرية سنة ثلاث عشرة أو أربع عشرة ومائتين وقال ابن قتيبة في المعارف كان عبيد الله يسمع ويروي أحاديث منكرة فضعف بذلك عند كثير من الناس وقال النووي وقع في الصحيحين وغيرهما من كتب أئمة الحديث الاحتجاج بكثير من المبتدعة غير الدعاة إلى بدعتهم ولم تزل السلف والخلف على قبول الرواية منهم والاستدلال بها والسماع منهم وأسماعهم من غير إنكار الثاني حنظلة بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح الجمحي المكي القرشي الثقة الحجة سمع عطاء وغيره من التابعين وعنه الثوري وغيره من الأعلام مات سنة إحدى وخمسين ومائة روى له الجماعة وقد قال قطب الدين إلا ابن ماجه وليس بصحيح بل روى له ابن ماجه أيضا كما نبه عليه المزي الثالث عكرمة بن خالد بن العاصي بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي المكي الثقة الجليل سمع ابن عمر وابن عباس وغيرهما روى عنه عمرو بن دينار وغيره من التابعين مات بمكة بعد عطاء ومات عطاء سنة أربع عشرة أو خمس عشرة ومائة والعاصي جده هو أخو أبي جهل قتله عمر رضي الله عنه ببدر كافرا وهو خال عمر على قول وفي الصحابة عكرمة ثلاثة لا رابع لهم ابن أبي جهل المخزومي وابن عامر العبدري وابن عبيد الخولاني وليس في الصحيحين من اسمه عكرمة إلا هذا وعكرمة ابن عبد الرحمن وعكرمة مولى ابن عباس وروى مسلم للأخير مقرونا وتكلم فيه لرأيه وعكرمة ابن عمار أخرج له مسلم في الأصول واستشهد به البخاري في كتاب البر والصلة قلت وفي طبقة عكرمة بن خالد بن العاصي عكرمة بن خالد بن سلمة بن هشام بن المغيرة المخزومي وهو ضعيف ولم يخرج له البخاري وهو لم يرو عن ابن عمر وينبغي التنبيه لهذا فإنه موضع الاشتباه الرابع عبد الله بن عمر وقد ذكر عن قريب
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ومنها أن إسناده كلهم مكيون إلا عبيد الله فإنه كوفي وكله على شرط الستة إلا عكرمة بن خالد فإن ابن ماجه لم يخرج له ومنها أنه من رباعيات البخاري ولمسلم من الخماسيات فعلا البخاري برجل
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه ) أخرجه البخاري أيضا في التفسير وقال فيه وزاد عثمان عن ابن وهب أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن نافع عن ابن عمر وأخرجه مسلم في الإيمان عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه عن حنظلة به وعن ابن معاذ عن أبيه عن عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده وعن ابن نمير عن أبي خالد الأحمر عن سعد بن طارق عن سعد بن عبيد عن ابن عمرو عن سهل بن عثمان عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن سعد بن طارق به فوقع لمسلم من جميع طرقه خماسيا وللبخاري رباعيا كما ذكرنا وزاد في مسلم في روايته عن

(1/118)


حنظلة قال سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاوسا أن رجلا قال لعبد الله بن عمر ألا تغزو فقال إني سمعت فذكر الحديث وقال البيهقي اسم الرجل السائل حكيم
( بيان اللغات ) قوله بني من بنى يبني بناء يقال بنى فلانا بيتا من البنيان ويقال بنيته بناء وبنى بكسر الباء وبنى بالضم وبنية قوله وإقام الصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى قال الزمخشري وكتبتها بالواو على لفظ المفخم وحقيقة صلى حرك الصلوين لأن المصلى يفعل ذلك قلت الصلوان تثنية الصلا وهو ما عن يمين الذنب وشماله هذا أحد معاني الصلاة في اللغة والثانية الدعاء قال الأعشى ( وقابلها الريح في دنها
وصلى على دنها وارتسم )
والثالثة من صليت العصا بالنار إذا لينتها وقومتها فالمصلى كأنه يسعى في تعديلها وإقامتها والرابعة من صليت الرجل النار إذا أدخلته النار أو من جعلته يصلاها أي يلازمها فالمصلى يدخل الصلاة ويلازمها قوله وإيتاء الزكاة أي إعطائها من أتاه إيتاء وأما آتيته آتيا وإتيانا فمعناه جئته والزكاة في اللغة عبارة عن الطهارة قال تعالى ( قد أفلح من تزكى ) أي تطهر وعن النماء يقال زكا الزرع إذا نما قال الجوهري زكا الزرع يزكو زكاء ممدودا أي نما وهذا الأمر لا يزكو بفلان أي لا يليق به ويقال زكا الرجل يزكو زكوا إذا تنعم وكان في خصب وزكى ماله تزكية إذا أدى عنه زكاته وتزكى أي تصدق وزكى نفسه تزكية مدحها وفي الشريعة عبارة عن إيتاء جزء من النصاب الحولي إلى فقير غير هاشمي ويراعى فيها معانيها اللغوية وذلك أن المال يطهر بها أو يطهره صاحبه أو هي سبب نمائه وزيادته قوله والحج في اللغة القصد وأصله من قولك حججت فلانا أحجه حجا إذا عدت إليه مرة بعد أخرى فقيل حج البيت لأن الناس يأتونه في كل سنة ومنه قول المخبل السعدي ( واشهد من عوف حؤولا كثيرة
يحجون سب الزبرقان المزعفرا )
يقول يأتونه مرة بعد أخرى لسودده والسب بكسر السين المهملة وتشديد الباء الموحدة شقة من كتان رقيقة وأراد به العمامة ههنا قال الصغاني هذا الأصل ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكة حرسها الله تعالى للنسك تقول حججت البيت أحجه حجا فأنا حاج ويجمع على حجج مثال بازل وبزل والحجج بالكسر الاسم والحجة المرة الواحدة وهذا من الشواذ لأن القياس بالفتح وفي الشريعة هو قصد مخصوص في وقت مخصوص إلى مكان مخصوص قوله وصوم رمضان الصوم في اللغة الإمساك عن الطعام وقد صام الرجل صوما وصياما وقوم صوم بالتشديد وصيم أيضا ورجل صومان أي صائم وصام الفرس صوما أي قام على غير اعتلاف قال النابغة ( خيل صيام وخيل غير صائمة
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما )
وصام النهار صوما إذا قام قائم الظهيرة واعتدل والصوم ركود الريح والصوم السكوت قال تعالى ( إني نذرت للرحمن صوما ) قال ابن عباس صمتا وقال أبو عبيدة كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم والصوم ذرق النعامة والصوم البيعة والصوم شجر في لغة هذيل وفي الشريعة إمساك عن المفطرات الثلاث نهارا مع النية وتفسير رمضان قد مر مرة
( بيان الصرف ) قوله بنى فعل ماض مجهول قوله وأقام الصلاة أصله أقوام لأنه من أقام يقيم حذفت الواو فصار إقاما ولكن القاعدة أن يعوض عنها التاء فيقال إقامة وقال أهل الصرف لزم الحذف والتعويض في نحو إجارة واستجارة فإن قلت فلم لم يعوض ههنا قلت المراد من التعويض هو أن يكون بالتاء وغيرها نحو الإضافة فإن المضاف إليه ههنا عوض عن المحذوف وفي التنزيل ( وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة ) قوله وإيتاء من آتى بالمد
( بيان الإعراب ) قوله الإسلام مرفوع لإسناد بني إليه وقد ناب عن الفاعل وقوله على يتعلق بقوله بني قوله خمس أي خمس دعائم وصرح به عبد الرزاق في روايته أو قواعد أو خصال ويروي خمسة وهكذا رواية مسلم والتقدير خمسة أشياء أو أركان أو أصول ويقال إنما حذف الهاء لكون الأشياء لم تذكر كقوله تعالى ( يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) أي عشرة أشياء وكقوله من صام رمضان فأتبعه ستا ونحو ذلك قلت ذلك النحاة أن أسماء العدد إنما يكون تذكيرها بالتاء وتأنيثها بسقوط التاء إذا كان المميز مذكورا أما إذا لم يذكر فيجوز الأمر أن قوله

(1/119)


شهادة مجرور لأنه بدل من قوله خمس بدل الكل من الكل ويجوز رفعه على أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي وهي شهادة أن لا إله إلا الله ويجوز نصبه على تقدير أعني شهادة أن لا إله إلا الله قوله أن بالفتح مخففة من المثقلة ولهذا عطف عليه وأن محمدا رسول الله قوله وإقام بالجر عطف على شهادة أن لا إله إلا الله وما بعده عطف عليه
( بيان المعاني والبيان ) قوله بني إنما طوى ذكر الفاعل لشهرته وفيه الاستعارة بالكناية لأنه شبه الإسلام بمبنى له دعائم فذكر المشبه وطوى ذكر المشبه به وذكر ما هو من خواص المشبه به وهو البناء ويسمى هذا استعارة ترشيحية ويجوز أن يكون استعارة تمثيلية بأن تمثل حالة الإسلام مع أركانه الخمسة بحالة خباء أقيمت على خمسة أعمدة وقطبها الذي تدور عليه الأركان هو شهادة أن لا إله إلا الله وبقية شعب الإيمان كالأوتاد للخباء ويجوز أن تكون الاستعارة تبعية بأن تقدر الاستعارة في بني والقرينة الإسلام شبه ثبات الإسلام واستقامته على هذه الأركان ببناء الخباء على الأعمدة الخمسة ثم تسري الاستعارة من المصدر إلى الفعل وقد علمت أن الاستعارة التبعية تقع أولا في المصادر ومتعلقات معاني الحروف ثم تسري في الأفعال والصفات والحروف والأظهر أن تكون استعارة مكنية بأن تكون الاستعارة في الإسلام والقرينة بني على التخيل بأن شبه الإسلام بالبيت ثم خيل كأنه بيت على المبالغة ثم أطلق الإسلام على ذلك المخيل ثم خيل له ما يلازم البيت المشبه به من البناء ثم أثبت له ما هو لازم البيت من البناء على الاستعارة التخييلية ثم نسب إليه ليكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة قوله وإقام الصلاة كناية عن الإتيان بها بشروطها وأركانها قوله وإيتاء الزكاة فيه شيئان أحدهما إطلاق الزكاة الذي هو في الأصل مصدر أو اسم مصدر على المال المخرج للمستحق والآخر حذف أحد المفعولين للعلم به لأن الإيتاء متعد إلى مفعولين والتقدير إيتاء الزكاة مستحقيها قوله والحج فيه حذف أيضا أي وحج البيت والألف واللام فيه بدل من المضاف إليه قوله وصوم رمضان فيه حذف أيضا أي وصوم شهر رمضان فإن قلت ما الإضافة فيهما قلت إضافة الحكم إلى سببه لأن سبب الحج البيت ولهذا لا يتكرر لعدم تكرر البيت والشهر يتكرر فيتكرر الصوم
( بيان استنباط الأحكام ) وهو على وجوه الأول يفهم من ظاهر الحديث أن الشخص لا يكون مسلما عند ترك شيء منها لكن الإجماع منعقد على أن العبد لا يكفر بترك شيء منها وقتل تارك الصلاة عند الشافعي وأحمد إنما هو حدا لا كفرا وإن كان روي عن أحمد وبعض المالكية كفرا وقوله من ترك صلاة متعمدا فقد كفر محمول على الزجر والوعيد أو مؤول أي إذا كان مستحلا أو المراد كفران النعمة الثاني أن هذه الأشياء الخمسة من فروض الأعيان لا تسقط بإقامة البعض عن الباقين الثالث فيه جواز إطلاق رمضان من غير ذكر شهر خلافا لمن منع ذلك على ما يأتي إن شاء الله تعالى
( الأسئلة والأجوبة ) الأول ما قيل ما وجه الحصر في هذه الخمسة وأجيب بأن العبادة إما قولية وهي الشهادة أو غير قولية فهي إما تركي وهو الصوم أو فعلي وهو إما بدني وهو الصلاة أو مالي وهو الزكاة أو مركب منهما وهو الحج الثاني ما قيل ما وجه الترتيب بينها وأجيب بأن الواو لا تدل على الترتيب ولكن الحكمة في الذكر أن الإيمان أصل للعبادات فتعين تقديمه ثم الصلاة لأنها عماد الدين ثم الزكاة لأنها قرينة الصلاة ثم الحج للتغليظات الواردة فيه ونحوها فبالضرورة يقع الصوم آخرا الثالث ما قيل الإسلام هو الكلمة فقط ولهذا يحكم بإسلام من تلفظ بها فلم ذكر الأخوات معها وأجيب تعظيما لإخوانها وقال النووي حكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين وإنما أضيف إليهما الصلاة ونحوها لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيامه بها يتم إسلامه وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله الرابع ما قيل فعلي هذا التقدير الإسلام هو هذه الخمسة والمبني لا بد أن يكون غير المبني عليه وأجيب بأن الإسلام عبارة عن المجموع والمجموع غير كل واحد من أركانه الخامس ما قيل الأربعة الأخيرة مبنية على الشهادة إذ لا يصح شيء منها إلا بعد الكلمة فالأربعة مبنية والشهادة مبني عليها فلا يجوز إدخالها في سلك واحد وأجيب بأنه لا محذور في أن يبنى أمر على أمر ثم الأمر أن يكون عليهما شيء آخر ويقال لا نسلم أن الأربعة مبنية على الكلمة بل صحتها موقوفة عليها وذلك غير معنى بناء الإسلام على الخمس وقال التيمي قوله بني الإسلام على خمس كان ظاهره أن الإسلام مبني على

(1/120)


هذه وإنما هذه الأشياء مبنية على الإسلام لأن الرجل ما لم يشهد لا يخاطب بهذه الأشياء الأربعة ولو قالها فإنا نحكم في الوقت بإسلامه ثم إذا أنكر حكما من هذه الأحكام المذكورة المبنية على الإسلام حكمنا ببطلان إسلامه إلا أن النبي لما أراد بيان أن الإسلام لا يتم إلا بهذه الأشياء ووجودها معه جعله مبنيا عليها ولهذا المعنى سوى بينها وبين الشهادة وإن كانت هي الإسلام بعينه وقال الكرماني حاصل كلامه أن المقصود من الحديث بيان كمال الإسلام وتمامه فلذلك ذكر هذه الأمور مع الشهادة لا نفس الإسلام وهو حسن لكن قوله ثم إذا أنكر حكما من هذه حكمنا ببطلان إسلامه ليس من البحث إذ البحث في فعل هذه الأمور وتركها لا في إنكارها وكيف وإنكار كل حكم من أحكام الإسلام موجب للكفر فلا معنى للتخصيص بهذه الأربعة قلت استدراك الكرماني لا وجه له فافهم السادس ما قيل لم لم يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما تضمنه سؤال جبريل عليه السلام أجيب بأن المراد بالشهادة تصديق الرسول فيما جاء به فيستلزم جميع ما ذكر من المعتقدات السابع ما قيل لم لم يذكر فيه الجهاد أجيب بأنه لم يكن فرض وقيل لأنه من فروض الكفايات وتلك فرائض الأعيان قال الداودي لما فتحت مكة سقط فرض الجهاد على من يعد من الكفار وهو فرض على من يليهم وكان أولا فرضا على الأعيان وقيل هو مذهب ابن عمر رضي الله عنهما والثوري وابن شبرمة إلا أن ينزل العدو فيأمر الإمام بالجهاد وجاء في البخاري في هذا الحديث في التفسير أن رجلا قال لابن عمر ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد وفي بعضها في أوله أن رجلا قال لابن عمر ألا نغزو قال سمعت رسول الله قال بني الإسلام على خمس الحديث فهذا يدل على أن ابن عمر كان لا يرى فرضيته إما مطلقا كما نقل عنه أو في ذلك الوقت وجاء هنا بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وجاء في بعض طرقه على أن يوحد الله وفي أخرى على أن يعبد الله ويكفر بما دونه بدل الشهادة قال بعضهم جاءت الأولى على نقل اللفظ وما عداها على المعنى وقد اختلف في هذه المسألة وهو جواز نقل الحديث بالمعنى من العالم بمواقع الألفاظ وتركيبها وأما من لا يعرف ذلك فلا خلاف في تحريمه عليه وجاء ههنا والحج وصوم رمضان بتقديم الحج وفي طريقين لمسلم وفي بعض الطرق بتقديم رمضان وفي بعضها فقال رجل الحج وصيام رمضان وقال ابن عمر لا صيام رمضان والحج هكذا سمعته من رسول الله واختلف الناس في الجمع بين الروايات فقال المازري تحمل مشاحة ابن عمر على أنه كان لا يرى رواية الحديث بالمعنى وإن أداه بلفظ يحتمل أو كان يرى الواو توجب الترتيب فتجب المحافظة على اللفظ لأنه قد تتعلق به أحكام وقيل أن ابن عمر رواه على الأمرين ولكنه لما رد عليه الرجل قال لا ترد على ما لا علم لك به كما رواه في أحدهما وقيل يحتمل أنه كان ناسيا للأخرى عند الإنكار ومنهم من قال الصواب تقديم الصوم والرواية الأخرى وهم لإنكار ابن عمر وزجره عند ذكرها واستضعف هذا بأنه يجر إلى توهين الرواية الصحيحة وطر واحتمال الفساد عند فتحه لأنا لو فتحنا هذا الباب لارتفع الوثوق بكثير من الروايات إلا القليل ولأن الروايتين في الصحيح ولا تنافي بينهما كما تقدم من جواز رواية الأمرين قال القاضي وقد يكون رد ابن عمر الرجل إلى تقديم رمضان لأن وجوب صوم رمضان نزل في السنة الثانية من الهجرة وفريضة الحج في سنة ست وقيل تسع بالمثناة فجاء لفظ ابن عمر على نسقها في التاريخ والله أعلم وقال ابن صلاح محافظة ابن عمر على ما سمعه حجة لمن قال بترتيب الواو قلت للجمهور أن يجيبوا عن ذلك بأن تقديم الصوم لتقدم زمنه كما ذكرناه وفي قوله واستضعف هذا إلى آخره نظر وقد وقع في رواية ابني عوانة في مستخرجه على مسلم عكس ما وقع في الصحيح وهو أن ابن عمر قال للرجل اجعل صيام رمضان آخرهن كما سمعت وأجاب عنه ابن صلاح بقوله لا تقاوم هذه رواية مسلم وقال النووي بأن القضية لرجلين فإن قلت ما تقول في الرواية التي اقتصرت على إحدى الشهادتين قلت إما اكتفاء بذكر إحداهما عن الأخرى لدلالتها عليها وإما لتقصير من الراوي فزاد عليه غيره فقبلت زيادته فافهم والرجل المردود عليه تقديمه الحج اسمه يزيد بن بشر السكسكي ذكره الخطيب في الأسماء المبهمة له
3 -
( باب أمور الإيمان )
وقول الله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن

(1/121)


البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وأتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ( البقرة 177 ) قد أفلح المؤمنون ( المؤمنون 1 ) الآية
أي هذا باب في بيان أمور الإيمان فيكون ارتفاع باب على أنه خبر مبتدأ محذوف والمراد بالأمور هي الإيمان لأن الأعمال عنده هي الإيمان فعلى هذا الإضافة فيه بيانية ويجوز أن يكون التقدير باب الأمور التي للإيمان في تحقيق حقيقته وتكميل ذاته فعلى هذا الإضافة بمعنى اللام وفي رواية الكشميهني باب أمر الإيمان بالإفراد على إرادة الجنس وقال ابن بطال التصديق أول منازل الإيمان والاستكمال إنما هو بهذه الأمور وأراد البخاري الاستكمال ولهذا بوب أبوابه عليه فقال باب أمور الإيمان و باب الجهاد من الإيمان و باب الصلاة من الإيمان و باب الزكاة من الإيمان وأراد بهذه الأبواب كلها الرد على المرجئة القائلين بأن الإيمان قول بلا عمل وتبيين غلطهم ومخالفتهم الكتاب والسنة وقال المازري اختلف الناس فيمن عصى الله من أهل الشهادتين فقالت المرجئة لا تضر المعصية مع الإيمان وقالت الخوارج تضره بها ويكفر بها وقالت المعتزلة يخلد بها فاعل الكبيرة ولا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر لكن يوصف بأنه فاسق وقالت الأشعرية بل هو مؤمن وأن عذب ولا بد من دخوله الجنة قوله وقول الله عز و جل بالجر عطف على الأمور فإن قلت ما المناسبة بين هذه الآية والتبويب قلت لأن الآية حصرت المتقين على أصحاب هذه الصفات والأعمال فعلم منها أن الإيمان الذي به الفلاح والنجاة الإيمان الذي فيه هذه الأعمال المذكورة وكذلك الآية الأخرى وهي قوله قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( المؤمنون 1 - 7 ) وذكر الأخرى في كتاب الشريعة من حديث المسعودي عن القاسم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رجلا سأله عن الإيمان فقرأ عليه ليس بالبر ( البقرة 177 ) الآية فقال الرجل ليس عن البر سألتك فقال أبو ذر جاء رجل إلى النبي فسأله كما سألتني فقرأ عليه كما قرأت عليك فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى فقال ادن مني فدنا منه فقال المؤمن الذي يعمل حسنة فتسره ويرجو ثوابها وإن عمل سيئة تسؤوه ويخاف عاقبتها قوله ليس البر ( البقرة 177 ) أي ليس البر كه أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك ولكن البر ( البقرة 177 ) بر من آمن بالله ( البقرة 177 ) الآية كذا قدره سيبويه وقال الزجاج ولكن ذا البر فحذف المضاف كقوله هم درجات عند الله ( آل عمران 163 ) أي ذوو درجات وما قدره سيبويه أولى لأن المنفي هو البر فيكون هو المستدرك من جنسه وقال الزمخشري رحمه الله البراسم للخير ولكل فعل مرضي وفي ( الغريبين ) البر الاتساع في الإحسان والزيادة منه وقال السدي لن تنالوا البر حتى تتفقوا ( آل عمران 92 ) يعني الجنة والبر أيضا الصلة وهو اسم جامع للخير كله وفي ( الجامع ) و ( الجمرة ) البر ضد العقوق وفي ( مثلث ) ابن السيد الإكرام كذا نقله عنه في ( الواعي ) وذكر ابن عديس عنه البر بالكسر الخير وقال الزمخشري الخطاب لأهل الكتاب لأن اليهود تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق وذلك أنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين تحول رسول الله إلى الكعبة وزعم كل واحد من الفريقين أن البر التوجه إلى قبلته فرد عليهم وقرأ ليس البر ( البقرة 177 ) بالنصب على أنه خبر مقدم وقرأ عبد الله بأن تولوا على إدخال الباء على الخبر للتأكيد وعن المبرد لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت ولكن البر بفتح الباء وقرىء ولكن البار وقرأ ابن عامر ونافع ولكن البر بالتخفيف والكتاب ( البقرة 177 ) جنس كتاب الله تعالى أو القرآن على حبه ( البقرة 177 ) مع حب المال والشح به وقيل على حب الله وقيل على حب الإيتاء وقدم ذوي القربى لأنه أحق والمراد الفقراء منهم لعدم الالتباس والمسكين ( البقرة 177 ) الدائم السكون إلى الناس لأنه لا شيء له كالمسكير الدائم السكر وابن السبيل ( البقرة 177 ) المسافر المنقطع وجعل ابنا للسبيل لملازمته له كما يقال للص القاطع ابن الطريق وقيل هو الضيف لأن السبيل ترعف به والسائلين ( البقرة 177 ) المستطعمين وفي الرقاب ( البقرة 177 ) وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم وقيل في ابتياع الرقاب وإعتاقها وقيل في فك الأسارى والموفون

(1/122)


عطف على من آمن وأخرج الصابرين منصوبا على الاختصاص والمدح إظهارا لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال وقرىء والصابرون وقرىء والموفين والصابرين والبأساء ( البقرة 177 ) الفقر والشدة والضراء والمرض والزمانة قوله قد أفلح المؤمنون ( المؤمنون 1 ) الآية هذه آية أخرى ذكر الآيتين لاشتمالهما على أمور الإيمان والباب مبوب عليها وإنما لم يقل وقول الله عز و جل قد أفلح المؤمنون ( المؤمنون 1 ) كما قال في أول الآية الأولى وقول الله عز و جل ليس البر ( البقرة 177 ) الخ لعدم الالتباس في ذلك واكتفى أيضا بذكره في الأولى وقال بعضهم ذكره بلا أداة عطف والحذف جائز والتقدير وقول الله عز و جل قد أفلح المؤمنون ( المؤمنون 1 ) قلت الحذف غير جائز ولئن سلمنا فذاك في باب الشعر وقال هذا القائل أيضا ويحتمل أن يكون تفسيرا لقوله المتقون هم الموصوفون بقوله قد أفلح المؤمنون ( المؤمنون 1 ) إلى آخرها قلت لا يصح هذا أيضا لأن الله تعالى ذكر في هذه الآية من وصفوا بالأوصاف المذكورة فيها ثم أشار إليهم بقوله وأولئك هم المتقون ( البقرة 177 ) بين أن هؤلاء الموصوفين هم المتقون فأي شيء يحتاج بعد ذلك إلى تفسير المتقين في هذه الآية حتى يفسرهم بقوله قد أفلح ( المؤمنون 1 ) الخ وربما كان يمكن صحة هذه الدعوى لو كانت الآيتان متواليتين فبينهما آيات عديدة بل سور كثيرة فكيف يكون هذا من باب التفسير وهذا كلام مستبعد جدا قوله الآية يجوز فيها النصب على معنى إقرأ الآية و الرفع على معنى الآية بتمامها على أنه مبتدأ محذوف الخبر قوله أفلح أي دخل في الفلاح وهو فعل لازم والفلاح الظفر بالمراد وقيل البقاء في الخير وقال الزمخشري يقال أفلحه أجاره إلى الفلاح وعليه قراءة طلحة بن مصرف أفلح للبناء للمفعول وعنه أفلحوا على أكلوني البراغيث أو على الإبهام والتفسير والخشوع في الصلاة خشية القلب واللغو ما لا يعنيك من قول أو فعل كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه وإطراحه قوله فاعلون ( المؤمنون 1 ) أي مؤدون وقال الزمخشري فإن قلت هلا قيل من ملكت قلت لأنه أريد من جنس العقلاء ما يجرى مجرى غير العقلاء وهم الإناث
9 - حدثنا ( عبد الله بن محمد ) قال حدثنا ( أبو عامر العقدي ) قال حدثنا ( سليمان بن بلال ) عن ( عبد الله بن دينار ) عن ( أبي صالح ) عن ( أبي هريرة ) رضي الله عنه عن النبي قال الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان
قال الشيخ قطب الدين هذا متعلق بالباب الذي قبله وهو أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وجه الدليل أن الشرع أطلق الإيمان على أشياء كثيرة من الأعمال كما جاء في الآيات والخبرين الذين ذكرهما في هذا الباب بخلاف قول المرجئة في قولهم إن الإيمان قول بلا عمل قلت لا يحتاج إلى هذا الكلام وإنما هذا الباب والأبواب التي بعده كلها متعلقة بالباب الأول مبينة أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص على ما لا يخفى
( بيان رجاله ) وهم ستة الأول أبو جعفر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان بن أخنس بن خنيس الجعفي البخاري المسندي بضم الميم وفتح النون وهو ابن عم عبد الله بن سعيد بن جعفر بن اليمان واليمان هذا هو مولى أحد أجداد البخاري ولاء إسلام سمع وكيعا وخلقا وعنه الذهلي وغيره من الحفاظ مات سنة تسع وعشرين ومائتين إنفرد البخاري به عن أصحاب الكتب الستة وروى الترمذي عن البخاري عنه الثاني أبو عامر عبد الملك بن عمرو بن قيس العقدي البصري سمع مالكا وغيره وعنه أحمد واتفق الحفاظ على جلالته وثقته مات سنة خمس وقيل أربع ومائتين الثالث أبو محمد أو أبو أيوب سليمان بن بلال القرشي التيمي المدني مولى آل الصديق سمع عبد الله بن دينار وجمعا من التابعين وعنه الأعلام كابن المبارك وغيره وقال محمد بن سعد كان بربريا جميلا حسن الهيئة عاقلا وكان يفتي بالبلد وولي خراج المدينة ومات بها سنة اثنتين وسبعين ومائة وقال البخاري عن هارون بن محمد سنة سبع وسبعين ومائة وليس في الكتب الستة من اسمه سليمان بن هلال سوى هذا الرابع أبو عبد الرحمن عبد الله بن دينار أخو عمرو بن دينار القرشي العدوي المدني مولى ابن عمر سمع مولاه وغيره وعنه ابنه عبد الرحمن وغيره وهو ثقة باتفاق مات سنة سبع وعشرين ومائة وفي الرواة أيضا عمرو بن دينار الحمصي ليس بالقوي وليس في الكتب الستة عمرو بن دينار غيرهما الخامس أبو صالح

(1/123)


ذكوان السمان الزيات المدني كان يجلب السمن والزيت إلى الكوفة مولى جويرية بنت الأحمس الغطفاني وفي شرح قطب الدين إنه مولى جويرة بنت الحارث امرأة من قيس سمع جمعا من الصحابة وخلقا من التابعين وعنه جمع من التابعين منهم عطاء وسمع الأعمش منه ألف حديث وروى عنه أيضا بنوه عبد الله وسهيل وصالح واتفقوا على توثيقه مات بالمدينة سنة إحدى ومائة وأبو صالح في الرواة جماعة قد مضى ذكرهم في الحديث الرابع من باب بدء الوحي السادس أبو هريرة اختلف في اسمه واسم أبيه على نحو ثلاثين قولا وأقربها عبد الله أو عبد الرحمن بن صخر الدوسي وهو أول من كني بهذه الكنية لهرة كان يلعب بها كناه النبي بذلك وقيل والده وكان عريف أهل الصفة أسلم عام خيبر بالاتفاق وشهدها مع رسول الله وقال ابن عبد البر لم يختلف في اسم أحد في الجاهلية ولا في الإسلام كالاختلاف فيه وروى أنه قال كان يسمى في الجاهلية عبد شمس وسمي في الإسلام عبد الرحمن واسم أمه ميمونة وقيل أمية وقد أسلمت بدعاء رسول الله وقال أبو هريرة نشأت يتيما وهاجرت مسكينا وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان خادما لها فزوجنيها الله تعالى فالحمد لله الذي جعل الدين قواما وجعل أبا هريرة إماما قال وكنت أرعى غنما وكان لي هرة صغيرة ألعب بها فكنوني بها وقيل رآه النبي وفي كمه هرة فقال يا أبا هريرة وهو أكثر الصحابة رواية بإجماع روي له خمسة آلاف حديث وثلثمائة وأربعة وسبعون حديثا اتفقا على ثلاثمائة وخمسة وعشرين وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين ومسلم بمائة وتسعين روى عنه أكثر من ثمانمائة رجل من صاحب وتابع منهم ابن عباس وجابر وأنس وهو أزدي دوسي يماني ثم مدني كان ينزل بذي الحليفة بقرب المدينة له بها دار تصدق بها على مواليه ومن الرواة عنه ابنه المحرر بحاء مهملة ثم راء مكررة مات بالمدينة سنة تسع وخمسين وقيل ثمان وقيل سبع ودفن بالبقيع وهو ابن ثمان وسبعين سنة والذي يقوله الناس إن قبره بقرب عسقلان لا أصل له فاجتنبه نعم هناك قبر خيسعة بن جندرة الصحابي وأبو هريرة من الأفراد ليس في الصحابة من اكتنى بهذه الكنية سواه وفي الرواة آخر اكتنى بهذه الكنية يروي عن مكحول وعنه أبو المليح الرقي لا يعرف وآخر اسمه محمد بن فراش الضبعي روى له الترمذي وابن ماجه مات سنة خمس وأربعين ومائتين وفي الشافعية آخر اكتنى بهذه الكنية واسمه ثابت بن شبل قال عبد الغفار في حقه شيخ فاضل مناظر
( بيان الأنساب ) الجعفي في مذحج ينسب إلى جعفي بن سعد العشيرة بن مالك ومالك هو جماع مذحج والعقدي نسبة إلى العقد بالعين المهملة والقاف المفتوحتين وهم قوم من قيس وهم بطن من الأزد كذا في ( التهذيب ) وتبعه النووي في شرحه وفي شرح قطب الدين إن العقد بطن من نخيلة وقيل من قيس بالولاء قال أبو الشيخ الحافظ إنما سموا عقدا لأنهم كانوا لئاما وقال الحاكم العقد مولى الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة وقال صاحب ( العين ) العقد قبيلة من اليمن من بني عبد شمس بن سعد وقال الرشاطي العقدي في قيس بن ثعلبة وحكى أبو علي الغساني عن أبي عمر قال العقديون بطن من قيس والمسندي بضم الميم وسكون السين المهملة وفتح النون هو عبد الله بن محمد شيخ البخاري سمي بذلك لأنه كان يطلب المسندات ويرغب عن المرسل والمنقطات وقال صاحب ( الإرشاد ) كان يتحرى المسانيد من الأخبار وقال الحاكم أبو عبد الله عرف بذلك لأنه أول من جمع مسند الصحابة على التراجم بما وراء النهر والتيمي في قبائل ففي قريش تيم بن مرة وفي الرباب تيم بن عبد مناة بن أد بن طابخة وفي النمر بن قاسط تيم الله بن النمر بن قاسط وفي شيبان ابن ذهل تيم بن شيبان وفي ربيعة بن نذار تيم الله بن ثعلبة وفي قضاعة تيم الله بن رفيدة وفي ضبة تيم بن ذهل والعدوي نسبة إلى عدي بن كعب وهو في قريش وفي الرباب عدي بن عبد مناة وفي خزاعة عدي بن عمرو وفي الأنصار عدي بطن بن النجار وفي طيء عدي بن أخرم وفي قضاعة عدي بن خباب والدوسي في الأزد ينسب إلى دوس بن عدنان بن عبد الله
( بيان لطائف إسناده ) منها الأسناد كلهم مدنيون إلا العقدي فإنه بصري وإلا المسندي ومنها أن كلهم على شرط الستة إلا المسندي كما بيناه ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي وهو عبد الله بن دينار عن أبي صالح
( بيان من أخرجه غيره ) أخرجه مسلم عن عبيد الله بن سعيد وعبد بن حميد عن العقدي به ورواه أيضا عن زهير

(1/124)


عن جرير عن سهل بن عبد الله عن ابن دينار عنه ورواه بقية الجماعة أيضا فأبو داود في السنة عن موسى بن إسماعيل عن حماد عن سهيل به و الترمذي في الإيمان عن أبي كريب عن وكيع عن سفيان عن سهيل به وقال حسن صحيح و النسائي في الإيمان أيضا عن محمد بن عبد الله المحرمي عن أبي عامر العقدي به وعن أحمد بن سليمان عن أبي داود الحفري و أبي نعيم كلاهما عن سفيان به وعن يحيى بن حبيب بن عربي عن خالد بن الحارث عن ابن عجلان عنه ببعضه الحياء من الإيمان وابن ماجه في السنة عن علي بن محمد الطنافسي عن وكيع به وعن عمرو بن رافع عن جرير به وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي جمال الأحمر عن ابن عجلان نحوه
( بيان اختلاف الروايات ) كذا وقع هنا من طريق أبي زيد المروزي الإيمان بضع وستون شعبة وفي مسلم وغيره من حديث سهيل عن عبد الله بن دينار بضع وسبعون أو بضع وستون ورواه أيضا من حديث العقدي عن سليمان بضع وسبعون شعبة وكذا وقع في البخاري من طريق أبي ذر الهروي وفي رواية أبي داود والترمذي وغيرهما من رواية سهيل بضع وسبعون بلا شك ورجحها القاضي عياض وقال إنها الصواب وكذا رجحها الحليمي وجماعات منهم النووي لأنها زيادة من ثقة فقبلت وقدمت وليس في رواية الأقل ما يمنعها وقال ابن الصلاح الأشبه ترجيح الأقل لأنه المتيقن والشك من سهيل كما قال البيهقي وقد روي عن سهيل عن جرير وسبعون من غير شك وكذا رواية سليمان ابن بلال في مسلم وفي البخاري بضع وستون وقال ابن الصلاح في البخاري في نسخ بلادنا إلا ستون وفي لفظ لمسلم فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان وفي لفظ ابن ماجه فأرفعها ولفظ اللالكائي ادناها إماطة العظم عن الطريق وفي كتاب ابن شاهين خصال الإيمان أفضلها قول لا إله إلا الله وفي لفظ الترمذي بضع وسبعون بابا وقال حسن صحيح ورواه محمد بن عجلان عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح الإيمان ستون بابا أو سبعون أو بضع واحد من العددين ورواية قتيبة عن بكر بن مضر عن عمارة بن عربة عن أبي صالح الإيمان أربع وستون بابا ومن حديث المغيرة بن عبد الله بن عبيدة قال حدثني أبي عن جدي وكانت له صحبة أن رسول الله قال الإيمان ثلاثة وثلاثون شريعة من وافى الله بشريعة منها دخل الجنة وفي كتاب ابن شاهين من حديث الإفريقي عن عبد الله بن راشد مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول قال رسول الله إن بين يدي الرحمن عز و جل لوحا فيه ثلاثمائة وتسع عشرة شريعة يقول عز و جل ولا يجيبني عبد من عبادي لا يشرك بي شيئا فيه واحدة منهن إلا أدخلته الجنة ومن حديث عبد الواحد بن زيد عن عبد الله بن راشد عن مولاه عثمان رضي الله عنه سمعت أبا سعيد رضي الله عنه يقول قال رسول الله إن بين يدي الرحمن عز و جل لوحا فيه ثلاثمائة وتسع عشرة شريعة يقول عز و جل لا يجيئني عبد من عبادي لا يشرك بي شيئا فيه واحدة منها إلا أدخلته الجنة ومن حديث عبد الواحد بن زيد عن عبد الله بن راشد عن مولاه عثمان رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله إن لله تعالى مائة خلق من أتى بخلق منها دخل الجنة قال لنا أحمد سئل إسحاق ما معنى الأخلاق قال يكون في الإنسان حياء يكون فيه رحمة يكون فيه سخاء يكون فيه تسامح هذا من أخلاق الله عز و جل وفي ( كتاب الديباج ) للخيلي من حديث نوح بن فضالة عن مالك بن زياد الأشجعي الإسلام ثلاثمائة وخمسة عشر سهما فإذا كان في جاء فقال اللهم أنت السلام وإنما الإسلام من جاء متمسكا بسهم من سهامي فأدخله الجنة قال رسته حدثنا ابن مهدي عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن صلة عن حذيفة الإسلام ثمانية أسهم الإسلام سهم والصلاة سهم والزكاة سهم وصوم رمضان سهم والحج سهم والجهاد سهم والأمر بالمعروف سهم والنهي عن المنكر سهم وقد خاب من لا سهم له
( بيان اللغات ) قوله بضع ذكر ابن البناني في ( الموعب ) عن الأصمعي البضع مثال علم ما بين اثنين إلى عشرة

(1/125)


واثني عشرة إلى عشرين فما فوق ذلك يقال بضعة عشر في جمع المذكر وبضع عشرة في جمع المؤنث قال تعالى في بضع سنين ( الروم 4 ) ولا يقال في أحد عشر ولا اثنى عشر إنما البضع من الثلاث إلى العشر وقال صاحب ( العين ) البضع سبعة وقال قطرب أخبرنا الثقة عن النبي أنه قال في بضع سنين ( الروم 4 ) ما بين خمس إلى سبع وقالوا ما بين الثلاث إلى الخمس وقال الفراء البضع نيف ما بين الثلاث إلى التسع كذلك رأيت العرب تفعل ولا يقولون بضع ومائة ولا بضع وألف ولا يذكر مع عشر ومع العشرين إلى التسعين وقال الزجاج معناه القطعة من العدد تجعل لما دون العشرة من الثلاث إلى التسع وهو الصحيح وهو قول الأصمعي وقال غيره البضع من الثلاث إلى التسع وقال أبو عبيدة هو ما بين نصف العشر يريد ما بين الواحد إلى الأربعة وقال يعقوب عن أبي زيد بضع وبضع مثال علم وصقر وفي ( المحكم ) البضع ما بين الثلاث إلى العشر وبالهاء من الثلاثة إلى العشرة يضاف إلى ما يضاف إليه الآحاد ويبنى مع العشرة كما يبنى سائر الآحاد ولم يمتنع عشرة وفي ( الجامع ) للقزاز بضع سنين قطعة من السنين وهو يجري في العدد مجرى ما دون العشرة وقال قوم قوله تعالى فلبث في السجن بضع سنين ( يوسف 42 ) يدل على أن البضع سبع سنين لأن يوسف عليه السلام إنما لبث في السجن سبع سنين وقال أبو عبيدة ليس البضع العقد ولا نصف العقد يذهب إلى أنه من الواحد إلى الأربعة وفي ( الصحاح ) لا تقول بضع وعشرون وقال المطرزي في شرحه البضع من أربعة إلى تسعة هذا الذي حصلناه من العلماء البصريين والكوفيين وفيه خلاف إلا أن هذا هو الإختيار والنيف من واحد إلى ثلاثة وقال ابن السيد في ( المثلث ) البضع بالفتح والكسر ما بين واحد إلى خمسة في قول أبي عبيدة وقال غيره ما بين واحد إلى عشرة وهو الصحيح وفي ( الغريبين ) للهروي البضع والبضعة واحد ومعناهما القطعة من العدد زاد عياض بكسر الباء فيهما وبفتحهما وفي ( العباب ) قال أبو زيد أقمت بضع سنين بالفتح وجلست في بقعة طيبة وأقمت برهة كلها بالفتح وهو ما بين الثلاث إلى التسع وروى الأثرم عن أبي عبيدة أن البضع ما بين الثلاث إلى الخمس وتقول بضع سنين وبضعة عشر رجلا وبضع عشرة امرأة فإذا جاوزت لفظ العشر ذهب البضع لا تقول بضع وعشرون وقيل هذا غلط بل يقال ذلك وقال أبو زيد يقال له بضعة وعشرون رجلا وبضع وعشرون امرأة والبضع من العدد في الأصل غير محدود وإنما صار مبهما لأنه بمعنى القطعة والقطعة غير محدودة قوله شعبة بضم الشين وهي القطعة والفرقة وهي واحدة الشعب وهي أغصان الشجرة قال ابن سيده الشعبة الفرقة والطائفة من الشيء ومنه شعب الآباء وشعب القبائل وشعبها الأربع وواحد شعب القبائل شعب بالفتح وقيل بالكسر وهي العظام وكذا شعب الإناء صدعه بالفتح أيضا وقال الخليل الشعب الإجتماع والافتراق أي هما ضدان والمراد بالشعبة في الحديث الخصلة أي أن الإيمان ذو خصال متعددة قوله والحياء ممدودا هو الاستحياء واشتقاقه من الحياة يقال حيى الرجل إذا انتقص حياته وانتكس قوته كما يقال نسي نساه أي العرق الذي في الفخذ وحشي إذا اعتل حشاه فمعنى الحي المؤف من خوف المذمة وقد حيى منه حياء واستحى واستحيى حذفوا الياء الأخيرة كراهية التقاء الساكنين والأخيران يتعديان بحرف وبغير حرف يقولون استحيى منك واستحياك ورجل حيي ذو حياء والأنثى بالتاء والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم وقد يعرف أيضا بأنه انحصار النفس خوف ارتكاب القبائح
( بيان الإعراب ) قوله الإيمان مبتدأ وخبره قوله بضع وستون شعبة قال الكرماني بضع هكذا في بعض الأصول وبضعه بالهاء في أكثرها وقال بعضهم وقع في بعض الروايات بضعة بتاء التأنيث قلت الصواب مع الكرماني وكذا قال بعض الشراح كذا وقع هنا في بعض الأصول بضع وفي أكثرها بضعة بالهاء وأكثر الروايات في غير هذا الموضع بضع بلا هاء وهو الجاري على اللغة المشهورة ورواية الهاء صحيحة أيضا على التأويل قلت لا شك أن بضعا للمؤنث وبضعة للمذكر وشعبة يؤنث فينبغي أن يقال بضع بلا هاء ولكن لما جاءت الرواية ببضعة يحتاج أن تؤول الشعبة بالنوع إذا فسرت الشعبة بالطائفة من الشيء وبالخلق إذا فسرت بالخصلة والخلة قوله والحياء مبتدأ وخبره شعبة وقوله من الإيمان في محل الرفع لأنها صفة شعبة

(1/126)


( بيان المعاني والبيان ) لا شك أن تعريف المسند إليه إنما يقصد إلى تعريفه لإتمام فائدة السامع لأن فائدته من الخبر إما الحكم أو لازمه كما بين في موضعه وفيه الفصل بين الجملتين بالواو لأنه قصد التشريك وتعيين الواو لدلالتها على الجمع وفيه تشبيه الإيمان بشجرة ذات أغصان وشعب كما شبه في الحديث السابق الإسلام بخباء ذات أعمدة وأطناب ومبناه على المجاز وذلك لأن الإيمان في اللغة التصديق وفي عرف الشرع تصديق القلب واللسان وتمامه وكماله بالطاعات فحينئذ الإخبار عن الإيمان بأنه بضع وستون شعبة أو بضع وسبعون ونحو ذلك يكون من باب إطلاق الأصل على الفرع وذلك لأن الإيمان هو الأصل والأعمال فروع منه وإطلاق الإيمان على الأعمال مجاز لأنها تكون عن الإيمان وقد اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بإيمانه وأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار هو الذي يعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادا جازما خاليا من الشكوك ونطق بالشهادتين فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القبلة إلا إذا عجز عن النطق فإنه يكون مؤمنا إلا ما حكاه القاضي عياض في ( كتاب الشفاء ) في أن من اعتقد دين الإسلام بقلبه ولم ينطق بالشهادتين من غير عذر منعه من القول إن ذلك نافعه في الدار الآخرة على قول ضعيف وقد يكون فائزا لكنه غير المشهور والله أعلم
( بيان استنباط الفوائد ) وهو على وجوه الأول في تعيين الستين على ما جاء ههنا وفي تعيين السبعين على ما جاء في رواية أخرى من ( الصحيح ) ورواية أصحاب السنن أما الحكمة في تعيين الستين وتخصيصها فهي أن العدد إما زائد وهو ما أجزاؤه أكثر منه كالاثني عشر فإن لها نصفا وثلثا وربعا وسدسا ونصف سدس ومجموع هذه الأجزاء أكثر من اثني عشر فإنه ستة عشر وإما ناقص وهو ما أجزاؤه أقل منه كالأربعة فإن لها الربع والنصف فقط وإما تام وهو ما أجزاؤه مثله كالستة فإن أجزاءها النصف والثلث والسدس وهي مساوية للستة والفضل من بين الأنواع الثلاثة للتام فلما أريد المبالغة فيه جعلت آحادها أعشارا وهي الستون وأما الحكمة في تعيين السبعين فهي أن السبعة تشتمل على جملة أقسام العدد فإنه ينقسم إلى فرد وزوج وكل منهما إلى أول ومركب والفرد الأول ثلاثة والمركب خمسة والزوج الأول اثنان والمركب أربعة وينقسم أيضا إلى منطق كالأربعة وأصم كالستة فلما أريد المبالغة فيه جعلت آحادها أعشارا وهي السبعون وأما زيادة البضع على النوعين فقد علم أنه يطلق على الست وعلى السبع لأنه ما بين اثنين إلى عشرة وما فوقها كما نص عليه صاحب ( الموعب ) ففي الأول الستة أصل للستين وفي الثاني السبعة أصل للسبعين كما ذكرناه فهذا وجه تعيين أحد هذين العددين الثاني أن المراد من هذين العددين هل هو حقيقة أم ذكرا على سبيل المبالغة فقال بعضهم أريد به التكثير دون التعديد كما في قوله تعالى إن تستغفر لهم سبعين مرة ( التوبة 80 ) وقال الطيبي الأظهر معنى التكثير ويكون ذكر البضع للترقي يعني أن شعب الأيمان أعداد مبهمة ولا نهاية لكثرتها إذ لو أريد التحديد لم يبهم وقال بعضهم العرب تستعمل السبعين كثيرا في باب المبالغة وزيادة السبع عليها التي عبر عنها بالبضع لأجل أن السبعة أكمل الأعداد لأن الستة أول عدد تام وهي مع الواحد سبعة فكانت كاملة إذ ليس بعد التمام سوى الكمال وسمي الأسد سبعا لكمال قوته والسبعون غاية الغاية إذ الآحاد غايتها العشرات فإن قلت قد قلت إن البضع لما بين اثنين إلى عشرة وما فوقها فمن أين تقول إن المراد من البضع السبع حتى بنى القائل المذكور كلامه على هذا قلت قد نص صاحب ( العين ) على أن البضع سبعة كما ذكرنا وقال بعضهم هذا القدر المذكور هو شعب الإيمان والمراد منه تعداد الخصال حقيقة فإن قلت إذا كان المراد بيان تعداد الخصال فما الاختلاف المذكور قلت يجوز أن يكون شعب الإيمان بضعا وستين وقت تنصيصه على هذا المقدار فذكره لبيان الواقع ثم بعد ذلك نص على بضع وسبعين بحسب تعدد العشرة على ذلك المقدار فافهم فإنه موضع فيه دقة الثالث في بيان العدد المذكور قال الإمام أبو حاتم بن حبان بكسر الحاء وتشديد الموحدة البستي في كتاب ( وصف الإيمان وشعبه ) تتبعت معنى هذا الحديث مدة وعددت الطاعات فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئا كثيرا فرجعت إلى السنن فعددت كل طاعة عددها رسول الله من الإيمان فإذا هي تنقص على البضع والسبعين فرجعت إلى كتاب الله تعالى فعددت كل طاعة عدها الله من الإيمان فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين فضممت إلى الكتاب السنن واسقطت العاد فإذا كل شيء عده الله ورسوله عليه السلام من الإيمان بضع وسبعون لا يزيد عليها ولا ينقص

(1/127)


فعلمت أن مراد النبي أن هذا العدد في الكتاب والسنة انتهى وقد تكلفت جماعة في بيان هذا العدد بطريق الاجتهاد وفي الحكم بكون المراد ذلك نظر وصعوبة قال القاضي عياض ولا يقدح عدم معرفة ذلك على التفصيل في الإيمان إذ أصول الإيمان وفروعه معلومة محققة والإيمان بأن هذا العدد واجب على الجملة وتفصيل تلك الأصول وتعيينها على هذا العدد يحتاج إلى توقيف وقال الخطابي هذه منحصرة في علم الله وعلم رسوله موجودة في الشريعة غير أن الشرع لم يوقفنا عليها وذلك لا يضرنا في علمنا بتفاصيل ما كلفنا به فما أمرنا بالعلم به عملنا وما نهانا عنه انتهينا وإن لم نحط بحصر أعداده وقال أيضا الإيمان اسم يتشعب إلى أمور ذوات عدد جماعها الطاعة ولهذا صار من صار من العلماء إلى أن الناس مفاضلون في درج الإيمان وإن كانوا متساوين في اسمه وكان بدء الإيمان كلمة الشهادة وأقام رسول الله بقية عمره يدعو الناس إليها وسمى من أجابه إلى ذلك مؤمنا إلى أن نزلت الفرائض وبهذا الاسم خوطبوا عند إيجابها عليهم فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ( المائدة 6 ) وهذا الحكم مستمر في كل اسم يقع على أمر ذي شعب كالصلاة فإن رجلا لو مر على مسجد وفيه قوم منهم من يستفتح الصلاة ومنهم من هو راكع أو ساجد فقال رأيتهم يصلون كان صادقا مع اختلاف أحوالهم في الصلاة وتفاضل أفعالهم فيها فإن قيل إذا كان الإيمان بضعا وسبعين شعبة فهل يمكنكم أن تسموها بأسمائها وإن عجزتم عن تفصيلها فهل يصح إيمانكم بما هو مجهول قلنا إيماننا بما كلفناه صحيح والعلم به حاصل وذلك من وجهين الأول أنه قد نص على أعلى الإيمان وأدناه باسم أعلى الطاعات وأدناها فدخل فيه جميع ما يقع بينهما من جنس الطاعات كلها وجنس الطاعات معلوم والثاني أنه لم يوجب علينا معرفة هذه الأشياء بخواص أسمائها حتى يلزمنا تسميتها في عقد الإيمان وكلفنا التصديق بجملتها كما كلفنا الإيمان بملائكته وإن كنا لا نعلم أسماء أكثرهم ولا أعيانهم وقال النووي وقد بين النبي أعلى هذه الشعب وأدناها كما ثبت في الصحيح من قوله أعلاها لا إله إلا الله وأدناها أماطة الأذي عن الطريق فبين أن أعلاها التوحيد المتعين على كل مكلف والذي لا يصح شيء غيره من الشعب إلا بعد صحته وأن أدناها دفع ما يتوقع به ضرر المسلمين وبقي بينهما تمام العدد فيجب علينا الإيمان به وإن لم نعرف أعيان جميع أفراده كما نؤمن بالملائكة وإن لم نعرف أعيانهم وأسماءهم انتهى
وقد صنف في تعيين هذه الشعب جماعة منهم الإمام أبو عبد الله الحليمي صنف فيها كتابا أسماه ( فوائد المنهاج ) والحافظ أبو بكر البيهقي وسماه ( شعب الإيمان ) وإسحاق ابن القرطبي وسماه ( كتاب النصايح ) والإمام أبو حاتم وسماه ( وصف الإيمان وشعبه ) ولم أر أحدا منهم شفى العليل ولا أروى الغليل فنقول ملخصا بعون الله تعالى وتوفيقه إن أصل الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان ولكن الإيمان الكامل التام هو التصديق والإقرار والعمل فهذه ثلاثة أقسام فالأول يرجع إلى الاعتقاديات وهي تتشعب إلى ثلاثين شعبة الأولى الإيمان بالله تعالى ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأن ليس كمثله شيء الثانية اعتقاد حدوث ما سوى الله تعالى الثالثة الإيمان بملائكته الرابعة الإيمان بكتبه الخامسة الإيمان برسله السادسة الإيمان بالقدر خيره وشره السابعة الإيمان باليوم الآخر ويدخل فيه السؤال بالقبر وعذابه والبعث والنشور والحساب والميزان والصراط الثامنة الوثوق على وعد الجنة والخلود فيها التاسعة اليقين بوعيد النار وعذابها وأنها لا تفنى العاشرة محبة الله تعالى الحادية عشر الحب في الله والبغض في الله ويدخل فيه حب الصحابة المهاجرين والأنصار وحب آل الرسول الثانية عشر محبة النبي ويدخل فيه الصلاة عليه واتباع سنته الثالثة عشر الإخلاص ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق الرابعة عشر التوبة والندم الخامسة عشر الخوف السادسة عشر الرجاء السابعة عشر ترك اليأس والقنوط الثامنة عشر الشكر التاسعة عشر الوفاء العشرون الصبر الحادية والعشرون التواضع ويدخل فيه توقير الأكابر الثانية والعشرون الرحمة والشفقة ويدخل فيه الشفقة على الأصاغر الثالث والعشرون الرضاء بالقضاء الرابعة والعشرون التوكل الخامسة والعشرون ترك العجب والزهو ويدخل فيه ترك مدح نفسه وتزكيتها السادسة والعشرون ترك الحسد السابعة والعشرون ترك الحقد

(1/128)


والضغن الثامنة والعشرون ترك الغضب التاسعة والعشرون ترك الغش ويدخل فيه الظن السوء والمكر الثلاثون ترك حب الدنيا ويدخل فيه ترك حب المال وحب الجاه فإذا وجدت شيئا من أعمال القلب من الفضائل والرذائل خارجا عما ذكر بحسب الظاهر فإنه في الحقيقة داخل في فصل من الفصول يظهر ذلك عند التأمل والقسم الثاني يرجع إلى أعمال اللسان وهي تتشعب إلى سبع شعب الأولى التلفظ بالتوحيد الثانية تلاوة القرآن الثالثة تعلم العلم الرابعة تعليم العلم الخامسة الدعاء السادسة الذكر ويدخل فيه الاستغفار السابعة اجتناب اللغو والقسم الثالث يرجع إلى أعمال البدن وهي تتشعب إلى أربعين شعبة وهي على ثلاثة أنواع الأول ما يختص بالأعيان وهي ستة عشر شعبة الأولى التطهر ويدخل فيه طهارة البدن والثوب والمكان ويدخل في طهارة البدن الوضوء من الحدث والاغتسال من الجنابة والحيض والنفاس الثانية إقامة الصلاة ويدخل فيها الفرض والنفل والقضاء الثالثة أداء الزكاة ويدخل فيها الصدقة ويدخل فيها أداء الزكاة ويدخل فيها صدقة الفطر ويدخل في هذا الباب الجود وإطعام الطعام وإكرام الضيف الرابعة الصوم فرضا ونفلا الخامسة الحج ويدخل فيه العمرة السادسة الاعتكاف ويدخل فيه التماس ليلة القدر السابعة الفرار بالدين ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك الثامنة الوفاء بالنذر التاسعة التحري في الإيمان العاشرة أداء الكفارة الحادية عشر ستر العورة في الصلاة وخارجها الثانية عشرة ذبح الضحايا والقيام بها إذا كانت منذورة الثالثة عشر القيام بأمر الجنائز الرابعة عشر أداء الدين الخامسة عشر الصدق في المعاملات والاحتراز عن الرياء السادسة عشر أداء الشهادة بالحق وترك كتمانها النوع الثاني ما يختص بالاتباع وهو ست شعب الأولى التعفف بالنكاح الثانية القيام بحقوق العيال ويدخل فيه الرفق بالخدم الثالثة بر الوالدين ويدخل فيه الاجتناب عن العقوق الرابعة تربية الأولاد الخامسة صلة الرحم السادسة طاعة الموالي النوع الثالث ما يتعلق بالعامة وهو ثماني عشرة شعبة الأولى القيام بالإمارة مع العدل الثانية متابعة الجماعة الثالثة طاعة أولي الأمر الرابعة الإصلاح بين الناس ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة الخامسة المعاونة على البر السادسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السابعة إقامة الحدود الثامنة الجهاد ويدخل فيه المرابطة التاسعة أداء الأمانة ويدخل فيه أداء الخمس العاشرة القرض مع الوفاء به الحادية عشرة إكرام الجار الثانية عشرة حسن المعاملة ويدخل فيه جمع المال من حله الثالثة عشر إنفاق المال في حقه ويدخل فيه ترك التبذير والإسراف الرابعة عشر رد السلام الخامسة عشر تشميت العاطس السادسة عشر كف الضرر عن الناس السابعة عشر اجتناب اللهو الثامنة عشر إماطة الأذى عن الطريق فهذه سبع وسبعون شعبة
( الأسئلة والأجوبة ) منها ما قيل لم جعل الحياء من الإيمان وأجيب بأنه باعث على أفعال الخير ومانع عن المعاصي ولكنه ربما يكون تخلقا واكتسابا كسائر أعمال البر وربما يكون غريزة لكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية فهو من الإيمان لهذا الثاني ما قيل إنه قد ورد الحياء لا يأتي إلا بخير وورد الحياء خير كله فصاحب الحياء قد يستحي أن يواجه بالحق فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فكيف يكون هذا من الإيمان وأجيب بأنه ليس بحياء حقيقة بل هو عجز ومهانة وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف أطلقوه مجازا لمشابهته الحياء الحقيقي وحقيقته خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ونحوه وأولى الحياء الحياء من الله تعالى وهو أن لا يراك الله حيث نهاك وذاك إنما يكون عن معرفة ومراقبة وهو المراد بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وقد خرج الترمذي عنه عليه السلام أنه قال استحيوا من الله حق الحياء قالوا إنا نستحي والحمد لله فقال ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله تعالى حق الحياء أن تحفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى وتذكر الموت والبلى فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء وقال الجنيد رؤية الآلاء أي النعم ورؤية التقصير يتولد بينهما حالة تسمى الحياء الثالث ما قيل لم أفرد الحياء بالذكر من بين سائر الشعب وأجيب بأنه كالداعي إلى سائر الشعب فإن الحي يخاف فضيحة

(1/129)


الدنيا وفظاعة الآخرة فينزجر عن المعاصي ويمتثل الطاعات كلها وقال الطيبي معنى إفراد الحياء بالذكر بعد دخوله في الشعب كأنه يقول هذه شعبة واحدة من شعبه فهل تحصى شعبه كلها هيهات ان البحر لا يغرف
4 -
( باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده )
أي هذا باب فالمبتدأ محذوف ويجوز ترك التنوين بالإضافة إلى ما بعده من الجملة ويجوز الوقف على السكون وليس في رواية الأصيلي باب والمناسبة بين البابين ظاهرة لأنه ذكر في الباب السابق أن الإيمان له شعب هذا الباب فيه بيان شعبتين من هذه الشعب وهما سلامة المسلمين من لسان المسلم ويده والمهاجر من هجر المنهيات
10 - حدثنا ( آدم بن أبي إياس ) قال حدثنا ( شعبة ) عن ( عبد الله بن أبي السفر وإسماعيل ) عن ( الشعبي ) عن ( عبد الله بن عمرو ) رضي الله عنهما عن النبي قال المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه
أوصل بهذا ما علقه أولا وإنما علقه لأجل التبويب فإن قلت لم لم يبوب على الجملة الأخيرة من الحديث قلت لأن في صدر الحديث لفظة المسلم والكتاب الذي يحوي هذه الأبواب كلها من أمور الإيمان والإسلام فإن قلت هجر المنهيات أيضا من أمور الإسلام قلت بلى ولكنه في تبويبه بصدر الحديث اعتناء بذكر لفظ فيه مادة من الإسلام
( بيان رجاله ) وهم ستة الأول أبو الحسن آدم بن أبي إياس بكسر الهمزة وتخفيف الياء آخر الحروف في آخره سين مهملة واسم أبي إياس عبد الرحمن وقيل ناهية بالنون وبين الهائين ياء آخر الحروف خفيفة أصله من خراسان نشأ ببغداد وكتب عن شيوخها ثم رحل إلى الكوفة والبصرة والحجاز ومصر والشام واستوطن عسقلان وتوفي بها سنة عشرين ومائتين قال أبو حاتم هو ثقة مأمون متعبد من خيار عباد الله تعالى وكان وراقا وكان عمره حين مات ثمانيا وثمانين سنة وقيل نيفا وتسعين سنة وليس في كتب الحديث آدم بن أبي إياس غير هذا وفي مسلم والترمذي والنسائي آدم بن سليمان الكوفي وفي البخاري والنسائي آدم بن علي العجلي الكوفي أيضا فحسب وفي الرواة آدم بن عيينة أخو سفيان لا يحتج به وآدم بن فايد عن عمرو بن شعيب مجهول الثاني شعبة غير منصرف ابن الحجاج بن الورد أبو بسطام الأزدي مولاهم الواسطي ثم انتقل إلى البصرة وأجمعوا على إمامته وجلالة قدره قال سفيان الثوري شعبة أمير المؤمنين في الحديث وقال أحمد كان أمة وحده في هذا الشأن مات بالبصرة أول سنة ستين ومائة وكان ألثغ وليس في الكتب الستة شعبة بن الحجاج غيره وفي النسائي شعبة بن دينار الكوفي صدوق وفي أبي داود شعبة بن دينار عن مولاه ابن عباس ليس بالقوي وفي الضعفاء شعبة بن عمرو ويروي عن أنس قال البخاري أحاديثه مناكير وفي الصحابة شعبة بن التوأم وهو من الأفراد والظاهر أنه تابعي الثالث عبد الله بن أبي السفر بفتح الفاء وحكى إسكانها واسم أبي السفر سعيد بن يحمد بضم الياء وفتح الميم كذا ضبطه النووي وقال الغساني بضم الياء وكسر الميم ويقال أحمد الثوري الهمداني الكوفي مات في خلافة مروان بن محمد روى له الجماعة واعلم أن السفر كله بإسكان الفاء في الاسم وتحريكها في الكنية ومنهم من سكن الفاء في عبد الله المذكور كما مضى الرابع إسماعيل بن أبي خالد هرمز وقيل سعد وقيل كثير البجلي الأحمسي مولاهم الكوفي سمع خلقا من الصحابة منهم أنس بن مالك وجماعة من التابعين وعنه الثوري وغيره من الأعلام وكان عالما متقنا صالحا ثقة وكان يسمى الميزان وكان طحانا توفي بالكوفة سنة خمس وأربعين ومائة الخامس الشعبي بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة بعدها الباء الموحدة هو أبو عمرو عامر بن شراحيل وقيل ابن عبد الله بن شراحيل الكوفي التابعي الجليل الثقة روى عن خلق من الصحابة منهم ابن عمر وسعد وسعيد روي عنه أنه قال ادركت خمسمائة صحابي قال أحمد بن عبد الله ومرسله صحيح روى عنه قتادة وخلق من التابعين ولي قضاء الكوفة وولد لست سنين مضت من خلافة عثمان ومات بعد المائة إما سنة ثلاث أو أربع أو خمس أو ست وهو ابن نيف وثمانين سنة وكان مزاحا وأمه من

(1/130)


سبي جلولا وهي قريبة بناحية فارس السادس عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بضم السين وفتح العين ابن سهم بن عمرو بن هصيص بضم الهاء وبصادين مهملتين ابن كعب بن لؤي بن غالب أبو محمد أو عبد الرحمن أو أبو نصير بضم النون القرشي السهمي الزاهد العابد الصحابي ابن الصحابي وأمه ريطة بنت منيه بن الحجاج أسلم قبل أبيه وكان بينه وبين أبيه في السن اثنتي عشرة سنة وقيل إحدى عشرة وكان غزير العلم مجتهدا في العبادة وكان أكثر حديثا من أبي هريرة لأنه كان يكتب وأبو هريرة لا يكتب ومع ذلك فالذي روي له قليل بالنسبة إلى ما روي لأبي هريرة روي له سبعمائة حديث اتفقا منها على سبعة عشر وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بعشرين مات بمكة أو بالطائف أو بمصر في ذي الحجة من سنة خمس أو ثلاث أو سبع وستين أو اثنتين أو ثلاث وسبعين عن اثنتين وسبعين سنة وفي الصحابة عبد الله بن عمرو جماعات آخر عدتهم ثمانية عشر نفسا وعمرو ويكتب بالواو ليتميز عن عمر وهذا في غير النصب وأما في النصب فيتميز بالألف
( بيان الأنساب ) الأزدي في كهلاان ينسب إلى الأزد بن الغوث بن نبت ملكان بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان يقال له الأزد بالزاي والأسد بالسين والواسطي نسبة إلى واسط مدينة اختطها الحجاج بن يوسف بين الكوفة والبصرة في أرض كسكر وهي نصفان على شاطىء دجلة وبينهما جسر من سفن وسميت واسط لأنه منها إلى البصرة خمسين فرسخا ومنها إلى الكوفة خمسين فرسخا وإلى الأهواز خمسين فرسخا وإلى بغداد خمسين فرسخا والبجلي بضم الباء والجيم في كهلان ينسب إلى بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة بن مالك وهو مذحج والشعبي نسبة إلى شعب بطن من همدان بسكون الميم وبالدال المهملة ويقال هو من حمير وعداده في همدان ونسب إلى جبل باليمن نزله حسان بن عمرو والحميري ولده ودفن به وقال الهمداني الشعب الأصغر بطن منهم عامر بن شراحيل قال والشعب الأصفر بن شراحيل بن حسان ابن الشعب الأكبر بن عمرو بن شعبان وقال الجوهري شعب جبل باليمن وهو ذو شعبتين نزله حسان بن عمرو الحميري وولده فنسبوا إليه وأن من نزل من أولاده بالكوفة يقال لهم شعبيون منهم عامر الشعبي ومن كان منهم بالشام قيل لهم شعبيون ومن كان منهم باليمن يقال لهم آل ذي شعبين ومن كان منهم بمصر والمغرب يقال لهم الأشعوب
( بيان لطائف إسناده ) منها أن هذا الإسناد كله على شرط الستة إلا آدم فإنه ليس من شرط مسلم وأبي داود ومنها أن شعبة فيه يروي عن اثنين أحدهما عبد الله بن أبي السفر والآخر إسماعيل بن أبي خالد وكلاهما يرويانه عن الشعبي ولهذا إسماعيل بفتح اللام عطفا على عبد الله وهو مجرور وإسماعيل أيضا مجرور جر ما لا ينصرف بالفتحة كما عرف في موضعه ومنها أن فيه التحديث والعنعنة
( بيان من أخرجه غيره ) هذا الحديث انفرد البخاري بجملته عن مسلم وأخرجه أيضا في الرقاق عن أبي نعيم عن زكريا عن عامر وأخرج مسلم بعضه في ( صحيحه ) عن جابر مرفوعا المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده مقتصرا عليه وخرج أيضا من حديث عبد الله بن عمر أيضا إن رجلا سأل رسول الله أي المسلمون خير قال من سلم المسلمون من لسانه ويده وزاد ابن حبان والحاكم في ( المستدرك ) من حديث أنس صحيحا والمؤمن من أمنه الناس وأخرج أبو داود والنسائي أيضا مثل البخاري من حديث عبد الله بن عمرو إلا أن لفظ النسائي من هجر ما حرم الله عليه
( بيان الغات ) قوله من يده اليد هي اسم للجارحة ولكن المراد منها أعم من أن تكون يدا حقيقية أو يدا معنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق فإنه أيضا إيذاء لكن لا باليد الحقيقية قوله المهاجر هو الذي فارق عشيرته ووطنه قوله من هجر أي ترك من هجره يهجره بالضم هجرا وهجرانا والاسم الهجرة وفي ( العباب ) الهجرة ضد الوصل والتركيب يدل على قطع وقطيعة والمهاجر مفاعل منه قيل لأنه لما انقطعت الهجرة وفضلها حزن على فواتها من لم يدركها فاعلمهم النبي أن المهاجر على الحقيقة من هجر ما نهى الله عنه وقيل بل أعلم المهاجرين لئلا يتكلوا على الهجرة فإن قلت المهاجر من باب المفاعلة وهي تقتضي الاشتراك بين الاثنين قلت المهاجر بمعنى الهاجر

(1/131)


كالمسافر بمعنى السافر والمنازع بمعنى النازع لأن باب فاعل قد يأتي بمعنى فعل
( بيان الإعراب ) قوله المسلممبتدأ وخبره قوله من سلم المسلمون ويجوز أن يكون من سلم خبر مبتدأ محذوف فالجملة خبر المبتدأ الأول والتقدير المسلم هو من سلم فمن موصولة وسلم المسلمون صلتها وقوله من لسانه متعلق بقوله سلم قوله والمهاجر عطف على قوله المسلم ومن أيضا في من هجر موصولة و ما نهى الله عنه جملة في محل النصب لأنها مفعول هجر وكلمة ما موصولة ونهى الله عنها صلتها
( بيان المعاني ) قوله المسلم من سلم إلى آخره ظاهره يدل على الحصر لوقوع جزئي الجملة معرفتين ولكن هذا من قبيل قولهم زيد الرجل أي زيد الكامل في الرجولية فيكون التقدير المسلم الكامل من سلم إلى آخره وقال القاضي عياض وغيره المراد الكامل الإسلام والجامع لخصاله ما لم يؤذ مسلما بقول ولا فعل وهذا من جامع كلامه عليه الصلاة و السلام وفصيحه كما يقال المال الإبل والناس العرب على التفضيل لا على الحصر وقد بين البخاري ما يبين هذا التأويل وهو قول السائل أي الإسلام خير قال من سلم المسلمون من لسانه ويده وقال الخطابي معناه أن المسلم الممدوح من كان هذا وصفه وليس ذلك على معنى أن من لم يسلم الناس منه ممن دخل في عقد الإسلام فليس ذلك بمسلم وكان ذلك خارجا عن الملة أيضا إنما هو كقولك الناس العرب تريد أن أفضل الناس العرب فههنا المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله أداء حقوق المسلمين والكف عن أعراضهم وكذلك المهاجر الممدوح هو الذي جمع إلى هجران وطنه ما حرم الله تعالى عليه ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم قلت وكذا إثبات اسم الشيء على الشيء على معنى إثبات الكمال مستفيض في كلامهم فإن قلت إذا كان التقدير المسلم الكامل من سلم يلزم من ذلك أن يكون من اتصف بهذا خاصة كاملا قلت الملازمة ممنوعة لأن المراد هو الكامل مع مراعات باقي الصفات أو يكون هذا واردا على سبيل المبالغة تعظيما لترك الإيذاء كما كان ترك الإيذاء هو نفس الإسلام الكامل وهو محصور فيه على سبيل الإدعاء وأمثاله كثيرة فافهم وقال بعضهم يحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى حسن معاملة العبد مع ربه لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى قلت فيه نظر وخدش من وجهين أحدهما أن قوله يحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى حسن معاملة العبد مع ربه ممنوع لأن الإشارة ما ثبت بنظم الكلام وتركيبه مثل العبارة غير أن الثابت من الإشارة غير مقصود من الكلام ولا سيق الكلام له فانظر هل تجد فيه هذا المعنى والثاني أن قوله فأولى أن يحسن معاملة ربه ممنوع أيضا ومن أين الأولوية في ذلك والأولوية موقوفة على تحقق المدعي والدعوى غير صحيحة لأنا نجد كثيرا من الناس يسلم الناس من لسانهم وأيديهم ومع هذا لا يحسنون المعاملة مع الله تعالى وفيه العطف بين الجملتين تنبيها على التشريك في المعنى المذكور وفيه من أنواع البديع تجنيس الاشتقاق وهو أن يرجع اللفظان في الاشتقاق إلى أصل واحد نحو قوله تعالى فاقم وجهك للدين القيم ( الروم 43 ) فإن أقم والقيم يرجعان في الاشتقاق إلى القيام
( بيان استنباط الفوائد ) الأولى فيه الحث على ترك أذى المسلمين بكل ما يؤذي وسر الأمر في ذلك حسن التخلق مع العالم كما قال الحسن البصري في تفسير الأبرار هم الذين لا يؤذون الذر ولا يرضون الشر الثانية فيه الرد على المرجئة فإنه ليس عندهم إسلام ناقص الثالثة فيه الحث على ترك المعاصي واجتناب المناهي
( الأسئلة والأجوبة ) منها ما قيل لم خص اليد مع أن الفعل قد يحصل بغيرها أجيب بأن سلطنة الأفعال إنما تظهر في اليد إذ بها البطش والقطع والوصل والأخذ والمنع والإعطاء ونحوه وقال الزمخشري لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت فقيل في كل عمل هذا مما علمت أيديهم وإن كان عملا لا يأتي فيه المباشرة بالأيدي ومنها ما قيل لم قرن اللسان باليد أجيب بأن الإيذاء باللسان واليد أكثر من غيرهما فاعتبر الغالب ومنها ما قيل لم قدم اللسان على اليد أجيب بإن إيذاء اللسان أكثر وقوعا وأسهل ولأنه أشد نكاية ولهذا كان النبي يقول لحسان اهج المشركين فإنه أشق عليهم من رشق النبل وقال الشاعر ( جراحات السنان لها التئام
ولا يلتام ما جرح اللسان )

(1/132)


ومنها ما قيل المفهوم منه أنه إذا لم يسلم المسلمون منه لا يكون مسلما لكن الاتفاق على أنه إذا أتى بالأركان الخمسة فهو مسلم بالنص والإجماع وأجيب بأن المراد منه المسلم الكامل كما ذكرنا وإذا لم يسلم منه المسلمون فلا يكون مسلما كاملا وذلك لأن الجنس إذا أطلق يكون محمولا على الكامل نص عليه سيبويه في نحو الرجل زيد وقال ابن جني من عادتهم أن يوقعوا على الشيء الذي يخصونه بالمدح اسم الجنس ألا ترى كيف سموا الكعبة بالبيت وقد يقال سلامة المسلمين خاصة المسلم ولا يلزم من انتفاء الخاصة انتفاء ما له الخاصة ومنها ما قيل ما يقال في إقامة الحدود وإجراء التعازير والتأديبات إلى آخره وأجيب بأن ذلك مستثنى من هذا العموم بالإجماع أو أنه ليس إيذاء بل هو عند التحقيق استصلاح وطلب للسلامة لهم ولو في المآل ومنها ما قيل إذا آذى ذميا ما يكون حاله لأن الحديث مقيد بالمسلمين أجيب بأنه قد ذكر المسلمون هنا بطريق الغالب ولأن كف الأذى عن المسلم أشد تأكيدا لأصل الإسلام ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكف عنه ومنها ما قيل ما حكم المسلمات في ذلك لأنه ذكر بجمع التذكير وأجيب بأن هذا من باب التغليب فإن المسلمات يدخلن فيه كما في سائر النصوص والمخاطبات ومنها ما قيل لم عبر باللسان دون القول فإنه لا يكون إلا باللسان أجيب بأنه إنما عبر به دون القول حتى يدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء ومنها ما قيل ما الفرق بين الأذى باللسان وبين الأذى باليد أجيب بأن إيذاء اللسان عام لأنه يكون في الماضين والموجودين والحادثين بعد بخلاف اليد لأن إيذاءها مخصوص بالموجودين اللهم إلا إذا كتب باليد فإنه حينئذ تشارك اللسان فحينئذ يكون الحديث عاما بالنسبة إليهما وأما في الصورة الأولى فإنه عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد فافهم
قال أبو عبد الله وقال أبو معاوية حدثنا داود عن عامر قال سمعت عبد الله عن النبي وقال عبد الأعلى عن داود عن عبد الله عن النبي
هذان تعليقان رجالهما خمسة الأول أبو معاوية محمد بن خازم بالخاء والزاي المعجمة الضرير الكوفي التميمي السعدي مولى سعد بن زيد مناة بن تميم يقال عمي وهو ابن أربع سنين أو ثمان روى عن الأعمش وغيره وعنه أحمد وإسحاق وهو ثبت في الأعمش وكان مرجئا مات في صفر سنة خمس وتسعين ومائة وفي الرواة أيضا أبو معاوية النخعي عمر وأبو معاوية شيبان الثاني داود بن أبي هند دينار مولى امرأة من قشير ويقال مولى عبد الله عامر بن كريز أحد الأعلام الثقات بصري رأى أنسا وسمع الشعبي وغيره من التابعين وعنه شعبة والقطان له نحو مائتي حديث وكان حافظا صواما دهره قانتا لله مات سنة أربعين ومائة بطريق مكة عن خمس وسبعين سنة روى له الجماعة والبخاري استشهد به هنا خاصة وليس له في صحيحه ذكر إلا هنا الثالث عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي بالسين المهملة من بني سامة بن لؤي بن غالب القرشي البصري روى عن الجريري وغيره وعنه بندار وهو ثقة قدري لكنه غير داعية مات في شعبان سنة تسع وثمانين ومائة وفي الصحيحين عبد الأعلى ثلاثة هذا وفي ابن ماجه آخر واه وآخر كذلك وآخر صدوق وفي النسائي آخر ثقة وفيه وفي الترمذي آخر ثقة وفي الأربعة آخران ضعفهما أحمد فالجملة تسعة وفي الضعفاء سبعة أخرى الرابع عامر هو الشعبي المذكور عن قريب الخامس عبد الله بن عمرو بن العاص وقد مر آنفا واراد بالتعليق الأول بيان سماع الشعبي من عبد الله بن عمرو لأن وهيب بن خالد روى عن داود عن رجل عن الشعبي عن عبيد الله بن عمرو وحكاه ابن منده فأخرج البخاري هذا التعليق لينبه به على سماع الشعبي من عبد الله بن عمرو فعلى هذا لعل الشعبي بلغه ذاك عن عبد الله بن عمرو ثم لقيه فسمعه منه وأخرج هذا التعليق إسحاق بن راهويه في ( مسنده ) عن أبي معاوية موصولا وأخرجه ابن حبان في ( صحيحه ) فقال حدثنا أحمد بن يحيى بن زهير الحافظ بتستر حدثنا محمد بن العلاء بن كريب حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن الشعبي قال سمعت عبد الله بن عمرو ورب هذه البنية لسمعت رسول الله يقول المهاجر من هجر السيئات والمسلم من سلم الناس من

(1/133)


لسانه ويده وأراد بالتعليق الثاني التنبيه على أن عبد الله الذي أبهم في رواية عبد الأعلى هو عبد الله بن عمرو الذي بين في رواية أبي معاوية وقال قطب الدين في شرحه هذا من تعليقات البخاري لأن البخاري لم يلحق أبا معاوية ولا عبد الأعلى والحديث المعلق عند أهل الحديث هو الذي حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر وقد أكثر البخاري في صحيحه ولم يستعمله مسلم إلا قليلا قال أبو عمرو بن الصلاح فيما جاء بصيغة الجزم كقال وحدث وذكر دون ما جاء بغير صيغته كيروى ويذكر وإنما كان ذلك لأن صاحبي ( الصحيحين ) ترجما كتابهما بالصحيح من أخبار رسول الله فلولا أنه عندهما مسند متصل صحيح لم يستجيز أن يدخلا في كتابيهما قوله قال أبو عبد الله هو البخاري نفسه لأن أبا عبد الله كنيته قوله حدثنا داود عن عامر وفي رواية ابن عساكر حدثنا داود هو ابن أبي هند قوله في حديث ابن حبان والمسلم من سلم الناس يتناول المسلمين وأهل الذمة وقال بعضهم والمراد بالناس هنا المسلمون كما في الحديث الموصول فهم الناس حقيقة ويمكن حمله على عمومه على إرادة شرط وهو إلا بحق وإرادة هذه الشرط متعينة على كل حال قلت فيه نظر من وجوه الأول قوله فهم الناس حقيقة يدل على أن غير المسلمين من بني آدم ليسوا بإنسان حقيقة وليس كذلك بل الناس يكون من الإنس ومن الجن قاله في ( العباب ) والثاني قوله ويمكن حمله استعمال الإمكان ههنا غير سديد بل هو عام قطعا والثالث تخصيصه الشرط المذكور بهذا الحديث غير موجه بل هذا الشرط مراعى ههنا وفي الحديث الموصول فبهذا الشرط يخرج عن العموم في حق الأذى بالحق وأما في حق المسلم والذمي فعلى عمومه فافهم
5 -
( باب أي الإسلام أفضل )
يجوز في باب التنوين وتركه للإضافة إلى ما بعده وعلى كل التقدير أي بالرفع لا غير وفي الوجهين هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا باب ويجوز التسكين فيه من غير إعراب لأن الإعراب لا يكون إلا بالتركيب والمناسبة بين البابين ظاهرة لأن كليهما في بيان وصف خاص من أوصاف المسلم وذكر جزء الحديث لأجل التبويب
11 - حدثنا ( سعيد بن يحيى بن سعيد القرشي ) قال حدثنا أبي قال حدثنا ( أبو بردة بن عبد الله بن أبي بردة ) عن ( أبي بردة ) عن ( أبي موسى ) رضي الله عنه قال قالوا يا رسول الله أي الإسلام أفضل قال من سلم المسلمون من لسانه ويده
الحديث مطابق للترجمة فإنه أخذ جزءا منه وبوب عليه
( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول سعيد بن يحيى بن أبان بن سعيد بن العاصي بن أمية بن عبد شمس الأموي يكنى بأبي عثمان وهو شيخ الجماعة ما خلا ابن ماجه وروى عنه عبد الله بن أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم وإبراهيم الحربي والبغوي وخلق كثير توفي سنة تسع وأربعين ومائتين قال أبو حاتم صدوق وقال النسائي ويعقوب بن سفيان سعيد وأبوه يحيى ثقتان وقال علي بن المديني هو أثبت من أبيه وقال صالح بن محمد هو ثقة إلا أنه كان يغلط والعاصي قتل يوم بدر كافرا وأبان أخوه عمرو الأشدق الثاني أبوه يحيى بن سعيد المذكور سمع يحيى الأنصاري وهشام بن عروة ويزيد وآخرين قال ابن معين هو من أهل الصدق وليس به بأس وقال يعقوب بن سفيان ثقة توفي سنة أربع وسبعين ومائة بعد أن بلغ الثمانين روى له الجماعة ويحيى بن سعيد في الكتب الستة أربعة الأول هذا والثاني يحيى بن سعيد التيمي والثالث يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري والرابع يحيى سعيد بن فروخ القطان الثالث أبو بردة بضم الباء الموحدة وسكون الراء واسمه بريد بضم الباء الموحدة وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف ابن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الكوفي يروي عن أبيه وجده والحسن وعطاء وعنه ابن المبارك وغيره من الأعلام وثقه ابن معين وقال أبو حاتم ليس بالمتقن يكتب حديثه وقال النسائي ليس بذلك القوي وقال أحمد بن عبد الله كوفي ثقة روى له الجماعة وليس في الكتب الستة بريد غير هذا وفي الأربعة بريد ابن أبي مريم مالك وفي مسند علي النسائي بريد بن أصرم مجهول كما قال البخاري وليس في الصحابة من اسمه بريد ويشتبه بريد بأربعة أشياء وهم يزيد وبريد وبزيد وتريد الرابع أبو بردة

(1/134)


بضم الباء الموحدة مثل الأول وهو جد أبي بردة بريد وافقه في كنيته لا في اسمه فإن اسم الأول بريد كما قلنا واسم جده هذا عامر وقيل الحارث سمع أباه وعلي بن أبي طالب وابن عمر وابن سلام وعائشة وغيرهم روى عنه عمر بن عبد العزيز والشعبي وبنوه أبو بكر وعبد الله وسعيد وبلال وابن ابنه بريد بن عبد الله قال أبو نعيم ولى أبو بردة قضاء الكوفة بعد شريح قال الواقدي توفي بالكوفة سنة ثلاث ومائة وقال ابن سعيد قيل إنه توفي هو والشعبي في جمعة وكان ثقة كثير الحديث روى له الجماعة وفي الصحابة أبو بردة سبعة منهم ابن نيار البلوي هاني أو الحارث أو مالك وفي الرواة هو أبو بردة بريد المذكور الخامس أبو موسى عبد الله بن قيس بن سليمان بضم السين بن حضار بفتح الحاء المهملة وتشديد الضاد المعجمة وقيل بكسر الحاء وتخفيف الضاد الأشعري الصحابي الكبير استعمله رسول الله على زبيد وعدن وساحل اليمن واستعمله عمر رضي الله تعالى عنه على الكوفة والبصرة وشهد وفاة أبي عبيدة بالأردن وخطبة عمر بالجابية وقدم دمشق على معاوية له ثلثمائة وستون حديثا اتفقا منها على خمسين وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة عشر روى عنه أنس بن مالك وطارق بن شهاب وخلق من التابعين وبنوه أبو بردة وأبو بكر وإبراهيم وموسى مات بمكة أو بالكوفة سنة خمس أو إحدى أو أربع وأربعين عن ثلاث وستين سنة وكان من علماء الصحابة ومفتيهم وأبو موسى في الصحابة أربعة هذا والأنصاري والغافقي مالك بن عبادة أو ابن عبد الله وأبو موسى الحكمي وفي الرواة أبو موسى جماعة منهم في سنن أبي داود اثنان وآخر في سنن النسائي والله أعلم
( بيان الأنساب ) القرشي نسبة إلى قريش وهو فهر بن مالك وقد ذكرناه والأموي بضم الهمزة نسبة إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب وأمية تصغير أمة والنسبة إليه أموي بالضم قال ابن دريد ومن فتحها فقد أخطأ وكان الأصل فيه أن يقال أميي بأربع ياآت لكن حذفت الياء الزائدة للاستثقال كما تحذف من سليم وثقيف عند النسبة وقلبت الياء الأولى واوا كراهة اجتماع الياآت مع الكسرتين وحكى سيبويه قال زعم يونس أن ناسا من العرب يقولون أميي فلا يغيرون وسمعنا من العرب من يقول أموي بالفتح وأمية أيضا بطن من الانصار وهو أمية بن زيد بن مالك وفي قضاعة وهو أمية بن عصبة وفي طيء وهو أمية بن عدي بن كنانة والأشعري نسبة إلى الأشعر وهو نبت بن ادد وقيل له الأشعر لأن أمه ولدته أشعر منهم من أصحاب النبي المشاهير أبو موسى الأشعري رضي الله عنه
( بيان لطائف أسناده ) منها أن إسناده كلهم كوفيون ومنها أن فيه التحديث والعنعنة فقط ومنها أنه ذكر في سعيد بن يحيى شيخه القرشي ولم يقل الأموي مع كون الأموي أشهر في نسبته نظرا إلى النسبة الأعمية ومنها أن فيه راويان متفقان في الكنية أحدهما أبو بردة بريد والآخر أبو بردة عامر أو الحارث كما ذكرنا وهو شيخ الأول وجده
( بيان من أخرجه غيره ) هذا الحديث أخرجه مسلم أيضا من هذا الوجه بلفظه وأخرجه أيضا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن أبي بردة وفيه أي المسلمين أفضل وأخرجه في الإيمان وكذا أخرجه النسائي فيه وأخرجه الترمذي في الزهد
( بيان الإعراب ) قوله أي الإسلامكلام إضافي مبتدأ وقوله أفضل خبره و أي ههنا للاستفهام وقد علم أن أقسامه على خمسة أوجه شرط نحو أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ( الإسراء 110 ) أيما الأجلين قضيت فلا عدوان على ( القصص 28 ) وموصول نحو لننزعن من كل شيعة أيهم أشد ( مريم 69 ) التقدير لننزعن الذي هو أشد وصفة للنكرة نحو زيد رجل أي رجل أي كامل في صفات الرجال وحال للمعرفة كقولك مررت بعبد الله أي رجل ووصلة ما فيه ال نحو يا أيها الرجل والخامس الاستفهام نحو أيكم زادته هذه إيمانا ( التوبة 124 ) فبأي حديث بعده يؤمنون ( الأعراف 185 و المرسلات 50 ) ومنه الحديث فإن قيل شرط أن تدخل على متعدد وههنا دخلت على مفرد لأن نفس الإسلام لا تعدد فيه قلت فيه حذف تقديره أي أصحاب الإسلام أفضل ويؤيد هذا التقدير رواية مسلم أي المسلمين أفضل وقد قدر الشيخ قطب الدين والكرماني في ( شرحيهما ) أي خصال الإسلام أفضل وهذا غير موجه لأن الاستفهام عن الأفضلية في المسلمين لا عن خصال الإسلام بدليل رواية مسلم ولأن في تقديرهما لا يقع الجواب مطابقا للسؤال فإن قيل أفضل افعل التفضيل وقد علم أنه لا بد أن يستعمل بأحد

(1/135)


الوجوه الثلاثة وهي الإضافة ومن واللام قلت قد يجرد من ذلك كله عند العلم به كما في قوله تعالى يعلم السر وأخفى ( طه 7 ) أي أخفى من السر وقولك الله أكبر أي أكبر من كل شيء والتقدير ههنا أفضل من غيره ومعنى الأفضل هو الأكثر ثوابا عند الله تعالى كما تقول الصدق أفضل من غيره أي هو أكثر ثوابا عند الله تعالى من غيره قوله من سلم إلى آخره مقول القول فإن قلت مقول القول يكون جملة قلت هو أيضا جملة لأن تقدير الكلام هو من سلم إلى آخره فالمبتدأ محذوف ومن موصولة وسلم المسلمون من لسانه ويده صلتها وفيه العائد
( بيان المعاني وغيره ) فيه وقوع المبتدأ والخبر معرفتين الدال على الحصر وهو على ثلاثة أقسام عقلي كالعدد للزوجية والفردية ووقوعي كحصر الكلمة على ثلاثة أقسام وجعلي كحصر الكتاب على مقدمة ومقالات أو كتب أو أبواب وخاتمة ويسمى هذا ادعائيا أيضا والحديث من هذا القسم قوله قال فاعله أبو موسى الأشعري قوله قالوا فاعله جماعة معهودون ووقع في رواية مسلم والحسن بن سفيان وأبي يعلى في ( مسنديهما ) عن سعيد بن يحيى شيخ البخاري بإسناده المذكور بلفظ قلنا ورواه ابن منده من طريق حسين بن محمد القباني أحد الحفاظ عن سعيد بن يحيى المذكور بلفظ قلت فتعين من هذا أن السائل هو أبو موسى وحده ومن رواية مسلم أن أبا موسى أحد السائلين ولا تنافي بين هذه الروايات لأن في رواية البخاري أخبر عن جماعة هو داخل فيهم وفي رواية مسلم صرح بأنه أحد الجماعة السائلين فإن قلت بين رواية قالوا وبين رواية قلت منافاة قلت لا لإمكان التعدد فمرة كان السؤال منهم فحكى سؤالهم ومرة كان منه فحكى سؤال نفسه وقد سأل هذا السؤال أيضا اثنان من الصحابة أحدهما أبو ذر حديثه عند ابن حبان والآخر عمير بن قتادة حديثه عند الطبراني قوله من سلم قد ذكرنا أنه جواب قال الكرماني فإن قلت سألوا عن الإسلام أي الخصلة فأجاب بمن سلم أي ذي الخصلة حيث قال من سلم ولم يقل هو سلامة المسلمين من لسانه ويده فكيف يكون الجواب مطابقا للسؤال قلت هو جواب مطابق وزيادة من حيث المعنى إذ يعلم منه أن أفضليته باعتبار تلك الخصلة وذلك نحو قوله تعالى يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين ( البقرة 215 ) أو أطلق الإسلام وأراد الصفة كما يقال العدل ويراد العادل فكأنه قال أي المسلمين خير كما في بعض الروايات أي المسلمين خير قلت هذا التعسف كله لأجل تقديره أي خصال الإسلام أفضل ولو قدر بما قدرناه لاستغنى عن هذا السؤال والجواب فافهم
6 -
( باب إطعام الطعام من الإسلام )
الكلام مثل الكلام فيما قبله في الإعراب وتركه وفي رواية الأصيلي من الإيمان موضع من الإسلام والتقدير إطعام الطعام من شعب الإسلام أو الإيمان وذلك لأنه لما قال أولا باب أمور الإيمان وذكر فيه أن الإيمان له شعب ذكر عقيبه أبوابا كل باب منها يشتمل على شيء من الشعب وهذا الباب فيه شعبتان الأولى إطعام الطعام والثانية إقراء السلام مطلقا وبقيت المناسبة بين البابين وهي أن الباب الأول فيه أفضلية من سلم المسلمون من لسانه ويده وقد ذكرنا أن المراد من الأفضلية الخيرية وأكثرية الثواب وهذا الباب فيه خيرية من يطعم الطعام ويقرأ السلام ولا شك إن المطعم في سلامة من لسان المطعم ويده لأنه لم يطعمه إلا عن قصد خير له وكذلك المسلم عليه في سلامة من لسان المسلم ويده لأن معنى السلام عليك أنت سالم مني ومن جهتي فإن قلت كان ينبغي أن يقول باب أي الإسلام خير كما قال في الباب الأول أي الإسلام أفضل قلت لاختلاف المقام لأن أفضليته هناك راجعة إلى الفاعل والخيرية ههنا راجعة إلى الفعل وهذا وجه وأحسن من الذي قاله الكرماني وهو إن الجواب ههنا وهو تطعم الطعام صريح في أن النبي جعل الإطعام من الإسلام بخلاف ما تقدم إذ ليس صريحا في أن سلامة المسلمين منه من الإسلام انتهى قلت إذا كان من سلم المسلمون من لسانه ويده أفضل ذوي الإسلام فبالضرورة إطعام الطعام يكون بكون السلامة منه من الإسلام على أن الكناية أبلغ من التصريح فافهم فإن قلت هل فرق بين أفضل وبين خير قلت لا شك أنهما من باب التفضيل لكن أفضل يعني كثرة الثواب في مقابلة القلة والخير يعني النفع في مقابلة الشر والأول من الكمية والثاني من الكيفية وتعقبه بعضهم بقوله

(1/136)


الفرق لا يتم إلا إذا اختص كل منهما بتلك المقولة أما إذا كان كل منهما يعقل تأتيه في الأخرى فلا وكأنه بني على أن لفظ خير اسم لا أفعل تفضيل انتهى قلت الفرق تام بلا شك لأن الفضل في اللغة الزيادة ويقابله القلة والخير إيصال النفع ويقابله الشر والأشياء تتبين بضدها وفي ( العباب ) الفضل والفضيلة خلاف النقص والنقيصة وقال الخير ضد الشر وقوله كأنه يبنى على أن لفظ خير اسم لا أفعل تفضيل ليس موضع التشكيك لأن لفظة خير ههنا أفعل التفضيل قطعا لأن السؤال ليس عن نفس الخيرية وإنما السؤال عن وصف زائد وهو الأخيرية غير أن العرب استعملت أفعل التفضيل من هذا الباب على لفظه فيقال زيد خير من عمرو على معنى أخير منه ولهذا لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث
12 - حدثنا ( عمرو بن خالد ) قال حدثنا ( الليث ) عن ( يزيد ) عن ( أبي الخير ) عن ( عبد الله بن عمرو ) رضي الله عنهما أن رجلا سأل النبي أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف
الحديث مطابق للترجمة لأنه أخذ جزء منه فبوب عليه فإن قلت لم بوب على الجزء الأول ولم يقل باب إقراء السلام على من عرف ومن لم يعرف من الإسلام قلت لا شك أن كون إطعام الطعام من الإسلام أقوى وآكد من كون إقراء السلام منه ولأن السلام لا يختلف بحال من الأحوال بخلاف الإطعام فإنه يختلف بحسب الأحوال فأدناه مستحب وأعلاه فرض وبينهما درجات أخر ولأن التبويب بالمقدم والمصدر أولى على ما لا يخفى
( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول أبو الحسن عمرو بفتح العين بن خالد بن فروخ بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وفي آخره خاء معجمة بن سعيد بن عبد الرحمن بن واقد بن ليث بن واقد بن عبد الله الحراني سكن مصر روى عن الليث بن سعد وعبيد الله بن عمر وغيرهما روى عنه الحسن بن محمد الصباح وأبو زرعة وأبو حاتم وقال صدوق وقال أحمد بن عبد الله ثبت ثقة مصري انفرد البخاري بالرواية عنه دون أصحاب الكتب الخمسة وروى ابن ماجه عن رجل عنه توفي بمصر سنة تسع وعشرين ومائتين الثاني الليث بن سعد المصري الإمام المشهور المتفق على جلالته وإمامته ويكنى بأبي الحارث مولى عبد الرحمن بن خالد بن مسافر وأهل بيته يقولون نحن من الفرس من أهل أصبهان والمشهور أنه فهمي وفهم من قيس غيلان ولد بقلقشندة قرية على نحو أربعة فراسخ من مصر روى عن جماعة كثيرين وروى عن أبي حنيفة وعده أصحابنا من أصحاب أبي حنيفة وكذا قال القاضي شمس الدين ابن خلكان وروى عنه خلق كثير وقال أحمد ثقة ثبت وكان سريا نبيلا سخيا له ضيافة ولد في سنة أربع وتسعين ومات يوم الجمعة النصف من شعبان سنة خمس وسبعين ومائة الثالث يزيد ابن أبي حبيب واسم أبي حبيب سويد المصري أبو رجاء تابعي جليل سمع عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي وأبا الطفيل عامر بن واثلة من الصحابة وخلقا من التابعين روى عنه سليمان التيمي وإبراهيم بن يزيد ويحيى بن أيوب وخلق كثير من أكابر مصر قال ابن يونس كان يفتي أهل مصر في زمانه وكان حليما عاقلا وهو أول من أظهر العلم بمصر والفقه والكلام بالحلال والحرام وكانوا قبل ذلك إنما يتحدثون بالفتن والملاحم وكان أحد الثلاثة الذين جعل إليهم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الفتيا بمصر وعنه قال كان يزيد نوبيا من أهل دنقلة فابتاعه شريك بن الطفيل العامري فاعتقه ولد سنة ثلاث وخمسين وقال ابن سعد مات سنة ثمان وعشرين ومائة روى له الجماعة أيضا الرابع أبو الخير بالخاء المعجمة مرثد بفتح الميم وسكون الراء وفتح الثاء المثلثة أبو عبد الله اليزني المصري روى عن عمرو بن العاص وسعيد بن زيد وأبي أيوب الأنصاري وغيرهم توفي سنة تسعين روى له الجماعة الخامس عبد الله بن عمرو بن العاص وقد تقدم
( بيان الأنساب ) الحراني نسبة إلى حران بفتح الحاء وتشديد الراء المهملتين في آخره نون بعد الألف مدينة عظيمة قديمة تعد من ديار مصر واليوم خراب وقيل هي مولد إبراهيم الخليل ويوسف وإخوته عليهم الصلاة والسلام اليزني بفتح الياء آخر الحروف والزاي المعجمة بعدها نون نسبة إلى ذي يزن وهو عامر بن أسلم بن الحارث

(1/137)


بن مالك بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سرد بن زرعة بن سبأ الأصغر وإليه تنسب الأسنة اليزنية وهو أول من عمل سنان حديد وإنما كانت أسنتهم صياصي البقر وقيل يزن موضع
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة ليس إلا ومنها أن رواته كلهم مصريون وهذا من الغرائب لأنه في غاية القلة ومنها أن رواته كلهم أئمة أجلاء
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في باب الإيمان بعد هذا بأبواب عن قتيبة بن سعيد وفي الاستئذان أيضا في باب السلام للمعرفة وغير المعرفة عن ابن يوسف كلهم قالوا حدثنا الليث بن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد عن ابن عمرو رضي الله عنه وأخرجه مسلم في الإيمان عن قتيبة وابن رمح عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عنه وأخرجه النسائي في الإيمان وأبو داود في الأدب جميعا عن قتيبة به وابن ماجه في الأطعمة عن محمد بن رمح به
( بيان الإعراب ) قوله أن رجلا لم يعرف هذا من هو وقيل أبو ذر قوله أي الإسلام خير مبتدأ وخبر وقد مر الكلام فيه عن قريب قوله قال الضمير فيه يرجع إلى النبي قوله تطعم في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف بتقدير أن أي هو أن تطعم فإن مصدرية والتقدير هو إطعام الطعام وهذا نظير قولهم تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي أن تسمع أي سماعك غير أن في هذا المؤول مبتدأ وفي الحديث المؤول خبر قوله وتقرأ بفتح التاء وضم الهمزة لأنه مضارع قرأ قوله السلام بالنصب مفعوله وقوله على يتعلق بقوله تقرأ وكلمة من موصولة وعرفت جملة صلتها والعائد محذوف والتقدير عرفته وقوله ومن لم تعرف عطف على من عرفت وهذه الجملة نظير الجملة السابقة
( بيان استنباط الفوائد ) منها أن فيه حثا على إطعام الطعام الذي هو أمارة الجود والسخاء ومكارم الأخلاق وفيه نفع للمحتاجين وسد الجوع الذي استعاذ منه النبي ومنها أن فيه إفشاء السلام الذي يدل على خفض الجناح للمسلمين والتواضع والحث على تألف قلوبهم واجتماع كلمتهم وتواددهم ومحبتهم ومنها الإشارة إلى تعميم السلام وهو أن لا يخص به أحدا دون أحد كما يفعله الجبابرة لأن المؤمنين كلهم أخوة وهم متساوون في رعاية الأخوة ثم هذا العموم مخصوص بالمسلمين فلا يسلم ابتداء على كافر لقوله لا تبدؤا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه رواه البخاري وكذلك خص منه الفاسق بدليل آخر وأما من يشك فيه فالأصل فيه البقاء على العموم حتى يثبت الخصوص ويمكن أن يقال إن الحديث كان في ابتداء الإسلام لمصلحة التأليف ثم ورد النهي
( الأسئلة والأجوبة ) منها ما قيل لم قال تطعم الطعام ولم يقل تؤكل ونحوه من الألفاظ الدالة عليه وأجيب بأن لفظة الإطعام عام يتناول الأكل والشرب والذوق قال الشاعر ( وإن شئت حرمت النساء سواكم
وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا )
فإنه عطف البرد الذي هو النوم على النقاخ بضم النون وبالقاف والخاء المعجمة الذي هو الماء العذب وقال تعالى ومن لم يطعمه ( البقرة 249 ) أي ومن لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه وبعمومه يتناول الضيافة وسائر الولائم وإطعام الفقراء وغيرهم ومنها ما قيل إن باب أطعمت يقتضي مفعولين يقال أطعمته الطعام فما المفعول الثاني هنا ولم حذفه وأجيب بأن التقدير أن تطعم الخلق الطعام وحذف ليدل على التعميم إشارة إلى أن إطعام الطعام غير مختص بأحد سواء كان المطعم مسلما أو كافرا أو حيوانا ونفس الإطعام أيضا سواء كان فرضا أو سنة أو مستحبا ومنها ما قيل لم قال وتقرأ السلام ولم يقل وتسلم أجيب بأنه يتناول سلام الباعث بالكتاب المتضمن بالسلام قال أبو حاتم السجستاني تقول اقرأ عليه السلام واقرأه الكتاب ولا تقول اقرؤه السلام إلا في لغة إلا أن يكون مكتوبا فتقول أقرئه السلام أي اجعله يقرؤه وفيه إشارة أيضا إلى أن تحية المسلمين بلفظ السلام وزيدت لفظة القراءة تنبيها على تخصيص هذه اللفظة في التحيات مخالفة لتحايا أهل الجاهلية بألفاظ وضعوها لذلك ومنها ما قيل لم خص هاتين الخصلتين في هذا الحديث وأجيب

(1/138)


بأن المكارم لها نوعان أحدهما مالية أشار إليها بقوله تطعم الطعام والآخر بدنية أشار إليها بقوله وتقرأ السلام ويقال وجه تخصيص هاتين الخصلتين وهو مساس الحاجة إليهما في ذلك الوقت لما كانوا فيه من الجهد ولمصلحة التأليف ويدل على ذلك أنه حث عليهما أول ما دخل المدينة كما رواه الترمذي مصححا من حديث عبد الله بن سلام قال أول ما قدم رسول الله المدينة انجفل الناس إليه فكنت ممن جاءه فلما تأملت وجهه واشتبهته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب قال وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام وقال الخطابي جعل أفضلها إطعام الطعام الذي هو قوام الأبدان ثم جعل خير الأقوال في البر والإكرام إفشاء السلام الذي يعم ولا يخص من عرف ومن لم يعرف حتى يكون خالصا لله تعالى بريئا من حظ النفس والتصنع لأنه شعار الإسلام فحق كل مسلم فيه شائع ورد في حديث إن السلام في آخر الزمان للمعرفة يكون ومنها ما قيل جاء في الجواب ههنا أن الخير أن تطعم الطعام وفي الحديث الذي قبله أنه من سلم المسلمون فما وجه التوفيق بينهما أجيب بأن الجوابين كانا في وقتين فأجاب في كل وقت بما هو الأفضل في حق السامع أو أهل المجلس فقد يكون ظهر من أحدهما قلة المراعاة ليده ولسانه وإيذاء المسلمين ومن الثاني إمساك من الطعام وتكبر فأجابهما على حسب حالهما أو علم أن السائل الأول يسأل عن أفضل التروك والثاني عن خير الأفعال أو أن الأول يسأل عما يدفع المضار والثاني عما يجلب المسار أو أنهما بالحقيقة متلازمان إذ الإطعام مستلزم لسلامة اليد والسلام لسلامة اللسان قلت ينبغي أن يقيد هذا بالغالب أو في العادة فافهم
7 -
( باب من الإيمان أن يحب لإخيه ما يحب لنفسه )
أي هذا باب ولا يجوز فيه إلا الإعراب بالتنوين أو الوقف على السكون وليس فيه مجال للإضافة والتقدير هذا باب فيه من شعب الإيمان أن يحب الرجل لأخيه ما يحبه لنفسه وجه المناسبة بين البابين أن الشعبة الواحدة في الباب الأول هي إطعام الطعام وهو غالبا لا يكون إلا عن محبة المطعم وهذا الباب فيه شعبة وهي المحبة لأخيه وقال الكرماني قدم لفظة من الإيمان بخلاف أخواته حيث يقول حب الرسول من الإيمان ونحو ذلك من الأبواب الآتية التي مثله إما للاهتمام بذكره وإما للحصر فكأنه قال المحبة المذكورة ليست إلا من الإيمان تعظيما لهذه المحبة وتحريضا عليها وقال بعضهم هو توجيه حسن إلا أنه يرد عليه أن الذي بعده أليق بالاهتمام والحصر معا وهو قوله باب حب الرسول من الإيمان فالظاهر أنه أراد التنويع في العبارة ويمكن أنه اهتم بذكر حب الرسول فقدمه قلت الذي ذكره لا يرد على الكرماني وإنما يرد على البخاري حيث لم يقل باب من الإيمان حب الرسول ولكن يمكن أن يجاب عنه بأنه إنما قدم لفظة حب الرسول إما اهتماما بذكره أولا وإما استلذاذا باسمه مقدما ولأن محبته هي عين الإيمان ولولا هو ما عرف الإيمان
13 - حدثنا ( مسدد ) قال حدثنا ( يحيى ) عن ( شعبة ) عن ( قتادة ) عن ( أنس ) رضي الله عنه عن النبي وعن ( حسين المعلم ) قال حدثنا ( قتادة ) عن ( أنس ) عن النبي قال لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لا تخفى
( بيان رجاله ) وهم ستة الأول مسدد بضم الميم وفتح السين والدال المشددة المهملة ابن مسرهد بن مسربل ابن مرعبل بن ارندل بن سرندل بن غرندل بن ماسك بن مستورد الأسدي من ثقات أهل البصرة سمع حماد بن زيد وابن عيينة ويحيى القطان روى عنه أبو حاتم الرازي وأبو داود ومحمد بن يحيى الذهلي وأبو زرعة وإسماعيل بن إسحاق ونظراؤهم قال أحمد بن عبد الله ثقة وقال أحمد ويحيى بن معين صدوق توفي في رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائتين

(1/139)


روى النسائي عن رجل عنه ولم يرو له مسلم شيئا وقال البخاري في ( تاريخه ) مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مرعبل ولم يزد على هذا وكذا مسلم في كتاب الكنى غير أنه قال مغربل بدل مرعبل وقال أبو علي الخالدي الهروي مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل بن ارندل إلى آخر ما ذكرناه قلت فالخمسة الأول على لفظ صيغة المفعول ومسدد من التسديد وسرهدته من سرهتده أي أحسنت غداءه وسمنته ومسربل من سربلته أي ألبسته القميص ومغربل من غربلته أي قطعته ومرعبل من رعبلته أي مزقته والثلاثة الأخيرة لعلها عجميات وهي بالدال المهملة والنون وعرندل بالعين المهملة وبالعجمة هو الأصح الثاني يحيى بن سعيد بن فروخ بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وفي آخره خاء معجمة غير منصرف للعلمية والعجمة القطان الأحول التيمي مولاهم البصري يكنى أبا سعيد الإمام الحجة المتفق على جلالته وتوثيقه وتميزه في هذا الشأن سمع يحيى الأنصاري ومحمد بن عجلان وابن جريج والثوري وابن أبي ذئب ومالكا وشعبة وغيرهم روى عنه الثوري وابن عيينة وشعبة وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد ويحيى بن معين وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وأبو بكر بن أبي شيبة وآخرون قال يحيى بن معين أقام يحيى بن سعيد عشرين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة وقال إسحاق الشهيدي كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند إلى أصل منارة مسجده فيقف بين يديه علي ابن المديني والشاذكوني وعمرو بن علي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم يسألونه عن الحديث وهم قيام على أرجلهم إلى أن تحين صلاة المغرب ولا يقول لأحد منهم إجلس ولا يجلسون هيبة له ولد سنة عشرين ومائة وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائة روى له الجماعة الثالث شعبة بضم الشين المعجمة ابن الحجاج الواسطي ثم البصري أمير المؤمنين في الحديث وقد تقدم الرابع قتادة بن دعامة بكسر الدال بن قتادة بن عزيز بزاي مكررة مع فتح العين ابن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن سدوس بفتح السين المهملة ابن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بالباء الموحدة ابن صعب بن بكر بن وائل السدوسي البصري التابعي سمع أنس بن مالك وعبد الله سرجس وأبا الطفيل عامر من الصحابة وسمع سعيد بن المسيب والحسن وأبا عثمان النهدي ومحمد بن سيرين وغيرهم روى عنه سليمان التيمي وأيوب السختياني والأعمش وشعبة والأوزاعي وخلق كثير أجمع على جلالته وحفظه وتوثيقه واتقانه وفضله ولد أعمى وقال الزمخشري في ( الكشاف ) يقال لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة أي ممسوح العين غير قتادة السدوسي صاحب التفسير توفي بواسط سنة سبع عشرة ومائة وقيل ثماني عشرة ومائة وهو ابن ست وخمسين أو سبع وخمسين روى له الجماعة وليس في الكتب الستة من اسمه قتادة من التابعين وتابعيهم غيره الخامس حسين بن ذكوان المكتب المعلم البصري سمع عطاء بن أبي رباح وقتادة وآخرين روى عنه شعبة وابن المبارك ويحيى القطان قال يحيى بن معين وأبو حاتم ثقة روى له الجماعة السادس أنس بن مالك بن النضر بالنون والضاد المعجمة الساكنة ابن ضمضم بضادين معجمتين مفتوحتين ابن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري يكنى أبا حمزة خادم رسول الله خدمه عشر سنين روي له عن رسول الله الفا حديث ومائتا حديث وست وثمانون حديثا اتفقا على مائة وثمانية وستين حديثا منها وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين حديثا ومسلم بأحد وتسعين حديثا وكان أكثر الصحابة ولدا وقالت أمه يا رسول الله خويدمك أنس ادع الله له فقال اللهم بارك في ماله ولده وأطل عمره واغفر ذنبه فقال لقد دفنت من صلبي مائة إلا اثنين وكان له بستان يحمل في سنة مرتين وفيه ريحان يجيء منه ريح المسك وقال لقد بقيت حتى سئمت من الحياة وأنا أرجو الرابعة قيل عمر مائة سنة وزيادة وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة وغسله محمد بن سيرين سنة ثلاث وتسعين زمن الحجاج ودفن في قصره على نحوفرسخ ونصف من البصرة ويقال إنما كني بأبي حمزة بالحاء المهملة ببقلة كان يحبها روى له الجماعة
( بيان لطائف إسناده ) منها أن رواته كلهم بصريون فوقع له من الغرائب أن أسناد هذا كلهم بصريون وأسناد الباب الذي قبله كلهم كوفيون والذي قبله كلهم مصريون فوقع له التسلسل في الأبواب الثلاثة على الولاء ومنها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن هذا إسنادان موصولان أحدهما عن مسدد عن يحيى عن شعبة عن قتادة عن أنس

(1/140)


والآخر عن مسدد عن يحيى عن حسين عن قتادة عن أنس فقوله عن حسين عطف على شعبة والتقدير عن شعبة وحسين كلاهما عن قتادة وإنما لم يجمعهما لأن شيخه أفردهما فأورده البخاري معطوفا اختصارا ولأن شعبة قال عن قتادة وقال حسين حدثنا قتادة وقال بعض المتأخرين طريق حسين معلقة وهو غير صحيح فقد رواه أبو نعيم في ( المستخرج ) من طريق إبراهيم الحربي عن مسدد شيخ البخاري عن يحيى القطان عن حسين المعلم وقال الكرماني قوله وعن حسين هو عطف إما على حدثنا مسدد فيكون تعليقا والطريق بين حسين والبخاري غير طريق مسدد وإما على شعبة فكأنه قال حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن حسين وإما على قتادة فكأنه قال عن شعبة عن حسين عن قتادة ولا يجوز عطفه على يحيى لأن مسددا لم يسمع عن الحسين وروايته عنه إنما هو من باب التعليق وعلى التقدير الأول ذكره على سبيل المتابعة قلت هذا كله مبني على حكم العقل وليس كذلك وليس هو بعطف على مسدد ولا على قتادة وإنما هو عطف على شعبة كما ذكرنا والمتن الذي سيق ههنا هو لفظ شعبة وأما لفظ حسين فهو الذي رواه أبو نعيم في ( المستخرج ) عن إبراهيم الحربي عن مسدد عن يحيى القطان عن حسين المعلم عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي قال لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ولجاره فإن قيل قتادة مدلس ولم يصرح بالسماع عن أنس في رواية شعبة قلت قد صرح أحمد بن حنبل والنسائي في روايتهما بسماع قتادة له من أنس فانتفت تهمة تدليسه
( بيان اختلاف الروايات فيه ) قوله لا يؤمن حتى يحب في رواية المستملي لا يؤمن أحدكم حتى يحب وفي رواية الأصيلي لا يؤمن أحدكم حتى يحب وقال الشيخ قطب الدين قد سقط لفظ أحدكم في بعض نسخ البخاري وثبت في بعضها كما جاء في مسلم قلت وفي بعض نسخ البخاري لا يؤمن يعني أحدكم حتى يحب وفي رواية ابن عساكر لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه وكذا في رواية لمسلم عن أبي خيثمة وفي رواية لمسلم والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب الحديث قوله حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه هكذا هو عند البخاري ووقع في مسلم على الشك في قوله لأخيه أو لجاره وكذا وقع في مسند عبد بن حميد على الشك وكذا في رواية للنسائي وفي رواية للنسائي لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير وكذا للإسماعيلي من طريق روح عن حسين حتى يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير وكذا في رواية ابن منده من رواية همام عن قتادة وفي رواية ابن حبان من رواية ابن أبي عدي عن حسين لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب إلى آخره
( بيان من أخرجه غيره ) قد عرفت أن البخاري أخرجه هنا عن مسدد عن يحيى عن شعبة وعن حسين عن قتادة عن أنس وروى مسلم في الإيملن عن المثنى وابن بشار عن غندر عن شعبة وعن الزهري عن يحيى القطان عن حسين المعلم كلاهما عن قتادة عن أنس وأخرجه الترمذي والنسائي أيضا
( بيان اللغة والإعراب ) قد مر تفسير الإيمان فيما مضى وأما المحبة فقد قال النووي أصلها الميل إلى ما يوافق المحب ثم الميل قد يكون بما يستلذه بحواسه بحسن الصورة وبما يستلذه بعقله كمحبة الفضل والجمال وقد يكون لإحسانه إليه ودفعه المضار عنه وقال بعضهم المراد بالميل هنا الإختياري دون الطبع والقسري والمراد أيضا بأن يحب الخ أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له لا عينه سواء كان ذلك في الأمور المحسوسة أو المعنوية وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له مع سلبه عنه ولا مع بقائه بعينه له إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال قلت قوله والمراد أيضا بأن يحب إلى آخره ليس تفسير المحبة وإنما المحبة مطالعة المنة من رؤية إحسان أخيه وبره وأياديه ونعمه المتقدمة التي ابتدأ بها من غير عمل استحقها به وستره على معايبه وهذه محبة العوام قد تتغير بتغير الإحسان فإن زاد الإحسان زاد الحب وإن نقصه نقصه وأما محبة الخواص فهي تنشأ من مطالعة شواهد الكمال لأجل الإعظام والإجلال ومراعاة حق أخيه المسلم فهذه لا تتغير لأنها لله تعالى لا لأجل غرض دنيوي ويقال المحبة ههنا هي مجرد تمني الخير لأخيه المسلم فلا يعسر ذلك إلا على القلب السقيم غير المستقيم وقال القاضي عياض المراد من قوله حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه أن يحب لأخيه من الطاعات والمباحات وظاهره يقتضي التسوية وحقيقته التفضيل لأن كل أحد يحب أن يكون أفضل الناس فإذا أحب لأخيه مثله فقد دخل هو من جملة المفضولين وكذلك الإنسان يحب أن ينتصف من حقه ومظلمته فإذا كانت لأخيه عنده مظلمة

(1/141)


أو حق بادر إلى الإنصاف من نفسه وقد روي هذا المعنى عن الفضيل بن عياض رحمه الله إنه قال لسفيان بن عيينة رحمه الله إن كنت تريد أن تكون الناس كلهم مثلك فما أديت لله الكريم نصحه فكيف وأنت تود أنهم دونك انتهى قلت المحبة في اللغة ميل القلب إلى الشيء لتصور كمال فيه بحيث يرغب فيما يقربه إليه من حبه يحبه فهو محبوب بكسر عين الفعل في المضارع قال الشاعر
أحب أبا مروان من أجل تمرة
وأعلم بأن الرفق بالمرء ارفق
قال الصغاني وهذا شاذ لأنه لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر إلا ويشركه يفعل بالضم أو كان متعديا ما خلا هذا الحرف ويقال أيضا أحبه فهو محبوب ومثله مزكوم ومجنون ومكزوز ومقرور ومسلول ومهموم ومزعوق ومضعوف ومبرور ومملوء ومضؤد ومأروض ومحزون ومحموم وموهون ومنبوت ومسعود وذلك أنهم يقولون في هذا كله قد فعل بغير ألف ثم بني مفعول على فعل وإلا فلا وجه له فإذا قالوا فعله فهو كله بالألف
( وأما الإعراب ) فقوله لا يؤمننفي وهي جملة من الفعل والفاعل والفاعل هو أحد كما ثبت في بعض نسخ البخاري أو عبد كما وقع في إحدى روايتي مسلم والمعنى لا يؤمن الإيمان الكامل لأن أصل الإيمان لا يزول بزوال ذلك أو التقدير لا يكمل إيمان أحدكم قوله حتى ههنا جارة لا عاطفة ولا ابتدائية وما بعدها خلاف ما قبلها وأن بعدها مضمرة ولهذا نصب يحب ولا يجوز رفعه ههنا لأن عدم الإيمان ليس سببا للمحبة قوله لأخيهمتعلق بقوله يحب قوله ما يحب جملة في محل النصب لأنها مفعول يحب وقوله لنفسه يتعلق به وكلمة ما موصولة والعائد محذوف أي ما يحبه وفيه حذف تقديره ما يحب من الخير لنفسه ويدل عليه ما رواه النسائي كما ذكرناه فإن قلت كيف يتصور أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه وكيف يحصل ذلك المحبوب في محلين وهو محال قلت تقدير الكلام حتى يحب لأخيه مثل ما يحب لنفسه
( الأسئلة والأجوبة ) منها ما قيل إذا كان المراد بالنفي كمال الإيمان يلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملا وإن لم يأت ببقية الأركان وأجيب بأن هذا مبالغة كأن الركن الأعظم فيه هذه المحبة نحو لا صلاة إلا بطهور أو هي مستلزمة لها أويلزم ذلك لصدقه في الجملة وهو عند حصول سائر الأركان إذ لا عموم للمفهوم ومنها ما قيل من الإيمان أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه ولم لم يذكره وأجيب بأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه فيدخل تحت ذلك أو أن الشخص لا يبغض شيئا لنفسه فلا يحتاج إلى ذكره بالمحبة ومنها ما قيل إن قوله لأخيه ليس له عموم فلا يتناول سائر المسلمين وأجيب بأن معنى قوله لأخيه للمسلمين تعميما للحكم أو يكون التقدير لأخيه من المسلمين فيتناول كل أخ مسلم
8 -
( باب حب الرسول من الإيمان )
يجوز في باب الرفع مع التنوين على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا باب ويجوز بالإضافة إلى الجملة التي بعده لأن قوله حب الرسول كلام إضافي مبتدأ أو قوله من الإيمان خبره ويجوز فيه الوقف لأن الإعراب لا يكون إلا بالتركيب وجه المناسبة بين البابين من حيث اشتمال كل منهما على وجوب محبة كائنة من الإيمان واللام في الرسول للعهد والمراد به سيدنا محمد لا جنس الرسول ولا الاستغراق بقرينة قوله حتى أكون أحب وإن كانت محبة الكل واجبة
14 - حدثنا ( أبو اليمان ) قال أخبرنا ( شعيب ) قال حدثنا ( أبو الزناد ) عن ( الأعرج ) عن ( أبي هريرة ) رضي الله عنه أن رسول الله قال فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول أبو اليمان الحكم بن نافع وقد ذكر الثاني شعيب ابن أبي حمزة الحمصي وقد مر ذكره الثالث أبو الزناد بكسر الزاي وبالنون وهو عبد الله بن ذكوان المدني القرشي وكان يغضب من هذه الكنية لكن اشتهر بها ويكنى أيضا بأبي عبد الرحمن وقد اتفق على إمامته وجلالته وكان الثوري يسميه أمير المؤمنين في الحديث وقال أبو حاتم هو ثقة صاحب سنة وهو ممن تقوم به الحجة إذ روى عنه الثقات وشهد مع عبد الله بن جعفر جنازة

(1/142)


فهو إذن تابعي صغير وروى عنه جماعات من التابعين وهذا من فضائله لأنه لم يسمع من الصحابة وروى عنه التابعون وولاه عمر بن عبد العزيز خراج العراق وقال الليث بن سعد رأيت أبا الزناد وخلفه ثلاثمائة تابع من طالب علم وفقه وشعر وصنوف ثم لم يلبث أن بقي وحده وأقبلوا على ربيعة وكان ربيعة يقول شبر من خطوة خير من ذراع من علم وقال أحمد أبو الزناد افقه من ربيعة قال الواقدي مات أبو الزناد فجأة في مغتسله سنة ثلاثين ومائة وهو ابن ست وستين سنة وقال البخاري أصح أسانيد أبي هريرة أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة روى له الجماعة الرابع الأعرج وهو أبو داود عبد الرحمن بن هرمز تابعي مدني قرشي مولى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب روى عن أبي سلمة وعبد الرحمن بن القاري روى عنه الزهري ويحيى الأنصاري ويحيى بن أبي كثير وآخرون واتفقوا على توثيقه مات بالإسكندرية سنة سبع عشرة ومائة على الصحيح روى له الجماعة واعلم أن مالكا لم يرو عن عبد الرحمن بن هرمز هذا إلا بواسطة وأما عبد الله بن يزيد بن هرمز فقد روى عنه مالك وأخذ عنه الفقه وهو عالم من علماء المدينة قليل الرواية جدا توفي سنة ثمان وأربعين ومائة فحيث يذكر مالك بن هرمز ويحكى عنه فإنما يريد عبد الله بن يزيد هذا الفقيه لأن عبد الرحمن بن هرمز صاحب أبي الزناد المحدث هذا إنما يحدث عنه بواسطة ذلك ووفاته سنة سبع عشرة ومائة على ما ذكرنا وهذا وفاته سنة ثمان وأربعين ومائة وهذا موضع التباس على كثير من الناس ذكرته للفرق بينهما فافهم الخامس أبو هريرة وقد مضى ذكره
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة وفي بعض النسخ أخبرنا شعيب فعلى هذا يكون فيه الإخبار أيضا والتفريق بين حدثنا وأخبرنا لا يقول به البخاري كما سيجيء في العلم ومنها أن إسناده مشتمل على حمصيين ومدنيين ومنها أنه قد وقع في ( غرائب مالك ) للدارقطني إدخال رجل وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن بين الأعرج وأبي هريرة في هذا الحديث وهي زيادة شاذة فقد رواه الإسماعيلي بدونها من حديث مالك ومن حديث إبراهيم بن طهمان وروى ابن منده من طريق أبي حاتم الرازي عن أبي اليمان شيخ البخاري هذا الحديث مصرحا فيه بالتحديث في جميع الاسناد وكذا للنسائي من طريق علي بن عياش عن شعيب
( بيان من أخرجه غيره ) أخرجه البخاري هنا عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما وأخرجه النسائي أيضا عن أبي هريرة وأخرجه مسلم في الإيمان عن ابن المثنى وابن بشار عن غندر عن شعبة ورواه عن زهير عن ابن علية وعن شيبان بن فروخ عن عبد الوارث كلاهما عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس وأخرجه النسائي وفي رواية أخرى للنسائي حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله والناس أجمعين
( بيان الإعراب ) قوله والذيالواو فيه للقسم والذي صفة موصوفه محذوف تقديره والله الذي قوله نفسيمبتدأ وبيده خبره والجملة خبر المبتدأ الأول أعني الذي قوله لا يؤمننفي وهو جواب القسم قوله حتىللغاية هنا وأكونمنصوب بتقدير حتى أن أكون وقد علم أن الفعل بعد حتى لا ينتصب إلا إذا كان مستقبلا ثم إن كان استقباله بالنظر إلى زمن المتكلم فالنصب واجب نحو لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ( طه 91 ) وإن كان بالنسبة إلى ما قبلها خاصة فالوجهان نحو وزلزلوا حتى يقول الرسول ( البقرة 214 ) الآية فإن قولهم إنما هو مستقبل بالنظر إلى الزلزال لا بالنظر إلى زمن قص ذلك علينا قوله أحبنصب لأنه خبر أكون ولفظه أحب أفعل التفضيل بمعنى المفعول وهو على خلاف القياس وإن كان كثيرا إذ القياس أن يكون بمعنى الفاعل وقال ابن مالك إنما يشذ بناؤه للمفعول إذا خيف اللبس بالفاعل فإن أمن بأن لم يستعمل الفعل للفاعل أو قرن به ما يشعر بأنه للمفعول لا يشذ كقولهم هو أشغل من ذات النحيين وهو أكسر من البصل وعبد الله بن أبي ألعن من لعن على لسان داود وعيسى ولا أحرم ممن عدم الإنصاف ولا أظلم من قتيل كربلا وهو أزهى من الديك وأرجى وأخوف وأهيب ولا يقتصر على السماع لكثرة مجيئه فإن قلت لا يجوز الفصل بين الفعل ومعموله لأنه كالمضاف والمضاف إليه فكيف وقع لفظة إليه ههنا فصلا بينهما قلت الفصل بالأجنبي ممنوع لا مطلقا والظرف فيه توسع فلا يمنع
( بيان المعاني ) فائدة القسم تأكيد الكلام به ويستفاد منه جواز القسم على الأمر المبهم توكيدا وإن لم يكن هناك من

(1/143)


يستدعي الحلف ولفظ اليد من المتشابهات ففي مثل هذا افترق العلماء على فرقتين إحداهما ما تسمى مفوضة وهم الذين يفوضون الأمر فيها إلى الله تعالى قائلين وما يعلم تأويله إلا الله ( آل عمران 7 ) والأخرى تسمى مؤولة وهم الذين يؤولون مثل هذا كما يقال المراد من اليد القدرة عاطفين والراسخون في العلم ( آل عمران 7 ) على الله والأول أسلم والثاني أحكم قلت ذكر أبو حنيفة أن تأويل اليد بالقدرة ونحو ذلك يؤدي إلى التعطيل فإن الله تعالى أثبت لنفسه يدا فإذا أولت بالقدرة يصير عين التعطيل وإنما الذي ينبغي في مثل هذا أن نؤمن بما ذكره الله من ذلك على ما أراده ولا نشتغل بتأويله فنقول له يد على ما أراده لا كيد المخلوقين وكذلك في نظائر ذلك قوله لا يؤمن أي إيمانا كاملا ويقال المراد من الحديث بذل النفس دونه وقيل في قوله تعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ( الأنفال 64 ) أي وحسبك من اتبعك من المؤمنين ببذل أنفسهم دونك وقال ابن بطال قال أبو الزناد هذا من جوامع الكلم الذي أوتيه عليه الصلاة و السلام إذ أقسام المحبة ثلاثة محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد ومحبة رحمة وإشفاق كمحبة الولد ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة الناس بعضهم بعضا فجمع عليه السلام ذلك كله قال القاضي ومن محبته نصرة سنته والذب عن شريعته وتمني حضور حياته فيبذل نفسه وماله دونه وبهذا يتبين أن حقيقة الإيمان لا تتم إلا به ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إنافة قدر النبي ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومتفضل ومن لم يعتقد ذلك واعتقد سواه فليس بمؤمن واعترضه الإمام أبو العباس أحمد القرطبي المالكي صاحب ( المفهم ) فقال ظاهر كلام القاضي عياض صرف المحبة إلى اعتقاد تعظيمه وإجلاله ولا شك في كفر من لا يعتقد ذلك غير أنه ليس المراد بهذا الحديث اعتقاد الأعظمية إذ اعتقاد الأعظمية ليس بمحبة ولا مستلزما لها إذ قد يحمد الإنسان إعظام شيء مع خلوه عن محبته قال فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك لم يكمل إيمانه على أن كل من آمن إيمانا صحيحا لا يخلو من تلك المحبة وقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه وما كان أحد أحب إلي من رسول الله ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له وأن عمر رضي الله عنه لما سمع هذا الحديث قال يا رسول الله أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال ومن نفسك يا عمر فقال ومن نفسي فقال الآن يا عمر وهذه المحبة ليست باعتقاد تعظيم بل ميل قلب ولكن الناس يتفاوتون في ذلك قال الله تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ( المائدة 54 ) ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم من هذا المعنى أتم لأن المحبة ثمرة المعرفة وهم بقدره ومنزلته أعلم والله أعلم ويقال المحبة إما اعتقاد النفع أو ميل يتبع ذلك أو صفة مخصصة لأحد الطرفين بالوقوع ثم الميل قد يكون بما يستلذه بحواسه كحسن الصورة ولما يستلذه بعقله كمحبة الفضل والجمال وقد يكون لإحسانه إليه ودفع المضار عنه ولا يخفى أن المعاني الثلاثة كلها موجودة في رسول الله لما جمع من جمال الظاهر والباطن وكمال أنواع الفضائل وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايتهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعم ولا شك أن الثلاثة فيه أكمل مما في الوالدين لو كانت فيهما فيجب كونه أحب منهما لأن المحبة ثابتة لذلك حاصلة بحسبها كاملة بكمالها وأعلم أن محبة الرسول عليه السلام إرادة فعل طاعته وترك مخالفته وهي من واجبات الإسلام قال الله تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم إلى قوله حتى يأتي الله بأمره ( التوبة 24 ) وقال النووي فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة بالسوء والمطمئنة فإن من رجح جانب المطمئنة كان حب النبي عليه السلام راجحا ومن رجح جانب الإمارة كان حكمه بالعكس
( بيان الأسئلة والأجوبة ) منها ما قيل لم ما ذكر نفس الرجل أيضا وإنما يجب أن يكون الرسول أحب إليه من نفسه قال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ( الأحزاب 33 ) وأجيب بأنه إنما خصص الوالد والولد بالذكر لكونهما أعز خلق الله تعالى على الرجل غالبا وربما يكونان أعز من نفس الرجل على الرجل فذكرهما إنما هو على سبيل التمثيل فكأنه قال حتى أكون أحب إليه من أعزته ويعلم منه حكم غير الأعزة لأنه يلزم في غيرهم بالطريق الأولى أو اكتفى بما ذكر في سائر النصوص الدالة على وجوب كونه أحب من نفسه أيضا كالرواية التي بعده ومنها ما قيل هل يتناول لفظ الوالد الأم كما أن لفظ الولد يتناول الذكر والأنثى وأجيب بأن الوالد إما أن يراد به ذات له ولد وإما أن يكون بمعنى ذو ولد نحو لابن وتامر فيتناولهما وإما أن يكتفى بأحدهما عن الآخر كما يكتفى بأحد الضدين عن الآخر قال تعالى سرابيل تقيكم الحر ( النحل 81 ) وإما

(1/144)


أن يكون حكمه حكم النفس في كونه معلوما من النصوص الأخر ومنها ما قيل المحبة أمر طبيعي غريزي لا يدخل تحت الاختيار فكيف يكون مكلفا بما لا يطاق عادة وأجيب بأنه لم يرد به حب الطبع بل حب الاختيار المستند إلى الإيمان فمعناه لا يؤمن حتى يؤثر رضاي على هوى الوالدين وإن كان فيه هلاكهما ومنها ما قيل ما وجه تقديم الوالد على الولد وأجيب بأن ذلك للأكثرية لأن كل أحد له والد من غير عكس قلت الأولى أن يقال إنما قدم ههنا الوالد نظرا إلى جانب التعظيم وقدم الولد على الوالد في حديث أنس في رواية النسائي نظرا إلى جانب الشفقة والترحم
15 - حدثنا ( يعقوب بن إبراهيم ) قال حدثنا ( ابن علية ) عن ( عبد العزيز بن صهيب ) عن ( أنس ) عن النبي ح وحدثنا ( آدم ) قال حدثنا ( شعبة ) عن ( قتادة ) عن ( أنس ) قال قال النبي لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين
هذان الإسنادان عطف أحدهما على الآخر قبل أن يسوق المتن في الأول وذلك يوهم استواءهما وليس كذلك فإن لفظ قتادة مثل لفظ حديث أبي هريرة غير أن فيه زيادة وهي قوله والناس أجمعين ولفظ عبد العزيز بن صهيب مثله إلا أنه قال كما رواه ابن خزيمة في ( صحيحه ) عن يعقوب بن إبراهيم شيخ البخاري بهذا الإسناد من أهله وماله بدل من والده وولده وكذا في رواية مسلم من طريق ابن علية وكذا الإسماعيلي من طريق عبد الوارث بن سعيد عن عبد العزيز ولفظه لا يؤمن الرجل وهو اشمل من جهة ولفظ أحدكم أشمل من جهة وأشمل منهما رواية الأصيلي لا يؤمن أحد فإن النكرة في سياق النفي نعم فإن قلت إذا كان لفظ عبد العزيز مغايرا للفظ قتادة فلم ساق البخاري كلامه بما يوهم اتحادهما في المعنى قلت البخاري كثيرا ما يصنع ذلك نظرا إلى أصل الحديث لا إلى خصوص ألفاظه فإن قلت لم اقتصر على لفظ قتادة وما المرجح في ذلك قلت لأن لفظ قتادة موافق للفظ أبي هريرة في الحديث السابق فإن قلت قتادة مدلس ولم يصرح بالسماع قلت رواية شعبة عنه دليل على السماع لأنه لم يكن يسمع منه إلا ما سمعه على أنه قد وقع التصريح به في هذا الحديث في رواية النسائي
( بيان رجالهما ) وهم سبعة الأول أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن زيد بن أفلح الدورقي العبدي أخو أحمد بن إبراهيم وكان الأكبر صنف المسند وكان ثقة حافظا متقنا رأى الليث وسمع ابن عيينة والقطان ويحيى بن أبي كثير وخلقا روى عنه أخوه وأبو زرعة وأبو حاتم والجماعة مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين الثاني ابن علية بضم العين المهملة وفتح اللام وتشديد الياء آخر الحروف وهو إسماعيل وعلية أمه وأبوه إبراهيم بن سهل بن مقسم البصري الأسدي أسد خزاعة مولاهم أصله من الكوفة قال شعبة فيه سيد المحدثين سمع عبد العزيز بن صهيب وأيوب السختياني وسمع من محمد بن المنكدر أربعة أحاديث وسمع خلقا غيرهم وقال أحمد إليه المنتهى في التثبت بالبصرة اتفق على جلالته وتوثيقه ولي صدقات البصرة والمظالم ببغداد في آخر خلافة هارون توفي ببغداد ودفن في مقابر عبد الله بن مالك وصلى عليه ابنه إبراهيم في سنة أربع وتسعين ومائة وكانت أمه علية نبيلة عاقلة وكان صالح المزي وغيره من وجوه أهل البصرة وفقهائها يدخلون فتبرز لهم وتحادثهم وتسائلهم روى له الجماعة الثالث عبد العزيز البناني مولاهم تابعي سمع أنسا روى عنه شعبة وقال هو عندي في أنس أحب إلي من قتادة اتفق على توثيقه روى له الجماعة قال ابن قتيبة هو وأبوه كانا مملوكين وأجاز إياس بن معاوية شهادة عبد العزيز وحده الرابع آدم بن أبي إياس وقد مر ذكره الخامس شعبة بن الحجاج السادس قتادة بن دعامة السابع أنس بن مالك رضي الله عنه وقد ذكروا فيما مضى
( بيان الأنساب ) الدورقي نسبة إلى دورق بفتح الدال المهملة وسكون الواو وفتح الراء وفي آخره قاف وهي قلانس كانوا يلبسونها فنسبوا إليها وفي ( المطالع ) دورق أراه في بلاد فارس وقيل بل لصنعة قلانس تعرف بالدورقة نسبت إلى ذلك الموضع وقال الرشاطي دورق من كور الأهواز وقال ابن خرداذبه كور الأهواز رام هرمز ومنها ايزح

(1/145)


وعسكر مكرم وتستر وسوس وسرق وهي دورق وذكر غير ذلك قال ومن سرق الأهواز إلى دورق في الماء ثمانية عشر فرسخا وعلى الظاهر أربعة وعشرون والعبدي في قبائل ففي قريش عبد بن قصي بن كلاب بن مرة وفي ربيعة ابن نزار عبد القيس بن قصي بن دعمي ينسب إليه عبدي على القياس وعبقسي على غير القياس وفي تميم ينسب إلى عبد الله بن دارم وقد يقال عبدلي على غير قياس وفي خولان ينسب إلى عبد الله بن الخيار وفي همدان ينسب إلى عبد بن عليان بن أرحب والبناني بضم الباء الموحدة وبالنونين نسبة إلى بنانة بطن من قريش وبنانة كانت زوجة سعد بن لؤي بن غالب نسب إليها بنوها وقيل كانت أمة له حضنت بنيه وقيل كانت حاضنة لبنيه فقط ويقال نسبة إلى سكة بنانة بالبصرة فافهم
( بيان المعاني ) قوله والناس أجمعين من باب عطف العام على الخاص كقوله تعالى ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ( الحجر 87 ) وهو عكس قوله تعالى وملائكته ورسله وجبريل وميكال ( البقرة 98 ) فإنه تخصيص بعد تعميم فإن قيل هل يدخل في لفظ الناس نفس الرجل أو يكون إضافة المحبة إليه تقتضي خروجه منهم فإنك إذا قلت جميع الناس أحب إلى زيد من غلامه يفهم منه خروج زيد منهم قلت لا يخرج لأن اللفظ عام وما ذكر ثم ليس من المخصصات واعلم أنه قد يوجد في بعض النسخ قبل حدثنا آدم لفظة ( ح ) إشارة إلى الحول من الإسناد الأول إلى إسناد آخر وفي بعضها لا يوجد وعلى النسختين ففيه تحول من إسناد إلى آخر قبل ذكر الحديث وقوله أخبرنا يعقوب وفي رواية أبي ذر حدثنا
9 -
( باب حلاوة الإيمان )
أي هذا باب في بيان حلاوة الإيمان وارتفاعه على الخبرية للمبتدأ المحذوف وجه المناسبة بين البابين من حيث أن الباب الأول مشتمل على أن كمال الإيمان لا يكون إلا إذا كان الرسول أحب إليه من سائر الخلق وهذا الباب يبين أن ذلك من جملة حلاوة الإيمان ولأن هذا الباب مشتمل على ثلاثة أشياء والباب الذي قبله جزء من هذه الثلاثة وهذا أقوى وجوه المناسبة
16 - حدثنا ( محمد بن المثنى ) قال حدثنا ( عبد الوهاب الثقفي ) قال حدثنا ( أيوب ) عن ( أبي قلابة ) عن ( أنس ) عن النبي قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول محمد بن المثنى بلفظ المفعول من التثنية بالمثلثة ابن عبيد بن قيس بن دينار أبو موسى العنزي البصري المعروف بالزمن سمع ابن عيينة ووكيع بن الجراح وإسماعيل بن علية والقطان وغيرهم روى عنه أبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن يحيى الذهلي والمحاملي قال الخطيب كان ثقة ثبتا يحتج سائر الأئمة بحديثه وقدم بغداد وحدث بها ثم رجع إلى البصرة فمات بها قال غيره سنة اثنتين وخمسين ومائتين وولد هو وبندار بالسنة التي مات فيها حماد بن سلمة سنة سبع وستين ومائة روى عنه الجماعة وروى الترمذي أيضا عن رجل عنه وقال لا بأس به الثاني عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت بن أبي عبيد بن الحكم بن أبي العاص بن بشر بن عبد الله بن دهمان بن عبد همام بن أبان بن يسار مالك بن خطيط بن جشم بن قسي وهو ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس غيلان الثقفي البصري سمع يحيى الأنصاري وأيوب السختياني وخلقا روى عنه محمد بن إدريس الشافعي والإمام أحمد وابن معين وابن المديني وثقه يحيى والعجلي وقال ابن سعد كان ثقة وفيه ضعف ولد سنة ثمان ومائة وتوفي سنة أربع وتسعين ومائة وقال خليفة بن خياط اختلط قبل موته بثلاث سنين أو أربع سنين روى له الجماعة الثالث أيوب بن أبي تميمة واسمه كيسان السختياني البصري مولى عزة ويقال جهينة ومواليه حلفاء بني جريش رأى أنس بن مالك وسمع عمر بن سلمة الجرمي وأبا عثمان

(1/146)


النهدي والحسن ومحمد بن سيرين وأبا قلابة عبد الله بن زيد الجرمي ومجاهدا وخلقا كثيرا روى عنه محمد بن سيرين وعمرو بن دينار وقتادة والأعمش ومالك والسفيانان والحمادان وروى عنه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه أيضا وقال ابن المديني له نحو ثمان مائة حديث وقال النسائي ثقة ثبت وقال إسماعيل بن علية ولد سنة ست وستين وقال البخاري عن علي بن المديني مات بالبصرة سنة إحدى وثلاثين ومائة زاد غيره وهو ابن ثلاث وستين روى له الجماعة الرابع أبو قلابة بكسر القاف وبالباء الموحدة واسمه عبد الله بن زيد بن عمرو وقيل عامر بن نائل بن مالك الجرمي البصري سمع ثابت بن قيس بن الضحاك الأنصاري وأنس بن مالك الأنصاري وغيرهم من الصحابة روى عن أيوب وقتادة ويحيى ابن أبي كثير اتفق على توثيقه توفي بالشام سنة أربع ومائة روى له الجماعة الخامس أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه وقد مر ذكره
( بيان الأنساب ) العنزي بفتح العين المهملة والنون وبالزاي نسبة إلى عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان حي من ربيعة والثقفي بالثاء المثلثة والقاف بعدها الفاء نسبة إلى ثقيف وهو قسي بن منبه وقد ذكرناه الآن والسختياني بفتح السين المهملة نسبة إلى بيع السختيان وهو الجلد وقال الجوهري سمي بذلك لأنه كان يبيع الجلود قال صاحب المطالع ومنهم من يضم السين وقال بعضهم حكي بضم السين وكسرها قلت هذا اللفظ أعجمي ولم يسمع منهم إلا فتح السين والجرمي بفتح الجيم في قبائل ففي قضاعة جرم بن ريان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وفي بجيلة جرم بن علقمة بن عبقر وفي عاملة جرم بن شعل بن معاوية وفي طي جرم وهو ثعلبة بن عمرو بن الغوث بن طي
( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته كلهم بصريون ومنها أن كلهم أئمة أجلاء على ما ذكرنا
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري هنا ومسلم أيضا كلاهما عن محمد بن المثنى إلى آخره بهذا الإسناد وأخرجه في هذا الباب أيضا بعد ثلاثة أبواب من طريق شعبة عن قتادة عن أنس واستدل به على فضل من أكره عى الكفر فترك التقية إلى أن قتل وأخرجه من هذا الوجه في الأدب في فضل الحب في الله ولفظ هذه الرواية وحتى أن يقذف في النار أحب إليه أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه وهي أبلغ من لفظ حديث الباب لأنه سوى فيه بين الأمرين وهنا جعل الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه من نار الأخرى وكذا رواه مسلم من هذا الوجه وفي رواية للبخاري ومسلم من كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع يهوديا أو نصرانيا وأخرجه الترمذي والنسائي أيضا في رواية أخرى ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب في الله ويبغض في الله وأن يوقد نار عظيمة فيقع فيها أحب إليه من أن يشرك بالله شيئا
( بيان اللغات ) قوله حلاوة الإيمان الحلاوة مصدر حلا الشيء يحلو وهو نقيض المر واحلولى مثله وأحليت الشيء جعلته حلوا وأحليته أيضا وجدته حلوا وحاليته أي طايبته والحلوى نقيض المرى يقال خذ الحلوى وأعطه المرى وتحالت المرأة إذا أظهرت حلاوة وعجبا وأما حلوت فلانا على كذا مالا فأنا أحلوه حلوا وحلوانا فمعناه وهبت له شيئا على شيء يفعله لك غير الأجرة وأما حليت المرأة أحليها حليا وحلوتها فمعناها جلعت لها حليا ويقال حلي فلان بعيني بالكسر وفي عيني وبصدري أو في صدري يحلى حلاوة إذا أعجبك قال الراجز ( إن سراجا لكريم مفخرة
تحلى به العين إذا ما تجهره )
وهذا من المقلوب والمعنى يحلى بالعين وكذلك حلا فلان يعني وفي عيني يحلو حلاوة وقال الأصمعي حلى في عيني بالكسر وحلا في فمي بالفتح وحليت الرجل وصفت حليته وحليت الشيء في عين صاحبه وحليت الطعام جعلته حلوا والحلواء التي تؤكل تمد وتقصر وأما معنى الحلوة في الحديث فقال التيمي حسنه وقال النووي معنى حلاوة الإيمان استلذاذ

(1/147)


الطاعات وتحمل المشاق في الدين وإيثار ذلك على أعراض الدنيا ومحبة العبد الله تعالى بفعل طاعته وترك مخالفته وكذلك محبة رسول الله قلت تفسير التيمي من الحلاوة التي بابها من حلى فلان بعيني حلاوة إذا حسن وتفسير النووي من حلا الشيء يحلو حلوا وحلاوة وهو نقيض المر ولكل منهما وجه والأظهر الثاني على ما لا يخفى قوله يكره من كرهت الشيء أكرهه كراهة وكراهية فهو شيء كريه ومكروه ومعناه عدم الرضى قوله أن يقذف من القذف بمعنى الرمي وقال الصغاني التركيب يدل على الرمي والطرح والقذف بالحجارة الرمي بها وقذف المحصنة قذفا أي رماها ويقال هم بين خاذف وقاذف فالخاذف بالحصى والقاذف بالحجارة
( بيان الإعراب ) قوله ثلاثمرفوع على أنه مبتدأ فإن قلت هو نكرة كيف يقع مبتدأ قلت النكرة تقع مبتدأة بالمسوغ وههنا ثلاثة وجوه الأول أن يكون التنوين في ثلاث عوضا عن المضاف إليه تقديره ثلاث خصال فحينئذ يقرب من المعرفة الثاني أن يكون هذا صفة لموصوف محذوف تقديره خصال ثلاث والموصوف هو المبتدأ في الحقيقة فلما حذف قامت الصفة مقامه الثالث يجوز أن يكون ثلاث موصوفا بالجملة الشرطية التي بعده والخبر على هذا الوجه هو قوله أن يكون وأن مصدرية والتقدير كون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وعلى التقديرين الأولين الخبر هو الجملة الشرطية لأن قوله من مبتدأ موصول يتضمن معنى الشرط وقوله كن فيه جملة صلته وقوله وجد خبره والجملة خبر المبتدأ الأول فإن قلت الجملة إذا وقعت خبرا فلا بد من ضمير فيها يعود إلى المبتدأ لأن الجملة مستقلة بذاتها فلا يربطها بما قبلها إلا الضمير وليس ههنا ضمير يعود إليه والضمير في فيه يرجع إلى من لا إلى ثلاث قلت العائد ههنا محذوف تقديره ثلاث من كن فيه منها وجد حلاوة الإيمان كما في قولك البر الكربستين أي منه وقال ابن يعيش في قوله تعالى ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( الشورى 43 ) إن من مبتدأ وصلته صبر وخبره إن المكسورة مع ما بعدها والعائد محذوف تقديره إن ذلك منه فإن قلت إذا جعلت الجملة خبرا فما يكون إعراب قوله أن يكون الله قلت يجوز فيه الوجهان أحدهما أن يكون بدلا من ثلاث والآخر أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي أحد الذين فيهم الخصال الثلاث أن يكون الله الخ قوله وجد بمعنى أصاب فلذلك اكتفى بمفعول واحد وهو قوله حلاوة الإيمان قوله ورسوله بالرفع عطف على لفظة الله الذي هو اسم يكون قوله أحب بالنصب لأنه خبر يكون فإن قلت كان ينبغي أن يثني أحب حتى يطابق اسم كان وهو اثنان قلت أفعل التفضيل إذا استعمل بمن فهو مفرد مذكر لا غير فلا يحتاج إلى المطابقة فإن قلت أفعل التفضيل مع من كالمضاف والمضاف إليه فلا يجوز الفصل بينهما قلت أجيز ذلك بالظرف للاتساع قوله وأن يحب المرء عطف على أن يكون الله قوله يحب جملة من الفعل والفاعل وهو الضمير فيه الذي يرجع إلى من وقوله المرء بالنصب مفعوله قوله لا يحبه إلا لله جملة وقعت حالا بدون الواو وقد علم أن الفعل المضارع إذا وقع حالا وكان منفيا يجوز فيه الواو وتركه نحو جاءني زيد لا يركب أو ولا يركب قوله وأن يكره عطف على أن يحب قوله أن يعود جملة في محل النصب على أنها مفعول لقوله يكره وأن يكره وأن مصدرية تقديره وأن يكره العود فإن قلت المشهور أن يقال عاد إليه معدى بإلى لا بفي قلت قال الكرماني قد ضمن فيه معنى الاستقرار كأنه قال أن يعود مستقرا فيه وهذا تعسف وإنما في هذا بمعنى إلى كما في قوله تعالى أو لتعودن في ملتنا ( الأعراف 288 ) أي تصيرن إلى ملتنا قوله كما يكره الكاف للتشبيه بمعنى مثل و ما مصدرية أي مثل كرهه قوله أن يقذف في محل النصب لأنه مفعول يكره وأن مصدرية أي القذف وهو على صيغة المجهول فافهم
( بيان المعاني ) قال النووي هذا حديث عظيم أصل من أصول الإسلام قلت كيف لا وفيه محبة الله ورسوله التي هي أصل الإيمان بل عينه ولا تصح محبة الله ورسوله حقيقة ولا حب لغير الله ولا كراهة الرجوع في الكفر إلا لمن قوي الإيمان في نفسه وانشرح له صدره وخالطه دمه ولحمه وهذا هو الذي وجد حلاوته والحب في الله من ثمرات الحب لله وقال ابن بطال محبة العبد لخالقه التزام طاعته والانتهاء عما نهى عنه ومحبة الرسول كذلك وهي التزام==

ج2.عمدة القارئ

شريعته وقال بعضهم المحبة مواطأة القلب على ما يرضي الرب سبحانه فيحب ما أحب ويكره ما يكره قال القاضي عياض ومعنى حب الله الاستقامة في طاعته والتزام أوامره ونواهيه في كل شيء والمراد ثمرات المحبة فإن أصل المحبة الميل لما يوافق المحبوب والله سبحانه منزه أن يميل أو يمال إليه وأما محبة الرسول فيصح فيها الميل إذ ميل الإنسان لما يوافقه إما للاستحسان كالصورة الجميلة والمطاعم الشهية وشبههما أو لما يستلذه بعقله من المعاني والأخلاق كمحبة الصالحين والعلماء وإن لم يكن في زمانهم أو لمن يحسن إليه ويدفع المضرة عنه وهذه المعاني كلها موجودة في حق النبي من كمال الظاهر والباطن وجمعه الفضائل وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم وإبعادهم عن الجحيم قوله وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله هذا حث على التحاب في الله لأجل أن الله جعل المؤمنين أخوة قال الله تعالى فأصبحتم بنعمته إخوانا ( آل عمران 103 ) ومن محبته ومحبة رسوله محبة أهل ملته فلا تحصل حلاوة الإيمان إلا أن تكون خالصة لله تعالى غير مشوبة بالأغراض الدنيوية ولا الحظوظ البشرية فإن من أحب لذلك انقطعت تلك المحبة عند انقطاع سببها قوله وأن يكره إلى آخره معناه أن هذه الكراهة إنما توجد عند وجود سببها وهو ما دخل قلبه من نور الإيمان ومن كشف له عن محاسن الإسلام وقبح الجهالات والكفران وقيل المعنى أن من وجد حلاوة الإيمان وعلم أن الكافر في النار يكره الكفر لكراهته لدخول النار قلت وقائل هذا المعنى حافظ على بقاء لفظ العود على معناه الحقيقي ومعناه هنا معنى الصيرورة قال تعالى وما يكون لنا أن نعود فيها ( الأعراف 89 )
( بيان البيان ) قوله حلاوة الإيمان فيه استعارة بالكناية وذلك لأن الحلاوة إنما تكون في المطعومات والإيمان ليس مطعوما فظهر أن هذا مجاز لأنه شبه الإيمان بنحو العسل ثم طوى ذكر المشبه به لأن الاستعارة هي أن يذكر أحد طرفي التشبيه مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به فالمشبه إيمان والمشبه به عسل ونحوه والجهة الجامعة وهو وجه الشبه الذي بينهما هو الالتذاذ وميل القلب إليه فهذه هي الإستعارة بالكناية ثم لما ذكر المشبه أضاف إليه ما هو من خواص المشبه به ولوازمه وهو الحلاوة على سبيل التخيل وهي استعارة تخييلية وترشيح للاستعارة قوله كما يكره أن يقذف في النار تشبيه وليس باستعارة لأن الطرفين مذكوران فالمشبه هو العود في الكفر والمشبه به وهو القذف في النار ووجه الشبه هو وجدان الألم وكراهة القلب إياه
( الأسئلة والأجوبة ) منها ما قيل ما الحكمة في كون حلاوة الإيمان في هذه الأشياء الثلاثة وأجيب بأن هذه الأمور الثلاثة هي عنوان كمال الإيمان المحصل لتلك الذة لأنه لا يتم إيمان امرىء حتى يتمكن في نفسه أن المنعم بالذات هو الله سبحانه وتعالى ولا مانح ولا مانع سواه وما عداه تعالى وسائط ليس لها في ذاتها إضرار ولا انفاع وأن الرسول هو العطوف الساعي في صلاح شأنه وذلك يقتضي أن يتوجه بكليته نحوه ولا يحب ما يحبه إلا لكونه وسطا بينه وبينه وأن يتيقن أن جملة ما أوعد ووعد حق تيقنا يخيل إليه الموعود كالواقع والاشتغال بما يؤول إلى الشيء ملابسة به فيحسب مجالس الذكر رياض الجنة وأكل مال اليتيم أكل النار والعود إلى الكفر إلقاء في النار ومنها ما قيل لم عبر عن هذه الحالة بالحلاوة وأجيب لأنها أظهر اللذات المحسوسة وإن كان لا نسبة بين هذه اللذة واللذات الحسية ومنها ما قيل لم قيل مما سواهما ولم يقل ممن سواهما وأجيب بأن ما أعم بخلاف من فإنها للعقلاء فقط ومنها ما قيل كيف قال سواهما بإشراك الضمير بينه وبين الله عز و جل والحال أنه أنكر على من فعل ذلك وهو الخطيب الذي قال ومن يعصهما فقد غوى فقال بئس الخطيب أنت وأجيب بأن هذا ليس من هذا لأن المراد في الخطب الإيضاح وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ ليحفظ وما يدل عليه ما جاء في سنن أبي داود ومن يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه وقال القاضي عياض وأما تثنية الضمير ههنا فللإيماء يماء على أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة فإنها وحدها ضائعة لاغية وأمر بالإفراد في حديث الخطيب إشعارا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزامه الغواية إذ العطف في تقرير التكرير والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم وقال الأصوليون أمر بالإفراد لأنه أشد تعظيما والمقام يقتضي ذلك ويقال إنه من الخصائص فيمتنع من غير النبي ولا يمتنع منه لأن غيره إذا جمع أوهم

(1/149)


اطلاقه التسوية بخلاف النبي فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك ويقال إن كلامه هنا جملة واحدة فلا يحسن إقامة الظاهر فيها مقام المضمر وكلام الذي خطب جملتان لا يكره إقامة الظاهر فيها مقام المضمر ويقال إن المتكلم لا يتوجه تحت خطاب نفسه إذا وجهه لغيره ويقال إن الله تعالى أمر نبيه أن يشرف من شاء بما شاء كما أقسم بكثير من مخلوقاته وكذلك له أن يأذن لنبيه ويحجره على غيره ويقال العمل بخبر المنع أولى لأن الخبر الآخر يحتمل الخصوص ولأنه ناقل والآخر مبني في الأصل ولأنه قول والثاني فعل
10 -
( باب علامة الإيمان حب الانصار )
أي هذا باب ويجوز بالإضافة إلى الجملة والتقدير باب فيه علامة الإيمان حب الأنصار وجه المناسبة بين البابين أن هذا الباب داخل في نفس الأمر في الباب الأول لأن حب الأنصار داخل في قوله وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله فإن قلت فما فائدة التخصيص قلت الاهتمام بشأنهم والعناية بتخصيصهم في إفرادهم بالذكر
17 - حدثنا ( أبو الوليد ) قال حدثنا ( شعبة ) قال أخبرني ( عبد الله بن عبد الله بن ) قال ( جبر ) سمعت ( أنسا ) عن النبي قال آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
( بيان رجاله ) وهم أربعة الأول أبو الوليد الطيالسي هشام بن عبد الملك البصري مولى باهلة سمع مالكا وشعبة والحمادين وسفيان بن عيينة وآخرين روى عنه أبو زرعة وأبو حاتم وإسحاق بن راهويه ومحمد بن يحيى ومحمد بن مسلم بن وارة قال أحمد بن حنبل متقن وقال أبو زرعة ادرك الوليد نصف الإسلام وكان إماما في زمانه جليلا عند الناس وقال أحمد بن عبد الله هو ثقة في الحديث يروي عن سبعين امرأة وكانت الرحلة بعد أبي داود الطيالسي إليه ولد سنة ست وثلاثين ومائة ومات سنة سبع وعشرين ومائتين روى عنه البخاري وأبو داود وروى الباقون عن رجل عنه الثاني شعبة بن الحجاج الثالث عبد الله بن عبد الله بن جبر بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة وفي آخره راء ابن عتيك الأنصاري المدني أهل المدينة يقولون جابر والعراقيون جبر سمع عمر وأنسا روى عنه مالك ومسعر وشعبة روى له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي الرابع أنس بن مالك رضي الله عنه
( بيان الأنساب ) الطيالسي نسبة إلى بيع الطيالسة وهو جمع طيلسان بفتح اللام وقيل بكسرها أيضا والفتح أعلى والهاء في الجمع للعجمة لأنه فارسي معرب قال الأصمعي أصله تالشان والأنصاري ليس بنسبة لأب ولا لأم بل الأنصار قبيل عظيم من الأزد سميت بذلك لنصرتهم رسول الله والنسبة إنما تكون إلى الواحد وواحد الأنصار ناصر مثل أصحاب وصاحب وكان القياس في النسبة إلى الأنصار ناصري فقالوا أنصاري كأنهم جعلوا الأنصار اسم المعنى والمدني نسبة إلى مدينة النبي كما يقال في النسبة إلى ربيع ربعي وفي جذيمة جذمي وقد تنسب هذه النسبة إلى غيرها من المدن قال الرشاطي قالوا في الرجل والثوب إذا نسب إلى المدينة مدني والطير ونحوه مديني وفي ( مختصر العين ) يقال رجل مدني وحمام مديني وقال الجوهري إذا نسبت إلى مدينة الرسول عليه السلام قلت مدني وإلى مدينة منصور قلت مديني وإلى مدائن كسرى قلت مدائني للفرق بين النسب لئلا تختلط
( بيان لطائف أسناده ) ومنها أن هذا الإسناد من رباعيات البخاري فوقع عاليا ووقع لمسلم خماسيا ومنها أن فيه التحديث والإخبار بالجمع والإفراد والسماع ومنها أن فيه راويا وافق اسمه اسم أبيه
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري ههنا وأخرجه أيضا في فضائل الأنصار عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة به وأخرجه مسلم عن ابن المثنى عن عبد الرحمن ابن مهدي عن شعبة به ولفظ مسلم آية المنافق وآية المؤمن وأخرجه النسائي أيضا

(1/150)


( بيان اللغات ) قوله آية الإيمان أي علامة الإيمان واصلها أوية بالتحريك قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها قال سيبويه موضع العين من الآية واو لأن ما كان موضع العين واوا وموضع اللام ياء أكثر مما موضع العين واللام ياآن مثل شويث أكثر من جبيت وتكون النسبة إليه أوي قال الفراء هي من الفعل فاعلة وإنما ذهبت منه اللام ولو جاءت تامة لجاءت آيية ولكنها خففت وجمع الآية آي وأياي وآيات ويقال في النسبة إلى آية آيي والمشهور أن عينها ياء ووزنها فاعة لأن الأصل آيية فحذفوا الياء الثانية التي هي لام ثم فتحوا التي هي عين لأجل تاء التأنيث قوله الأنصار جمع ناصر كالأصحاب جمع صاحب ويقال جمع نصير كشريف وأشراف والأنصار سموا به لنصرتهم النبي وهو ولد الأوس والخزرج ابنا حارثة أو ثعلبة العنقاء لطول عنقه ابن عمرو بن مزيقيا بن عامر بن ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرىء القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن وهو جماع غسان بن الأزد واسمه دراء على وزن فعال ابن الغوث بن نبت يعرب بن يقطن وهو قحطان وإلى قحطان جماع اليمن وهو أبو اليمن كلها ومنهم من ينسبه إلى إسماعيل فيقول قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إسماعيل هذا قول الكلبي ومنهم من ينسبه إلى غيره فيقول قحطان بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام فعلى الأول العرب كلها من ولد إسماعيل عليه السلام وعلى الثاني من ولد إسماعيل وقحطان وقال حسان بن ثابت ( أما سألت فإنا معشر نجبالأزد نسبتنا والماء غسان )
وغسان ماء كان شربا لولد مازن بن الأزد وكان الأنصار الذين هم الأوس والخزرج يعرفون قبل ذلك بإبني قيلة بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف وهي الام التي تجمع القبيلتين فسماهم النبي الأنصار فصار ذلك علما عليهم وأطلق أيضا على أولادهم وحلفائهم ومواليهم ويقال سماهم الله تعالى بذلك فقال والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا ( الأنفال 74 ) قوله النفاق هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر وقال ابن الأنباري في الاعتلال في تسمية المنافق منافقا ثلاثة أقوال أحدها أنه سمي به لأنه يستر كفره ويغيبه فشبه بالذي يدخل النفق وهو السرب يستتر فيه والثاني أنه نافق كاليربوع فشبه به لأنه يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي دخل فيه والثالث أنه إنما سمي به لإظهاره غير ما يضمر تشبيها باليربوع فكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر ونافق اليربوع أخذ في نافقائه ونفق اليربوع أي استخرجه والنافقاء إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيره وهو موضع يرققه فإذا أتى من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج ثم أعلم أن النفاق هو بكسر النون وأما النفاق بالفتح فهو من نفق البيع نفاقا إي راج ونفقت الدابة نفوقا أي ماتت والنفاق بالكسر أيضا جمع النفقة من الدراهم وغيرها مثال ثمرة وثمار ونفقت نفاق القوم بالكسر ينفق نفقا بالتحريك أي فنيت وأنفق الرجل ماله وانفق القوم نفقت سوقهم وقال تعالى خشية الانفاق ( الإسراء 100 ) أي خشية الفناء والنفاد وقال قتادة أي خشية إنفاقه وقال الصغاني التركيب يدل على انقطاع الشيء وذهابه وعلى إخفاء شيء وإغماضه
( بيان الإعراب ) قوله آية الإيمان كلام إضافي مرفوع بالابتداء وخبره قوله حب الأنصار ومثل هذه تسمى قضية ثنائية وأهل المعقول يشترطون الرابطة ويقولون التقدير في مثلها آية الإيمان هي حب الأنصار كما يقدرون في نحو زيد قائم زيد هو قائم ويسمونها قضية ثلاثية وقد ضبط أبو البقاء العكبري إنه الإيمان حب الأنصار بهمزة مكسورة ونون مشددة وهاء الضمير وبرفع الإيمان فاعربه فقال إن للتأكيد والهاء ضمير الشان والإيمان مبتدأ وما بعده خبره والتقدير إن الشان الإيمان حب الأنصار وهذا مخالف لجميع الروايات التي وقعت في الصحاح والسنن والمسانيد وما أقربه أن يكون تصحيفا قوله وآية النفاق أيضا كلام إضافي مبتدأ وقوله بغض الأنصار خبره
( بيان المعاني ) فيه ما قال أهل المعاني من إن المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين تفيد الحصر ولكن هذا ليس بحصر حقيقي بل هو حصر ادعائي تعظيما لحب الأنصار كان الدعوى أنه لا علامة لإيمان إلا حبهم وليس حبهم إلا علامته ويؤيده ما قد جاء في صحيح مسلم آية المؤمن من حب الأنصار بتقديم الآية وحب الأنصار آية الإيمان بتقديم الحب فإن

(1/151)


قلت إذا كان حب الأنصار آية الإيمان فبغضهم آية عدمه لأن حكم نقيض الشيء نقيض حكم الشيء فما الفائدة في ذكر آية النفاق بغض الأنصار قلت هذا التقرير ممنوع ولئن سلمنا فالفائدة في ذكره التصريح به والتأكيد عليه والمقام يقتضي ذلك لأن المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار وبيان فضلهم لما كان منهم من إعزاز الدين وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصر وغير ذلك قالوا وهذا جار في أعيان الصحابة كالخلفاء وبقية العشرة والمهاجرين بل في كل الصحابة إذ كل واحد منهم له سابقة وسالفة وغناء في الدين وأثرحسن فيه فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان وبغضهم محض النفاق ويدل عليه ما روي مرفوعا في فضل أصحابه كلهم من أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم وقال القرطبي وأما من أبغض والعياذ بالله أحدا منهم من غير تلك الجهة لأمر طار من حدث وقع لمخالفة غرض أو لضرر ونحوه لم يصر بذلك منافقا ولا كافرا فقد وقع بينهم حروب ومخالفات ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام فإما أن يقال كلهم مصيب أو المصيب واحد والمخطىء معذور مع أنه مخاطب بما يراه ويظنه فمن وقع له بغض في أحد منهم والعياذ بالله لشيء من ذلك فهو عاص تجب عليه التوبة ومجاهدة نفسه بذكر سوابقهم وفضائلهم وما لهم على كل من بعدهم من الحقوق إذ لم يصل أحد من بعدهم لشيء من الدين والدنيا إلا بهم وبسببهم قال الله تعالى والذين جاؤوا من بعدهم ( الحشر 10 ) الآية وقد أجاب بعضهم عن الحصر المذكور بأن العلامة كالخاصة تطرد ولا تنعكس ثم قال وإن أخذ من طريق المفهوم فهو مفهوم لقب لا عبرة به قلت هذا الحصر يفيد حصر المبتدأ على الخبر ويفيد حصر الخبر على المبتدأ وهو نظير قولك الضاحك الكاتب فإن معناه حصر الضاحك على الكاتب وحصر الكاتب على الضاحك وكيف يدعي فيه الاطراد دون الانعكاس فإن آية الإيمان كما هي محصورة على حب الأنصار كذلك حب الأنصار محصور على آية الإيمان بمقتضى هذا الحصر ولكن قد قلنا إن هذا حصر ادعائي فلا يلزم منه المحذور
( الأسئلة والأجوبة ) منها ما قيل الأنصار جمع قلة فلا يكون لما فوق العشرة لكنهم كانوا أضعاف الآلاف وأجيب بأن القلة والكثرة إنما تعتبران في نكرات الجموع وأما في المعارف فلا فرق بينهما ومنها ما قيل المطابقة تقتضي أن يقابل الإيمان بالكفر بأن يقال آية الكفر كذا فلم عدل عنه وأجيب بأن البحث في الذين ظاهرهم الإيمان وهذا البيان ما يتميز به المؤمن الظاهري عن المؤمن الحقيقي فلو قيل آية الكفر بغضهم لا يصح إذ هو ليس بكافر ظاهرا ومنها ما قيل هل يقتضي ظاهر الحديث أن من لم يحبهم لا يكون مؤمنا وأجيب بأنه لا يقتضي إذ لا يلزم من عدم العلامة عدم ما له العلامة أو المراد كمال الإيمان ومنها ما قيل هل يلزم منه أن من أبغضهم يكون منافقا وإن كان مصدقا بقلبه وأجيب بأن المقصود بغضهم من جهة أنهم أنصار لرسول الله ولا يمكن اجتماعه مع التصديق لرسول الله
11 -
( باب )
كذا وقع باب في كل النسخ وغالب الروايات بلا ترجمة وسقط عند الأصيلي بالكلية فالوجه على عدمه هو أن الحديث الذي فيه من جملة الترجمة التي قبله وعلى وجوده هو أنه لما ذكر الأنصار في الباب الذي قبله أشار في هذا الباب إلى ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار لأن أول ذلك كان ليلة العقبة لما توافقوا مع النبي عند عقبة منى في الموسم ولأن الأبواب الماضية كلها في أمور الدين ومن جملتها كان حب الأنصار والنقباء كانوا منهم ولمبايعتهم أثر عظيم في إعلاء كلمة الدين فلا جرم ذكرهم عقيب الأنصار ولما لم يكن له ترجمة على الخصوص وكان فيه تعلق بما قبله فصل بينهما بقوله باب كما يفعل بمثل هذا في مصنفات المصنفين بقولهم فصل كذا مجردا فإن قلت أهو معرب أم لا قلت كيف يكون معربا والإعراب لا يكون إلا بالتركيب وإنما حكمه حكم الأسامي التي تعد بلا تركيب بعضها ببعض فافهم

(1/152)


18 - حدثنا ( أبو اليمان ) قال أخبرنا ( شعيب ) عن ( الزهري ) قال أخبرني ( أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله ) أن ( عبادة بن الصامت ) رضي الله عنه وكان شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله قال وحوله عصابة من أصحابه بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا لا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك
وجه تخصيص الذكر بهذا الحديث هنا أن الانصار هم المبتدئون بالبيعة على إعلاء توحيد الله وشريعته حتى يموتوا على ذلك فحبهم علامة الإيمان مجازاة لهم على حبهم من هاجر إليهم ومواساتهم لهم في أموالهم كما وصفهم الله تعالى واتباعا لحب الله لهم قال الله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ( آل عمران 31 ) وكان الأنصار ممن تبعه أولا فوجب لهم محبة الله ومن أحب الله وجب على العباد حبه
( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول أبو اليمان الحكم بن نافع الحمصي الثاني شعيب بن أبي حمزة القرشي الثالث محمد بن مسلم الزهري الرابع أبو إدريس عائذ الله بالذال المعجمة بن عبد الله بن عمر الخولاني الدمشقي روى عن عبد الله بن مسعود وعن معاذ على الأصح وسمع عبادة بن الصامت وأبا الدرداء وخلقا كثيرا ولد يوم حنين وقال ابن ميمونة ولاه عبد الملك القضاء بدمشق وكان من عباد الشام وقرائهم مات سنة ثمانين روى له الجماعة الخامس عبادة بضم العين ابن الصامت بن قيس بن أحرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم وهو قوقل بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الوليد الأنصاري الخزرجي شهد العقبة الأولى والثانية وبدرا وأحدا وبيعة الرضوان والمشاهد كلها مع رسول الله روي له عن رسول الله مائة وأحد وثمانون حديثا اتفقا منها على ستة أحاديث وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بحديثين وهو أول من ولي قضاء فلسطين وكان طويلا جسيما جميلا فاضلا توفي سنة أربع وثلاثين وفي ( الاستيعاب ) وجهه عمر رضي الله عنه إلى الشام قاضيا ومعلما فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين ومات بها ودفن ببيت المقدس وقبره بها معروف وقيل توفي بالرملة واعلم أن عبادة بن الصامت فرد في الصحابة رضي الله عنهم وفيهم عبادة بدون ابن الصامت اثني عشر نفسا
( بيان الأنساب ) الخولاني في قبائل حكى الهمداني في كتاب ( الأكليل ) قال خولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة وخولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة بن ادد قال وخولان حضور وخولان ردع هو ابن قحطان وفي كتاب ( المعارف ) خولان بن سعد بن مذحج وأبو إدريس من خولان ابن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة بن ادد وكذلك منهم أبو مسلم الخولاني واسمه عبد الرحمن بن مشكم وخولان فعلان من خال يخول يقال منه فلان خائل إذا كان حسن القيام على المال والخزرجي نسبة إلى الخزرج وهو أخ الأوس وقال ابن دريد الخزرج الريح العاصف
( بيان لطائف إسناده ) منها أن الأسناد كله شاميون ومنها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة وقد مر الكلام بين حدثنا وأخبرنا ومنها أن فيه رواية القاضي عن القاضي وهما أبو إدريس وعبادة بن الصامت ومنها أن فيه رواية من رأى النبي عليه السلام عمن رأى النبي عليه السلام وذلك لأن أبا إدريس من حيث الرواية تابعي كبير ومع هذا قد ذكر في الصحابة لأن له رواية وأبوه عبد الله بن عمرو الخولاني صحابي
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري في خمسة مواضع هنا وفي المغازي والأحكام عن أبي اليمان عن شعبة وفي وفود الأنصار عن إسحاق بن منصور عن يعقوب عن أبي أخي الزهري وعن علي عن ابن عيينة قال البخاري عقيبه وتابعه عبد الرزاق عن معمر وفي الحدود عن ابن يوسف عن معمر وأخرجه مسلم في الحدود عن يحيى

(1/153)


بن يحيى وابن بكر الناقد وإسحاق بن نمير عن ابن عيينة وعن عبد الرزاق عن معمر كلهم عن الزهري به وأخرجه الترمذي مثل إحدى روايات البخاري ومسلم قال كنا مع رسول الله في مجلس فقال تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق وأخرجه النسائي ولفظه قال بايعت رسول الله ليلة العقبة في رهط فقال أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تشربوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فأخذ به في الدنيا فهو كفارة له وطهور ومن ستره الله فذلك إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وله في الأخرى نحو رواية الترمذي
( بيان اللغات ) قوله وكان شهد أي حضر وأصل الشهود الحضور يقال شهده شهودا أي حضره وهو من باب علم يعلم وجاء شهد بالشيء بضم الهاء يشهد به من الشهادة قال في ( العباب ) هذه لغة في شهد يشهد وقرأ الحسن البصري وما شهدنا إلا بما علمنا ( يوسف 81 ) بضم الهاء وقوم شهود أي حضور وهو في الأصل مصدر كما ذكرنا وشهد له بكذا شهادة أي أدى ما عنده من الشهادة وشهد الرجل على كذا شهادة وهو خبر قاطع قوله بدرا وهو موضع الغزوة الكبرى العظمى لرسول الله يذكر ويؤنث ماء معروف على نحو أربعة مراحل من المدينة وقد كان لرجل يدعى بدرا فسميت باسمه قلت بدر اسم بئر حفرها رجل من بني النجار اسمه بدر وفي ( العباب ) فمن ذكر قال هو اسم قليب ومن أنثه قال هو اسم بئر وقال الشعبي بدر بئر كانت لرجل سمي بدرا أو قال أهل الحجاز هو بدر بن قريش بن الحارث بن يخلد بن النضر وقال ابن الكلبي هو رجل من جهينة قوله أحد النقباء جمع نقيب وهو الناظر على القوم وضمينهم وعريفهم وقد نقب على قومه ينقب نقابة مثال كتب يكتب كتابة إذا صار نقيبا وهو العريف قال الفراء إذا أردت أنه لم يكن نقيبا بفعل قلت نقب نقابة بالضم نقابة بالفتح ونقب بالكسر لغة قال سيبويه النقابة بالكسر اسم وبالفتح المصدر مثل الولاية والولاية قوله ليلة العقبة أي العقبة التي تنسب إليها جمرة العقبة التي بمنى وعقبة الجبل معروفة وهو الموضع المرتفع العالي منه وفي ( العباب ) التركيب يدل على ارتفاع وشدة وصعوبة قوله وحوله يقال حوله وحواله وحواليه وحوليه بفتح اللام في كلها أي يحيطون به قوله عصابة بكسر العين وهي الجماعة من الناس لا واحد لها وهو ما بين العشرة إلى الأربعين وأخذ إما من العصب الذي بمعنى الشدة كأنهم يشد بعضهم بعضا ومنه العصابة أي الخرقة تشد على الجبهة ومنه العصب لأنه يشد الأعضاء بمعنى الإحاطة يقال عصب فلان بفلان إذا أحاط به قوله بايعوني من المبايعة والمبايعة على الإسلام عبارة عن المعاقدة والمعاهدة عليه سميت بذلك تشبيها بالمعاوضة المالية كأن كل واحد منهما يبيع ما عنده من صاحبه فمن طرف رسول الله وعد الثواب ومن طرفهم التزام الطاعة وقد تعرف بأنها عقد الإمام العهد بما يأمر الناس به وفي باب وفود الأنصار تعالوا بايعوني قوله لا تشركوا بالله شيئا أي وحدوه سبحانه وتعالى وهذا هو أصل الإيمان وأساس الإسلام فلذلك قدمه على أخوته قوله شيئا عام لأنه نكرة في سياق النهي لأنه كالنفي قوله ببهتان البهتان بالضم الكذب الذي يبهت سامعه أي يدهشه لفظاعته يقال بهته بهتانا إذا كذب عليه بما يبهته من شدة نكره وزعم البناني أن أبا زيد قال بهته يبهته بهتانا رماه في وجهه أو من ورائه بما لم يكن والبهات الذي يعيب الناس بما لم يفعلوا وقال يعقوب والكسائي هو الكذب وقال صاحب ( العين ) البهت استقبالك بأمر تقذفه به وهو منه بريء لايعلمه والاسم البهتان والبهت أيضا الحيرة وقال الزجاج وقطرب بهت الرجل انقطع وتحير وبهذا المعنى بهت وبهت قال والبهتان الكذب الذي يتحير من عظمه وشأنه وقد بهته إذا كذب عليه زاد قطرب بهاتة وبهتا وفي ( المحكم ) باهته استقلبه بأمر يقذفه به وهو منه بريء لا يعلمه والبهيتة الباطل الذي يتحير من بطلانه والبهوت المباهت والجمع بهت وبهوت وعندي أن بهوتا جمع باهت لا جمع بهوت وقراءة السبع فبهت الذي كفر ( يوسف 258 ) وقراءة ابن حيوة فبهت بضم الهاء لغة في بهت وقال ابن جني وقد يجوز أن يكون بهت بالفتح لغة في بهت وقال الأخفش قراءة بهت كدهش وحزن قال وبهت بالضم أكثر من بهت بالكسر يعني أن الضمة تكون للمبالغة وفي ( المنتهى ) لأبي المعالي بهته يبهته بهتا إذا أخذه بغتة وبهته بهتا وبهتانا وبهتا فهو بهاة إذا قال عليه ما لم يفعله مواجهة وهو مبهوت والبهت لا يكون إلا مواجهة بالكذب على الإنسان

(1/154)


وأما قول أبي النجم ( سبى الحماة وابهتوا عليها )
فإن على مقحمة وإنما الكلام بهته ولا يقال بهت عليه وفي ( الصحاح ) بهت الرجل بالكسر إذا دهش تحير وبهت بالضم مثله وأفصح منهما بهت لأنه يقال رجل مبهوت ولا يقال باهت ولا بهيت قاله الكسائي قلت فيه نظر لما مر ولقول القزاز بهت يبهت وفيه لغة أخرى وهي بهت يبهت بهتا قال هو وابن دريد في ( الجمهرة ) هو رجل باه وبهات وقال الهروي ولا يأتين ببهتان ( الممتحنة 12 ) أي لا يأتين بولد عن معارضته فتنسبه إلى الزوج كان ذلك بهتان وفرية ويقال كانت المرأة تلتقط الولد فتتبناه وقال الخطابي معناه ههنا قذف المحصنات وهو من الكبائر ويدخل فيه الاغتياب لهن ورميهن بالمعصية وقال أيضا لا تبهتوا الناس بالمعايب كفاحا ومواجهة وهذا كما يقول الرجل فعلت هذا بين يديك أي بحضرتك قوله تفترونه من الافتراء وهو الاختلاق والفرية الكذب يقال فرى فلان كذا إذا أختلقه وافتراه اختلقه والاسم الفرية وفلان يفري الفرى إذا كان يأتي بالعجب في عمله قال تعالى لقد جئت شيئا فريا ( مريم 27 ) أي مصنوعا مختلقا ويقال عظيما قوله ولا تعصوا وفي باب وفود الأنصار ولا تعصوني والعصيان خلاف الطاعة قوله في معروف أي حسن وهو ما لم ينه الشارع فيه أو معناه مشهور أي ما عرف فعله من الشارع واشتهر منه ويقال في معروف أي في طاعة الله تعالى ويقال في كل بر وتقوى وقال البيضاوي المعروف ما عرف من الشارع حسنه وقال الزجاج أي المأمور به وفي ( النهاية ) هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات قوله فمن وفى منكم أي ثبت على ما بايع عليه يقال بتخفيف الفاء وتشديدها يقال وفى بالعهد وأوفى ووفي ثلاثي ورباعي ووفى بالشيء ثلاثي ووفت ذمتك أيضا و أوفى الشيء ووفي و أوفي الكيل ووفاه ولا يقال فيهما وفى قوله ومن أصاب من ذلك شيئا من هي التبعيضية وشيئا عام لأنه نكرة في سياق الشرط وصرح ابن الحاجب بأنه كالنفي في إفادة العموم كنكرة وقعت في سياقه قوله كفارة الكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها يقال كفرت الشيء أكفر بالكسر كفرا أي سترته ورماد مكفور إذا سفت الريح التراب عليه حتى غطته ومنه الكافر لأنه ستر الإيمان وغطاه
( بيان الإعراب ) قوله عائذ الله عطف بيان عن قوله أبو إدريس ولهذا ارتفع قوله إن عبادة أصله بأن عبادة قوله وكان شهد بدرا الواو فيه هي الواو الداخلة على الجملة الموصوف بها لتأكيد لصوقها بموصوفها وإفادة أن اتصافه بها أمر ثابت وكذلك الواو في قوله وهو أحد النقباء ولا شك أن كون شهود عبادة بدرا وكونه من النقباء صفتان من صفاته ولا يجوز أن تكون الواوان للحال ولا للعطف على ما لا يخفى على من له ذوق سليم قوله بدرا منصوب بقوله شهد وليس هو مفعول فيه وإنما هو مفعول به لأن تقديره شهد الغزوة التي كانت ببدر قوله وهو مبتدأ وخبره أحد النقباء وليلة العقبة نصب على الظرفية قوله أن رسول الله أصله بأن فإن قلت كيف هذا التركيب أن عبادة بن الصامت أن رسول الله ولا شك أن قوله وكان شهد بدرا إلى قوله إن معترض قلت تقديره أن عبادة بن الصامت قال أو أخبر أن رسول الله وهو ساقط من أصل الرواية وسقوط هذا غير جائز وإنما جرت عادة أهل الحديث بحذف قال إذا كان مكررا نحو قال قال رسول الله ومع هذا ينطقون بها عند القراءة وأما هنا فلا وجه لجواز الحذف والدليل عليه أنه ثبت في رواية البخاري هذا الحديث بإسناده هذا في باب من شهد بدرا والظاهر أنها سقطت من النساخ من بعده فاستمروا عليه وقد روى أحمد بن حنبل عن أبي اليمان بهذا الإسناد أن عبادة حدثه قوله قال جملة في محل الرفع لأنها خبر إن قوله وحوله عصابة جملة اسمية وقعت حالا وقوله عصابة هي المبتدأ و حوله نصب على الظرفية مقدما خبره قوله من أصحابه جملة في محل الرفع على أنها صفة للعصابة أي عصابة كائنة من أصحابه من للتبعيض ويجوز أن تكون للبيان قوله بايعوني جملة مقول القول قوله على أنكلمة أن مصدرية أي على ترك الإشراك بالله شيئا قوله ولا تسرقوا وما بعده كلها عطف على لا تشركوا قوله تفترونه جملة في محل الجر على أنها صفة لبهتان قوله ولا تعصوا أيضا عطف على المنفي فيما قبله قوله فمن وفى كلمة من شرطية مبتدأ ووفى جملة صلتها قوله فأجره مبتدأ ثان وقوله على الله خبره والجملة خبر المبتدأ الأول ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ الشرط قوله

(1/155)


ومن مبتدأ موصولة تتضمن معنى الشرط وأصاب جملة صلتها شيئا مفعولة قوله فعوقب على صيغة المجهول عطف على قوله أصاب قوله فهومبتدأ ثان وقوله كفارة خبره والجملة خبر المبتدأ الأول والفاء لأجل الشرط قوله ومن أصاب الخ إعرابه مثل إعراب ما قبله فإن قلت فلم قال في قوله فعوقب بالفاء وفي قوله ثم ستره الله بثم قلت الفاء ههنا للتعقيب ثم التعقيب في كل شيء بحسبه فيجوز ههنا أن يكون بين الإصابة والعقاب مدة طويلة أو قصيرة وذلك بحسب الوقوع ويجوز أن تكون الفاء للسببية كما في قوله تعالى ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ( الحج 63 ) وأما ثم فإن وضعها للتراخي وقد يتخلف وههنا ثم ليست على بابها لأن الستر عند إرادة الله تعالى تكون عقيب الإصابة ولا يتراخى فافهم
( بيان المعاني ) قوله وكان شهد بدرا قد قلنا إنه صفة لعبادة و الواو لتأكيد لصوقها بالموصوف فإن قلت هذا كلام من قلت يجوز أن يكون من كلام أبي إدريس فيكون متصلا إذا حمل على أنه سمع ذلك من عبادة ويجوز أن يكون من كلام الزهري فيكون منقطعا وكذا الكلام في قوله وهو أحد النقباء والمراد من النقباء نقباء الأنصار وهم الذين تقدموا لأخذ البيعة لنصرة رسول الله ليلة العقبة وهم اثني عشر رجلا وهم العصابة المذكورة أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث وأخوه معاذ وهما ابنا عفراء وذكوان بن عبد قيس وذكر ابن سعد في طبقاته أنه مهاجري أنصاري ورافع بن مالك الزرقيان وعبادة بن الصامت وعباس بن عبادة بن نضلة ويزيد بن ثعلبة من بلى وعقبة بن عامر وقطبة بن عامر فهؤلاء عشرة من الخزرج ومن الأوس أبو الهيثم بن التيهان من بلي وعويم بن ساعدة اعلم أن رسول الله كان يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم فبينما هو عند العقبة إذا لقي رهطا من الخزرج فقال ألا تجلسون أكلمكم قالوا بلى فجلسوا فدعاهم إلى الله تعالى وعرض عليهم الإسلام وتلى عليهم القرآن وكانوا قد سمعوا من اليهود أن النبي قد أظل زمانه فقال بعضهم لبعض والله إنه لذاك فلا تسبقن اليهود عليكم فأجابوه فلما انصرفوا إلى بلادهم وذكروه لقومهم فشا أمر رسول الله فيهم فأتى في العام القابل اثنا عشر رجلا إلى الموسم من الأنصار أحدهم عبادة بن الصامت فلقوا رسول الله بالعقبة وهي بيعة العقبة الأولى فبايعوه بيعة النساء يعني ما قال الله تعالى يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن ( الممتحنة 12 ) ثم انصرفوا وخرج في العام الآخر سبعون رجلا منهم إلى الحج فواعدهم رسول الله أوسط أيام التشريق قال كعب بن مالك لما كانت الليلة التي وعدنا فيها بتنا أول الليل مع قومنا فلما استثقل الناس من النوم تسللنا من فرشنا حتى اجتمعنا بالعقبة فأتانا رسول الله مع عمه العباس لا غير فقال العباس يا معشر الخزرج إن محمدا منا حيث علمتم وهو في منعة ونصرة من قومه وعشيرته وقد أبي إلا الانقطاع إليكم فإن كنتم وافين بما عاهدتموه فأنتم وما تحملتم وإلا فاتركوه في قومه فتكلم رسول الله داعيا إلى الله مرغبا في الإسلام تاليا للقرآن فأجبناه بالإيمان فقال إني أبايعكم على أن تمنعوني مما منعتم به أبناءكم فقلنا ابسط يدك نبايعك عليه فقال أخرجوا إلي منكم اثنتي عشر نقيبا فاخرجنا من كل فرقة نقيبا وكان عبادة نقيب بني عوف فبايعوه وهذه بيعة العقبة الثانية وله بيعة ثالثة مشهورة وهي البيعة التي وقعت بالحديبية تحت الشجرة عند توجهه من المدينة إلى مكة تسمى بيعة الرضوان وهذه بعد الهجرة بخلاف الأوليين وعبادة شهدها أيضا فهو من المبايعين في الثلاث رضي الله عنه قوله ولا تسرقوا فيه حذف المفعول ليدل على العموم قوله فعوقب فيه حذف أيضا تقديره فعوقب به وهكذا هو في رواية أحمد قوله فهو أي العقاب وهذا مثل هو في قوله تعالى اعدلوا هو أقرب للتقوى ( المائدة 8 ) فإنه يرجع إلى العدل الذي دل عليه اعدلوا وكذلك قوله فعوقب يدل على العقاب وقوله هو يرجع إليه قوله كفارة فيه حذف أيضا تقديره كفارة له وهكذا في رواية أحمد وكذا في رواية للبخاري في باب المشيئة من كتاب التوحيد وزاد أيضا وطهور قال النووي عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ( النساء 48 و 116 ) فالمرتد إذا قتل على الردة لا يكون القتل

(1/156)


له كفارة قلت أو يكون مخصوصا بالاجماع أو لفظ ذلك إشارة إلى غير الشرك بقرينة الستر فإنه يستقيم في الأفعال التي يمكن إظهارها واخفاؤها وأما الشرك أي الكفر فهو من الأمور الباطنة فإنه ضد الإيمان وهو التصديق القلبي على الأصح وقال الطيبي قالوا المراد منه المؤمنون خاصة لأنه معطوف على قوله فمن وفى وهو خاص بهم لقوله منكم تقديره ومن أصاب منكم أيها المؤمنون من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا أي أقيم الحد عليه لم يكن له عقوبة لأجل ذلك القيام وهو ضعيف لأن الفاء في فمن لترتب ما بعدها على ما قبلها والضمير في منكم للعصابة المعهودة فكيف يخصص الشرك بالغير فالصحيح أن المراد بالشرك الرياء لأنه الشرك الخفي قال الله تعالى ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ( الكهف 110 ) ويدل عليه تنكير شيئا أي شركا أيا ما كان وفيه نظر لأن عرف الشارع يقتضي أن لفظة الشرك عند الإطلاق تحمل على مقابل التوحيد سيما في أوائل البعثة وكثرة عبدة الأصنام وأيضا عقيب الإصابة بالعقوبة في الدنيا والرياء لا عقوبة فيه فتبين أن المراد الشرك وأنه مخصوص
وقال الشيخ الفقيه عبد الواحد السفاقسي في ( شرحه للبخاري ) في قوله فعوقب به في الدنيا يريد به القطع في السرقة والحد في الزنا وأما قتل الولد فليس له عقوبة معلومة إلا أن يريد قتل النفس فكنى بالأولاد عنه وعلى هذا إذا قتل القاتل كان كفارة له وحكي عن القاضي إسماعيل وغيره أن قتل القاتل حد وإرداع لغيره وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم لأنه لم يصل إليه حق وقيل يبقى له حق التشفي قلت وردت أحاديث تدل صريحا أن حق المقتول يصل إليه بقتل القاتل منها ما رواه ابن حبان وصححه أن السيف محاء للخطايا ومنها ما رواه الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال إذا جاء القتل محى كل شيء وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما نحوه ومنها ما رواه البزار عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا لا يمر القتل بذنب إلا محاه وقوله إن قتل القاتل حد وإرداع الخ فيه نظر لأنه لو كان كذلك لم يجز العفو عن القاتل وقال القاضي عياض ذهب أكثر العلماء إلى الحدود كفارة لهذا الحديث ومنهم من وقف لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا لكن حديث عبادة أصح إسنادا ويمكن يعني على طريق الجمع بينهما أن يكون حديث أبي هريرة ورد أولا قبل أن يعلم ثم أعلمه الله تعالى آخرا
وقال الشيخ قطب الدين واحتج من وفق بقوله تعالى ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ( المائدة 33 ) لكن من قال إن الآية في الكفارة فلا حجة فيها وأيضا يمكن أن يكون حديث عبادة مخصصا لعموم الآية أو مبينا أو مفسرا لها فإن قيل حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة لما بايع الأنصار رسول الله البيعة الأولى بمنى وأبو هريرة إنما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام خيبر فكيف يكون حديثه متقدما قيل يمكن أن يكون أبو هريرة ما سمعه من النبي وإنما سمعه من صحابي آخر كان سمعه من النبي قديما ولم يسمع من النبي بعد ذلك إن الحدود كفارة كما سمعه عبادة وقال بعضهم فيه تعسف ويبطله أن أبا هريرة رضي الله عنه صرح بسماعه وأن الحدود لم تكن نزلت إذ ذاك والحق عندي أن حديث أبي هريرة صحيح وهو سابق على حديث عبادة والمبايعة المذكورة في حديث عبادة على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة وإنما نص بيعة العقبة ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أن النبي قال لمن حضر من الأنصار أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فبايعوه على ذلك وعلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه ثم صدرت مبايعات أخرى منها هذه البيعة وإنما وقعت بعد فتح مكة بعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة وهي قوله تعالى يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك ( الممتحنة 12 ) ونزول هذه الآية متأخر بعد قصة الحديبية بلا خلاف والدليل على ذلك عند البخاري في كتاب الحدود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري في حديث عبادة هذا أن النبي لما بايعهم قرأ الآية كلها وعنده في تفسير الممتحنة من هذا الوجه قال قرأ آية النساء ولمسلم من طريق معمر عن الزهري قال فتلا علينا آية النساء أن لا يشركن بالله شيئا وللنسائي من طريق الحارث بن فضيل عن الزهري أن رسول الله قال ألا تبايعونني على ما بايع عليه النساء أن لا تشركوا بالله شيئا الحديث وللطبراني من وجه آخر عن الزهري بهذا السند بايعنا رسول الله على ما بايع عليه النساء يوم فتح مكة ولمسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة في هذا الحديث أخذ علينا رسول الله كما

(1/157)


أخذ على النساء فهذه أدلة صريحة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية بل بعد فتح مكة وذلك بعد إسلام أبي هريرة ويؤيد هذا ما رواه ابن أبي خيثمة عن أبيه عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن أيوب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئا فذكر مثل حديث عبادة ورجاله ثقات وقد قال إسحاق بن راهويه إذا صح الإسناد إلى عمرو بن شعيب فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر انتهى
وإذا كان عبد الله بن عمر واحد من حضر هذه البيعة وليس هو من الأنصار ولا ممن حضر بيعتهم بمنى صح تغاير البيعتين بيعة الأنصار ليلة العقبة وهي قبل الهجرة إلى المدينة وبيعة أخرى وقعت بعد فتح مكة وشهدها عبد الله بن عمر وكان إسلامه بعد الهجرة وإنما حصل الالتباس من جهة أن عبادة بن الصامت حضر البيعتين معا وكانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدح به فكان يذكرها إذا حدث تنويها بسابقته فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء عقب ذلك توهم من لم يقف على حقيقة الحال أن البيعة الأولى وقعت على ذلك انتهى كلامه
قلت فيه نظر من وجوه الأول أن قوله ويبطله أن أبا هريرة صرح بسماعه غير مسلم من وجهين أحدهما أنه يحتمل أن يكون أبو هريرة رضي الله عنه سمع من النبي بعدما سمعه من صحابي آخر فلذلك صرح بالسماع وهذا غير ممنوع ولا محال والآخر أنه يحتمل أنه صرح بالسماع لتوثقه بالسماع من صحابي آخر فإن الصحابة كلهم عدول لا يتوهم فيهم الكذب الثاني أن قوله وإن الحدود لم تكن نزلت إذ ذاك لا يلزم من عدم نزول الحدود في تلك الحالة انتفاء كون الحدود كفارات في المستقبل غاية ما في الباب أن النبي أخبر في حديث عبادة أن من أصاب مما يجب فيه الحدود التي تنزل عليها بعد هذا ثم عوقب بسبب ذلك بأن أخذ منه الحد فإن ذلك الحد يكون كفارة له ولا شك أن النبي كان يعلم قبل نزول الحدود أن حال أمته لا تستقيم إلا بالحدود فأخبر في حديث عبادة بناء على ما كان على ما كان علمه قبل الوقوع الثالث أن قوله والحق عندي أن حديث أبي هريرة صحيح غير مسلم لأن الحديث أخرجه الحاكم في ( مستدركه ) والبزار في ( مسنده ) من رواية معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وقد علم مساهلة الحاكم في باب التصحيح على أن الدارقطني قال إن عبد الرزاق تفرد بوصله وإن هشام بن يوسف رواه عن معمر فأرسله فإذا كان الأمر كذلك فمتى يساوي حديث أبي هريرة حديث عبادة بن الصامت حتى يقع بينهما تعارض فيحتاج إلى الجمع والتوفيق فإن قلت قد وصله آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب أخرجه الحاكم أيضا قلت ولو وصله هو أو غيره فإن قطع غيره مما يورث عدم التساوي بحديث عبادة وصحة حديث عبادة متفق عليها بخلاف حديث أبي هريرة على ما نص عليه القاضي عياض وغيره فلا تساوي فلا تعارض فلا احتياج إلى التكلف بالجمع والتوفيق الرابع أن قوله والمبايعة المذكورة في حديث عبادة على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة غير مسلم لأن القاضي عياض وجماعة من الأئمة الأجلاء قد جزموا بأن حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة لما بايع الأنصار رسول الله البيعة الأولى بمنى
ونقيم بصحة ما قالوا دلائل منها أنه ذكر في هذا الحديث وحوله عصابة وفسروا أن العصابة هم النقباء الأثني عشر ولم يكن غيرهم هناك والدليل على صحة هذا ما في رواية النسائي في حديث عبادة هذا قال بايعت رسول الله ليلة العقبة في رهط الحديث وقد قال أهل اللغة إن الرهط ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة قال الله تعالى وكان في المدينة تسعة رهط ( النمل 48 ) قال ابن دريد ربما جاوز ذلك قليلا قاله في ( العباب ) والقليل ضد الكثير وأقل الكثير ثلاثة وأكثر القليل اثنان فإذا أضفنا الإثنين إلى التسعة يكون أحد عشر وكان المراد من الرهط هنا أحد عشر نقيبا ومع عبادة يكونون اثني عشر نقيبا فإذا ثبت هذا فقد دل قطعا أن هذه المبايعة كانت بمكة ليلة العقبة البيعة الأولى لأن البيعة التي وقعت بعد فتح مكة على زعم هذا القائل كان فيها الرجال والنساء وكانوا بعد كثير والثاني أن قوله ليلة العقبة دليل على أن هذه البيعة كانت هي الأولى لأنه لم يذكر في بقية الأحاديث ليلة العقبة وإنما ذكر في حديث الطبراني يوم فتح مكة ولا يلزم

(1/158)


من كون البيعة يوم فتح مكة أن تكون البيعة المذكورة هي إياها غاية الأمر أن عبادة قد أخبر أنه وقعت بيعة أخرى يوم فتح مكة وكان هو فيمن بايعوه عليه السلام والثالث أن ما وقع في الصحيحين من طريق الصنابحي عن عبادة رضي الله عنه قال إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله وقال بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئا الحديث يدل على أن المبايعة المذكورة في الحديث المذكور كانت ليلة العقبة وذلك لأنه أخبر فيه أنه كان من النقباء الذين بايعوا رسول الله ليلة العقبة وأخبر أنهم بايعوه ولم يثبت لنا أن أحدا بايعه عليه السلام قبلهم فدل على أن بيعتهم أول المبايعات وأن الحديث المذكور كان ليلة العقبة وأما احتجاج هذا القائل في دعواه بما وقع في الأحاديث التي ذكرها من قراءة النبي بالآيات المذكورة على ما ذكره فلا يتم لأنه يحتمل أن عبادة لما حضر البيعات مع النبي زسمع منه قراءة الآيات المذكورة في البيعات التي وقعت بعد الحديبية أو بعد فتح مكة ذكرها في حديثه بخلاف حديث البيعة الأولى فإنه ليس فيه قراءة شيء من الآيات وتمسك هذا القائل أيضا بما زاد في رواية الصنابحي في الحديث المذكور ولا ننتهب على أن هذه البيعة متأخرة لأن الجهاد عند بيعة العقبة لم يكن فرضا والمراد بالانتهاب ما يقع بعد القتال في المغانم وهذا استدلال فاسد لأن الانتهاب أعم من أن يكون في المغانم وغيرها وتخصيصه بالمغانم تحكم ومخالف للغة
( استنباط الأحكام ) وهو على وجوه الأول أن آخر الحديث يدل على أن الله لا يجب عليه عقاب عاص وإذا لم يجب عليه هذا لا يجب عليه ثواب مطيع أصلا إذ لا قائل بالفصل الثاني أن معنى قوله فهو إلى الله أي حكمه من الأجر والعقاب مفوض إلى الله تعالى وهذا يدل على أن من مات من أهل الكبائر قبل التوبة إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة أول مرة وإن شاء عذبه في النار ثم يدخله الجنة وهذا مذهب أهل السنة والجماعة وقالت المعتزلة صاحب الكبيرة إذا مات بغير التوبة لا يعفى عنه فيخلد في النار وهذا الحديث حجة عليهم لأنهم يوجبون العقاب على الكبائر قبل التوبة وبعدها العفو عنها الثالث قال المازري فيه رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب الرابع قال الطيبي فيه إشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار على أحد وبالجنة لأحد إلا من ورد النص فيه بعينه الخامس فيه أن الحدود كفارات ويؤيد ذلك ما رواه من الصحابة غير واحد منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخرج حديثه الترمذي وصححه الحاكم وفيه ومن أصاب ذنبا فعوقب به في الدنيا فالله أكرم أن يثني بالعقوبة على عبده في الآخرة ومنهم أبو تميمة الجهني أخرج حديثه الطبراني بإسناد حسن باللفظ المذكور ومنهم خزيمة بن ثابت أخرج حديثه أحمد بإسناد حسن ولفظه من أصاب ذنبا أقيم الحد على ذلك الذنب فهو كفارته ومنهم ابن عمر أخرج حديثه الطبراني مرفوعا ما عوقب رجل على ذنب إلا جعله الله كفارة لما أصاب من ذلك الذنب
( الأسئلة والأجوبة ) منها ما قيل قتل غير الأولاد أيضا منهي إذا كان بغير حق فتخصيصه بالذكر يشعر بأن غيره ليس منهيا وأجيب بأن هذا مفهوم اللقب وهو مردود على أنه لو كان من باب المفهومات المعتبرة المقبولة فلا حكم له ههنا لأن اعتبار جميع المفاهيم إنما هو إذا لم يكن خرج مخرج الأغلب وههنا هو كذلك لأنهم كانوا يقتلون الأولاد غالبا خشية الإملاق فخصص الأولاد بالذكر لأن الغالب كان كذلك قال التيمي خص القتل بالأولاد لمعنيين أحدهما أن قتلهم هو أكبر من قتل غيرهم وهو الوأد وهو أشنع القتل وثانيهما أنه قتل وقطيعة رحم فصرف العناية إليه أكثر ومنها ما قيل ما معنى الإطناب في قوله ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم حيث قيل تأتوا ووصف البهتان بالافتراء والافتراء والبهتان من واد واحد وزيد عليه بين أيديكم وأرجلكم وهلا اقتصر على ولا تبهتوا الناس وأجيب بأن معناه مزيد التقرير وتصوير بشاعة هذا الفعل ومنها ما قيل فما معنى إضافته إلى الأيدي والأرجل وأجيب بأن معناه ولا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم واليد والرجل كنايتان عن الذات لأن معظم الأفعال يقع بهما وقد يعاقب الرجل بجناية قولية فيقال له هذا بما كسبت يداك أو معناه ولا تغشوه من ضمائركم لأن المفتري إذا أراد اختلاق قول فإنه يقدره ويقرره أولا في ضميره ومنشأ ذلك ما بين الأيدي والأرجل من الإنسان

(1/159)


وهو القلب والأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهم والثاني عن إنشاء البهتان من دخيلة قلوبهم مبنيا على الغش المبطن وقال الخطابي معناه لا تبهتوا الناس بالمعايب كفاحا مواجهة وهذا كما يقول الرجل فعلت هذا بين يديك أي بحضرتك وقال التيمي هذا غير صواب من حيث إن العرب وإن قالت فعلته بين أيدي القوم أي بحضرتهم لم تقل فعلته بين أرجلهم ولم ينقل عنهم هذا ألبتة وقال الكرماني هو صواب إذ ليس المذكور الأرجل فقط بل المراد الأيدي وذكر الأرجل تأكيدا له وتابعا لذلك فالمخطىء مخطىء ويقال يحتمل أن يراد بما بين الأيدي والأرجل القلب لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه فلذلك نسب إليه الافتراء فإن المعنى لا ترموا أحدا بكذب تزورونه في أنفسكم ثم تبهتون صاحبكم بألسنتكم وقال أبو محمد بن أبي جمرة يحتمل أن يكون قوله بين أيديكم أي في الحال قوله وأرجلكم أي في المستقبل لأن السعي من أفعال الأرجل وقال غيره أصل هذا كان في بيعة النساء وكنى بذلك كما قال الهروي في ( الغريبين ) عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلتقطه إلى زوجها ثم لما استعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولا قلت وقد جاء في رواية لمسلم ولا نقتل أولادنا ولا يعضه بعضنا بعضا أي لا يسخر وقيل لا يأتي ببهتان يقال عضهت الرجل رميته بالعضيهة قال الجوهري العضيهة البهيتة وهو الإفك والبهتان تقول يا للعضيهة بكسر اللام وهي استغاثة وأصله من عضهه عضها بالفتح وقال الكسائي العضه الكذب وجمعها عضون مثل عزة وعزون ويقال نقصانه الهاء وأصله عضهة ومنها ما قيل لم قيد قوله ولا تعصوا بقوله في معروف وأجيب بأنه قيده بذلك تطييبا لنفوسهم لأنه عليه السلام لا يأمر إلا بالمعروف وقال النووي يحتمل في معنى الحديث ولما تعصوني ولا أجد عليكم أولى من اتباعي إذا أمرتكم بالمعروف فيكون التقييد بالمعروف عائدا إلى الاتباع ولهذا قال لا تعصوا ولم يقل ولا تعصوني قلت في رواية الإسماعيلي في باب وفود الأنصار ولا تعصوني فحينئذ الأحسن هو الجواب الأول وقال الزمخشري في آية المبايعات فإن قلت لو اقتصر على قوله لا يعصينك فقد علم أن رسول الله لا يأمر إلا بالمعروف قلت نبه بذلك على أن طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقي والاجتناب ومنها ما قيل قد ذكر في الاعتقاديات والعمليات كلتيهما فلم اكتفى في الاعتقاديات بالتوحيد وأجيب بأنه هو الأصل والأساس ومنها ما قيل فلم ما ذكر الإتيان بالواجبات واقتصر على ترك المنهيات وأجيب بأنه لم يقتصر حيث قال ولا تعصوا في معروف إذ العصيان مخالفة الأمر أو اقتصر لأن هذه المبايعة كانت في أوائل البعثة ولم تشرع الأفعال بعد ومنها ما قيل لم قدم ترك المنهيات على فعل المأمورات وأجيب بأن التخلي عن الرذائل مقدم على التحلي بالفضائل ومنها ما قيل فلم ترك سائر المنهيات ولم يقل مثلا ولا تقربوا مال اليتيم ( الأنعام 152 والإسراء 34 ) وغير ذلك وأجيب بأنه لم يكن في ذلك الوقت حرام آخر أو اكتفى بالبعض ليقاس الباقي عليه أو لزيادة الاهتمام بالمذكورات ومنها ما قيل إن قوله فأجره على الله يشعر بالوجوب على الله لكلمة على وأجيب بأن هذا وارد على سبيل التفخيم نحو قوله تعالى فقد وقع أجره على الله ( النساء 100 ) ويتعين حمله على غير ظاهره للأدلة القاطعة على أنه لا يجب على الله شيء ومنها ما قيل لفظ الأجر مشعر بأن الثواب إنما هو مستحق كما هو مذهب المعتزلة لا مجرد فضل كما هو مذهب أهل السنة والجماعة وأجيب بأنه إنما أطلق الأجر لأنه مشابه للأجر صورة لترتبه عليه
12 -
( باب من الدين الفرار من الفتن )
أي هذا باب ولا يجوز فيه الإضافة وجه المناسبة بين البابين من حيث إن معنى الباب الأول متضمن معنى هذا الباب وذلك لأن النقباء من الأنصار والانصار كلهم خيروا رسول الله وبذلوا أرواحهم وأموالهم في محبته فرارا بدينهم من فتن الكفر والضلال وكذلك هذا الباب يبين فيه ترك المسلم الاختلاط بالناس ومعاشرتهم واختياره العزلة والانقطاع فرارا بدينه من فتن الناس والاختلاط بهم فإن قلت لم لم يقل باب من الإيمان الفرار من الفتن كما ذكر هكذا في أكثر الأبواب الماضية والأبواب الآتية وأيضا عقد الكتاب في الإيمان قلت إنما قال ذلك ليطابق الترجمة الحديث الذي يذكره في

(1/160)


الباب فإن المذكور فيه الفرار بالدين من الفتن ولا يحتاج أن يقال لما كان الإيمان والإسلام مترادفين عنده وقال الله تعالى إن الدين عند الله الإسلام ( آل عمران 19 ) أطلق الدين في موضع الإيمان فإن قلت قال النووي في الاستدلال بهذا الحديث للترجمة نظر لأنه لا يلزم من لفظ الحديث عد الفرار دينا وإنما هو صيانة للدين قلت لم يرد بكلامه الحقيقة لأن الفرار ليس بدين وإنما المراد أن الفرار للخوف على دينه من الفتن شعبة من شعب الدين ولهذا ذكره بمن التبعيضية وتقدير الكلام باب الفرار من الفتن شعبة من شعب الدين
19 - حدثنا ( عبد الله بن مسلمة ) عن ( مالك ) عن ( عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ) عن أبيه عن ( أبي سعيد الخدري ) أنه قال قال رسول الله يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن
المطابقة بين الحديث والترجمة ظاهرة على ما ذكرنا
( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول عبد الله بن مسلمة بفتح الميم واللام وسكون السين المهملة ابن قعنب أبو عبد الرحمن الحارثي البصري وكان مجاب الدعوة روى عن مالك والليث بن سعد ومخرمة بن بكير وابن أبي ذئب وسمع من أحاديث شعبة حديثا واحدا اتفق على توثيقه وجلالته وأنه حجة ثبت رجل صالح وقيل لمالك إن عبد الله قدم فقال قوموا بنا إلى خير أهل الأرض روى عنه البخاري ومسلم وأكثرا وروى الترمذي والنسائي عن رجل عنه وروى مسلم عن عبد بن حميد عنه حديثا واحدا في الأطعمة مات سنة إحدى وعشرين ومائتين بمكة الثاني مالك بن أنس إمام دار الهجرة الثالث عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة واسمه عمرو بن زيد بن عوف بن منذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج الأنصاري المازني المدني ذكره ابن حبان في ( الثقات ) مات سنة تسع وثلاثين ومائة روى له البخاري والنسائي وابن ماجه وقال الخطيب في كتابه ( رافع الارتياب ) إن الصواب عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة قال ابن المديني ووهم ابن عيينة حيث قال عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة وقال الدارقطني لم يختلف على مالك في اسمه قلت في ( الثقات ) لابن حبان خالفهم مالك فقال عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الرابع أبوه عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري وثقه النسائي وابن حبان وروى له البخاري وأبو داود وكان جده شهد أحدا وقتل يوم اليمامة شهيدا مع خالد بن الوليد رضي الله عنه وأبوه عمرو مات في الجاهلية قتله بردع بن زيد بن عامر بن سواد بن ظفر من الأوس ثم أسلم بردع وشهد أحدا الخامس أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان بن عبيد وقيل عبد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري وزعم بعضهم أن خدرة هي أم الأبجر استصغر يوم أحد فرد وغزا بعد ذلك اثنتي عشرة غزوة مع رسول الله واستشهد أبوه يوم أحد روي له ألف حديث ومائة وسبعون حديثا اتفقا منها على ستة وأربعين وانفرد البخاري بستة عشر ومسلم باثنتين وخمسين روى عن جماعة من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة ووالده مالك وأخوه لأمه قتادة بن النعمان وروى عنه جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن عباس وخلق من التابعين توفي بالمدينة سنة أربع وستين وقيل أربع وسبعين روى له الجماعة واعلم أن منهم من قال إن اسم أبي سعيد هذا سنان بن مالك بن سنان والأصح ما ذكرناه انه سعد بن مالك بن سنان وفي الصحابة أيضا سعد بن أبي وقاص مالك وسعد بن مالك العذري قدم في وفد عذرة
( بيان الأنساب ) القعنبي هو عبد الله بن مسلمة شيخ البخاري ونسبته إلى جده قعنب والقعنب في اللغة الشديد ومنه يقال للأسد القعنب ويقال القعنب الثعلب الذكر والمازن في قبائل ففي قيس بن غيلان مازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان وفي قيس بن غيلان أيضا مازن بن صعصعة وفي فزارة مازن بن فزارة وفي ضبة مازن بن كعب وفي مذحج مازن بن ربيعة وفي الأنصار مازن بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج وفي تميم مازن بن مالك وفي شيبان بن ذهل مازن بن شيبان وفي هذيل مازن بن معاوية وفي الأزد مازن بن الأزد والخدري بضم الخاء المعجمة

(1/161)


وسكون الدال المهملة نسبة إلى خدرة أحد أجداد أبي سعيد وقال ابن حبان في ( ثقاته ) في ترجمة أبي سعيد إن خدرة من اليمن ومراده أن الأنصار من اليمن فهم بطن من الأنصار وهم نفر قليل بالمدينة وقال أبو عمر خدرة وخدارة بطنان من الأنصار فأبو مسعود الأنصاري من خدارة وأبو سعيد من خدرة وهما إبنا عوف بن الحارث كما تقدم وضبط أبو عمر خدارة بضم الخاء المعجمة وهو خلاف ما قاله الدارقطني من كونه بالجيم المكسورة وصوبه الرشاطي وكذا نص عليه العسكري في الصحابة والحافظ أبو الحسن المقدسي واعلم أن الخدري بالضم يشتبه بالخدري بالكسر نسبة إلى خدرة بطن من ذهل بن شيبان وبالخدري بفتح الخاء والدال وهو محمد بن حسن متأخر روى عن أبي حاتم وبالجدري بفتح الجيم والدال وهو عمير بن سالم وبكسر الجيم وسكون الدال الجدري نسبة إلى جدرة بطن من كعب
( بيان لطائف الإسناد ) منها أن هذا الاسناد كله مدنيون ومنها أن فيه فرد تحديث والباقي عنعنة ومنها أن فيه صحابي ابن صحابي
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) هذا من أفراد البخاري عن مسلم ورواه ههنا عن القعنبي وفي الفتن عن ابن يوسف وفي إسناد الكتاب عن إسماعيل ثلاثتهم عن مالك به وفي الرقاق وعلامات النبوة عن أبي نعيم عن الماجشون عن عبد الرحمن به وهو من أحاديث مالك في الموطأ وزعم الإسماعيلي في ( مستخرجه ) أن إسحاق بن موسى الأنصاري رواه عن معن عن مالك فجعله من قول أبي سعيد لم يجاوزه وقال الإسماعيلي أسنده ابن وهب التنيسي وسويد وغيرهم والحديث أخرجه أبو داود والنسائي أيضا
( بيان اللغات ) قوله يوشك بضم الياء وكسر الشين المعجمة أي يقرب ويقال في ماضيه أوشك ومن أنكر استعماله ماضيا فقد غلط فقد كثر استعماله قال الجوهري أوشك فلان يوشك إيشاكا أي أسرع قال جرير ( إذا جهل اللئيم ولم يقدر
لبعض الأمر أوشك أن يصابا )
قال والعامة تقول يوشك بفتح الشين وهي لغة رديئة وقال ابن السكيت واشك يواشك وشاكا مثل أوشك ويقال إنه مواشك أي مسارع وفي ( العباب ) قولهم وشك ذا خروجا بالضم يوشك أي يسرع وقال ابن دريد الوشك السرعة ويقال الوشك والوشك ودفع الأصمعي الوشك يعني بالكسر وقال الكسائي عجبت من وشكان ذلك الأمر ومن وشكانه أي من سرعته وفي المثل وشكان ماذا إذابة وحقنا أي ما أسرع ما أذيب هذا السمن وحقن ونصب إذابة وحقنا على الحال وإن كانا مصدرين كما يقال سرع ذا مذابا ومحقونا ويجوز أن يحمل على التمييز كما يقال حسن زيد وجها يضرب في سرعة وقوع الأمر ولمن يخبر بالشيء قبل أوانه ويقال وشكان ذا إهالة فإن قلت هل يستعمل اسم الفاعل قلت نعم ولكنه نادر قال كثير بن عبد الرحمن ( فإنك موشك أن لا تراها
وتغدو دون غاضرة العوادي )
وغاضرة بالمعجمتين اسم جارية أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه والعوادي عوائق الدهر وموانعه قوله غنم الغنم اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكور والإناث جميعا وعلى الذكور وحدهم وعلى الأناث وحدها فإذا صغرتها الحقتها الهاء فقلت غنيمة لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لازم لها ويقال لها خمس من الغنم ذكور فيؤنث العدد لأن العدد يجري على تذكيره وتأنيثه على اللفظ لا على المعنى قوله يتبع بتشديد التاء وتخفيفها فالأول من باب الافتعال من اتبع اتباعا والثاني من تبع بكسر الباء يتبع بفتحها تبعا بفتحتين وتباعة بالفتح يقال تبعت القوم إذا مشى خلفهم أو مروا به فمضى معهم قوله شعف الجبال بشين معجمة مفتوحة وعين مهملة مفتوحة جمع شعفة بالتحريك رأس الجبل ويجمع أيضا على شعوف وشعاف وشعفات قاله في ( العباب ) وفي ( الموعب ) عن الأصمعي إن الشعاف بالكسر وعن ابن قتيبة شعفة كل شي أعلاه قوله ومواقع القطر أي المطر والمواقع جمع موقع بكسر القاف وهو موضع نزول المطر قوله يفر من فر يفر فرارا ومفرا إذا

(1/162)


هرب والمفر بكسر الفاء موضع الفرار والفتن جمع فتنة وأصل الفتنة الاختبار يقال فتنت الفضة على النار إذا خلصتها ثم استعملت فيما أخرجه الاختبار للمكروه ثم كثر استعماله في أبواب المكروه فجاء مرة بمعنى الكفر كقوله تعالى والفتنة أكبر من القتل ( البقرة 217 ) ويجيء للإثم كقوله تعالى ألا في الفتنة سقطوا ( التوبة 49 ) ويكون بمعنى الإحراق كقوله تعالى إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ( البروج 10 ) أي حرقوهم ويجيء بمعنى الصرف عن الشيء كقوله تعالى وإن كادوا ليفتنونك ( الإسراء 73 )
( بيان الإعراب ) قوله يوشكمن أفعال المقاربة عند النحاة وضع لدنو الخبر أخذا فيه وهو مثل كاد وعسى في الاستعمال فيجوز أوشك زيد يجيء وأن يجيء وأوشك أن يجيء زيد على الأوجه الثلاثة وخبره يكون فعلا مضارعا مقرونا بأن وقد يسند إلى أن كما قلنا في الأوجه الثلاثة والحديث من هذا القبيل حيث أسند يوشك إلى أن والفعل المضارع فسد ذلك مسد اسمه وخبره ومثله قول الشاعر ( يوشك أن يبلغ منتهى الأجل
فالبر لازم برجا ووجل )
قوله خيريجوز فيه الرفع والنصب أما الرفع فعلى الابتداء وخبره قوله غنم ويكون في يكون ضمير الشأن لأنه كلام تضمن تحذيرا وتعظيما لما يتوقع وأما النصب فعلى كونه خبر يكون مقدما على اسمه وهو قوله غنم ولا يضركون غنم نكرة لأنها وصفت بقوله يتبع بها وقد روى غنما بالنصب وهو ظاهر والأشهر في الرواية نصب خبر وفي رواية الأصيلي بالرفع والضمير في بها يرجع إلى الغنم وقد ذكرنا أنه اسم جنس يجوز تأنيثه باعتبار معنى الجمع قوله شعف الجبال كلام إضافي منصوب على أنه مفعول يتبع قوله ومواقع القطر أيضا كلام إضافي منصوب عطفا على شعف الجبال قوله يفر بدينه من الفتن أي من فساد ذات البين وغيرها وقوله يفر جملة من الفعل والفاعل وهو الضمير المستتر فيه الذي يرجع إلى المسلم وهي في محل النصب على الحال أما من الضمير الذي في يتبع أو من المسلم ويجوز وقوع الحال من المضاف إليه نحو قوله تعالى فاتبع ملة إبراهيم حنيفا ( النساء 125 ) فإن قلت إنما يقع الحال من المضاف إليه إذا كان المضاف جزأ من المضاف إليه أو في حكمه كما في رأيت وجه هند قائمة فإنه يجوز ولا يجوز قولك رأيت غلام هند قائمة والمال ليس بجزء للمسلم قلت المال لشدة ملابسته بذي المال كأنه جزء منه وكذلك الملة ليس بجزء لإبراهيم حقيقة وإنما هي بمنزلة الجزء منه ويجوز أن تكون هذه الجملة استئنافية وهي في الحقيقة جواب سؤال مقدر ويقدر ذلك بحسب ما يقتضيه المقام والباء في بدينه للسببية وكلمة من في قوله من الفتن ابتدائية تقديره يفر بسبب دينه ومنشأ فراره الدين ويجوز أن تكون الباء للمصاحبة كما في قوله تعالى اهبط بسلام ( هود 48 ) أي معه
( بيان استنباط الفوائد ) وهو على وجوه الأول فيه فضل العزلة في أيام الفتن إلا أن يكون الإنسان ممن له قدرة على إزالة الفتنة فإنه يجب عليه السعي في إزالتها إما فرض عين وإما فرض كفاية بحسب الحال والإمكان وأما في غير أيام الفتنة فاختلف العلماء في العزلة والاختلاط أيهما أفضل قال النووي مذهب الشافعي والأكثرين إلى تفضيل الخلطة لما فيها من اكتساب الفوائد وشهود شعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال الخير إليهم ولو بعيادة المرضى وتشييع الجنائز وإفشاء السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى وإعانة المحتاج وحضور جماعاتهم وغير ذلك مما يقدر عليه كل أحد فإن كان صاحب علم أو زهد تأكد فضل اختلاطه وذهب آخرون إلى تفضيل العزلة لما فيها من السلامة المحققة لكن بشرط أن يكون عارفا بوظائف العبادة التي تلزمه وما يكلف به قال والمختار تفضيل الخلطة لمن لا يغلب على ظنه الوقوع في المعاصي وقال الكرماني المختار في عصرنا تفضيل الانعزال لندور خلو المحافل عن المعاصي قلت أنا موافق له فيما قال فإن الاختلاط مع الناس في هذا الزمان لا يجلب إلا الشرور الثاني فيه الاحتراز عن الفتن وقد خرجت جماعة من السلف عن أوطانهم وتغربوا خوفا من الفتنة وقد خرج سلمة بن الأكوع إلى الربذة في فتنة عثمان رضي الله عنه الثالث فيه دلالة على فضيلة الغنم واقتنائها على ما نقول عن قريب إن شاء الله تعالى الرابع فيه إخبار بأنه يكون في آخر الزمان فتن وفساد بين الناس وهذا من جملة معجزاته

(1/163)


( الأسئلة والأجوبة ) منها ما قيل لم قيد بالغنم وأجيب بأن هذا النوع من المال نموه وزيادته أبعد من الشوائب المحرمة كالربا والشبهات المكروهة وخصت الغنم بذلك لما فيها من السكينة والبركة وقد رعاها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أنها سهلة الانقياد خفيفة المؤونة كثيرة النفع ومنها ما قيل لم قيد الاتباع بالمواضع الخالية مثل شعف الجبال ونحوها وأجيب بأنها أسلم غالبا من المعادلات المؤدية إلى الكدورات ومنها ما قيل ما وجه كون الغنم خير مال المسلم وأجيب بأنه لما كان فيها الجمع بين الرفق والربح وصيانة الدين كانت خير الأموال التي يعنى بها المسلم ومنها ما قيل لم قيد الاتباع المذكور بقوله يفر بدينهمن الفتن وأجيب للإشعار بأن هذا الاتباع ينبغي أن يكون استعصاما للدين لا للأمر الدنيوي كطلب كثرة العلف وقلة أطماع الناس فيه ومنها ما قيل كيف يجمع بين مقتضى هذا الحديث من اختيار العزلة وبين ما ندب إليه الشارع من اختلاط أهل المحلة لإقامة الجماعة وأهل السواد مع أهل البلدة للعيد والجمعة وأهل الآفاق لوقوف عرفة وفي الجملة اهتمام الشارع بالاجتماع معلوم ولهذا قال الفقهاء يجوز نقل اللقيط من البادية إلى القرية ومن القرية إلى البلد لاعكسهما وأجيب بأن ذلك عند عدم الفتنة وعدم وقوعه في المعاصي وعند الاجتماع بالجلساء الصلحاء وأما اتباع الشعف والمقاطر وطلب الخلوة والانقطاع إنما هو في أضداد هذه الحالات
13 -
( باب قول النبي أنا أعلمكم بالله وأن المعرفة فعل القلب لقول الله تعالى ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم )
أي هذا باب قول النبي والإضافة ههنا متعينة وقوله أنا أعلمكم بالله مقول القول كذا في رواية أبي ذر وهو لفظ الحديث الذي أورده في جميع طرقه وفي رواية الأصيلي أعرفكم فعن قريب يأتي الفرق بين المعرفة والعلم
وجه المناسبة بين البابين أن الباب الأول يبين فيه أن من الدين الفرار من الفتن وهذا لا يكون إلا على قدر قوة دين الرجل حيث يحفظ دينه ويعتزل الناس خوفا من الفتن وقوة الدين تدل على قوة المعرفة بالله تعالى فكلما كان الرجل أقوى في دينه كان أقوى في معرفة ربه ومن هذا الباب يبين أن أعرف الناس بالله تعالى هو النبي فلا جرم هو أقوى دينا من الكل وبقي الكلام ههنا في ثلاثة مواضع الأول أن هذا كتاب الإيمان فما وجه تعلق هذه الترجمة بالإيمان والثاني ما مناسبة قوله وأن المعرفة فعل القلب بما قبله ولا تعلق للحديث به أصلا ولا دلالة له عليه لا عقلا ولا وضعا والثالث ما مناسبة ذكر قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ( البقرة 225 ) ههنا فلا تعلق له بالإيمان لأنه في الإيمان ولا تعلق له بالباب أيضا قلت أما وجه الأول فهو أن المعرفة بالله تعالى والعلم به من الإيمان فحينئذ دخل في كتاب الإيمان وفيه رد على الكرامية لأنهم يقولون إن الإيمان مجرد الإقرار باللسان وزعموا أن المنافق مؤمن في الظاهر وكافر في السريرة فيثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة وأشار البخاري بالرد عليهم بأن الإيمان هو أو بعضه فعل القلب بالحديث المذكور وأما وجه الثاني فهو أن الصحابة رضي الله عنهم لما أرادوا أن يزيدوا أعمالهم على عمل رسول الله قال لهم لا يتهيأ لكم لأني أعلمكم والعلم من جملة الأفعال بل من أشرفها لأنه عمل القلب فناسب قوله وأن المعرفة فعل القلب بما قبله وأما وجه الثالث فهو أنه أراد أن يستدل بالآية على أن الإيمان بالقول وحده لا يتم ولا بد من انضمام العقيدة إليه ولا شك أن الاعتقاد فعل القلب فهو مناسب لقوله وأن المعرفة فعل القلب ولا يضر استدلاله كون مورد الآية في الأيمان بالفتح لأن مدار العلم فيها أيضا على عمل القلب فنبه البخاري ههنا على شيئين أحدهما الرد على الكرامية الذي هو متفق عليه بالوجه الذي ذكرنا والآخر الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه على مقتضى مذهبه لأن قوله أنا أعلمكم بالله يدل ظاهرا على أن الناس متفاوتون فى معرفة الله تعالى وأن النبي هو أعلمهم فإذا كان كذلك يكون الإيمان قابلا للزيادة والنقصان قوله وأن المعرفة بفتح الهمزة عطفا على القول لا على المقول وإلا لكان تكرارا إذ المقول وما عطف عليه حكمهما واحد ويجوز كسر إن ويكون كلاما مستأنفا قوله لقول الله تعالى استدلال

(1/164)


بهذه الآية على أن الإيمان بالقول وحده لا يتم قوله بما كسبت قلوبكم أي بما عزمت عليه قلوبكم وقصدتموه إذ كسب القلب عزمه ونيته وفي الآية دليل لما عليه الجمهور أن أفعال القلوب إذا استقرت يؤاخذ بها وقوله عليه السلام إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به محمول على ما إذا لم يستقر وذلك معفو عنه بلا شك لأنه لا يمكن الانفكاك عنه بخلاف الاستقرار فإن قلت ما حقيقة المعرفة قلت في اللغة المعرفة مصدر عرفته أعرفه وكذلك العرفان وأما في اصطلاح أهل الكلام فهي معرفة الله تعالى بلا كيف ولا تشبيه والفرق بينهما وبين العلم أن المعرفة عبارة عن الإدراك الجزئي والعلم عن الإدراك الكلي وبعبارة أخرى العلم إدراك المركبات والمعرفة إدراك البسائط وهذا مناسب لما يقوله أهل اللغة من أن العلم يتعدى إلى مفعولين والمعرفة إلى مفعول واحد وقال إمام الحرمين أجمع العلماء على وجوب معرفة الله تعالى وقد استدل عليه بقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله ( محمد 19 ) واختلف في أول واجب على المكلف فقيل معرفة الله تعالى وقيل النظر وقيل القصد إلى النظر الصحيح وقال الإمام الذي أراه أنه لا اختلاف بينهما فإن أول واجب خطابا ومقصودا المعرفة وأول واجب اشتغالا واداء القصد فإن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب ولا يتوصل إلى المعارف إلا بالقصد
20 - حدثنا ( محمد بن سلام ) قال أخبرنا ( عبدة ) عن ( هشام ) عن أبيه عن ( عائشة ) قالت كان رسول الله إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة فإنها جزء منه
( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول أبو عبد الله محمد بن سلام بن الفرج السلمي مولاهم البخاري البيكندي سمع ابن عيينة وابن المبارك وغيرهما من الأعلام وعنه الأعلام الحفاظ كالبخاري ونحوه انفق في العلم أربعين ألفا ومثلها في نشره ويقال إن الجن كانت تحضر مجلسه وقال أدركت مالكا ولم أسمع منه وكان أحمد يعظمه وعنه أحفظ أكثر من خمسة آلاف حديث كذب وله رحلة ومصنفات في أبواب من العلم وانكسر قلمه في مجلس شيخ فأمر أن ينادى قلم بدينار فطارت إليه الأقلام توفي سنة خمس وعشرين ومائيتن وانفرد البخاري به عن الكتب الستة ثم اعلم أن سلاما والد محمد المذكور بالتخفيف على الصواب وبه قطع المحققون منهم الخطيب وابن ماكولا وهو ما ذكره غبخار في ( تاريخ بخاري ) وهو أعلم ببلاده وحكاه أيضا عنه فقال قال سهل بن المتوكل سمعت محمد بن سلام يقول أنا محمد بن سلام بالتخفيف ولست بمحمد بن سلام وذكر بعض الحفاظ أن تشديده لحن وأما صاحب ( المطالع ) فادعى أن التشديد رواية الأكثرين ولعله أراد أكثر شيوخ بلده وقال النووي لا يوافق على هذه الدعوى فإنها مخالفة للمشهور الثاني أبو محمد عبدة بسكون الباء ابن سليمان بن حاجب بن زرارة بن عبد الرحمن بن صرد بن سمير بن مليك بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب الكلابي الكوفي هكذا نسبه محمد بن سعد في ( الطبقات ) وقيل اسمه عبد الرحمن وعبدة لقبه سمع جماعة من التابعين منهم هشام والأعمش وعنه الأعلام أحمد وغيره قال أحمد ثقة ثقة وزيادة مع صلاح وقال العجلي ثقة رجل صالح صاحب قرآن توفي بالكوفة في جمادى وقيل في رجب سنة ثمان وثمانين ومائة قال الترمذي وقال البخاري سنة سبع روى له الجماعة الثالث هشام بن عروة الرابع أبو عروة بن الزبير بن العوام الخامس عائشة رضي الله عنها وقد ذكروا في باب الوحي
( بيان الأنساب ) السلمي بضم السين وفتح اللام في قيس غيلان وفي الأزد فالذي في قيس غيلان سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان والذي في الأزد سليم بن بهم بن غنم بن دوس وهو من شاذ النسب وقياسه سليمي البخاري نسبة إلى بخارى بضم الباء الموحدة مدينة مشهورة بما وراء النهر خرجت منها

(1/165)


العلماء والصلحاء ويشتمل على بخارى وعلى قراها ومزارعها سور واحد نحو اثني عشر فرسخا في مثلها وقال ابن حوقل ورساتيق بخارى تزيد على خمسة عشر رستاقا جميعها داخل الحائط المبني على بلادها ولها خارج الحائط أيضا عدة مدن منها فربر وغيرها البيكندي بباء موحدة مكسوة ثم ياء آخر الحروف ساكنة ثم كاف مفتوحة ثم نون ساكنة نسبة إلى بيكند بلدة من بلاد بخارى على مرحلة منها خربت ويقال الباكندي أيضا ويقال بالفاء أيضا الفاكندي وينسب إليها ثلاثة أنفس انفرد البخاري بهم أحدهم محمد بن سلام المذكور وثانيهم محمد بن يوسف وثالثهم يحيى بن جعفر الكلابي في قيس غيلان ينسب إلى كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان
( بيان لطائف أسناده ) منها أن فيه تحديثا وإخبارا وعنعنة والإخبار في قوله أخبرنا عبيدة بن سليمان وفى رواية الأصيلي حدثنا ومنها أن إسناده مشتمل على بخاري وكوفي ومدني ومنها أن رواته أئمة أجلاء
( بيان من أخرجه ) هذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم وهو من غرائب الصحيح لا يعرف إلا من هذا الوجه وهو مشهور عن هشام فرد مطلق من حديثه عن أبيه عن عائشة
( بيان اللغات ) قوله بما يطيقون من أطاق يطيق إطاقة وطوقتك الشيء أي كلفتك به قوله كهيئتك الهيئة الحالة والصورة وفي ( العباب ) الهيئة الشاردة وفلان حسن الهيئة والهيئة بالفتح والكسر والهيء على فيعل الحسن الهيئة من كل شيء يقال هاء يهاء هيئة قوله إن الله قد غفر الغفر في اللغة الستر وفي ( العباب ) الغفر التغطية والغفر والغفران والمغفرة واحد ومغفرة الله لعبده إلباسه إياه العفو وستر ذنوبه قوله فيغضب من غضب عليه غضبا ومغضبة أي سخط وقال ابن عرفة الغضب من المخلوقين شيء يداخل قلوبهم ويكون منه محمود ومذموم والمذموم ما كان في غير الحق وأما غضب الله تعالى فهو إنكاره على من عصاه فيعاقبه وقال الطحاوي رحمه الله إن الله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى قال في ( العباب ) وأصل التركيب يدل على شدة وقوة
( بيان الإعراب ) قوله رسول الله اسم كان وخبره قوله إذا أمرهم قوله قالوا جواب إذا قوله لسنا كهيئتك ليس المراد نفي تشبيه ذواتهم بحالته عليه الصلاة و السلام فلا بد من تأويل في أحد الطرفين فقيل المراد كهيئتك كمثلك أي كذاتك أو كنفسك وزيد لفظ الهيئة للتأكيد نحو مثلك لا يبخل أو التقدير في لسنا ليس حالنا فحذف الحال وأقيم المضاف إليه مقامه واتصل الفعل بالضمير فقيل لسنا فالنون اسم ليس وخبره قوله كهيئتك قوله ما تقدم جملة في محل النصب على أنها مفعول غفر وكلمة من بيانية وقوله وما تأخرعطف عليه والتقدير وما تأخر من ذنبك قوله فيغضب على صورة المضارع فهو وإن كان بلفظ المضارع ولكن المقصود حكاية الحال الماضية واستحضار تلك الصورة الواقعة للحاضرين وفي أكثر النسخ فغضب بلفظ الماضي قوله حتى يعرف الغضب على صيغة المجهول والغضب مرفوع به وإما يعرف فإنه منصوب بتقدير أن أي حتى أن يعرف الغضب والنصب هو الرواية ويجوز فيه الرفع بأن يكون عطفا على فيغضب فافهم قوله إن أتقاكم أي أكثركم تقوى وخشية من الله تعالى واتقاكم اسم إن و أعلمكم عطف عليه وقوله أنا خبره وفي كتاب أبي نعيم وأعلمكم بالله لأنا بزيادة لام التأكيد
( بيان المعاني ) قوله إذا أمرهم من الأعمال أي إذا أمر الناس بعمل أمرهم بما يطيقون ظاهره أنه كان يكلفهم بما يطاق فعله لكن السياق دل على أن المراد أنه يكلفهم بما يطاق الدوام على فعله ووقع في معظم الروايات كان إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بتكرار أمرهم وفي بعضها أمرهم مرة واحدة وهو الذي وقع في طرق هذا الحديث من طريق عبدة وكذا من طريق ابن نمير وغيره عن هشام عند أحمد وكذا ذكره الإسماعيلي من رواية أبي أسامة عن هشام ولفظه كان إذا أمر الناس بالشيء قالوا والمعنى على التكرير كان إذا أمرهم بعمل من الأعمال أمرهم بما يطيقون الدوام عليه فأمرهم الثاني يكون جواب الشرط فإن قلت فعلى هذا ما يكون قوله قالوا قلت يكون جوابا ثانيا قوله

(1/166)


إنا لسنا كهيأتك أرادوا بهذا الكلام طلب الإذن في الزيادة من العبادة والرغبة في الخير يقولون أنت مغفور لك لا تحتاج إلى عمل ومع هذا أنت مواظب على الأعمال فكيف بنا وذنوبنا كثيرة فرد عليهم وقال أنا أولى بالعمل لأني أعلمكم وأخشاكم قوله إن الله قد غفر لك اقتباس من قوله تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ( الفتح 2 ) وقد عرفت ما في هذا التركيب من المؤكدات فإن قلت النبي معصوم عن الكبائر والصغائر فما ذنبه الذي غفر له قلت المراد منه ترك الأولى والأفضل بالعدول إلى الفاضل وترك الأفضل كأنه ذنب لجلالة قدر الأنبياء عليهم السلام ويقال المراد منه ذنب أمته قوله اتقاكم إشارة إلى كمال القوة العملية وأعلمكم إلى كمال القوة العلمية ولما كان عليه السلام جامعا لأقسام التقوى حاويا لأقسام العلوم ما خصص التقوى ولا العلم وأطلق وهذا قريب مما قال علماء المعاني قد يقصد بالحذف إفادة العموم والاستغراق ويعلم منه أن رسول الله كما أنه أفضل من كل واحد وأكرم عند الله وأكمل لأن كمال الإنسان منحصر في الحكمتين العلمية والعملية وهو الذي بلغ الدرجة العليا والمرتبة القصوى منهما يجوز أن يكون أفضل وأكرم وأكمل من الجميع حيث قال اتقاكم وأعلمكم خطابا للجميع
( بيان استنباط الفوائد ) وهو على وجوه الأول أن الأعمال الصالحة ترقي صاحبها إلى المراتب السنية من رفع الدرجات ومحو الخطيئات لأنه عليه السلام لم ينكر عليهم استدلالهم من هذه الجهة بل من جهة أخرى الثاني أن العبادة الأولى فيها القصد وملازمة ما يمكن الدوام عليه الثالث أن الرجل الصالح ينبغي أن لا يترك الاجتهاد في العمل إعتمادا على صلاحه الرابع أن الرجل يجوز له الإخبار بفضيلته إذا دعت إلى ذلك حاجة الخامس أنه ينبغي أن يحرص على كتمانها فإنه يخاف من إشاعتها زوالها السادس فيه جواز الغضب عند رد أمر الشرع ونفوذ الحكم في حال الغضب والتغير السابع فيه دليل على رفق النبي بأمته وأن الدين يسر وأن الشريعة حنيفية سمحة الثامن فيه الإشارة إلى شدة رغبة الصحابة في العبادة وطلبهم الازدياد من الخير
14 -
( باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان )
أي هذا باب من كره ويجوز في باب التنوين والوقف والإضافة إلى الجملة وعلى كل التقدير قوله من مبتدأ وخبره قوله من الإيمان و أن في الموضعين مصدرية وكذلك كلمة ما ومن موصولة وكره أن يعود صلتها وفيه حذف تقدير الكلام باب كراهة من كره العود في الكفر ككراهة الإلقاء في النار من شعب الإيمان والكراهة ضد الإرادة والرضى والعود بمعنى الصيرورة وقال الكرماني ضمن فيه معنى الاستقرار حتى عدى بفي ونحوه قوله تعالى أو لتعودن في ملتنا ( الأعراف 88 ) قلت في تجيء بمعنى إلى كما في قوله تعالى فردوا أيديهم في أفواههم ( إبراهيم 9 )
وجه المناسبة بين البابين أن في الباب الأول أن النبي كان إذا أمر أصحابه بعمل كانوا يسألونه أن يعملوا بأكثر من ذلك وذلك لوجدانهم حلاوة الإيمان من شدة محبتهم للنبي وهذا الباب أيضا يتضمن هذا المعنى لأن فيه من أحب الله ورسوله أكثر مما يحب غير الله ورسوله فإنه يفوز بحلاوة الإيمان
21 - حدثنا ( سليمان بن حرب ) قال حدثنا ( شعبة ) عن ( قتادة ) عن ( أنس ) رضي الله عنه عن النبي قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار
( راجع الحديث رقم 16 - )
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأن الحديث مشتمل على ثلاثة أشياء وفيما مضى بوبه على جزء منه وههنا بوب على جزء آخر لأن عادته قد جرت في التبويب على ما يستفاد من الحديث ولا يقال إنه تكرار لأن بينه وبين ما سبق تفاوت

(1/167)


كثير في الإسناد والمتن أما في الإسناد ففيما مضى عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس وههنا عن سليمان بن حرب عن شعبة عن قتادة عن أنس وأما في المتن ففيما مضى لفظه أن يكون الله ورسوله أحب وأن يحب المرء وأن يكره وأن يقذف موضع أن يلقى وههنا كما تراه مع زيادة بعد أن أنقذه الله على أن المقصود من إيراده ههنا تبويب آخر غير ذلك التبويب لما قلنا وأما شيخ البخاري ههنا فهو أبو أيوب سليمان بن حرب بن بجيل بفتح الباء الموحدة والجيم المكسورة بعدها الياء آخر الحروف الساكنة وفي آخره لام الأزدي الواشحي بكسر الشين المعجمة والحاء المهملة البصري و واشح بطن من الأزد سكن مكة وكان قاضيها سمع شعبة والحمادين وغيرهم وعنه أحمد والذهلي والحميدي والنجاري وهؤلاء شيوخه وقد شاركهم في الرواية عنه وروى عنه أبو داود أيضا وروى مسلم والترمذي وابن ماجه عن رجل عنه قال أبو حاتم هو إمام من الأئمة لا يدلس ويتكلم في الرجال والفقه وظهر من حديثه نحو عشرة آلاف ما رأيت في يده كتابا قط ولقد حضرت مجلسه ببغداد فحرزوا من حضر مجلسه أربعين ألف رجل قال البخاري ولد سنة أربعين ومائة وتوفي سنة أربع وعشرين ومائتين وكانت وفاته بالبصرة وكان قد عزل من قضاء مكة ورجع إليها
( ومن لطائف أسناده ) أنهم كلهم بصريون وهو أحد ضروب علو الرواية قوله ثلاث أي ثلاث خصال أو خلال وقد مر الإعراب فيه قوله من كان الله يجوز في إعرابه الوجهان أحدهما أن يكون بدلا من ثلاث أو بيانا والآخر أن يكون خبر مبتدأ محذوف وتقدير الأول من الذين فيهم الخصال الثلاث من كان الله إلى آخره ويجوز أن يكون خبرا لقوله ثلاث على تقدير كون الجملة الشرطية صفة لثلاث وقال الكرماني يقدر قبل من الأولى والثانية لفظة محبة وقيل من الثالثة لفظ كراهة أي محبة من كان ومن أحب وكراهة من كره ولشدة اتصال المضاف بالمضاف إليه وغلبة المحبة والكراهة عليهم جاز حذف المضاف منها قلت لا حاجة إلى هذا التقدير لاستقامة الإعراب والمعنى بدونه على ما لا يخفى قوله بعد إذ أنقذه الله بعد نصب على الظرف وإذ كلمة ظرف كما في قوله تعالى فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ( التوبة 40 ) ومعنى انقذه الله خلصه ونجاه وهو من الإنقاذ وثلاثيه النقذ قال ابن دريد النقذ مصدر نقذ بالكسر ينقذ نقذا بالتحريك إذا نجى قال تعالى فأنقذكم منها ( آل عمران 103 ) أي خلصكم يقال أنقذته واستنقذته وتنقذته إذا خلصته ونجيته قال تعالى لا يستنقذوه منه ( الحج 73 ) وفي ( العباب ) والتركيب يدل على الاستخلاص
15 -
( باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال )
أي هذا باب تفاضل أهل الإيمان والأصل هذا باب في بيان تفاضل أهل الإيمان في أعمالهم وتفاضل مجرور بإضافة الباب إليه ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وقوله في الأعمال خبره ويكون الباب مضافا إلى جملة وقوله في الأعمال يتعلق بتفاضل أو يتعلق بمقدر نحو الحاصل وكلمة في للسببية كما في قوله في النفس المؤمنة مائة إبل أي التفاضل الحاصل بسبب الأعمال
وجه المناسبة بين البابين أن المذكور في الباب الأول ثلاث خصال والناس متفاوتون فيها والفاضل من استكمل الثلاث فقد حصل فيه التفاضل في العمل وهذا الباب أيضا في التفاضل في العمل
22 - حدثنا ( إسماعيل ) قال حدثني ( مالك ) عن ( عمرو بن يحيى المازني ) عن أبيه عن ( أبي سعيد الخدري ) رضي الله عنه عن النبي قال يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحياء أو الحياة شك مالك فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة وهي أن المذكور فيه هو أن القليل جدا من الإيمان يخرج صاحبه من النار

(1/168)


والتفاوت في شيء فيه القلة والكثرة ظاهر وهو عين التفاضل لا يقال الحديث إنما يدل على تفاضلهم في ثواب الأعمال لا في نفس الأعمال إذ المقصود منه بيان أن بعض المؤمنين يدخلون الجنة أول الأمر وبعضهم يدخلون آخرا لأنا نقول يدل على تفاوت الناس في الأعمال أيضا لأن الإيمان إما التصديق وهو عمل القلب وإما التصديق مع العمل وعلى التقديرين قابل للتفاوت إذ مثقال الحبة إشارة إلى ما هو أقل منه أو تفاوت الثواب مستلزم لتفاوت الأعمال شرعا ويحتمل أن يراد من الأعمال ثواب الأعمال إما تجوزا بإطلاق السبب وإرادة المسبب وإما إضمارا بتقدير لفظ الثواب مضافا إليها
( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول إسماعيل بن عبد الله أبي أويس بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي عم مالك بن أنس أخي الربيع وأنس وأبي سهيل نافع أولاد مالك بن أبي عامر وإسماعيل هذا ابن أخت الإمام مالك بن أنس سمع خاله وأباه وأخاه عبد المجيد وإبراهيم بن سعد وسليمان بن بلال وآخرين روى عنه الدارمي والبخاري ومسلم وغيرهم من الحفاظ وروى مسلم أيضا عن رجل عنه وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه ولم يخرج له النسائي لأنه ضعفه وقال أبو حاتم محله الصدق وكان مغفلا وقال يحيى بن معين هو ووالده ضعيفان وعنه يسرقان الحديث وعنه إسماعيل صدوق ضعيف العقل ليس بذلك يعني أنه لا يحسن الحديث ولا يعرف أن يؤديه ويقرأ في غير كتابه وعنه مختلط يكذب ليس بشيء وعنه يساوي فلسين وعنه لا بأس به وكذلك قال أحمد قال أبو القاسم اللالكائي بالغ النسائي في الكلام عليه بما يؤدي إلى تركه ولعله بان له ما لم يبن لغيره لأن كلام هؤلاء كلهم يؤول إلى أنه ضعيف وقال الدارقطني لا اختاره في الصحيح وقال ابن عدي روى عن خاله مالك أحاديث غرائب لا يتابعه أحد عليها وأثنى عليه ابن معين وأحمد والبخاري يحدث عنه بالكثير وهو خير من أبيه وقال الحاكم عيب على البخاري ومسلم إخراجهما حديثه وقد احتجا به معا وغمزه من يحتاج إلى كفيل في تعديل نفسه أعني النضر بن سلمة أي فإنه قال كذاب قلت قد غمزه من لا يحتاج إلى كفيل ومن قوله حجة مقبولة وقد أخرجه البخاري عن غيره أيضا فاللين الذي فيه يجبر إذن مات في سنة ست ويقال في رجب سنة سبع وعشرين ومائتين الثاني مالك بن أنس وقد تقدم ذكره الثالث عمرو بفتح العين ابن يحيى بن عمارة ووقع بخط النووي في شرحه عثمان وهو تحريف ابن أبي حسن تميم بن عمرو وقيل يحيى بن عمرو حكاه الذهبي في الصحابة ابن قيس بن يحرث بن الحارث بن ثعلبة بن مازن بن النجار الأنصاري المازني المدني روى عن أبيه وعن غيره من التابعين وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري وغيره من التابعين وغيرهم والأنصاري من أقرانه وروى عن يحيى بن كثير وهو من أقرانه أيضا وثقه أبو حاتم والنسائي توفي سنة أربعين ومائة وعمارة صحابي بدري عقبي ذكره أبو موسى وأبو عمر وفيه نظر نعم أبوه صحابي عقبي بدري وقال ابن سعد وشهد الخندق وما بعد هذا وأم عمرو هذا هي أم النعمان بنت أبي حنة بالنون ابن عمرو بن غزية بن عمرو بن عطية ابن خنساء بن مندول بن عمرو بن غانم بن مازن بن النجار الرابع أبو يحيى بن عثمان بن أبي حسن الأنصاري المازني المدني سمع أبا سعيد وعبد الله بن زيدذ وعنه ابنه والزهري وغيرهما روى له الجماعة الخامس أبو سعيد سعد بن مالك الخدري رضي الله عنه
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري هنا عن إسماعيل عن مالك وفي صفة الجنة والنار عن وهيب بن خالد وأخرجه مسلم في الإيمان عن هارون عن ابن وهب عن مالك وعن أبي بكر عن عفان عن وهيب وعن حجاج ابن الشاعر عن عمرو بن عون عن خالد بن عبد الله ثلاثتهم عن عمرو بن يحيى به ووقع هذا الحديث للبخاري عاليا برجل عن مسلم وأخرجه النسائي أيضا وهذا الحديث قطعة من حديث طويل يأتي إن شاء الله تعالى وقد وافق إسماعيل على رواية هذا الحديث عبد الله بن وهب ومعن بن عيسى عن مالك وليس هو في الموطأ قال الدارقطني هو غريب صحيح وفي رواية الدارقطني من طريق إسماعيل يدخل الله وزاد من طريق معن يدخل من يشاء برحمته وكذا الإسماعيلي على طريق ابن وهب
( بيان اللغات ) قوله مثقال حبة المثقال كالمقدار لفظا ومعنى مفعال من الثقل وفي ( العباب ) مثقال الشيء ميزانه من مثله وقوله تعالى مثقال ذرة ( النساء 40 ) أي زنة ذرة قال ( وكلا يوافيه الجزاء بمثقال )
أي بوزن وحكى أبو نصر ألقى عليه

(1/169)


مثاقيله أي مؤونته والثقل ضد الخفة والمثقال في الفقه من الذهب عبارة عن اثنين وسبعين شعيرة قاله الكرماني قلت ذكر في ( الاختيار ) أن المثقال عشرون قيراطا وكذا ذكر في ( الهداية ) وفي ( العباب ) القيراط معروف ووزنه يختلف باختلاف البلاد فهو عند أهل مكة حرسها الله تعالى ربع سدس الدينار وعند أهل العراق نصف عشر الدينار قلت ذكر الفقهاء أن القيراط طسوجتان والطسوجة شعيرتان والشعيرة ذرتان والذرة فتيلتان والفتيلة شعرتان وأما المراد ههنا من المثقال فقد قيل هو وزن مقدر الله أعلم بقدره وليس المراد المقدر هذا المعلوم فقد جاء مبينا وكان في قلبه من الخير ما يزن برة والحبة بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة واحدة الحب المأكول من الحنطة ونحوها وفي ( المحكم ) وجمع الحبة حبات وحبوب وحب وحبان الأخيرة نادرة قوله من خردل بفتح الخاء المعجمة هو نبات معروف يشبه الشيء القليل البليغ في القلة بذلك يعني يدخل الجنة من كان في قلبه أقل قدر من الإيمان وقال في ( العباب ) الخردل معروف واحدته خردلة قوله في نهر الحياء كذا في هذه الرواية بالمد وهي رواية الأصيلي ولا وجه له كما نبه عليه القاضي وفي رواية كريمة وغيرها بالقصر وعليه المعنى لأن المراد كل ما يحصل به الحياة والحيا بالقصر هو المطر وبه يحصل حياة النبات فهو أليق بمعنى الحياة من الحياء الممدود الذي بمعنى الخجل ونهر الحياة معناه الماء الذي يحيى من انغمس فيه قوله كما تنبت الحبة بكسر الحاء وتشديد الباء الموحدة بذر العشب وجمعه حبب كقربة وقرب ويحتمل أن يكون اللام للعهد ويراد به حبة بقلة الحمقاء لأن شأنه أن ينبت سريعا على جانب السيل فيتلفه السيل ثم ينبت فيتلفه السيل ولهذا سميت بالحمقاء لأنه لا تمييز لها في اختيار المنبت وقال الجوهري الحبة بالكسر بذور الصحراء مما ليس بقوت وفي الحديث ينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل وتسمى الرجلة بكسر الراء والجيم بقلة الحمقاء لأنها لا تنبت إلا في المسيل وقال الكسائي هو حب الرياحين ففي بعض الروايات في حميل السيل وهو ما يحمله السيل من طين ونحوه قيل فإذا اتفق فيه الحبة واستقرت على شط مجرى السيل تنبت في يوم وليلة وهي أسرع نابتة نباتا وفي ( المحكم ) الحبة بذور البقول والرياحين واحدها حب وقيل إذا كانت الحبوب مختلفة من كل شيء فهي حبة وقيل الحبة نبت ينبت في الحشيش صغار وقيل ما كان له حب من النبات فاسم ذلك الحب الحبة وقال أبو حنيفة الدينوري الحبة بالكسر جميع بذور النبات واحدتها حبة بالفتح وعن الكسائي أما الحب فليس إلا الحنطة والشعير واحدتها حبة بالفتح وإنما افترقا في الجمع والحبة بذر كل نبات ينبت وحده من غير أن يبذر وكل ما بذر فبذره حبة بالفتح وقال الأصمعي ما كان له حب من النبت فاسمه حبة إذا جمع الحبة وقال أبو زياد كل ما يبس من البقل كله ذكوره وأحراره يسمى الحبة إذا سقط على الأرض وتكسر وما دام قائما بعد يبسه فإنه يسمى القت وفي ( الغريبين ) حب الحنطة يسمى حبة بالتخفيف والحبة بكسر الحاء وتشديد الباء اسم جامع لحبوب البقول التي تنتشر إذا هاجت ثم إذا مطرت في قابل تنبت وفي ( العباب ) الحبة بالكسر بذور الصحراء والجمع الحبب قوله في جانب السيل كذا ههنا وجاء حميل بدل جانب وفي رواية وهيب حماة السيل والحميل بمعنى المحمول وهو ما جاء به من طين أو غثاء والحمأة ما تغير لونه من الطين وكله بمعنى فإذا اتفق فيه حبة على شط مجراه فإنها تنبت سريعا قوله صفراء تأنيث الأصفر من الاصفرار وهو من جنس الألوان للرياحين ولهذا تسر الناظرين وسيد رياحين الجنة الحناء وهو أصفر قوله ملتوية أي منعطفة منثنية وذلك أيضا يزيد الريحان حسنا يعني اهتزازه وتميله والله تعالى أعلم
( بيان الإعراب ) قوله يدخل أهل الجنة فعل وفاعل ولفظة أهل مضافة إلى الجنة والجنة الثانية بالنصب لأنه مفعول وأصله في الجنة وإنما قلنا ذلك لأن الجنة محدودة وكان الحق أن يقال دخلت في الجنة كما في قولك دخلت في الدار لأنها محدودة إلا أنهم حذفوا حرف الجر اتساعا وأوصلوا الفعل إليه ونصبوه نصب المفعول به وذهب الجرمي إلى أنه فعل متعد نصب الدار كنحو بنيت الدار وقد دفعوا قوله بأن مصدره يجيء على فعول وهو من مصادر الأفعال اللازمة نحو قعد قعودا وجلس جلوسا ولأن مقابله لازم أعني خرجت قلت فيه نظر لأنه غير مطرد لأن ذهب لازم وما يقابله جاء متعد قال الله تعالى أوجاؤكم حصرت صدورهم ( النساء 90 ) قوله وأهل النار كلام إضافي عطف على الأهل الأول والتقدير ويدخل أهل النار النار والكلام في النار الثانية مثل الكلام في الجنة الثانية قوله ثم يقول الله عز و جل

(1/170)


كلمة ثم ههنا واقعة في موقعها وهو الترتيب مع المهلة قوله أخرجوا بفتح الهمزة لأنه أمر من الإخراج وهو خطاب للملائكة وقوله من كان في قلبه إلى آخره جملة في محل النصب على أنها مفعول لقوله أخرجوا و من موصولة وقوله كان في قلبه مثقال حبة صلتها و مثقال حبة كلام إضافي مرفوع لأنه اسم كان وخبره هو قوله في قلبه مقدما وقيل يجوز أن يكون أخرجوا بضم الهمزة من الخروج فعلى هذا يكون من منادى قدحذف منه حرف النداء والتقدير أخرجوا يا من كان في قلبه مثقال حبة وقوله من خردل يتعلق بمحذوف وهو حاصلة والتقدير مثقال حبة حاصلة من خردل وهي في محل الجر على أنها صفة لمجرور وقوله من إيمان يتعلق بمحذوف آخر والتقدير من خردل حاصل من إيمان وهو أيضا في محل الجر نحوها ويجوز أن تتعلق من هذه بقوله من كان ولا يجوز أن يتعلق بفعل واحد حرفا جر من جنس واحد فافهم قوله فيخرجون منها أي من النار والفاء فيه للاستئناف تقديره فهم يخرجون كما في قوله تعالى كن فيكون ( البقرة 117 وغيرها ) قوله قد اسودوا جملة قد وقعت حالا أي صاروا سودا كالفحم من تأثير النار قوله فيلقون على صيغة المجهول جملة معطوفة على الجملة الأولى بالفاء التي تقتضي الترتيب قوله شك مالك جملة معترضة بين قوله فيلقون في نهر الحياة وبين قوله فينبتون وأراد أن الترديد بين الحياء والحياة إنما هو من مالك بن أنس الإمام وهو الذي شك فيه وأخرج مسلم هذا الحديث من رواية مالك فأيهم الشاك وقد فسر هنا قوله فينبتون عطف على قوله فيلقون قوله كما تنبت الحبة الكاف للتشبيه وما مصدرية والتقدير كنبات الحبة ومحل الجملة النصب على أنها صفة لمصدر محذوف أي فينبتون نباتا كنبات الحبة قوله ألم تر خطاب لكل من يتأتى منه الرؤية قوله تخرج جملة في محل الرفع لأنها خبر إن قوله صفراء ملتوية حالان متداخلتان أو مترادفتان
( بيان المعاني والبيان ) قوله يدخل فعل مضارع وقد علم أنه صالح للحال والاستقبال فقيل حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال وقيل بالعكس وقال ابن الحاجب الصحيح أنه مشترك بينهما لأنه يطلق عليهما على السوية وهو دليل الاشتراك وفي قوله على السوية نظر لا يخفى ثم إنه لا يخلص للاستقبال إلا بالسين ونحوه وكان القياس ههنا أن يذكر بأداة مخلصة للاستقبال لأن دخول الجنة والنار إنما هو في الاستقبال ولكنه محقق الوقوع ذكره بصورة الحال قوله من إيمان ذكره منكرا لأن المقام يقتضي التقليل ولو عرف لم يفد ذلك فإن قلت فيكفيه الإيمان ببعض ما يجب الإيمان به لأنه إيمان ما قلت لا يكفيه لأنه علم من عرف الشرع أن المراد من الإيمان هو الحقيقة المعهودة عرف أو نكر قوله مثقال حبة من خردل من باب التمثيل ليكون عيارا في المعرفة وليس بعيار في الوزن لأن الإيمان ليس بجسم يحصره الوزن أو الكيل لكن ما يشكل من المعقول قد يرد إلى عيار المحسوس ليفهم ويشبه به ليعلم والتحقيق فيه أنه يجعل عمل العبد وهو عرض في جسم على مقدار العمل عند الله ثم يوزن ويدل عليه ما جاء مبينا وكان في قلبه من الخير ما يزن برة وقال إمام الحرمين الصحف المشتملة على الأعمال يزنها الله تعالى على قدر أجور الأعمال وما يتعلق بها من ثوابها وعقابها وجاء به الشرع وليس في العقل ما يحيله ويقال للوزن معنيان أحدهما هذا والآخر تمثيل الأعراض بجواهر فيجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة وحكى الزجاج وغيره من المفسرين من أهل السنة أنه إنما يوزن خواتيم الأعمال فإن كانت خاتمة عمله حسنا جوزي بخير ومن كانت خاتمة عمله شرا جوزي بشر ثم علم أن المراد بحبة الخردل زيادة على أصل التوحيد وقد جاء في الصحيح بيان ذلك ففي رواية فيه اخرجوا من قال لا إله إلا الله وعمل من الخير ما يزن كذا ثم بعد هذا يخرج منها من لم يعمل خيرا قط غير التوحيد وقال القاضي هذا هو الصحيح إذ معنى الخير ههنا أمر زائد على الإيمان لأن مجرده لا يتجزى وإنما يتجزى الأمر الزائد عليه وهي الأعمال الصالحة من ذكر خفي أو شفقة على مسكين أو خوف من الله تعالى ونية صادقة في عمل وشبهه وذكر القاضي عن قوم أن المعنى في قوله من إيمان ومن خير ما جاء منه أي من اليقين إلا أنه قال المراد ثواب الإيمان الذي هو التصديق وبه يقع التفاضل فإن اتبعه بالعمل عظم ثوابه وإن كان على خلاف

(1/171)


ذلك نقص ثوابه فإن قلت كيف يعلمون ما كان في قلوبهم في الدنيا من الإيمان ومقداره قلت لعله بعلامات كما يعلمون أنهم من أهل التوحيد قوله كما تنبت الحبة الخ فيه تشبيه متعدد وهو التشبيه من حيث الإسراع ومن حيث ضعف النبات ومن حيث الطراوة والحسن والمنى من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان يخرج من ذلك الماء نضرا حسنا منبسطا متبخترا كخروج هذه الريحانة من جانب السيل صفراء متميلة وهذا يؤيد كون اللام في الحبة للجنس لأن بقلة الحمقاء ليست صفراء إلا أن يقصد به مجرد الحسن والطراوة وقد ذكرنا وجه كونها للعهد
( بيان استنباط الفوائد ) الأولى فيه حجة لأهل السنة على المرجئة حيث علم منه دخول طائفة من عصارة المؤمنين النار إذ مذهبهم أنه لا يضر مع الإيمان معصية فلا يدخل العاصي النار الثانية فيه حجة على المعتزلة حيث دل على عدم وجوب تخليد العاصي في النار الثالثة فيه دليل على تفاضل أهل الإيمان في الأعمال الرابعة ما قيل إن الأعمال من الإيمان لقوله خردل من إيمان والمراد ما زاد على أصل التوحيد قلت لا دلالة فيه على ذلك أصلا على ما لا يخفى
قال وهيب حدثنا عمرو الحياة وقال خردل من خير
الكلام فيه من وجوه الأول أن هذا من باب تعليقات البخاري ولكنه أخرجه مسندا في كتاب الرقاق عن موسى بن إسماعيل عن وهيب عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد به وسياقه اتم من سياق مالك لكنه قال من خردل من إيمان كرواية مالك وقد اعترض على البخاري بهذا ولا يرد عليه لأن أبا بكر بن أبي شيبة أخرج هذا الحديث في مسنده عن عفان بن مسلم عن وهيب فقال من خردل من خير كما علقه البخاري وقد أخرج مسلم عن أبي بكر هذا لكن لم يسق لفظه الثاني في إيراد البخاري هذه الزيادة من حديث وهيب هنا فوائد منها قول وهيب حدثنا عمرو آتيا بلفظ التحديث بخلاف مالك فإنه أتى بلفظة عن وفيها خلاف معروف هل يدل على الاتصال والسماع أم لا فأزال البخاري بهذه الزيادة توهم الخلاف مع أن مالكا غير مدلس والمشهور عند أهل هذا الفن أن لفظة عن محمولة على الاتصال إذا لم يكن المعنعن مدلسا ومنها إزالة الشك الذي جاء في حديث مالك عن عمرو في قوله الحياء أو الحياة فأتى به وهيب مجردا من غير شك فقال نهر الحياة ومنها قوله من خير وتقدم الكلام عليه الثالث قوله الحياة بالجر على الحكاية والمعنى أن وهيبا وافق مالكا في روايته لهذا الحديث عن عمرو بن يحيى بسنده وجزم بقوله في نهر الحياة ولم يشك كما شك مالك رحمه الله تعالى قوله وقال خردل من خير بجر خردل أيضا على الحكاية أي قال وهيب في روايته مثقال حبة من خردل من خير فخالف مالكا أيضا في هذه اللفظة كما ذكرنا قوله وهيب بضم الواو وفتح الهاء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره باء موحدة ابن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم البصري روى عن هشام بن عروة وأيوب وسهيل وعمرو بن يحيى وغيرهم روى عنه القطان وابن مهدي وأبو داود الطيالسي وخلق كثير اتفق على توثيقه وقال ابن سعد كان ثقة كثير الحديث حجة وكان يملي من حفظه مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة روى له الجماعة وقد سجن فذهب بصره قوله حدثنا عمرو بفتح العين هو عمرو بن يحيى المازني وقد مر ذكره عن قريب
23 - حدثنا ( محمد بن عبيد الله ) قال حدثنا ( إبراهيم بن سعد ) عن ( صالح ) عن ( ابن شهاب ) عن ( أبي أمامة بن سهل ) أنه سمع ( أبا سعيد الخدري ) يقول قال رسول الله بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره قالوا فما أولت ذلك يا رسول الله قال الدين
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة من جهة تأويل القميص بالدين وذكر فيه أنهم متفاضلون في لبسها فدل على أنهم متفاضلون في الإيمان وقال النووي دل الحديث على أن الأعمال من الإيمان وأن الإيمان والدين بمعنى واحد وأن أهل الإيمان

(1/172)


يتفاضلون قلت تفاضلهم في الإيمان ليس في نفس الإيمان وحقيقته وإنما هو في الأعمال التي يزداد بها نور الإيمان كما عرف فيما مضى وقوله الإيمان والدين بمعنى واحد ليس كذلك وقد أوضحنا الفرق فيما مضى
( بيان رجاله ) وهم ستة الأول محمد بن عبيد الله بالتصغير ابن محمد بن زيد بن أبي زيد القرشي الأموي مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه أبو ثابت المدني سمع جمعا من الكبار وعنه البخاري والنسائي عن رجل عنه وغيرهما من الأعلام قال أبو حاتم صدوق الثاني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب سمع أباه والزهري وهشام بن عروة وغيرهم روى عنه شعبة وعبد الرحمن بن مهدي وابناه يعقوب ومحمد وخلق كثير قال أحمد ويحيى وأبو حاتم وأبو زرعة ثقة وقال أبو زرعة كثير الحديث وربما أخطأ في أحاديث وقدم بغداد فأقام بها وولي بيت المال بها لهارون الرشيد وأبوه سعد ولي قضاء المدينة وكان من جملة التابعين وكان مولد إبراهيم سنة عشرة ومائة وتوفي ببغداد سنة ثلاث وثمانين ومائة روى له الجماعة الثالث صالح هو ابن كيسان أبو محمد الغفاري المدني التابعي لقي جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ثم تلمذ بعد ذلك للزهري وتلقن منه العلم وابتدأ بالتعلم وهو ابن تسعين سنة ومات وهو ابن مائة وستين سنة الرابع ابن شهاب وهو محمد بن مسلم الزهري وقد تقدم الخامس أبو أمامة بضم الهمزة واسمه أسعد بن سهل بن حنيف بضم المهملة ابن واهب بن العليم بن ثعلبة بن الحارث بن مجدعة بن عمرو بن خنيس بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس أخي الخزرج ابني حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقيا الخارج من اليمن أيام سيل العرم بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرىء القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن وهو جماع غسان بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان أخي حمير أمه حبيبة بنت أبي أمامة أسعد بن زرارة وكان أبو أمامة أوصى ببناته إلى رسول الله عليه السلام فزوج رسول الله حبيبة سهل بن حنيف فولدت له أسعد هذا فسماه رسول الله وكناه باسم جده لأمه وكنيته وبرك عليه ومات سنة مائة وهو ابن نيف وتسعين سنة روى له الجماعة عن الصحابة وروى له النسائي وابن ماجه عن النبي وثبت في رواية الأصيلي عن أبي أمامة بن سهل هو ابن حنيف ولحاصل أنه مختلف في صحبته ولم يصح له سماع وإنما ذكر في الصحابة لشرف الرواية السادس أبو سعيد الخدري رضي الله عنه واسمه سعد بن مالك وقد مر بيانه
( بيان لطائف أسناده ) منها أنه كالذي قبله في أن رجاله مدنيون وهذا في غاية الاستطراف إذ اقتران إسنادين مدنيين قليل جدا ومنها أن فيه التحديث والعنعنة والتصريح بالسماع ومنها أن فيه رواية ثلاثة من التابعيين أو تابعيين وصحابيين فافهم
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري هنا عن محمد بن عبيد الله كما ترى وأخرجه أيضا في التفسير عن علي عن يعقوب عن صالح وفي فضل عمر رضي الله عنه عن يحيى بن بكير جميعا عن الليث عن عقيل وفي التعبير عن سعيد بن عفير عن الليث عن عقيل عن الزهري عن أبي أمامة عنه ورواه مسلم في الفضائل عن منصور عن إبراهيم عن صالح وعن الزهري والحلواني وعبد بن حميد عن يعقوب عن أبيه عن صالح عن الزهري به وأخرجه الترمذي والنسائي أيضا وأخرجه الترمذي أيضا عن أبي أمامة بن سههل بن حنيف عن بعض أصحاب النبي عليه السلام ولم يسمعه
( بيان اللغات ) قوله يعرضون علي أي يظهرون لي يقال عرض الشيء إذا أبداه وأظهره وفي ( العباب ) عرض له أمر كذا يعرض بالكسر أي ظهر وعرضت عليه أمر كذا وعرضت له الشيء أي أظهرته له وأبرزته إليه يقال عرضت له ثوبا فكان حقه وذكر في هذه المادة معاني كثيرة جدا ثم قال في آخره والعين والراء والضاد تكثر فروعها وهي مع كثرتها ترجع إلى أصل واحد وهو العرض الذي يخالف الطول ومن حقق النظر ودققه علم صحة ذلك قوله قمص بضم القاف والميم جمع قميص نحو رغيف ورغف ويجمع أيضا على قمصان وأقمصة كرغفان وأرغفة قوله الثدي بضم الثاء المثلثة وكسر الدال وتشديد الياء جمع الثدي وهو على وزن فعل كفلس يجمع على فعول كفلوس وأصل الثدي

(1/173)


الذي هو الجمع ثدوي على وزن فعول اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فابدلت الواو ياء وادغمت الياء في الياء فصارت ثدي بضم الدال ثم ابدلت كسرة من ضمة الدال لأجل الياء فصار ثديا وجاء أيضا ثدي بكسر الثاء أيضا اتباعا لما بعدها من الكسرة وجاء جمعه أيضا على أثد وأصله أثدي على وزن أفعل كيد تجمع على أيد استثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان فحذفت الياء فصار أثد وقال الجوهري الثدي يذكر ويؤنث وهي للمرأة والرجل جميعا وقيل يختص بالمرأة والحديث يرد عليه والمشهور ما نص عليه الجوهري وفي ( كتاب خلق الإنسان ) وفي الصدر ثديان وثلاثة أثد فإذا كثرت فهي الثدي يقال امرأة ثدياء إذا كانت عظيمة الثديين ولا يقال رجل أثدأ قوله أولت من التأويل وهو تفسير ما يؤول إليه الشيء والمراد هنا التعبير وفي اصطلاح الأصوليين التأويل تفسير الشيء بالوجه المرجوح وقيل هو حمل الظاهر على المحتمل المرجوح بدليل يصيره راجحا وهذا أخص منه وأما تفسير القرآن فهو المنقول عن النبي أو عن الصحابة وأما تأويله فهو ما يستخرج بحسب القواعد العربية
( بيان الإعراب ) قوله بينا أصله بين أشبعت الفتحة فصارت ألفا وقال الجوهري بينا فعلى مشبعة الفتحة قال الشاعر ( فبينا نحن نرقبه أتانا )
أي بين أوقات رقبتنا إياه والجمل يضاف إليها أسماء الزمان نحو أتيتك زمن الحجاج أمير ثم حذف المضاف الذي هو أوقات وولي الظرف الذي هو بين الجملة التي أقيمت مقام المضاف إليها والأصمعي يستفصح طرح إذ وإذا في جوابه واخرون يقولون بينا أنا قائم إذ جاء أو إذا جاء فلان والذي جاء في الحديث هو الفصيح فلذلك اختاره الأصمعي رحمه الله تعالى قوله أنا مبتدأ أو نائم خبره وقوله رأيت الناس جواب بينا من الرؤية بمعنى الإبصار فيقتضي مفعولا واحدا وهو قوله الناس فعلى هذا يكون قوله يعرضون علي جملة حالية ويجوز أن يكون من الرؤيا بمعنى العلم فيقتضي حينئذ مفعولين وهما قوله الناس يعرضون علي ويجوز رفع الناس على أنه مبتدأ وخبره قوله يعرضون علي والجملة مفعول قوله رأيت كما في قول الشاعر
( رأيت الناس ينتجعون غيثا فقلت لصيدح انتجعي بلالا )
ويروى سمعت الناس والقائل هو ذو الرمة الشاعر المشهور وصيدح علم الناقة وينتجعون من انتجعت فلانا إذا أتيته تطلب معروفه وأراد ببلال هو بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قاضي البصرة كان جوادا ممدوحا رحمه الله قوله وعليهم قمص جملة اسمية وقعت حالا قوله منها أي من القمص وهو خبر لقوله ما يبلغ الثدي وما موصولة في محل الرفع على الابتداء و الثدي منصوب لأنه مفعول يبلغ وكذلك إعراب قوله ومنها دون ذلك أي أقصر فيكون فوق الثدي لم ينزل إليه ولم يصل به لقلته قوله وعرض على صيغة المجهول وعمر بن الخطاب مسند إليه مفعول ناب عن الفاعل قوله وعليه قميص جملة إسمية وقعت حالا وقوله يجره جملة من الفعل والفاعل وهو الضمير المرفوع الذي فيه العائد إلى عمر رضي الله عنه والمفعول وهو الضمير المنصوب الذي يرجع إلى القميص والجملة في محل الرفع لأنها صفة للقميص ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال من الأحوال المتداخلة وقد علم أن الجملة الفعلية المضارعية إذا وقعت حالا وكانت مثبتة تكون بلا واو قوله قالوا أي الصحابة قوله ذلك مفعول قوله أولت قوله الدين بالنصب أي أولت الدين
( بيان المعاني والبيان ) فيه من الفصاحة استعمال جواب بينا بدون إذ وإذ ومنها استعمال جمع الكثرة في الثدي لأجل المطابقة وفيه من التشبيه البليغ وهو أنه شبه الدين بالقميص ووجه التشبيه الستر وذلك أن القميص يستر عورة الإنسان ويحجبه من وقوع النظر عليها فكذلك الدين يستره من النار ويحجبه عن كل مكروه فالنبي إنما أوله الدين بهذا الاعتبار وقال أهل العبارة القميص في النوم معناه الدين وجره يدل على بقاء آثاره الجميلة وسننه الحسنة في المسلمين بعد وفاته ليقتدى بها وقال ابن بطال معلوم أن عمر رضي الله عنه في إيمانه أفضل من عمل من بلغ قميصه ثديه وتأويله عليه السلام ذلك بالدين يدل على أن الإيمان الواقع على العمل يسمى دينا كالإيمان الواقع على القول وقال القاضي أخذ ذلك أهل التعبير من قوله تعالى وثيابك فطهر ( المدثر 4 ) يريد به نفسك وإصلاح عملك ودينك على تأويل

(1/174)


بعضهم لأن العرب تعبر عن العفة بنقاء الثوب والمئزر وجره عبارة عما فضل عنه وانتفع الناس به بخلاف جره في الدنيا للخيلاء فإنه مذموم فإن قيل يلزم من الحديث أن يكون عمر رضي الله عنه أفضل من أبي بكر رضي الله عنه لأن المراد بالأفضل الأكثر ثوابا والأعمال علامات الثواب فمن كان دينه أكثر فثوابه أكثر وهو خلاف الاجماع قلت لا يلزم إذ القسمة غير حاصرة لجواز قسم رابع سلمنا انحصار القسمة لكن ما خصص القسم الثالث بعمر رضي الله عنه ولم يحصره عليه سلمنا التخصيص به لكنه معارض بالأحاديث الدالة على أفضلية الصديق رضي الله عنه بحسب تواتر القدر المشترك بينها ومثله يسمى بالمتواتر من جهة المعنى فدليلكم آحاد ودليلنا متواتر سلمنا التساوي بين الدليلين لكن الإجماع منعقد على أفضليته وهو دليل قطعي وهذا دليل ظني والظن لا يعارض القطع وهذا الجواب يستفاد من نفس تقرير الدليل وهذه قاعدة كلية عند أهل المناظرة في أمثال هذه الإيرادات بأن يقال ما أردته إما مجمع عليه أو لا فإن كان فالدليل مخصوص بالإجماع وإلا فلا يتم الإيراد إذ لا إلزام إلا بالمجمع عليه لا يقال كيف يقال الإجماع منعقد على أفضلية الصديق رضي الله تعالى عنه وقد أنكر ذلك طائفة الشيعة والخوارج من العثمانية لأنا نقول لا اعتبار بمخالفة أهل الضلال والأصل إجماع أهل السنة والجماعة
( بيان استنباط الفوائد ) منها الدلالة على تفاضل أهل الإيمان ومنها الدلالة على فضيلة عمر رضي الله عنه ومنها تعبير الرؤيا وسؤال العالم بها عنها ومنها جواز إشاعة العالم الثناء على الفاضل من أصحابه إذا لم يحس به بإعجاب ونحوه ويكون الغرض التنبيه على فضله لتعلم منزلته ويعامل بمقتضاها ويرغب الاقتداء به والتخلق بأخلاقه
16 -
( باب الحياء من الإيمان )
أي هذا باب والباب منون والحياء مرفوع سواء أضفت إليه الباب أم لا لأنه مبتدأ ومن الإيمان خبر فإن قلت قد قلت إن الباب منون ولا شك أنه خبر مبتدأ محذوف فيكون جملة وقوله الحياء من الإيمان جملة أخرى وعلى تقدير عدم الإضافة ما الرابطة بين الجملتين قلت هي محذوفة تقدير الكلام هذا باب فيه الحياء من الإيمان يعني بيان أن الحياء من الإيمان وبيان تفسير الحياء ووجه كونه من الإيمان قد تقدما في باب أمور الإيمان
وجه المناسبة بين البابين أن في الباب الأول بيان تفاضل الإيمان في الأعمال وهذا الباب أيضا من جملة ما يفضل به الإيمان وهو الحياء الذي يحجب صاحبه عن أشياء منكرة عند الله وعند الخلق
24 - حدثنا ( عبد الله بن يوسف ) قال أخبرنا ( مالك بن أنس ) عن ( ابن شهاب ) عن ( سالم بن عبد الله ) عن أبيه أن رسول الله مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله دعه فإن الحياء من الإيمان
( الحديث 24 - طرفه في 6118 )
الحديث مطابق للترجمة لأنه أخذ جزأ منه فبوب عليه كما هو عادته
بيان رجاله وهم خمسة الأول عبد الله بن يوسف التنيسي نزيل دمشق وقد ذكره الثاني الإمام مالك بن أنس الثالث محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الرابع سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي التابعي الجليل أحد الفقهاء السبعة بالمدينة على أحد الأقوال وقال ابن المسيب كان سالم أشبه ولد عبد الله بعبد الله وعبد الله أشبه ولد عمر بعمر رضي الله عنه وقال مالك لم يكن في زمن سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد منه كان يلبس الثوب بدرهمين وقال ابن راهويه أصح الأسانيد كلها الزهري عن سالم عن أبيه وكان أبوه يلام في إفراط حب سالم وكان يقبله ويقول ألا تعجبون من شيخ يقبل شيخا مات بالمدينة سنة ست ومائة وقيل خمس وقيل ثمان وصلى عليه هشام بن عبد الملك وله أخوة عبد الله وعاصم وحمزة وبلال وواقد وزيد وكان عبد الله وصى أبيهم فيهم وروى عنه منهم أربعة عبد الله وسالم وحمزة وبلال الخامس عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

(1/175)


( بيان لطائف إسناده ) ومنها أن رجاله كلهم مدنيون ما خلا عبد الله ومنها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ومنها أن في رواية الأكثرين أخبرنا مالك وفي رواية الأصيلي حدثنا مالك بن أنس وفي رواية كريمة مالك بن أنس والحديث في الموطأ
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه هنا عن عبد الله عن مالك وأخرجه في البر والصلة عن أحمد بن يونس عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن الزهري وأخرجه مسلم هنا أيضا عن الناقدي وزهير عن سفيان وعن عبد الله بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ولم يقع لمسلم لفظة دعه وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي أيضا
( بيان اللغات ) قوله مر علي رجل يقال مر عليه ومر به بمعنى واحد أي اجتازه وفي ( العباب ) مر عليه وبه يمر مرا أي اجتاز وبنو يربوع يقولون مر علينا بكسر الميم ومر يمر مرا ومرورا وممرا أي ذهب والممر موضع المرور أيضا والأنصار جمع الناصر كالأصحاب جمع الصاحب أو جمع النصير كالأشراف جمع الشريف قوله يعظ أخاه أي ينصح أخاه من الوعظ وهو النصح والتذكير بالعواقب وقال ابن فارس هو التخويف والإنذار وقال الخليل بن أحمد هو التذكير بالخير فيما يرق القلب وفي ( العباب ) الوعظ والعظة والموعظة مصادر قولك وعظته عظة قوله دعه أي أتركه وهو أمر لا ماضي له قالوا أماتوا ماضي يدع ويذر قلت استعمل ماضي دع ومنه قراءة من قرأ ما ودعك ربك ( الضحى 3 ) بالتخفيف فعلى هذا هو أمر من ودع يدع وأصل يدع يودع حذفت الواو فصار يدع والأمر دع وفي ( العباب ) قولهم دع ذا أي أتركه وأصله ودع يدع وقد أميت ماضيه لا يقال ودعه إنما يقال تركه ولا وادع ولكن تارك وربما جاء في ضرورة الشعر ودعه فهو مودوع على أصله قال أنس بن زنينم ( ليت شعري عن خليلي ما الذي
غاله في الوعد حتى ودعه )
ثم قال الصغاني وقد اختار النبي أصل هذه اللغة فيما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قرأ وما ودعك ربك ( الضحى 3 ) بالتخفيف أعني بتخفيف الدال وكذلك قرأ بهذه القراءة عروة ومقاتل وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويزيد النحوي رحمهم الله تعالى
( بيان الإعراب ) قوله مر علي رجل جملة في محل الرفع لأنها وقعت خبرا لأن قوله من الأنصار صفة لرجل والألف واللام فيه للعهد أي أنصار رسول الله الذين آووا ونصروا من أهل المدينة رضي الله عنهم قوله وهو يعظ أخاه جملة إسمية محلها النصب على الحال قوله في الحياء يتعلق بقوله يعظ قوله ودعه جملة من الفعل والفاعل والمفعول لأنها وقعت مقول القول قوله فإن الحياء الفاء فيه للتعليل
( بيان المعاني والبيان ) قوله وهو يعظ أخاه يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الرجل الذي وعظ أخا للواعظ في الإسلام على ما هو عرف الشرع فعلى هذا يكون مجازا لغويا أو حقيقة عرفية والآخر وهو الظاهر أن يكون أخاه في القرابة والنسب فعلى هذا هو حقيقة قوله في الحياء فيه حذف أي في شأن الحياء وفي حقه معناه أنه ينهاه عنه ويخوفه منه فزجره النبي عن وعظه فقال دعه أي اتركه على حيائه فإن الحياء من الإيمان وقال التيمي الوعظ الزجر يعني يزجره عن الحياء ويقول له لا تستحي فقال رسول الله دعه يستحي فإن الحياء من الإيمان إذ الشخص يكف عن أشياء من مناهي الشرع للحياء ويكثر مثل هذا في زماننا وقال ابن قتيبة معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان فسمي إيمانا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه وقال بعضهم الأولى أن نشرح يعني قوله يعظ بما جاء عن المصنف في الأدب من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة عن ابن شهاب ولفظه يعاتب أخاه في الحياء يقول إنك لتستحي حتى كأنه يقول قد أضربك انتهى قلت هذا بعيد من حيث اللغة فإن معنى الوعظ الزجر ومعنى العتب الوجد وفي ( العباب ) عتبة عليه إذا وجد يعتب عليه ويعتب عتبا ومعتبا على أن الروايتين تدلان على معنيين جليين ليس في واحد منهما خفاء حتى يفسر أحدهما بالآخر غاية في الباب أن الواعظ المذكور وعظ أخاه في استعماله الحياء وعاتبه عليه والراوي حكى في إحدى روايتيه بلفظ الوعظ وفي الأخرى بلفظ المعاتبة وذلك أن

(1/176)


الرجل كان كثير الحياء وكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه فتوعظه أخوه على مباشرة الحياء وعاتبه على ذلك فقال النبي دعه أي اتركه على هذا الخلق الحسن لأن الحياء خير له في ذلك بل في كل الأوقات وكل الحالات يدل على ذلك ما جاء في الرواية الأخرى الحياء لا يأتي إلا بخير وفي رواية أخرى الحياء خير كله فإن قلت ما وجه التأكيد بأن في قوله فإن الحياء من الإيمان وإنما يؤكد بأن ونحوها إذا كان المخاطب منكرا أو شاكا قلت الظاهر أن المخاطب كان شاكا بل كان منكرا له لأنه منعه من ذلك فلو كان معترفا بأنه من الإيمان لما منعه من ذلك ولئن سلمنا أنه لم يكن منكرا لكنه جعل كالمنكر لظهور أمارات الإنكار عليه ويجوز أن يكون هذا من باب التأكيد لدفع إنكار غير المخاطب ويجوز أن يكون التأكيد من جهة أن القصة في نفسها مما يجب أن يهتم بها ويؤكد عليها وإن لم يكن ثمة إنكار أو شك من أحد فافهم وقال بعضهم والظاهر أن الناهي ما كان يعرف أن الحياء من مكملات الإيمان فلهذا وقع التأكيد قلت هذا كلام من لم يذق شيئا ما من علم المعاني فإن الخطاب لمثل هذا الناهي الذي ذكره لا يحتاج إلى تأكيد لأنه ليس بمنكر ولا متردد وإنما هو خالي الذهن وهو لا يحتاج إلى التأكيد فإنه كما يسمع الكلام ينتقش في ذهنه على ما عرف في كتب المعاني والبيان فإن قلت ما معنى الحياء قلت قد فسرته فيما مضى عند قوله والحياء شعبة من الإيمان وقال التيمي الحياء الاستحياء وهو ترك الشيء لدهشة تلحقك عنده قال تعالى ويستحيون نساءكم ( البقرة 49 والأعراف 141 وإبراهيم 6 ) أي يتركون قال وأظن أن الحياة منه لأنه البقاء من الشخص وقال الكرماني ليس هو ترك الشيء بل هو دهشة تكون سببا لترك الشيء قلت التحقيق أن الحياء تغير وانكسار عند خوف ما يعاب أو يذم وليس هو بدهشة ولا ترك الشيء وإنما ترك الشيء من لوازمه فإن قلت يمنع ما قلت إسناده إلى الله تعالى في قوله إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ( البقرة 26 ) قلت هذا من باب المشاكلة وهي أن يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته فلما قال المنافقون أما يستحي رب محمد يذكر الذباب والعنكبوت في كتابه أجيبوا بأن الله لا يستحي والمراد لا يترك ضرب المثل بهذه الأشياء فأطلق عليه الاستحياء على سبيل المشاكلة كما في قوله فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق ( الأحزاب 53 ) ومن هذا القبيل قوله عليه السلام إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا وهذا جار على سبيل الاستعارة التبعية التمثيلية شبه ترك الله تعالى تخييب العبد ورد يديه صفرا بترك الكريم رد المحتاج حياء فقيل ترك الله رد المحتاج حياء كما قيل ترك الكريم رد المحتاج حياء فأطلق الحياء ثمة كما أطلق الحياء ههنا فذلك استعير ترك المستحي لترك ضرب المثل ثم نفى عنه فإن قلت ما معنى من في قوله من الإيمان قلت معناه التبعيض والدليل عليه قوله في الحديث السالف الحياء شعبة من الإيمان فإن قلت قد علم ذلك منه فما فائدة التكرار قلت كان المقصود ثمة بيان أمور الإيمان وأنه من جملتها فذكر ذلك بالتبعية وبالعرض وههنا ذكره بالقصد وبالذات مع فائدة مغايرة الطريق فإن قلت إذا كان الحياء بعض الإيمان فإن انتفى الحياء انتفى بعض الإيمان وإذا انتفى بعض الإيمان انتفى حقيقة الإيمان فينتج من هذه المقدمات انتفاء الإيمان عمن لم يستح وانتفاء الإيمان كفر قلت لا نسلم صدق كون الحياء من حقيقة لإيمان لأن المعنى فإن الحياء من مكملات الإيمان ونفي الكمال لا يستلزم نفي الحقيقة نعم الإشكال قائم على قول من يقول الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان وهذا لم يقل به المحققون كما ذكرنا فيما مضى قلت من فوائده الحض على الامتناع من قبائح الأمور ورذائلها وكل ما يستحى من فعله والدلالة على أن النصيحة إنما تعد إذا وقعت موقعها والتنبيه على زجر مثل هذا الناصح
17 -
( باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم )
الكلام فيه على وجوه الأول أن قوله باب ينبغي أن لا يعرب لأنه كتعديد الأسماء من غير تركيب والإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب وقال بعضهم باب هو منون في الرواية والتقدير باب في تفسير قوله تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة ( التوبة 5 ) وتجوز الإضافة أي باب تفسير قوله وإنما جعل الحديث تفسيرا للآية لأن المراد بالتوبة في الآية الرجوع

(1/177)


عن الكفر إلى التوحيد ففسره قوله حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قلت فيه نظر من وجوه الأول أن قوله باب وهو منون في الرواية دعوى بلا برهان فمن قال من المشايخ الكبار إن هذه رواية ممن لا يعتمد على كلامهم على أن الرواية إذا خالفت الدراية لا تقبل اللهم إلا إذا وقع نحو هذا في الألفاظ النبوية فحينئذ يجب تأويلها على وفق الدراية وقد قلنا إن هذا بمفرده لا يستحق الإعراب إلا إذا قدرنا نحو هذا باب بالتنوين أو بالإعراب بلا تنوين بتقدير الإضافة إلى الجملة التي بعده الثاني أن تقديره بقوله باب في تفسير قوله تعالى ليس بصحيح لأن البخاري ما وضع هذا الباب في تفسير هذه الآية لأنه ليس في صدد التفسير في هذه الأبواب وإنما هو في صدد بيان أمور الإيمان وبيان أن الأعمال من الإيمان على ما يراه واستدل على ذلك في هذا الباب بالآية المذكورة وبالحديث المذكور أما الآية فلأن المذكور فيها التوبة التي هي الرجوع من الكفر إلى التوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكذلك في الحديث المذكور فيه هذه الأشياء الثلاثة فكما ذكر في الآية أن من أتى بهذه الأشياء الثلاث فإنه يخلي فكذلك ذكر في الحديث أن من أتى بهذه الأشياء الثلاثة فإنه قد يعصم دينه وماله إلا بحق ومعنى التخلية والعصمة واحد ههنا وهذا هو وجه المناسبة بين الآية المذكورة والحديث المذكور النظر الثالث أن قوله ففسره قوله عليه السلام حتى يشهدوا أن لا إلا الله وأن محمدا رسول الله ليس كذلك لأنه ما أخرج الحديث ههنا تفسيرا للآية وإنما أخرجه ههنا لأجل الرد على المرجئة في قولهم إن الإيمان غير مفتقر إلى الأعمال على أنه قد روي عن أنس رضي الله عنه أن هذه الآية آخر ما نزل من القرآن ولا شك أن الحديث المذكور متقدم عليها لأن النبي عليه السلام إنما أمر بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله في ابتداء البعثة والمتقدم لا يكون مفسرا للمتأخر
الوجه الثاني في الكلام في الآية المذكورة وهو على أنواع الأول أن هذه الآية الكريمة في سورة براءة وأولها قوله عز و جل فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتووا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ( التوبة 5 ) نزلت في مشركي مكة وغيرهم من العرب وذلك أنهم عاهدوا المسلمين ثم نكثوا إلا ناسا منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فنبذوا العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين إن شاؤا لا يتعرض لهم وهي الأشهر الحرم وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها فإذا انسلخت قاتلوهم وهو معنى قوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ( التوبة 5 ) الآية النوع الثاني في لغات الآية فقوله انسلخ معناه خرج يقال انسلخ الشهر من سنته والرجل من ثيابه والحبة من قشرها والنهار من الليل المقبل لأن النهار مكور على الليل فإذا انسلخ ضوؤه بقي الليل غاسقا قد غشي الناس وقال الزمخشري انسلخ الشهر كقولهم انجرد الشهر وسنة جرداء والأشهر الحرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الفرد الذي بين جمادى وشعبان قوله فاقتلوا المشركين ( التوبة 5 ) يعني الذين نقضوكم وظاهروا عليكم قوله حيث وجدتموهم يعني من حل أو حرام قوله وخذوهم ( التوبة 5 ) يعني اسروهم والأخيذ الأسير قوله واحصروهم ( التوبة 5 ) يعني قيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد وعن ابن عباس رضي الله عنهما حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام قولهم كل مرصد ( التوبة 5 ) يعني كل ممر ومجتاز ترصدونهم به قوله فإن تابوا ( التوبة 5 ) أي عن الشرك وأقاموا الصلاة ( التوبة 5 ) أي أدوها في أوقاتها وآتوا الزكاة أي أعطوها قوله فخلوا سبيلهم يعني أطلقوا عنهم قيد الأسر والحصر أو معناه كفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم لأنهم عصموا دماءهم وأموالهم بالرجوع عن الكفر إلى الإسلام وشرائعه وعن ابن عباس دعوهم وإتيان المسجد الحرام إن الله غفور يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر رحيم بالعفو عنهم النوع الثالث قوله فإذا انسلخ جملة متضمنة معنى الشرط وقوله فاقتلوا جوابه قوله كل مرصد نصب على الظرف كقوله لاقعدن لهم صراطك المستقيم ( الأعراف 16 ) قوله فخلوا سبيلهم ( التوبة 5 ) جواب الشرط أعني قوله فإن تابوا
الوجه الثالث ذكر الآية والتبويب عليها للرد على المرجئة كما ذكرنا وللتنبيه على أن الأعمال من الإيمان وأنه قول وعمل كما هو مذهبه ومذهب جماعة من السلف

(1/178)


25 - حدثنا ( عبد الله بن محمد المسندي ) قال حدثنا ( أبو روح الحرمي بن عمارة ) قال حدثنا ( شعبة ) عن ( واقد بن محمد ) قال سمعت أبي يحدث عن ( ابن عمر ) أن رسول الله قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله
معنى الحديث مطابق لمعنى الآية فلذلك قرن بينهما وتعلقهما بكتاب الإيمان يجعلها بابا من أبوابه هو أن يعلم منه أن من آمن صار معصوما وأن يعلم أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاء من جملة الإيمان على ما ذهب إليه
بيان رجاله وهم ستة الأول عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان هو المسندي بضم الميم وفتح النون وقد تقدم الثاني أبو روح بفتح الراء وسكون الواو وهو كنيته واسمه الحرمي بفتح الحاء والراء المهملتين وكسر الميم وتشديد الياء آخر الحروف وهو اسمه بلفظ النسبة تثبت فيه الألف واللام وتحذف كما في مكي بن إبراهيم وهو ابن عمارة بضم العين المهملة وتخفيف الميم بن أبي حفصة واسم أبي حفصة نابت بالنون وقيل بالثاء المثلثة والأول أشهر وقيل اسمه عبيد العتكي مولاهم البصري سمع شعبة وغيره روى عنه عبيد الله بن عمر القواريري وعنه مسلم وعلي بن المديني وعبد الله المسندي عند البخاري توفي سنة إحدى ومائتين روى له الجماعة إلا الترمذي وقال يحيى بن معين صدوق ووهم الكرماني في هذا في موضعين أحدهما أنه جعل الحرمي نسبة وليس هو بمنسوب إلى الحرم أصلا لأنه بصري الأصل والمولد والمنشأ والمسكن والوفاة والآخر أنه جعل اسم جده اسمه حيث قال أبو روح كنيته واسمه نابت وحرمي نسبته والصواب ما ذكرناه والمسمى بحرمي أيضا اثنان حرمي بن حفص العتكي روى له البخاري وأبو داود والنسائي وحرمي بن يونس المؤدب روى له النسائي الثالث شعبة بن الحجاج الرابع واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمرو وواقد أخو أبي بكر وعمر وزيد وعاصم وكلهم رووا عن أبيهم محمد ومحمد أبوهم هذا روى له عن جده عبد الله وعن ابن عباس وعبد الله بن الزبير قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين واقد هذاثقة روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وواقد هذا بالقاف وليس في الصحيحين وافد بالفاء الخامس أبوه محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر وثقه أبو حاتم وأبو زرعة وروى له الجماعة السادس عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
( بيان لطائف إسناده منها ) أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ومنها أن في رواية ابن عساكر حدثنا عبد الله بن محمد المسندي بزيادة المسندي وفي رواية الأصيلي عن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ومنها أن فيه رواية الأبناء عن الآباء وهو كثير لكن رواية الشخص عن أبيه عن جده أقل وواقد هنا روى عن أبيه عن جد أبيه ومنها أن إسناد هذا الحديث غريب تفرد بروايته شعبة عن واقد قاله ابن حبان وهو عن شعبة عزيز تفرد بروايته عنه الحرمي المذكور وعبد الملك بن الصباح وهو عزيز عن الحرمي تفرد به عنه المسندي وإبراهيم بن محمد بن عرعرة ومن جهة إبراهيم أخرجه أبو عوانة وابن حبان الإسماعيلي وغيرهم وهو غريب عن عبد الملك تفرد به عنه أبو غسان بن عبد الواحد شيخ مسلم فاتفق الشيخان على الحكم بصحته مع غرابته
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به الحديث وأخرجه مسلم أيضا وأخرجه البخاري أيضا من حديث أنس رضي الله عنه كما سيأتي في الصلاة وأخرجه مسلم أيضا من حديث جابر والحديث المذكور أخرجه مسلم أيضا من هذا الوجه ولم يقل إلا بحق الإسلام
( بيان اللغات ) قوله أمرت على صيغة المجهول والأمر هو قول القائل لمن دونه إفعل على سبيل الاستعلاء وقال

(1/179)


الكرماني وأصح التعاريف للأمر هو القول الطالب للفعل وليس كذلك على ما لا يخفى والأمر في الحقيقة هو المعنى القائم في النفس فيكون قوله إفعل عبارة عن الأمر المجازي تسمية للدال باسم المدلول قوله ويقيموا الصلاة معنى إقامة الصلاة إما تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها من أقام العود إذا قومه وإما المداومة عليها من قامت السوق إذا نفقت وإما التجلد والتشمر في أدائها من قامت الحرب على ساقها وإما أداؤها تعبيرا عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها والصلاة هي العبادة المفتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم قوله ويؤتوا الزكاة أي يعطوها والزكاة هي القدر المخرج من النصاب للمستحق قوله عصموا أي حفظوا وحقنوا ومعنى العصم في اللغة المنع ومنه العصام وهو الخيط الذي تشد به فم القربة سمي به لمنعه الماء من السيلان وقال الجوهري العصمة الحفظ يقال عصمه فانعصم واعتصمت بالله إذا امتنعت بلطفه من المعصية وعصم يعصم عصما بالفتح إذا اكتسب وقال بعضهم العصمة مأخوذة من العصام وهو الخيظ الذي يشد به فم القربة قلت هذا القائل قلب الاشتقاق وإنما العصام مشتق من العصمة لأن المصادر هي التي يشتق منها ولم يقل بهذا إلا من لم يشم رائحة علم الاشتقاق والدماء جمع دم نحو جمال جمع جمل إذ أصل دم دمو بالتحريك وقال سيبويه أصله دمي على فعل بالتسكين لأنه يجمع على دماء ودمي مثل ظباء وظبي ودلو ودلاء ودلى قال ولو كان مثل قفا وعصى لما جمع على ذلك وقال المبرد أصله فعل بالتحريك وإن جاء جمعه مخالفا لنظائره والذاهب منه الياء والدليل عليها قولهم في تثنيته دميان
( بيان الأعراب ) قوله أمرت جملة من الفعل والمفعول النائب عن الفاعل وقعت مقولا للقول قوله أن أقاتل أصله بأن أقاتل وحذف الباء الجارة من أن كثير سائغ مطرد وأن مصدرية تقديره مقاتلة الناس قوله حتى يشهدوا كلمة حتى ههنا للغاية بمعنى إلى فإن قلت غاية لماذا قلت يجوز أن يكون غاية للقتال ويجوز أن يكون غاية للأمر به قوله يشهدوا منصوب بأن المقدرة إذ أصله أن يشهدوا وعلامة النصب سقوط النون لأن أصله يشهدون قوله أن لا إله الله أصله بأن لا إله إلا الله والدليل عليه ما جاء في الرواية الأخرى حتى يقولوا قوله وأن محمدا عطف على أن لا إله إلا الله والتقدير وحتى يشهدوا أن محمدا رسول الله قوله ويقيموا عطف على يشهدوا أيضا وأصله وحتى يقيموا الصلاة وأن يؤتوا الزكاة قوله فإذا للظرف لكنه يتضمن معنى الشرط قوله ذلك في محل النصب على أنه مفعول فعلوا وهو إشارة إلى ما ذكر من شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتذكير الإشارة باعتبار المذكور قوله عصموا جملة من الفعل والفاعل جواب لإذا وقوله دماؤهم مفعول الجملة و أموالهم عطف عليه قوله إلا بحق الإسلام استثناء مفرغ والمستثنى منه أعم عام الجار والمجرور والعصمة متضمنة لمعنى النفي حتى يصح تفريغ الاستثناء إذ هو شرطه أي لا يجوز إهدار دمائهم واستباحة أموالهم بسبب من الأسباب إلا بحق الإسلام والتحقيق فيه أن الاستثناء المفرغ لا يكون إلا في النفي وقال ابن مالك بجوازه في كل موجب في معنى النفي نحو صمت إلا يوم الجمعة إذ معناه لم أفطر والتفريغ إما في نهي صريح كقوله تعالى ولا تقولوا على الله إلاالحق ( النساء 171 ) وفيما هو بمعناه كالشرط في قوله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال ( الأنفال 16 ) وأما في نفي صريح كقوله تعالى وما محمد إلا رسول ( آل عمران 144 ) أو فيما هو بمعناه كقوله تعالى فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ( الأحقاف 35 ) ثم الإضافة في بحق الإسلام يجوز أن تكون بمعنى اللام ويجوز أن تكون بمعنى من وبمعنى في على ما لا يخفى قوله وحسابهم كلام إضافي مبتدأ وعلى الله خبره والمعنى حسابهم بعد هذه الأشياء على الله في أمر سرائرهم
( بيان المعاني والبيان ) قوله أمرت أقيم فيه المفعول مقام الفاعل لشهرة الفاعل ولتعينه بذلك إذ لا آمر للرسول غير الله تعالى والتقدير أمرني الله تعالى بأن أقاتل الناس وكذلك إذا قال الصحابي أمرنا بكذا يفهم منه أن الآمر هو الرسول إذ لا آمر بينهم إلا الرسول لأنه هو المشرع وهو المبين وأما إذا قال التابعي أمرنا بكذا فإن ذلك محتمل وقال الكرماني إذا قال الصحابي أمرنا بكذا فهم منه أن الرسول عليه السلام هو الآمر له فإن من اشتهر بطاعة رئيسه إذا قال ذلك فهم منه أن الرئيس

(1/180)


أمره به وفائدة العدول عن التصريح دعوى اليقين والتعويل على شهادة العقل وقال بعضهم وقياسه في الصحابي إذا قال أمرت فالمعنى أمرني رسول الله من حيث إنهم مجتهدون والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منهم أن الآمر له ذلك الرئيس قلت خذ كلام الكرماني وقلب معناه لأن الكرماني جعل قوله فإن من اشتهر بطاعة رئيس إلى آخره علة لقوله فهم منه أن الرسول عليه السلام هو الآمر له وهذا القائل أوقع هذه العلة حاملا وداعيا وهو عكس المقصود وقوله أيضا من حيث إنهم مجتهدون لا دخل له في الكلام لأن الحيثية تقع قيدا وهذا القيد غير محتاج إليه ههنا لأنا قلنا إن الصحابي إذا قال أمرت معناه أمرني رسول الله من حيث إنه هو الآمر بينهم وهو المشرع وليس المعنى أمرني رسول الله من حيث إني مجتهد وهذا كلام في غاية السقوط قوله أقاتل الناس إنما ذكر باب المفاعلة التي وضعت لمشاركة الإثنين لأن الدين إنما ظهر بالجهاد والجهاد لا يكون إلا بين اثنين والألف واللام في الناس للجنس يدخل فيه أهل الكتاب الملتزمين لأداء الجزية قلت هؤلاء قد خرجوا بدليل آخر مثل حتى يعطوا الجزية ( التوبة 29 ) ونحوه ويدل عليه رواية النسائي بلفظ أمرت أن أقاتل المشركين قال الكرماني والناس قالوا أريد به عبدة الأوثان دون أهل الكتاب لأن القتال يسقط عنهم بقبول الجزية قلت فعلى هذا تكون اللام للعهد ولا عهد إلا في الخارج والتحقيق ما قلنا ولهذا قال الطيبي هو من العام الذي خص منه البعض لأن القصد الأولي من هذا الأمر حصول هذا المطلوب لقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( الذاريات 56 ) فإذا تخلف منه أحد في بعض الصور لعارض لا يقدح في عمومه ألا ترى أن عبدة الأوثان إذا وقعت المهادنة معهم تسقط المقاتلة وتثبت العصمة قال ويجوز أن يعبر بمجموع الشهادتين وفعل الصلاة والزكاة عن إعلاء كلمة الله تعالى وإذعان المخالفين فيحصل في بعضهم بذلك وفي بعضهم بالجزية وفي الآخرين بالمهادنة قال وأيضا الاحتمال قائم في أن ضرب الجزية كان بعد هذا القول قلت بل الظاهر أن الحديث المذكور متقدم على مشروعية أخذ الجزية وسقوط القتال بها فحينئذ تكون اللام للجنس كما ذكرنا وأيضا المراد من وضع الجزية أن يضطروا إلى الإسلام وسبب السبب سبب فيكون التقدير حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ولكنه اكتفى بما هو المقصود الأصلي من خلق الخلائق وهو قوله عز و جل وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( الذاريات 56 ) أو نقول إن المقصود هو القتال أو ما يقوم مقامه وهو أخذ الجزية أو المقصود هو الإسلام منهم أو ما يقوم مقامه في دفع القتال وهو إعطاء الجزية وكل هذه التأويلات لأجل ما ثبت بالإجماع سقوط القتال بالجزية فافهم قوله فإذا فعلوا ذلك قد قلنا إن ذلك مفعول فعلوا فإن قلت المشار إليه بعضه قول فكيف إطلاق الفعل عليه قلت إما باعتبار أنه عمل اللسان وإما على سبيل التغليب للاثنين على الواحد قوله وحسابهم على الله على سبيل التشبيه أي هو كالواجب على الله في تحقق الوقوع وذلك أن لفظة على مشعرة بالإيجاب في عرف الاستعمال ولا يجب على الله شيء وكأن الأصل فيه أن يقال وحسابهم الله أو إلى الله وأما عند المعتزلة فهو ظاهر لأنهم يقولون بوجوب الحساب عقلا والمعنى أن أمور سرائرهم إلى الله تعالى وأما نحن فنحكم بالظاهر فنعاملهم بمقتضى ظاهر أقوالهم وأفعالهم أو معناه هذا القتال وهذه العصمة إنما هو من الأحكام الدنيوية وهو مما يتعلق بنا وأما الأمور الأخروية من دخول الجنة والنار والثواب والعقاب وكميتهما وكيفيتهما فهو مفوض إلى الله تعالى لا دخل لنا فيها
( بيان استنباط الأحكام ) وهو على وجوه الأول قال النووي يستدل بالحديث على أن تارك الصلاة عمدا معتقدا وجوبها يقتل وعليه الجمهور قلت لا يصح هذا الاستدلال لأن المأمور به هو القتال ولا يلزم من إباحة القتال إباحة القتل لأن باب المفاعلة يستلزم وقوع الفعل من الجانبين ولا كذلك القتل فافهم ثم اختلف أصحاب الشافعي هل يقتل على الفور أم يمهل ثلاثة أيام الأصح الأول والصحيح أنه يقتل بترك صلاة واحدة إذا خرج وقت الضرورة لها وأنه يقتل بالسيف وهو مقتول حدا وقال أحمد في رواية أكثر أصحابه عنه تارك الصلاة عمدا يكفر ويخرج من الملة وبه قال بعض أصحاب الشافعي فعلى هذا له حكم المرتد فلا يغسل ولا يصلى عليه وتبين منه امرأته وقال أبو حنيفة والمزني يحبس إلى أن يحدث توبة ولا يقتل ويلزمهم أنهم احتجوا به على قتل تارك الصلاة عمدا ولم يقولوا بقتل مانع الزكاة مع أن

(1/181)


الحديث يشملها ومذهبهم أن مانع الزكاة تؤخذ منه قهرا ويعزر على تركها وسئل الكرماني ههنا عن حكم تارك الزكاة ثم أجاب بأن حكمهما واحد ولهذا قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة فإن أراد أن حكمهما واحد في المقاتلة فمسلم وإن أراد في القتل فممنوع لأن الممتنع من الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهرا بخلاف الصلاة أما إذا انتصب صاحب الزكاة للقتال لمنع الزكاة فإنه يقاتل وبهذه الطريقة قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة ولم ينقل أنه قتل أحدا منهم صبرا ولو ترك صوم رمضان حبس ومنع الطعام والشراب نهارا لأن الظاهر أنه ينويه لأنه معتقد لوجوبه كما ذكر في كتب الشافعية الثاني قال النووي يستدل به على وجوب قتال مانعي الصلاة والزكاة وغيرهما من واجبات الإسلام قليلا كان أو كثيرا قلت فعن هذا قال محمد بن الحسن إن أهل بلدة أو قرية إذا اجتمعوا على ترك الأذان فإن الإمام يقاتلهم وكذلك كل شيء من شعائر الإسلام الثالث فيه أن من أظهر الإسلام وفعل الأركان يجب الكف عنه ولا يتعرض له
الرابع فيه قبول توبة الزنديق ويأتي إن شاء الله تعالى في المغازي قول النبي إني لم أؤمر أن أشق على قلوب الناس ولا عن بطونهم الحديث بطوله جوابا القول خالد رضي الله عنه ألا أضرب عنقه فقال عليه السلام لعله يصلي فقال خالد وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس بقلبه ولأصحاب الشافعي رحمه الله في الزنديق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ويعلم ذلك بأن يطلع الشهود على كفر كان يخفيه أو علم بإقراره خمسة أوجه أحدها قبول توبته مطلقا وهو الصحيح المنصوص عن الشافعي والدليل عليه قوله أفلا شققت عن قلبه والثاني به قال مالك لا تقبل توبته ورجوعه إلى الإسلام لكنه إن كان صادقا في توبته نفعه ذلك عند الله تعالى وعن أبي حنيفة روايتان كالوجهين والثالث إن كان من الدعاة إلى الضلال لم تقبل توبتهم وتقبل توبة عوامهم والرابع إن أخذ ليقتل فتاب لم تقبل وإن جاء تائبا ابتداء وظهرت مخائل الصدق عليه قبلت وحكي هذا القول عن مالك وممن حكاه عبد الواحد السفاقسي قال قال مالك لا تقبل توبة الزنديق إلا إذا كان لم يطلع عليه وجاء تائبا فإنه تقبل توبته والخامس إن تاب مرة قبلت منه وإن تكررت منه التوبة لم تقبل وقال صاحب ( التقريب ) من أصحابنا روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في الزنديق الذي يظهر الإسلام قال إستتيبه كالمرتد وقال أبو يوسف مثل ذلك زمانا فلما رأى ما يصنع الزنادقة من إظهار الإسلام ثم يعودون قال إن أتيت بزنديق أمرت بقتله ولم استتبه فإن تاب قبل أن أقتله خليته وروى سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله في نوادر له قال قال أبو حنيفة اقتلوا الزنديق المستتر فإن توبته لا تعرف
الخامس قالوا فيه دليل على أن الإعتقاد الجازم كاف في النجاة خلافا لمن أوجب تعلم الأدلة وجعله شرطا في الإسلام وهو كثير من المعتزلة وقول بعض المتكلمين وقال النووي قد تظاهرت الأحاديث الصحيحة التي يحصل من عمومها العلم القطعي بأن التصديق الجازم كاف قال الإمام المقترح اختلف الناس في وجوب المعرفة على الأعيان فذهب قوم إلى أنها لا تجب وقوم إلى وجوبها وادعى كل واحد من الفريقين الإجماع على نقيض ما ادعى مخالفه واستدل النافون بأنه قد ثبت من الأولين قبول كلمتي الشهادة من كل ناطق بها وإن كان من البله والمغفلين ولم يقل له هل نظرت أو أبصرت واستدل المثبتون من الأولين الأمر بها مثل ابن مسعود وعلي ومعاذ رضي الله عنهم وأجابوا عن الأول بأن كلمتي الشهادة مظنة العلم والحكم في الظاهر يدار على المظنة وقد كان الكفرة يذبون عن دينهم وما رجعوا إلا بعد ظهور الحق وقيام علم الصدق والمقصود إخلاص العبد فيما بينه وبين الله تعالى فلا بد أن يكون على بصيرة من أمره ولقد كانوا يفهمون الكتاب العربي فهما وافيا بالمعاني والكتاب العزيز مشتمل على الحجج والبراهين قلت وهذا الثاني هو مختار إمام الحرمين والإمام المقترح والأول مختار الأكثرين والله أعلم السادس فيه اشتراط التلفظ بكلمتي الشهادة في الحكم بالإسلام وأنه لا يكف عن قتالهم إلا بالنطق بهما السابع فيه عدم تكفير أهل الشهادة من أهل البدع الثامن فيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر التاسع فيه دليل على أن حكم النبي والأئمة بعده إنما كان على الظاهر والحساب على السرائر إلى الله تعالى دون خلقه وإنما جعل إليهم ظاهر أمره دون خفيه العاشر أن هذا الحديث مبين ومقيد لما جاء من الأحاديث المطلقة منها ما جاء في حديث عمر رضي الله عنه ومناظرته مع أبي

(1/182)


بكر رضي الله عنه في شأن قتال مانعي الزكاة وفيه فقال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني دمه وماله إلا بحقه وحسابهم على الله فقال أبو بكر رضي الله عنه والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فانتقال أبي بكر رضي الله عنه إلى القياس واعتراض عمر رضي الله عنه عليه أولى دليل على أنه خفي عليهما وعلى من حضرهما من الصحابة رضي الله عنهم حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور كما خفي عليهم حديث جزية المجوس وشأن الطاعون لأنه لو استحضروه لم ينتقل أبو بكر رضي الله عنه إلى القياس ولم ينكر عمر رضي الله عنه على أبي بكر رضي الله عنه قلت ومن هذا قال بعضهم في صحة حديث ابن عمر المذكور نظر لأنه لو كان عند ابن عمر لما ترك أباه ينازع أبا بكر رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة ولو كانوا يعرفونه لما كان أبو بكر يقر عمر على الاستدلال بقوله عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ولما انتقل من الاستدلال بهذا النص إلى القياس إذ قال لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة لأنها قرينتها في كتاب الله عز و جل وأجيب عن ذلك بأنه لا يلزم من كون الحديث المذكور عند ابن عمر رضي الله عنهما أن يكون استحضره في تلك الحالة ولو كان مستحضرا له فقد يحتمل أن لا يكون حضر المناظرة المذكورة ولا يمتنع أن يكون ذكره لما بعد وقالوا لم يستدل أبو بكر رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة بالقياس فقط بل استدل أيضا من قوله في الحديث الذي ذكره إلا بحق الإسلام قال أبو بكر رضي الله عنه والزكاة حق الإسلام وقالوا أيضا لم ينفرد ابن عمر رضي الله عنه بالحديث المذكور بل رواه أبو هريرة رضي الله عنه بزيادة الصلاة والزكاة فيه كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى قلت في القصة دليل على أن السنة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة رضي الله عنهم ويطلع عليها آحادهم الحادي عشر فيه أن من أتى بالشهادتين وأقام الصلاة وآتى الزكاة وإن كان لا يؤاخذ لكونه معصوما لكنه يؤاخذ بحق من حقوق الإسلام من نحو قصاص أو حد أو غرامة متلف ونحو ذلك وقال الكرماني إلا بحق الإسلام من قتل النفس وترك الصلاة ومنع الزكاة قلت قوله من قتل النفس لا خلاف فيه أن عصمة دمه تزول عند قتل النفس المحرمة وأما قوله وترك الصلاة فهو بناء على مذهبه وأما قوله ومنع الزكاة ليس كذلك فإن مذهب الشافعي أن مانع الزكاة لا يقتل ولكنه يؤخذ منه قهرا وأما إذا انتصب للقتال فإنه يقاتل بلا خلاف وقد بيناه عن قريب الثاني عشر فيه وجوب قتال الكفار إذا أطاقه المسلمون حتى يسلموا أو يبذلوا الجزية إن كانوا من أهلها
الأسئلة والأجوبة منها ما قيل إذا شهد وأقام وأدى فمقتضى الحديث أن يترك القتال وإن كفر بسائر ما جاء به النبي لكنه ليس كذلك وأجيب بأن الشهادة برسالته تتضمن التصديق بما جاء به مع أنه يحتمل أنه ما جاء بسائر الأشياء إلا بعد صدور هذا الحديث أو علم ذلك بدليل آخر خارجي كما جاء في الرواية الأخرى ويؤمنوا بي وبما جئت به ومنها ما قيل لم نص على الصلاة والزكاة مع أن حكم سائر الفرائض كحكمهما وأجيب لكونهما أما العبادات البدنية والمالية والعيار على غيرهما والعنوان له ولذلك سمى الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام ومنها ما قيل إذا شهدوا عصموا وإن لم يقيموا ولم يؤتوا إذ بعد الشهادة لا بد من الانكفاف عن القتال في الحال ولا تنتظر الإقامة والإيتاء ولا غيرهما وكان حق الظاهر أن يكتفي بقوله إلا بحق الإسلام فإن الإقامة والإيتاء منه وأجيب بأنه إنما ذكرهما تعظميا لهما واهتماما بشأنهما وإشعارا بأنهما في حكم الشهادة أو المراد ترك القتال مطلقا مستمرا لا ترك القتال في الحال الممكن إعادته بترك الصلاة والزكاة وذلك لا يحصل إلا بالشهادة وإيتاء الواجبات كلها
18 -
( باب من قال إن الإيمان هو العمل لقول الله تعالى وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعلمون )
الكلام فيه على أنواع الأول إن لفظ باب مضاف إلى ما بعده ولا يجوز غيره قطعا وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ

(1/183)


محذوف أي هذا باب من قال إلخ وأصل الكلام هذا باب في بيان قول من قال إن الإيمان هو العمل الثاني وجه المناسبة بين البابين من حيث إنه عقد الباب الأول للتنبيه على أن الأعمال من الإيمان ردا على المرجئة وهذا الباب أيضا معقود لبيان أن الإيمان هو العمل ردا عليهم وقال الشيخ قطب الدين في شرحه في هذا الباب إنما أراد البخاري الرد على المرجئة في قولهم إن الإيمان قول بلا عمل وقال القاضي عياض عن غلاتهم إنهم يقولون إن مظهر الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقده بقلبه الثالث وجه مطابقة الآية للترجمة هو أن الإيمان لما كان هو السبب لدخول العبد الجنة والله عز و جل أخبر بأن الجنة هي التي أورثوها بأعمالهم حيث قال بما كنتم تعملون ( الزخرف 72 ) دل ذلك على أن الإيمان هو العمل وفي الآية الأخرى أطلق على قول لا إله إلا الله العمل فدل على أن الإيمان هو العمل فعلى هذا معنى قوله بما كنتم تعملون ( الزخرف 72 ) بما كنتم تؤمنون على ما زعمه البخاري على ما نقل عن جماعة من المفسرين ولكن اللفظ عام ودعوى التخصيص بلا برهان لا تقبل ولهذا قال النووي هو تخصيص بلا دليل وههنا مناقشة أخرى وهي إن إطلاق العمل على الإيمان صحيح من حيث إن الإيمان هو عمل القلب ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون العمل من نفس الإيمان وقصد البخاري من هذا الباب وغيره إثباته أن العمل من أداء الإيمان ردا على من يقول إن العمل لا دخل له في ماهية الإيمان فحينئذ لا يتم مقصوده على ما لا يخفى وإن كان مراده جواز إطلاق العمل على الإيمان فهذا لا نزاع فيه لأحد لأن الإيمان عمل القلب وهو التصديق الرابع قوله وتلك الإشارة إلى الجنة المذكورة في قوله ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ( الزخرف 70 ) وهي مبتدأ والجنة خبره وقوله التي أورثتموها صفة الجنة قال الزمخشري أو الجنة صفة للمبتدأ الذي هو اسم الإشارة والتي أورثتموها ( الزخرف 72 ) خبر المبتدأ والتي أو التي أورثتموها ( الزخرف 72 ) صفة و بما كنتم تعملون ( الزخرف 72 ) الخبر والباء تتعلق بمحذوف كما في الظروف التي تقع أخبارا وفي الوجه الأول تتعلق بأورثتموها وقرىء ورثتموها فإن قلت الإيراث إبقاء المال بعد الموت لمن يستحقه وحقيقته ممتنعة على الله تعالى فما معنى الإيراث ههنا قلت هذا من باب التشبيه قال الزمخشري شبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة ويقال المورث هنا الكافر وكان له نصيب منها ولكن كفره منعه فانتقل منه إلى المؤمنين وهذا معنى الإيراث ويقال المورث هو الله تعالى ولكنه مجاز عن الإعطاء على سبيل التشبيه لهذا الإعطاء بالإيراث فإن قلت كلمة ما في قوله بما كنتم ( الزخرف 72 ) ما هي قلت يجوز أن تكون مصدرية فالمعنى بكونكم عاملين ويجوز أن تكون موصولة فالمعنى بالذي كنتم تعملونه فإن قلت كيف الجمع بين هذه الآية وقوله لن يدخل أحدكم الجنة بعمله قلت الباء في قوله بما كنتم ليست للسببية بل للملابسة أي أورثتموها ملابسة لأعمالكم أي لثواب أعمالكم أو للمقابلة نحو أعطيت الشاة بالدرهم وقال الشيخ جمال الدين المعنى الثامن للباء المقابلة وهي الداخلة على الأعواض كاشتريته بألف درهم وقولهم هذا بذاك ومنه قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ( الزخرف 72 ) وإنما لم نقدرها باء السببية كما قالت المعتزلة وكما قال الجميع في لن يدخل أحدكم الجنة بعمله لأن المعطي بعوض قد يعطي مجانا وأما المسبب فلا يوجد بدون السبب وقد تبين أنه لا تعارض بين الحديث والآية لاختلاف محلي البابين جمعا بين الأدلة وقال الكرماني أو إن الجنة في تلك الجنة جنة خاصة أي تلك الجنة الخاصة الرفيعة العالية بسبب الأعمال وأما أصل الدخول فبرحمة الله قلت أشير بهذه الجنة إلى الجنة المذكورة فيما قبلها وهي الجنة المعهودة والإشارة تمنع ما ذكره وقال النووي في الجواب إن دخول الجنة بسبب العمل والعمل برحمة الله تعالى قلت المقدمة الأولى ممنوعة لأنها تخالف صريح الحديث فلا يلتفت إليها
وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ( الحجر 92 ) عن قول لا إله إلا الله
الكلام فيه على وجوه الأول إن العدة بكسر العين وتشديد الدال هي الجماعة قلت أو كثرت وفي ( العباب ) تقول أنفدت عدة كتب أي جماعة كتب ويقال فلان إنما يأتي أهله العدة أي يأتي أهله في الشهر والشهرين وعدة المرأة أيام إقرائها وأما

(1/184)


العد بدون الهاء فهو الماء الذي لا ينقطع كماء العين وماء البئر والعد أيضا الكثرة قوله عدة مرفوع بقال ويجوز فيه قال وقالت لأن التأنيث في عدة غير حقيقي وكلمة من في قوله من أهل العلم للبيان قوله في قوله يتعلق بقال والخطاب في فوربك ( الحجر 92 ) للنبي والواو فيه للقسم وقوله لنسألنهم ( الحجر 92 ) جواب القسم مؤكدا باللام قوله عن قول ( الحجر 92 ) يتعلق بقوله لنسألنهم أي لنسألنهم عن كلمة الشهادة التي هي عنوان الإيمان وعن سائر أعمالهم التي صدرت منهم الثاني أن الجماعة الذين ذهبوا إلى ما ذكره نحو أنس بن مالك وعبد الله بن عمر ومجاهد بن جبر رضي الله عنهم وأخرج الترمذي مرفوعا عن أنس فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ( الحجر 92 ) قال عن لا إله إلا الله وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف لا يحتج به والذي روى عن ابن عمر في ( التفسير ) للطبري وفي كتاب ( الدعاء ) للطبراني والذي روى عن مجاهد في تفسير عبد الرزاق وغيره وقال النووي في الآية وجه آخر وهو المختار والمعنى لنسألنهم عن أعمالهم كلها التي يتعلق بها التكليف وقول من خص بلفظ التوحيد دعوى تخصيص بلا دليل فلا تقبل ثم روى حديث الترمذي وضعفه وقال بعضهم لتخصيصهم وجه من جهة التعميم في قوله أجمعين فيدخل فيه المسلم والكافر فإن الكافر مخاطب بالتوحيد بلا خلاف بخلاف باقي الأعمال ففيها الخلاف فمن قال إنهم مخاطبون يقول إنهم مسؤولون عن الأعمال كلها ومن قال إنهم غير مخاطبين يقول إنما يسألون عن التوحيد فقط فالسؤال عن التوحيد متفق عليه فحمل الآية عليه أولى بخلاف الحمل على جميع الأعمال لما فيها من الاختلاف قلت هذا القائل قصد بكلامه الرد على النووي ولكنه تاه في كلامه فإن النووي لم يقل بنفي التخصيص لعدم التعميم في الكلام وإنما قال دعوى التخصيص بلا دليل خارجي لا تقبل والأمر كذلك غإن الكلام عام في السؤال عن التوحيد وغيره ثم دعوى التخصيص بالتوحيد يحتاج إلى دليل من خارج فإن استدلوا بالحديث المذكور فقد أجاب عنه بأنه ضعيف وهذا القائل فهم أيضا أن النزاع في أن التخصيص والتعميم هنا إنما هو من جهة التعميم هنا إنما هو من جهة التعميم في قوله أجمعين ( الحجر 92 ) وليس كذلك وإنما هو في قوله عما كانوا يعملون ( الحجر 92 ) فإن العمل هنا أعم من أن يكون توحيدا أو غيره وتخصيصه بالتوحيد تحكم قوله فيدخل فيه المسلم والكافر غير مسلم لأن الضمير في لنسألنهم يرجع إلى المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين وهم ناس مخصوصون ولفظة أجمعين وقعت توكيدا للضمير المذكور في النسبة مع الشمول في أفراده المخصوصين ثم تفريع هذا القائل بقوله فإن الكافر إلخ ليس له دخل في صورة النزاع على ما لا يخفى الثالث ما قيل إن هذه الآية أثبتت السؤال على سبيل التوكيد القسمي وقال في آية أخرى فيومئذ لا يسأل عن ذنبه أنس ولا جان ( الرحمن 39 ) فنفت السؤال وأجيب بأن في القيامة مواقف مختلفة وأزمنة متطاولة ففي موقف أو زمان يسألون وفي آخرلا يسألون سؤال استخبار بل سؤال توبيخ وقال الزمخشري في هذه الآية لنسألهم سؤال تقريع ويقال قوله لا يسأل عن ذنبه أنس ولا جان ( الرحمن 39 ) نظير قوله ولا تزر وازرة وزر أخرى ( الأنعام 164 الإسراء 15 فاطر 18 والزمر 7 )
وقال لمثل هذا فليعمل العاملون ( الصافات 61 ) أي قال الله تعالى لمثل هذا والإشارة بهذا إلى قوله إن هذا لهو الفوز العظيم ( الصافات 60 ) وذكر هذه الآية لا يكون مطابقا للترجمة إلا إذا كان معنى قوله فليعمل العاملون ( الصافات 61 ) فليؤمن المؤمنون ولكن هذا دعوى تخصيص بلا دليل فلا تقبل وإلى هذه الآية من قوله تعالى فاقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( الصافات 50 ) قصة المؤمن وقرينه وذلك أنه كان يتصدق بماله لوجه الله عز و جل فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه فقال وأين مالك قال تصدقت به ليعوضني الله خيرا منه فقال أئنك لمن المصدقين بيوم الدين أو من المتصدقين لطلب الثواب والله لا أعطيك شيئا وقوله تعالى أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون ( الصافات 53 ) حكاية عن قول القرين ومعنى لمدينون لمجزيون من الدين وهو الجزاء وقوله قال هل أنتم مطلعون ( الصافات 54 ) يعني قال ذلك القائل هل أنتم مطلعون إلى النار ويقال القائل هو الله تعالى ويقال بعض الملائكة يقول لأهل الجنة هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار وقوله فاطلع ( الصافات 54 ) أي فإن اطلع قوله في سواء الجحيم ( الصافات 55 ) أي في وسطها قوله تالله إن كدت ( الصافات 56 ) إن مخففة من الثقيلة وهي تدخل على كاد كما تدخل على كان واللام هي الفارقة بينها وبين النافية والإرداء الإهلاك وأراد بالنعمة العصمة والتوفيق والبراءة من قرين السوء وإنعام الله بالثواب وكونه من أهل الجنة قوله من المحضرين ( الصافات 11 ) أي من الذين أحضروا العذاب وقوله إن هذا لهو الفوز العظيم ( الصافات 60 ) أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه ويقال هذا من قول الله تعالى

(1/185)


تقريرا لقولهم وتصديقا له وقوله لمثل هذا فليعمل العاملون ( الصافات 61 ) مرتبط بقوله إن هذا أي لأجل مثل هذا الفوز العطيم وهو دخول الجنة والنجاة من النار فليعمل العاملون في الدنيا وقال بعضهم يحتمل أن يكون قائل ذلك المؤمن الذي رأى قرينه ويحتمل أن يكون كلامه انقضى عند قوله الفوز العظيم ( الصافات 60 ) والذي بعد ابتداء من قول الله عز و جل لا حكاية عن قول المؤمن ولعل هذا هو السر في إبهام المصنف القائل قلت المفسرون ذكروا في قائل هذا ثلاثة أقوال الأول إن القائل هو ذلك المؤمن والثاني إنه هو الله عز و جل والثالث إنه بعض الملائكة ولا يحتاج أن يقال في ذلك بالاحتمال الذي ذكره هذا الشارح لأن كلامه يوهم بأن هذا تصرف من عنده فلا يصح ذلك ثم قوله ولعل هذا هو السر في إبهام المصنف أراد به البخاري كلام غير صحيح أيضا من وجهين أحدهما أن البخاري لم يقصد ما ذكره هذا الشارح قط لأن مراده من ذكره هذه الآية بيان إطلاق العمل على الإيمان ليس إلا والآخر ذكر فعل وإبهام فاعله من غير مرجع له ومن غير قرينة على تعيينه غير صحيح
26 - حدثنا ( أحمد بن يونس وموسى بن إسماعيل ) قالا حدثنا ( إبراهيم بن سعد ) قال حدثنا ( ابن شهاب ) عن ( سعيد بن المسيب ) عن ( أبي هريرة ) أن رسول الله سئل أي العمل أفضل فقال إيمان بالله ورسوله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور
( الحديث 26 - طرفه في 1519 )
مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهرة وهي اطلاق العمل على الإيمان وقال ابن بطال الآية حجة في أن العمل به ينال درجات الآخرة وأن الإيمان قول وعمل ويشهد له الحديث المذكور وأراد به هذا الحديث ثم قال وهو مذهب جماعة أهل السنة قال أبو عبيدة وهو قول مالك والثوري والأوزاعي ومن بعدهم ثم قال وهو مراد البخاري بالتبويب وقال أيضا في هذا الحديث إن النبي جعل الإيمان من العمل وفرق في أحاديث أخر بين الإيمان والأعمال وأطلق اسم الإيمان مجردا على التوحيد وعمل القلب والإسلام على النطق وعمل الجوارح وحقيقة الإيمان مجرد التصديق المطابق للقول والعقد وتمامه بتصديق العمل بالجوارح فلهذا أجمعوا أنه لا يكون مؤمن تام الإيمان إلا باعتقاد وقول وعمل وهو الإيمان الذي ينجي رأسا من نار جهنم ويعصم المال والدم وعلى هذا يصح إطلاق الإيمان على جميعها وعلى بعضها من عقد أو قول أو عمل وعلى هذا لا شك بأن التصديق والتوحيد أفضل الأعمال إذ هو شرط فيها
( بيان رجاله ) وهم ستة الأول أحمد بن يونس هو أحمد بن عبد الله بن يونس بن عبد الله بن قيس اليربوعي التميمي يكنى بأبي عبد الله واشتهر بأحمد بن يونس منسوبا إلى جده يقال إنه مولى الفضيل بن عياض مالكا سمع وابن أبي ذئب والليث والفضيل وخلقا كثيرا روى عنه أبو زرعة وأبو حاتم وإبراهيم الحربي والبخاري ومسلم وأبو داود وروى البخاري عن يوسف بن موسى عنه وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن رجل عنه قال أبو حاتم كان ثقة متقنا وقال أحمد فيه شيخ الإسلام وتوفي في ربيع الآخر سنة سبع وعشرين ومائتين وهو ابن أربع وتسعين سنة الثاني موسى بن إسماعيل المنقري بكسر الميم وقد سبق ذكره الثالث إبراهيم بن سعد سبط عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقد سبق ذكره الرابع محمد بن مسلم بن شهاب الزهري وقد سبق ذكره الخامس سعيد بن المسيب بضم الميم وفتح الياء على المشهور وقيل بالكسر وكان يكره فتحها وأما غير والد سعيد فبالفتح من غير خلاف كالمسيب بن رافع وابنه العلاء بن المسيب وغيرهما والمسيب هو ابن حزن بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي المعجمة ابن أبي وهب بن عمرو بن عايذ بالياء آخر بالحروف والذال المعجمة ابن عمران بن مخزوم بن يقظة بفتح الياء آخر الحروف والقاف والظاء المعجمة بن مرة القرشي المخزومي المدني إمام التابعين وفقيه الفقهاء أبوه وجده صحابيان أسلما يوم فتح مكة ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه وقيل لأربع سمع عمر وعثمان وعليا وسعد بن أبي وقاص وأبا هريرة رضي الله عنهم وهو زوج بنت أبي هريرة وأعلم الناس بحديثه وروى عنه خلق من التابعين وغيرهم واتفقوا على جلالته وإمامته وتقدمه على أهل عصره في العلم والتقوى وقال ابن المديني لا أعلم في التابعين أوسع علما منه وقال أحمد سعيد أفضل التابعين فقيل له فسعيد عن عمر حجة قال فإذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل وقال أبو حاتم ليس

(1/186)


في التابعين أنبل من سعيد بن المسيب وهو أثبتهم وقال النووي في ( تهذيب الأسماء ) وأما قولهم إنه أفضل التابعين فمرادهم أفضلهم في علوم الشرع وإلا ففي ( صحيح ) مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول إن خير التابعين رجل يقال له أويس وبه بياض فمروه فليستغفر لكم وقال أحمد بن عبد الله كان صالحا فقيها من الفقهاء السبعة بالمدينة وكان أعور وقال ابن قتيبة كان جده حزن أتى النبي فقال له أنت سهل قال لا بل أنا حزن ثلاثا قال سعيد فما زلنا نعرف تلك الحزونة فينا ففي ولده سوء خلق وكان حج أربعين حجة لا يأخذ العطاء وكان له بضاعة أربع مائة دينار يتجر بها في الزيت وكان جابر بن الأسود على المدينة فدعى سعيدا إلى البيعة لابن الزبير فأبى فضربه ستين سوطا وطاف به المدينة وقيل ضربه هشام بن الوليد أيضا حين امتنع للبيعة للوليد وحبسه وحلقه مات سنة ثلاث أو أربع أو خمس وتسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك بالمدينة وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء لكثرة من مات فيها منهم وقال الشيخ قطب الدين في ( شرحه ) وفي نسب سعيد هذا يتفاضل النساب في تحقيقه فإن في بني مخزوم عابدا بالباء الموحدة والدال المهملة وعايذ بالمثناة آخر الحروف والذال المعجمة فالأول هو عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ومن ولده السائب والمسيب ابنا أبي السائب واسم أبي السائب صيفي بن عابد بن عبد الله وولده عبد الله بن السائب شريك النبي وعن النبي أنه قال فيه نعم الشريك وقيل الشريك أبوه السائب وعتيق بن عابد بن عبد الله وكان على خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها قبل رسول الله وأما عايذ بن عمران فمن ولده سعيد وأبوه كما تقدم وفاطمة أم عبد الله والد رسول الله بنت عمرو بن عايذ بن عمران وهبيرة بن أبي وهيب بن عمرو بن عايذ بن عمران وهبيرة هذا هو زوج أم هانىء بنت أبي طالب فر من الإسلام يوم فتح مكة فمات كافرا بنجران والله أعلم السادس أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه وقد مر ذكره
( بيان لطائف اسناده ) منها ان فيه التحديث والعنعنة ومنها ان فيه شيخين للبخاري ومنها أن فيه أربعة كلهم مدنيون
( بيان من أخرجه غيره ) أخرجه مسلم أيضا في كتاب الإيمان وأخرجه النسائي أيضا نحوه وفي رواية للنسائي أى الأعمال أفضل قال الإيمان بالله ورسوله ولم يزد وأخرجه الترمذى ايضا ولفطه قال سئل رسول الله أي الأعمال خير وذكر الحديث وفيه قال الجهاد سنام العمل
( بيان اللغات ) قوله أفضل أي الأكثر ثوابا عند الله وهو أفعل التفضيل من فضل يفضل من باب دخل يدخل ويقال فضل يفضل من باب سمع يسمع حكاها ابن السكيت وفيه لغة ثالثة فضل بالكسر يفضل بالضم وهي مركبة شاذة لا نظير لها قال سيبويه هذا عند أصحابنا إنما يجيء على لغتين قال وكذلك نعم ينعم ومت تموت ودمت تدوم وكدت تكاد وفي ( العباب ) فضلته فضلا أي غلبته بالفضل وفضل منه شيء والفضل والفضيلة خلاف النقص والنقيصة قوله الجهاد مصدر جاهد في سبيل الله مجاهدة وجهادا وهو من الجهد بالفتح وهو المشقة وهو القتال مع الكفار لإعلاء كلمة الله والسبيل الطريق يذكر ويؤنث قوله حج مبرور الحج في اللغة القصد وأصله من قولك حججت فلانا أحجه حجا إذا عدت إليه مرة بعد اخرى فقيل حج البيت لأن الناس يأتونه في كل سنة قاله الأزهري وفي ( العباب ) رجل محجوج أي مقصود وقد حج بنو فلان فلانا إذا اطالوا الاختلاف إليه قال المخبل السعدي ( واشهد من عوف حلولا كثيرة
يحجون سب الزبرقان المزعفرا )
قال ابن السكيت يقول يكثرون الاختلاف إليه هذا الأصل ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكة حرسها الله للنسك تقول حججت البيت أحجه حجا فأنا حاج ويجمع على حجج مثل بازل وبزل وعائد وعوذ إنتهى وفي الشرع الحج قصد زيارة البيت على وجه التعظيم وقال الكرماني الحج قصد الكعبة للنسك بملابسة الوقوف بعرفة قلت الحلول بضم الحاء المهملة يقال قوم حلول أي نزول وكذلك حلال بالكسر والسب بكسر السين المهملة وتشديد الباء الموحدة

(1/187)


العمامة والزبرقان بكسر الزاي وسكون الباء الموحدة وكسر الراء المهملة وبالقاف هو لقب واسمه الحصين قال ابن السكيت لقب الزبرقان لصفرة عمامته والمبرور هو الذي لا يخالطه إثم ومنه برت يمينه إذا سلم من الحنث وقيل هو المقبول ومن علامات القبول أنه إذا رجع يكون حاله خيرا من الحال الذي قبله وقيل هو الذي لا رياء فيه وقيل هو الذي لا تتعقبه معصية وهما داخلان فيما قبلهما والبر بالكسر الطاعة والقبول يقال بر حجك بضم الباء وفتحها لازمين وبر الله حجك وأبر الله اي قبله فله أربعة استعمالات وقال الأزهري المبرور المتقبل يقال بر الله حجه يبره اي تقبله وأصله من البر وهو اسم لجماع الخير وبررت فلانا أبره برا إذا وصلته وكل عمل صالح بر وجعل لبيد البر التقوىفقال
وما البر إلا مضمرات من التقى
وما المال إلا معمرات ودائع
قوله مضمرات يعني الخفايا من التقى قوله وما المال إلا معمرات اي المال الذي في أيديكم ودائع مدة عمركم ثم يصير لغيركم واما قول عمرو ابن ام مكتوم
( نحز رؤوسهم في غير بر )
فمعناه في غير طاعة وفي ( العباب ) المبرة والبر خلاف العقوق وقوله تعالى اتأمرون الناس بالبر ( البقرة 44 ) أي بالاتساع في الإحسان والزيادة منه وقوله عز و جل لن تنالوا البر ( البقرة 189 ) قال السدي يعني الجنة والبر أيضا الصلة تقول منه بررت والدي بالكسر و بررته بالفتح أبره برا والمبرور الذي لا شبهة فيه ولا خلابة وقال ابو العباس هو الذي لا يدالس فيه ولا يوالس يدالس فيه يظلم فيه ويوالس يخون
( بيان الاعراب ) قوله سئل جملة في محل الرفع لانها خبر إن والسائل هو ابو ذر رضي الله عنه وحديثه في العتق قوله أي العمل كلام إضافي مبتدأ وخبره أفضل وأي ههنا استفهامية ولا تستعمل إلا مضافا إليه إلا في النداء والحكاية يقال جاءني رجل فتقول أي يا هذا وجاءني رجلان فتقول أيان ورجال فتقول أيون فإن قلت افضل أفعل التفضيل ولا يستعمل إلا بأحد الأوجه الثلاثة وهي الإضافة واللام ومن فلا يجوز أن يقال زيد أفضل قلت إذا علم يجوز استعماله مجردا نحو الله اكبر أي أكبر من كل شيء ومنه قوله تعالى اتستبدلون الذى هو ادنى بالذى هو خير ( البقرة 61 ) وسواء في ذلك كون أفعل خبرا كما في الآية أو غير خبر كما في قوله تعالى يعلم السر واخفى ( طه 7 ) وقد يجرد أفعل عن معنى التفضيل ويستعمل مجردا مؤولا باسم الفاعل نحو قوله تعالى هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض ( النجم 32 ) وقد يؤول بالصفة كما في قوله تعالى وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو اهون عليه ( الروم 27 ) قوله قال اي النبي عليه السلام وقوله إيمان بالله مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو إيمان بالله والتقدير أفضل الاعمال الإيمان بالله قوله ورسوله بالجر تقديره والإيمان برسوله قوله قيل مجهول قال وأصله نقلت كسرة الواو إلى القاف بعد سلب حركتها فصار قول بكسر القاف وسكون الواو ثم قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فصار قيل والقائل هو السائل في الاول قوله ثم ماذا كلمة ثم للعطف مع الترتيب الذكري وما مبتدأ و ذا خبره وكلمة ما استفهامية وذا اسم اشارة والمعنى ثم أي شيء افضل بعد الإيمان بالله ورسوله ويجوز أن تكون الجمل كلها استفهاما على الترتيب قوله الجهاد مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو الجهاد والتقدير أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله الجهاد وكذلك الكلام في إعراب قوله ثم ماذا قال حج مبرور
( بيان المعاني والبيان ) فيه حذف المبتدأ في ثلاث مواضع الذي هو المسند إليه لكونه معلوما إحترازا عن العبث وفيه تنكير الإيمان والحج وتعريف الجهاد وذلك لأن الايمان والحج لا يتكرر وجوبهما بخلاف الجهاد فإنه قد يتكرر فالتنوين للإفراد الشخصي والتعريف للكمال إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل وقال بعضهم وتعقب عليه بان التنكير من جملة وجوهه التعظيم وهو يعطي الكمال وبأن التعريف من جملة وجوهه العهد وهو يعطي الإفراد الشخصي فلا يسلم الفرق قلت هذا التعقيب فاسد لأنه لا يلزم من كون التعظيم من جملة وجوه التنكير أن يكون دائما للتعظيم بل يكون تارة للإفراد وتارة للنوعية وتارة للتعظيم وتارة للتحقير وتارة للتكثير وتارة للتقليل ولا يعرف الفرق ولا يميز إلا بالقرينة الدالة على واحد منها وههنا دلت القرينة أن التنكير للإفراد الشخصي وقوله وبان التعريف من وجوهه العهد فاسد عند المحققين لأن عندهم أصل التعريف للعهد وفرق كثير بين كونه للعهد وبين

(1/188)


كون العهد من وجوهه على أنا وإن سلمنا ما قاله ولكنا لا نسلم كونه للعهد ههنا لان تعريف الإسم تارة يكون لواحد من أفراد الحقيقة الجنسية باعتبار عهديته في الذهن لكونه فردا من أفرادها وتارة يكون لاستغراق جميع الأفراد ولا يفرق بينهما إلا بالقرينة على أنا نقول إن المعهود الذهني في المعنى كالنكرة نحو رجل فإن السوق في قولك ادخل السوق يحتمل كل فرد فرد من أفراد السوق على البدل كما أن رجلا يحتمل كل فرد فرد من ذكور بني آدم على البدل ولهذا يقدر يسبني في قول الشاعر
ولقد أمر على اللئيم يسبني
فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
وصفا للئيم لا حالا لوجوب كون ذي الحال معروفة واللئيم كالنكرة فافهم فان قلت قد وقع في ( مسند الحارث بن أبي اسامة ) عن ابراهيم بن سعد ثم جهاد بالتنكير كما وقع إيمان وحج قلت يكون التنكير في الجهاد على هذه الرواية للإفراد الشخصي كما في الإيمان والحج مع قطع النظر عن تكرره عند الاحتياج أو يكون التنوين في الثلاثة إشارة إلى التعظيم وبهذا يرد على من يقول إن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة لأن مخرجه واحد فالإطالة في طلب الفرق في مثل هذا غير طائلة ولقد صدق القائل انباض عن غير توتير
بيان استنباط الفوائد منها الدلالة على نيل الدرجات بالأعمال ومنها الدلالة على أن الإيمان قول وعمل ومنها الدلالة على أن الأفضل بعد الإيمان الجهاد وبعده الحج المبرور فان قلت في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أي العمل أفضل قال الصلاة على وقتها ثم ذكر بر الوالدين ثم الجهاد وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أي الاسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف وفي حديث ابي موسى رضي الله عنه أي الإسلام افضل قال من سلم المسلمون من لسانه ويده وفي حديث ابي ذر رضي الله عنه سألت رسول الله أي العمل أفضل قال الإيمان بالله والجهاد في سبيله قلت فأي الرقاب افضل قال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها الحديث ولم يذكر فيه الحج وكلها في الصحيح قلت قد ذكر الإمام الحسين بن الحسن بن محمد بن حكيم الحليمي الشافعي عن القفال الكبير الشافعي الشاشي واسمه ابو بكر محمد بن علي في كيفية الجمع وجهين أحدهما أنه جرى على اختلاف الأحوال والأشخاص كما روي أنه عليه السلام قال حجة لمن يحج افضل من أربعين غزوة وغزوة لمن حج أفضل من أربعين حجة والآخر أن لفظة من مرادة والمراد من أفضل الأعمال كذا كما يقال فلان أعقل الناس أي من أعقلهم ومنه قوله عليه السلام خيركم خيركم لأهله ومعلوم انه لا يصير بذلك خير الناس قلت وبالجواب الأول أجاب القاضي عياض فقال أعلم كل قوم بما لهم إليه حاجة وترك ما لم تدعهم إليه حاجة أو ترك ما تقدم علم السائل إليه أو علمه بما لم يكمله من دعائم الإسلام ولا بلغه عمله وقد يكون للمتأهل للجهاد الجهاد في حقه أولى من الصلاة وغيرها وقد يكون له أبوان لو تركهما لضاعا فيكون برهما أفضل لقوله عليه السلام ففيهما فجاهد وقد يكون الجهاد أفضل من سائر الأعمال عند استيلاء الكفار على بلاد المسلمين قلت الحاصل أن اختلاف الأجوبة في هذه الأحاديث لاختلاف الأحوال ولهذا سقط ذكر الصلاة والزكاة والصيام في هذا الحديث المذكور في هذا الباب ولا شك أن الثلاث مقدمات على الحج والجهاد ويقال إنه قد يقال خير الأشياء كذا ولا يراد أنه خير من جميع الوجوه في جميع الأحوال والاشخاص بل في حال دون حال فإن قيل كيف قدم الجهاد على الحج مع أن الحج من أركان الاسلام والجهاد فرض كفاية يقال إنما قدمه للاحتياج إليه أول الإسلام ومحاربة الأعداء ويقال إن الجهاد قد يتعين كسائر فروض الكفاية وإذا لم يتعين لم يقع الا فرض كفاية وأما الحج فالواجب منه حجة واحدة وما زاد نفل فإن قابلت واجب الحج بمتعين الجهاد كان الجهاد أفضل لهذا الحديث ولأنه شارك الحج في الفرضية وزاد بكونه نفعا متعديا إلى سائر الأمة وبكونه ذبا عن بيضة الإسلام وقد قيل ثم ههنا للترتيب في الذكر كقوله تعالى ثم كان من الذين آمنوا ( البلد 17 ) وقيل ثم لا يقتضي ترتيبا فإن قابلت نفل الحج بغير متعين الجهاد كان الجهاد أفضل لما أنه يقع فرض كفاية وهو أفضل من النفل بلا شك وقال إمام الحرمين في كتاب ( الغياثى ) فرض الكفاية عندي أفضل من فرض العين من حيث أن فعله مسقط للحرج عن الأمة بأسرها وبتركه يعصى المتمكنون منه كلهم ولا شك في عظم وقع ما هذه صفته والله اعلم

(1/189)


19 -
( باب إذا لم يكن
الإسلام على الحقيقة وكان على الإستسلام أو الخوف من القتل لقوله تعالى قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا فاذا كان على الحقيقة فهو على قوله جل ذكره إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه
الكلام فيه على وجوه الاول وجه المناسبة بين البابين هو أن في الباب الأول ذكر الإيمان بالله ورسوله وفي هذا الباب يبين ان المعتبر المعتد به من هذا الإيمان ما هو الثاني يجوز في قوله باب الوجهان أحدهما الإضافة إلى الجملة التي بعده وتكون كلمة إذا للظرفية المحضة والتقدير باب حين عدم كون الإسلام على الحقيقة والوجه الآخر أن ينقطع عن الإضافة وتكون إذا متضمنة معنى الشرط والجزاء محذوف والتقدير باب إن لم يكن الإسلام على الحقيقة لا يعتد به أو لا ينفعه أو لا ينجيه ونحو ذلك وعلى كلا التقديرين ارتفاع باب على انه خبر مبتدأ محذوف اي هذا باب وقال الكرماني فان قلت إذا للاستقبال ولم لقلب المضارع ماضيا فكيف اجتماعهما قلت إذا هنا لمجرد الوقت ويحتمل أن يقال لم لنفي الكون المقلوب ماضيا و اذا لاستقبال ذلك النفي الثالث مطابقة الآيات للترجمة ظاهرة لأن الترجمة أن الإسلام إذا لم يكن على الحقيقة لا ينفع والآيات تدل على ذلك على ما لا يخفى الرابع قوله على الاستسلام اي الانقياد الظاهر فقط والدخول في السلم وليس هذا إسلاما على الحقيقة وإلا لما صح نفي الايمان عنهم لان الإيمان والاسلام واحد عند البخاري وكذا عند آخرين لأن الإيمان شرط صحة الإسلام عندهم قوله أو الخوف أو القتل أي وكان الإسلام على الخوف من القتل وكلمة على التعليل قوله فهو على قوله اي فهو وارد على مقتضى قوله عز و جل ان الدين عند الله الاسلام ( آل عمران 19 ) الخامس الكلام في قوله تعالى قالت الاعراب ( الحجرات 14 ) الآية وهو على انواع الأول في سبب نزولها وهو ما ذكره الواحدي أن هذه الآية نزلت في أعراب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله المدينة في سنة جدبة واظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر وافسدوا طرق المدينة بالعذرات واغلوا أسعارها وكانوا يقولون لرسول لله أتيناك بالاثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة وجعلوا يمنون عليه فانزل الله تعالى عليه هذه الآية النوع الثاني في معناها فقوله الاعراب هم أهل البدو قاله الزمخشري وفي ( العباب ) ولا واحد للأعراب ولهذا نسب إليها ولا ينسب إلى الجمع وليست الأعراب جمعا للعرب كما كانت الأنباط جمعا للنبط وإنما العرب اسم جنس سميت العرب لأنه نشأ أولاد أسماعيل عليه السلام بعربة وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم وكل من سكن بلاد العرب وجزيرتها ونطق بلسان اهلها فهو عرب يمنهم ومعدهم وقال الأزهري والأقرب عندي أنهم سموا عربا باسم بلدهم العربات وقال اسحق بن الفرج عربة باجة العرب وباجة العرب دار أبي الفصاحة اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام قال وفيها يقول قائلهم ( وعربة أرض ما يحل حرامها
من الناس إلا اللوذعي الحلاحل )
يعنى به النبي احلت له مكة ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة قال واضطر الشاعر إلى تسكين الراء من عربة فسكنها قلت اللوذعي الخفيف الذكي الظريف الذهن الحديد الفؤاد الفصيح اللسان كأنه يلذع بالنار من ذكائه وحرارته والحلاحل بضم الحاء الأولى وكسر الثانية كلاهما مهملتان السيد الركين ويجمع على حلاحل بالفتح قوله آمنا ( الحجرات 14 ) مقول قولهم وقال الزمخشري الإيمان هو التصديق بالله مع الثقة وطمأنينة النفس والاسلام الدخول في السلم والخروج من ان يكون حربا للمؤمنين بإظهار الشهادتين ألا ترى إلى قوله ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ( الحجرات 14 ) فاعلم أن كل ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام وما واطأ فيه القلب اللسان فهو ايمان فان قلت ما وجه قوله قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا ( الحجرات 14 ) والذي يقتضيه نظم الكلام أن يقال قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا اسلمنا قلت أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولا ودفع ما انتحلوه فقيل قل لم تؤمنوا وروعي في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرح بلفظه فلم يقل كذبتم واستغنى بالجملة التي هي لم تؤمنوا عن أن يقال لا تقولوا الاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان فان قلت قوله ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ( الحجرات 14 ) بعد قوله قل لم تؤمنوا ( الحجرات 14 ) يشبه التكرار من غير استقلال بفائدة متجددة قلت ليس كذلك

(1/190)


فإن فائدة قوله لم تؤمنوا ( الحجرات 14 ) تكذيب دعواهم وقوله ولما يدخل الايمان في قلوبكم ( الحجرات 14 ) توقيت لما امروا به ان يقولوا كأنه قيل لهم ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم النوع الثالث قال ابو بكر بن الطيب هذه الآية حجة على الكرامية ومن وافقهم من المرجئة في قولهم إن الايمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب وقد رد الله تعالى قولهم في موضع آخر من كتابه فقال أولئك كتب في قلوبهم الايمان ( المجادلة 22 ) ولم يقل كتب في ألسنتهم ومن أقوى ما يرد عليهم به الإجماع على كفر المنافقين وإن كانوا قد اظهروا الشهادتين النوع الرابع أن البخاري استدل بذكر هذه الآية ههنا على أن الاسلام الحقيقي هو المعتبر وهو الإيمان الذي هو عقد القلب المصدق لإقرار اللسان الذي لا ينفع عند الله غيره ألا ترى كيف قال تعالى قل لم تؤمنوا ( الحجرات 14 ) حيث قالوا بألسنتهم دون تصديق قلوبهم وقال ولما يدخل الايمان في قلوبكم ( الحجرات 14 )
الوجه السادس في قوله تعالى ان الدين عند الله الاسلام ( آل عمران 19 ) والكلام فيه على وجوه الأول ان هذه الجملة مستأنفة مؤكدة للجملة الاولى وهي قوله تعالى شهد الله أنه لا اله الا هو ( آل عمران 18 ) الآية وقرىء بفتح أن على البدلية من الأول كأنه قال شهد الله أن الدين عند الله الاسلام وقرأ أبي بن كعب ان الدين عند الله للاسلام بلام التأكيد في الخبر الثاني قال الكلبي لما ظهر رسول الله بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على النبي وعرفاه بالصفة والنعت قالا له أنت محمد قال نعم قالا وأنت أحمد قال نعم قالا إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك قال لهما رسول الله سلاني فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله تعالى فأنزل الله تعالى على نبيه شهد الله الى قوله ان الدين عند الله الاسلام ( آل عمران 19 ) فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله عليه السلام الثالث ان البخاري استدل بها على أن الإسلام الحقيقي هو الدين لأنه تعالى أخبر أن الدين هو الاسلام فلو كان غير الإسلام لما كان مقبولا واستدل بها أيضا على أن الإسلام والايمان واحد وأنهما مترادفان وهو قول جماعة من المحدثين وجمهور المعتزلة والمتكلمين وقالوا أيضا إنه استثنى المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ( الذاريات 35 ) والأصل في الاستثناء أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه فيكون الإسلام هو الإيمان وعورض بقوله تعالى قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ( الحجرات 14 ) فلو كان الإيمان والإسلام واحدا لزم إثبات شيء ونفيه في حالة واحدة وانه محال
الوجه السابع في قوله تعالى من يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه ( آل عمران 19 ) والكلام فيه على وجهين الأول في معناه فقوله ومن يبتغ ( آل عمران 19 ) اي ومن يطلب من بغيت الشيء طلبته وبغيتك الشيء طلبته لك يقال بغى بغية وبغاء بالضم وبغاية قوله فلن يقبل منه ( آل عمران 19 ) جواب الشرط قوله هو في الآخرة من الخاسرين ( آل عمران 19 ) اي من الذين وقعوا في الخسران مطلقا من غير تقييد قصدا للتعميم وقرىء ومن يبتغ غير الاسلام بالادغام الثاني أن البخاري استدل به مثل ما استدل بقوله ان الدين عند الله الاسلام ( آل عمران 19 ) واستدل به أيضا على اتحاد الإيمان والإسلام لان الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولا واجيب بأن المعنى ومن يبتغ دينا غير دين محمد عليه السلام فلن يقبل منه قلت ظاهره يدل على أنه لو كان الإيمان غير الاسلام لم يقبل قط فتعين أن يكون عينه لان الإيمان هو الدين والدين هو الاسلام لقوله تعالى ان الدين عند الله الاسلام ( آل عمران 19 ) فينتج أن الإيمان هو الإسلام وقد حققنا الكلام فيه فيما مضى في أول كتاب الايمان
27 - حدثنا ( أبو اليمان ) قال أخبرنا ( شعيب ) عن ( الزهري ) قال أخبرني ( عامر بن سعد بن أبى وقاص ) عن ( سعد ) رضى الله عنه أن رسول الله أعطى رهطا وسعد جالس فترك رسول الله رجلا هو أعجبهم إلي فقلت يا رسول الله مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا فقال أو مسلما فسكت قليلا ثم غلبنى ما أعلم منه فعدت لمقالتي فقلت

(1/191)


مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا فقال أو مسلما ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي فقلت مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا فقال أو مسلما ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي وعاد رسول الله ثم قال يا سعد إنى لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار
( الحديث 27 - طرفه في 1478 )
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة وهي أن الاسلام إن لم يكن على الحقيقة لا يقبل فلذلك قال عليه السلام أو مسلما لأن فيه النهي عن القطع بالإيمان لأنه باطن لا يعلمه إلا الله والإسلام معلوم بالظاهر وقال بعضهم مناسبة الحديث للترجمة من حيث إن المسلم يطلق على من أظهر الإسلام وإن لم يعلم باطنه قلت ليست المناسبة إلا ما ذكرناه فإن موضوع الباب ليس على إطلاق المسلم على من يظهر الإسلام على ما لا يخفى
( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول ابو اليمان الحكم بن نافع الحمصي الثاني شعيب بن ابي حمزة الاموي الثالث محمد بن مسلم الزهري الرابع عامر بن سعد بن ابي وقاص القرشي الزهري سمع اباه وعثمان وجابر بن سمرة وجماعة من الصحابة روى عنه سعد بن المسيب وسعد بن ابراهيم والزهري وآخرون وكان ثقة كثير الحديث مات سنة ثلاث أو أربع ومائة بالمدينة روى له الجماعة الخامس ابو إسحاق سعد بن ابي وقاص بالقاف المشددة من الوقص وهو الكسر واسمه مالك بن وهيب ويقال اهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي احد العشرة المبشرة بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر الخلافة إليهم وأمه حمنة بنت سفيان اخي حرب وأخوته بني امية ابن عبد شمس يلتقي سعد مع رسول الله في كلاب وهو الأب الخامس أسلم قديما وهو ابن اربع عشرة سنة بعد أربعة وقيل بعد ستة وشهد بدرا وما بعدها من المشاهد وكان مجاب الدعوة وهو اول من رمى بسهم في سبيل الله واول من أراق دما في سبيل الله وكان يقال له فارس الاسلام وكان من المهاجرين الأولين هاجر إلى المدينة قبل قدوم النبي اليها روي له عن رسول الله مائتا حديث وسبعون حديثا اتفقا منها على خمسة عشر وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بثمانية عشر روى له الجماعة وهو الذي فتح مدائن كسرى في زمن عمر رضي الله عنه وولاه عمر العراق وهو الذي بنى الكوفة ولما قتل عثمان رضي الله عنه إعتزل سعد الفتن ومات بقصره بالعقيق على عشرة اميال من المدينة سنة سبع وخمسين وقيل خمس وهو ابن بضع وسبعين سنة وحمل إلى المدينة على أرقاب الرجال وصلى عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ والي المدينة ودفن بالبقيع وهو آخر العشرة موتا وعن محمد بن سعد عن جابر بن عبد الله قال أقبل سعد ورسول الله جالس فقال هذا خالي فليرني امرؤ خاله وذلك أن أمه عليه السلام آمنة بنت وهب بن عبد مناف وسعد هو ابن مالك بن وهيب اخي وهب ابني عبد مناف وفي الصحابة من اسمه سعد فوق المائة والله اعلم
بيان لطائف اسناده منها ان فيه التحديث والإخبار والعنعنة ومنها ان فيه ثلاثة زهريين مدنيين ومنها ان فيه ثلاثة تابعين يروي بعضهم عن بعض ابن شهاب وعامر وصالح وصالح اكبر من ابن شهاب لأنه ادرك ابن عمر رضي الله عنهما ومنها ان فيه رواية الأكابر عن الاصاغر ومنها ان قوله عن سعد ان رسول الله هكذا هو هنا ووقع في رواية الإسماعيلي عن سعد هو ابن ابي وقاص
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره اخرجه البخاري ههنا عن ابي اليمان عن شعيب وأخرجه في الزكاة عن محمد بن عزيز حدثنا يعقوب بن ابراهيم عن ابيه عن صالح كلاهما عن الزهري به عن عامر وأخرجه مسلم في الإيمان والزكاة عن ابن عمر وعن سفيان عن الزهري وعن زهير عن يعقوب بن ابراهيم عن ابيه عن صالح كلهم عن الزهري به وفي الزكاة عن اسحاق بن ابراهيم وعبد بن حميد انبأنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري وأخرجه ابو داود ايضا من طريق معمر وقد اعترض على مسلم في بعض طرق هذا الحديث في قوله عن سفيان عن الزهري به ورواه الحميدي وسعيد بن عبد الرحمن ومحمد بن الصباح الجرجراي كلهم عن سفيان عن معمر عن الزهري به وهذا هو المحفوظ عن سفيان ذكره الدارقطني في الاستدراكات على مسلم وأجاب النووي بأنه يحتمل ان سفيان سمعه من الزهري مرة

(1/192)


ومن معمر عن الزهري فرواه على الوجهين وقال بعض الشراح وفيما ذكره نظر ولم يبين وجهه ووجهه ان معظم الروايات في الجوامع والمسانيد عن ابن عيينة عن معمر عن الزهري بزيادة معمر بينهما والروايات قد تظافرت عن ابن عيينة باثبات معمر ولم يوجد بإسقاطه إلا عند مسلم والموجود في مسند شيخ مسلم محمد بن يحيى بن أبي عمر بلا إسقاط وكذلك اخرج ابو نعيم في مستخرجه من طريقه وزعم ابو مسعود في ( الأطراف ) أن الوهم من ابن ابي عمر ويحتمل ذلك بأن صدر منه الوهم لما حدث به مسلما ولكن هذا احتمال غير متعين ويحتمل ان يكون الوهم من مسلم ويحتمل ان يكون مثل ما قاله النووي وباب الاحتمالات مفتوح
بيان اللغات قوله رهطا قال ابن التياني قال ابو زيد الرهط ما دون العشرة من الرجال وقال صاحب ( العين ) الرهط عدد جمع من ثلاثة إلى عشرة وبعض يقول من سبعة إلى عشرة وما دون السبعة إلى الثلاثة نفر وتخفيف الرهط أحسن تقول هؤلاء رهطك وراهطك وهم رجال عشيرتك وعن ثعلبة الرهط بنو الأب الأدنى وعن النصر جاءنا أرهوط منهم مثل اركوب والجمع أرهط وأراهط وفي ( المحكم ) لا واحد له من لفظه وقد يكون الرهط من العشرة وفي ( الجامع ) و ( الجمهرة ) الرهط من القوم وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة وربما جاوزوا ذلك قليلا ورهط الرجل بنو أبيه ويجمع على ارهط ويجمع الجمع على أرهاط وفي ( الصحاح ) رهط الرجل قومه وقبيلته يقال هم رهط دينه والرهط ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة والجمع أرهط وأرهاط وأراهط وفي ( مجمع الغرائب ) الرهط جماعة غير كثيري العدد قوله هو أعجبهم إلي أي أفضلهم وأصلحهم في اعتقادي قوله عن فلان لفظة فلان كناية عن اسم سمي به المحدث عنه الخاص ويقال في غير الناس الفلان والفلانة بالالف واللام قوله فعدت لمقالتي يقال عاد لكذا إذا رجع إليه والمقالة والمقال مصدران ميميان بمعنى القول قوله ان يكبه الله بفتح الياء وضم الكاف أي يلقيه منكوسا هذا من النوادر على عكس القاعدة المشهورة فإن المعروف أن يكون الفعل اللازم بغير الهمزة والمتعدي بالهمزة فان أكب لازم وكب متعد ونحوه أحجم وحجم وقد ذكر البخاري هذا في كتاب الزكاة فقال أكب الرجل إذا كان فعله غير واقع على أحد فإذا وقع الفعل قلت كبه وكببته وجاء نظير هذا في أحرف يسيرة منها انسل ريش الطائر ونسلته وأنزفت البئر ونزفتها أنا وأمريت الناقة درت لبنها ومريتها أنا وأنشق البعير رفع رأسه وشنقتها أنا وأقشع الغيم وقشعته الريح وحكى ابن الاعرابي في المتعدي كبه وأكبه معا وفي ( العباب ) يقال كبه الله لوجهه صرعه على وجهه يقال كب الله العدو وأكب على وجهه سقط وهذا من النوادر أن يقال أفعلت أنا وفعلت غيري
بيان الإعراب قوله إن رسول الله اعطى تقدير الكلام عن سعد قال إن رسول الله اعطى و أعطى جملة في محل الرفع على أنها خبر إن و رهطا منصوب على انه مفعول أعطى وقد علم أن باب اعطيت يجوز فيه الاقتصار على أحد مفعوليه تقول اعطيت زيدا ولا تذكر ما أعطيته أو أعطيت درهما ولا تذكر من أعطتيه وقوله اعطى رهطا من قبيل الأول والتقدير أعطى رهطا شيئا من الدنيا بخلاف أفعال القلوب فإنه لا يجوز الاقتصار فيها على أحد المفعولين عن لأنها داخلة على المبتدأ والخبر فكما لا يستغني المبتدأ عن الخبر ولا الخبر عن المبتدأ فكذلك لا يستغني أحد المفعولين عن صاحبه ولكن يجوز أن يسكت عنهما جميعا ويجعلان نسيا منسيا نحو قوله من يسمع يخل كما في قولهم فلان يعطي ويمنع قوله وسعد جالس جملة إسمية وقعت حالا قوله رجلا مفعول لقوله ترك واسمه جعيل بن سراقة الضمري سماه الواقدي في المغازي قوله هو أعجبهم إلي جملة اسمية في محل النصب على أنها صفة لقوله رجلا قوله ما لك عن فلان أي أي شيء حصل لك أعرضت عن فلان أو عداك عن فلان أو من جهة فلان بأن لم تعطه وكلمة ما للاستفهام و اللام تتعلق بمحذوف وكذلك كلمة عن وهو حصل في اللام وأعرضت ونحوه في عن قوله فوالله مجرور بواو القسم قوله لأراه وقع بضم الهمزة ههنا في رواية أبي ذر وغيره وكذلك في الزكاة وكذا هو في رواية الإسماعيلي وغيره وقال ابو العباس القرطبي الرواية بضم الهمزة من أراه بمعنى أظنه وقال النووى هو بفتح الهمزة أي أعلمه ولا يجوز ضمها على أن يجعل بمعنى أظنه لأنه قال ثم غلبني ما أعلم منه ولانه راجع النبي مرارا فلو لم يكن جازما

(1/193)


باعتقاده لما كرر المراجعة وقال بعضهم لا دلالة فيما ذكر على تعين الفتح لجواز إطلاق العلم على الظن الغالب ومنه قوله تعالى فان علمتموهن مؤمنات ( الممتحنة 10 ) سلمنا لكن لا يلزم من إطلاق العلم أن لا تكون مقدماته ظنية فيكون نظريا لا يقينيا قلت بل الذي ذكره يدل على تعين الفتح لأن قسم سعد وتأكيد كلامه بأن واللام وصوغه في صورة الإسمية ومراجعته إلى النبي وتكرار نسبة العلم إليه يدل على أنه كان جازما باعتقاده وهذا لا يشك فيه وقوله لكن لا يلزم من إطلاق العلم الخ لا يساعد هذا القائل لأن سعدا وقت الإخبار كان عالما بالجزم لما ذكرنا من الدلائل عليه فكيف يكون نظريا لا يقينيا في ذلك الوقت قوله فقال اي النبي أو مسلما قال القاضي هو بسكون الواو على أنها أو التي للتقسيم والتنويع أو للشك والتشريك ومن فتحها أخطأ وأحال المعنى ويقال امره أن يقولهما معا لأنه أحوط لأن قوله او مسلما لا يقطع بايمانه وروى ابن أبي شيبة عن زيد بن حبان عن علي بن مسعدة الباهلي ثنا قتادة عن انس يرفعه الاسلام علانية والايمان في القلب ثم يشير بيده إلى صدره التقوى ههنا التقوى ههنا ويرد هذا ما رواه ابن الأعرابي في ( معجمه ) في هذا الحديث فقال لا تقل مؤمن قل مسلم والذي رواه ابن أبي شيبة قال ابن عدي هو غير محفوظ وقال الكرماني معناه أن لفظة الإسلام أولى أن يقولها لأنها معلومة بحكم الظاهر وأما الإيمان فباطن لا يعلمه إلا الله تعالى وقال صاحب ( التحرير ) في ( شرح صحيح مسلم ) هذا حكم على فلان بأنه غير مؤمن وقال النووي ليس فيه إنكار كونه مؤمنا بل معناه النهي عن القطع بالإيمان لعدم موجب القطع وقد غلط من توهم كونه حكما بعدم الإيمان بل في الحديث إشارة إلى إيمانه وهو قوله لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه وقال الكرماني فعلى هذا التقدير لا يكون الحديث دالا على ما عقد له الباب وأيضا لا يكون لرد الرسول عليه السلام على سعد فائدة ولئن سلمنا أن فيه إشارة إليه فذلك حصل بعد تكرار سعد إخباره بإيمانه وجاز أن ينكر أولا ثم يسلم آخرا لحصول أمر يفيد العلم به وقال بعضهم وهو تعقب مردود ولم يبين وجهه ثم قال وقد بينا وجه المطابقة بين الحديث والترجمة قبل قلت قد بينا نحن أيضا هناك أن الذي ذكره ليس بوجه صحيح فليعد إليه هناك قوله قليلا نصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي سكوتا قليلا قوله ما أعلم كلمة ما موصولة في محل الرفع على أنه فاعل غلبني قوله غيره أحب إلي منه جملة اسمية وقعت حالا وهكذا هو عند أكثر الرواة وفي رواية الكشميهني أعجب إلي ووقع في رواية الإسماعيلي بعد قوله أحب إلي منه وما أعطيه إلا مخافة أن يكبه الله إلى آخره قوله خشية نصب على أنه مفعول له لأعطي أي لأجل خشية أن يكبه الله بإضافة خشية إلى ما بعده وأن مصدرية والتقدير لاجل خشية كب الله إياه في النار وقال الكرماني سواء فيه رواية التنوين مع تنكيره وتقديره لأجل خشية من أن يكبه الله ورواية الإضافة مع تعريفة لأنه مضاف إلى أن مع الفعل وأن مع الفعل معرفة ويجوز في المفعول لأجله التعريف والتنكير قلت لا حاجة فيه إلى تقدير من لعدم الداعي إلى تقديرها بل لفظة خشية مضاف إلى ما بعدها على التقدير الذي ذكرناه فافهم
بيان المعاني والبيان فيه حذف المفعول الثاني من باب اعطيت في الموضعين الأول في قوله أعطى رهطا والثاني في قوله إني لاعطي الرجل تنبيها على التعميم بأي شيء كان أو جعل المتعدي إلى اثنين كالمتعدي إلى واحد والمعنى إيجاد هذه الحقيقة يعني ايجاد الإعطاء والفائدة فيهما قصد المبالغة وفيه من باب الإلتفات وهو في قوله أعجبهم إليلأن السياق كان يقتضي أن يقال اعجبهم إليه لأنه قال وسعد جالس ولم يقل وأنا جالس وهو التفات من الغيبة إلى التكلم وأما قوله وسعد جالس ففيه وجهان الأول أن يكون فيه التفات على قول صاحب ( المفتاح ) من التكلم الذي هو مقتضى المقام إلى الغيبة واما على قول غيره فليس فيه التفات لأنهم شرطوا أن يكون الانتقال من التكلم والخطاب والغيبة محققا وصاحب ( المفتاح ) لم يشترط ذلك بل قال الانتقال أعم أن يكون محققا أو مقدرا والوجه الثاني ان يكون هذا من باب التجريد وهو ان يجرد من نفسه شخصا ويخبر عنه وذلك أن القياس في قوله وسعد جالس أن يقول وأنا جالس ولكنه جرد من نفسه ذلك وأخبر عنه بقوله جالس وهو من محسنات الكلام من الضروب المعنوية الراجعة إلى وظيفة البلاغة وفيه من باب الكناية وهو في قوله خشية ان يكبه الله لأن الكب في النار لازم الكفر فأطلق اللازم وأراد الملزوم وهو كناية

(1/194)


وليس بمجاز فإن قلت لم لا يكون مجازا من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم إذ الملازمة في الكناية لا بد ان تكون مساوية قلت شرط المجاز امتناع معنى المجاز والحقيقة وههنا لا امتناع في اجتماع الكفر والكب فهو كناية لا غير فإن قلتالكب قد يكون للمعصية فلا يستلزم الكفر قلت المراد من الكب كب مخصوص لا يكون إلا للكافر وإلا فلا تصح الكناية أيضا وإنما قلنا إن المراد كب مخصوص لان معنى قوله خشية أن يكبه الله في النار مخافة من كفره الذي يؤديه إلى كب الله إياه في النار والضمير في يكبه للرجل في قوله إني لأعطي الرجل أي اتألف قلبه بالإعطاء مخافة من كفره إذا لم يعط والتقدير أنا أعطي من في إيمانه ضعف لأني أخشى عليه لو لم أعطه أن يعرض له اعتقاد يكفر به فيكبه الله تعالى في النار كأنه أشار إلى المؤلفة أو إلى من إذ منع نسب الرسول إلى البخل وأما من قوي إيمانه فهو أحب إلي فأكله إلى ايمانه ولا أخشى عليه رجوعا عن دينه ولا سوء اعتقاد ولا ضرر فيما يحصل له من الدنيا والحاصل ان النبي كان يوسع العطاء لمن أظهر الإسلام تألفافلما أعطى الرهط وهم من المؤلفة وترك جعيلا وهو من المهاجرين مع أن الجميع سألوه خاطبه سعد رضي الله عنه في أمره لأنه كان يرى أن جعيلا أحق منهم لما اختبر منه دونهم ولهذا راجع فيه أكثر من مرة فنبهه النبي بأمرين احدهما نبهه على الحكمة في إعطاء أولئك الرهط ومنع جعيل مع كونه أحب إليه ممن أعطى لانه لو ترك إعطاء المؤلفة لم يؤمن ارتدادهم فيكبون في النار والآخر نبهه على أنه ينبغي التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر فإن قلت كيف لم يقبل النبي شهادة مثل سعد رضي الله عنه لجعيل بالايمان قلت قوله فوالله إني لاراه مؤمنا لم يخرج الشهادة وإنما خرج مخرج المدح له والتوسل في الطلب لأجله فلهذا ناقشه في لفظه وفي الحديث ما يدل على أنه قبل قوله فيه وهو قوله عليه الصلاة و السلام يا سعد إني لاعطي الرجل الخ ومما يدل على ذلك ما روي في مسند محمد بن هارون الروياني وغيره بإسناده صحيح إلى أبي سالم الجيشاني عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله قال له كيف ترى جعيلا قال قلت كشكله من الناس يعني المهاجرين قال فكيف ترى فلانا قال قلت سيدا من سادات الناس قال فجعيل خير من ملأ الأرض من فلان قال قلت ففلان هكذا وانت تصنع به ما تصنع قال إنه رأس قومه فأنا أتألفهم به انتهى فهذه منزلة جعيل رضي الله عنه عند النبي فإذا كان الأمر كذلك علم أن حرمانه وإعطاء غيره كان لمصلحة التأليف
بيان استنباط الاحكام وهو على وجوه الأول فيه جواز الشفاعة إلى ولاة الأمر وغيرهم الثاني فيه مراجعة المشفوع إليه في الأمر الواحد إذا لم يؤد إلى مفسدة الثالث فيه الأمر بالتثبت وترك القطع بما لا يعلم فيه القطع الرابع فيه أن الإمام يصرف الأموال في مصالح المسلمين الأهم فالأهم الخامس فيه أن المشفوع إليه لا عتب عليه اذا رد الشفاعة اذا كانت خلاف المصلحة السادس فيه أنه ينبغي أن يعتذر إلى الشافع ويبين له عذره في ردها السابع فيه أن المفضول ينبه الفاضل على ما يراه مصلحة لينظر فيه الفاضل الثامن فيه أنه لا يقطع لأحد على التعيين بالجنة إلا من ثبت فيه النص كالعشرة المبشرة بالجنة التاسع فيه أن الإقرار باللسان لا ينفع إلا إذا اقترن به الاعتقاد بالقلب وعليه الإجماع ولهذا كفر المنافقون واستدل به جماعة على جواز قول المسلم أنا مؤمن مطلقا من غير تقييده بقوله ان شاء الله تعالى قال القاضي فيه حجة لمن يقول بجواز قوله أنا مؤمن من غير استثناء ورد على من أباه وقد اختلف فيها من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا وكل قول إذا حقق كان له وجه فمن لم يستثن أخبر عن حكمه في الحال ومن استثنى أشار إلى غيب ما سبق له في اللوح المحفوظ وإلى التوسعة في القولين ذهب الأوزاعي وغيره وهو قول أهل التحقيق نظرا إلى ما قدمناه ورفعا للخلاف العاشر قالوا فيه دليل على جواز الحلف على الظن وهي يمين اللغو وهو قول مالك والجمهور قلت قد اختلف العلماء في يمين اللغو على ستة اقوال أحدها قول مالك كما ذكروه عنه وقال الشافعي هي أن يسبق لسانه إلى اليمين من غير أن يقصد اليمين كقول الإنسان لا والله وبلى والله واستدل بما روي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا إن لغو اليمين قول الإنسان لا والله وبلى والله وحكى ذلك محمد عن أبي حنيفة رضي الله عنه وأما المشهور عند أصحابنا أن لغو اليمين هو الحلف على أمر يظنه كما قال والحال أنه خلافه

(1/195)


كقوله في الماضي والله ما دخلت الدار وهو يظن أنه لم يدخلها والأمر خلاف ذلك وفي الحال عمن يقبل والله إنه لزيد وهو يظن أنه زيد فإذا هو عمرو الحادي عشر قال القاضي عياض هذا الحديث أصح دليل على الفرق بين الإسلام والإيمان وان الإيمان باطن ومن عمل القلب والإسلام ظاهر ومن عمل الجوارح لكن لا يكون مؤمن إلا مسلما وقد يكون مسلم غير مؤمن ولفظ هذا الحديث يدل عليه وقال الخطابي هذا الحديث ظاهره يوجب الفرق بين الإسلام والإيمان فيقال له مسلم أي مستسلم ولا يقال له مؤمن وهو معنى الحديث قال الله تعالى قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ( الحجرات 14 ) أي استسلمنا وقد يتفقان في استواء الظاهر والباطن فيقال للمسلم مؤمن وللمؤمن مسلم وقد حققنا الكلام فيه فيما مضى في أول كتاب الإيمان
ورواه يونس وصالح ومعمر وابن أخي الزهري عن الزهري
أي روى هذا الحديث هؤلاء الأربعة عن الزهري وتابعوا شعيبا في روايته عن الزهري فيزداد قوة بكثرة طرقه
وفي هذا وشبهه من قول الترمذي وفي الباب عن فلان وفلان إلى آخره فوائد إحداها هذه الثانية أن تعلم رواته ليتتبع رواياتهم ومسانيدهم من يرغب في شيء من جمع الطرق أو غيره لمعرفة متابعة أو استشهاد أو غيرهما الثالثة ليعرف أن هؤلاء المذكورين رووه فقد يتوهم من لا خبرة له أنه لم يروه غير ذلك المذكورة في الإسناد فربما رآه في كتاب آخر عن غيره فيتوهمه غلطا وزعم أن الحديث إنما هو من جهة فلان فإذا قيل في الباب عن فلان وفلان ونحو ذلك زال الوهم المذكور الرابعة الوفاء بشرطه صريحا إذ شرطه على ما قيل أن يكون لكل حديث راويان فأكثر الخامسة أن يصير الحديث مستفيضا فيكون حجة عند المجتهدين الذين اشترطوا كون الحديث مشهورا في تخصيص القرآن ونحوه والمستفيض أي المشهور ما زاد نقلته على الثلاث
قوله يونس هو ابن يزيد الأيلي وقد مر ذكره وصالح هو ابن كيسان المدني وروايته عن الزهري من رواية الأكابر عن الأصاغر لأنه أسن من الزهري وقد مر ذكره أيضا و معمر بفتح الميمين ابن راشد البصري وقد تقدم ذكره أيضا وابن أخي الزهري هو محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب الزهري ابن أخي محمد الإمام أبي بكر الزهري المشهور روى عن عمه محمد وروى عنه يعقوب بن إبراهيم سعد والدراوردي والقعنبي روى عنه البخاري في الصلاة والأضاحي ومسلم في الإيمان والصلاة والزكاة وقال الحاكم أبو عبد الله بن البيع في كتاب ( المدخل ) ومما عيب على البخاري ومسلم إخراجهما حديث محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري أخرج له البخاري في الأصول ومسلم في الشواهد وقال ابن أبي حاتم ليس بالقوي يكتب حديثه وقال فيه ابن معن ضعيف وقال ابن عدي ولم أر بحديثه بأسا ولا رأيت له حديثا منكرا وقال عباس عن يحيى بن معين ابن أخي الزهري أمثل من أبي أويس وقال مرة فيه ليس بذلك القوي قال الواقدي قتله غلمانه بأمر ابنه وكان ابنه سفيها شاطرا قتله للميراث في آخر خلافة أبي جعفر المنصور توفي أبو جعفر سنة ثمان وخمسين ومائة ثم وثب غلمانه على ابنه بعد سنين فقتلوه وجزم النووي في شرحه بأن محمدا هذا مات سنة اثنتين وخمسين ومائة أما رواية يونس عن الزهري فهي موصولة في كتاب الإيمان لعبد الرحمن بن عمر الزهري الملقب رسته بضم الراء وسكون السين المهملة بعدها تاء مثناة من فوق وبعدها هاء ولفظه قريب من سياق الكشميهني وأما رواية صالح عن الزهري فهي موصولة عند البخاري في كتاب الزكاة وأما رواية معمر عنه فهي موصولة عند أحمد بن حنبل والحميدي وغيرهما عن عبد الرزاق عنه وقال فيه إنه إنما أعاد السؤال ثلاثا وعند أبي داود أيضا من طريق معمر عنه ولفظه إني أعطي رجلا وأدع من أحب إلي منهم لا أعطيه شيئا مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم وأما رواية ابن أبي الزهري عن الزهري فهي موصولة عند مسلم وفيه السؤال والجواب ثلاث مرات وقال في آخره خشية أن يكب على البناء للمفعول وفي روايته لطيفة وهي رواية أربعة من بني زهرة هو وعمه وعامر وأبوه على الولاء والله تعالى أعلم

(1/196)


20 -
( باب إفشاء السلام من الإسلام )
أي هذا باب وإن لم يقدر هكذا لا يستحق الإعراب على ما ذكرنا غير مرة فحينئذ باب منون وقوله السلام مرفوع لأنه مبتدأ وقوله من الإسلام خبره والتقدير في الأصل هذا باب في بيان أن السلام من جملة شعب الإسلام وفي رواية كريمة باب إفشاء السلام من الإسلام وهو موافق للحديث المرفوع في قوله على من عرفت ومن لم تعرف والإفشاء بكسر الهمزة مصدر من أفشى يفشي يقال أفشيت الخبر إذا نشرته وأذعته وثلاثيه فشى يفشوا فشوا ومنه تفشى الشيء إذا اتسع
وجه المناسبة بين البابين هو أن من جملة المذكور في الباب السابق أن الدين هو الإسلام والإسلام لا يكمل إلا باستعمال خلاله ومن جملة خلاله إفشاء السلام للعالم وفي هذا الباب يبين هذه الخلة في الحديث الموقوف والمرفوع جميعا مع زيادة خلة أخرى فيهما وهي إطعام الطعام وزيادة خلة أخرى في الموقوف وهي الإنصاف من نفسه وأما وجه كون إفشاء السلام من الإسلام فقد بيناه في باب إطعام الطعام
وقال عمار ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان الإنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار
الكلام فيه على وجوه الأول في ترجمة عمار وهو أبو اليقظان بالمعجمة عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن الوذيم بن ثعلبة بن عوف بن حارثة بن عامر الأكبر بن يام بن عنس بالنون وهو زيد بن مالك بن أدد بن يشجب بن غريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان هكذا نسبه ابن سعد رحمه الله أمه سمية بصيغة التصغير من السمو بنت خياط أسلمت وكذا ياسر مع عمار قديما وقتل أبو جهل سمية وكانت أول شهيدة في الإسلام وكانت مع ياسر وعمار رضي الله تعالى عنهم يعذبون بمكة في الله تعالى فمر بهم رسول الله وهم يعذبون فيقول صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة وكانوا من المستضعفين قال الواقدي وهم قوم لا عشائر لهم بمكة ولا منعة ولا قوة كانت قريش تعذبهم في الرمضاء فكان عمار رضي الله عنه يعذب حتى لا يدري ما يقول وصهيب كذلك وفكيهة كذلك وبلال وعامر بن فهيرة وفيهم نزل قوله تعالى ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ( النحل 110 ) ومن قرأ فتنوا بالفتح وهو ابن عامر فالمعنى فتنوا أنفسهم وعن عمرو بن ميمون قال احرق المشركون عمار بن ياسر بالنار فكان عليه السلام يمر به ويمر بيده على رأسه فيقول يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت على إبراهيم تقتلك الفئة الباغية وعن ابن ابنه قال أخذ المشركون عمارا فلم يتركوه حتى نال من رسول الله وسلم وذكر آلهتهم بخير فلما أتى رسول الله قال ما وراءك قال شر يا رسول الله والله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال فكيف تجد قلبك قال مطمئنا بالإيمان قال فإن عادوا فعد وفيه نزل إلا من إكراه وقلبه مطمئن بالإيمان ( النحل 106 ) شهد بدرا والمشاهد كلها وهاجر إلى أرض الحبشة ثم إلى المدينة وكان إسلامه بعد بضعة وثلاثين رجلا هو وصهيب وروى عن علي رضي الله عنه وعن غيره من الصحابة روي له اثنان وستون حديثا اتفقا منها على حديثين وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بحديث وآخى النبي بينه وبين حذيفة وكان رجلا آدم طويلا أشهل العينين بعيد ما بين المنكبين لا يغير شيبه قتل بصفين في صفر سنة سبع وثلاثين مع علي رضي الله عنه عن ثلاث وقيل عن أربع وتسعين سنة ودفن هناك بصفين وقتل وهو مجتمع العقل وقال الكرماني وياسر رهن في القمار هو ووالده وولده فقمروهم فصاروا بذلك عبيدا للقامر فأعزهم الله بالإسلام وعمار أول من بنى مسجدا لله في الله بنى مسجد قباء ولما قتل دفنه علي رضي الله عنه بثيابه حسب ما أوصاه به ثمة ولم يغسله وقال صاحب ( الاستيعاب ) وروى أهل الكوفة أنه صلى عليه وهو مذهبهم في الشهداء أنهم لا يغسلونهم ولكن يصلى عليهم وقال مسدد لم يكن في المهاجرين أحد أبواه مسلمان غير عمار بن ياسر قلت وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أيضا أسلم أبواه وفي ( شرح قطب الدين ) وكان أبو ياسر خالف أبا حذيفة بن المغيرة ولما قدم ياسر من اليمن إلى مكة زوجه أبو حذيفة أمة له يقال لها سمية فولدت له عمارا فأعتقها أبو حذيفة وعمار روى له الجماعة
الثاني قول عمار الذي علقه البخاري رواه القاسم اللالكائي بسند صحيح عن علي بن أحمد بن حفص حدثنا أبو العباس أحمد بن علي المرهبي حدثنا أبو محمد بن الحسن بن علي بن جعفر الصيرفي حدثنا أبو نعيم حدثنا قطر عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عنه ورواه رسته أيضا عن سفيان حدثنا

(1/197)


أبو إسحاق فذكره ورواه أحمد بن حنبل في كتاب الإيمان من طريق سفيان الثوري ورواه يعقوب بن شيبة في مسنده من طريق شعبة وزهير بن معاوية وغيرهما كلهم عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن زفر عن عمار رضي الله عنه ولفظ شعبة ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان وهكذا روي في جامع معمر عن أبي إسحاق وكذا حدث به عبد الرزاق في ( مصنفه ) عن معمر وحدث به عبد الرزاق بآخره فرفعه إلى النبي وكذا أخرجه البزار في مسنده وابن أبي حاتم في ( العلل ) كلاهما عن الحسن بن عبد الله الكوفي وكذا رواه البغوي في ( شرح السنة ) من طريق أحمد بن كعب الواسطي وكذا أخرجه ابن الأعرابي في معجمه عن محمد بن الصباح الصغاني ثلاثتهم عن عبد الرزاق مرفوعا وقال البزار غريب وقال أبو زرعة هو خطأ فقد روي مرفوعا من وجه آخر عن عمار أخرجه الطبراني في ( الكبير ) ولكن في إسناده ضعف والله أعلم
الثالث في إعرابه ومعناه فقوله ثلاث مرفوع بالابتداء وهو في الحقيقة صفة لموصوف محذوف تقديره خصال ثلاث فقامت الصفة مقام الموصوف المرفوع بالابتداء ويجوز أن يقال يجوز وقوع النكرة مبتدأ إذا كان الكلام بها في معنى المدح نحو طاعة خير من معصية وقد عدوه من جملة المواضع التي يقع فيها المبتدأ نكرة وقوله من مبتدأ ثان وهي موصوفة متضمنة لمعنى الشرط وجمعهن صلتها وقوله فقد جمع الإيمان خبره والجملة خبر المبتدأ الأول والفاء في فقد لتضمن المبتدأ معنى الشرط و الإيمان منصوب بجمع ومعناه فقد حاز كمال الإيمان تدل عليه رواية شعبة فقد استكمل الإيمان قوله الإنصاف خبر مبتدأ محذوف والتقدير إحدى ثلاث الانصاف يقال أنصفه من نفسه وانتصفت أنا منه وقال الصغاني الإنصاف العدل والنصف والنصفة الاسم منه يقال جاء منصفا أي مسرعا قوله وبذل السلام أي الثاني من الثلاث بذل السلام بالذال المعجمة وفي ( العباب ) بذلت الشيء أبذله وأبذله وهذه عن ابن عباد أي أعطيته وجدت به ثم قال في آخر الباب والتركيب يدل على ترك صيانة الشيء قوله للعالم بفتح اللام وأراد به كل الناس من عرفت ومن لم تعرف فإن قلت العالم اسم لما سوى الله تعالى فيدخل فيه الكفار ولا يجوز بذل السلام لهم قلت ذاك خرج بدليل آخر وهو قوله عليه السلام لا تبدأوا اليهود ولا النصارى إلخ كما تقدم قوله والإنفاق أي الثالث الإنفاق من الإقتار بكسر الهمزة وهو الافتقار يقال اقتر الرجل إذا افتقر فإن قلت على هذا التفسير يكون المعنى الإنفاق من العدم وهو لا يصح قلت كلمة من ههنا يجوز أن تكون بمعنى في كما في قوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ( الجمعة 9 ) أي فيه والمعنى والانفاق في حالة الفقر وهو من غاية الكرم ويجوز أن يكون بمعنى عند كما في قوله تعالى لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ( آل عمران 10 و 116 والمجادلة 17 ) أي عند الله والمعنى والانفاق عند الفقر ويجوز أن يكون بمعنى الغاية كما في قولك أخذته من زيد فيكون الافتقار غاية لإنفاقه وفي الحقيقة هي للابتداء لأن المنفق في الإقتار يبتدىء منه إلى الغاية وقال أبو الزناد بن سراج جمع عمار في هذه الألفاظ الخير كله لأنك إذا أنصفت من نفسك فقد بلغت الغاية بينك وبين خالقك وبينك وبين الناس ولم تضيع شيئا أي مما لله وللناس عليك وأما بذل السلام للعالم فهو كقوله عليه السلام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف وهذا حض على مكارم الأخلاق واستئلاف النفوس وأما الإنفاق من الإقتار فهو الغاية في الكرم فقد مدح الله عز و جل من هذه صفته بقوله ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ( الحشر 9 ) وهذا عام في نفقة الرجل على عياله وأضيافه وكل نفقة في طاعة الله تعالى وفيه أن نفقة المعسر على عياله أعظم أجرا من نفقة الموسر قلت هذه الكلمات جامعة لخصال الإيمان كلها لأنها إما مالية أو بدنية فالإنفاق إشارة إلى المالية المتضمنة للوثوق بالله تعالى والزيادة في الدنيا وقصر الأمل ونحو ذلك والبدنية إما مع الله تعالى أي التعظيم لأمر الله تعالى وهو الإنصاف أو مع الناس وهو الشفقة على خلق الله تعالى وهو بذل السلام الذي يتضمن مكارم الأخلاق والتواضع وعدم الاحتقار ويحصل به التآلف والتحابب ونحو ذلك
28 - حدثنا ( قتيبة ) قال حدثنا ( الليث ) عن ( يزيد بن أبي حبيب ) عن ( أبي الخير ) عن ( عبد الله ابن عمرو ) أن رجلا سأل الله رسول الله أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف
( راجع الحديث رقم 12 )
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأن الباب يتضمن أحد شطريه

(1/198)


بيان رجاله وهم خمسة الأول قتيبة على صورة تصغير قتبة بكسر القاف واحدة الأقتاب وهي الأمعاء قال الصنعاني وبها سمي الرجل قتيبة وقال ابن عدي إسمه يحيى وقتيبة لقب غلب عليه وقال ابن منده إسمه علي بن سعيد بن جميل البغلاني منسوب إلى بغلان بفتح الباء الموحدة وسكون الغين المعجمة قرية من قرى بلخ وقيل إن جده كان مولى للحجاج بن يوسف فهو ثقفي مولاهم وكنيته أبو رجاء روى عن مالك وغيره عن أئمة وقال الكرماني روى عنه أحمد وأصحاب الكتب الستة قلت روى عنه يحيى بن معين وعلي بن المديني وأبو زرعة وأبو حاتم وإبراهيم الحربي والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وروى النسائي وابن ماجه عن رجل عنه وقال محمد بن بكير البرساني كان ثبتا صاحب حديث وسنة وقال الأثرم أثنى عليه أحمد وقال يحيى والنسائي ثقة وكان كثير المال كما كان كثير الحديث توفي سنة أربعين ومائتين وقال علي بن محمد السمسمار سمعته يقول ولدت ببلخ يوم الجمعة حين تعالى النهار لست مضين من رجب سنة ثمان وأربعين ومائة وقال الحاكم في ( تاريخ نيسابور ) مات في ثاني رمضان الثاني الليث بن سعد الثالث يزيد بن أبي حبيب المصري الرابع أبو الخير مرثد بفتح الميم وبالثاء المثلثة الخامس عبد الله بن عمرو بن العاص وكلهم قد تقدموا
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته كلهم مصريون ما خلا قتيبة ومنها أن رواته كلهم أئمة أجلاء
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره قد ذكرنا فيما مضى أنه أخرجه في ثلاثة مواضع وأخرجه مسلم والنسائي أيضا وأخرجه فيما مضى عن عمرو بن خالد عن ليث عن يزيد عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو وههنا عن قتيبة عن ليث إلخ بعين هؤلاء ونبه بذلك على المغايرة بين شيخيه اللذين حدثاه عن الليث وهي تشعر بتكثير الطرق وقد علم أنه لا يعيد الحديث الواحد في موضعين على صورة واحدة على أنه بوب به هناك على أن الإطعام من الإسلام وههنا على أن السلام من الإسلام وقال الكرماني فإن قلت كان يكفيه أن يقول ثمة أو ههنا باب الاطعام والسلام من الإسلام بأن يدخلهما في سلك واحد ويتم المطلوب قلت لعل عمرو بن خالد ذكره في معرض بيان أن الإطعام منه وقتيبة في بيان أن الإسلام منه فلذلك ميزهما مضيفا إلى كل راو قصده في روايته وقال بعضهم هذا ليس بطائل لأنه يبقى السؤال بحاله إذ لا يمتنع معه أن يجمعهما المصنف ولو كان سمعهما مفترقين قلت هذا الذي قاله ليس بطائل وهو جواب حسن ويندفع السؤال به ولو كان المصنف جمعهما لكان تغييرا لما أفرده كل واحد من شيخيه ولم يرد تغيير ذلك فلذلك ميزهما بالبابين فافهم وباقي الكلام ذكرناه فيما مضى مستوفى
21 -
( باب كفران العشير وكفر دون كفر )
الكلام فيه على وجهين الأول وجه المناسبة بين هذا الباب وبين الأبواب التي قبله هو أن المذكور في الأبواب الماضية هو أمور الإيمان والكفر ضده والمناسبة بينهما من جهة التضاد لأن الجامع بين الشيئين على أنواع عقلي بأن يكون بينهما اتحاد في التصور أو تماثل أو تضايف كما بين الأقل والأكثر والعلو والسفل و وهمي بأن يكون بين تصور الشيئين شبه تماثل كلوني بياض وصفرة أو تضاد كالسواد والبياض والإيمان والكفر وشبه تضاد كالسماء والأرض و خيالي بأن يكون بينهما تقارن في الخيال وأسبابه مختلفة كما عرف في موضعه ولم أر شارحا ذكر وجه المناسبة ههنا كما ينبغي وقال بعض الشارحين أردف البخاري هذا الباب بالذي قبله لينبه على أن المعاصي تنقص الإيمان ولا تخرج إلى الكفر الموجب للخلود في النار لأنهم ظنوا أنه الكفر بالله فأجابهم أنه عليه السلام أراد كفرهن حق أزواجهن وذلك لا محالة نقص من إيمانهن لأنه يزيد بشكرهن العشير وبأفعال البر فظهر بهذا أن الأعمال من الإيمان وأنه قول وعمل وقال النووي في الحديث أراد به حديث الباب أنواع من العلم منها ما ترجم له وهو أن الكفر قد يطلق على غير الكفر بالله تعالى وقال القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه مراد المصنف أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد به الكفر المخرج عن الملة وهذا كما ترى ليس في كلام واحد منهم ما يليق بوجه

(1/199)


المناسبة والوجه ما ذكرناه ولكن كان ينبغي أن يذكر هذا الباب والذي بعده من الأبواب الأربعة عقيب باب قول النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الدين النصيحة لله إلخ بعد الفراغ من ذكر الأبواب التي فيها أمور الإيمان رعاية للمناسبة الكاملة
الوجه الثاني في الإعراب والمعنى فقوله باب مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف مضاف إلى ما بعده والتقدير هذا باب في بيان كفران العشير وبيان كفر دون كفر وقوله وكفر عطف على كفران وقوله دون كفر كلام إضافي في صفته ودون نصب على الظرف و الكفران مصدر كالكفر والفرق بينهما أن الكفر في الدين والكفران في النعمة وفي ( العباب ) الكفر نقيض الإيمان وقد كفر بالله كفرا والكفر أيضا جحود النعمة وهو ضد الشكر وقد كفرها كفورا وكفرانا وأصل الكفر التغطية وقد كفرت الشيء أكفره بالكسرة كفرا بالفتح أي سترته وكل شيء غطى شيئا فقد كفره ومنه الكافر لأنه يستر توحيد الله أو نعمة الله ويقال للزارع الكافر لأنه يغطي البذر تحت التراب و رماد مكفور إذا سفت الريح التراب عليه حتى غطته والعشير فعيل بمعنى معاشر كالأكيل بمعنى المؤاكل من المعاشرة وهي المخالطة وقيل الملازمة قالوا المراد ههنا الزوج يطلق على الذكر والأنثى لأن كل واحد منهما يعاشر صاحبه وحمله البعض على العموم والعشير أيضا الخليط والصاحب وفي ( العباب ) العشير المعاشر قال الله تعالى لبئس المولى ولبئس العشير ( الحج 13 ) والعشير الزوج ثم روى الحديث المذكور والعشير العشر كما يقال للنصف نصيف وللثلث ثليث وللسدس سديس والعشير في حساب مساحة الأرض عشر القفيز والقفيز عشر الجريب والعشيرة القبيلة والمعشر الجماعة قوله وكفر دون كفر أشار به إلى تفاوت الكفر في معناه أي وكفر أقرب من كفر كما يقال هذا دون ذلك أي أقرب منه والكفر المطلق هو الكفر بالله وما دون ذلك يقرب منه وتحقيق ذلك ما قاله الأزهري الكفر بالله أنواع إنكار وجحود وعناد ونفاق وهذه الأربعة من لقى الله تعالى بواحد منها لم يغفر له فالأول أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد كما قال الله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم ( البقرة 6 ) الآية أي الذين كفروا بالتوحيد وأنكروا معرفته والثاني أن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه وهذا ككفر إبليس وبلعام وأمية بن أبي الصلت والثالث أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ويأبى أن يقبل الإيمان بالتوحيد ككفر أبي طالب والرابع أن يقر بلسانه ويكفر بقلبه ككفر المنافقين قال الأزهري ويكون الكفر بمعنى البراءة كقوله تعالى حكاية عن الشيطان إني كفرت بما أشركتمون من قبل ( إبراهيم 22 ) أي تبرأت قال وأما الكفر الذي هو دون ما ذكرنا فالرجل يقر بالوحدانية والنبوة بلسانه ويعتقد ذلك بقلبه لكنه يرتكب الكبائر من القتل والسعي في الأرض بالفساد ومنازعة الأمر أهله وشق عصا المسلمين ونحو ذلك انتهى وقد أطلق الشارع الكفر على ما سوى الأربعة وهو كفران الحقوق والنعم كهذا الحديث ونحوه وهذا مراده من قوله وكفر دون كفر وفي بعض الأصول وكفر بعد كفر وهو بمعنى الأول
فيه عن أبي سعيد الخدري عن النبي
أي في الباب يروى حديث عن أبي سعيد الخدري هذه رواية كريمة وفي رواية غيرها فيه أبو سعيد أي يدخل في الباب حديث رواه أبو سعيد سعد بن مالك الخدري الصحابي المشهور وأشار بهذا إلى أن الحديث الذي ذكره في هذا الباب له طريق غير الطريق التي ساقها ههنا وقد أخرج البخاري حديث أبي سعيد في الحيض وغيره من طريق عياض بن عبد الله عنه وفيه قوله للنساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقلن وبم يا رسول الله قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير الحديث وقال بعضهم يحتمل أن يريد بذلك حديث أبي سعيد لا يشكر الله من لا يشكر الناس قلت هذا بعيد ومراده ما ذكرناه ويؤيده ما في حديث ابن عباس من قوله وتكفرن العشير كذا في حديث أبي سعيد وترجمة الباب بهذه اللفظة ولا يناسب الترجمة إلا حديثاهما فافهم
29 - حدثنا ( عبد الله بن مسلمة ) عن ( مالك ) عن ( زيد بن أسلم ) عن ( عطاء بن يسار ) عن ( ابن عباس ) قال قال النبي أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن قيل

(1/200)


أيكفرن بالله قال يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأنها في كفران العشير وإطلاق الكفر على غير الكفر بالله
بيان رجاله وهم خمسة الأول عبد الله بن مسلمة القعنبي المدني وقد تقدم ذكره الثاني الإمام مالك بن أنس وقد تقدم ذكره أيضا الثالث أبو أسامة زيد بن أسلم القرشي العدوي مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه روى عن أبيه وعبد الله بن عمر وأنس وجابر وسلمة بن الأكوع وعطاء بن يسار وغيرهم روى عنه مالك والزهري ومعمر وأيوب ويحيى وعبد الله بن عمر والثوري وبنوه عبد الله وعبد الرحمن وأسامة وغيرهم قال ابن سعد كان ثقة كثير الحديث توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة روى له الجماعة الرابع عطاء بن يسار بفتح الياء آخر الحروف والسين المهملة القاضي المدني الهلالي مولى ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها أخو سليمان وعبد الملك وعبد الله سمع أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم وروى عنه عمرو بن دينار وزيد بن أسلم وغيرهما وقال ابن سعد كان ثقة كثير الحديث وقال يحيى بن معين وأبو زرعة هو ثقة توفي سنة ثلاث أو أربع ومائة وقيل أربع وتسعين روى له الجماعة الخامس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أنهم أئمة أجلاء كبار
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه ههنا عن عبد الله بن مسلمة عن مالك وهو طرف من حديث طويل أورده في باب صلاة الكسوف بهذا الاسناد تاما وأخرجه في الصلاة في باب من صلى وقدامه نار بهذا الاسناد بعينه وأخرجه في بدء الخلق في ذكر الشمس والقمر عن شيخ غير القعنبي مقتصرا على موضع الحاجة وأخرجه في عشرة النساء عن شيخ غيرهما عن مالك أيضا وأخرجه في كتاب العلم عن سليمان بن حرب عن شعبة عن أيوب عن ابن عباس وأخرجه مسلم في العيدين عن أبي بكر وابن أبي عمر عن سفيان عن أيوب وعن أبي رافع بن أبي رفاعة عن عبد الرزاق عن ابن جريج كلاهما عن عطاء وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر أيضا وأخرجاه من حديث جابر رضي الله عنه أيضا فإن قلت ما فائدة تقطيع هذا الحديث وإخراج طرف منه ههنا ثم إخراجه تاما في موضع آخر بعين الإسناد الذي ههنا قلت مذهبه جواز تقطيع الحديث إذا كان ما يقطعه منه لا يستلزم فساد المعنى وغرضه من ذلك تنويع الأبواب وربما يتوهم من لا يحفظ الحديث ولا له كثرة الممارسة فيه أن المختصر حديث مستقل بذاته وليس بعض غيره لا سيما إذا كان ابتداء المختصر من أثناء الحديث التام كما في هذا الحديث فإن أوله هنا قوله عليه السلام أريت النار إلى آخر ما ذكر منه وأول التام عن ابن عباس قال خسفت الشمس على عهد رسول الله فذكر قصة صلاة الكسوف ثم خطبة النبي وفيها القدر المذكور هنا وكثير ممن يعد أحاديث البخاري يظن أن مثل هذا الحديث حديثان أو أكثر لاختلاف ابتداء الحديث فمن ذلك قالوا عدة أحاديثه بغير تكرار أربعة آلاف أو نحوها وكذا ذكر ابن الصلاح والنووي ومن بعدهما وليس كذلك بل إذا حرر ذلك لا يزيد على ألفي حديث وخمسمائة حديث وثلاثة عشر حديثا
بيان اللغات قوله أريت بضم الهمزة من الرؤية التي بمعنى التبصير قوله العشير قد مر تفسيره قوله الإحسان مصدر أحسن يقال أحسنت به وأحسنت إليه إذا فعلت معه جميلا وأصله من الحسن خلاف القبح قوله الدهر هو الزمان والجمع الدهور ويقال الدهر الأبد وقال الأزهري الدهر عند العرب يقع على بعض الدهر الأطول ويقع على مدة الدنيا كلها وقال ابن دريد قال قوم الدهر مدة الدنيا من ابتدائها إلى انقضائها وقال آخرون بل دهر كل قوم زمانهم قوله قط لتأكيد نفي الماضي وفيها لغات فتح القاف وضمها مع تشديد الطاء المضمومة فيهما وبفتحهما مع تشديد الطاء المكسورة وبالفتح مع إسكان الطاء وبالفتح بكسر الطاء المخففة قال الجوهري قال الكسائي كان أصلها قطط فسكن الأول وحرك الآخر بإعرابه ثم قال بعد حكايته فيها لغات منها عن بعضهم قط وقط بالتخفيف وزاد القاضي قط

(1/201)


بكسر القاف مع التخفيف هذا كله إذا كانت زمنية أما إذا كانت بمعنى حسب وهو الاكتفاء فهي مفتوحة ساكنة الطاء تقول رأيته مرة واحدة فقط قال القاضي وقد يكون هذا للتقليل أيضا
بيان الإعراب قوله أريت على صيغة المجهول بمعنى أبصرت والضمير الذي فيه هو القائم مقام المفعول الأول وقوله النار هو المفعول الثاني قوله فرأيت عطف على أريت وقوله أكثر أهلها كلام إضافي منصوب لأنه مفعول أول لرأيت وقوله النساء بالنصب أيضا لأنه مفعول ثان وفي بعض الروايات رأيت النار أكثر أهلها النساء بدون قوله فرأيت فعلى هذا أريت بمعنى أعلمت فالتاء مفعوله الأول نائب عن الفاعل والنار مفعوله الثاني والنساء مفعوله الثالث وقوله أكثر أهلها منصوب لأنه بدل من النار ويجوز رفع أكثر على أنه مبتدأ والنساء بالرفع أيضا خبره والجملة تكون حالا بدون الواو كما في قوله تعالى اهبطوا بعضكم لبعض عدو ( البقرة 36 والأعراف 24 ) وفي صحيح مسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقالت امرأة منهن جزلة وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين الحديث فقوله أكثر بالنصب إما على المفعول أو على الحال على مذهب ابن السراج وأبي علي الفارسي وغيرهما ممن قال إن أفعل لا يتعرف بالإضافة وقيل هو بدل من الكاف في رأيتكن وقولها وما لنا أكثر أهل النار قال النووي نصب أكثر على الحكاية قوله يكفرن بياء المضارعة جملة استئنافية والتقدير هن يكفرن وهي في الحقيقة جواب سائل سأل يا رسول الله لم وجاء بكفرهن بالباء السببية المتعلقة بقول أكثر أو بفعل الرؤية قوله أيكفرن بالله الهمزة للاستفهام وهذا الاستفسار دليل على أن لفظ الكفر مجمل بين الكفر بالله والكفر الذي للعشير ونحوه قوله قال أي النبي قوله يكفرن العشير أي هن يكفرن العشير وقوله يكفرن جملة في محل الرفع على الخبرية والعشير نصب على المفعولية وقوله ويكفرن الاحسان عطف على الجملة الأولى فإن قلت كيف عدى يكفرن بالياء في قوله أيكفرن بالله ولم يعديها في قوله يكفرن العشير قلت لان في الأول يتضمن معنى الاعتراف بخلاف الثاني فإن قلت ما كفران العشير وما كفران الاحسان قلت كفران العشير ليس لذاته بل الكفران له هو الكفران لإحسانه فالجملة الثانية في الحقيقة بيان للجملة الأولى فإن قلت ما الألف واللام في العشير قلت للعهد إن فسر العشير بالزوج وللجنس أو الاستغرق إن فسر بالمعاشر مطلقا فإن قلت أيها الأصل في اللام قلت قال الكرماني الجنس هو الحقيقة فيحمل عليها إلا إذا دلت قرينة على التخصيص والتعميم فتتبع القرينة حينئذ وهذا حكم عام لهذه في جميع المواضع والذي عليه المحققون أن أصل اللام للعهد وقد عرف في موضعه قوله لو أحسنت وفي بعض النسخ إن أحسنت فإن قلت لو لامتناع الشيء لامتناع غيره فكيف صح هنا هذا المعنى قلت لو هنا بمعنى إن يعني لمجرد الشرطية ومثله كثير ويحتمل أن يكون من قبيل قوله عليه السلام نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه بأن يكون الحكم ثابتا على النقيضين والطرف المسكوت عنه أولى من المذكور قوله أحسنت ليس الخطاب فيه لأحد بعينه وإنما مراده بهذا كل من يأتي منه أن يكون مخاطبا به فإن قلت أصل وضع الضمير أن يكون مستعملا لمعين مشخص قلت نعم لكن هذا على سبيل التجوز فإن قلت لو لم يكن عاما لما جاز استعماله في كل مخاطب كزيد مثلا حقيقة قلت عام باعتبار أمر عام لمعنى خاص بخلاف العلم فإنه خاص بالاعتبارين والتحقيق فيه أن اللفظ قد يوضع وضعا عاما لأمور مخصوصة كاسم الإشارة فإنه وضع باعتبار المعنى العام الذي هو الإشارة الحسية للخصوصيات التي تحته أي لكل واحد مما يشار إليه ولا يراد به عند الاستعمال العموم على سبيل الحقيقة وقد يوضع وضعا عاما الموضوع له عام نحو الرجل فلا يراد به خاص حقيقة وهو عكس الأول وقد يوضع وضعا خاصا لموضوع له خاص نحو العلم كزيد ونحوه والمضمرات من القسم الأول فإن أريد بالضمير في أحسنت مخاطب معين كان حقيقة وإلا كان مجازا ومثله قوله تعالى ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم ( السجدة 12 ) قوله الدهر نصب على الظرف قوله ثم رأت جملة معطوفة على ما قبلها وقد علم أن في ثم معنى المهلة والتراخي قوله شيئا نصب على أنه مفعول رأت أي شيئا قليلا لا يوافق مزاجها أو شيئا حقيرا لا يعجبها فحينئذ التنوين فيه للتقليل أو التحقير قوله خيرا مفعول ما رأيت

(1/202)


بيان المعاني والبيان فيه حذف الفاعل لكونه متعينا للفعل أو لشهرته وهو في قوله أريت إذ أصله أراني الله النار وفيه الجملة الاستئنافية التي تدل على السؤال والجواب وهو قوله يكفرن وقال بعض الشارحين هذا جواب سؤال مذكور في الحديث المذكور في كتاب الكسوف التقدير فبم يا رسول الله قال يكفرن أي هن يكفرن وفيه ترك المعين إلى غير المعين ليعم كل مخاطب وهو قوله لو أحسنت كما في قوله بشر المشائين في ظلم الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة وفيه أن التنكير فيه للتحقير كما في قوله شيئا كقوله تعالى ان نظن إلا ظنا ( الجاثية 32 ) ح
بيان استنباط الفوائد منها تحريم كفران الحقوق والنعم إذ لا يدخل النار إلا بارتكاب حرام وقال النووي توعده على كفران العشير وكفران الإحسان بالنار يدل على أنهما من الكبائر وقال ابن بطال فيه دليل على أن العبد يعذب على جحد الاحسان والفضل وشكر النعم قال وقد قيل إن شكر المنعم واجب ومنها الدلالة على عظم حق الزوج والدليل عليه قوله لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ولأجل هذا المعنى خص كفران العشير من بين أنواع الذنوب وقرن فيه حق الزوج على الزوجة بحق الله فإذا كفرت المرأة حق زوجها وقد بلغ حقه عليها هذه الغاية كان ذلك دليلا على تهاونها بحق الله فلذلك أطلق عليها الكفر لكنه كفر لا يخرج عن الملة ومنها فيه وعظ الرئيس المرؤوس وتحريضه على الطاعة ومنها فيه مراجعة المتعلم العالم والتابع المتبوع فيما قاله إذا لم يظهر له معناه ومنها فيه أن النار أي جهنم التي هي دار عذاب الآخرة مخلوقة اليوم وهو مذهب أهل السنة ومنها فيه الدلالة على جواز إطلاق الكفر على كفر النعمة وجحد الحق ومنها فيه التنبيه على أن المعاصي تنقص الإيمان ولا تخرج إلى الكفر الموجب للخلود في النار لأنهم ظنوا أنه الكفر بالله فأجابهم عليه السلام بأنه أراد كفرهم حق أزواجهن ومن فوائد حديث مسلم أن اللعن من المعاصي قال النووي رحمه الله فيه أنه كبيرة فإن قال تكثرن اللعن والصغيرة إذا كثرت صارت كبيرة وقال عليه السلام لعن المؤمن كقتله قال واتفق العلماء على تحريم اللعن ولا يجوز لعن أحد بعينه مسلما أو كافرا أو دابة إلا بعلم بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه كأبي جهل وإبليس عليهما اللعنة واللعن بالوصف ليس بحرام كلعن الواصلة والمستوصلة وآكل الربا وشبههم واللعن في اللغة الطرد والإبعاد وفي الشرع الإبعاد من رحمة الله تعالى قوله ناقصات عقل اختلفوا في العقل فقيل هو العلم لأن العقل والعلم في اللغة واحد ولا يفرقون بين قولهم عقلت وعلمت وقيل العقل بعض العلوم الضرورية وقيل قوة يميز بها بين حقائق المعلومات واختلفوا في محله فقال المتكلمون هو في القلبوقال بعض العلماء هو في الرأس والله تعالى أعلم
22 -
( باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك لقول النبي إنك امرؤ فيك جاهلية وقول الله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )
الكلام فيه على وجوه الأول وجه المناسبة بين البابين ظاهر لأن المذكور في الباب الأول كفران العشير وهو أيضا من جملة المعاصي الثاني يجوز في باب التنوين والإضافة إلى الجملة التي بعده لأن قوله المعاصي مبتدأ وقوله من أمر الجاهلية خبره وعلى كل تقدير تقديره هذا باب في بيان أن المعاصي من أمور الجاهلية الثالث وجه الترجمة هو الرد على الرافضة والأباضية وبعض الخوارج في قولهم إن المذنبين من المؤمنين مخلدون في النار بذنوبهم وقد نطق القرآن بتكذيبهم في مواضع منها قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ( النساء 48 و 116 ) الآية الرابع قوله المعاصي جمع معصية وهي مصدر ميمي وفي ( الصحاح ) وقد عصاه بالفتح يعصيه عصيا ومعصية وفي الشرع هو مخالفة الشارع بترك واجب أو فعل محرم وهو أعم من الكبائر والصغائر و الجاهلية زمان الفترة قبل الإسلام سميت بذلك لكثرة جهالاتهم قوله ولا يكفر بضم الياء وتشديد الفاء المفتوحة أي لا ينسب إلى الكفر وفي رواية أبي الوقت بفتح الياء وسكون القاف قوله بارتكابها أي بارتكاب المعاصي وأراد بالارتكاب الاكتساب

(1/203)


والاتيان بها عنده واستدل على ذلك بما في حديث أبي ذر من قوله عليه السلام إنك امرؤ فيك جاهلية وبقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ( النساء 48 و 116 ) الآية أما وجه الاستدلال بما في الحديث فهو أنه قال له فيك جاهلية يعني أنك في تعيير أمه على خلق من أخلاق الجاهلية ولست جاهلا محضا وكان أبو ذر قد عير الرجل بأمه على ما يجيء بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى وهو نوع من المعصية ولو كان مرتكب المعصية يكفر لبين النبي لأبي ذر ولم يكتف بقوله في الإنكار عليه إنك امرؤ فيك جاهلية وأما الاستدلال بالآية فظاهر صريح وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة وأما عند الخوارج فالكبيرة موجبة للكفر وعند المعتزلة موجبة للمنزلة بين المنزلتين صاحبها لا مؤمن ولا كافر وقال الكرماني فإن قلت المفهوم من الآية أن مرتكب الشرك لا يغفر له لا أنه يكفر والترجمة إنما هي في الكفر لا في الغفر قلت الكفر وعدم الغفر عندنا متلازمان نعم عند المعتزلة صاحب الكبيرة الذي لم يتب منها غير مغفور له بل يخلد في النار في الكلام لف ونشر ومذهب أهل الحق على أن من مات موحدا لا يخلد في النار وإن ارتكب من الكبائر غير الشرك ما ارتكب وقد جاءت به الأحاديث الصحيحة منها قوله عليه السلام وإن زنى وإن سرق والمراد بهذه الآية من مات على الذنوب من غير توبة ولو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الشرك وغيره معنى إذ التائب من الشرك قبل الموت مغفور له ويقال المراد بالشرك في هذه الآية الكفر لأن من جحد نبوة محمد مثلا كان كافرا ولو لم يجعل مع الله إلاها آخر والمغفرة منتفية عنه بلا خلاف وقد يرد الشرك ويراد به ما هو أخص من الكفر كما في قوله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ( البينة 1 ) قوله إلا بالشرك أي إلا بارتكاب الشرك حتى يصح الاستثناء من الارتكاب وقال النووي قال بارتكابها احترازا من اعتقادها لأنه لو اعتقد حل بعض المحرمات المعلومة من الدين ضرورة كالخمر كفر بلا خلاف الخامس سبب نزول الآية قضية الوحشي قاتل حمزة رضي الله عنه على ما روي عن ابن عباس قال أتى وحشي إلى النبي فقال يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله فقال رسول الله قد كنت أحب أن أراك على غير جوار فأما إذا أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله قال فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت فهل يقبل الله تعالى مني توبة فصمت رسول الله حتى أنزلت والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ( الفرقان 68 ) إلى آخر الآية فتلاها عليه فقال أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( النساء 48 و 116 ) فدعا به فتلاها عليه فقال لعلي ممن لا يشاء الله أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ( الزمر 53 ) فقال نعم الآن لا أرى شرطا فأسلم
30 - حدثنا ( سليمان بن حرب ) قال حدثنا ( شعبة ) عن ( واصل الأحدب ) عن ( المعرور ) قال لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك فقال إني ساببت رجلا فعيرته بأمه فقال لي النبي يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأن التبويب على جزء منه وقال ابن بطال غرض البخاري من الحديث الرد على الخوارج في قولهم المذنب من المؤمنين مخلد في النار كما دلت عليه الآية ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( النساء 48 و 116 ) والمراد به من مات على الذنوب كما ذكرنا وقال الكرماني وفي ثبوت غرض البخاري منه الرد عليهم دغدغة إذ لا نزاع لهم في أن الصغيرة لا يكفر صاحبها والتعيير بنحو يا ابن السوداء صغيرة قلت يشير الكرماني بكلامه هذا إلى عدم

(1/204)


مطابقة الحديث للترجمة وليس كذلك فإنه مطابق لأن التعيير بالأم أمر عظيم عندهم لأنهم كانوا يتفاخرون بالأنساب وهذا ارتكاب معصية عظيمة ولهذا أنكر النبي بلفظ يدل على أشد الإنكار وقال ابن بطال معناه جهلت وعصيت الله تعالى في ذلك ولئن سلمنا أن هذا صغيرة ولكن كونه صغيرة بالنسبة إلى ذنب فوقه وبالنسبة إلى ما دونه كبيرة لأن هذا من الأمور النسبية ولهذا يجوز أن يقال سائر الذنوب بالنسبة إلى الكفر صغائر لأنه لا ذنب أعظم من الكفر وليس فوقه ذنب وما دونه مختلف في نفسه فإن نسب إلى ما فوقه فهو صغيرة وإن نسب إلى ما دونه فهو كبيرة فافهم
بيان رجاله وهم خمسة الأول أبو أيوب سليمان بن حرب بالباء الموحدة الأزدي البصري وقد تقدم الثاني شعبة بن الحجاج وقد تقدم الثالث واصل بن حيان بفتح الحاء المهملة والياء آخر الحروف المشددة الأحدب الأسدي الكوفي وهكذا وقع للأصيلي عن واصل الأحدب ولغيره عن واصل فقط ووقع للبخاري في العتق عن واصل الأحدب مثل ما وقع للأصيلي هنا سمع المعرور وأبا وائل وشقيقا ومجاهدا وغيرهم روى عنه الثوري وشعبة ومسعر وغيرهم قال يحيى بن معين ثقة وقال أبو حاتم صدوق صالح الحديث قيل مات سنة سبع وعشرين ومائة روى له الجماعة وحيان أن أخذ من الحين ينصرف وإن أخذ من الحياة لا ينصرف الرابع المعرور بالعين المهملة والراء المهملة ابن سويد أبو أمية الأسدي الكوفي ووقع في العتق سمعت المعرور بن سويد سمع عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبا ذر روى عنه واصل الأحدب والأعمش وقال رأيته وهو ابن مائة وعشرين سنة أسود الرأس واللحية قال يحيى بن معين وأبو حاتم ثقة روى له الجماعة الخامس أبو ذر بالذال المعجمة المفتوحة وتشديد الراء واسمه جندب بضم الجيم والدال وحكي فتح الدال وعن بعضهم فيه كسر أوله وفتح ثالثه فكأنه لغة من واحد الجنادب الذي هو طائر وقيل اسمه برير بضم الباء الموحدة وراء مكررة ابن جندب والمشهور جندب بن جنادة بضم الجيم بن سفيان بن عبيد بن الوقيعة بن حرام بن غفار بن مليك بن ضمرة بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار الغفاري السيد الجليل وغفار بكسر الغين المعجمة قبيلة من كنانة أسلم قديما روي عنه قال أنا رابع أربعة في الإسلام ويقال كان خامس خمسة أسلم بمكة ثم رجع إلى بلاد قومه قام بها حتى مضت بدر وأحد والخندق ثم رجع إلى المدينة فصحب النبي إلى أن مات ومناقبه جمة وزهده مشهور وتواضعه وزهده مشبهان في الحديث بتواضع عيسى عليه السلام وزهده ومن مذهبه أنه يحرم على الإنسان ادخار ما زاد على حاجته من المال روي له عن رسول الله مائتا حديث واحد وثمانون حديثا اتفقا منها على اثني عشر وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بسبعة عشر روى عنه خلق من الصحابة منهم ابن عباس وأنس وخلق من التابعين مات بالربذة سنة اثنتين وثلاثين وصلى عليه ابن مسعود رضي الله عنه وقضيته فيه مشهورة
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة والسؤال ومنها أن فيه بصريا وواسطيا وكوفيين ومنها أن فيه بيان الراوي مكان لقيه الصحابي وسؤاله عنه عن لبسه الداعي ذلك إلى تحديث الصحابي رضي الله تعالى عنه
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه ههنا عن سليمان بن حرب عن شعبة وأخرجه في العتق عن آدم عن شعبة عن واصل كلاهما عن المعرور وأخرجه في الأدب عن عمرو بن حفص بن غياث عن أبيه وأخرجه مسلم في كتاب الأيمان والنذور عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن وكيع وعن أحمد بن يونس عن زهير وعن أبي بكر عن أبي معاوية عن إسحاق بن يونس عن عيسى بن يونس كلهم عن الأعمش وعن أبي موسى وبندار عن غندر عن شعبة عن واصل كلاهما عن المعرور وأخرجه أبو داود ولفظه رأيت أبا ذر بالربذة وعليه برد غليظ وعلى غلامه مثله قال فقال القوم يا أبا ذر لو كنت أخذت الذي على غلامك فجعلته مع هذا فكانت حلة وكسوت غلامك ثوبا غيره فقال أبو ذر إني كنت ساببت رجلا وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه فشكاني إلى رسول الله فقال يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية قال إنهم إخوانكم فضلكم الله عليهم فمن لم يلائمكم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله وفي أخرى له قال دخلنا على أبي ذر بالربذة فإذا عليه برد وعلى غلامه مثله فقلنا يا أبا ذر لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حلة وكسوته ثوبا

(1/205)


غيره قال سمعت رسول الله يقول إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان له أخوة تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه وأخرجه الترمذي أيضا ولفظه قال قال رسول الله إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه وليلبسه من لباسه ولا يكلفه ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه
بيان اللغات قوله بالربذة بفتح الراء والباء الموحدة والذال المعجمة موضع قريب من المدينة منزل من منازل خارج العراق بينها وبين المدينة ثلاثة مراحل قريب من ذات عرق قوله حلة بضم الحاء المهملة وتشديد اللام وهي إزار ورداء ولا يسمى حلة حتى تكون ثوبين ويقال الحلة ثوبان غير لفقين رداء وإزار سميا بذلك لأن كل واحد منهما يحل على الآخر قوله ساببت أي شاتمت وهكذا هو في رواية الإسماعيلي قوله فعيرته بالعين المهملة أي نسبته إلى العار وفي ( العباب ) العار السبة والعيب ومنه المثل النار ولا العار أي اختر النار أو الزمها وعاره يعيره إذا عابه وهو من الأجوف اليائي يقال عيرته بكذا وعيرته كذا قوله خولكم بفتح الواو وخول الرجل حشمه الواحد خايل وقد يكون الخول واحدا وهو اسم يقع على العبد والأمة قال الفراء هو جمع خايل وهو الراعي وقال غيره هو من التخويل وهو التمليك وقيل الخول الخدم وسموا به لأنهم يتخولون الأمور أي يصلحونها وقال القاضي أي خدمكم وعبيدكم الذين يتخولون أموركم أي يصلحون أموركم ويقومون بها يقال خال المال يخوله إذا أحسن القيام عليه ويقال هو لفظ مشترك تقول خال المال والشيء يخول وخلت أخول خولا إذا أسست الشيء وتعاهدته وأحسنت القيام عليه والخايل الحافظ ويقال خايل المال وخايل مال وخولي مال وخوله الله الشيء أي ملكه إياه قوله ولا تكلفوهم من التكليف وهو تحميل الشخص شيئا معه كلفة وقيل هو الأمر بما يشق قوله ما يغلبهم أي ما يصير قدرتهم فيه مغلوبة يقال غلبه غلبا بسكون اللام وغلبا بتحريكها وغلبة بإلحاق الهاء وغلابية مثل علانية وغلبة مثل خرقة وغلبي بضمتين مشددة الباء مقصورة ومغلبة قوله فأعينوهم من الإعانة وهي المساعدة
بيان الإعراب قوله لقيت فعل وفاعل وأبا ذر مفعوله قوله بالربذة في محل النصب على الحال أي لقيته حال كونه بالربذة وقوله وعليه حلة جملة إسمية حال أيضا وكذا قوله وعلى غلامه حلة قوله فسألته عطف على قوله لقيت أبا ذر قوله ساببت فعل وفاعل و رجلا مفعوله قوله فعيرته عطف على ساببته فإن قلت هذا عطف الشيء على نفسه لأن التعيير هو نفس السب وكيف تصح الفاء بينهما وشرط المعطوفين مغايرتهما قلت هما متغايران بحسب المفهوم من اللفظ ومثل هذه الفاء تسمى بالفاء التفسيرية كما في قوله تعالى توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ( البقرة 54 ) حيث قال في التفسير إن القتل هو نفس التوبة قوله يا باذر أصله يا أبا ذر بالهمزة فحذفت للعلم بها تخفيفا قوله أعيرته الهمزة فيه للاستفهام على وجه الإنكار التوبيخي وقول من قال للتقرير بعيد قوله امرؤ مرفوع لأنه خبر إن وهو من نوادر الكلمات إذ حركة عين الكلمة تابعة للامها في الأحوال الثلاث وفي ( العباب ) المرء الرجل يقال هذا امرؤ صالح ورأيت مرأ صالحا ومررت بمره صالح وضم الميم في الأحوال الثلاث لغة وهما مرآن صالحان ولا يجمع على لفظه وتقول هذا مرء بالضم و رأيت مرأ بالفتح ومررت بمرء بالكسر معربا من مكانين وتقول هذا أمرأ بفتح الراء وكذلك رأيت أمرأ أو مررت بأمرى بفتح الراءآت وبعضهم يقول هذه مرأة صالحة ومرة أيضا بترك الهمزة وتحريك الراء بحركتها فإن جئت بألف الوصل كان فيه أيضا ثلاث لغات فتح الراء على كل حال حكاها الفراء وضمها على كل حال وإعرابها على كل حال وتقول هذا أمرؤ ورأيت أمرأ أو بمررت بامرىء معربا من مكانين وهذه امرأة مفتوحة الراء على كل حال وإعرابها على كل حال فإن صغرت أسقطت ألف الوصل فقلت مرىء ومريئة قوله جاهلية مرفوع بالابتداء وفيك مقدما خبره قوله إخوانكم خولكم يجوز فيه الوجهان أحدهما أن يكون خولكم مبتدأ و إخوانكم مقدما خبره وتقديمه للاهتمام كما سنبينه عن قريب إن شاء الله تعالى والآخر أن يكون اللفظان خبرين حذف من كل واحد منهما المبتدأ تقديره هم إخوانكم هم خولكم قوله جعلهم الله جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل الرفع على أنها

(1/206)


خبر مبتدأ محذوف تقديره هم جعلهم الله تحت أيديكم قوله فمن كان كلمة من موصولة متضمنة معنى الشرط في محل الرفع على الابتداء و أخوه مرفوع لأنه اسم كان وقوله تحت يده منصوب على أنه خبره والجملة صلة الموصول وقوله فليطعمه خبر المبتدأ والفاء لتضمنه معنى الشرط وأما الفاء التي في فمن فإنها عاطفة على مقدر تقديره وأنتم مالكون إياهم فمن كان إلى آخره ويجوز أن تكون سببية كما في قوله تعالى ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ( الحج 63 ) قوله مما يأكل يجوز أن تكون ما موصولة والعائد محذوف تقديره من الذي يأكله ويجوز أن تكون مصدرية أي من أكله قوله وليلبسه عطف على فليطعمه وإعراب مما يلبس مثل إعراب مما يأكل قوله ولا تكلفوهم جملة ناهية من الفعل والفاعل والمفعول وقوله ما يغلبهم جملة في محل النصب على أنها مفعول ثان وكلمة ما موصولة ويغلبهم صلتها قوله فأعينوهم جواب الشرط فلذلك دخلت الفاء
بيان المعاني والبيان فيه ثلاثة أحوال متوالية وهي قوله بالربذة و عليه حلة و على غلامه حلة فإن قلت الحال ما بين هيئة الفاعل والمفعول وبيان هيئة المفعول في الحالين الأولين ظاهر وأما ما في الحال الأخيرة وهي قوله وعلى غلامه حلة فغير ظاهر قلت هذا نظير قولك جئت ماشيا وزيد متكىء إذ المعنى جئت في حال مشي وحال اتكاء زيد فكذلك التقدير ههنا لقيت أبا ذر في حال كونه بالربذة وحال كون غلامه في حلة واسم هذا الغلام لم يبين في روايات هذا الحديث وقال بعضهم يحتمل أن يكون أبا مراوح مولى أبي ذر وحديثه عنه في الصحيحين قلت هذا خدش وبالاحتمال لا تثبت الحقيقة فإن قلت قد اختلفت ألفاظ هذا الحديث في الحلة فاللفظ الواقع هنا عليه حلة وعلى غلامه حلة وعند البخاري أيضا في الأدب في رواية الأعمش عن المعرور بلفظ رأيت عليه بردا وعلى غلامه بردا فقلت لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة وفي رواية مسلم فقلنا يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة وفي رواية أبي داود فقال القوم يا أبا ذر لو أخذت الذي على غلامك فجعلته مع الذي عليك لكانت حلة وفي رواية الإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة أتيت أبا ذر فإذا حلة عليه منها ثوب وعلى عبده منها ثوب وقد بينا أن الحلة ثوبان من جنس واحد فكيف التوفيق بين هذه الألفاظ فإن لفظه ههنا يدل على الحلتين حلة على أبي ذر وحلة على عبده ولفظه في رواية الأعمش يدل على أن الذي كان عليه هو البرد وعلى غلامه كذلك ولا يسمى هذا حلة إلا بالجمع بينهما ولهذا قال في رواية مسلم لو جمعت بينهما كانت حلة وكذا في رواية أبي داود ورواية الاسماعيلي تدل على أنها كانت حلة واحدة باعتبار جمع ما كان على أبي ذر وعلى عبده من الثوبين قلت تحمل روايته ههنا على المجاز باعتبار ما يؤول ويضم إلى الثوب الذي كان على كل واحد منهما ثوب آخر أو باعتبار إطلاق اسم الكل على الجزء فلما رأى المعرور على أبي ذر ثوبا وعلى غلامه ثوبا من الأبراد كما هو في رواية البخاري في الأدب أطلق على كل واحد منهما حلة باعتبار ما يؤول ويدل عليه رواية مسلم لو جمعت بينهما كانت حلة وكذا رواية أبي داود وأما رواية الإسماعيلي فإنها أيضا مجاز ولكن المجاز فيها في موضع واحد وفي الرواية التي ههنا في الموضعين فافهم هذا هو الذي فتح لي ههنا من الأنوار الإلهية وقال بعضهم يمكن الجمع بين الروايتين بأنه كان عليه برد جيد تحت ثوب خلق من جنسه وعلى غلامه كذلك وكأنه قيل له لو أخذت البرد الجيد فأضفته إلى البرد الجيد الذي عليك وأعطيت الغلام البرد الخلق بدله لكانت حلة جيدة فتلتئم بذلك الروايتان ويحمل قوله في حديث الأعمش لكانت حلة أي كاملة الجودة فالتنكير فيه للتعظيم قلت ليس الجمع إلا بالطريق الذي ذكرته وما ذكره ليس بجمع فإنه نص في الرواية التي ههنا على حلتين وفي رواية الإسماعيلي على حلة واحدة وبالتأويل الذي ذكره يؤول المعنى إلى أن يكون عليه حلة وعلى غلامه حلة باجتماع الجديدين عليه والخلقين على غلامه فيعارض هذا رواية الإسماعيلي فإنها تدل على أنها كانت حلة واحدة وكانت عليهما جميعا وقوله ويحتمل قوله في حديث الأعمش إلى آخر كلام صادر من غير ترو وتأمل لأنه لا يفرق بينه وبين رواية الإسماعيلي في المعنى والتنكير فيه ليس للتعظيم وإنما هو للإيراد أي لا يراد فرد واحد فافهم قوله فسألته عن ذلك أي عن تساويهما في لبس الحلة فإن قلت لم سأله عن ذلك وما الفائدة فيه قلت لأن عادة العرب وغيرهم أن يكون ثياب المملوك دون سيده والذي

(1/207)


فعله أبو ذر كان خلاف المألوف قوله ساببت رجلا قال النووي وسياق الحديث يشعر أن المسبوب كان عبدا وقال صاحب ( منهج الراغبين ) والذي نعرفه أنه بلال رضي الله عنه وعن هذا أخذ بعضهم فقال وقيل إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن مولى أبي بكر رضي الله عنه روى ذلك الوليد بن مسلم منقطعا فإن قلت لم قال ساببت من باب المفاعلة قلت ليدل على أن السب كان من الجهتين ويدل عليه ما في رواية مسلم قال أعيرته بأمه فقلت من سب الرجال سبوا أباه وأمه فإن قلت كيف جوز أبو ذر ذلك وهو حرام قلت الظاهر أن هذا كان منه قبل أن يعرف تحريمه فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده فلذلك قال له إنك امرؤ فيك جاهلية فإن قلت ما كان تعييره بأمه قلت عيره بسواد أمه على ما جاء في رواية أخرى قلت له يا ابن السوداء وفي روايته في الأدب وكانت أمة أعجمية فنلت منها والأعجمي من لا يفصح باللسان العربي سواء كان عربيا أو عجميا قوله إنك امرؤ فيك جاهلية فيه ترك العاطف بين الجملتين لكمال الاتصال بينهما فنزلت الثانية من الأولى منزلة التأكيد المعنوي من متبوعه في إفادة التقرير مع اختلاف في اللفظ ومن هذا القبيل قوله تعالى ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه ( البقرة 1 و 2 ) قوله إخوانكم خولكم فيه حصر وذلك لأن أصل الكلام أن يقال خولكم إخوانكم لأن المقصود هو الحكم على الخول بالأخوة ولكن لما قصد حصر الخول على الإخوان قدم الإخوان أي ليسوا إلا إخوانا وإنما قدم الإخوان لأجل الاهتمام ببيان الأخوة ويجوز أن يكون من باب القلب المورث لملاحة الكلام نحو قوله ( نم وإن لم أنم كراي كراكا
شاهدي الدمع إن ذاك كذاكا )
وقال بعض المعانيين إن المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين أي تعريف كان يفيد التركيب الحصر وقال التيمي كانه قال هم إخوانكم ثم أراد إظهار هؤلاء الإخوان فقال خولكم قوله تحت أيديكم فيه مجاز عن القدرة أو عن الملك والأخوة أيضا مجاز عن مطلق القرابة لأن الكل أولاد آدم عليه السلام أو عن أخوة الإسلام والمماليك الكفرة إما أن نجعلهم في هذا الحكم تابعين لمماليك المؤمنين أو نخصص هذا الحكم بالمؤمنة قوله فليطعمه مما يأكل من الإطعام إنما قال مما يأكل ولم يقل مما يطعم رعاية للمطابقة كما في قوله وليلبسه مما يلبس لأن الطعم يجيء بمعنى الذوق يقال طعم يطعم طعما إذا ذاق أو أكل قال الله تعالى ومن لم يطعمه فإنه مني ( البقرة 249 ) أي من لم يذقه فلو قال مما يطعم لتوهم أنه يجب الإذاقة مما يذوق وذلك غير واجب فإن قيل لم لم يقل فليؤكله مما يأكل قلت إنما قال فليطعمه إشارة إلى أنه لا بد من إذاقته مما يأكل وإن لم يشبعه من ذلك الأكل قوله فإن كلفتموهم فيه حذف المفعول الثاني للاكتفاء إذ أصله فإن كلفتموهم ما يغلبهم
بيان استنباط الأحكام وهو على وجوه الأول فيه النهي عن سب العبيد وتعييرهم بوالديهم والحث على الإحسان إليهم والرفق بهم فلا يجوز لأحد تعيير أحد بشيء من المكروه يعرفه في آبائه وخاصة نفسه كما نهى عن الفخر بالآباء ويلحق بالعبد من في معناه من أجير وخادم وضعيف وكذا الدواب ينبغي أن يحسن إليها ولا يكلف من العمل ما لا تطيق الدواب عليه فإن كلفه ذلك لزمه إعانته بنفسه أو بغيره الثاني عدم الترفع على المسلم وإن كان عبدا ونحوه من الضعفة لأن الله تعالى قال إن أكرمكم عند الله أتقاكم ( الحجرات 13 ) وقد تظاهرت الأدلة على الأمر باللطف بالضعفة وخفض الجناح لهم وعلى النهي عن احتقارهم والترفع عليهم الثالث إستحباب الإطعام مما يأكل والإلباس مما يلبس وقال القاضي عياض الأمر محمول على الاستحباب لا على الإيجاب بالاجماع بل إن أطعمه من الخبز وما يقتاته كان قد أطعمه مما يأكل لأن من للتبعيض ولا يلزمه أن يطعمه من كل ما يأكل على العموم من الأدم وطيبات العيش ومع ذلك فيستحب أن لا يستأثر على عياله ولا يفضل نفسه في العيش عليهم الرابع فيه منع تكليفه من العمل ما لا يطيق أصلا لا يطيق الدوام عليه لأن النهي للتحريم بلا خلاف فإن كلفه ذلك أعانه بنفسه أو بغيره لقوله فإن كلفتموهم فأعينوهم وجاء في رواية مسلم فليبعه موضع فليعنه قال القاضي هذا وهم والصواب فليعنه كما رواه الجمهور الخامس فيه المحافظة على

(1/208)


الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السادس فيه جواز إطلاق الأخ على الرقيق
( باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فسماهم المؤمنين )
الكلام فيه على وجوه الأول قال الكرماني وقع في كثير من نسخ البخاري هذه الآية وحديث أحنف ثم حديث أبي ذر في باب واحد بعد قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( النساء 48 و 116 ) وفي بعضها على الترتيب الذي ذكرناه قلت الترتيب الأول وهو رواية أبي ذر عن مشايخه لكن سقط حديث أبي بكرة من رواية المستملي والترتيب الثاني الذي مشينا عليه هو رواية الأصيلي وغيره وكل من الترتيبين حسن جيد الثاني وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول أن مرتكب المعصية لا يكفر بها وأن صفة الإيمان لا تسلب عنه فكذلك في هذا الباب يبين مثل ذلك لأن الآية المذكورة فيه في حق البغاة وقد سماهم الله تعالى المؤمنين ولم تسلب عنهم صفة الإيمان وبهذا يرد على الخوارج والمعتزلة كما ذكرنا الثالث قوله باب لا يعرب إلا بعد تركيبه مع شيء آخر بأن يقال هذا باب ونحو ذلك ولايجوز إضافته إلى ما بعده الرابع في معنى الآية وإعرابه فقوله طائفتان ( الحجرات 9 ) تثنية طائفة وهي القطعة من الشيء في اللغة وفي ( العباب ) الطائفة من الشيء القطعة ومنه قوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ( النور 2 ) قال ابن عباس رضي الله عنهما الطائفة الواحد فما فوقه فمن أوقع الطائفة على المفرد يريد النفس الطائفة وقال مجاهد الطائفة الرجل الواحد إلى الألف وقال عطاء أقلها رجلان انتهى وقال الزجاج الذي عندي أن أقل الطائفة اثنان وقد حمل الشافعي وغيره من العلماء الطائفة في مواضع من القرآن على أوجه مختلفة بحسب المواطن فهي في قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ( التوبة 122 ) واحد فأكثر واحتج به في قبول خبر الواحد وفي قوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة ( النور 2 ) أربعة وفي قوله تعالى فلتقم طائفة منهم معك ( النساء 102 ) ثلاثة وفرقوا في هذه المواضع بحسب القرائن أما في الأولى فلأن الإنذار يحصل به وفي الثانية لأنها لبينة فيه وفي الثالثة لذكرهم بلفظ الجمع في قوله وليأخذوا أسلحتهم ( النساء 102 ) إلى آخره وأقله ثلاثة على المذهب المختار في قول جمهور أهل اللغة والفقه والأصول فإن قلت فقد قال الله تعالى في آية الانذار ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ( التوبة 122 ) وهذه ضمائر جموع قلت إن الجمع عائد إلى الطوائف التي تجتمع من الفرق قوله وإن للشرط والتقدير وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين وقوله فأصلحوا جواب الشرط الخامس دلت الآية أن المؤمن لا يخرجه فسقه ومعاصيه عن المؤمنين ولا يستحق بذلك الخلود في النار وقد قال العلماء في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية على الإمام أو على آحاد المسلمين وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين لقوله سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر بل هو مخصوص بغير الباغي لأن الله تعالى أمر به في الآية فلو كان كفرا لما أمر به بل الحديث مع حديث أبي بكرة رضي الله عنه المذكور في الباب محمول على قتال العصبية ونحوه وقد ذكر الواحدي وغيره أن سبب نزول هذه الآية ما جاء عن أنس قال قيل يا نبي الله لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق إليه النبي يركب حماره وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فلما أتاه النبي قال إليك فوالله لقد آذاني نتن حمارك فقال رجل من الأنصار والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجل من قومه وغضب لكل واحد منهما أصحابه وكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال فإن قلت قال أولا اقتتلوا بلفظ الجمع وثانيا بينهما بلفظ التثنية فما توجيهه قلت نظر في الأول إلى المعنى وفي الثاني إلى اللفظ وذلك سائغ ذائع وقرأ ابن أبي عبلة اقتتلتا وقرأ عمر بن عبيد اقتتلا على تأويل الرهطين أو النفرين قوله فسماهم المؤمنين أي سمى الله تعالى أهل القتال مؤمنين فعلم أن صاحب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان
31 - حدثنا عبد الرحمن بن المبارك حدثنا ( حماد بن زيد ) حدثنا ( أيوب ويونس ) عن ( الحسن ) عن ( الأحنف بن قيس ) قال ذهبت لانصر هذا الرجل فلقيني أبو بكرة فقال أين تريد قلت أنصر هذا الرجل قال ارجع فإني سمعت رسول الله يقول إذا التقى المسلمان

(1/209)


بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار فقلت يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأن الباب في إطلاق إسم المؤمن على مرتكب المعصية والحديث بصريحه يدل على هذا ما لا يخفى
بيان رجاله وهم سبعة الأول عبد الله بن المبارك بن عبد الله العيشي بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبالشين المعجمة أبو بكر ويقال أبو محمد البصري روى عن وهب بن خالد وحماد بن زيد وغيرهما روى عنه البخاري وأبو زرعة وأبو داود وأبو حاتم وقال صدوق وروى النسائي عن رجل عنه ولم يرو له مسلم شيئا توفي سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائتين الثاني حماد بن زيد بن درهم أبو إسماعيل الأزرق الأزدي البصري مولى آل جرير بن حازم سمع ثابت البناني وابن سيرين وعمرو بن دينار ويحيى القطان وأيوب وخلقا كثيرا روى عنه السفيانان وابن المبارك ويحيى القطان ووكيع وغيرهم قال عبد الرحمن بن مهدي أئمة الناس في زمانهم أربعة سفيان الثوري بالكوفة ومالك بالحجاز والأوزاعي بالشام وحماد بن زيد بالبصرة وما رأيت أعلم من حماد بن زيد ولا سفيان ولا مالك وقال ابن سعد كان حماد بن زيد ثقة ثبتا حجة كثير الحديث وأنشد ابن المبارك فيه
أيها الطالب علما
ائت حماد بن زيد
فخذ العلم بحلم
ثم قيده بقيد
ودع البدعة من آ ثار عمرو بن عبيد
ولد سنة ثمان وتسعين وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة وهو ابن إحدى وثمانين سنة روى له الجماعة الثالث أيوب السختياني وقد مر ذكره الرابع يونس بن عبيد بن دينار البصري رأى أنس بن مالك ورأى الحسن البصري ومحمد بن سيرين وغيرهما روى عنه سفيان الثوري والحمادان وغيرهم قال أحمد ويحيى ثقة توفي سنة تسع وثلاثين ومائة روى له الجماعة الخامس أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن الأنصاري مولاهم البصري ومولى زيد بن ثابت ويقال مولى أبي اليسر الأنصاري ويقال مولى جابر بن عبد الله الأنصاري وأمه إسمها الخيرة بالخاء المعجمة وسكون الياء آخر الحروف مولاة لأم سلمة زوج النبي ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه وقيل إن أمه ربما كانت تغيب فيبكي الحسن فتعطيه أم سلمة أم المؤمنين ثديها تعلله إلى أن تجيء أمه فيدر ثديها فيشربه فيرون تلك الفصاحة والحكمة من بركتها ونشأ الحسن بوادي القرى وقال الحسن غزونا خراسان ومعنا ثلاث مائة من أصحاب رسول الله سمع ابن عمر وأنسا وسمرة وقيس بن عاصم وغيرهم من الصحابة وعن الفضيل بن عياض قال سألت هشام بن حسان كم أدرك الحسن من الصحابة قال مائة وثلاثين قال وابن سيرين قال ثلاثين ولم يصح للحسن سماع عن عائشة رضي الله عنها قال ابن معين لم يسمع الحسن من أبي بكرة ولامن جابر بن عبد الله ولا من أبي هريرة وسئل أبو زرعة ألقي الحسن أحدا من البدريين قال رآهم رؤية رأى عثمان وعليا قيل له سمع منهما قال لا كان الحسن يوم بويع علي رضي الله عنه ابن أربع عشرة سنة رأى عليا بالمدينة ثم خرج علي إلى الكوفة والبصرة ولم يلقه الحسن بعد ذلك قال أبو زرعة لم يسمع الحسن من أبي هريرة ولا رآه ومن قال في الحديث عن الحسن ثنا أبو هريرة فقد أخطأ ولم يسمع من ابن عباس وسمع من ابن عمر حديثا واحدا وعن أبي رجاء قال قلت للحسن متى خرجت من المدينة قال عام صفين قلت فمتى احتلمت قال عام صفين وقال ابن سعد كان الحسن جامعا عالما فقيها ثقة مأمونا عابدا ناسكا كثير العلم فصيحا جميلا وسيما قدم مكة فأجلسوه واجتمع الناس إليه فيهم طاوس وعطاء ومجاهد وعمرو بن شعيب فحدثهم فقالوا أو قال بعضهم لم نر مثل هذا قط توفي سنة ست عشرة ومائة وتوفي بعده ابن سيرين بمائة يوم روى له الجماعة
فائدة روى له البخاري هذا الحديث هنا عن الحسن عن الأحنف ورواه في الفتن عن الحسن وأنكر يحيى بن معين والدارقطني سماع الحسن من أبي بكرة قال الدارقطني بينهما الأحنف واحتج بما رواه البخاري وكذا رواه هشام بن

(1/210)


المعلى بن زياد عن الحسن وذهب غيرهما إلى صحة سماعه منه واستدل بما أخرجه البخاري أيضا في الفتن في باب قول النبي إن ابني هذا سيد عن علي بن عبد الله عن سفيان عن إسرائيل فذكر الحديث وفيه قال الحسن لقد سمعت أبا بكرة قال بينا النبي يخطب قال البخاري قال علي بن المديني إنما صح عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث قال أبو الوليد الباجي هذا الحسن المذكور في هذا الحديث الذي قال فيه سمعت أبا بكرة إنما هو الحسن بن علي رضي الله عنهما وليس بالحسن البصري فما قاله غير صحيح والله أعلم
السادس الأحنف بالمهملة والنون هو أبو بحر بن قيس واسمه الضحاك وقيل صخر بن قيس بن معاوية بن حصن بن حفص بن عبادة بن النزال بن مرة بن عبيد بن مقاعس
بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة من تميم هولد وهو أحنف وهو الأعوج من الحنف وهو الاعوجاج في الرجل وهو أن ينفتل إحدى الإبهامين من إحدى الرجلين على الأخرى وقيل هو الذي يمشي على ظهر قدمه من شقها الذي يلي خنصرها أدرك زمن النبي وأسلم على عهده ولم يره وفد إلى عمر رضي الله عنه وهو الذي افتتح مرو الروذ وكان الإمامان الحسن وابن سيرين في جيشه وولد الأحنف ملتزق الأليتين حتى شق ما بينهما وكان أعور سمع عمر وعليا والعباس وغيرهم وعنه الحسن وغيره مات بالكوفة سنة سبع وستين في إمارة ابن الزبير رضي الله عنه السابع أبو بكرة واسمه نفيع بضم النون وفتح الفاء بن الحارث بن كلدة بالكاف واللام المفتوحتين ابن عمر بن علاج بن أبي سلمة وهو عبد العزى بن غيرة بكسر الغين المعجمة وفتح الياء آخر الحروف ابن عوف بن قسي بفتح القاف وكسر السين المهملة وهو ثقيف بن منبه الثقفي وقيل نفيع بن مسروح مولى الحارث بن كلدة طبيب رسول الله عليه السلام وقيل اسمه مسروح وأمه سمية أمة للحارث بن كلدة وهو أخو زياد لأمه وهو ممن نزل يوم الطائف إلى رسول الله من حصن الطائف في بكرة وكني أبا بكرة وأعتقه رسول الله عليه الصلاة و السلام وهو معدود في مواليه وكان من فضلاء الصحابة وصالحيهم ولم يزل مجتهدا في العبادة حتى توفي بالبصرة سنة اثنتين وخمسين روي له عن رسول الله عليه السلام مائة حديث واثنين وثلاثون حديثا اتفقا على ثمانية وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بحديث روى عنه ابناه والحسن البصري والأحنف روى له الجماعة
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ومنها أن رواته كلهم بصريون ومنها أن فيهم ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم الأحنف والحسن وأيوب
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه أيضا في الفتن عن عبد الله بن عبد الوهاب ثنا حماد بن سلمة عن رجل لم يسمع عن الحسن قال خرجت بسلاحي وساقه إلى إن قال قال حماد بن زيد فذكرت هذا الحديث لأيوب ويونس بن عبيد الله وأنا أريد أن يحدثاني به فقالا إنما روى هذا الحسن عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة قال البخاري ثنا سليمان قال ثنا حماد بن زيد عن أيوب ويونس عن الحسن عن الأحنف قال خرجت الحديث وأخرجه مسلم بطريق غير هذه ولفظ آخر وأخرجه أبو داود والنسائي أيضا
بيان اللغات والإعراب قوله فما بال المقتول أي فما حاله وشأنه وهو من الأجوف الواوي قوله حريصا من الحرص وهو الجشع وقد حرص على الشيء يحرص مثال ضرب يضرب وحرص يحرص مثال سمع يسمع ومنه قراءة الحسن البصري وأبو حيوة وإبراهيم النخعي وأبي البر هشيم أن تحرص على هداهم ( النحل 37 ) بفتح الراء قوله لأنصر أي لأجل أن أنصر وأن المصدرية مقدرة بعد اللام قوله فإني سمعت الفاء فيه تصليح للتعليل قوله يقول جملة في محل النصب على الحال قوله فالقاتل الفاء جواب إذا قوله هذا القاتل قال الكرماني هو مبتدأ وخبر أي هذا يستحق النار لأنه قاتل فالمقتول لم يستحقها وهو مظلوم قلت الأولى أن يقال هذا مبتدأ و القاتل مبتدأ ثان وخبره محذوف والجملة خبر المبتدأ الأول والتقدير هذا القاتل

(1/211)


يستحق النار لكونه ظالما فما بال المقتول وهو مظلوم ونظيره هذا زيد عالم وقد علم أن المبتدأ إذا اتحد بالخبر لا يحتاج إلى ضمير ومنه قوله سبحانه وتعالى ولباس التقوى ذلك خير ( الأعراف 26 ) وقوله عليه السلام أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله
بيان المعاني والأحكام قوله انصر هذا الرجل يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه ووقع في رواية الإسماعيلي يعني عليا ووقع للبخاري في الفتن أريد نصرة ابن عم رسول الله وقال الكرماني وقيل يعني عثمان رضي الله عنه قلت هذا بعيد ويرده ما في الصحيح قوله إذا التقى المسلمان بسيفيهما وفي الرواية الأخرى إذا توجه المسلمان أي إذا ضرب كل واحد منهما وجه صاحبه أي ذاته وجملته قوله فالقاتل والمقتول في النار قال عياض وغيره معناه إن جازاهما الله تعالى وعاقبهما كما هو مذهب أهل السنة وهو أيضا محمول على غير المتأول كمن قاتل لمعصية أو غيرها مما يشبهها ويقال معنى القاتل والمقتول في النار أنهما يستحقانها وأمرهما إلى الله عز و جل كما هو مصرح به في حديث عبادة فإن شاء عفا عنهما وإن شاء عاقبهما ثم أخرجهما من النار فأدخلهما الجنة كما ثبت في حديث أبي سعيد وغيره في العصاة الذين يخرجون من النار فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل ونظير هذا الحديث في المعنى قوله تعالى فجزاؤه جهنم ( النساء 93 ) معناه هذا جزاؤه وليس بلازم أن يجازى واختلف العلماء في القتال في الفتنة فمنع بعضهم القتال فيها وإن دخلوا عليه عملا بظاهر هذا الحديث وبحديث أبي بكرة في صحيح مسلم الطويل إنها ستكون فتن الحديث وقال هؤلاء لا يقاتل وإن دخلوا عليه وطلبوا قتله ولا تجوز له المدافعة عن نفسه لأن الطالب متأول وهذا مذهب أبي بكرة وغيره وفي ( طبقات ) ابن سعد مثله عن أبي سعيد الخدري وقال عمران بن حصين وابن عمرو وغيرهما لا يدخل فيها فإن قصدوا دفع عن نفسه وقال معظم الصحابة والتابعين وغيرهما يجب نصر الحق وقتال الباغين لقوله تعالى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ( الحجرات 9 ) وهذا هو الصحيح ويتأول أحاديث المنع على من لم يظهر له الحق أو على عدم التأويل لواحد منهما ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد واستطالوا والحق الذي عليه أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة وحسن الظن بهم والتأويل لهم وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا فمنهم المخطىء في اجتهاده والمصيب وقد رفع الله الحرج عن المجتهد المخطىء في الفروع وضعف أجر المصيب وتوقف الطبري وغيره في تعيين المحق منهم وصرح به الجمهور وقالوا إن عليا رضي الله عنه وأشياعه كانوا مصيبين إذا كان أحق الناس بها وأفضل من على وجه الدنيا حينئذ قوله إنه كان حريصا على قتل صاحبه وفي رواية إنه قد أراد قتل صاحبه قال القاضي فيه حجة للقاضي أبي بكر بن الطيب ومن قال بقوله إن العزم على الذنب والعقد على عمله معصية بخلاف الهم المعفو عنه قال وللمخالف له أن يقول هذا قد فعل أكثر من العزم وهو المواجهة والقتال وقال النووي والأول هو الصحيح والذي عليه الجمهور أن من نوى المعصية وأصر عليها يكون آثما وإن لم يعملها ولا تكلم قلت التحقيق فيه أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه ولهذا جاء بلفظ الحرص فيه ويحمل ما وقع من نحو قوله عليه السلام إن الله تجاوز لأمتي عن ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعلموا به وفي الحديث الآخر إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه على أن ذلك فيما إذا لم يوطن نفسه عليها وإنما مر ذلك بفكره من غير استقرار ويسمى هذا هما ويفرق بين الهم والعزم وإن عزم تكتب سيئة فإذا عملها كتبت معصية ثانية
الأسئلة والأجوبة منها ما قيل في قوله انصر هذا الرجل إن السؤال عن المكان والجواب عن الفعل فلا تطابق بينهما وأجيب بأن المراد أريد مكانا انصر فيه ومنها ما قيل القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة إن كان قتالهم من الاجتهاد الواجب اتباعه وأجيب بأن ذلك عند عدم الاجتهاد وعدم ظن أن فيه الصلاح الديني أما إذا اجتهد وظن الصلاح فيه فهما مأجوران مثابان من أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر وما وقع بين الصحابة هو من هذا القسم فالحديث ليس عاما ومنها ما قيل لم منع أبو بكرة الأحنف منه ولم امتنع بنفسه منه وأجيب بأن ذلك أيضا اجتهادي فكان يؤدي اجتهاده إلى الامتناع والمنع فهو أيضا مثاب في ذلك ومنها ما قيل إن لفظة في النار مشعرة بحقية مذهب المعتزلة حيث

(1/212)


قالوا بوجوب العقاب للعاصي وأجيب بالمنع لأن معناه حقهما أن يكونا في النار وقد يعفو الله عنه وقد مر تحقيقه عن قريب ومنها ما قيل لم أدخل الحرص على القتل وهو صغيرة في سلك القتل وهو كبيرة وأجيب بأنه أدخلهما في سلك واحد في مجرد كونهما سببا لدخول النار فقط وإن تفاوتا صغرا وكبرا وغير ذلك ومنها ما قيل إنما سمى الله الطائفتين في الآيتين مؤمنين وسماهما النبي عليه السلام في الحديث مسلمين حال الالتقاء لا حال القتال وبعده وأجيب بأن دلالة الآية ظاهرة فإن في قوله تعالى فأصلحوا بين أخويكم ( لقمان 13 ) سماهما الله أخوين وأمر بالاصلاح بينهما ولأنهما عاصيان قبل القتال وهو من حين سعيا إليه وقصداه وأما الحديث فمحمول على معنى الآية والله أعلم
23 -
( باب ظلم دون ظلم )
الكلام فيه على وجهين الأول وجه المناسبة بين البابين أن المذكور في الباب الأول هو أن الله تعالى سمى البغاة مؤمنين ولم ينف عنهم اسم الإيمان مع كونهم عصاة وأن المعصية لا تخرج صاحبها عن الإيمان ولا شك أن المعصية ظلم والظلم في ذاته مختلف والمذكور في هذا الباب الإشارة إلى أنواع الظلم حيث قال ظلم دون ظلم وقال ابن بطال مقصود الباب أن تمام الإيمان بالعمل وأن المعاصي ينقص بها الإيمان ولا تخرج صاحبها إلى كفر والناس مختلفون فيه على قدر صغر المعاصي وكبرها
الثاني قوله باب لا يعرب إلا بتقدير مبتدأ قبله لأنا قد قلنا غير مرة إن الإعراب لا يكون إلا بعد التركيب ولا يضاف إلى ما بعده والتقدير في الحقيقة هذا باب يبين فيه ظلم دون ظلم وهذا لفظ أثر رواه أحمد في كتاب الإيمان من حديث عطاء بن أبي رباح وغيره أخذه البخاري ووضعه ترجمة ثم رتب عليه الحديث المرفوع ولفظه دون إما بمعنى غير يعني أنواع الظلم مختلفة متغايرة وإما بمعنى الأدنى يعني بعضها أشد في الظلمية وسوء عاقبتها
32 - حدثنا ( أبو الوليد ) قال حدثنا ( شعبة ) ح قال وحدثني ( بشر ) قال حدثنا ( محمد ) عن ( شعبة ) عن ( سليمان ) عن ( إبراهيم ) عن ( علقمة ) عن ( عبد الله ) قال لما نزلت الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال أصحاب رسول الله أينا لم يظلم فأنزل الله إن الشرك لظلم عظيم
مطابقة الحديث للترجمة من حيث إنه لما علم أن الظلم على أنواع وأن بعض أنواع الظلم كفر وبعضها ليس بكفر فيعلم من ذلك ضرورة أن بعضها دون بعض وأخرج هذا الحديث من طريقين إحداهما عن أبي الوليد عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله والأخرى عن بشر بن خالد عن محمد بن جعفر عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله فإن قلت الحديث عال في الطريق الأولى لأن رجالها خمسة ورجال الثانية ستة فلم لم يكتف بالأولى قلت إنما أخرجه بالطريق الثانية أيضا لكون محمد بن جعفر أثبت الناس في شعبة وأراد بهذا التنبيه عليه فإن قلت اللفظ الذي ساقه لمن من شيخيه قلت اللفظ لبشر بن خالد وكذلك أخرجه النسائي عنه وتابعه ابن أبي عدي عن شعبة وهو عند البخاري في تفسير الأنعام وأما لفظ ابن الوليد فساقه البخاري في قصة لقمان بلفظ أينا لم يلبس إيمانه بظلم وزاد فيه أبو نعيم في ( مستخرجه ) من طريق سليمان بن حرب عن شعبة بعد قوله إن الشرك لظلم عظيم ( لقمان 13 ) فطابت أنفسنا
بيان رجاله وهم ثمانية الأول أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي الباهلي البصري وقد مر ذكره الثاني شعبة بن الحجاج وقد مر ذكره أيضا الثالث بشر بكسر الباء وسكون الشين المعجمة ابن خالد العسكري أبو محمد الفارض روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وقال ثقة ومحمد بن يحيى بن منده ومحمد بن إسحاق بن خزيمة توفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين الرابع محمد بن جعفر الهذلي مولاهم البصري صاحب الكراديس المعروف بغندر وسمع السفيانين وشعبة وجالسه نحوا من عشرين سنة وكان شعبة زوج أمه روى عنه أحمد وعلي بن المديني وبندار وخلق كثير صام خمسين سنة يوما ويوما وقال يحيى بن معين كان من أصح الناس كتابا وقال أبو حاتم صدوق وهو في شعبة ثقة وغندر لقب له لقبه به ابن جريج لما قدم البصرة وحدث عن الحسن فجعل محمد يكثر التشغيب عليه فقال أسكت يا غندر وأهل الحجاز يسمون المشغب غندرا

(1/213)


وزعم أبو جعفر النحاس في كتاب ( الاشتقاق ) أنه من الغدر وأن نونه زائدة والمشهور في داله الفتح وحكى الجوهري ضمها مات سنة ثلاث وتسعين ومائة قاله أبو داود وقيل سنة أربع وقال ابن سعد سنة أربع ومائتين وقد تلقب عشرة أنفس بغندر الخامس سليمان بن مهران أبو محمد الأسدي الكاهلي مولاهم الكوفي الأعمش وكاهل هو أسد بن خزيمة يقال أصله من طبرستان من قرية يقال لها دباوند بضم الدال المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون الألف وفتح الواو وسكون النون وفي آخره دال مهملة ولد بها الأعمش وجاء به أبوه حميلا إلى الكوفة فاشتراه رجل من بني أسد فأعتقه وقال الترمذي في ( جامعة ) في باب الاستتار عند الحاجة عن الأعمش أنه قال كان أبي حميلا فورثه مسروق فالحميل على هذا أبوه والحميل الذي يحمل من بلده صغيرا ولم يولد في الإسلام وظهر للأعمش أربعة ألآف حديث ولم يكن له كتاب وكان فصيحا لم يلحن قط وكان أبوه من سبي الديلم يقال إنه شهد قتل الحسين رضي الله عنه وأن الأعمش ولد يوم قتل الحسين يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وقال البخاري ولد سنة ستين ومات سنة ثمان وأربعين ومائة رأى أنسا قيل وأبا بكرة وروى عن عبد الله بن أبي أوفى وقال الشيخ قطب الدين في ( شرحه ) رأى أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى ولم يثبت له سماع من أحدهما وسمع أبا وائل ومعرورا ومجاهدا وإبراهيم النخعي والتيمي والشعبي وخلقا روى عنه السبيعي وإبراهيم التيمي والثوري وشعبة ويحيى القطان وسفيان بن عيينة وخلق سواهم وقال يحيى القطان الأعمش من النساك المحافظين على الصف الأول وكان علامة الإسلام وقال وكيع بقي الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى وكان شعبة إذا ذكر الأعمش قال المصحف المصحف سماه المصحف لصدقه وكان يسمى سيد المحدثين وكان فيه تشيع ونسب إلى التدليس وقد عنعن هذا الحديث عن إبراهيم ولم ير في جميع الطرق التي فيها رواية الأعمش للبخاري ومسلم وغيرهما أنه صرح بالتحديث أو الإخبار إلا في رواية حفص بن غياث عن الأعمش الحديث المذكور في رواية البخاري في قصة إبراهيم عليه السلام على ما سيجيء إن شاء الله تعالى فإن قلت المعنعن إذا كان مدلسا لا يحمل حديثه على السماع إلا أن يبين فيقول حدثنا أو أخبرنا أو سمعت أو ما يدل على التحديث قلت قال ابن الصلاح وغيره ما كان في الصحيحين من ذلك عن المدلسين كالسفيانين والأعمش وقتادة وغيرهم فمحمول على ثبوت السماع عند البخاري ومسلم من طريق آخر وقد ذكر الخطيب عن بعض الحفاظ أن الأعمش يدلس عن غير الثقة بخلاف سفيان فإنه إنما يدلس عن ثقة وإذا كان كذلك فلا بد أن يبين حتى يعرف والله أعلم روى له الجماعة السادس إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو بن ربيعة بن ذهل بن سعد بن مالك بن النخع النخعي أبو عمران الكوفي فقيه أهل الكوفة دخل على عائشة رضي الله عنها ولم يثبت منها له سماع وقال العجلي أدرك جماعة من الصحابة ولم يحدث من أحد منهم وكان ثقة مفتي أهل زمانه هو والشعبي وسمع علقمة والأسود بن زيد وخالدا ومسروقا وخلقا كثيرا روى عنه الشعبي ومنصور والأعمش وغيرهم وكان أعور وقال الشعبي لما مات إبراهيم ما ترك أحدا أعلم منه ولا أفقه فقيل له ولا الحسن وابن سيرين قال ولا هما ولا من أهل البصرة ولا من أهل الكوفة والحجاز وفي رواية ولا بالشام قال الأعمش كان إبراهيم صيرفي الحديث مات وهو مختف من الحجاج ولم يحضر جنازته إلا سبعة أنفس سنة ست وتسعين وهو ابن تسع وقيل ثمان وخمسين قيل ولد سنة ثمان وثلاثين وقيل سنة خمسين فيكون على هذا توفي ابن ست وأربعين روى له الجماعة السابع علقمة بن قيس بن عبد الله بن علقمة بن سلامان بن كهيل بن بكر بن عوف بن النخعي أبو شبل الكوفي عم الأسود وعبد الرحمن ابني يزيد خالي إبراهيم بن يزيد النخعي لأن أم إبراهيم مليكة ابنة يزيد وهي أخت الأسود وعبد الرحمن ابني يزيد روى عن أبي بكر رضي الله عنه وسمع عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وروى عنه أبو وائل وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وغيرهم اتفق على جلالته وتوثيقه وقال إبراهيم النخعي كان علقمة يشبه عبد الله بن مسعود وقال أبو إسحاق كان علقمة من الربانيين وقال أبو قيس رأيت إبراهيم آخذا بركاب علقمة مات سنة اثنتين وستين وقيل وسبعين ولم يولد له قط روى له الجماعة إلا ابن ماجه الثامن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقد مر ذكره في أول كتاب الإيمان وفي الصحابة ثلاثة عبد لله بن مسعود أحدهم هذا والثاني أبو عمرو الثقفي أخو أبي عبيدة استشهد يوم الجسر والثالث غفاري له حديث وفيهم رابع اختلف في إسمه فقيل ابن مسعدة وقيل ابن مسعود الفزاري

(1/214)


بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث بصورة الجمع وصورة الإفراد والعنعنة ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين الكوفيين يروي بعضهم عن بعض الأعمش وإبراهيم وعلقمة وهذا الإسناد أحد ما قيل فيه إنه أصح الأسانيد ومنها أن رواته كلهم حفاظ أئمة أجلاء ومنها أن في بعض النسخ قبل قوله وحدثني بشر صورة ح أشار إلى التحويل حائلا بين الإسنادين فهذا إن كان من المصنف فهي تدل على التحويل قطعا وإن كان من بعض الرواة قد زادها فيحتمل وجهين أحدهما أن تكون مهملة دالة على التحويل كما ذكرناه والآخر أن تكون معجمة دالة على البخاري بطريق الرمز أي قال البخاري وحدثني بشر والرواية الصحيحة بواو العطف فافهم
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في أحاديث الأنبياء عليهم السلام عن أبي الوليد عن شعبة وعن بشر بن خالد عن غندر عن شعبة وفي التفسير عن بندار عن ابن عدي عن شعبة وفي أحاديث الأنبياء عليهم السلام عن ابن حفص بن غياث عن أبيه وعن إسحاق عن عيسى بن يونس وفي التفسير واستتابة المرتدين عن قتيبة عن جرير وأخرجه مسلم في الإيمان عن أبي بكر عن ابن إدريس وأبي معاوية ووكيع وعن إسحاق وابن خشرم عن عيسى وعن منجاب عن علي بن مسهر وعن أبي كريب عن ابن إدريس كلهم عن الأعمش عن إبراهيم به وفي بعض طرق البخاري لما نزلت الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا أينا لم يلبس إيمانا بظلم فقال رسول الله إنه ليس كذلك ألا تسمعون إلى قول لقمان إن الشرك لظلم عظيم ( لقمان 13 ) وأخرجه الترمذي أيضا
بيان اللغات والإعراب قوله لم يلبسوا من باب لبست الأمر ألبسه بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل إذا خلطته وفي لبس الثوب بضده يعني بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل والمصدر من الأول لبس بفتح اللام ومن الثاني لبس بالضم وفي ( العباب ) قال الله تعالى وللبسنا عليهم ما يلبسون ( الأنعام 9 ) أي شبهنا عليهم وأضللناهم كما ضلوا قال ابن عرفة في قوله تعالى ولا تلبسوا الحق بالباطل ( البقرة 42 ) أي لا تخلطوه به وقوله تعالى أويلبسكم شيعا ( الأنعام 65 ) أي يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق وقوله جل ذكره ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ( الأنعام 82 ) أي لم يخلطوه بشرك قال العجاج ( ويفصلون اللبس بعد اللبس
من الأمور الربس بعد الربس )
واللبس أيضا اختلاط الظلام وفي الأمر لبسة بالضم أي شبهة وليس بواضح قوله بظلم الظلم في أصل الوضع وضع الشيء في غير موضعه يقال ظلمه يظلمه ظلما ومظلمة والظلامة والظليمة والمظلمة ما تطلبه عند المظالم وهو اسم ما أخذ منك وتظلمني فلان أي ظلمني مالي قوله لما بمعنى حين وقوله قال أصحاب رسول الله جوابه قوله نزلت فعل وفاعله قوله الذين آمنوا ( الأنعام 82 ) الآية والتأنيث باعتبار الآية والتقدير لما نزلت هذه الآية الذين آمنوا ( الأنعام 82 ) إلى آخرها قوله أينا كلام إضافي مبتدأ وقوله لم يظلم خبره والجملة مقول القول قوله فأنزل الله عطف على قال أصحاب رسول الله والفاء معناها التعقيب وقد تكون بمعنى ثم يعني للتراخي والذي تقتضيه الحال أنها ههنا على أصلها
بيان المعاني قوله أينا لم يظلم وفي بعض النسخ أينا لم يظلم نفسه بزيادة نفسه والمعنى إن الصحابة فهموا الظلم على الإطلاق فشق عليهم ذلك فبين الله تعالى أن المراد الظلم المقيد وهو الظلم الذي لا ظلم بعده وقال الخطابي إنما شق عليهم لأن ظاهر الظلم الافتيات بحقوق الناس والافتيات السبق إلى الشيء وما ظلموا به أنفسهم من ارتكاب المعاصي فظنوا أن المراد ههنا معناه الظاهر فأنزل الله تعالى الآية ومن جعل العبادة وأثبت الربوبية لغير الله تعالى فهو ظالم بل أظلم الظالمين وقال التيمي معنى الآية لم يفسدوا إيمانهم ويبطلوه بكفر لأن الخلط بينهما لا يتصور أي لم يخلطوا صفة الكفر بصفة الإيمان فتحصل لهم صفتان إيمان متقدم وكفر متأخر بأن كفروا بعد إيمانهم ويجوز أن يكون معناه ينافقوا فيجمعوا بينهما ظاهرا وباطنا وإن كانا لا يجتمعان قلت اختلفت ألفاظ الحديث في هذا ففي رواية جرير عن الأعمش فقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال ليس كذلك ألا تسمعون إلى قول لقمان وفي رواية وكيع عنه فقال ليس كما تظنون وفي رواية عيسى بن يونس عنه إنما هو الشرك ألم تسمعوا ما قال لقمان وفي رواية شعبة عنه ما مضى ذكره ههنا فبين

(1/215)


رواية شعبة عنه وبين روايات جرير ووكيع وعيسى بن يونس اختلاف والتوفيق بينهما أن يجعل إحداهما مبينة للأخرى فيكون المعنى لما شق عليهم أنزل الله تعالى إن الشرك لظلم عظيم ( لقمان 13 ) فأعلمهم النبي أن الظلم المطلق في إحداهما يراد به المقيد في الأخرى وهو الشرك فالصحابة رضي الله عنهم حملوا اللفظ على عمومه فشق عليهم إلى أن أعلمهم النبي بأنه ليس كما ظننتم بل كما قال لقمان عليه السلام فإن قلت من أين حملوه على العموم قلت لأن قوله بظلم نكرة في سياق النفي فاقتضت التعميم فإن قلت من أين لزم أن من لبس الإيمان بظلم لا يكون آمنا ولا مهتديا حتى شق عليهم قلت من تقديم لهم على الأمن في قوله أولئك لهم الأمن ( الأنعام 82 ) أي لهم الأمن لا لغيرهم ومن تقديم وهم على مهتدون ( الأنعام 82 ) في قوله وهم مهتدون ( الأنعام 82 ) وقال الزمخشري في كلمة هو قائلها ( المؤمنون 100 ) إنه للتخصيص أي هو قائلها لا غيره فإن قلت لا يلزم من قوله تعالى إن الشرك لظلم عظيم ( لقمان 13 ) إن غير الشرك لا يكون ظلما قلت التنوين في بظلم للتعظيم فكأنه قال لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم فلما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد لم يلبسوا إيمانهم بشرك وقد ورد ذلك صريحا عند البخاري من طريق حفص بن غياث عن الأعمش ولفظ قلنا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه قال ليس كما تقولون لم يلبسوا إيمانهم بظلم بشرك أولم تسمعوا إلى قول لقمان فذكر الآية فإن قلت لم ينحصر الظلم العظيم على الشرك قلت عظمة هذا الظلم معلومة بنص الشارع وعظمة غيره غير معلومة والأصل عدمها
بيان استنباط الأحكام الأول إن العام يطلق ويراد به الخاص بخلاف قول أهل الظاهر فحمل الصحابة ذلك على جميع أنواع الظلم فبين الله تعالى أن المراد نوع منه وحكى الماوردي في الظلم في الآية قولين أحدهما أن المراد منه الشرك وهو قول أبي بن كعب وابن مسعود عملا بهذا الحديث قال واختلفوا على الثاني فقيل إنها عامة ويؤيده ما وراه عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي أن رجلا سأل عنها رسول الله فسكت حتى جاء رجل فأسلم فلم يلبث قليلا حتى استشهد فقال عليه السلام هذا منهم من الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم وقيل إنها خاصة نزلت في إبراهيم عليه السلام وليس في هذه الآية فيها شيء قاله علي رضي الله عنه وقيل إنها فيمن هاجر إلى المدينة قاله عكرمة قلت جعل صاحب ( الكشاف ) هذه الآية جوابا عن السؤال أعني قوله فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ( الأنعام 81 ) وأراد بالفريقين فريقي المشركين والموحدين وفسر الشرك بالمعصية فقال أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم ثم قال وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس وهذا لا يمشي إلا على قول من قال إنها خاصة نزلت في إبراهيم الثاني إن المفسر يقضي على المجمل الثالث إثبات العموم الرابع عموم النكرة في سياق النفي لفهم الصحابة وتقرير الشارع عليه وبيانه لهم التخصيص وأنكر القاضي العموم فقال حملوه على أظهر معانيه فإنه وإن كان يطلق على الكفر وغيره لغة وشرعا فعرف الاستعمال فيه العدول عن الحق في غير الكفر كما أن لفظ الكفر يطلق على معان من جحد النعم والستر لكن الغالب عند مجرد الإطلاق حمله على ضد الإيمان فلما ورد لفظ الظلم من غير قرينة حمله الصحابة على أظهر وجوهه فليس فيه دلالة العموم قلت يرد هذا ما ذكرناه من أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم ورواية البخاري أيضا الخامس استنبط منه المازري والنووي وغيرهما تأخير البيان إلى وقت الحاجة وقال القاضي عياض في الرد على ذلك بأنه ليس في هذه القضية تكليف عمل بل تكليف اعتقاد بتصديق الخبر واعتقاد بتصديق لازم لأول وروده فما هي الحاجة المؤخرة إلى البيان لكنهم لما أشفقوا بين لهم المراد وقال بعضهم ويمكن أن يقال المعتقد أيضا يحتاج إلى البيان فما انتفت الحاجة والحق أن في القضية تأخير البيان عن وقت الخطاب لأنهم حيث احتاجوا إليه لم يتأخر قلت لو فهم هذا القائل كلام القاضي لما استدرك عليه بما قاله فالقاضي يقول اعتقاد التصديق لازم الخ فالذي يفهم هذا الكلام كيف يقول فما انتفت الحاجة وقوله والحق أن في القصة تأخير البيان عن وقت الخطاب ليس بحق لأن الآية ليس فيها خطاب والخطاب من باب الإنشاء والآية إخبار على أن تأخير البيان عن وقت الخطاب ممتنع عند جماعة وقيد الكرخي جوازه في المجمل على ما عرف

(1/216)


في موضعه السادس أن المعاصي لا تكون كفرا وهو مذهب أهل الحق وأن الظلم مختلف في ذاته كما عليه ترجمته السابع احتج به من قال الكلام حكمه العموم حتى يأتي دليل الخصوص الثامن أن اللفظ يحمل على خلاف ظاهره لمصلحة تقتضي ذلك فافهم
24 -
( باب علامات المنافق )
الكلام فيه من وجوه الأول وجه المناسبة بين البابين أن الباب الأول مترجم على أن الظلم في ذاته مختلف وله أنواع وهذا الباب أيضا مشتمل على بيان أنواع النفاق وأيضا فالنفاق نوع من أنواع الظلم ولما قال في الباب الأول ظلم دون ظلم عقبه ببيان نوع منه وقوله الكرماني وأما مناسبة هذا الباب لكتاب الإيمان أن يبين أن هذه علامة عدم الإيمان أو يعلم منه أن بعض النفاق كفر دون بعض ليس بمناسب بل المناسب ذكر المناسبة بين كل بابين متواليين فذكر المناسبة بين بابين بينهما أبواب غير مناسب وقال النووي مراد البخاري بذكر هذا هنا أن المعاصي تنقص الإيمان كما أن الطاعة تزيده قلت هذا أيضا غير موجه في ذكر المناسبة على ما لا يخفى الثاني إن لفظ باب معرب لأنه خبر مبتدأ محذوف وهو مضاف إلى ما بعده تقديره هذا باب في بيان علامات المنافق والعلامات جمع علامة وهي التي يستدل بها على الشيء ومنه سمي الجبل علامة وعلما أيضا فإن قلت كان المناسب أن يقول باب آيات المنافق مطابقة للفظ الحديث قلت لعله نبه بذلك على ما جاء في رواية أخرجها أبو عوانة في صحيحه بلفظ علامات المنافق الثالث لفظ المنافق من النفاق وزعم ابن سيده أنه الدخول في الإسلام من وجه والخروج عنه من آخر مشتق من نافقاء اليربوع فإن إحدى جحريه يقال لها النافقاء وهو موضع يرققه بحيث إذا ضرب رأسه عليها ينشق وهو يكتمها ويظهر غيرها فإذا أتى الصائد إليه من قبل القاصعاء وهو جحره الظاهر الذي يقصع فيه أي يدخل ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج فكما أن اليربوع يكتم النافقاء ويظهر القاصعاء كذلك المنافق يكتم الكفر ويظهر الإيمان أو يدخل في الشرع من باب ويخرج من آخر ويناسبه من وجه آخر وهو أن النافقاء ظاهره يرى كالأرض وباطنه الحفرة فيها فكذا المنافق وقال القزاز يقال نافق اليربوع ينافق فهو منافق إذا فعل ذلك وكذلك نفق ينفق فهو منافق من هذا وقيل المنافق مأخوذ من النفق وهو السرب تحت الأرض يراد أنه يستتر بالإسلام كما يستتر صاحب النفق فيه وجمع النفق أنفاق وقال ابن سيده النافقاء والنفقة جحر الضب واليربوع والحاصل أن المنافق هو المظهر لما يبطن خلافه وفي الاصطلاح هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر وإلا فهو نفاق العمل ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه قلت هذا التفسير تفسير الزنديق اليوم ولهذا قال القرطبي عن مالك إن النفاق على عهد رسول الله هو الزندقة اليوم عندنا فإن قيل المنافق من باب المفاعلة وأصلها أن تكون لإثنين أجيب بأن ما جاء على هذا عندهم لأنه بمنزلة خادع وراوغ وقيل بل لأنه يقابل بقبول الإسلام منه فإن علم أنه منافق فقد صار الفعل من اثنين وسمي الثاني باسم الأول مجازا للازدواج كقوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ( البقرة 194 ) واعلم أن حقيقة النفاق لا تعلم إلا بتقسيم نذكره وهو إن أحوال القلب أربعة وهي الاعتقاد المطلق عن الدليل وهو العلم والاعتقاد المطلق لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد والاعتقاد الغير المطابق وهو الجهل وخلو القلب عن ذلك فهذه أربعة أقسام وأما أحوال اللسان فثلاثة الإقرار والإنكار والسكوت فيحصل من ذلك اثنا عشر قسما الأول ما إذا حصل العرفان بالقلب والإقرار باللسان فهذا الإقرار إن كان اختباريا فصاحبه مؤمن حقا وإن كان اضطراريا فهو كافر في الظاهر الثاني أن يحصل العرفان القلبي والإنكار اللساني فهذا الإنكار إن كان اضطراريا فصاحبه مسلم وإن كان اختياريا كان كافرا معاندا الثالث أن يحصل العرفان القلبي ويكون اللسان خاليا عن الإنكار والإقرار فهذا السكوت إما أن يكون إضطراريا أو اختياريا فإن كان اضطراريا فهو مسلم حقا ومنه ما إذا عرف الله تعالى بدليله ثم لما تمم النظر مات فجأة فهذا مؤمن قطعا وإن كان اختياريا فهو كمن عرف الله بدليله ثم إنه لم يأت بالإقرار فقال الغزالي إنه مؤمن الرابع اعتقاد المقلد لا يخلو معه

(1/217)


الاقرار والإنكار أو السكوت فإن كان معه الإقرار وكان اختياريا فهو إيمان المقلد وهو صحيح خلافا للبعض وإن كان اضطراريا فهذا يفرع على الصورة الأولى فإن حكمنا هناك بالأيمان وجب أن نحكم ههنا بالنفاق وهو القسم الخامس السادس أن يكون معه السكوت فحكمه حكم القسم الثالث اضطراريا أو اختياريا السابع الانكار القلبي فإما أن يوجد معه الإقرار أو الإنكار أو السكوت فإن كان معه الإقرار فإن كان اضطراريا فهو منافق وإن كان اختياريا فهو كفر الجحود والعناد وهو أيضا قسم من النفاق وهو القسم الثامن التاسع أن يوجد الإنكار باللسان مع الإنكار القلبي فهذا كافر العاشر القلبي الخالي فإن كان معه الإقرار فإن كان اختياريا يخرج من الكفر وإن كان اضطراريا لم يكفر الحادي عشر القلب الخالي مع الإنكار باللسان فحكمه على العكس مع حكم القسم العاشر الثاني عشر القلب الخالي مع اللسان الخالي فهذا إن كان في مهلة النظر فذاك هو الواجب وإن كان خارجا عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا يحكم بالنفاق البتة وقد ظهر من هذا النفاق الذي لا يطابق ظاهره باطنه فافهم
33 - حدثنا ( سليمان أبو الربيع ) حدثنا ( إسماعيل بن جعفر ) قال حدثنا ( نافع بن مالك ابن أبي عامر أبو سهيل ) عن أبيه عن ( أبي هريرة ) عن النبي قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
بيان رجاله وهم خمسة الأول سليمان أبو الربيع بن داود الزهراني العتكي سكن بغداد سمع من مالك حديثا وسمع فليح بن سليمان وإسماعيل بن زكريا عندهما وإسماعيل بن جندب عند البخاري وجماعة كثيرة عند مسلم روى عن البخاري ومسلم وأبو داود وأبو زرعة وأبو حاتم وروى النسائي عن رجل عنه وقال ثقة وقال يحيى بن معين وأبو حاتم وأبو زرعة ثقة توفي بالبصرة سنة أربع وثلاثين ومائتين الثاني إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري أبو إبراهيم الزرقي مولاهم المدني قارىء أهل المدينة أخو محمد ويحيى وكثير ويعقوب بني جعفر سمع أبا سهيل نافعا وعبد الله بن دينار وغيرهما قال يحيى ثقة مأمون قليل الخطأ صدوق وقال أبو زرعة وأحمد وابن سعد ثقة وقال ابن سعد كان من أهل المدينة قدم بغداد فلم يزل بها حتى مات وهو صاحب خمس مائة حديث التي سمعها منه الناس توفي ببغداد سنة ثمانين ومائة روى له الجماعة الثالث أبو سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر ونافع أخو أنس والربيع وأويس وهم عمومة مالك الإمام سمع ابن مالك وأباه وعمر بن عبد العزيز والقاسم وابن المسيب وغيرهما روى عنه مالك وغيره وقال أحمد وأبو حاتم ثقة روى له الجماعة الرابع أبو أنس مالك بن أبي عامر جد مالك الإمام والد أنس والربيع ونافع وأويس حليف عثمان بن عبد الله أخي طلحة التيمي القرشي سمع طلحة بن عبد الله عندهما وعائشة عند البخاري وعثمان عند مسلم في الوضوء والبيوع أما في الوضوء فمن طريق وكيع عن سفيان عن أبي أنس عن عثمان رضي الله عنه وأما في البيوع ففي باب الربا من حديث سليمان بن يسار عنه فاستدرك الدارقطني وغيره الأول فقال خالف وكيعا أصحاب الثوري والحفاظ حيث رووه عن سفيان عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن عثمان رضي الله عنه وهو الصواب وكذا قال الجياني إن وكيعا توهم فيه فقال عن أبي أنس إنما يرويه أبو النضر عن بسر بن سعيد عن عثمان وقال مالك في ( الموطأ ) في الحديث الثاني إنه بلغه عن جده عن عثمان رضي الله عنه وقال في الإيمان في حديث طلحة إنه سمع طلحة بن عبيد الله فأتى في طلحة بلفظ سمعت وكذا صرح به ابن سعد وقال وقد روى مالك بن أبي عامر عن عمر وعثمان وطلحة بن عبيد الله وأبي هريرة وكان ثقة وله أحاديث صالحة وقال محمد بن سرور المقدسي قال الواقدي توفي سنة ثنتي عشرة ومائة وهو ابن سبعين أو اثنتين وسبعين سنة وكذا حكى عنه محمد بن طاهر المقدسي وأبو نصر الكلاباذي وقال الحافظ زكي الدين المنذري كيف يصح سماعه عن طلحة مع أنه توفي سنة ثنتي عشرة ومائة وهو ابن سبعين واثنتين أو سبعين فعلى هذا يكون مولده سنة أربعين من الهجرة ولا خلاف أن طلحة قتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين من الهجرة والإسناد صحيح أخرجه الأئمة وفيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله قلت فلعل السبعين صوابها التسعين وتصحفت بها وقد ذكر أبو عمر النمري أنه توفي سنة مائة أو نحوها فعلى هذا

(1/218)


يكون مولده سنة ثمان وعشرين ويمكن سماعه منه وقال الشيخ قطب الدين يشكل أيضا بما رواه ابن سعد من أنه رأى عمر رضي الله عنه وتوفي عمر رضي الله عنه لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين فكيف يصح له رؤيته وقال ابن سعد أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا جرير بن حازم عن عمه جرير بن زيد عن مالك بن أبي عامر قال شهدت عمر رضي الله عنه عند الجمرة وأصابه حجر فدماه فذكر الحديث وفيه فلما كان من قابل أصيب عمر رضي الله عنه وقد نبه الحافظ المزي أيضا على هذا الوهم في الوفاة في أنها سنة ثنتي عشرة ومائة مع السن المذكور وقال النووي في حاشية تهذيبه إنه خطأ لا شك فيه فإنه قد سمع عمر فمن بعده ونقل في أصل تهذيبه عن ولده الربيع أن والده هلك حين اجتمع الناس على عبد الملك قال يعني سنة أربع وسبعين وجزم به في ( الكاشف ) والله أعلم الخامس أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه وقد مر ذكره
بيان الأنساب الزهراني نسبة إلى زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نضر بن الأزد وهو قبيل عظيم فيه بطون وأفخاذ والعتكي في الأزد ينسب إلى العتيك بن الأسد بن عمران بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد وفي قضاعة ولخم أيضا والزرقي بضم الزاي وفتح الراء بعدها القاف في الأنصار وفي طي فالذي في الأنصار زريق بن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج والذي في طي زريق بطن بن عبد بن خزيمة بن زهير بن ثعلبة بن سلامان بن ثقل بن عمرو بن الغوث بن طي والتيمي في قبائل ففي قريش تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وفي الرباب تيم بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر وفي النمر بن قاسط تيم الله بن نمر بن قاسط وفي شيبان بن ذهيل تيم بن شيبان وفي ربيعة بن نزار تيم الله بن ثعلبة بن عكابة وفي ضبة تيم بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة وفي قضاعة تيم الله بن رفيدة بن ثور بن كلب بطن ينسب إليه التيمي
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رجاله كلهم مدنيون إلا أبا الربيع ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الوصايا عن أبي الربيع وفي الشهادات عن قتيبة وفي الأدب عن ابن سلام وأخرجه مسلم في الإيمان عن قتيبة ويحيى بن أيوب كلهم عن إسماعيل بن جعد عن أبي سهيل عن أبيه وأخرجه الترمذي والنسائي
بيان اللغات قوله آية المنافق أي علامته وسميت آية القرآن آية لأنها علامة انقطاع كلام عن كلام فإن قلت ما وزن آية قلت فيه أربعة أقوال الأول إن وزنها فعلة أصلها أيية قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وهو مذهب الخليل الثاني إن وزنها فعلة أصلها اية بالتشديد قلب أول المضاعفين ألفا كما قلبت ياء في إيماء وهو مذهب الفراء الثالث إن وزنها فاعلة وأصلها آيية فنقصت وهو مذهب الكسائي واعترض عليه الفراء بأنها قد صغرت أيية ولو كان أصلها آيية لقيل آوية فأجاب الكسائي بأنها صغرت تصغير الترخيم كفطيمة في فاطمة واعترض إنما ذلك يجري في الأعلام الرابع إن وزنها فعلة وأصلها ايية وهو مذهب الكوفيين وقال الجوهري والأصل أوية بالتحريك قال سيبويه موضع العين من الآية واو لأن ما كان موضع العين واوا واللام ياء أكثر مما موضع العين واللام يا آن مثل شويت أكثر من حييت وتكون النسبة إليه أووى وقال الفراء هي من الفعل فاعلة وإنما ذهبت منه اللام ولو جاءت تامة لجاءت آيية ولكنها خففت وجمع الآية آي وآيات انتهى قلت المشهور أن عينها ياء وزنها فاعة لأن الأصل آيية فحذفوا الياء الثانية التي هي لام ثم فتحوا الياء التي هي عين لأجل تاء التأنيث والنسبة إليه أيي فافهم قوله كذب الكذب هو الإخبار على خلاف الواقع وعن ابن عرفة الكذب هو الانصراف عن الحق وفي ( الكشاف ) الكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به وفي ( المحكم ) الكذب نقيض الصدق كذب يكذب كذبا وكذبة وكذبة هاتان عن اللحياني وكذابا ورجل كاذب وكذاب وتكذاب وكذوب وكذوبة وكذبان وكيذبان وكيذبان وكذبذب قال ابن جنى أما كذبذب خفيف وكذبذب ثقيل فهاتان لم يحكهما سيبويه والأنثى كاذبة وكذابة وكذوب وكذب الرجل أخبر

(1/219)


بالكذب وفي نوادر أبي مسحل قد كان ذلك ولا كذبا لك ولا تكذيب ولا كذبان ولا مكذبة ولا كذب ومعناه لا أرد عليك ولا أكذبك وفي ( المنتهى ) لأبي المعاني فهو كذيب وكذبة مثل همزة والكذب جمع كاذب مثل راكع وركع والكذب جمع كذوب مثل صبور وصبر وقرىء ولم تصف ألسنتكم الكذب ( النحل 116 ) جعله نعتا للألسنة والأكذوبة الكذب والأكاذيب الأباطيل من الحديث وأكذبت الرجل ألفيته كاذبا وأكذبته إذا أخبرته أنه جاء بالكذب وكذبته إذا أخبرته أنه كاذب وقال ثعلب أكذبته وكذبته بمعنى حملته على الكذب أو وجدته كاذبا وقال الأصمعي أكذبته أظهرت كذبه وكذبته قلت له كذبت والتكاذب نقيض التصادق وفي ( الجامع ) كذب يكذب كذبا مكسور الكاف ساكن الذال والكذاب مخفف جمع كاذب وفي ( الصحاح ) فهو كاذب ومكذبان ومكذبانة وفي ( العباب ) كذب يكذب كذبا وكذبا وكذوبة وكاذبة ومكذوبة زاد ابن الأعرابي مكذبة وكذبانا مثل عنوان وكذبى مثل بشرى ويقال كذب كذابا ويقال كذب كذابا بالضم والتشديد أي متناهيا وقرأ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكذبوا بآياتنا كذابا ( النبأ 28 ) ويكون صفة على المبالغة كوضاء وحسان ورجل تكذاب وتصداق أي يكذب ويصدق قوله وإذا وعد قال ابن سيده وعده الأمر وبه عدة ووعدا وموعودا وموعدة وموعدا وموعودة وهو من المصادر التي جاءت على مفعول ومفعولة وقد تواعد القوم واتعدوا وواعده الوقت والموضع وواعده فوعده وقد أوعده وتوعد قال الفراء يقال وعدته خيرا ووعدته شرابا بإسقاط الألف فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير وعدته وفي الشر أوعدته وفي الخير الوعد والعدة وفي الشر الإيعاد والوعيد فإذا قالوا أوعدته بالشر أثبتوا الألف مع الياء وقال ابن الأعرابي أوعدته خيرا وهو نادر وفي ( الصحاح ) تواعد القوم أي وعد بعضهم بعضا وهذا في الخير وأما في الشر فيقال اتعدوا والإيعاد أيضا قبول الوعد وناس يقولون أيتعد يأتعد فهو مؤتعد بالهمزة قال ابن البري والصواب ترك الهمزة وكذا ذكره سيبويه وجميع النحاة قلت الوعد في الاصطلاح الإخبار بإيصال الخير في المستقبل والإخلاف جعل الوعد خلافا وقيل هو عدم الوفاء به قوله وإذا اؤتمن على صيغة المجهول من الائتمان وهو جعل الشخص أمينا وفي بعض الروايات بتشديد التاء وهو بقلب الهمزة الثانية منه واوا أو إبدال الواو ياء وإدغام الياء في التاء قوله خان من الخيانة وهو التصرف في الأمانة على خلاف الشرع وقال ابن سيده هو أن يؤتمن الإنسان فلا ينصح يقال خانه خونا وخيانة وخانة ومخانة واختانه ورجل خائن وخائنة وخون وخوان الجمع خانة وخونة والأخيرة شاذة وخوان وقد خانه العهد والأمانة وفي ( التهذيب ) للأزهري رجل خائنة إذا بولغ في وصفه بالخيانة وفي ( الجامع ) للقزاز خان فلان فلانا يخونه من الخيانة واصله من النقص
بيان الإعراب قوله آية المنافق كلام إضافي مبتدأ وثلاث خبره فإن قلت المبتدأ مفرد والثلاث جمع والتطابق شرط والقياس آيات المنافق ثلاث قلت لا نسلم أن الثلاث جمع بل هو اسم جمع ولفظه مفرد على أن التقدير آية المنافق معدودة بالثلاث وقال بعضهم إفراد الآية إما على إرادة الجنس أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث قلت كيف يراد الجنس والتاء تمنع ذلك لأنها التاء فيها كالتاء في تمرة فالآية والآي كالتمرة والتمر وقوله أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث يشعر أنه إذا وجد فيه واحد من الثلاث لا يطلق عليه اسم المنافق وليس كذلك بل يطلق عليه اسم المنافق غير أنه إذا وجد فيه الثلاث كلها يكون منافقا كاملا ويؤيده حديث عبد الله بن عمرو الآتي عن قريب على أن هذا القائل أخذ ما قاله من قول الكرماني والكل مدخول فيه قوله إذا حدث كلمة إذا ظرف للمستقبل متضمنة معنى الشرط ويختص بالدخول على الجملة الفعلية وقال الكرماني فإن قلت الجمل الشرطية بيان لثلاث أو بدل لكن لا يصح أن يقال الآية إذا حدث كذب فما وجهه قلت معناه آية المنافق كذبه عند تحديثه وذلك مثل قوله تعالى فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ( آل عمران 97 ) على أحد التوجيهات قلت تقرير كلامه أنه جعل قوله إذا حدث كذب بيانا لثلاث ولذلك قدره بقوله آية المنافق كذبه عند تحديثه كما قدر نحوه في قوله تعالى ومن دخله كان آمنا ( آل عمران 97 ) فإن تقديره آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله فإن قلت كيف يصح بيان الجمع بالاثنين قلت إن الإثنين نوع من الجمع أو يكون الثالث مطويا وقوله لكن لا يصح أن يقال الآية إذا حدث كذب أراد أن البدل لا يصح لكون المبدل منه في حكم

(1/220)


السقوط فيكون التقدير الآية إذا حدث كذب ولكن قوله لا يصح غير صحيح إما أولا فلأن كون المبدل منه في حكم السقوط ليس على الإطلاق وإما ثانيا فلأن تقديره بقوله الآية إذا حدث كذب ليس بتقدير صحيح بل التقدير على تقدير البدل آية المنافق وقت تحديثه بالكذب ووقت إخلافه بالوعد ووقت خيانته بالأمانة والمبدل منه هو لفظ ثلاث لا لفظ المنافق فافهم
بيان المعاني فيه ذكر إذا في الجمل الثلاث الدالة على تحقق الوقوع تنبيها على أن هذه عادة المنافق وقال الخطابي كلمة إذا تقتضي تكرار الفعل وفيه نظر وفيه حذف المفاعيل الثلاثة من الأفعال الثلاثة تنبيها على العموم وفيه عطف الخاص على العام لأن الوعد نوع من التحديث وكان داخلا في قوله إذا حدث ولكنه أفرده بالذكر معطوفا تنبيها على زيادة قبحه على سبيل الادعاء كما في عطف جبريل عليه السلام على الملائكة مع كونه داخلا فيهم تنبيها على زيادة شرفه لا يقالالخاص إذا عطف على العام لا يخرج من تحت العام فحينئذ تكون الآية اثنتين لا ثلاثا لأنا نقول لازم الوعد الذي هو الإخلاف الذي قد يكون فعلا ولازم التحديث الذي هو الكذب الذي لا يكون فعلا متغايران فبهذا الاعتبار كان الملزومان متغايرين فافهم وفيه الحصر بالعدد فإن قلت يعارضه الحديث الآخر الذي فيه لفظ أربع قلت لا يعارضه أصلا لأن معنى قوله وإذا عاهد غدر معنى قوله وإذا اؤتمن خان لأن الغدر خيانة فيما اؤتمن عليه من عهده وقال النووي لا منافاة بين الروايتين من ثلاث خصال كما في الحديث الأول أو أربع خصال كما في الحديث الآخر لأن الشيء الواحد قد يكون له علامات كل واحدة منها يحصل بها صفة قد تكون تلك العلامة شيئا واحدا وقد تكون أشياء وروى أبو أمامة موقوفا وإذا غنم غل وإذا أمر عصى وإذا لقي جبن وقال الطيبي لا منافاة لأن الشيء الواحد قد يكون له علامات فتارة يذكر بعضها وأخرى جميعها أو أكثرها وقال القرطبي يحتمل أن النبي عليه السلام استجد له من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده قلت الأولى أن يقال إن التخصيص بالعدد لا يدل على الزائد والناقص وقال بعضهم ليس بين الحديثين تعارض لأنه لا يلزم من عد الخصلة كونها علامة على أن في رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ما يدل على عدم إرادة الحصر فإن لفظه من علامة المنافق ثلاث وكذا أخرج الطبراني في ( الأوسط ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وإذا حمل اللفظ الأول على هذا لم يرد السؤال فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت وببعضها في وقت آخر قلت ولا فرق بين الخصلة والعلامة لأن كلا منهما يستدل به على الشيء وكيف ينفي هذا القائل الملازمة الظاهرة وقوله على أن في رواية مسلم إلخ ليس بجواب طائل بل المعارضة ظاهرة بين الروايتين ودفعها بما ذكرناه وحمل اللفظ الأول على هذا لا يصح من جهة التركيب فافهم
بيان استنباط الأحكام استنبط من هذه العلامات الثلاث صفة المنافق وجه الانحصار على الثلاث هو التنبيه على فساد القول والفعل والنية فبقوله إذا حدث كذب نبه على فساد القول وبقوله إذا اؤتمن خان نبه على فساد الفعل وبقوله إذا وعد أخلف نبه على فساد النية لأن خلف الوعد لا يقدح إلا إذا عزم عليه مقارنا بوعده أما إذا كان عازما ثم عرض له مانع أو بدا له رأي فهذا لم توجد فيه صفة النفاق ويشهد لذلك ما رواه الطبراني بإسناد لا بأس به في حديث طويل من حديث سلمان رضي الله عنه إذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف وكذا قال في باقي الخصال وقال العلماء يستحب الوفاء بالوعد بالهبة وغيرها استحبابا مؤكدا ويكره إخلافه كراهة تنزيه لا تحريم ويستحب أن يعقب الوعد بالمشيئة ليخرج عن صورة الكذب ويستحب إخلاف الوعيد إذا كان التوعد به جائزا ولا يترتب على تركه مفسدة واعلم أن جماعة من العلماء عدوا هذا الحديث من المشكلات من حيث أن هذه الخصال قد توجد في المسلم المصدق بقلبه ولسانه مع أن الإجماع حاصل أنه لا يحكم بكفره ولا بنفاق يجعله في الدرك الأسفل من النار قلت ذكروا فيه أوجها الأول ما قاله النووي ليس في الحديث إشكال إذ معناه أن هذه الخصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافق في هذه ومتخلق بأخلاقهم إذ النفاق إظهار ما يبطن خلافه وهوموجود في صاحب هذه الخصال ويكون نفاقه خاصا في حق من حدثه ووعده وائتمنه لا أنه منافق في الإسلام مبطن للكفر الثاني ما قاله بعضهم هذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه وأما من نذر

(1/221)


ذلك منه فليس داخلا فيه الثالث ما قاله الخطابي هذا القول من النبي تحذير من اعتاد هذه الخصال خوفا أن يفضي به إلى النفاق دون من وقعت نادرة منه من غير اختيار أو اعتياد وقد جاء في الحديث التاجر فاجر وأكثر منافقي أمتي قراؤها ومعناه التحذير من الكذب إذ هو في معنى الفجور فلا يوجب أن يكون التجار كلهم فجارا أو القراء قد يكون من بعضهم قلة إخلاص للعمل وبعض الرياء وهو لا يوجب أن يكونوا كلهم منافقين وقال أيضا والنفاق ضربان أحدهما أن يظهر صاحبه الدين وهو مبطن للكفر وعليه كانوا في عهد رسول الله والآخر ترك المحافظة على أمور الدين سرا ومراعاتها علنا وهذا أيضا يسمى نفاقا كما جاء سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وإنما هو كفر دون كفر وفسق دون فسق كذلك هو نفاق دون نفاق الرابع ما قاله بعضهم ورد الحديث في رجل بعينه منافق وكان رسول الله لا يواجههم بصريح القول فيقول فلان منافق بل يشير إشارة كقوله عليه السلام ما بال أقوام يفعلون كذا فههنا أشار بالآية إليه حتى يعرف ذلك الشخص بها الخامس ما قاله بعضهم المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي حدثوا بأنهم آمنوا فكذبوا واؤتمنوا على دينهم فخانوا ووعدوه في نصرة الدين فاخلفوا قال القاضي وإليه مال كثير من أئمتنا وهو قول عطاء بن أبي رباح في تفسير الحديث وإليه رجع الحسن البصري وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وسعيد بن جبير رضي الله عنهم ورووا في ذلك حديثا يروى أن رجلا قال لعطاء سمعت الحسن يقول من كان فيه ثلاث خصال لم أتحرج أن أقول إنه منافق من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان فقال عطاء إذا رجعت إلى الحسن فقل له إن عطاء يقرؤك السلام ويقول لك أذكر إخوة يوسف عليه السلام واعلم أنه لن يخلق أهل اللإسلام أن يكون فيهم الخيانة والخلف ونحن نرجو أن يعيذهم الله من النفاق وما استقر اسم النفاق قط إلا في قلب جاحد وقد قال الله في حق المنافقين ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا ( المنافقون 3 ) فذكر زوال الإسلام عن قلوبهم ونحن نرجوا أن لا يزول عن قلوب المؤمنين فأخبر الحسن فقال جزاك الله خيرا ثم قال لأصحابه إذا سمعتم مني حديثا فحدثتم به العلماء فما كان غير صواب فردوا على جوابه وروي أن سعيد بن جبير أهمه هذا الحديث فسأله ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم فقالا أهمنا من ذلك يا ابن أخي مثل الذي أهمك فسألنا رسول الله فضحك النبي عليه السلام وقال مالكم ولهن إنما خصصت به المنافقين أما قولي إذا حدث كذب فذلك فيما أنزل الله تعالى علي إذا جاءك المنافقون ( المنافقون 1 ) الآية أفأنتم كذلك قلنا لا قال فلا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي إذا وعد أخلف فذلك قوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله ( التوبة 75 ) الآيات الثلاث أفأنتم كذلك قلنا لا قال لا عليكم أنتم من ذلك براء وأما قولي إذا اؤتمن خان فذلك فيما أنزل الله تعالى علي إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال ( الأحزاب 72 ) الآية فكل إنسان مؤتمن على دينه يغتسل من الجنابة ويصلي ويصوم في السر والعلانية والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية أفأنتم كذلك قلنا لا قال لا عليكم أنتم من ذلك براء السادس ما قاله حذيفة ذهب النفاق وإنما كان النفاق على عهد رسول الله عليه السلام ولكنه الكفر بعد الإيمان فإن الإسلام شاع وتوالد الناس عليه فمن نافق بأن أظهر الإسلام وأبطن خلافه فهو مرتد السابع ما قاله القاضي إن المراد التشبيه بأحوال المنافقين في هذه الخصال في إظهار خلاف ما يبطنون لا في نفاق الإسلام العام ويكون نفاقه على من حدثهم ووعدهم وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس الثامن ما قاله القرطبي إن المراد بالنفاق نفاق العمل واستدل بقول عمر لحذيفة رضي الله عنهما هل تعلم في شيئا من النفاق فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر وإنما أراد نفاق العمل قلت الألف واللام في النفاق لا يخلو إما أن تكون للجنس أو للعهد فإن كانت للجنس يكون على سبيل التشبيه والتمثيل لا على الحقيقة وإن كانت للعهد يكون من منافق خاص بعينه أو من المنافقين الذين كانوا في زمنه عليه السلام على ما ذكرنا
34 - حدثنا ( قبيصة بن عقبة ) قال حدثنا ( سفيان ) عن ( عبد الله ) عن ( الأعمش بن مرة ) عن ( مسروق ) عن ( عبد الله بن عمر وأن ) النبي قال أربع من كن فيه كان منافقا خالصا

(1/222)


ومن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر
المناسبة بين الحديثين ظاهرة وكلك مناسبته للترجمة
بيان رجاله وهم ستة الأول قبيصة بفتح القاف وكسر الباء وسكون الياء آخر الحروف وفتح الصاد المهملة ابن عقبة بضم العين المهملة وسكون القاف وفتح الباء الموحدة ابن محمد بن سفيان بن عقبة بن ربيعة بن جندب بن بيان بن حبيب أبي سواءة بن عامر بن صعصعة أبو عامر السوائي الكوفي أخو سفيان بن عقبة روى عن مسعر والثوري وشعبة وحماد بن سلمة وغيرهم روى عنه أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى الذهلي والبخاري وروى مسلم حديثا واحدا في الجنائز عن ابن أبي شيبة عنه عن الثوري وروى أبو داود وابن ماجه عن رجل عنه قلت هو يحيى بن بشر يروي عن قبيصة وكذا روى البخاري في الأدب والترمذي والنسائي عن يحيى بن بشر عنه وكان من الصالحين وهو مختلف في توثيقه وجرحه واحتجاج البخاري به في غير موضع كاف وقال يحيى بن معين ثقة في كل شيء إلا في حديث سفيان الثوري ليس بذلك القوي وقال يحيى بن آدم قبيصة كثير الغلط في سفيان كأنه كان صغيرا لم يضبط وأما في غير سفيان فهو ثقة رجل صالح وعن قبيصة أنه قال جالست الثوري وأنا ابن ست عشرة سنة ثلاث سنين توفي في المحرم سنة ثلاث عشرة ومائتين كذا قاله قطب الدين في شرحه وقال النووي في شرحه سنة خمس عشرة ومائتين وليس لقبيصة بن عقبة عن ابن عيينة شيء الثاني سفيان بتثليث سينه إبن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة ابن أبي عبد الله بن منقذ بن نضر بن الحارث بن ثعلبة بن ملكان بن ثور بن عبد مناة أبو عبد الله الثوري الإمام الكبير أحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة المتفق على جلالة قدره وكثره علومه وصلابه دينه وتوثقه وأمانته وهو من تابع التابعين وقال ابن عاصم سفيان أمير المؤمنين في الحديث وقال ابن المبارك كتبت عن ألف ومائة وما كتبت عن أفضل من سفيان ولد سنة سبع وتسعين وتوفي سنة ستين ومائة بالبصرة متواريا من سلطانها ودفن عشاء وكان يدلس روى له الجماعة الثالث سليمان الأعمش وقد مر ذكره الرابع عبد الله بن مرة بضم الميم وتشديد الراء الهمداني بسكون الميم الكوفي التابعي الخارفي بالخاء المعجمة وبالراء والفاء وخارف هو مالك بن عبد الله بن كثير بن مالك بن جشم بن خيوان بن نوف بن همدان قال يحيى بن معين وأبو زرعة ثقة توفي سنة مائة وقال ابن سعد في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه روى له الجماعة الخامس أبو عائشة مسروق بن الأجدع بالجيم وبالمهملتين ابن مالك بن أمية بن عبد الله بن مر بن سليمان بن الحارث بن سعد بن عبد الله بن وداعة بن عمرو بن عامر الهمداني الكوفي صلى خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه وسمع عمرو عبد الله بن مسعود وعائشة وغيرهم وكان من المخضرمين اتفق على جلالته وتوثيقه وإمامته وكان أفرس فارس باليمن وهو ابن أخت معدي كرب مات سنة ثلاث وقيل اثنتين وستين روى له الجماعة السادس عبد الله بن عمرو بن العاص وقد مر ذكره
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض ومنها أن رواته كلهم كوفيون إلا الصحابي وقد دخل الكوفة أيضا
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الجزية عن قتيبة عن جرير عن الأعمش به وأخرجه مسلم في الإيمان عن أبي بكر عن عبد الله بن نمير وعن أبي نمير حدثنا أبي حدثنا الأعمش وحدثنا زهير حدثنا وكيع عن الأعمش وأخرجه بقية الجماعة
بيان اللغات قوله خالصا من خلص الشيء يخلص من باب نصر ينصر ومصدره خلوصا وخالصة

(1/223)


والخالص أيضا الأبيض من الألوان وخلص الشيء إليه خلوصا وصل وخلص العظم بالكسر يخلص بالفتح خلصا بالتحريك إذا تشظى في اللحم قوله خصلة أي خلة بفتح الخاء فيهما وكذا وقع في رواية مسلم قوله حتى يدعها أي يتركها قيل قد أميت ماضيه وقد استعمل في قراءة من قرأها ما ودعك ربك ( الضحى 3 ) بالتخفيف قوله عاهد من المعاهدة وهي المحالفة والمواثقة قوله غدر من الغدر وهو ترك الوفاء قال الجوهري غدر به فهو غادر وغدر أيضا وأكثر ما يستعمل هذا في النداء بالشتم وفي ( المحكم ) غدره وغدر به يغدر عدرا ورجل غادر وغدار وغدور وكذلك الأنثى بغير هاء وغدرة وقال بعضهم يقال للرجل يا غدر ويا مغدر ويا ابن مغدر ومغدر والأنثى يا غدار لا يستعمل إلا في النداء وغذر الرجل غدار وغدرانا عن اللحياني ولست منه على ثقة وفي ( المجمل ) الغدر نقض العهد وتركه ويقال أصله من الغدير وهو الماء الذي يغادره السيل أي يتركه يقال غادرت الشيء إذا تركته فكأنك تركت ما بينك وبينه من العهد وفي ( شرح الفصيح ) لابن هشام السبتي والعماني غدر في الماضي بالكسر زاد العماني وغدر بالفتح أفصح وفي ( شرح المطرز ) العرب الفصحاء يقولون كما ذكره ثعلب غدرت بالفتح ومنهم من يقول غدرت بالكسر وفي ( نوادر ابن الأعرابي ) غدر الرجل بكسر الدال عن أصحابه إذا تخلف قال ويقال مات إخوته وغدر وفي ( شرح الحضرمي ) غدر يغدر ويغدر بالكسر والضم هو في مستقبل غدر بالكسر يغدر بالفتح قياسا وفي كتاب ( صعاليك العرب ) للأخفش غادر وغدار مثل شاهد وشهاد قوله خاصم من المخاصمة وهي المجادلة قوله فجر من الفجور وهو الميل عن القصد والشق بمعنى فجر مال عن الحق وقال الباطل أو شق ستر الديانة
بيان الإعراب والمعاني قوله أربع مبتدأ بتقدير أربع خصال أو خصال أربع لأن النكرة الصرفة لا تقع مبتدأ وخبره قوله من كن فيه فقوله من موصولة متضمنة معنى الشرط وقوله كن فيه صلتها وقوله كان منافقا خبر للمبتدأ الثاني أعني قوله من والجملة خبر المبتدأ الأول كما ذكرنا وقال الكرماني يحتمل أن تكون الشرطية صفة يعني صفة أربع وإذا اؤتمن خان الخ خبره بتقدير أربع كذا هي الخيانة عند الائتمان إلى آخره قلت هذا وجه بعيد لا يخفى قوله منافقا خبر كان و خالصا صفته قوله ومن مبتدأ موصولة وقوله كانت فيه خصلة جملة صلة لها وقوله كانت فيه خصلة خبر المبتدأ والضمير في منهن يرجع إلى الأربع قوله حتى للغاية و يدعها منصوب بأن المقدرة أي حتى أن يدعها قوله إذا اؤتمن خان إذا للظرف فيه معنى الشرط و خان جوابه والباقي كذلك وهو ظاهر قوله كان منافقا معناه على ما تقدم من الأوجه المذكورة ووصفه بالخلوص يشد عضد من قال المراد بالنفاق العمل لا الإيمان أو النفاق العرفي لا الشرعي لأن الخلوص بهذين المعنيين لا يستلزم الكفر الملقي في الدرك الأسفل من النار وأما كونه خالصا فيه فلأن الخصال التي تتم بها المخالفة بين السر والعلن لا يزيد عليه وقال ابن بطال خالصا معناه خالصا من هذه الخلال المذكورة في الحديث فقط لا في غيرها وقال النووي أي شديد الشبه بالمنافقين بهذه الخصال وقال أيضا في شرحه للصحيح حصل من الحديثين أن خصال المنافقين خمسة وقال في شرح مسلم وإذا عاهد غدر هو داخل في قوله إذا اؤتمن خان يعني أربعة وقال الكرماني لو اعتبرنا هذا الدخول فالخمس راجعة إلى الثلاث فتأمل والحق أنها خمسة متغايرة عرفا وباعتبار تغاير الأوصاف واللوازم أيضا ووجه الحصر فيها أن إظهار خلاف الباطن أما في الماليات وهو إذا اؤتمن وأما في غيرها فهو إما في حالة الكدورة فهو إذا خاصم وإما في حالة الصفاء فهو إما مؤكدة باليمين فهو إذا عاهد أو لا فهو إما بالنظر إلى المستقبل فهو إذا وعد وإما بالنظر إلى الحال فهو إذا حدث قلت الحق بالنظر إلى الحقيقة ثلاث وإن كان بحسب الظاهر خمسا لأن قوله إذا عاهد غدر داخل في قوله إذا اؤتمن خان وقوله وإذا خاصم فجر يندرج في الكذب في الحديث ووجه الحصر في الثلاث قد ذكرناه

(1/224)


تابعه شعبة عن الأعمش
أي تابع سفيان الثوري شعبة بن الحجاج في روايته هذا الحديث عن سليمان الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأوصل البخاري هذه المتابعة في كتاب المظالم وقال الكرماني هذه المتابعة هي المتابعة المقيدة لا المطلقة حيث قال الأعمش والناقصة لا التامة حيث ذكر المتابعة من وسط الإسناد لا من أوله وقال النووي إنما أوردها البخاري على طريق المتابعة لا الأصالة وقال الكرماني ليس ذكره في هذا الموضع على طريق المتابعة لمخالفة هذا الحديث ما تقدم لفظا ومعنى من جهات كالاختلاف في ثلاث وأربع وكزيادة لفظ خالصا قلت أراد البخاري بالمتابعة هنا كون الحديث مرويا من طرق أخرى عن الثوري منها رواية شعبة عن الثوري نبه على ذلك ههنا وإن كان قد رواها في كتاب المظالم وكذلك هو مروي في ( صحيح مسلم ) وغيره من طرق أخرى عن الثوري وكلام الكرماني يشير إلى أنه فهم أن المراد بالمتابعة متابعة حديث أبي هريرة المذكور في هذا الباب وليس كذلك لأنه لو أراد ذلك لسماه شاهدا وقال بعضهم وأما دعواه أن بينهما مخالفة في المعنى فليس بمسلم وغايته أن يكون في أحدهما زيادة وهي مقبولة لأنها من ثقة متيقن قلت نفيه التسليم ليس بمسلم لأن المخالفة في اللفظ ظاهرة لا تنكر ولا تخفى فكأنه فهم أن قوله من جهات كالاختلاف يتعلق بالمعنى وليس كذلك بل يتعلق بقوله لفظا فافهم
25 -
( باب قيام ليلة القدر من الإيمان )
لما كان المذكور بعد ذكر المقدمة التي هي باب كيفية بدء الوحي كتاب الإيمان المشتمل على أبواب فيها بيان أمور الإيمان وذكر في أثنائها خمسة من الأبواب مما يضاد أمور الإيمان لأجل مناسبة ذكرناها عند ذكر أول الأبواب الخمسة عاد إلى بيان بقية الأبواب المشتملة على أمور الإيمان نحو قيام ليلة القدر من الإيمان والجهاد من الإيمان وتطوع قيام رمضان من الإيمان وصوم رمضان من الإيمان وغير ذلك من الأبواب المتعلقة بأمور الإيمان وينبغي أن تطلب المناسبة بين هذا الباب وبين باب السلام من الإسلام لأن الأبواب الخمسة المذكورة بينهما إنما هي بطريق الاستطراد لا بطريق الأصالة فالمذكور بطريق الاستطراد كالأجنبي فيكون هذا الباب في الحقيقة مذكورا عقيب باب السلام من الإسلام فتطلب المناسبة بينهما فنقول وجه المناسبة هو أن المذكور في باب السلام من الإسلام هو أن إفشاء السلام من أمور الإيمان وكذلك ليلة القدر فيها يفشى السلام من الملائكة على المؤمنين قال الله تعالى سلام هي حتى مطلع الفجر ( القدر 5 ) قال الزمخشري ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلمون أي الملائكة على المؤمنين وقيل لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة ثم قوله باب معرب على تقدير أنه خبر مبتدأ محذوف منون أي هذا باب وقوله قيام مرفوع بالابتداء وخبره قوله من الإيمان ويجوز أن يترك التنوين من باب على تقدير إضافته إلى الجملة وعلى كل التقدير الأصل هذا باب في بيان أن قيام ليلة القدر من شعب الإيمان والقيام مصدر قام يقال قام قياما وأصله قواما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها
والكلام في ليلة القدر على أنواع الأول في وجه التسمية به فقيل سمي به لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في تلك السنة أي يظهرهم الله عليه ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم وقيل لعظم قدرها وشرفها وقيل لأن من أتى فيها بالطاعات صار ذا قدر وقيل لأن الطاعات لها قدر زائد فيها الثاني في وقتها اختلف العلماء فيه فقالت جماعة هي منتقلة تكون في سنة في ليلة وفي سنة في ليلة أخرى وهكذا وبهذا يجمع بين الأحاديث الدالة على اختلاف أوقاتها وبه قال مالك وأحمد وغيرهما قالوا إنما تنتقل في العشر الأواخر من رمضان وقيل بل في كله وقيل إنها معينة لا تنتقل أبدا بل هي ليلة معينة في جميع السنين لا تفارقها وقيل هي في السنة كلها وقيل في شهر رمضان كله وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما وبه أخذ أبو حنيفة رضي الله عنه وقيل بل في العشر الأوسط والأواخر وقيل بل في الأواخر وقيل يختص بأوتار العشر وقيل بأشفاعه وقيل بل في ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين وهو قول ابن عباس وقيل في ليلة سبع عشرة أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين وقيل ليلة ثلاث وعشرين وقيل ليلة أربع عشرين وهو محكي عن بلال وابن عباس رضي الله عنهم وقيل سبع وعشرين وهو قول جماعة من الصحابة وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال زيد بن أرقم

(1/225)


سبع عشرة وقيل تسع عشرة وحكي عن علي رضي الله عنه وقيل آخر ليلة من الشهر وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين ذكره الرافعي وهو خارج عن المذكورات الثالث هل هي محققة ترى أم لا فقال قوم رفعت لقوله حين تلاحى الرجلان رفعت وهذا غلط لأن آخر الحديث يدل عليه وهو عسى أن يكون خيرا لكم التمسوها في السبع والتسع وفيه تصريح بأن المراد برفعها رفع بيان علم عينها لا رفع وجودها وقال النووي أجمع من يعتد به على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر وهي موجودة ترى ويحققها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان وأخبار الصالحين بها ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصى وأما قول المهلب لا يمكن رؤيتها حقيقة فغلط وقال الزمخشري ولعل الحكمة في إخفائها أن يحيي من يريدها الليالي الكثيرة طلبا لموافقتها فتكثر عبادته وأن لا يتكل الناس عند إظهارها على إصابة الفضل فيها فيفرطوا في غيرها
35 - حدثنا ( أبو اليمان ) قال أخبرنا ( شعيب ) قال حدثنا ( أبو الزناد ) عن ( الأعرج ) عن ( أبي هريرة ) قال قال رسول الله من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه
( الحديث 35 - أطرافه 37 38 1901 2008 2009 2014 )
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
بيان رجاله وهم خمسة قد ذكروا بهذا الترتيب في باب حب الرسول عليه السلام وأبو اليمان هو الحكم بن نافع وشعيب هو ابن حمزة وأبو الزناد بالنون عبد الله بن ذكوان القرشي والأعرج عبد الرحمن بن هرمز المدني القرشي قيل أصح أسانيد أبي هريرة عن أبي الزناد عن الأعرج عنه
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الصيام مطولا وأخرجه مسلم ولفظه من يقم ليلة القدر فيوافقها أراه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والموطأ ولفظهم كان رسول الله يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة فيقول من قام رمضان إيمانا وإحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه فتوفي رسول الله عليه الصلاة و السلام والأمر على ذلك ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنهما وأخرج البخاري ومسلم أيضا نحوه وأخرج النسائي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله ذكر رمضان بفضله على الشهور وقال من قام في رمضان إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وقال هذا خطأ والصواب أنه عن أبي هريرة
بيان اللغات قوله من يقم بفتح الياء من قام يقوم وهو متعد ههنا والدليل عليه ما جاء في رواية أخرى للبخاري ومسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله يقول لرمضان من قامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وفي رواية للنسائي فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه قوله إيمانا أي تصديقا بأنه حق وطاعة قوله واحتسابا أي إرادة وجه الله تعالى لا لرياء ونحوه فقد يفعل الإنسان الشيء الذي يعتقد أنه صادق لكن لا يفعله مخلصا بل لرياء أو خوف أو نحو ذلك يقال احتسابا أي حسبه الله تعالى يقال احتسبت بكذا أجرا عند الله تعالى والاسم الحسبة وهي الأجر وفي ( العباب ) احتسبت بكذا أجرا عند الله أي اعتددته أنوي به وجه الله تعالى ومنه قوله عليه السلام من صام رمضان إيمانا واحتسابا الحديث واحتسبت عليه كذا أي أنكرته عليه قاله ابن دريد ومنه محتسب البلد قوله غفر له من الغفر وهو الستر ومنه المغفر وهو الخودة وفي ( العباب ) الغفر التغطية والغفر والغفران والمغفرة واحد ومغفرة الله لعبده إلباسه إياه العفو وستره ذنوبه
بيان الإعراب والمعاني قوله من يقم كلمة من شرطية و يقم جملة من الفعل والفاعل وقعت فعل الشرط قوله ليلة القدر كلام إضافي مفعول به ليقم وليس بمفعول فيه قوله إيمانا واحتسابا منصوبان على أنهما حالان متداخلتان أو مترادفتان على تأويل مؤمنا ومحتسبا وقال الكرماني وحينئذ لا تدل على ترجمة الباب إذ المفهوم منه ليس إلا القيام في حال الإيمان وفي زمانه مشعر بأنه من جملته قلت ليس المراد من لفظه إيمانا هو الإيمان الشرعي وإنما المراد هو الإيمان

(1/226)


اللغوي وهو التصديق كما فسرناه الآن والترجمة غير مترتبة عليه وإنما هي مترتبة على مباشرة عمل هو سبب لغفران ما تقدم من ذنبه وهو قيام ليلة القدر ههنا ومباشرة مثل هذا العمل شعبة من شعب الإيمان فافهم ثم إن الكرماني جوز انتصابهما على التمييز وعلى العلة أيضا بعد أن قال التمييز والمفعول له لا يدلان على أنه من الإيمان بتأويل أن من للابتداء فمعناه أن القيام منشؤه الإيمان فيكون للإيمان أو من جهة الإيمان قلت وقوع كل منهما بعيد أما التمييز فإنه يرفع الإبهام المستقر عن ذات مذكورة أو مقدرة وكل منهما ههنا منتف أما الأول فلأنه يكون عن ذات مفردة مذكورة وذلك المفرد يكون مقدرا غالبا وأما الثاني فإنه لا إبهام في لفظة يقم ولا في إسناده إلى فاعله وأما النصب على العلة فإنه ما فعل لأجله فعل مذكور وههنا القيام ليس لأجل علة الإيمان وإنما الإيمان سبب للقيام ثم قال الكرماني فإن قلت شرط التمييز أن يقع موقع الفاعل نحو طاب زيد نفسا قلت اطراد هذا الشرط ممنوع ولئن سلمنا فهو أعم من أن يكون فاعلا بالفعل أو بالقوة كما يؤول طار عمرو فرحا بأن المراد طيره الفرح فهو في المعنى إقامة الإيمان قلت هذا التمثيل ليس بصحيح لأن نسبة الطيران إلى عمرو فيه إبهام وفسره بقوله فرحا وتأويله طيره الفرح كما في قولك طاب زيد نفسا تقديره طاب نفس زيد وليس كذلك قوله من يقم ليلة القدر لأنه إبهام في نسبة القيام إليه ولا في نفس القيام وتأويله بقوله إقامة الإيمان ليس بصحيح لأن الإيمان ليس بفاعل لا بالفعل ولا بالقوة قوله غفر له جواب الشرط وهذا كما ترى وقع ماضيا وفعل الشرط مضارعا والنحاة يستضعفون مثل ذلك ومنهم من منعه إلا في ضرورة شعر وأجازوا ضده وهو أن يكون فعل الشرط ماضيا والجواب مضارعا ومنه قوله تعالى من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم ( هود 15 ) وجماعة منهم جوزوا ذلك مطلقا واحتجوا بالحديث المذكور وبقول عائشة رضي الله عنها في أبي بكر الصديق رضي الله عنه متى يقم مقامك رق والصواب معهم لأنه وقع في كلام أفصح الناس وفي كلام عائشة الفصيحة وقال بعضهم واستدلوا بقوله تعالى إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت ( الشعراء 4 ) لأن قوله فظلت بلفظ الماضي وهو تابع للجواب وتابع الجواب جواب قلت لا نسلم أن تابع الجواب جواب بل هو في حكم الجواب وفرق بين الجواب وحكم الجواب وقوله ظلت عطف على قولهننزل وحق المعطوف صحة حلوله محل المعطوف عليه ثم قال هذا القائل وعندي في الاستدلال به نظر أراد به استدلال المجوزين بالحديث المذكور لأنني أظنه من تصرف الرواة فقد رواه النسائي عن محمد بن علي بن ميمون عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه فلم يغاير بين الشرط والجزاء بل قال من يقم ليلة القدر يغفر له ورواه أبو نعيم في المستخرج عن سليمان وهو الطبراني عن أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة عن أبي اليمان ولفظه لا يقوم أحد ليلة القدر فيوافقها إيمانا واحتسابا إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه قلت لقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون تصرف الرواة فيما رواه النسائي والطبراني وأن ما رواه البخاري بالمغايرة بين الشرط والجزاء هو اللفظ النبوي بل الأمر كذا لأن رواية محمد بن علي بن ميمون عن أبي اليمان لا تعادل رواية البخاري عن أبي اليمان ولا رواية أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة عن أبي اليمان مثل رواية البخاري عنه ويؤيد هذا رواية مسلم أيضا ولفظ البخاري من يقم ليلة القدر فيوافقها أراه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ولفظ حديث الطبراني ينادي بأعلى صوته بوقوع التغيير والتصرف من الرواة فيه لأن فيه النفي والإثبات موضع الشرط والجزاء في رواية البخاري ومسلم قوله من ذنبه يتعلق بقوله غفر أي غفر من ذنبه ما تقدم ويجوز أن تكون من البيانية لما تقدم فإن قلت ما تقدم ما موقعه من الإعراب قلت النصب على المفعولية على الوجه الأول والرفع على أنه مفعول ناب عن الفاعل على الوجه الثاني فافهم
الأسئلة والأجوبة منها ما قيل لم قال ههنا من يقم بلفظ المضارع وقال فيما بعده من قام رمضان ومن صام رمضان بالماضي وأجيب بأن قيام رمضان وصيامه محقق الوقوع فجاء بلفظ يدل عليه بخلاف قيام ليلة القدر فإنه غير متيقن فلهذا ذكره بلفظ المستقبل ومنها ما قيل ما النكتة في وقوع الجزاء بالماضي مع أن المغفرة في زمن الاستقبال وأجيب للإشعار بأنه متيقن الوقوع متحقق الثبوت فضلا من الله تعالى على عباده ومنها

(1/227)


ما قيل لفظ من يقم ليلة القدر هل يقتضي قيام تمام الليلة أو يكفي أقل ما ينطلق عليه اسم القيام وأجيب بأنه يكفي الأقل وعليه بعض الأئمة حتى قيل بكفاية فرض صلاة العشاء في دخوله تحت القيام فيها لكن الظاهر منه عرفا أنه لا يقال قيام الليلة إلا إذا قام كلها أو أكثرها قلت قوله من يقم ليلة القدر مثل من يصم يوما فكما لا يكفي صوم بعض اليوم ولا أكثره فكذلك لا يكفي قيام بعض ليلة القدر ولا أكثرها وذلك لأن ليلة القدر وقعت مفعولا لقوله يقم فينبغي أن يوصف جميع الليلة بالقيام لأن من شأن المفعول أن يكون مشمولا بفعل الفاعل فافهم ومنها ما قيل ما معنى القيام فيها إذ ظاهره غير مراد قطعا وأجيب بأن القيام للطاعة كأنه معهود من قوله تعالى قوموا لله قانتين ( البقرة 238 ) وهو حقيقة شرعية فيه ومنها ما قيل الذنب علم لأنه اسم جنس مضاف فهل يقتضي مغفرة ذنب يتعلق بحق الناس وأجيب بأن لفظه مقتض لذلك مقتض لذلك ولكن علم من الأدلة الخارجية أن حقوق العباد لا بد فيها من رضى الخصوم فهو عام اختص بحق الله تعالى ونحوه بما يدل على التخصيص وقيل يجوز أن تكون من تبعيضية وفيه نظر
26 -
( باب الجهاد من الإيمان )
الكلام فيه على أنواع الأول قوله باب لا يستحق الإعراب إلا بتقدير هذا باب فيكون خبرا محذوف المبتدأ وقوله الجهاد مرفوع بالابتداء وخبره من الإيمان ولا يجوز فيه غير الرفع الثاني وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول هو قيام ليلة القدر ولا يحصل ذلك إلا بالمجاهدة التامة ومقاساة المشقة وترك الاختلاط بالأهل والعيال فكذلك المذكور في هذا الباب حال المجاهد الذي لا يحصل له الحظ من الجهاد ولا يسمى مجاهدا إلا بالمجاهدة التامة ومقاساة المشقة الزائدة وترك الأهل والعيال وكما أن القائم ليلة القدر يجتهد أن ينال رؤية تلك الليلة ويتحلى بها وإلا فيكتسب أجورا عظيمة فكذلك المجاهد يجتهد أن ينال درجة الشهداء ومنزلتهم وإلا فيرجع بغنيمة وافرة مع اكتساب اسم الغزاة فهذا هو وجه المناسبة وإن كان الترتيب الوضعي يقتضي أن يذكر باب تطوع قيام رمضان عقيب هذا الباب وباب صوم رمضان عقيب هذا وقال الكرماني فإن قلت هل لترتيب الكتاب وتوسيط الجهاد بين قيام ليلة القدر وقيام رمضان وصيامه مناسبة أم لا قلت مناسبته تامة وهي المشاركة في كون كل من المذكورات من أمور الإيمان وتوسيط الجهاد مشعر بأن النظر مقطوع عن غير هذه المناسبة قلت يريد بكلامه هذا أن المناسبة بين هذه الأبواب كلها هي اشتراكها في كونها من خصال الإيمان مع قطع النظر عن طلب المناسبة بين كل بابين من الأبواب وهذا كلام من يعجز عن إبداء وجه المناسبة الخاصة مع المناسبة العامة وما ينبغي أن يذكر ما ذكرته فافهم الثالث معنى قوله الجهاد من الإيمان الجهاد شعبة من شعب الإيمان وقال ابن بطال وعبد الواحد الشارحان هذا كالأبواب المتقدمة في أن الأعمال إيمان لأنه لما كان الإيمان هو المخرج له في سبيله كان الخروج إيمانا تسمية للشيء باسم سببه كما قيل للمطر سماء لنزوله من السماء وللنبات توأ لأنه ينشأ من النوء والجهاد القتال مع الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى
36 - حدثنا ( حرمي بن حفص ) قال حدثنا ( عبد الواحد ) قال حدثنا ( عمارة ) قال حدثنا ( أبو زرعة بن عمرو بن جرير ) قال سمعت ( أبا هريرة ) عن النبي قال انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل
مطابقة الحديث للترجمة أن المخرج للجهاد في سبيل الله تعالى لما كان هو كونه مؤمنا بالله ومصدقا برسله كان خروجه من الإيمان والجهاد هو الخروج في سبيل الله للقتال مع أعدائه وقد ثبت أن الخروج من الإيمان فينتج أن الجهاد من الإيمان

(1/228)


بيان رجاله وهم خمسة الأول حرمي اسم بلفظ النسبة ابن حفص بن عمر العتكي القسملي البصري روى عنه البخاري وانفرد به عن مسلم وروى أبو داود والنسائي عن رجل عنه مات سنة ثلاث وقيل ست وعشرين ومائتين الثاني أبو بشر عبد الواحد بن زياد العبدي البصري ويعرف بالثقفي قال يحيى وأبو حاتم وأبو زرعة ثقة وقال ابن سعد ثقة كثير الحديث مات سنة سبع وستين ومائة روى له البخاري ومسلم في طبقته عبد الواحد بن زيد البصري أيضا لكنه ضعيف ولم يخرج عنه في الصحيحين شيء الثالث عمارة بضم العين المهملة ابن القعقاع بن شبرمة ابن أخي عبد الله بن شبرمة الكوفي الضبي روى عنه الثوري والأعمش وغيرهما قال يحيى ثقة وقال أبو حاتم صالح الحديث روى له الجماعة الرابع أبو زرعة بضم الزاي واختلف في اسمه وأشهرها هرم وقيل عبد الرحمن وقيل عمرو وقيل عبيد الله بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي سمع جده وأبا هريرة وغيرهما قال يحيى ثقة روى له الجماعة الخامس أبو هريرة رضي الله عنه
بيان الأنساب العتكي بفتح العين المهملة والتاء المثناة من فوق في الأزد ينسب إلى العتيك بن الأسد بن عمران بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد وفي قضاعة عتيك بطن القسملي بفتح القاف وسكون السين المهملة وفتح الميم في الأزد ينسب إلى قسملة وهو معاوية بن عمرو بن دوس وقال ابن دريد قسملي في الأزد وهم القسامل سموا بذلك لجمالهم وقال الشيخ قطب الدين القسملي نسبة إلى القساملة قبيلة من الأزد نزلت البصرة فنسبت المحلة إليهم أيضا وهذا منسوب إلى القبيلة وفي شرح النووي على قطعة من البخاري أن القسملي بكسر القاف والميم وكأنه سبق قلم والصواب فتحهما والعبدي نسبة إلى عبد القيس بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار وفي قريش عبد بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر وفي تميم ينسب إلى عبد الله بن دارم وفي قضاعة إلى عبد الله بن الخيار
وفي همدان إلى عبد الله بن عليان والثقفي نسبة إلى ثقيف وهو قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان والضبي بفتح الضاد المعجمة وتشديد الباء الموحدة نسبة إلى ضبة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر وفي قريش ضبة بن الحارث ابن فهر وفي هذيل ضبة بن عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل والبجلي بفتح الباء الموحدة والجيم نسبة إلى بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة بن مالك بن مذحج
بيان لطائف إسناده منها وهو أعظمها أنه خال عن العنعنة وليس فيه إلا التحديث والسماع ومنها أن رواته ما بين بصري وكوفي ومنها أن فيهم إسما على صورة النسبة وربما يظنه من لا إلمام له بالحديث أنه نسبة
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه مسلم في الجهاد عن زهير عن جرير وعن أبي بكر وأبي كريب عن ابن فضيل عن عمارة به وفي لفظ مسلم يضمن الله وفي بعضها تكفل الله وفي رواية للبخاري توكل الله وأخرجه النسائي أيضا نحو رواية البخاري وفي أخرى له قال انتدب الله لمن يخرج في سبيله لا يخرجه إلا الإيمان بي والجهاد في سبيلي أنه ضامن حتى أدخله الجنة بأيهما كان إما بقتل أو وفادة أو أرده إلى مسكنه الذي يخرج منه نال ما نال من أجر أو غنيمة
بيان اللغات قوله انتدب الله بكسر الهمزة وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوق والدال المهملة وفي آخره باء موحدة من قولهم ندبه لأمر فانتدب له أي دعاه له فأجاب فكأن الله تعالى جعل جهاد العباد في سبيل الله سؤالا ودعاء له إياه وقال صاحب ( المطالع ) في فصل النون مع الدال قوله انتدب الله لمن جاهد في سبيله أي سارع بثوابه وحسن جزائه وقيل أجاب وقيل تكفل وقال ابن بطال أوجب وتفضل أي حقق واحكم أي ينجز ذلك لمن أخلص قلت كأنه يريد ما وعده بقوله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ( التوبة 111 ) الآية وذكره أيضا في ( المطالع ) في فصل الهمزة مع الدال من مادة أدب فقال قوله ائتدب الله لمن خرج في سبيله كذا للقابسي بهمزة ومعناه أجاب من دعاه من المأدبة يقال أدب القوم يأدبهم ويأدبهم أدبا إذا دعاهم وفي رواية أبي ذر انتدب بالنون وأهمله الأصيلي ولم يقيده ومعناه قريب من الأول كأنه أجاب رغبته يقال

(1/229)


ندبته فانتدب أي دعوته فأجاب ومنه في حديث الخندق فانتدب الزبير رضي الله عنه وذكره الصغاني أيضا في باب النون مع الدال وقال وأما قول النبي انتدب الله الحديث فمعناه أجابه إلى غفرانه وقال القاضي عياض رواه القابسي ائتدب بهمزة صورتها ياء من المأدبة يقال أدب القوم مخففا إذا دعاهم ومنه القرآن مأدبة الله في الأرض قلت قال الصغاني الأدب الدعاء إلى الطعام يقال أدبهم يأدبهم بكسر الدال واسم الطعام عن أبي زيد المأدبة والمأدبة يعني بفتح الدال وضمها ثم قال وأما المأدبة بالفتح في حديث ابن مسعود رضي الله عنه إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته فليست من الطعام في شيء وإنما هي مفعلة من الأدب بالتحريك انتهى وقال بعضهم ووقع في رواية الأصيلي هنا ايتدب بياء تحتانية مهموزة بدل النون من المأدبة وهو تصحيف وقد وجههوه بتكلف لكن إطلاق الرواة على خلافه قلت لم يقل أحد من الشراح ولامن رواة الكتاب إن هذا تصحيف ولا أطبقت الرواة على خلافه وقد رأيت ما قالت المشايخ فيه والدعوى بلا برهان لا تقبل قوله أن أرجعه بفتح الهمزة من رجع وقد جاء متعديا ولازما فمصدر الأول الرجع ومصدر الثاني الرجوع وههنا متعد نحو قوله تعالى فإن رجعك الله إلى طائفة ( التوبة 83 ) وفي ( العباب ) رجع بنفسه يرجع رجوعا ومرجعا ورجعي قال الله تعالى ثم إلى ربكم مرجعكم ( الأنعام 164 الزمر 7 ) وهو شاذ لأن المصادر من فعل يفعل إنما تكون بالفتح وقال الله تعالى إن إلى ربك الرجعى ( العلق 8 ) ورجعته عن الشيء وإلى الشيء رجعا رددته قال الله تعالى إنه على رجعه لقادر ( الطارق 8 ) أي على إعادته حيا بعد موته وبلاه لأنه المبدىء المعيد وقال تعالى يرجع بعضهم إلى بعض القول ( سبأ 31 ) أي يتلاومون قوله بما نال أي بما أصاب من النيل وهو العطاء قوله خلف سرية خلف ههنا بمعنى بعد والسرية هي قطعة من الجيش يقال خير السرايا أربع مائة رجل
بيان الإعراب قوله انتدب فعل ماض ولفظة الله فاعله وقوله لمن خرج يتعلق بانتدب ومن موصولة وخرج جملة صلتها وفي سبيله يتعلق به والضمير في سبيله يرجع إلى الله قوله لا يخرجه جملة من الفعل والمفعول وهو الضمير وموضعها نصب على الحال وقد علم أن المضارع إذا وقع حالا وكان منفيا يجوز فيه الواو وتركها نحو جاءني زيد لا يركب أو ولا يركب وقال الكرماني لا بد من التأويل وهو تقدير اسم فاعل من القول منصوب على الحال كأنه قال انتدب الله لمن خرج في سبيله قائلا لا يخرجه إلا إيمان بي قلت هذا ليس بسديد لأنه على تقديره يلزم أن يكون ذو الحال هو الله تعالى ويكون قوله لا يخرجه مقول القول وليس كذلك بل ذو الحال هو الضمير الذي في خرج وأيضا فيه حذف الحال وهو لا يجوز قوله إيمان مرفوع لأنه فاعل لا يخرجه والاستثناء مفرغ ووقع في رواية مسلم والإسماعيلي إلا إيمانا بالنصب وقال النووي منصوب على أنه مفعول له وتقديره لا يخرجه مخرج إلا الإيمان والتصديق قوله وتصديق برسلي وقال الكرماني أو تصديق وفي بعض النسخ وتصديق بالواو الواصلة وهو ظاهر قلت لم أقف على من ذكر هذا رواية ثم قال فإن قلت إذا كان بأو الفاصلة فما معناه إذ لا بد من الأمرين الإيمان بالله والتصديق برسل الله قلت أو ههنا لامتناع الخلو منهما مع إمكان الجمع بينهما أي لا يخلو عن أحدهما وقد يجتمعان بل يلزم الاجتماع لأن الإيمان بالله مستلزم لتصديق رسله إذ من جملة الإيمان بالله الإيمان بأحكامه وأفعاله وكذا التصديق بالرسل يستلزم الإيمان بالله وهو ظاهر قلت هذا الذي ذكره ليس مما يدل عليه أو لأن الاجتماع ههنا لازم و أو لا يدل على لزوم الاجتماع قوله أن أرجعه يتعلق بقوله انتدب وأن مصدرية وأصلها بأن أرجعه أي يرجعه والباء في بما نال يتعلق به وما موصولة و نال صلتها والعائد محذوف أي بما ناله قوله من للبيان قوله أو غنيمة أو ههنا لامتناع الخلو منهما مع إمكان الجمع بينهما أعني أن اللفظ لا ينفي اجتماعهما بل يثبت أحدهما مع جواز ثبوت الآخر فقد يجتمعان وقال القاضي عياض معناه أن أرجعه بما نال من أجر مجرد وإن لم يكن غنيمة أو أجر وغنيمة إذا كانت فاكتفى بذكر الأجر أولا عن تكراره أو أن أو ههنا بمعنى الواو كما جاء في مسلم من رواية يحيى بن يحيى وفي سنن أبي داود من أجر وغنيمة بغير ألف وقد قيل في قوله تعالى من بعد وصية يوصي بها أو دين ( النساء 11 و 12 ) معناه ودين وقيل من وصية ودين أو دين دون وصية قوله أو أدخله بالنصب عطفا على قوله أن أرجعه قوله لولا هي الامتناعية لا التحضيضية وأن مصدرية في محل الرفع

(1/230)


على الابتداء والتقدير لولا المشقة ويجوز أن يكون مرفوعا بفعل محذوف أي لولا ثبت أن أشق وقوله أشق منصوب به قوله ما قعدت جواب لولا وأصله لما قعدت فحذفت اللام منه وقوله خلف نصب على الظرفية وسبب المشقة صعوبة تخلفهم بعده ولا يقدرون على المسير معه لضيق حالهم ولا قدرة له على حملهم كما جاء مبينا في حديث آخر حيث قال فإنه يشق عليهم التخلف بعده ولا تطيب أنفسهم بذلك قوله ولوددت اللام للتأكيد وهو عطف على قوله ما قعدت ويجوز أن تكون اللام فيه جواب قسم محذوف أي والله لوددت أي أحببت قوله أن أقتل في محل النصب على المفعولية وأن مصدرية أي القتل والهمزة في المواضع الخمسة مضمومة قوله ثم أحيى أي ثم أن أحيى وكذلك التقدير في البواقي
بيان المعاني قوله إلا إيمان بي وتصديق برسلي يريد خلوص نيته لذلك وفيه التفات وهو العدول من الغيبة إلى ضمير المتكلم والسياق كان يقتضي أن يقول إلا إيمان به قوله أن أرجعه فيه حذف أي إلى مسكنه قوله بما نال فيه استعمال الماضي موضع المضارع لتحقق وعد الله تعالى قوله ثم أحيى كلمة ثم وإن كانت تدل على التراخي في الزمان ولكنها ههنا حملت على التراخي في الرتبة لأن المتمنى حصول مرتبة بعد مرتبة إلى أن ينتهي إلى الفردوس الأعلى
استنباط الأحكام فيه فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله وفيه تمني الشهادة وتعظيم أجرها وفيه تمني الخير والنية فوق ما لا يطيق الإنسان وما لا يمكنه إذا قدر له وهو أحد التأويلين في قوله نية المؤمن أبلغ من عمله وفيه بيان شدة شفقة رسول الله على أمته ورأفته بهم وفيه استحباب طلب القتل في سبيل الله وفيه جواز قول الإنسان وددت حصول كذا من الخير الذي يعلم أنه لا يحصل وفيه إذا تعارض مصلحتان بدىء بأهمهما وأنه يترك بعض المصالح لمصلحة أرجح منها أو لخوف مفسدة تزيد عليها وفيه إن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين وفيه السعي في زوال المكروه والمشقة عن المسلمين وفيه إن من خرج في قتال البغاة وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك يدخل في قوله في سبيل الله وإن كان ظاهره في قتال الكفار
الأسئلة والأجوبة منها ما قيل جميع المؤمنين يدخلهم الله تعالى الجنة فما وجه اختصاصهم بذلكوأجيب بأنه يحتمل أن يدخله بعد موته كما قال الله تعالى أحياء عند ربهم يرزقون ( آل عمران 169 ) ويحتمل أن يكون المراد الدخول عند دخول السابقين والمقربين بلا حساب ولا عذاب ولا مؤاخذة بذنوب وتكون الشهادة مكفرة لها كما روي من قوله عليه الصلاة و السلام القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين رواه مسلم ومنها ما قيل إن المجاهد له حالتان الشهادة والسلامة فالجنة للحالة الأولى والأجر والغنيمة للثانية ولفظه أو في قوله أو غنيمة تدل على أن للسالم إما الأجر وإما الغنيمة لا كلاهما وأجيب بأن معنى أو لامتناع الخلو عنهما مع إمكان الجمع بينهما ومنها ما قيل ههنا حالة ثالثة للسالم وهو الأجر بدون الغنيمة وأجيب بأن هذه الحالة داخلة تحت الحالة الثانية إذ هي أعم من الأجر فقط أو منه مع الغنيمة ومنها ما قيل الأجر ثابت للشهيد الداخل في الجنة فكيف يكون السالم والشهيد مقترنين في أن لأحدهما الأجر وللآخر الجنة مع أن الجنة أيضا أجر وأجيب بأن هذا أجر خاص والجنة أجر أعلى منه فهما متغايران أو أن القسمين هما الرجع والإدخال لا الأجر والجنة ومعنى الحديث إن الله تعالى ضمن أن الخارج للجهاد ينال خيرا بكل حال فإما أن يستشهد فيدخل الجنة وإما أن يرجع بأجر فقط وإما بأجر وغنيمة ومنها ما قيل بماذا هذا الضمان وأجيب بما سبق في علمه وما ذكره في كتابه بقوله إن الله اشترى ( التوبة 111 ) الآية ومنها ما قيل لا مشقة على الأمة في ودادة الرسول لأن غاية ما في الباب وجود المتابعة في الودادة وليس فيها مشقة وأجيب بأنا لا نسلم عدم المشقة ولئن سلمنا فربما ينجر إلى تشييع مودوده فيصير سببا للمشقة ومنها ما قيل إن الفرار إنما هو على حالة الحياة فلم جعل النهاية هي القتل وأجيب بأن المراد هو الشهادة فختم الحال عليها أو أن الإحياء للجزاء وهو معلوم شرعا فلا حاجة إلى ودادته لأنه ضروري الوقوع فافهم ومنها ما قيل إن القواعد تقتضي أن لا يتمنى المعصية أصلا لا لنفسه ولا لغيره فكيف تمناه لأن حاصله أنه تمنى أن يمكن فيه كافر فيعصى فيه وأجيب بأن المعصية ليست مقصودة بالتمني إنما المتمنى الحالة الرفيعة وهي الشهادة وتلك تحصل تبعا ومنها ما قيل إن قوله بما نال من أجر أو غنيمة يعارضه قوله عليه السلام في الصحيح ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا

(1/231)


قد تعجلوا ثلثي أجرهم وما من غازية أو سرية تخفق فتصاب إلا تم أجورهم والإخفاق أن تغزو ولا تغتنم شيئا ولا يصح أن ينقص الغنيمة من أجرهم كما لم تنقص أهل بدر وكانوا أفضل المجاهدين وأجيب بأجوبة الأول الطعن في هذا الحديث فإن في إسناده حميد بن هانيء وليس بالمشهور وفيه نظر لأنه أخرج له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وقال يحيى بن سعيد حدث عنه الأئمة وأحاديثه كثيرة مستقيمة الثاني إن الذي يخفق يزداد بالأجر والأسف على ما فاتها من المغنم ويضاعف لها كما يضاعف لمن أصيب بأهله وماله الثالث أن يحمل الأول على من أخلص في نيته لقوله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي ويحمل الحديث الثاني على من خرج بنية الجهاد والمغنم فهذا شرك بما يجوز فيه التشريك وانقسمت نيته بين الوجهين فنقص أجره والأول خاص فكمل أجره ونفى النووي التعارض لأن الغزاة إذا سلموا وغنموا تكون أجورهم أقل من أجر من لم يسلم أو سلم ولم يغنم وأن الغنيمة في مقابلة جزء من أجر غزوهم فإذا حصلت فقد تعجلوا ثلثي أجرهم وقال القاضي الحديث الذي فيه بما نال من أجر وغنيمة مطلق لأنه لم يقل فيه إن الغنيمة تنقص الأجر والحديث الثاني مقيد وأما استدلالهم بغزوة بدر فليس فيه أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم مع الغنيمة وكونهم مغفورا مرضيا عنهم لا يلزم منهم أن لا يكون فوقه مرتبة أخرى هي أفضل
27 -
( باب تطوع قيام رمضان من الإيمان )
أي هذا باب قوله تطوع مرفوع بالابتداء مضاف إلى ما بعده وخبره قوله من الإيمان وفي بعض النسخ باب تطوع قيام شهر رمضان والتطوع تفعل ومعناه التكلف بالطاعة والتطوع بالشيء التبرع به وفي الاصطلاح التنفل والمراد من القيام هو القيام بالطاعة في لياليه وقد ذكرنا وجه تخلل باب الجهاد من الإيمان بين هذا الباب وباب قيام ليلة القدر من الإيمان ورمضان في الأصل مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء ثم جعل هذا علما لهذا الشهر ومنع الصرف للتعريف والألف والنون ولما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر
37 - حدثنا ( إسماعيل ) قال حدثني ( مالك ) عن ( ابن شهاب ) عن ( حميد بن عبد الرحمن ) عن ( أبي هريرة ) أن رسول الله قال من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه
( راجع الحديث رقم 35 )
مطابقة الحديث للترجمة من حيث أن مباشرة العمل الذي فيه غفران ما تقدم من الذنوب شعبة من شعب الإيمان والتقدير في الباب باب تطوع قيام رمضان شعبة من شعب الإيمان
بيان رجاله وهم خمسة الأول إسماعيل بن أويس الأصبحي المدني ابن أخت شيخه الإمام مالك الثاني مالك بن أنس الثالث محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الرابع حميد بن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرة بالجنة أبو إبراهيم ويقال أبو عبد الرحمن ويقال أبو عثمان القرشي الزهري المدني وأمه أخت عثمان بن عفان أول المهاجرات من مكة إلى المدينة قلت اسمها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أخت عثمان لأمه أخرج له البخاري هنا وفي العلم وفي غير موضع عن الزهري وسعد بن إبراهيم وابن أبي مليكة عنه عن أبي هريرة وأبي سعيد وميمونة وأخرج له أيضا عن عثمان وسعيد بن زيد وغيرهما سمع جمعا من كبار الصحابة منهم أبواه وابن عباس وأبو هريرة وعنه الزهري وخلائق من التابعين وثقه أبو زرعة وغيره وكان كثير الحديث مات سنة خمس وتسعين بالمدينة عن ثلاث وسبعين سنة وقيل سنة خمس ومائة وهو غلط واعلم أن البخاري ومسلما قد أخرجا لحميد بن عبد الرحمن الحميري البصري التابعي الفقيه ولا يلتبس بهذا وإن روي هذا عن ابن عباس وأبي هريرة أيضا وغيرهما فاعلمه وما قلت من إخراج البخاري لهذا جزم به الكلاباذي في كتابه والمزي في ( تهذيبه ) وقال الشيخ قطب الدين في شرحه عن الحاكم والحميدي وصاحب الجمع وعبد الغني وغيرهم أنهم قالوا لم يخرج له شيئا ولم يخرج

(1/232)


مسلم في صحيحه عنه عن أبي هريرة رضي الله عنه غير حديث أفضل الصيام بعد رمضان الحديث فقط وما عداه فهو من رواية ابن عوف قال وقد غلطوا الكلاباذي في دعواه إخراج البخاري له ووهموه قال ومما يدل على ذلك أنه لم يذكره أبو مسعود الدمشقي من رواية البخاري ولما ذكر النووي في شرحه لمسلم حديثه عن أبي هريرة قال اعلم أن أبا هريرة يروي عنه اثنان كل منهما حميد بن عبد الرحمن أحدهما هذا الحميري والثاني الزهري قال الحميدي في جمعه كل ما في البخاري ومسلم حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة فهو الزهري إلا في هذا الحديث خاصة فإن راويه عن أبي هريرة الحميري وهذا الحديث لم يذكره البخاري في صحيحه قال ولا ذكر الحميري في البخاري أصلا ولا في مسلم إلا هذا الحديث قلت دعواه أن البخاري لم يذكره في صحيحه قد علمت ما فيه وقوله ولا في مسلم إلا هذا الحديث ليس بجيد فقد ذكره مسلم في ثلاثة أحاديث أحدها أول الكتاب حديث ابن عمر في القدر عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري قالا لقينا ابن عمر وذكر الحديث الثاني في الوصايا عن عمرو بن سعيد عن حميد الحميري عن ثلاثة من ولد سعد أن سعدا فذكره الثالث فيها عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة وعن رجل آخر هو في نفسي أفضل من عبد الرحمن بن أبي بكرة ثم ساقه من حديث قرة قال وسمى الرجل حميد بن عبد الرحمن عن أبي بكرة خطبنا رسول الله يوم النحر فقال أي يوم هذا الحديث
فائدة
روى مالك عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أن عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا يصليان المغرب في رمضان ثم يفطران ورواه يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن حميد قال رأيت عمر وعثمان فذكره قال الواقدي حميد لم يسمع من عمر رضي الله عنه ولا رآه وسنه وموته يدلان على ذلك ولعله سمع من عثمان رضي الله عنه لأنه كان خاله لأمه لأن أم مكتوم أخت عثمان وكان يدخل على عثمان كما يدخل ولده
الخامس أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد والعنعنة ومنها أن رواته كلهم مدنيون ومنها أنهم أئمة أجلاء
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الصيام وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والموطأ وآخرون
بيان الإعراب والمعاني قوله من مبتدأ وخبره قوله غفر له وهما الشرط والجزاء ومعنى من قام رمضان من قام بالطاعة في ليالي رمضان ويقال يريد صلاة التراويح وقال بعضهم لا يختص ذلك بصلاة التراويح بل في أي وقت صلى تطوعا حصل له ذلك الفضل واتفق العلماء على استحباب التراويح واختلفوا في الأفضل فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وابن عبد الحكم من أصحاب مالك أن حضورهما في الجماعة في المساجد أفضل كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم واستمر المسلمون عليه وقال مالك وأبو يوسف والطحاوي وبعض الشافعية وغيرهم الإفراد بها في البيوت أفضل لقوله أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة قوله إيمانا واحتسابا منصوبان على الحالية على تأويل مؤمنا ومحتسبا وقد مر الكلام فيه في باب قيام ليلة القدر من الإيمان أي مصدقا ومريدا به وجه الله تعالى بخلوص النية
استباط الأحكام الأول فيه حجة لمن جوز قول رمضان بغير إضافة شهر إليه وهو الصواب وسيجيء الكلام في بابه الثاني فيه الدلالة على غفران ما تقدم من الذنوب بقيام رمضان ودل الحديث الماضي على غفرانها بقيام ليلة القدر ولاتعارض بينهما فإن كل واحد منهما صالح للتكفير وقد يقتصر الشخص على قيام ليلة القدر بتوفيق الله له فيحصل ذلك الثالث ظاهر الحديث غفران الصغائر والكبائر وفضل الله واسع ولكن المشهور من مذاهب العلماء في هذا الحديث وشبهه كحديث غفران الخطايا بالوضوء وبصوم يوم عرفة ويوم عاشوراء ونحوه أن المراد غفران

(1/233)


الصغائر فقط كما في حديث الوضوء ما لم يؤت كبيرة ما اجتنبت الكبائر وقال النووي في التخصيص نظر لكن أجمعوا على أن الكبائر لا تسقط إلا بالتوبة أو بالحد فإن قيل قد ثبت في الصحيح هذا الحديث في قيام رمضان والآخر في صيامه والآخر في قيام ليلة القدر والآخر في صوم عرفة أنه كفارة سنتين وفي عاشوراء أنه كفارة سنة والآخر رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما والآخر إذا توضأ خرجت خطايا فيه إلى آخره والآخر مثل الصلوات الخمس كمثل نهر إلى آخره والآخر من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ونحو ذلك فكيف الجمع بينها أجيب إن المراد أن كل واحد من هذه الخصال صالحة لتكفير الصغائر فإن صادفها كفرتها وإن لم يصادفها فإن كان فاعلها سليما من الصغائر لكونه صغيرا غير مكلف أو موفقا لم يعمل صغيرة أو عملها وتاب أو فعلها وعقبها بحسنة أذهبتها كما قال تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات ( هود 114 ) فهذا يكتب له بها حسنات ويرفع له بها درجات وقال بعض العلماء ويرجى أن يخفف بعض الكبيرة أو الكبائر
28 -
( باب صوم رمضان احتسابا من الإيمان )
أي هذا باب قوله صوم رمضان كلام إضافي مرفوع بالابتداء وخبره قوله من الإيمان قوله احتسابا حال بمعنى محتسبا أو مفعول له أو تمييز وفيه نظر وإنما لم يقل إيمانا واحتسابا إما لأنه لما كان حسبة لله تعالى خالصا له لا يكون إلا للإيمان وإما لأنه اختصره بذكره إذ العادة الاختصار في التراجم والعناوين ووجه المناسبة بين البابين ظاهر
38 - حدثنا ( ابن سلام ) قال أخبرنا ( محمد بن فضيل ) قال حدثنا ( يحيى بن سعيد ) عن ( أبي سلمة ) عن ( أبي هريرة ) قال قال رسول الله من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه
( راجع الحديث رقم 35 )
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لا تخفى
بيان رجاله وهم خمسة الأول محمد بن سالم البيكندي والصحيح تخفيف لامه وقد مر ذكره الثاني محمد بن فضيل بضم الفاء وفتح المعجمة ابن غزوان بن جرير الضبي مولاهم الكوفي سمع السبيعي والأعمش وغيرهما من التابعين وعنه الثوري وأحمد وخلق من الأعيان قال أبو زرعة صدوق من أهل العلم مات سنة تسع وخمسين ومائة الثالث يحيى بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة الرابع أبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الخامس أبو هريرة
وقد مر الكلام في ألفاظه عن قريب ومعنى من صام رمضان أي في رمضان أي شهر رمضان فإن قيل هل يكفي أقل ما ينطلق عليه إسم الصوم حتى لو صام يوما واحدا دخل الجنة قلت إنه لا يقال في العرف صام رمضان إلا إذا صام كله والسياق ظاهر فيه فإن قيل المعذور كالمريض إذا ترك الصوم فيه ولو لم يكن مريضا لكان صائما وكان نيته الصوم لولا العذر هل يدخل تحت هذا الحكم الجواب نعم كما أن المريض إذا صلى قاعدا لعذر له ثواب صلاة القائم قاله العلماء فإن قيل كل من اللفظين وهما إيمانا واحتسابا يغني عن الآخر إذ المؤمن لا يكون إلا محتسبا والمحتسب لا يكون إلا مؤمنا فهل لغير التأكيد فيه فائدة أم لا الجواب المصدق لشيء ربما لا يفعله مخلصا بل للرياء ونحوه والمخلص في الفعل ربما لا يكون مصدقا بثوابه وبكونه طاعة مأمورا به سببا للمغفرة ونحوه أو الفائدة هو التأكيد ونعمت الفائدة
29 -
( باب الدين يسر )
الكلام فيه من وجوه الأول أن لفظة باب خبر مبتدأ محذوف مضاف إلى الجملة أعني قوله الدين يسر فإن قوله الدين مرفوع بالابتداء و يسر خبره الثاني وجه المناسبة بين البابين من حيث وجود معنى اليسر في صوم رمضان وذلك أن صوم رمضان يجوز تأخيره عن وقته للمسافر والمريض بخلاف الصلاة ويجوز تركه بالكلية في حق الشيخ الفاني مع إعطاء الفدية بخلاف الصلاة وهذا عين اليسر وأيضا فإنه شهر واحد في كل اثني عشر شهرا والصلاة في كل يوم

(1/234)


وليلة خمس مرات وهذا أيضا عين اليسر الثالث قوله يسر أي ذو يسر وذلك لأن الالتئام بين الموضوع والمحمول شرط وفي مثل هذا لا يكون إلا بالتأويل أو الدين يسر أي عينه على سبيل المبالغة فكأنه لشدة اليسر وكثرته نفس اليسر كما يقال أبو حنيفة فقه لكثرة فقهه كأنه صار عين الفقه ومنه رجل عدل واليسر بضم السين وسكونها نقيض العسر ومعناه التخفيف ثم كون هذا الدين يسرا يجوز أن يكون بالنسبة إلى ذاته ويجوز أن يكون بالنسبة إلى سائر الأديان وهو الظاهر لأن الله تعالى رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم كعدم جواز الصلاة في المسجد وعدم الطهارة بالتراب وقطع الثوب الذي يصيبه النجاسة وقبول التوبة بقتل أنفسهم ونحو ذلك فإن الله تعالى من لطفه وكرمه رفع هذا عن هذه الأمة رحمة لهم قال الله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج ( الحج 78 ) فإن قلت ما الألف واللام في الدين قلت للعهد وهو دين الإسلام وقال ابن بطال المراد أن إسم الدين واقع على الأعمال لقوله الدين يسر ثم بين جهة اليسر في الحديث بقوله سددوا وكلها أعمال واليسر اللين والانقياد فالدين الذي يوصف باليسر والشدة إنما هي الأعمال
وقول النبي أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة
ف قول مجرور لأنه معطوف على الذي أضيف إليه الباب فالمضاف إليه مجرور والمعطوف عليه كذلك والتقدير باب قول النبي وإنما استعمل هذا في الترجمة لوجهين أحدهما لكونها متقاصرة عن شرطه أخرجه ههنا معلقا ولم يسنده في هذا الكتاب وإنما أخرجه موصولا في كتاب الأدب المفرد والآخر لدلالة معناه على معنى الترجمة وأخرجه أحمدبن حنبل وغيره موصولا من طريق محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما وإسناده حسن وأخرجه الطبراني من حديث عثمان بن أبي عاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة بنحوه ومن حديث عفير بن معدان عن سليم بن عامر عنه وكذا أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده وطرق هذا عن سبعة من الصحابة رضي الله عنهم قوله أحب الدين كلام إضافي مبتدأ بمعنى المحبوبة لا بمعنى المحب وخبره قوله الحنيفية والمراد الملة الحنيفية فإن قيل التطابق بين المبتدأ والخبر شرط والمبتدأ ههنا مذكر والخبر مؤنث قلت كأن الحنيفية غلب عليها الإسمية حتى صارت علما أو أن أفعل التفضيل المضاف لقصد الزيادة على من أضيف إليه يجوز فيه الإفراد والمطابقة لمن هو له فإن قلت فيلزم أن تكون الملة دينا وأن تكون سائر الأديان أيضا محبوبا إلى الله تعالى وهما باطلان إذ المفهوم من الملة غير المفهوم من الدين وسائر الأديان منسوخة قلت قال الكرماني اللازم الأول قد يلتزم وأما الثاني فموقوف على تفسير المحبة أو المراد بالدين الطاعة أي أحب الطاعات هي السمحة قلت لا يخلو الألف واللام في الدين أن يكون للجنس أو للعهد فإن كان للجنس فالمعنى أحب الأديان إلى الله الحنيفية والمراد بالأديان الشرائع الماضية قبل أن تبدل وتنسخ وإن كان للعهد فالمعنى أحب الدين المعهود وهودين الإسلام ولكن التقدير أحب خصال الدين وخصال الدين كلها محبوبة ولكن ما كان منها سمحا سهلا فهو أحب إلى الله تعالى ويدل عليه ما رواه أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث أعرابي لم يسمع أنه سمع رسول الله يقول خير دينكم أيسره والمراد بالملة الحنيفية الملة الإبراهيمية عليه الصلاة و السلام مقتبسا من قوله تعالى ملة إبراهيم حنيفا ( البقرة 135 آل عمران 95 النساء 125 الأنعام 161 النحل 123 ) والحنيف عند العرب من كان على ملة إبراهيم عليه الصلاة و السلام ثم سموا من اختتن وحج البيت حنيفا والحنيف المائل عن الباطل إلى الحق وسمي إبراهيم عليه الصلاة و السلام حنيفا لأنه مال عن عبادة الأوثان قوله السمحة بالرفع صفة الحنيفية ومعناها السهلة والمسامحة هي المساهلة والملة السمحة التي لا حرج فيها ولا تضييق فيها على الناس وهي ملة الإسلام
39 - حدثنا ( عبد السلام بن مطهر ) قال حدثنا ( عمر بن علي ) عن ( معن بن محمد الغفاري ) عن ( سعيد بن أبي سعيد المقبري ) عن ( أبي هريرة ) عن النبي قال إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة

(1/235)


مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة وهي أنه أخذ جزء منه وبوب عليه وأما المناسبة بينه وبين الحديث المعلق فهي أن المذكور فيه المحبة فهي إما مجاز عن الاستحسان يعني أحسن الأديان هو الملة الحنيفية والحديث المسند دل على الحسن لأن فيه أوامر والمأمور به سواء كان واجبا أو مندوبا حسن وإما حقيقة عن إرادة إيصال الثواب إليه وذلك في المأمور به واجبا أو مندوبا إذ لا ثواب في غيره
بيان رجاله وهم خمسة الأول عبد السلام بن مطهر بصيغة المفعول من التطهير بالطاء المهملة بن حسام بن مصك بن ظالم بن شيطان الأزدي البصري وكنيته أبو ظفر بفتح الظاء المعجمة والفاء روى عن جمع من الأعلام منهم شعبة وروى عنه الأعلام منهم البخاري وأبو داود وأبو زرعة وأبو حاتم وسئل عنه فقال هو صدوق توفي سنة أربع وعشرين ومائتين الثاني عمر بن علي بن عطاء بن مقدم بفتح الدال المشددة أبو حفص المقدمي البصري والد عاصم ومحمد وهو أخو أبي بكر سمع جمعا من التابعين منهم هشام بن عروة وعنه خلق من الأعلام منهم ابنه عاصم وعمرو بن علي وكان مدلسا قال ابن سعد كان ثقة وكان يدلس تدليسا شديدا يقول سمعت وحدثنا ثم يسكت ثم يقول هشام بن عروة الأعمش وقال عفان كان رجلا صالحا ولم يكونوا ينقمون عليه غير التدليس ولم أكن أقبل منه حتى يقول حدثنا وقال البخاري قال ابنه عاصم مات سنة تسعين ومائة روى له الجماعة الثالث معن بفتح الميم وسكون العين المهملة ابن محمد بن معن بن نضلة الغفاري الحجازي سمع حميدا وعنه جمع منهم ابن جريج ذكره ابن حبان في ثقاته روى له الجماعة والترمذي والنسائي وابن ماجه الرابع سعيد بن أبي سعيد واسم أبي سعيد كيسان المقبري المدني أبو سعد بسكون العين روى عن جماعة من الصحابة قال أبو زرعة ثقة وقال أحمد لا بأس به وقال ابن سعد كان ثقة كثير الحديث ولكنه كبر وبقي حتى اختلط قبل موته وقدم الشام مرابطا وحدث ببيروت وقال غيره اختلط قبل موته بأربع سنين توفي سنة خمس وعشرين ومائة روى له الجماعة الخامس أبو هريرة رضي الله عنه
بيان الأنساب الأزدي نسبة إلى الأزد بن الغوث بن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان يقال له الأزد بالزاي و الأسد بالسين والمقدمي بضم الميم وفتح الدال نسبة إلى مقدم أحد الأجداد والغفاري بكسر الغين المعجمة نسبة إلى غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة والمقبري بفتح الميم وسكون القاف وضم الباء الموحدة وقيل بفتحها نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان مجاورا لها وقيل كان منزله عند المقابر وهو بمعنى الأول وقيل جعله عمر على حفر القبور فلذلك قيل له المقبري حكاه الحربي وغيره ويحتمل أنه اجتمع فيه ذلك كله فكان على حفرها ونازلا عندها والمقبري صفة لأبي سعيد والد سعيد المذكور وكان مكاتبا لامرأة من بني ليث بن بكر
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته ما بين مدني وبصري ومنها أن فيه رواية مدلس شديد بعن ولكنه محمول على ثبوت سماعه من جهة أخرى وكل ما كان في الصحيحين عن المدلسين بعن فمحمول على سماعهم من جهة أخرى
بيان نوع الحديث هو أمن أفراد البخاري عن مسلم فإن قلت قد قيل فيه علتان إحداهما أنه رواية مدلس بالعنعنة والأخرى أنه رواية معن عن سعيد وسعيد كان قد اختلط قلت الجواب عن الأول ما ذكرته الآن مع أنه صرح بالسماع من طريق أخرى فقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق أحمد بن المقدام أحد شيوخ البخاري عن عمرو بن علي المذكور قال سمعت معن بن محمد فذكره وهو من أفراد معن بن محمد وهو مدني ثقة قليل الحديث لكن تابعه على شقه الثاني ابن أبي ذئب عن سعيد أخرجه البخاري في كتاب الرقاق بمعناه ولفظه سددوا وقاربوا وزاد في آخره القصد القصد تبلغوا ولم يذكر شقه الأول وله شواهد منها حديث عروة الفقيمي بضم الفاء وفتح القاف عن النبي قال إن دين الله يسر رواه أحمد بإسناد حسن ومنها حديث بريدة أخرجه أحمد أيضا بإسناد حسن قال قال رسول الله عليكم هديا قاصدا فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه والجواب عن الثاني أن سماع معن عن سعيد كان قبل اختلاطه ولو لم يصح ذلك عند البخاري لما أودعه في كتابه الذي سماه ( صحيحا ) فافهم

(1/236)


بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرج البخاري طرفا منه في الرقاق عن آدم بن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رفعه لن ينجي أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد تبلغوا وأخرج النسائي أيضا مثل حديث هذا الباب
بيان اللغات قوله ولن يشاد الدين من المشادة وهي المغالبة من الشدة بالشين المعجمة ويقال شاده يشاده مشادة إذا غالبه وقاواه والمعنى لا يتعمق أحدكم في الدين فيترك الرفق إلا غلب الدين عليه وعجز ذلك المتعمق وانقطع عن عمله كله أو بعضه وأصل لن يشاد ويشادد أدغمت الدال الأولى في الثانية ومثل هذه الصيغة مشترك بين بناء الفاعل وبناء المفعول والفارق هو القرينة وههنا يحتمل الوجهين على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى قوله غلبه يقال غلبه يغلبه غلبا بفتح الغين وسكون اللام وغلبا بتحريكها وغلبة بإلحاق الهاء وغلابية مثال علانية وغلبة مثال حذقة وغلبي بضمتين مشددة الباء مقصورة ومغلبة وأما الغلب بضم الغين فهو جمع غلباء يقال حديقة غلباء وحدائق غلب أي غلاظ ممتلئة قوله فسددوا من التسديد بالسين المهملة وهو التوفيق للصواب وهو السداد والقصد من القول والعمل ورجل مسدد إذا كان يعمل بالصواب والقصد ويقال معنى سددوا الزموا السداد أي الصواب من غير تفريط ولا إفراط قوله وقاربوا بالباء الموحدة لا بالنون معناه لا تبلغوا النهاية بل تقربوا منها يقال رجل مقارب بكسر الراء وسط بين الطرفين وقال التيمي قاربوا إما أن يكون معناه قاربوا في العبادة ولا تباعدوا فيها فإنكم إن باعدتم في ذلك لم تبلغوه وإما أن يكون معناه ساعدوا يقال قاربت فلانا إذا ساعدته أي ليساعد بعضكم بعضا في الأمور ويقال معناه إن لم تستطيعوا الأخذ بالكل فاعملوا ما يقرب منه وفي ( العباب ) قارب فلان فلانا إذا ناغاه بكلام حسن وفي حديث النبي عليه الصلاة و السلام قال قاربوا وسددوا أي لا تغلوا واقصدوا السداد وهو الصواب وشيء مقارب بكسر الراء أي وسط بين الجيد والرديء ولا يقال مقارب يعني بالفتح وكذلك إذا كان رخيصا قوله وابشروا بقطع الهمزة من الإبشار أي أبشروا بالثواب على العمل وإن قل وجاء لغة ابشروا بضم الشين من البشرة بمعنى الإبشار قوله واستعينوا من الاستعانة وهو طلب العون قوله بالغدوة بضم الغين المعجمة وقال الكرماني بفتح الغين وتبعه على هذا بعض الشارحين والصحيح ما ذكرناه وهو سير أول النهار إلى الزوال وقال الجوهري الغدوة ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس والروحة بفتح الراء اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل وفي ( المحكم ) الغدوة البكرة وكذا الغداة وقال الجوهري يقال أتيته غدوة غير مصروفة لأنها معرفة مثل سحر إلا أنها من الظروف المتمكنة تقول سر على فرسك غدوة وغدوة وغدوة وغدوة فما نون من هذا فهو نكرة وما لم ينون فهو معرفة والجمع غدى ويقال أتيتك غداة غد والجمع غدوات انتهى وقال ابن الأعرابي غدية لغة في غدوة كضحية لغة في ضحوة والغدو جمع غدات نادر وغدا عليه غدوا وغدوانا واغتد أبكر وغاده باكره وغدوة من يوم بعينه غير منون علم للوقت وأما الرواح فذكر ابن سيده أنه العشي ورحنا رواحا وتروحنا سرنا من ذلك الوقت أو عملنا قوله من الدلجة بضم الدال وإسكان اللام كذا الرواية ويجوز في اللغة فتحها ويقال بفتح اللام أيضا وهي بالضم سير آخر الليل وبالفتح سير الليل وادلج بالتخفيف سير الليل كله وبالتشديد سير آخر الليل هذا هو الأكثر وقيل يقال فيهما بالتخفيف والتشديد وقال ابن سيده الدلجة سير السحر والدلجة سير الليل كله والدلج والدلجة الأخيرة عن ثعلب الساعة من آخر الليل وأدلجوا ساروا الليل كله وقيل الدلج الليل كله من أوله إلى آخره وأي ساعة سرت من الليل من أوله إلى آخره فقد أدلجت على مثال أخرجت والتفرقة بين أدلجت وأدلجت قول جميع أهل اللغة إلا الفارسي فإنه حكى أدلجت وأدلجت لغتان في المعنيين جميعا وفي الجامع الدلجة والدلجة لغتان بمعنى وهما سير السحر وقال قوم الدلجة سير السحر والدلجة بالفتح سير أول الليل كلاهما بمعنى عند أكثر العرب كما تقول مضت برهة من الدهر وبرهة وتقول أدلج الرجل يدلج إدلاجا إذا سار من أول الليل وأدلج إدلاجا سار من آخره وفي ( الجمهرة ) ساروا دلجة من الليل أي ساعة وفي ( المنتهى ) لأبي المعاني والاسم الدلج بالتحريك وجمع الدلجة دلج وغلط ابن درستويه ثعلبا في تخصيصه أدلج بالتشديد بسير أول الليل وادلج بالتخفيف بسير آخره قال وإنهما عندنا جميعا سير الليل في كل

(1/237)


وقت من أوله وأوسطه وآخره وهو إفعال وافتعال من الدلج والدلج سير الليل بمنزلة السرى وليس واحد من هذين المثالين بدليل على شيء من الأوقات ولو كان المثال دليلا على الوقت لكان قول القائل الاستدلاج بوزن الاستفعال دليلا لوقت آخر وكان الاندلاج على الانفعال لوقت آخر وهذا كله فاسد ولكن الأمثلة عند جميعهم موضوعة لاختلاف معاني الأفعال في أنفسها لا لاختلاف أوقاتها وأما وسط الليل وآخره وأوله وسحره وقبل النوم وبعده فمما لا يدل عليه الأفعال ولا مصادرها وقد وافق قول كثير من أهل اللغة في ذلك واحتجوا على اختصاص الإدلاج بسير آخره بقول الأعشى
وادلاج بعد المنام وتهجير
وقف وسبسب ورمال
وقول زهير بن أبي سلمى
بكرن بكورا وادلجن بسحرة
فهن لوادي الرأس كاليد للفم
فلما قال الأعشى وادلاج بعد المنام ظنوا أن الادلاج لا يكون إلا بعد المنام ولما قال زهير وادلجن بسحرة ظنوا أن الادلاج لا يكون إلا بسحرة وهذا وهم وغلط وإنما كل واحد من الشاعرين وصف ما فعله هو وخصمه دون ما فعله غيره ولولا أنه يكون بسحرة وبغير سحرة لما احتاج إلى ذكر سحرة لأنه إذا كان الادلاج بسحرة وبعد المنام فقد استغنى عن تقييده قال ومما يفسد تأويلهم أن العرب تسمي القنفذ مدلجا لأنه يدرج بالليل ويتردد فيه لا لأنه من حيث لا يدرج إلا في أول الليل أو في وسطه أو في آخره أو فيه كله لكنه يظهر بالليل في أي أوقاته احتاج إلى الدرج لطلب علف أو غير ذلك انتهى كلامه وفيه نظر من حيث إن أكثر اللغويين ذكروا الفرق بين اللفظين ولم ينشدوا البيتين فيحتمل أن ذلك سماع عندهم وهو الظاهر وإن كانوا أخذوه عن البيتين فما قاله ابن درستويه هو الصواب لأنه ليس فيهما دليل على ذلك وأما قوله إن الأفعال تختلف لاختلاف المعاني معناه أن الأفعال هل دخلت لمعنى واحد وهو تخصيص الحدث بزمان فقط أو دخلت لهذا ولغيره من المعاني فابن درستويه يزعم أنها ما دخلت إلا لهذا المعنى فقط وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان رحمه الله إن الإستاذ أبا علي الشلوبين وغيره خالفوه وقالوا الأفعال تختلف ابنيتها لاختلاف المعاني على الجملة فالمعاني التي تختلف لها الأبنية ليست بمقصورة على شيء من المعاني دون شيء فإذا لم تكن مقصورة على شيء دون شيء من المعاني فما الذي يمنع أن تكون الدلالة إذ ذاك على آخر الوقت أو أوله أو لوقت كله قلت الحديث يؤيد قول ابن درستويه وهو قوله عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل ولم يفرق عليه السلام بين أوله وآخره وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجعل الادلاج في السحر
اصبر على السير والإدلاج في السحر وفي الرواح على الحاجات والبكر
بيان الأعراب قوله إن الدين يسر مبتدأ وخبر دخلت عليها إن فنصبت المبتدأ قوله لن يشاد الدين كلمة لن حرف نفي ونصب واستقبال وقوله يشاد منصوب بها وليس له فاعل والدين مفعوله قال القاضي روي رفع الدين ونصبه وهو من الأحاديث التي سقط منها شيء يريد أنه سقط من هذا الحديث لفظ أحد في الرواية وقال صاحب ( المطالع ) ورواه ابن السكن بزيادة أحد وعلى هذا الدين منصوب وهو ظاهر وأما على رواية الجمهور فالرفع على ما لم يسم فاعله والنصب على إضمار الفاعل في يشاد للعلم به وقال صاحب ( المطالع ) والرفع هو رواية الأكثر وقال النووي الأكثر في ضبط بلادنا النصب والتوفيق بين كلاميهما بأن يحمل كلام ( المطالع ) على رواية المغاربة وكلام النووي على رواية المشارقة قلت وفي بعض الرواية عن الأصيلي بإظهار أحد لن يشاد الدين أحد إلا غلبه وكذا هو في رواية أبي نعيم وابن حبان والاسماعيلي وغيرهم قلت الأولى أن يرفع الدين على أنه مفعول ناب عن الفاعل فحينئد يكون يشاد على صيغة المجهول وقد قلنا إن هذه الصيغة يستوي فيها بناء المعلوم والمجهول لأن هذا من باب المفاعلة وعلامة بناء الفاعل فيه كسر ما قبل آخره وعلامة بناء المفعول فيه فتح ما قبل آخره وهذا لا يظهر في المدغم ولا يفرق بينهما إلا بالقرينة فافهم قوله فسددوا جملة من الفعل والفاعل وهو أنتم المضمر فيه ويمكن أن تكون الفاء جواب شرط محذوف أي إذا كان الأمر كذلك فسددوا

(1/238)


والجمل التي بعدها معطوفات عليها و الباء في بالغدوة للاستعانة والمعنى استعينوا على الأعمال بهذه الأوقات المنشطة للعمل قوله وشيء من الدلجة أي استعينوا بشيء أي ببعض من الدلجة وإنما قال وشيء من الدلجة ولم يقل والدلجة لمعنيين أحدهما التنبيه على الخفة لأن الدلجة تكون بالليل وعمل الليل أشق من عمل النهار والآخر أن الدلجة هو سير الليل كله عند البعض واستغراق الليل كله صعب فأشار بقوله وشيء إلى جزء يسير منه
بيان المعاني والبيان قوله إن الدين يسر فيه التأكيد بإن ردا على منكر يسر هذا الدين على تقدير كون المخاطب منكرا وإلا فعلى تقدير تنزيله منزلة المنكر وإلا فعلى تقدير المنكرين غير المخاطب وإلا فلكون القضية مما يهتم بها قوله ولن يشاد الدين فيه حذف الفاعل للعلم به قوله فسددوا فيه حذف أي في الأمور وكذلك في قوله وقاربوا أي في العبادة وكذلك في قوله وأبشروا أي بالثواب على العمل وابهم المبشر به للتنبيه على التعظيم والتفخيم وفيه استعارة الغدوة والروحة وشيء من الدلجة لأوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة وكأنه عليه السلام خاطب مسافرا يقطع طريقه إلى مقصده فنبهه على أوقات نشاطه التي ترك فيها عمله لأن هذه الأوقات أفضل أوقات المسافر والمسافر إذا سار الليل والنهار جميعا عجز وانقطع وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة وقال الخطابي معناه الأمر بالاقتصاد في العبادة أي لا تستوعبوا الأيام ولا الليالي كلها بها بل أخلطوا طرف الليل بطرف النهار وأجمعوا أنفسكم فيما بينهما لئلا ينقطع بكم
ومن فوائده الحض على الرفق في العمل لقوله عليه الصلاة و السلام اكلفوا من العمل ما تطيقون وقال الخطابي هذا أمر بالاقتصاد وترك الحمل على النفس لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائف من الطاعات في وقت دون وقت تيسيرا ورحمة ومنها التنبيه على أوقات النشاط لأن الغدو والرواح والإدلاج أفضل أوقات المسافر وأوقات نشاطه بل على الحقيقة الدنيا دار نقلة وطريق إلى الآخرة فنبه أمته أن يغتنموا أوقات فرصتهم وفراغهم
30 -
( باب الصلاة من الإيمان )
الكلام فيه على وجوه الاول إن قوله باب خبر مبتدأ محذوف أي هذا باب ويجوز فيه التنوين وتركه بإضافته إلى الجملة لان قوله الصلاة مرفوع بالابتداء وخبره قوله من الإيمان اي الصلاة شعبة من شعب الايمان الثاني وجه المناسبة بين البابين من حيث أن من جملة المذكور في حديث الباب الأول الاستعانة بالأوقات الثلاثة في إقامة الطاعات وافضل الطاعات البدنية التي تقام في هذه الاوقات الصلوات الخمس والأوقات الثلاثة هي الغدوة والروحة وشيء من الدلجة فوقت صلاة الصبح في الغدوة ووقت صلاة الظهر والعصر في الروحة ووقت العشاء في جزء الدلجة على قول من يقول من أهل اللغة ان الدلجة سير الليل كله ولما كان العبد مأمورا بالاستعانة بهذه الأوقات وكانت هي أوقات الصلوات الخمس أيضا وهي من الايمان ناسب ذكرها عقيب هذه الأوقات التي يتضمنها الباب الذي قبل هذا الباب على أن هذا الباب إنما ذكر بينه وبين هذا الباب استطرادا للوجه الذي ذكرناه هناك وفي الحقيقة يطلب وجه المناسبة بين هذا الباب وباب صوم رمضان احتسابا من الإيمان وهو ظاهر لأن كلا من الصلاة والصوم من أركان الدين العظيمة ومن العبادات البدنية الثالث كون الصلاة من الإيمان ظاهر ولا سيما على قول من يقول الاعمال من الإيمان وحديث ابن عمر رضي الله عنهما بني الاسلام على خمسالحديث
وقول الله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم يعني صلاتكم عند البيت
لفظة قول يجوز فيه الوجهان من الإعراب الجر عطفا على المضاف إليه اعني قوله الصلاة من الايمان فإنها جملة إضيف إليها الباب على تقدير ترك التنوين فيه كما ذكرنا والرفع عطفا على لفظة الصلاة ثم الكلام فيه على وجوه الأول هذه الآية من جملة الترجمة لأن الباب مترجم بترجمتين إحداهما قوله الصلاة من الإيمان والاخرى قوله

(1/239)


وقول اللهوما كان الله ليضيع ايمانكم والمناسبة بين الترجمتين ظاهرة لأن في الآية أطلق على الصلاة الإيمان على سبيل إطلاق الكل على الجزء وبين ذلك بقوله الصلاة من الايمان لأن كلمة من للتبعيض والمراد الصلاة من بعض الإيمان الثاني قال الواحدي في كتاب ( اسباب النزول ) قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الكلبي كان رجال من أصحاب رسول الله قد ماتوا على القبلة الأولى منهم سعد بن زرارة وابو امامة أحد بني النجار والبراء بن معرور أحد بني سلمة فجاءت عشائرهم في أناس منهم آخرين فقالوا يا رسول الله توفي إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى وقد صرفك الله تعالى إلى قبلة إبراهيم عليه الصلاة و السلام فكيف بإخواننا في ذلك فأنزل الله تعالى وما كان الله ليضيع ايمانكم ( البقرة 143 ) الآية الثالث قال ابن بطال هذه الآية حجة قاطعة على الجهمية والمرجئة حيث قالوا إن الأعمال والفرائض لا تسمى إيمانا وهو خلاف النص لأن الله سبحانه وتعالى سمى صلاتهم إلى بيت المقدس إيمانا ولا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في صلاتهم إلى بيت المقدس قلت لا يلزم من الاتفاق على نزولها في صلاتهم إلى بيت المقدس إطلاقها وقال ابن اسحق وغيره في قوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم ( البقرة 143 ) بالقبلة الأولى وتصديقكم نبيكم وإتباعكم إياه إلى القبلة الأخرى أي ليعطينكم أجرها جميعا وقال الزمخشرى في ( الكشاف ) وما كان الله ليضيع ايمانكم ( البقرة 143 ) اي ثباتكم على الإيمان وأنكم لم تزلوا ولم ترتابوا بل شكر صنيعكم وأعد لكم الثواب العظيم ويجوز أن يراد وما كان الله ليترك تحويلكم لعلمه أن تركه مفسدة وإضاعة لإيمانكم وقيل من صلى إلى بيت المقدس قبل التحويل فصلاته غير ضائعة انتهى قلت هذا ثلاثة اوجه الأول من قبيل إطلاق المعروض على العارض الثاني من قبيل الكناية لان التحويل ملزوم لإضاعة الإيمان الثالث من قبيل إطلاق الكل على الجزء ثم اللام في قوله ليضيع ( البقرة 143 ) لتأكيد النفي فإن قيل المقام يقتضي أن يقال إيمانهم بلفظ الغيبة اجيب بأن المقصود تعميم الحكم للأمة الاحياء والاموات فذكر الأحياء المخاطبين تغليبا لهم على غيرهم ولا يناسب وضع الآية في الترجمة إلا من الوجه الثالث وهو الذي أشار إليه البخاري بقوله يعني صلاتكم حيث فسر الإيمان بالصلاة وهكذا وقع هذا التفسير في رواية الطيالسي والنسائي من طريق شريك وغيره عن أبي اسحق عن البراء في الحديث الذي أخرجه البخاري ههنا فانزل الله تعالى وما كان الله ليضيع ايمانكم ( البقرة 143 ) اي صلاتكم إلى بيت المقدس الرابع قوله عند البيت أراد به الكعبة شرفها الله تعالى وقال النووى هذا مشكل لأن المراد صلاتكم إلى البيت المقدس وكان ينبغي أن يقول اي صلاتكم إلى بيت المقدس وهذا هو مراده فيتأول عليه كلامه وقال بعض الشارحين المراد إلى البيت يعني بيت المقدس او الكعبة لأن صلاتهم إليها إلى جهة بيت المقدس قلت إذا أطلق البيت يراد به الكعبة ولم يقل أحدإن البيت إذا اطلق يراد به القدس أو أحدهما بالشك وقال بعضهم قد قيل إن فيه تصحيفا والصواب يعني صلاتكم لغير البيت ثم قال وعندي أنه لا تصحيف فيه بل هو صواب
بيان ذلك أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان النبي يتوجه إليها للصلاة وهو بمكة فقال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره كان يصلي إلى بيت المقدس لكنه لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس وأطلق آخرون أنه كان يصلي إلى بيت المقدس وقال آخرون كان يصلي إلى الكعبة فلما تحول إلى المدينة استقبل بيت المقدس وهذا ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرتين والأول أصح لأنه يجمع بين القولين وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس فكأنه البخاري أراد الإشارة إلى الجزم بالأصح من أن الصلاة لما كانت عند البيت كانت إلى بيت المقدس واقتصر على ذلك اكتفاء بالاولويةلأن صلاتهم إلى غير جهة البين وهم عند البيت إذا كانت لا تضيع فأحرى ألا تضيع إذا بعدوا عنه قلت هذه اللفظة ثابتة في الأصول صحيحة ومعناها صحيح غير أنه اختصر في العبارة والتقدير يعني صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس عند البيت أي الكعبة فقوله عند البيت يتعلق بذلك المحذوف وقول هذا القائل واقتصر على ذلك اكتفاء بالأولوية ثم تطويله بقوله لأن صلاتهم إلى آخره كلام يحتاج إلى دعامة لأن دعواه أولا بقوله واقتصر على ذلك اكتفاء بالاولوية ثم تعليله بقوله لأن صلاتهم الى آخره لا تعلق له قط لبيان تصحيح قول البخاري عند البيت وتصحيحه بما ذكرناه ونقله عن بعضهم أن فيه تصحيفا ثم قوله وعندي أنه لا تصحيف فيه وإن كان كذلك في نفس الأمر لكن لو كان

(1/240)


عنده الوقوف على معنى التصحيف كان يقول أولا مثل هذا لا يسمى تصحيفا وإنما يقال مشكل كما قاله النووي أو نحو ذلك لان التصحيف هو أن يتصحف لفظ بلفظ وهذا ليس كذلك وقال الصغاني رحمه الله التصحيف الخطأ في الصحيفة يقولون تصحف عليه لفظ كذا فعرفت أن من لم يعرف معنى التصحيف كيف يجيب عنه بالتحريف
40 - حدثنا ( عمرو بن خالد ) قال حدثنا ( زهير ) قال حدثنا ( أبو إسحاق ) عن ( البراء ) أن النبى كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك
مطابقة الحديث للآية التي هي احدى الترجمتين ظاهرة ولكن لا تطابق لصدر الحديث الذي هو إحدى روايتي زهير عن أبي اسحاق لقول الصلاة من الايمان وقول النووي في الحديث فوائد منها ما ترجم له وهو كون الصلاة من الإيمان إشارة إلى آخر الحديث الذي هو الرواية الثانية لزهير عن أبي اسحاق
بيان رجاله وهم أربعة الأول ابو الحسن عمرو وبفتح العين وسكون الميم ابن خالد بن فروخ بن سعيد بن عبد الرحمن بن واقد ابن ليث بن واقد ابن عبد الله الحنظلي الجزري الحراني سكن مصر وروى عن الليث وأبي لهيعة وغيرهما وروى عنه البخاري وانفرد به وابو زرعة وغيرهما وروى ابن ماجه عن رجل عنه قال ابو حاتم صدوق وقال العجلي مصري ثبت ثقة مات بمصر سنة تسع وعشرين ومائتين ووقع في رواية القابسي عن عبدوس عن ابن زيد المروزي وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني عمر بن خالد بضم العين وفتح الميم وهو تصحيف نبه عليه ابو علي الغساني وغيره وليس في شيوخ البخاري من اسمه عمر بن خالد ولا في رجاله كلهم بل ولا رجال الكتب الستة ولهم عمرو بن خالد الواسطي المتروك أخرج له ابن ماجه وحده وعمرو بن خالد الكوفي منكر الحديث الثاني زهير بصيغة التصغير بن معاوية بن حديج بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وبالجيم بن الرحيل بضم الراء وفتح الحاء المهملة ابن زهير بن خيثمة بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الثاء المثلثة ويكنى بأبي خيثمة الجعفي الكوفي سكن الجزيرة سمع السبيعي وحميد الطويل وغيرهما من التابعين وخلقا من غيرهم وعنه يحيى القطان وجمع من الأئمة واتفقوا على جلالته وحسن لفظه واتقانه قال ابو زرعة هو ثقة إلا أنه سمع من ابى اسحاق بعد الاختلاط توفي سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين ومائة وكان قد فلج قبله بسنة ونصف أو نحوهما روى له الجماعة الثالث ابو اسحاق عمرو بن عبد الله بن علي وقيل عمرو بن عبد الله بن ذي يحمد الهمداني السبيعي الكوفي التابعي الجليل الكبير المتفق على جلالته وتوثيقه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان رضي الله عنه ورأى عليا واسامة والمغيرة رضي الله عنهم ولم يصح سماعه منهم وسمع ابن عباس وابن عمر وابن الزبير ومعاوية وخلقا من الصحابة وآخرين من التابعين وعنه التيمي وقتادة والأعمش وهم من التابعين والثوري وهو أثبت الناس فيه وخلق من الأئمة قال العجلي سمع ثمانية وثلاثين من الصحابة وقال ابن المديني روى عن سبعين أو ثمانين لم يرو عنهم غيره مات سنة ست وقيل سبع وقيل ثمان وقيل تسع وعشرين ومائة روى له الجماعة الرابع البراء بتخفيف الراء وبالمد على المشهور وقيل بالقصر وهو أبو عمارة بضم العين ويقال ابو عمرو ويقال ابو الطفيل بن عازب بن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن الحارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمر بن أوس الأنصاري الاوسي روي له عن رسول الله ثلاثمائة حديث وخمسة أحاديث

(1/241)


اتفقا منها على اثنين وعشرين وانفرد البخاري بخمسة عشر ومسلم بستة استصغر يوم أحد مع ابن عمر ثم شهد الخندق والمشاهد كلها وافتتح الري سنة أربع وعشرين صلحا او عنوة وشهد مع أبي موسى غزوة تستر وشهد مع علي رضي الله عنه مشاهده توفي أيام مصعب بن الزبير بالكوفة روى له الجماعة وأبوه عازب صحابي أيضا ذكره ابن سعد في ( طبقاته ) وليس في الصحابة عازب غيره ولا فيهم البراء بن عازب سوى ولده
بيان الأنساب الحنظلي نسبة إلى حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وفي جعفي أيضا حنظلة بطن وهو ابن كعب بن عوف بن حريم بن جعفي والجزري نسبة إلى الجزيرة ما بين الفرات ودجلة قيل لها الجزيرة لأنها مثل الجزيرة من جزائر البحر والحراني نسبة إلى حران مدينة في ديار بكر واليوم خراب والجعفي بضم الجيم نسبة الى جعفة بن سعد بن العشيرة بن مالك ومالك هو جماع مذحج والهمداني بفتح الهاء وسكون الميم وبالدال المهملة نسبة إلى همدان وهو اوسلة بن مالك بن زيد اوسلة بن ربيعة بن الخيار بالخاء المعجمة المكسورة ابن ملكان بكسر الميم ضبطه ابن حبيب وقيل مالك بن زيد بن كهلان والسبيعي بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة نسبة الى السبيع جد القبيلة وهو السبيع بن الصعب بن معاوية بن كبير بن حاشد بن جشم بن خيوان بن نوف بن همدان وأبعد من قال عرف ابو اسحاق بذلك لنزوله فيهم وأغرب المزي حيث ذكره في الألقاب
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها ان رواته أئمة أجلاء ومنها إنهم أربعة فقط فان قيل هذا معلول بعلتين الأولى ان زهيرا لم يسمع من أبي اسحاق إلا بعد الاختلاط قاله ابو زرعة وقال احمد ثبت بخ بخ لكن في حديثه عن أبي اسحاق لين سمع منه بآخرة الثانية ابو إسحاق مدلس ولم يصرح بالسماع قلت الجواب عن الأولى أنه لو لم يثبت سماع زهير منه قبل الاختلاط عن البخاري لما اودعه في صحيحه على أنه تابعه عليه عند البخاري إسرائيل بن يونس حفيده وغيره وعن الثانية ان البخاري روى في التفسير من طريق الثوري عن أبي اسحاق سمعت البراء فحصل الأمن من ذلك فافهم
بيان تعدد موضعه ومن اخرجه غيره أخرجه البخاري ههنا عن عمرو بن خالد وأخرجه أيضا في التفسير عن أبي نعيم وأخرجه ايضا في التفسير ومسلم أيضا في الصلاة عن محمد بن المثنى وأبي بكر بن خلاد والنسائي أيضا فيهما عن محمد بن بشار ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد عن الثوري عن ابى اسحاق عنه وأخرجه النسائي أيضا في الصلاة وفي التفسير عن محمد بن حاتم عن أبي نعيم عن حبان بن موسى عن عبد الله بن المبارك عن شريك بن عبد الله عن أبي إسحاق عنه وأخرجه الترمذي في الصلاة وفي التفسير عن هناد عن وكيع عن اسرائيل بن يونس عن جده أبي اسحاق عنه وقال حسن صحيح وأخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن عبد الله بن رجاء وفي خبر الواحد عن يحيى عن وكيع كلاهما عنه به وأخرجه النسائي أيضا في الصلاة وفي التفسير عن محمد بن اسماعيل عن ابراهيم عن إسحاق بن يوسف عن المازري عن زكريا بن أبي زائدة عن أبي اسحاق عنه
بيان اللغات قوله المدينة أراد بها مدينة الرسول واشتقاقها إما من مدن بالمكان إذا قام به على وزن فعيلة ويجمع على مدائن بالهمزة وإما من دان أي أطاع أو من دين أي ملك فعلى هذا يجمع على مداين بلا همز كمعايش ولهما اسماء كثيرة يثرب وطيبة بفتح الطاء وسكون الياء آخر الحروف وطابة والطيب إما لخلوصها من الشرك أو لطيبها لساكنيها لأمنهم ودعتهم وقيل لطيب عيشهم فيها وتسمى الدار أيضا للاستقرار بها قوله قبل بيت المقدس بكسر القاف وفتح الباء الموحدة اي نحو بيت المقدس وجهته والمقدس بفتح الميم وسكون القاف وكسر الدال مصدر ميمي كالمرجع أو اسم مكان من القدس وهو الطهر أي المكان الذي يطهر فيه العابد من الذنوب أو تطهر العبادة من الأصنام وجاء فيه ضم الميم وفتح القاف والدال المشددة وهو اسم مفعول من التقديس اي التطهير وقد جاء بصيغة إسم الفاعل ايضا لأنه يقدس العابد فيه من الآثام وفي ( العباب ) القدس والقدس مثال خلق وخلق إلطهر اسم مصدر ومنه حظيرة القدس وروح القدس جبريل عليه السلام قال الله تعالى وأيدناه بروح القدس ( البقرة 87 و 253 ) وقيل له روح القدس لأنه خلق من

(1/242)


الطهارة والقدس البيت المقدس قوله اشهد بالله قال الجوهرى أشهد بالله أي أحلف به
بيان الإعراب قوله كان أول ما قدم المدينة هذه الجملة خبر إن في محل الرفع و أول نصب على الظرف و ما مصدرية تقديره في أول قدومه المدينة عند الهجرة من مكة وقدم بكسر الدال مضارعة يقدم بالضم ومصدره قدوم وأما قدم بالفتح فمضارعه يقدم بالضم أيضا ومصدره قدوم بضم القاف قال تعالى يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ( هود 98 ) وأما قدم بالضم فمضارعه يقدم بالضم أيضا ومصدره قدم بكسر القاف وفتح الدال فهو قديم وانتصاب المدينة كانتصاب الدار في قولك دخلت الدار والظروف يتوسع فيها قوله نزل جملة في محل النصب على أنها خبر كان قوله من الأنصار كلمة من فيه بيانية قوله وأنه بفتح الهمزة عطف على قوله أن رسول الله قوله صلى جملة في محل الرفع على أنها خبر أن قوله قبل بيت المقدس نصب على الحال بمعنى متوجها إليه قوله وكان اي النبي قوله يعجبه خبر كان قوله أن يكون في محل الرفع على أنه فاعل يعجبه و أن مصدرية تقديره وكان يعجبه كون قبلته جهة البيت أي كان يحب ذلك قوله وأنه بفتح الهمزة أيضا عطف على أنه المذكورة قبلها قوله صلى جملة من الفعل والفاعل في محل الرفع على أنها خبر ان قوله أول صلاة كلام إضافي منصوب على أنه مفعول صلى قوله صلاها جملة في محل الجر على أنها صفة صلاة قوله صلاة العصر كلام إضافي منصوب على أنه بدل من قوله أول صلاة واعربه ابن مالك بالرفع قوله وصلى معه اي مع النبي و قوم مرفوع لأنه فاعل صلى وقد قلنا غير مرة إن لفظة قوم موضوعة للرجال دون النساء ولا واحد له من لفظه وربما دخلت النساء فيه على سبيل التبع قوله وهم راكعون جملة إسمية منصوبة المحل على الحال قوله فقال اي الرجل المذكور قوله أشهد بالله جملة وقعت معترضة بين قال وبين مقول القول وهو قوله لقد صليت اللام للتأكيد و قد للتحقيق قوله قبل مكة حال أي متوجها إليها قوله فداروا الفاء فيه تسمى الفاء الفصيحة أي سمعوا كلامه فداروا كما في قوله تعالى أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت ( الأعراف 160 ) اي فضرب فانفجرت والفاء الفصيحة هي التي تدل على محذوف هو سبب لما بعدها قوله كما هم قال الكرماني ما موصولة و هم مبتدأ وخبره محذوف ومثل هذه الكاف تسمى بكاف المقارنة أي دورانهم مقارن لحالهم وتبعه على هذا بعضهم مقلدا من غير تحرير قلت الكاف المفردة إما جارة أو غير جارة فالجارة حرف واسم والحرف له خمسة معان التشبيه نحو زيد كالاسد و التعليل أثبت ذلك قوم ونفاه الآخرون نحو كما أرسلنا فيكم ( البقرة 151 ) اي لأجل إرسالي فيكم و الاستعلاء ذكره الأخفش والكوفيون نحو كخير جوابا لقول من قال له كيف أصبحت أي على خير و المبادرة فيما اذا اتصلت بما نحو سلم كما تدخل وصل كما يدخل الوقت ذكره ابن الخباز وأبو سعيد السيرافي وهو غريب جدا و التوكيد وهي الزائدة نحو ليس كمثله شيء ( الشورى 11 ) التقدير ليس مثله شيء وأما اسم الجارة فهي مرادفة لمثل ولا تقع كذلك عند سيبويه والمحققين إلا في الضرورة نحو قوله ( يضحكن عن كالبرد المنهم )
واما الكاف غير الجارة فنوعان مضمر منصوب أو مجرور نحو ما ودعك ربك ( الضحى 3 ) فاذا عرفت هذا علمت أنه لم يقل أحد في أقسام الكاف كاف المقارنة والتحقيق في إعراب هذا الكلام أن نقول ان الكاف في كما هم يحتمل وجهين الاول أن تكون للاستعلاء كما في قولك كن كما انت أي على ما أنت عليه والتقدير ههنا ايضا فداروا على ما هم عليه ثم في إعرابه أوجه الأول أن تكون ما موصولة و هم مبتدأ وخبره محذوف وهو عليه الثاني أن تكون ما زائدة ملغاة و الكاف جارة و هم ضمير مرفوع انيب عن المجرور كما في قولك ما أنا كأنت والمعنى فداروا في الحال مماثلين لأنفسهم في الماضي الثالث أن تكون ما كافة و هم مبتدأ حذف خبره وهو عليه أو كائنون الرابع أن تكون ما كافة أيضا و هم فاعل والأصل كما كانوا ثم حذف كان فانفصل الضمير الوجه الثانى أن تكون الكاف كاف المبادرة كما ذكرنا الآن والمعنى فداروا متبادرين في حالهم التي هم فيها والوجه الأول هو الأحسن فافهم قوله قبل البيت حال أي مواجهين اليه قوله قد اعجبهم الضمير المرفوع المستتر في اعجب يرجع إلى رسول الله وهو فاعل أعجب و هم هو الضمير المنصوب وقع مفعولا قوله اذا كان أي النبي قال الكرماني وإذا كان بدل الاشتمال وإذ ههنا للزمان

(1/243)


المطلق أي اعجبهم زمان كان يصلي فيه رسول الله نحو بيت المقدس لأنه كان قبلتهم فإعجابهم لموافقة قبلة رسول الله قبلتهم قلت إذ ههنا ظرف بمعنى حين والمعنى اعجب اليهود حين كان يصلي عليه السلام قبل بيت المقدس و إذ إنما تقع بدلا عن المفعول كما في قوله تعالى واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت ( مريم 16 ) وههنا المفعول هو الضمير المنصوب في قوله اعجبهم ولا يصح أن يكون بدلا منه لفساد المعنى والضمير المستتر في اعجب ضمير الفاعل قوله قبل بيت المقدس حال اي متوجها إليه فان قلت ما الإضافة التي في بيت المقدس قلت إضافة الموصوف إلى صفته كصلاة الاولى ومسجد الجامع والمشهور فيه الإضافة وجاء أيضا على الصفة لبيت المقدس وقال ابو علي تقديره بيت مكان الطهارة قوله واهل الكتاب بالرفع عطف على قوله اليهود فهو من قبيل عطف العام على الخاص لأن أهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى وغيرهما ممن يعتقد بكتاب منزل وقال الكرماني او المراد به أي بأهل الكتاب النصارى فقط عطف خاص على خاص وقال بعضهم فيه نظر لأن النصارى لا يصلون لبيت المقدس فكيف يعجبهم قلت سبحان الله إن هذا عجب شديد كيف لم يتأمل هذا كلام الكرماني بتمامه حتى نظر فيه فإنه لما قال المراد به النصارى فقط قال وجعلوا تابعة لأنه لم تكن قبلتهم بل إعجابهم كان بالتبعية لليهود على نفس عبارة الحديث يشهد بإعجاب النصارى أيضا لان قوله واهل الكتاب إذا كان عطفا على اليهود يكونون داخلين فيما وصف به اليهود فالنصارى من جملة أهل الكتاب فهم أيضا داخلون فيه والأظهر أن يكون وأهل الكتاب بالنصب على أن الواو فيه بمعنى مع أي كان يصلي قبل بيت المقدس مع اهل الكتاب وهذا وجه صحيح ولكن يحتاج إلى تصحيح الرواية بالنصب وفي هذا الوجه أيضا يدخل فيهم النصارى لأنهم من أهل الكتاب قوله فلما ولى أي اقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجهه نحو القبلة أنكروا ذلك اي انكر أهل الكتاب توجهه إليها فعند ذلك نزل سيقول السفهاء من الناس ( البقرة 142 ) الآية وقد صرح البخاري بذلك في روايته من طريق إسرائيل
بيان المعاني قوله كان اول ما قدم المدينة كان قدومه عليه السلام إلى المدينة يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الاول حين اشتداد الضحاء وكادت الشمس تعتدل وعن ابن عباس رضي الله عنهما ان رسول الله خرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين فالظاهر أن بين خروجه من مكة ودخوله المدينة خمسة عشر يوما لانه أقام بغار ثور ثلاثة أيام ثم سلك طريق الساحل وهو أبعد من طريق الجادة قوله نزل على أجداده أو قال أخواله الشك من أبي اسحاق والمراد بالأجداد هم من جهة الأمومة وإطلاق الجد والخال هنا مجاز لأن هاشما جد أب رسول الله تزوج من الأنصار وقال موسى بن عقبة وابن اسحاق والواقدي وغيرهم أول ما نزل رسول على كلثوم بن الهدم بن امرىء القيس بن الحارث بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري وكان يجلس للناس في بيت سعد بن خيثمة فأقام النبي بقباء في بني عمرو بن عوف الإثنين والثلثاء والأربعاء والخميس واسس مسجدهم وقال ابن سعد يقال أقام فيهم أربع عشرة ليلة وجاء مبينا في البخاري في كتاب الصلاة من رواية أنس رضي الله عنه قال فنزل بأعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف فقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم خرج يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف في المسجد الذي في بطن الوادي وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة فقال ابن اسحاق فأتاه عتبان بن مالك في رجال من قومه فقالوا يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدد والمنعة فقال خلوا سبيلها فإنها مأمورة لناقته فخلوا سبيلها حتى إذا وازنت دار بني بياضة فتلقاه قوم فقالوا له مثل ذلك فقال لهم خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها حتى مر ببني ساعدة فقالوا له مثل ذلك فقال لهم مثل ما تقدم ثم دار ببني الحرث بن الخزرج فكذلك ثم دار بني عدي بن النجار وهم أخواله فإن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج وكان هاشم بن عبد المطلب قدم المدينة فتزوج سلمى وكانت شريفة لا تنكح الرجال حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها إذا كرهت رجلا فارقته فولدت لهاشم عبد المطلب فقالوا يا رسول الله هلم إلى اخوالك إلى العدد والعدد والمنعة فقال خلوا سبيلها فإنها مأمورة فخلوا سبيلها فانطلقت حتى إذا أتت دار بني

(1/244)


مالك بن النجار بركت على باب المسجد وهو يومئذ مربد فلما بركت ورسول الله عليه السلام عليها لم ينزل وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله عليه السلام واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت خلفها فرجعت إلى منزلها أول مرة فبركت ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله واحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه رحله فوضعه في بيته فنزل رسول الله فلم يزل عنده حتى بنى مسجده ومساكنه ثم انتقل إلى مساكنه من بيت أبي ايوب ويقال إن النبي أقام عند أبي أيوب سبعة أشهر وبعث وهو في بيت أبي أيوب زيدا وأبا رافع من مواليه فقدما بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه وسودة زوجته رضي الله عنهن قلت فعلى هذا إنما نزل النبي على كلثوم بن الهدم وهو أوسي من بني عمرو بن عوف وفي الثاني على أبي أيوب خالد بن زيد وليسا ولا واحد منهما من أخواله ولا أجداده وإنما أخواله وأجداده في بني عدي بن النجار وقد مر بهم ونزل على بني مالك أخي عدي فيجوز أن يكون ذكر ذلك تجوازا لعادة العرب في النسبة إلى الأخ أو لقرب ما بين داريهما وقال النووي أجداده أو أخواله شك من الراوي وهم أخواله وأجداده مجازا لأن هاشما تزوج في الأنصار قوله ثم تحلحلت يقال تحلحل الشيء عن مكانه أي زال وحلحلت الناقة اذا قلت بها حل وهو بالتسكين وهو زجر لها وهو بالحاء المهملة قوله ورزمت بتقديم الراء على الزاي المعجمة يقال رزمت الناقة ترزم وترزم رزوما ورزاما بالضم قامت من الإعياء والهزل ولم تتحرك فهي رازم قوله جرانها بكسر الجيم وجران البعير مقدم عنقه من مذبحه إلى منخره والجمع جرن بضمتين
قوله ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا كذا وقع الشك في رواية زهير ههنا وفي الصلاة أيضا عن أبي نعيم عنه وكذا في الترمذي عنه وفي رواية اسرائيل عند الترمذي أيضا ورواه أبو عوانة في صحيحه عن عمار بن رجاء وغيره عن أبي نعيم فقال ستة عشر من غير شك وكذا لمسلم من رواية أبي الاحوص والنسائي من رواية أبي زكريا بن أبي زائدة وشريك ولابي عوانة أيضا من رواية عمار بن رزيق بتقديم الراء المضمومة كلهم عن أبي اسحاق وكذا لأحمد بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف سبعة عشر وكذا للطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف سبعة عشر وكذا للطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما ونص النووي على صحة ستة عشر لإخراج مسلم إياها بالجزم فيتعين اعتمادها وقال الداودي إنه الصحيح قبل بدر بشهرين وهو قول ابن عباس والحربي لان بدرا كانت في رمضان في السنة الثانية ونص القاضي على صحة سبعة عشر وهو قول ابن اسحاق وابن المسيب ومالك بن أنس فان قلت كيف الجمع بين الروايتين قلت وجه الجمع أن من جزم بستة عشر أخذ من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا والغى الأيام الزائدة فيه ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا ومن شك تردد في ذلك وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف وكان التحويل في نصف رجب في السنة الثانية على الصحيح وبه جزم الجمهور ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس وجاءت فيه روايات أخرى ففي ( سنن أبي داود ) ثمانية عشر شهرا وكذا في ( سنن ابن ماجه ) من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي اسحاق وابو بكر سيء الحفظ وعند ابن جرير من طريقه في رواية سبعة عشر وفي رواية ستة عشر وخرجه بعضهم على قول محمد بن حبيب إن التحويل كان في نصف شعبان وهو الذي ذكره النووى في ( الروضة ) وأقره مع كونه رجح في شرحه رواية ستة عشر شهرا لكونها مجزوما بها عند مسلم ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان وقد جزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة وحكى المحب الطبري ثلاثة عشر شهرا وفي رواية أخرى سنتين وأغرب منهما تسعة أشهر وعشرة أشهر وهما شاذان وقال ابو حاتم بن حبان صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء لأن قدومه عليه السلام من مكة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول وحولت يوم الثلاثاء نصف شعبان وفي تفسير ابن الخطيب عن أنس أنها حولت بعد الهجرة بتسعة أشهر وهو غريب وعلى هذا القول يكون التحويل في ذي القعدة إن عد شهر الهجرة وهو ربيع الأول أو ذي الحجة إن لم يعد وهو أغرب وفي ابن ماجه إنها صرفت إلى الكعبة بعد دخوله المدينة بشهرين وقال ابراهيم بن اسحاق حولت في رجب وقيل في جمادى فحصلت في تعيين الشهر أقوال والله تعالى اعلم
قوله صلاة العصر كذا هو ههنا صلاة العصر وجاء أيضا من رواية البراء أخرجها البخاري في الصلاة وفيه فصلى مع النبي صلى الله تعالى عليه

(1/245)


وسلم رجل ثم خرج بعد ما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس فقال لهم فانحرفوا فقيد الأولى بالعصر في الحديث الأول واطلق الثانية وقيد في الحديث الثاني الثانية بالعصر وأطلق الاولى وجاء في البخاري في كتاب خبر الواحد تقييده الصلاتين بالعصر فقال من رواية البراء أيضا فوجه نحو الكعبة وصلى معه رجل العصر ثم خرج فمر على قوم من الأنصار فقال لهم هو يشهد أنه صلى مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم العصر وأنه قد وجه إلى الكعبة قال فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر وكذا جاء في الترمذى أيضا إن الصلاتين كانتا العصر ولم يذكر مسلم ولا النسائي في حديث البراء هذا تعيين صلاة العصر ولا غيرهما وجاء في البخاري والنسائي ومسلم أيضا في كتاب الصلاة من حديث مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذا جاءهم آت وفيه فكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة وكذلك أيضا جاء في مسلم من رواية ثابت عن انس كرواية ابن عمر أنها الصبح فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وطريق الجمع بين رواية العصر والصبح أن التي صلاها مع النبي العصر مر على قوم من الأنصار في تلك الصلاة وهي العصر فهذا من رواية البراء وأما رواية ابن عمر وأنس رضي الله عنهما أنها الصبح فهي صلاة أهل قباء ثاني يوم وعلى هذا يقع الجمع بين الأحاديث فالذي مر بهم ليسوا أهل قباء بل أهل مسجد بالمدينة ومر عليهم في صلاة العصر وأما أهل قباء فأتاهم في صلاة الصبح كما جاء مصرحا به في الروايات وقال الشيخ قطب الدين ومال بعض المتأخرين ممن أدركناهم إلى ترجيح رواية الصبح قال لأنها جاءت في رواية ابن عمر وأنس وأهملت في بعض الروايات حديث البراء وعينت بالعصر في بعض الطرق قال فتقدمت رواية الصبح لأنها من رواية صحابيين قلت الأول هو الصواب وقد قال النووي لأنه أمكن حمل الحديثين على الصحة فهو أولى من توهين رواية العدول المخرجة في الصحيح وممن بينه كما روى أبو داود مرسلا عن بكير بن الأشج أنه كان بالمدينة تسعة مساجد مع مسجد رسول الله يسمع أهلها آذان بلال رضي الله عنه على عهد رسول الله فيصلون في مساجدهم وأقربها مسجد بني عمرو بن مندول من بني النجار ومسجد بني ساعدة ومسجد بني عبيد ومسجد بني سلمة ومسجد بني زريق ومسجد عفان ومسجد سلم ومسجد جهينة وشك في تعيين التاسع
قوله فخرج رجل وهو عباد بن نهيك بفتح النون وكسر الهاء بن أساف الخطمي صلى الى القبلتين مع النبي عليه الصلاة و السلام ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة يوم صرفت قاله ابن عبد البر وقال ابن بشكوال هو عباد بن بشر الأشهلي ذكره الفاكهي في أخبار مكة عن خويلد بنت أسلم وكانت من المبايعات وفيه قول ثالث إنه عباد بن وهب رضي الله عنه قوله فمر على اهل مسجد هؤلاء ليسوا أهل قباء بل اهل مسجد بالمدينة وهو مسجد بني سلمة ويعرف بمسجد القبلتين ومر عليهم المار في صلاة العصر وأما أهل قباء فأتاهم الآتي في صلاة الصبح كما قررناه آنفا وقال الكرماني لفظ الكتاب يحتمل أن يكون المراد من مسجد هو مسجد قباء ومن لفظ هم راكعون أن يكونوا في صلاة الصبح اللهم إلا أن يقال الفاء التعقيبية لا تساعده قلت بالاحتمال لا يثبت الحكم والتحقيق فيه ما ذكرناه الآن قوله وهم راكعون يحتمل أن يراد به حقيقة الركوع وأن يراد به الصلاة من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل
بيان استنباط الاحكام وهو على وجوه الأول فيه دليل على صحة نسخ الأحكام وهو مجمع عليه إلا طائفة لا يعبأ بهم قلت النسخ جائز في جميع أحكام الشرع عقلا وواقع عند المسلمين أجمع شرعا خلافا لليهود لعنهم الله فعند بعضهم باطل نقلا وهو ما جاء في التوراة تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض فادعوا نقله تواترا ويدعون النقل عن موسى عليه السلام أنه قال لا نسخ لشريعته وعند بعضهم باطل عقلا والدليل على جوازه ووقوعه المعقول والمنقول اما النقل فلا شك أن نكاح الأخوات كان مشروعا في شريعة آدم عليه السلام وبه حصل التناسل وهذا لا ينكره أحد وقد ورد في التوراة أنه أمر آدم عليه السلام بتزويج بناته من بنيه ثم نسخ وكذا استرقاق الحر كان مباحا في عهد يوسف عليه السلام حتى نقل عنه أنه استرق جميع أهل مصر عام القحط بأن اشترى

(1/246)


انفسهم بالطعام ثم نسخ وكذلك العمل في السبت كان مباحا قبل شريعة موسى عليه السلام ثم نسخ بعدها بشريعته ودعواهم النص في التوراة على ما زعموا باطلة لأنه ثبت قطعا عندنا بأخبار الله تعالى أنهم حرفوا التوراة فلم يبق نقلهم حجة ولهذا قلنا لم يجز الإيمان بالتوراة التي في أيديهم حتى بالغ بعض الشافعية وجوزوا الاستنجاء بذلك بل إنما يجب الإيمان بالتوراة التي انزلت على موسى مع أن شرط التواتر لم يوجد في نقل التوراة إذا لم يبق من اليهود عدد التواتر في زمن بختنصر لأن أهل التواريخ اتفقوا على أنه لما استولى بخت نصر على بني اسرائيل قتل رجالهم وسبى ذراريهم وأحرق اسفار التوراة حتى لم يبق فيهم من يحفظ التوراة وزعموا أن الله الهم عزيرا عليه السلام حتى قرأه من صدره ولم يكن أحد قرأه حفظا لا قبله ولا بعده ولهذا قالوا بانه ابن الله وعبدوه ثم دفع عزير عند موته إلى تلميذ له ليقرأه على بني اسرائيل فأخذوا عن ذلك الواحد وبه لا يثبت التواتر وزعم بعضهم أنه زاد فيها شيئا وحذف شيئا فكيف يوثق بما هذا سبيله فثبت أن ما ادعوا من تأييد شريعة موسى عليه السلام افتراء عليه ويقال إن ما نقلوا عن موسى عليه السلام من قوله تمسكوا بالسبت الخ مختلق مفترى ويقال إن هذا مما اختلقه ابن الراوندي عليه مما يستحق
الثاني فيه الدليل على نسخ السنة بالقران وهو جائز عند الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة وللشافعي فيه قولان قال في إحدى قوليه لا يجوز كما لا يجوز عنده نسخ القرآن بالسنة قولا واحدا وقال عياض أجازه الأكثر عقلا وسمعا ومنعه بعضهم عقلا وأجازه بعضهم عقلا ومنعه سمعا قال الإمام فخر الدين الرازي قطع الشافعي وأكثر اصحابنا وأهل الظاهر وأحمد في إحدى روايتيه بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة وأجازه الجمهور ومالك وأبو حنيفة رضي الله عنهم وأستدل المجوزون على المسألة الأولى بأن التوجه نحو بيت المقدس لم يكن ثابتا بالكتاب وقد نسخ بقوله تعالى وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ( البقرة 144و 150 ) واجيب من جهة الشافعي بإنما هي نسخ قرآن بقرآن وأن الأمر كان أولا بتخبير المصلي أن يولي وجهه حيث شاء بقوله تعالى اينما تولوا فثم وجه الله ( البقرة 115 ) ثم نسخ باستقبال القبلة وأجاب بعضهم بأن قوله تعالى اقيموا الصلاة ( البقرة 43 83 110 ) مجمل فسر بأمور منها التوجه إلى بيت المقدس فيكون كالمأمور به لفظا في الكتاب فيكون التوجه إلى بيت المقدس بالقران بهذه الطريقة وباحتمال أن المنسوخ كان قرآنا نسخ لفظه وقال بعضهم النسخ كان بالسنة ونزل القرآن على وفقها ورد الأول والثاني بأنا لو جوزنا ذلك لافضى إلى أن لا يعلم ناسخ من منسوخ بعينه أصلا فإنهما يطردان في كل ناسخ ومنسوخ والثالث مجرد دعوى فلا تقبل قالوا قال الله تعالى لتبين للناس ما نزل اليهم ( النحل 44 ) وصفه بكونه مبنيا فلو جاز نسخ السنة بالقرآن لم يكن النبي مبينا واللازم باطل فالملزوم مثله أما الملازمة فلأنه إذا أثبت حكما ثم نسخه الله تعالى بقوله لم يتحقق التبيين منه لأن المنسوخ مرفوع لا مبين لأن النسخ رفع لا بيان وأما بطلان اللازم فلقوله لتبين للناس ما نزل اليهم ( النحل 44 ) حيث وصفه بكونه مبينا قلنا لا نسلم الملازمة لأن المراد بالتبيين البيان ولا نسلم أن النسخ ليس ببيان فإنه بيان لانتهاء أمر الحكم الأول ولئن سلمنا أن النسخ ليس ببيان وأن المراد منه بيان العام والمجمل والمنسوخ وغيرهما لكن نسلم أن الآية تدل على إمتناع كون القرآن ناسخا للسنة وقالوا لو جاز ذلك لزم تنفير الناس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعن طاعته لأنه يوهم أن الله تعالى لم يرض بما سنه الرسول عليه السلام واللازم باطل لأنه مناقض للبعثة فالملزوم كذلك قلنا الملازمة ممنوعة لأنه إذا علم أنه مبلغ فلا تنفير ولا تنفر لأن الكل من عند الله تعالى
الثالث فيه جواز النسخ بخبر الواحد قال القاضي وإليه مال القاضي ابو بكر وغيره من المحققين ووجهه أن العمل بخبر الواحد مقطوع به كما أن العمل بالقران والسنة المتواترة مقطوع به وأن الدليل الموجب لثبوته أولا غير الدليل الموجب لنفيه وثبوت غيره قلت إختاره الإمام الغزالي والباجي من المالكية وهو قول أهل الظاهر
الرابع قال المازري وغيره اختلفوا في النسخ إذا ورد متى يتحقق حكمه على المكلف ويحتج بهذا الحديث لاحد القولين وهو أنه لا يثبت حكمه حتى يبلغ المكلف لأنه ذكر أنهم تحولوا إلى القبلة وهم في الصلاة ولم يعيدوا ما مضى فهذا يدل على أن الحكم إنما يثبت بعد البلاغ وقال غيره فائدة الخلاف في هذه المسألة في أن ما فعل من العبادات بعد النسخ وقبل البلاغ هل يعاد ام لا ولا خلاف أنه لا يلزم حكمه قبل تبليغ جبريل عليه السلام وقال الطحاوي وفيه دليل على أن من لم يعلم بفرض الله ولم تبلغه الدعوة ولا أمكنه استعلام ذلك من غيره فالفرض غير

(1/247)


لازم والحجة غير قائمة عليه وقال القاضي قد اختلف العلماء فيمن أسلم في دار الحرب أو أطراف بلاد الاسلام حيث لا يجد من يستعلم الشرائع ولا علم أن الله تعالى فرض شيئا من الشرائع ثم علم بعد ذلك هل يلزمه قضاء ما مر عليه من صيام وصلاة لم يعملها فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى إلزامه وأنه قادر على الاستعلام والبحث والخروج إلى ذلك وذهب أبو حنيفة أن ذلك يلزمه إن أمكنه أن يستعلم فلم يستعلم وفرط وإن كان لا يحضره من يستعلمه فلا شيء عليه قال وكيف يكون ذلك فرض على من لم يفرضه
الخامس قال الإمام المازري بنوا على مسألة الفسخ مسألة الوكيل إذا تصرف بعد العزل ولم يعلم فعلى القول بأن حكم النسخ لازم حين الورود لا تمضي أفعاله وعلى الثاني هي ماضية قال القاضي ولم يختلف المذهب عندنا فيمن اعتق ولم يعلم بعتقه أن حكمه حكم الأحرار فيما بينه وبين الناس وأما فيما بينه وبين الله تعالى فجائز ولم يختلفوا في المعتقة أنها لا تعيد ما صلت بغير ستر وإنما اختلفوا فيمن هو فيها بناء على هذه المسألة وفعل الأنصاري في الصلاة كالأمة تعلم بالعتق في أثناء صلاتها قلت ومذهب الشافعي فيمن أعتقت ولم تعلم حتى فرغت من الصلاة وكانت قادرة على الستر هل تجب الإعادة عليها فيه قولان للشافعي كمن صلى بالنجاسة ناسيا عنده وإن اعتقت في أثنائها وعلمت بالعتق فإن عجزت مضت في صلاتها وإن كانت قادرة على الستر وسترت قريبا صح وإن مضت مدة في التكشف قطعت واستأنفت على الأصح من المذهب
السادس فيه دليل على قبول خبر الواحد مع غيره من الاحاديث وعادة الصحابة رضي الله عنهم قبول ذلك وهو مجمع عليه من السلف معلوم بالتواتر من عادة النبي في توجيهه ولاته ورسله آحادا إلى الآفاق ليعلموا الناس دينهم ويبلغوهم سنة رسولهم
السابع فيه دليل على جواز الاجتهاد في القبلة ومراعاة السمت ليلهم إلى جهة الكعبة لأول وهلة في الصلاة قبل قطعهم على موضع عينها
الثامن فيه جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين وهو الصحيح عند أصحاب الشافعي فمن صلى إلى جهة باجتهاد ثم تغير اجتهاده في أثنائها فيستدير إلى الجهة الاخرى حتى لو تغير اجتهاده أربع مرات في صلاة واحدة فتصح صلاتهم على الأصح في مذهب الشافعي
التاسع فيه جواز الاجتهاد بحضرة النبي عليه السلام وفيه خلاف لأنه كان يمكنهم أن يقطعوا الصلاة وأن يبنوا فرجحوا البناء وهو محل الاجتهاد
العاشر فيه وجوب الصلاة إلى القبلة والإجماع على أنها الكعبة شرفها الله تعالى
الحادي عشر يحتج به على أن من صلى بالاجتهاد إلى غير القبلة ثم تبين له الخطأ لا يلزم الإعادة لأنه فعل ما عليه في ظنه مع مخالفة الحكم ونفس الأمر كما أن أهل قباء فعلوا ما وجب عليهم عند ظنهم بقباء الأمر فلم يؤمروا بالإعادة
الثاني عشر فيه استحباب إكرام القادم أقاربه بالنزول عليهم دون غيرهم
الثالث عشر أن محبة الإنسان الانتقال من طاعة إلى أكمل منها ليس قادحا في الرضى بل هو محبوب
الرابع عشر فيه تمني تغيير نفس الأحكام إذا ظهرت المصلحة
الخامس عشر فيه الدلالة على شرف النبي عليه الصلاة و السلام وكرامته على ربه حيث يعطي له ما يحبه من غير سؤال
السادس عشر فيه بيان ما كان من الصحابة في الحرص على دينهم والشفقة على إخوانهم
قال زهير حدثنا أبو إسحاق عن البراء فى حديثه هذا أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم
قال الكرماني يحتمل ان البخاري ذكره على سبيل التعليق منه ويحتمل أن يكون داخلا تحت حديثه السابق سيما لو جوزنا العطف بتقدير حرف العطف كما هو مذهب بعض النحاة وقال بعضهم ووهم من قال إنه معلق وقد ساقه المصنف في التفسير مع جملة الحديث عن أبي نعيم عن زهير سياقا واحدا قلت أما الكرماني فإنه جوز أن يكون هذا مسندا بتقدير حرف العطف وحرف العطف لا يجوز حذفه في الاختيار وهو المذهب الصحيح وأما القائل المذكور فإنه جزم بأنه مسند ههنا لأن قوله ووهم من قال إنه معلق يدل على هذا بل هذا وهم لأن صورته صورة التعليق بلا شك وليس ما بينه وبين ما قبله ما يشركه إياه ولا يلزم من سوقه في التفسير جملة واحدة سياقا واحدا أن يكون هذا موصولا غير معلق وهذا ظاهر لا يخفى وما رواه زهير بن معاوية هذا في حديث البراء رضي الله تعالى عنه أخرجه أبو داود والترمذي من حديث ابن عباس رضي

(1/248)


الله عنهما قال لما وجه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى وما كان الله ليضيع ايمانكم ( البقرة 143 ) وكذا أخرجه ابن حبان في ( صحيحه ) والحاكم في ( مستدركه ) قوله إنهأي إن الشأن قوله مات فعل وفاعله قوله رجال وقوله على القبلة قبل أن تحول معترض بينهما وأراد بالقبلة بيت المقدس وهي القبلة المنسوخة و أن مصدرية والتقدير قبل التحويل إلى الكعبة والذين ماتوا على القبلة المنسوخة قبل تحويلها إلى الكعبة عشرة أنفس ثمانية منهم من قريش وهم عبد الله بن شهاب الزهري والمطلب بن أزهر الزهري والسكران بن عمر والعامري ماتوا بمكة وحطاب بالمهملة ابن الحارث الجمحي وعمرو بن أمية الأسدي وعبد الله بن الحارث السهمي وعروة بن عبد العزى العدوي وعدي بن نضلة العدوي واثنان من الأنصار وهما البراء بن معرور بالمهملات وأسعد بن زرارة ماتا بالمدينة فهؤلاء العشرة متفق عليهم ومات أيضا قبل التحويل اياس بن معاذ الأشهلي لكنه مختلف في إسلامه قوله وقتلوا على صيغة المجهول عطف على قوله مات رجال فإن قلت كيف يتصور إطلاق القتل على الميت لأن الذي يموت حتف أنفه لا يسمى مقتولا قلت قال الكرماني يحتمل أن يكون المقتولون نفس المائتين وفائدة ذكر القتل بيان كيفية موتهم إشعارا بشرفهم واستبعادا لضياع طاعتهم وأن العقل قرينة لكون الواو بمعنى أو قلت كلامه يشعر بقتل رجال قبل تحويل القبلة وهذا ليس بشيء لأنه لم يعرف قط في الأخبار أن الواحد من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة على أن هذه اللفظة اعني قوله وقتلوا لا توجد غير رواية زهير بن معاوية وفي باقي الروايات كلها ذكر الموت فقط فيحتمل أن تكون هذه غير محفوظة وقال بعضهم فإن كانت هذه محفوظة فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير الجهاد ولم يضبط اسمه لقلة الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك ثم وجدت في المغازي ذكر رجل اختلف في إسلامه وهو سويد بن الصامت فقد ذكر ابن اسحق أنه لقي النبي قبل أن يلقاه الأنصار في العقبة فعرض عليه الإسلام فقال إن هذا القول حسن وأتى المدينة فقتل بها في وقعة بعاث وكانت قبل الهجرة قال فكان قومه يقولون لقد قتل وهو مسلم فيحتمل أن يكون هو المراد قلت فيه نظر من وجوه الأول أن هذا حكم بالاحتمال فلا يصح الثاني قوله لقلة الاعتتاء بالتاريخ إذ ذاك ليس كذلك فكيف اعتنوا بضبط أسماء العشرة الميتين ولم يعتنوا بضبط الذين قتلوا بل الاعتناء بالمقتولين أولى لأن لهم مزية على غيرهم والثالث أن الذي وجده في المغازي لا يصلح دليلا لتصحيح اللفظة المذكورة من وجهين احدهما أن هذا الرجل لم يتفق على إسلامه والآخر أن هذا واحد وقوله وقتلوا صيغة جمع تدل على أن المقتولين جماعة وأقلها ثلاثة أنفس والرابع من وجوه النظر أن وقعة بعاث كانت بين الاوس والخزرج في الجاهلية ولم يكن في ذلك الوقت اسلام فكيف يستدل بقتل الرجل المذكور في وقعة بعاث على أن قتله كان فى وقت كون القبلة هو بيت المقدس وهذا ليس بصحيح وقال الصغاني بعاث بالضم على ليلتين من المدينة ويوم بعاث يوم كان بين الأوس والخزرج في الجاهلية ووقع في كتاب العين بالغين المعجمة والصواب بالعين المهملة لا غير ذكره في فصل الثاء المثلثة من كتاب الباء الموحدة قوله فلم يدر أي فلم يعلم رسول الله ان طاعتهم ضائعة ام لا فأنزل الله الآية
31 -
( باب حسن إسلام المرء )
اي هذا باب في بيان حسن إسلام المرء والباب هنا مضاف قطعا وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول أن الصلاة من الإيمان وهذا الباب فيه حسن إسلام المرء ولا يحسن إسلام المرء إلا بإقامة الصلاة وقال بعضهم في فوائد حديث الباب السابق وفيه بيان ما كان في الصحابة من الحرص على دينهم والشفقة على أخوانهم وقد وقع لهم نظير هذه المسألة لما نزل تحريم الخمر كما صح من حديث البراء ايضا فنزلت ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إلى قوله والله يحب المحسنين ( المائدة 93 ) وقوله تعالى انا لا نضيع أجر من احسن عملا ( الكهف 30 ) ولملاحظة هذا المعنى عقب المصنف هذا الباب بقوله باب حسن إسلام المرء فانظر إلى هذا هل ترى له تناسبا لوجه المناسبة بين البابين وقال بعض الشارحين ومناسبة التبويب زيادة الحسن على الإسلام واختلاف أحواله بالنسبة إلى الأعمال قلت هذا أيضا قريب من الأول

(1/249)


41 - قال ( مالك أخبرنى زيد بن أسلم ) أن ( أبا سعيد الخدرى ) أخبره أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) يقول إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها وكان يعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لا تخفى
بيان رجاله وهم أربعة الأول مالك بن أنس رحمه الله الثاني زيد بن أسلم ابو اسامة القرشي المكي مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثالث عطاء بن يسار بفتح الياء آخر الحروف والسين المهملة أبو محمد المدني مولى ميمونة أم المؤمنين الرابع ابو سعيد سعد بن مالك الخدري وقد مر ذكرهم
بيان لطائف اسناده منها أن رواته أئمة أجلاء مشهورون ومنها أنه مسلسل بلفظ الإخبار على سبيل الانفراد وهو القراءة على الشيخ إذا كان القارىء وحده وهذا عند من فرق بين الإخبار والتحديث وبين أن يكون معه غيره أولا يكون ومنها أن فيه التصريح بسماع الصحابي من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يدفع احتمال سماعه من صحابي آخر فافهم
بيان حكم الحديث ذكره البخاري معلقا ولم يوصله في موضع في الكتاب والبخاري لم يدرك زمن مالك فيكون تعليقا ولكنه بلفظ جازم فهو صحيح ولا قدح فيه وقال ابن حزم إنه قادح في الصحة لأنه منقطع وليس كما قال لأنه موصول من جهات أخر صحيحة ولم يذكره لشهرته وكيف وقد عرف من شرطه وعادته أنه لا يجزم إلا بتثبت وثبوت وليس كل منقطع يقدح فيه فهذا وإن كان يطلق عليه أنه منقطع بحسب الاصطلاح إلا أنه في حكم المتصل في كونه صحيحا وقد وصله أبو ذر الهروي في بعض النسخ فقال أخبرنا النضروي وهو العباس بن الفضل ثنا الحسين بن إدريس ثنا هشام بن خالد ثنا الوليد بن مسلم عن مالك به وكذا وصله النسائي عن أحمد بن المعلى بن يزيد عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن مالك بن زيد بن أسلم به وقد وصله الإسماعيلي بزيادة فيه فقال أخبرني الحسن بن سفيان ثنا حميد بن قتيبة الأسدي قال قرأت على عبد الله بن نافع الصانع أن مالكا اخبره قال واخبرني عبد الله بن محمد بن مسلم أن أبا يونس بن عبد الأعلى حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير ثنا عبد الله بن وهب أبا مالك ابن انس واللفظ لابن نافع عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري ان رسول الله قال أذا اسلم العبد كتب الله له كل حسنة قدمها ومحى عنه كل سيئة زلفها ثم قيل له أيتنف العمل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة والسيئة بمثلها إلا أن يغفر الله وكذا أوصله الحسن بن سفيان من طريق عبد الله بن نافع والبزار من طريق إسحاق الفروي والبيهقي في ( الشعب ) من طريق اسماعيل بن أبي أويس كلهم عن مالك وقال الدارقطني في كتاب ( غرائب مالك ) اتفق هؤلاء التسعة ابن وهب والوليد بن مسلم وطلحة بن يحيى وزيد بن شعيب واسحاق الفروي وسعيد الزبيري وعبد الله بن نافع وابراهيم بن المختار وعبد العزيز بن يحيى فرووه عن مالك عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد وخالفهم معن بن عيسى فرواه عن مالك عن زيد عن عطاء عن أبي هريرة وهي رواية شاذة ورواه سفيان بن عيينة عن زيد بن اسلم عن عطاء مرسلا وقد حفظ مالك الوصل فيه وهو اتقن لحديث أهل المدينة من غيره وقال الخطيب هو حديث ثابت وذكر البزار أن مالكا تفرد بوصله وقال ابن بطال حديث أبي سعيد أسقط البخاري بعضه وهو حديث مشهور من رواية مالك في غير الموطأ ونصه إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله له لكل حسنة كان زلفها ومحى عنه كل سيئة كان زلفها وذكر باقيه بمعناه
بيان اللغات قوله فحسن إسلامه معنى حسن الإسلام الدخول فيه بالظاهر والباطن جميعا يقال في عرف الشرع حسن إسلام فلان إذا دخل فيه حقيقة وقال ابن بطال معناه ما جاء في حديث جبريل عليه السلام الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه فاراد مبالغة الإخلاص لله سبحانه وتعالى بالطاعة والمراقبة له قوله يكفر الله من التكفير وهو التغطية في المعاصي كالإحباط في الطاعات وقال الزمخشري التكفير إماطة العقاب من المستحق بثواب

(1/250)


أزيد او بتوبة قوله كان زلفها أي قربها وقال ابن سيده زلف الشيء وزلفه قدمه وعن ابن الأعرابي ازلف الشيء قربه وفي ( الجامع ) الزلفة تكون القربة من الخير والشر وفي ( الصحاح ) الزلف التقديم عن أبي عبيد وتزلفوا وازدلفوا أي تقدموا وقال الكرماني زلفها بتشديد اللام والفاء أي أسلفها وقدمها يقال زلفته تزليفا وأزلفته إزلافا بمعنى التقديم وأصل الزلفة القربة وفي بعض نسخ المغاربة زلفها بتخفيف اللام قلت أزلفها بزيادة الألف رواية أبي ذر ورواية غيره زلفها بدون الالف وبالتخفيف وقال النووي بالتشديد ورواه الدارقطني من طريق طلحة بن يحيى عن مالك بلفظ ما من عبد يسلم فيحسن إسلامه إلا كتب الله كل حسنة زلفها ومحى عنه كل خطيئة زلفها بالتخفيف فيهما وللنسائي نحوه لكن قال ازلفها وزلف بالتشديد وأزلف بمعنى واحد قال الخطابي وفي ( المحكم ) أزلف الشيء قربه وزلفه مخففا ومثقلا قدمه وفي ( المشارق ) زلف بالتخفيف أي جمع وكسب وهذا يشمل الأمرين وأما القربة فلا تكون إلا في الخير فإن قيل على هذا رواية غير أبي ذر راجحة قلت الذي قاله الخطابي يساعد رواية أبي ذر فافهم قوله كتب الله أي أمر أن يكتب وروى الدارقطني من طريق زين بن شعيب عن مالك بلفظ يقول الله لملائكته اكتبوا قوله القصاص قال الصغاني هو القود قلت المراد به ههنا مقابلة الشيء بالشيء أي كل شيء يعمله يعطى في مقابله شيء ان خيرا فخيرا وإن شرا فشرا قوله ضعف قال الجوهري ضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه وقال الكرماني فإن قلت فلم أوجب الفقيه فيما لو اوصى بضعف نصيب ابنه مثلي نصيبه وبضعفي نصيبه ثلاثة أمثاله قلت المعتبر في الوصايا والأقارير العرف العام لا الموضوع اللغوي أقول الذي قاله الجوهرى منقول عن أبي عبيدة ولكن قال الأزهري الضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين بل جائز في كلام العرب أن تقول هذا ضعفه أي مثلاه وثلاثة أمثاله لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة ألا ترى إلى قوله تعالى فاؤلئك لهم جزاء الضعف بما عملوا ( سبإ 59 ) لم يرد مثلا ولا مثلين ولكن أراد بالضعف الأضعاف فأقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور فإذا كان كذلك يجوز أن يكون إيجاب الفقيه في المسألة المذكورة غير موضوع على العرف العام بل لوحظ فيه اللغة
بيان الإعراب قوله يقول في محل النصب على أنه مفعول ثان لقوله سمع على قول من يدعي أنه يتعدى إلى مفعولين والصحيح أنه لا يتعدى فحينئذ يكون نصبا على الحال فان قيل لم لم يقل قال مناسبا لسمع مع أن القضية ماضية قلت أجيب لغرض الاستحضار كأنه يقول الآن وكأنه يريد أن يطلع الحاضرين على ذلك القول مبالغة في تحقق وقوع القول وذلك كقوله تعالى ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ( آل عمران 59 ) من حيث لم يقل فكان قوله فحسن عطف على أسلم قوله يكفر الله جزاء الشرط أعني قوله اذا ويجوز فيه الرفع والجزم كما في قول الشاعر ( وإن أتاه خليل يوم مسغبة
يقول لا غائب ما لي ولا حرم )
وذلك إذا كان فعل الشرط ماضيا والجواب مضارعا وعند الجزم يلتقي الساكنان فتحرك الراء بالكسر لأن الأصل في الساكن إذا حرك حرك بالكسر ولكن الرواية ههنا بالرفع ووقع في رواية البزار كفر الله بصيغة الماضي فوافق فعل الشرط وقال بعضهم يكفر الله بضم الراء لأن إذا وإن كانت من أدوات الشرط لكنها لا تجزم قلت هذا كلام من لم يشم من العربية شيئا وقد قال الشاعر ( استغن ما أغناك ربك بالغنى
وإذا تصبك خصاصة فتحمل )
قد جزم إذا قوله تصبك وقد قال الفراء تستعمل إذا للشرط ثم أنشد الشعر المذكور ثم قال ولهذا جزمه قوله كل سيئة كلام إضافي منصوب لأنه مفعول يكفر الله قوله كان زلفها جمله فعلية في محل الجر لأنها صفة سيئة قوله وكان بعد ذلك أي بعد حسن الإسلام القصاص وهو مرفوع لأنه إسم كان وهو يحتمل أن تكون ناقصة وأن تكون تامة وإنما ذكره بلفظ الماضي وإن كان السياق يقتضي لفظ المضارع لتحقق وقوعه كأنه واقع وذلك كما في قوله تعالى ونادى

(1/251)


اصحاب الجنة ( الأعراف 44 ) قوله الحسنة مرفوع بالابتداء وبعشر أمثالها في محل الرفع على الخبرية قوله إلى سبعمائة يتعلق بمحذوف ومحلها النصب على الحال أي منتهية إلى سبعمائة قوله والسيئة مبتدأ وبمثلها خبره أي لا يزاد عليها قوله إلا أن يتجاوز الله عنها أي عن السيئة يعنى يعفو عنها
بيان المعاني فيه استعمال المضارع موضع الماضي والماضي المضارع لنكات ذكرناها وفيه الجملة الاستئنافية وهي قوله الحسنة بعشر أمثالها وهي في الحقيقة جواب عن السؤال ولا محل لها من الإعراب وقد علم أن الجملة من حيث هي هى غير معربة ولا تستحق الإعراب إلا إذا وقعت موقع المفرد فحينئذ تكتسي إعرابه محلا وقد نظم ابن ام قاسم النحوي الجمل التي لها محل من الإعراب والتي لا محل لها منه بثمانية أبيات وهي قوله ( جمل أتت ولها محل معرب
سبع لأن حلت محل المفرد )
( خبرية حالية محكية
وكذا المضاف لها بغير تردد )
( ومعلق عنها وتابعة لما
هو معرب أو ذو محل فاعدد )
( وجواب شرط جازم بالفاء أو
بإذا وبعض قال غير مقيد )
( وأتتك سبع ما لها من موضع
صلة ومعترض وجملة مبتدى )
( وجواب أقسام وما قد فسرت
في أشهر والخلف غير مبعد )
( وبعيد تحضيض وبعد معلق
لا جازم وجواب ذلك اورد )
( وكذاك تابعة لشيء ما له
من موضع فاحفظه غير مفند
وقد نظمها الشيخ أثير الدين أبو حيان بستة أبيات وهي قوله ( وخذ جملا ستا وعشرا فنصفها
لها موضع الإعراب جاء مبينا )
( فوصفية حالية خبرية
مضاف إليها واحك بالقول معلنا )
( كذلك في التعليق والشرط والجزا
إذا عامل يأتي بلا عمل هنا )
( وفي غير هذا لا محل لها كما
أتت صلة مبدوة فاتك العنا )
( مفسر أيضا وحشوا كذا أتت
كذلك في التحضيض نلت به الغنا )
( وفي الشرط لم يعمل كذاك جوابه
جواب يمين مثله سرك المنى )
قوله الحسنة بعشر أمثالها من قوله تعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ( الأنعام 160 ) وقوله إلى سبعمائة ضعف من قوله تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء ( البقرة 261 ) فإن قيل بين في الحديث الانتهاء إلى سبعمائة وقوله تعالى والله يضاعف لمن يشاء ( البقرة 261 ) يدل على أنه قد يكون الانتهاء إلى أكثر والجواب أن الله يضاعف تلك المضاعفة وهي أن يجعلها سبعمائة وهو ظاهر وإن قلنا إن معناه أنه يضاعف السبعمائة بأن يزيد عليها أيضا فذلك في مشيئته تعالى واما المتحقق فهو إلى السبعمائة فقط وفيه نظر لأنه صرح في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه البخاري في الرقاق ولفظه كتب الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وفي كتاب العلم لابي بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ثنا شيبان الأيلي ثنا سويد بن حاتم ثنا أبو العوام الجزار عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال إن الله تعالى يعطي بالحسنة الفي ألف حسنة وأيضا ففي جملة حديث مالك مما اسقطه البخاري ان الكافر إذا حسن إسلامه يكتب له في الإسلام كل حسنة عملها في الشرك فالله تعالى من فضله إذا كتب الحسنات المتقدمة قبل الاسلام فبالاولى أن يتفضل على عبده المسلم بما شاء من غير حساب ونظير هذا الذي أسقطه البخاري ما جاء في حديث حكيم بن حزام أسلمت على ما أسلفت من خير أخرجه البخاري في الزكاة وفي العتق ومسلم في الإيمان فان قلت لم أسقط البخاري هذه الزيادة قلت قيل إنه أسقطه عمدا وقيل لأنه مشكل على القواعد فقال المازري ثم القاضي وغيرهما ان الجاري على القواعد والأصول أنه لا يصح من الكافر التقرب فلا يثاب على طاعته في شركه لأن من شرط التقرب أن يكون عارفا بمن تقرب

(1/252)


اليه والكافر ليس كذلك وأولوا حديث حكيم بن حزام من وجوه الأول أن معنى قوله اسلمت على ما اسلفت من خير إنك اكتسبت طباعا جميلة تنتفع بتلك الطباع في الإسلام بأن يكون لك معونة على فعل الطاعات والثاني اكتسبت ثناء جميلا بقي لك في الاسلام والثالث لا يبعد أن يزاد في حسناته التي يفعلها في الإسلام ويكثر أجره لما تقدم له من الأفعال الحميدة وقد جاء أن الكافر إذا كان يفعل خيرا فإنه يخفف عنه به فلا يبعد أن يزاد في أجوره والرابع زاده القاضي وهو أنه ببركة ما سبق لك من الخير هداك الله للإسلام أي سبق لك عند الله من الخير ما حملك على فعله في جاهليتك وعلى خاتمة الإسلام وتعقبهم النووي في ( شرحه ) فقال هذا الذي ذكروه ضعيف بل الصواب الذي عليه المحققون وقد ادعى فيه الإجماع على أن الكافر إذا فعل أفعالا جميلة على جهة التقرب إلى الله تعالى كصدقة وصلة رحم واعتاق ونحوها من الخصال الجميلة ثم أسلم يكتب له كل ذلك ويثاب عليه إذا مات على الإسلام ودليله حديث أبي سعيد الخدري الذى يأتي الآن وحديث حكيم بن حزام ظاهر فيه وهذا أمر لا يحيله العقل وقد ورد الشرع به فوجب قبوله وأما دعوى كونه مخالفا للأصول فغير مقبولة وأما قول الفقهاء لا تصح عبادة من كافر ولو اسلم لم يعتد بها فمرادهم لا يعتد بها في أحكام الدنيا وليس فيه تعرض لثواب الآخرة فان أقدم قائل على التصريح بأنه إذا أسلم لا يثاب عليها في الآخرة فهو مجازف فيرد قوله بهذه السنة الصحيحة وقد يعتد ببعض أفعال الكافر فى الدنيا فقال قال الفقهاء إذا لزمه كفارة ظهار وغيرها فكفر في حال كفره اجزأه ذلك وإذا اسلم لا يلزم إعادتها واختلفوا فيما لو اجنب واغتسل في كفره ثم اسلم هل يلزمه إعادة الغسل والأصح اللزوم وبالغ بعض أصحابنا فقال يصح من كل كافر طهارة غسلا كانت أو وضوء أو تيمما وإذا أسلم صلى بها وقد ذهب إلى ما ذهب إليه النووي ابراهيم الحربي وابن بطال والقرطبي وابن منير وقال ابن منير المخالف للقواعد دعوى أنه يكتب له ذلك في حال كفره واما أن الله يضيف إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرا فلا مانع منه كما لو تفضل عليه ابتداء من غير عمل وكما يتفضل على العاجز بثواب ما كان يعمل وهو قادر فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل ألبتة جاز أن يكتب له ثواب ما عمله غير موفي الشروط وقال ابن بطال لله تعالى ان يتفضل على عباده بما شاء ولا اعتراض عليه
فوائد منها أن فيه الحجة على الخوارج وغيرهم من الذين يكفرون بالذنوب ويوجبون خلود المذنبين في النار ومنها أن قوله إلا ان يتجاوز الله عنها دليل لمذهب أهل السنة أنه تحت المشيئة إن شاء الله تجاوز عنه وإن شاء أخذه ومنها أن فيه دليلا لهم في أن أصحاب المعاصي لا يقطع عليهم بالنار خلافا للمعتزلة فإنهم قطعوا بعقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة ومنها ما قال بعضهم أول الحديث يرد على من أنكر الزيادة والنقص في الإيمان لأن الحسن تتفاوت درجاته قلت هذا كلام ساقط لأن الحسن من أوصاف الإيمان ولا يلزم من قابلية الوصف الزيادة والنقصان قابلية الذات إياهما لأن الذات من حيث هو لا يقبل ذلك كما عرف في موضعه
42 - حدثنا ( إسحاق بن منصور ) قال حدثنا ( عبد الرزاق ) قال أخبرنا ( معمر ) عن ( همام ) عن ( أبى هريرة ) قال قال رسول الله ( ) إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة
بيان رجاله وهم خمسة الأول اسحق بن منصور بن بهرام وقال النووي بكسر الباء والمشهور فتحها أبو يعقوب الكوسج من أهل مرو سكن بنيسابور ورحل إلى العراق والشام والحجاز روى عنه الجماعة إلا أبا داود وهو أحد الأئمة من أصحاب الحديث وهو الذي دون عن أحمد المسائل قال النسائي ثقة ثبت مات بنيسابور سنة إحدى وخمسين ومائتين الثاني عبد الرزاق بن همام بن نافع اليماني الصنعاني سمع عبد الله المعمرى ومعمرا والثوري ومالكا وغيرهم قال معمر عبد الرزاق خليق أن يضرب إليه أكباد الإبل وقال أحمد بن حنبل ما رأيت أحسن من عبد الرزاق وقال

(1/253)


الحافظ أبو احمد بن عدي قال ابن معين ليس بالقوي ونسبه العباس بن عبد العظيم إلى الكذب قال والواقدي أصدق منه وقال أبو أحمد لعبد الرزاق حديث كثير وقد رحل إليه الناس وكتبوا عنه ولم يروا بحديثه بأسا إلا أنهم نسبوه إلى التشيع وقد روى أحاديث في فضائل أهل البيت ومثالب غيرهم مما لم يوافقه عليها أحد من الثقات فهذا أعظم ما ذموه به من روايته المناكير وقال النسائي في كتاب ( الضعفاء ) عبد الرزاق بن همام فيه نظر لمن كتب عنه بآخره وزاد بعضهم عن النسائي كتبت عنه أحاديث مناكير وقال البخاري في ( التاريخ الكبير ) ما حدث به عبد الرزاق من كتابه فهو أصح مات سنة إحدى عشرة ومائتين روى له الجماعة الثالث معمر بفتح الميمين ابن راشد أبو عروة البصري وقد مر ذكره في أول الكتاب الرابع همام بتشديد الميم بن منبه بن كامل بن سيج بفتح السين المهملة وقيل بكسرها وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره جيم أبو عقبة اليماني الصنعاني الذماري الأبناوي أخو وهب وهو أكبر منه تابعي سمع أبا هريرة وابن عباس ومعاوية قال يحيى بن معين ثقة توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة بصنعاء روى له الجماعة وهو من الأفراد وإن كان يشترك معه في الاسم دون الأب جماعة من الصحابة والتابعين ولا يلتفت إلى تضعيف الفلاس له فإنه من فرسان الصحيحين الخامس ابو هريرة رضي الله عنه
ذكر الانساب الصنعاني نسبة إلى صنعا مدينة باليمن بزيادة النون في آخره والقياس أن يقال صنعاوي ومن العرب من يقوله فابدلوا من الهمزة النون لأن الالف والنون يشابهان ألفي التأنيث وصنعا أيضا قرية بالشام وهذه النسبة شاذة اليماني نسبة إلى اليمن بزيادة الألف قال الجوهري اليمن بلاد العرب والنسبة إليها يمني ويمان مخففة والألف عوض من ياء النسبة فلا يجتمعان قال سيبويه وبعضهم يقول يماني بالتشديد فافهم الذماري بكسر الذال المعجمة وتخفيف الميم نسبة إلى ذمار على مرحلتين من صنعاء وفي العباب ذمار بفتح الذال ويقال ذمار مثل قطام قرية باليمن على مرحلة من صنعاء سميت بقيل من أقيال حمير الأبناوي بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة وفتح النون نسبة إلى الأبناء وهم قوم باليمن من ولد الفرس الذين جهزهم كسرى مع سيف بن ذي يزن إلى ملك الحبشة فغلبوا الحبشة وأقاموا باليمن وقال ابو حاتم بن حبان كل من ولد باليمن من أولاد الفرس وليس من العرب يقال ابناوي وهم الابناويون
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة قوله حدثنا إسحاق بن منصور وفي النسخ حدثني بالإفراد وقوله حدثنا معمر وفي بعض النسخ اخبرنا معمر ومنها أن هذا الإسناد إسناد حديث من نسخة همام المشهورة المروية بإسناد واحد عن عبد الرزاق عن معمر عنه وقد اختلفوا في إفراد حديث من نسخة هل يساق بإسنادها ولو لم يكن مبتدأ به أو لا فالجمهور على جوازه ومنهم البخاري وقيل بالمنع ومسلم أيضا أخرجه بهذا السند غير أنه عن شيخه محمد بن رافع عن عبد الرزاق الخ ولكنه أخرجه معلولا وهو أيضا أخرجه في كتاب الإيمان وغالب ما يتعلق بالحديث من الكلام في الوجوه المذكورة قد مر في الحديث السابق قوله أحدكم الخطاب فيه بحسب اللفظ وإن كان للحاضرين من الصحابة لكن الحكم عام لما علم أن حكمه عليه الصلاة و السلام على الواحد حكم على الجماعة إلا بدليل منفصل وكذا حكمه تناول النساء وكذا فيما إذا قال إذا أسلم المرء أو العبد فإن المراد منه الرجال والنساء جميعا بالاتفاق وأما النزاع في كيفية التناول أهي حقيقة عرفية أو شرعية أو مجاز أو غير ذلك قوله إذا أحسن أحدكم إسلامه كذا في رواية مسلم أيضا ووقع في مسند إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق إذا أحسن إسلام أحدكم ورواه الاسماعيلي من طريق ابن المبارك عن عبد الرزاق عن معمر كالاول فإن قيل في الحديث السابق الحسنة والسيئة وههنا كل حسنة وكل سيئة فما الفرق بينهما قلت لا فرق بينهما في المعنى لأن الألف واللام فيهما هناك للاستغراق وكل أيضا للاستغراق وكذا لا فرق في إطلاق الحسنة ثمة والتقييد هنا بقوله يعملها إذ المطلق محمول على المقيد لأن الحسنة المنوية لا تكتب بالعشر إذ لا بد من العمل حتى تكتب بها وأما السيئة فلا اعتداد بها دون العمل أصلا وكذا في زيادة لفظ تكتب هنا إذ ثمة أيضا مقدر به لأن الجار لا بد له من متعلق وهو تكتب أو تثبت أو نحوهما قوله بمثلها وزاد مسلم واسحاق والأسماعيلي في روايتهم حتى يلقى الله تعالى فإن قلت أين جواب إذا قلت الجملة بالفاء أعني قوله فكل حسنة يعملها تكتب له فقوله كل حسنة كلام

(1/254)


إضافي مبتدأ وخبره قوله تكتب له وقوله يعملها جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل الجر لأنها صفة لحسنة قوله إلى سبعمائة في محل النصب على الحال اى منتهية إلى سبعمائة قوله بمثلها الباء فيه للمقابلة والله اعلم
32 -
( باب أحب الدين إلى الله أدومه )
الكلام فيه من وجوه الأول قوله باب خبر مبتدأ محذوف غير منون إن اعتبرت إضافته إلى الجملة وقوله أحب الدين كلام إضافي مبتدأ وخبره قوله أدومه الثاني وجه المناسبة بين البابين أن المذكور في الباب الأول حسن إسلام المرء وهو الامتثال بالأوامر والانتهاء عن النواهي والشفقة على خلق الله تعالى والمطلوب في هذا المداومة والمواظبة وكلما واظب العبد عليه وداوم زاد من الله محبة لأن الله تعالى يحب مداومة العبد على العمل الصالح وقال الكرماني أحب الدين أي أحب العلم إذ الدين هو الطاعة ومناسبته لكتاب الإيمان من جهة أن الدين والإيمان والإسلام واحد قلت العجب منه كيف رضي بهذا الكلام فالمناسبة لا تطلب إلا بين البابين المتواليين ولا تطلب بين بابين أو بين كتاب وباب بينهما أبواب عديدة وكذلك دعواه باتحاد الدين والإيمان والاسلام والفرق بينهما ظاهر وقد حققناه فيما مضى وقال بعضهم مراد المصنف الاستدلال على أن الإيمان يطلق على الأعمال لأن المراد بالدين هنا العمل والدين الحقيقي هو الإسلام والإسلام الحقيقي مرادف للإيمان فيصح بهذا مقصوده ومناسبته لما قبله من قوله عليكم بما تطيقون لأنه لما قدم إن الإسلام يحسن بالأعمال الصالحة أراد أن ينبه على أن جهاد النفس في ذلك إلى حد المغالبة غير المطلوب قلت فيه نظر من وجوه الأول إن قوله مراد المصنف الاستدلال على أن الإيمان يطلق على الأعمال غير صحيح لأن الحديث ليس فيه ما يدل على هذا والاستدلال بالترجمة ليس باستدلال يقوم به المدعي فإن قلت في الحديث ما يدل عليه وهو قوله أحب الدين إليه فإن المراد ههنا من الدين العمل وقد أطلق عليه الدين قلت هذا إنما يمشي إذا أطلق الدين المعهود المصطلح على العمل وليس كذلك فإن المراد بالدين ههنا الطاعة بالوضع الأصلي فإن لفظ الدين مشترك بين معاني كثيرة مختلفة الدين بمعنى العبادة وبمعنى الجزاء وبمعنى الطاعة وبمعنى الحساب وبمعنى السلطان وبمعنى الملة وبمعنى الورع وبمعنى القهر وبمعنى الحال وبمعنى ما يتدين به الرجل وبمعنى العبودية وبمعنى الإسلام وفي ( المحكم ) الدين الإسلام الثاني أنه قال الإسلام الحقيقي مرادف للإيمان يعني كلاهما واحد وقال إن الإيمان يطلق على الأعمال يشير به إلى أن الأعمال من الإيمان ثم قال إن الإسلام يحسن بالأعمال الصالحة فكلامه يشير إلى أن الأعمال ليست من الإيمان لأن الحسن من الأوصاف الزائدة على الذات وهي غير الذات فينتج من كلامه أن الإسلام يحسن بالإسلام وهذا فاسد الثالث قوله فيصح بهذا مقصوده ومناسبته لما قبله غير مستقيم لأنه لا يظهر وجه المناسبة لما قلبه مما قاله أصلا وكيف يوجد وجه المناسبة من قوله عليكم بما تطيقون والترجمة ليست عليه وإنما وجه المناسبة لما قبله ما ذكرت لك آنفا فافهم الوجه الثالث قوله أحب الدين أحب ههنا أفعل لتفضيل المفعول ومحبة الله تعالى للدين إرادة إيصال الثواب عليه قوله أدومه هو أفعل من الدوام وهو شمول جميع الأزمنة أي التأبيد فإن قيل شمول الأزمنة لا يقبل التفضيل فما معنى الأدوم أجيب بأن المراد بالدوام هو الدوام العرفي وذلك قابل للكثرة والقلة فافهم
43 - حدثنا ( محمد بن المثنى ) حدثنا ( يحيى ) عن ( هشام ) قال أخبرني أبي عن ( عائشة ) أن النبي دخل عليها وعندها امرأة قال من هذه قالت فلانة تذكر من صلاتها قال مه عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه
( الحديث 43 - طرفه 1151 )
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة وهي قوله وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه غير أنه غير لفظ ما داوم عليه ولكنه في المعنى مثله ولهذا قال في الترجمة إلى الله بدل إليه وهي رواية المستملي وحده وكذا في رواية عبدة عن هشام وعند إسحاق بن راهويه في مسنده وكذا للبخاري ومسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها وهذه الروايات توافق الترجمة

(1/255)


بيان رجاله وهم خمسة الأول أبو موسى محمد بن المثنى البصري المعروف بالزمن وقد مر في باب حلاوة الإيمان الثاني يحيى بن سعيد القطان الأحول وقد مر في باب من الإيمان أن يجب لأخيه الثالث هشام بن عروة الرابع أبوه عروة بن الزبير بن العوام وقد مر ذكرهما في الحديث الثاني من الصحيح الخامس أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وقد مر ذكرها أيضا غير مرة
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في كتاب الصلاة وقال فيه كانت عندي امرأة من بني أسد وسماها مسلم لكن قال فيه إن الحولاء بنت تويت بن حبيب بن أسد بن عبد العزى مرت بها وعندها رسول الله فقالت هذه الحولاء بنت تويت وزعموا أنها لا تنام الليل فقال عليه الصلاة و السلام خذوا من العمل ما تطيقون فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا وذكر مالك في الموطأ وفيه فقيل له هذه الحولاء لا تنام الليل فكره ذلك رسول الله حتى عرفت الكراهية في وجهه وذكره مسلم من رواية الزهري عن عروة ثم ذكر حديث هشام عن أبيه عروة كما أورده البخاري هنا وفي الصلاة وفيه أنه عليه السلام دخل عليها وعندها امرأة وأخرجه النسائي في الإيمان والصلاة عن شعيب بن يوسف النسائي عن يحيى بن سعيد به فإن قلت قوله وعندها امرأة هي الحولاء أو غيرها قلت يحتمل أن تكون هذه واقعة أخرى إحداهما أنها مرت بها والأخرى كانت عندها ويحتمل أن تكون غيرها لكن قول البخاري وعندي امرأة من بني أسد يدل على أنها الحولاء بنت تويت ولكن الظاهر أن القصة واحدة دلت عليها رواية محمد بن إسحاق عن هشام في هذا الحديث مرت برسول الله عليه السلام الحولاء أخرجه محمد بن نصر في كتاب ( قيام الليل ) وجه التوفيق أن يحمل على أنها كانت أولا عند عائشة رضي الله عنها فلما قدم النبي قامت المرأة لتخرج فمرت به في خلال ذهابها فسأل عنها رسول الله فبهذا اتفقت الروايات و الحولاء بالحاء المهملة تأنيث الأحول وتويت بضم التاء المثناة من فوق وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره تاء مثناة من فوق أيضا و كانت الحولاء امرأة صالحة عابدة مهاجرة رضي الله عنها
بيان اللغات قوله فلانة أي الحولاء الأسدية وهي غير منصرف لأن حكمها حكم أعلام الحقائق كأسامة لأنها كناية عن كل علم مؤنث للأناس المؤنثة ففيها العلمية والتأنيث قوله مه بفتح الميم وسكون الهاء وهي إسم سمي به الفعل وبنيت على السكون ومعناه اكفف فإن وصلت نونته فقلت مه مه ويقال مهمهت به أي زجرته وقال التيمي إذا دخله التنوين كان نكرة وإذا حذف كان معرفة وهذا القسم من أقسام التنوين الذي يختص بالدخول على النكرة ليفصل بينها وبين المعرفة فالمعرفة غير منون والنكرة منون قوله عليكم أيضا من أسماء الأفعال أي الزموا من الأعمال ما تطيقون الدوام عليه قوله لا يمل الله من الملالة وهي السآمة والضجر وفي ( الفصيح ) في باب فعلت مللت من الشي أمل وفي ( المحكم ) مللت الشيء مللا وملالا وملالة وأملني وأمل علي أبرمني ورجل ملول وملالة وملولة وذو ملة والأنثى ملول وملولة ملول على المبالغة وفي ( الجامع ) فأنت مال قوله أحب الدين أي أحب الطاعة ومنه في الحديث في صفة الخوارج يمرقون من الدين أي من طاعة الأئمة ويجوز أن يكون فيه حذف تقديره أحب أعمال الدين وقال التيمي فإن قلت المراد بيمرقون من الدين من الإيمان لأنه ورد في رواية أخرى يمرقون من الإسلام قلت الخوارج غير خارجين من الدائرة بالاتفاق فيحمل الإسلام على الاستسلام الذي هو الانقياد والطاعة قوله داوم من المداومة وهي المواظبة قال الجوهري المداومة على الأمر المواظبة عليه وثلاثيه دام الشيء يدوم ويدام دوما ودواما وديمومة وأدامه غيره ودام الشيء سكن
بيان الإعراب قوله دخل عليها جملة في محل الرفع على أنها خبر أن قوله وعندها امرأة جملة إسمية وقعت حالا قوله قال هكذا بغير فاء رواية الأصيلي وفي رواية غيره فقال بالفاء العاطفة ووجه الأول أن تكون جملة استثنائية أعني جواب سؤال مقدر فكأن قائلا يقول ماذا قال حين دخل قالت قال من هذه فقوله

(1/256)


من مبتدأ و هذه خبره والجملة مقول القول قوله قالت أي عائشة فعل وفاعل قوله فلانة مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أي هي فلانة أي الحولاء الأسدية تذكر بفتح التاء المثناة من فوق فعل مضارع للمؤنث وفاعله عائشة رضي الله عنها ويروى يذكر بالياء آخر الحروف المضمومة على فعل ما لم يسم فاعله وقوله من صلاتها في محل الرفع مفعول ناب عن الفاعل والمعنى يذكرون أن صلاتها كثيرة وفي رواية أحمد عن يحيى القطان لا تنام تصلي وعلى الوجه الأول هي في محل النصب على المفعولية قوله مه مقول القول قوله بما تطيقون وفي رواية ما تطيقون بغير الباء ومعناه ما تطيقون الدوام عليه وإنما قدرنا دوام الفعل لا أصل الفعل لدلالة السياق عليه قوله فوالله مجرور بواو القسم قوله لا يمل الله فعل وفاعل قوله حتى تملوا أي حتى أن تملوا فإن مقدرة ولهذا نصبت تملوا قوله أحب الدين كلام إضافي مرفوع لأنه اسم كان قوله إليه أي إلى الله قوله ما داوم عليه صاحبه في محل النصب لأنه خبر كان وصاحبه مرفوع بداوم أو كلمة ما للمدة والتقدير مدة دوام صاحبه عليه
بيان المعاني قوله مه زجر كما ذكرنا ولكن يحتمل أن يكون لعائشة والمراد نهيها عن مدح المرأة ويحتمل أن يكون المراد النهي عن تكلف عمل لا يطاق به ولهذا قال بعده عليكم من العمل ما تطيقون وقال ابن التين لعل عائشة أمنت عليها الفتنة فلذلك مدحتها في وجهها قلت جاء في رواية حماد بن سلمة عن هشام في هذا الحديث ما يدل على أنها إنما ذكرت ذلك بعد أن خرجت المرأة أخرجها الحسن بن سفيان في مسنده من طريقه ولفظه كانت عندي امرأة فلما قامت قال رسول الله من هذه يا عائشة قلت يا رسول الله هذه فلانة وهي أعبد أهل المدينة قوله من العمل يحتمل أن يريد به صلاة الليل لوروده على سببه ويحتمل أن يحمل على جميع الأعمال قاله الباجي قوله بما تطيقون قال القاضي الندب إلى تكلف ما لنا به طاقة ويحتمل النهي عن تكلف ما لا نطيق والأمر بالاقتصار على ما نطيق قال وهو أنسب للسياق قوله عليكم من العمل بما تطيقون فيه عدول عن خطاب النساء إلى خطاب الرجال وكان الخطاب للنساء فيقتضي أن يقال عليكن ولكن لما طلب تعميم الحكم لجميع الأمة غلب الذكور على الإناث في الذكر قوله فوالله لا يمل الله حتى تملوا فيه المشاكلة والازدواج وهو أن يكون إحدى اللفظتين موافقة للأخرى وإن خالفت معناها كما قال تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ( البقرة 194 ) معناه فجازوه على اعتدائه فسماه اعتداء وهو عدل لتزدوج اللفظة الثانية مع الأولى ومنه قوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها ( الشورى 40 ) وقال الشاعر وهو عمر بن كلثوم ( إلا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا )
أراد فنجازيه على فعله فسماه جهلا والجهل لا يفخر به ذو عقل ولكنه على الوجه الذي ذكرناه والحاصل أن الملال لا يجوز على الله تعالى ولا يدخل تحت صفاته لأنه ترك الشيء استثقالا وكراهية له بعد حرص ومحبة فيه وهو من صفات المخلوق فلا بد من تأويل واختلف العلماء فيه فقال الخطابي معناه أنه لا يترك الثواب على العمل ما لم يذكر العمل وذلك أن من مل شيئا تركه فكنى عن الترك بالملال الذي هو سبب الترك وقال ابن قتيبة معناه أنه لا يمل إذا مللتم قال ومثاله قولهم في البليغ فلان لا ينقطع حتى تنقطع خصومه معناه لا ينقطع إذا انقطعت خصومه ولو كان لم يكن له فضل على غيره وقال بعضهم ومعناه أن الله لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم قبل ذلك فلا تكلفوا ما لا تطيقون من العمل كنى بالملال عنه لأن من تناهت قوته عن أمر وعجز عن فعله مله وتركه وقال التيمي معناه أن الله لا يمل أبدا مللتم أنتم أو لم تملوا نحو قولهم لا أكلمك حتى يشيب الغراب ولا يصح التشبيه لأن شيب الغراب ليس ممكنا عادة بخلاف ملل العباد وحكى الماوردي أن حتى ههنا بمعنى حين أو بمعنى الواو وهذا ضعيف جدا
بيان استنباط الأحكام الأول فيه دلالة على استعمال المجاز وهو إطلاق الملل على الله تعالى الثاني فيه جواز الحلف من غير استحلاف وأنه لا كراهة فيه إذا كان فيه تفخيم أمر أو حث على طاعة أو تنفير عن محذور ونحوه وقال أصحاب الشافعي يكره اليمين إلا في مواضع منها ما ذكرنا ومنها إذا كانت في دعوى فلا تكره إذا كان صادقا الثالث

(1/257)


فيه فضيلة الدوام على العمل والحث على العمل الذي يدوم والعمل القليل الدائم خير من الكثير المنقطع لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والأخلاص والإقبال على الله سبحانه وتعالى ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة الرابع فيه بيان شفقة النبي ورأفته بأمته لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة لأن النفس تكون فيه أنشط ويحصل منه مقصود الأعمال وهو الحضور فيها والدوام عليها بخلاف ما يشق عليه فإنه تعرض لأن يترك كله أو بعضه أو يفعله بكلفة فيفوته الخير العظيم وقال أبو الزناد والمهلب إنما قاله عليه السلام خشية الملال اللاحق وقد ذم الله من التزم فعل البر ثم قطعه بقوله ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ( الحديد 57 ) ألا ترى أن عبد الله بن عمرو ندم على مراجعة النبي بالتخفيف عنه لما ضعف ومع ذلك لم يقطع الذي التزمه الخامس فيه دليل للجمهور على أن صلاة جميع الليل مكروهة وعن جماعة من السلف لا بأس به قال النووي وقال القاضي كرهه مالك مرة وقال لعله يصح مغلوبا وفي رسول الله أسوة ثم قال لا بأس به ما لم يضر ذلك بصلاة الصبح وإن كان يأتيه الصبح وهو نائم فلا وإن كان به فتور وكسل فلا بأس به
33 -
( باب زيادة الإيمان ونقصانه )
أي هذا باب في بيان زيادة الإيمان ونقصانه و باب مرفوع مضاف قطعا وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول أحبية دوام الدين إلى الله تعالى والمذكور في هذا الباب زيادة الإيمان ونقصانه فلا شك أن يزداد الإيمان بدوام العبد على أعمال الدين وينقص بتقصيره في الدوام سيما هذا على مذهب البخاري وجماعة من المحدثين وأما على قول من لا يقول بزيادة الإيمان ونقصانه فإنه أيضا يوجد الزيادة بالدوام والنقص بالتقصير فيه ولكنهما يرجعان إلى صفة الإيمان لا إلى ذاته كما عرف في موضعه
وقول الله تعالى وزدناهم هدى ويزداد الذين آمنوا إيمانا وقال اليوم أكملت لكم دينكم فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص
وقول مجرور عطف على قوله زيادة الإيمان وقوله الثاني أيضا عطف عليه والتقدير باب في بيان زيادة الإيمان وبيان نقصانه وبيان قول الله تعالى وزدناهم هدى ( الكهف 13 ) وبيان قوله تعالى ويزداد الذين آمنوا إيمانا ( المدثر 31 ) ثم إنه قال اليوم أكملت لكم دينكم ( المائدة 3 ) بلفظ الماضي ولم يقل وقوله اليوم أكملت لكم دينكم على أسلوب أخويه لأن الغرض منه ما هو لازمه وهو بيان النقصان والاستدلال به على أن الإيمان كما تدخله الزيادة فكذلك يدخله النقصان لأن الشيء إذا قبل أحد الضدين لا بد وأن يقبل الضد الآخر وبين ذلك بقوله فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص بخلاف ما تقدم من الآيتين فإن المراد منهما إثبات الزيادة تصريحا لا استلزاما لأن الزيادة مصرحة فيهما بخلاف الآية الثالثة فإن الصريح فيها الكمال الذي يقابله النقصان وهو يفهم منه التزاما لا صريحا ولما كان الباب مترجما بزيادة الإيمان ونقصانه احتج على الزيادة بصريح الآيتين وعلى النقصان بالآية الثالثة بطريق الاستلزام وقد ذكر الآيتين المتقدمتين في باب أمور الإيمان عند قوله كتاب الإيمان وقد قلنا أنه لو ذكر ما يتعلق بأمور الزيادة والنقصان في باب واحد إما هناك وإما ههنا كان أنسب ولكنه عقد في باب أمور الإيمان هذا الباب ههنا لأجل المناسبة التي ذكرناها آنفا فالآية الأولى في سورة الكهف والثانية في سورة المدثر والثالثة في سورة المائدة وقد مر الكلام في الآيتين الأوليين هناك فإن قلت دلالة الآية الثانية ظاهرة على زيادة الإيمان فكيف تدل الأولى وليس فيها إلا زيادة الهدى وهي الدلالة الموصولة إلى البغية ويقال هي الدلالة مطلقا قلت زيادة الهدى مستلزمة للإيمان أو المراد من الهدى هو الإيمان وقال ابن بطال هذه الآية يعني قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم ( المائدة 3 ) حجة في زيادة الإيمان ونقصانه لأنها نزلت يوم كملت الفرائض والسنن واستقر الدين وأراد الله عز و جل قبض نبيه فدلت هذه الآية أن كمال الدين إنما يحصل بتمام الشريعة فتصور كماله يقتضي تصور نقصانه وليس المراد التوحيد ولوجوده قبل نزول الآية

(1/258)


فالمراد الأعمال فمن حافظ عليها فإيمانه أكمل من إيمان من قصر قلت هذه الآية لا تدل أصلا على زيادة الدين ولا على نقصانه لأن المراد أكملت لكم شرائع دينكم وتعليل ابن بطال على ما ادعاه دليل لما قلنا وحجة عليه لأنه قال لأنها نزلت يوم كملت الفرائض والسنن واستقر الدين ولم يقل أحد إن الدين كان ناقصا إلى وقت نزول هذه الآية حتى أكمله في هذا اليوم وإنما المراد إكمال شرائع الدين في هذا اليوم لأن الشرائع نزلت شيئا فشيئا طول مدة النبوة فلما كملت الشرائع قبض الله نبيه عليه السلام وهو أيضا صرح به بقوله وليس المراد التوحيد لوجوده قبل نزول الآية فإن ادعى أن الأعمال من الإيمان فليس يتصور لأنه يلزم أن يكون كمال الإيمان في هذا اليوم وقبله كان ناقصا لأن الشرائع التي هي الأعمال ما كملت إلا في هذا اليوم وقال الزمخشري أكملت لكم دينكم ( المائدة 3 ) كفيتكم أمر عدوكم وجعلت اليد العليا لكم كما تقول الملوك اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد إذا كفوا من ينازعهم الملك ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام والتوقيف على الشرائع وقوانين القياس وأصول الاجتهاد
1 - حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا هشام قال حدثنا قتادة عن أنس عن النبي قال يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا غله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة ولا سيما على مذهبه ( بيان رجاله ) وهم أربعة الأول مسلم بضم الميم وكسر اللام الخفيفة بن إبراهيم أبو عمرو الازدي الفراهيدي مولاهم القصاب وقد يعرف بالشحام روى عنه البخاري وأبو داود وروى البقية عن رجل ولد سنة ثلاث وثلاثين ومائة بالبصرة لعشر ربقين من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائتين وروى البقية عن رجل عنه ولد سنة ثلاث وثلاثين ومائة بالبصرة لعشر بقين من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائتين وقال يحيى بن معين هو ثقة مأمون وقال أبو حاتم ثقة صدوق وقال أحمد بن عبد الله كان ثقة عمى بآخرة وكان سمع من سبعين امرأة الثاني هشام بكسر الهاء بن ابي عبد الله واسم ابنى عبد الله سندر الربعي البصري الدستوائي ويكنى بأبي بكر قال وكيع كان ثبتا وقال أبو داود الطيالسي كان أمير المؤمنين في الحديث وقال محمد بن سعد كان ثقة ثبتا في الحديث حجة إلا أنه كان يرى القدر وقال العجلي كان يقول كان يقول بالقدر ولم يكن يدعو إليه توفي سنة أربع وخمسين ومائة على قول روى له الجماعة الثالث قتادة بن دعامة وقد مر ذكره الرابع أنس بن مالك رضى الله عنه وقد مر أيضا
بيان الأنساب الفراهيدي بفتح الفاء وبالراء والهاء المكسورة والياء آخر الحروف الساكنة والدال المهملة وقال ابن الآثير بالذال المعجمة بطن من الازد ومنهم الخليل بن أحمد النحوي قلت هو فراهيد بن شبابة ابن مالك بن فهم ابن غنم بن دوس كذا قال ابن الكلبي فراهيد وقال ابن دريد بنوفرهود بن شبابة الذين يقال لهم الفراهيد والفرهود الغليظ من قولهم تفرهد هذا الغلام إذا سمن يقال غلام فرهود ولا يوصف به الرجل قال والفرهود ولد الاسد في لغة اودعمان وفي كتاب الجمهرة فرهود بن الحارث الذي من ولده الخليل بن أحمد النحوي وهو الفرهودي قال ومن قال الفراهيدي فأنما يريد الجمع كما يقال مهالبة والنسبة إليه بعد الجمع وقال أبو محمد وعلى شبابه وافقه ابن الكلبي وغيره وهو الصواب إن شاء الله تعالى وشبابه والحارث اخوان وقال أبو جعفر حكى قطرب ابن الفرهود هو الغلام الكبير قال وعن ابي عبيدة الفراهيد أولاد الوعول قال أبو جعفر والنسبة إليه فراهدي مثل مقابرى قال أبو محمد وهذا القول لم أره لغيره الربعي بفتح الراء والباء الموحدة نسبة إلى ربيعة بن نذار بن معد بن عدنان وهو ربيعة الفرس وقال أبو محمد وربيعة بن نذار شعب واسع فيه قبائل وعمار وبطون وافخاذ فممن ينسب إليهم من الرواة هشام بن أبي عبد الله الدستوائي الربعى الدستوائي بفتح الدال واسكان السين المهملتين وبعدها تاء مثناة من فوق مفتوحة وآخره همزة

(1/259)


بلا نون وقيل الستوائي بالقصر والنون والأول هو المشهور ودستواء كورة من كور الاهواز كان يبيع الثياب التي تجلب منها فنسب إليها قلت ضبط السمعاني بضم التاء المثناة من فوق وفي الانساب للرشاطى قال سيبويه يقال في دستواء دستوانى مثل بحراني بالنون
( بيان لطائف اسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنه أن رواته كلم يبصرون ومنها أنهم كلهم أئئمة أجلاء
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في التوحيد عن معاذ بن فضالة وأخرجه مسلم في الإيمان عن محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع عن سعيد وهشام وشعبة به وفيه قصة ليزيد مع شعبة وعن ابي غسان المسمعي مالك بن عبد الواحد ومحمد بن المثنى كلاهما عن معاذ بن هشام عن أبيه وأخرجه الترمذي في صفة جهنم عن محمود بن غيلان عن ابني داود عن شعبة وهشام به وقال حسن صحيح
بيان اللغات قوله شعير واحدة الشعير والبرة بضم الباء وتشديد الراء واحدة البر وهي القمح وقال ابن دريد البر أفصح من قولهم القمح ويجمع البر ابرارا عند المبرد ومنعه سيبويه والذرة بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء واحدة الذر وهي اصغر النمل وقال القاضي عياض الذر النمل الصغير وعن بعض نقلة الاخبار أن الذر الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رؤس الابر ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما إذا وضعت كفك على التراب ثم نفضتها فما سقط من التراب فهو ذرة وحكى أن اربع ذرات خردلة وقيل الذرة جزء من ألف وأربعة وعشرين جزأ من شعيرة انتهى كلامه وقد ابدلها شعبة بضم الذال وتخفيف الراء وكأن سببه المناسبة أذ هي من الحبوب أيضا كالبة والشعيرة وقال النووي واتفقه على أنه تصحيف قلت لا ينبغي أن ينسب مثل شعبة إلى التصحيف بل له وجه يبعد عن البعد
( بيان الأعراب ) قوله يخرج بفتح الياء من الخروج وبضمها وفتح الراء من الأخراج وهو رواية الاصيلى والأول رواية الجمهور قوله من قال جملة في محل الرفع على الوجهين أما على الوجة الأول فهي فاعل وأما الثاني فهي مفعول ناب عن الفاعل وكلمة من موصولة وقال جملة صلتها وقول لا إله إلا الله مقول القول قوله وفي قلبه وزن شعيرة جملة اسمية وقعت حالا قوله من خير كلمة من بيانية والكلام في اعراب الباقي كالكلام فيما ذكرناه
( بيان المعاني والبيان ) فيه طى ذكر الفاعل لشهرته لأنه من المعلوم أن أحد لا يخرجه من النار إلا الله تعالى وفيه اطلاق الخير على الإيمان لأن المراد من قوله من خير من إيمان كما جاء في الرواية الأخرى والخير في الحقيقة ما يقرب العبد إلى الله تعالى وما ذلك إلا الإيمان وفيه استعارة بالكناية بيانه ن الوزن أنما يتصور في الأجسام دون المعاني والإيمان معنى ولكنه شبه الإيمان بالجسم فاضيف إليه ما هو من لوازم الجسم وهو الوزن وفيه تنكير خير الذي هو الإيمان بالتنوين التي تدل على التقليل ترغيبا في تحصيله إذا لما حصل الخروج باقل ما ينطلق عليه اسم الإيمان فبالكثير منه بالطريق الأولى فأن قلت التنكير يقتضى أن يكفي أي إيمان وبأي شيء كان ومع ها لا بد من الإيمان بجميع ما علم مجيء الرسول عليه السلام فلا بد من ذلك حتى يتحقق حقيقة الإيمان ويصح اطلاقه فأن قلت التصديق القلبي كاف في الخروج إذ المؤمن لا يخلد في النار وأما قول لا إله إلا الله فلأ جزاءا احكام الدنيا عليه فما وجه الجمع بينهما قلت المسألة مختلف فيها فقال البعض لا يكفي مجرد التصديق بل لا بد من القول والعمل أيضا وعليه البخاري إذا المارد من الخروج هو بحسب حكمنا به أي نحكم بالخروج لمن كان في قلبه إيمانا ضاما إليه عنوانه الذي يدل عليه إذا الكلمة هي شعار الإيمان في الدنيا وعليه مدار الأحكام فلا بد منهما حتى يصح الحكم بالخروج ( فان قلت ) فعلى هذا لا يكفي قول لا إله إلا الله بل لا بد من ذكر محمد رسول الله معه قلت المراد المجموع وصار الجزء الأول منه علما للكل كما يقال قرأت ( قل هو الله أحد ) أي قرأت كل السورة أو كان هذا قبل مشروعية ضمنها إليه
( بيان استنباط الاحكام ) الأول قال التيمي استدل البخاري بهذا الحديث على نقصان الإيمان لأنه يكون لواحد

(1/260)


وزن شعيرة وهي أكثر من البرة والبرة أكثر من الذرة فدل على أنه يكون للشخص القائل لا إله إلا الله قدر من الإيمان لا يكون ذلك القدر لقائل آخر وقال الكرماني لا يختص بالنقصان بل يدل على الزيادة أيضا قلت المراد من الخير هو الثمرات وكذلك في رواية من يمان ثمرات الإيمان ولا نزاع في زيادة ثمرات الإيمان ونقصانها فأن قلت ما المراد بالثمرات القلبية قلت المراد بها مراتب العلوم الحاصلة المستلزمة للتصديق لكل واحد من جزيئات الشرع وقال المهلب الذرة أقل من الموزونات وهي في هذا الحديث التصديق بها وليست زيادة في نفس التصديق ويقال يحتمل أن تكون الذرة واختارها التي في القلب ثلاثتها من نفس التصديق لان قول لا إله إلا الله لا يتم إلا بتصديق القلب والناس يتفاضلون في التصديق إذ يجوز عليه الزيادة بزيادة العلم والمعاينة أما زيادته بزيادة العلم فلقوله تعالى أيكم زادته هذه إيمانا الآية وأما زيادته بزيادة المعاينة فلقوله تعالى ( ولكن ليطمئن قلبي ) وقول تعالى ( ثم لترونها عين اليقين ) حيث جعل له مزية على علم اليقين قلت حقيقة التصديق شيء واحد لا يقبل الزيادة والنقصان وقال الإمام إن كان المراد من الإيمان التصديق فلا يقبل الزيادة والنقاصان وإن كان الطاعات فيقبلهما والأصل هو التصديق والقول بلا له إلا الله لآجراء الإحكام في الدنيا والناس أنما يتفاضلون في التصديق التفصيلي لا في مطلق التصديق وقوله تعالى ( ولكن ليطمئن قلبي ) حكاية عن قول إبراهيم عليه الصلاة و السلام وكيف يمن أن يقال في حقه زاد تصديقه بالمعاينة لأن القول بهذا يستلزم القول بنقصان تصديقه قبل ذلك وذا لا يجوز في حقه عليه السلام وإنما كان مراده من هذا أن يضم إلى عمله الضروري العلم الاستدلالي ليزيد سكونا لا تظاهر الادلة اسكن للقلوب فافهم
الثاني فيه دخول عصاة الموحدين النار
الثالث فيه أن صاحب الكبير من الموحدين لا يكفر بفعلها ولا يخلد في النار
الرابع فيه أنه لا يكفي في الإيمان معرفة القلب دون الكلمة ولا الكلمة من غير اعتقاد
سؤال لم قدم الشعيرة على البرة اجيب لأنها أكبر جر ما منها ويقرب بعضها من بعض وأخر الذرة لصغرها وهذا من باب الترقي في الحكم وإن كان من باب التنزيل في الصور فافهم
( قال أبو عبد الله قال أبان حدثنا قتادة حدثنا أنس عن النبي عن إيمان مكان من خير )
المراد من أبي عبد الله هو البخاري نفسه ولا يوجد في بعض النسخ قال أبو عبد الله بل المذكور بعد تمام الحديث وقال ابن بالواو العاطفة هذا من تعليقات البخاري وقد وصله الحاكم في كتاب الأربعين له من طريق أبي سلمة موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبان بن يزيد فذكر الحديث وفي ذكره ثلاث فوائد ( الأولى ) وهي أهمها التنبيه على تصريح قتادة فيه بالتحديث عن أنس وذلك أن قتادة مدلس لا يحتج بعنعته إلا إذا ثبت سماعه لذلك الذي عنعن والواقع في الرواية الأولى عنه وهي رواية هشام بالعنعة حيث قال عن أنس ولما ثبت من رواية أبان عنه بالتحديث علم اتصال عنعنته وقوى الاحتجاج به ( الثانية ) فيه التنبيه على تفسير المتن بقوله من إيمان بدل قوله من خير ( الثالثة ) فيه التقوية لما قبله فأن قلت لم لم يكتف بطريق أبان التي ليس فيها التدليس وبسوقها موصولة قلت ان أبان وأن كان ثقة لكن هشاما أوثق منه واحفظ حتى قال بو داود الطيالسي ما رأى الناس اثبت من هشام الدستوائي فذكر الأقوى واتبعه بالقوى لزيادة التأكيد وابان بفتح الهمزة وتخفيف الباء الموحدة ابن يزيد العطار البصري سمع قتادة وغير وروى عنه الطيالسي وحبان بن هلال ومسلم بن إبراهيم وغيرهم قال البخاري في كتاب الصلاة وقال موسى ثنا ابان عن قتادة فأخرج له البخاري استشهادا وأخرج له مسلم عن عبد بن حميد عن مسلم بن إبراهيم عنه في البيوع وفي موضع آخر عن زهير عن عبد الصمد عنه ووزنه فعال كغزالي فعلى هذا هو منصرف والهمزة فاء الكلمة أصلية والألف زائدة وهو الصحيح المشهور وقول الاكثرين وقال ابن مالك ابان لا ينصرف لأنه على وزن افعل منقول من ابان يبين ولو لم يكن منقولا لوجب أن يقال فيه أبين بالتصحيح
45 - حدثنا ( الحسن بن الصباح ) سمع ( جعفر بن عون ) حدثنا ( أبو العميس ) أخبرنا ( قيس بن

(1/261)


مسلم ) عن ( طارق بن شهاب ) عن ( عمر بن الخطاب ) أن رجلا من اليهود قال له يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال أي آية قال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا قال عمر قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي وهو قائم بعرفة يوم جمعة
أخرج هذا الحديث ههنا لأنه في بيان سبب نزول الآية التي هي من جملة الترجمة وهي قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم ( المائدة 3 ) الآية
بيان رجاله وهم ستة الأول الحسن أبو علي بن الصباح بتشديد الباء الموحدة ابن محمد البزار بزاي بعدها راء الواسطي سكن بغداد قالوا كان من خيار الناس وقال أحمد بن حنبل ثقة صاحب سنة وما يأتي عليه يوم إلا وهو يفعل فيه خيرا روى عنه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وروى الترمذي عن رجل عنه توفي ببغداد سنة ستين ومائتين فيما ذكر محمد بن طاهر وابن عساكر وقال محمد بن سرور المقدسي والكلاباذي توفي سنة تسع وأربعين ومائتين فعلى القول الأول تكون وفاته قبل البخاري لأن البخاري توفي سنة ست وخمسين ومائتين الثاني جعفر بن عون بن جعفر بن عمرو بن حريث المخزومي أبو عون قال ابن معين هو ثقة وقال أحمد رجل صالح ليس به بأس توفي بالكوفة سنة سبع ومائتين روى له الجماعة الثالث أبو العميس بضم العين المهملة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة واسمه عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الهذلي المسعودي الكوفي أخو عبد الرحمن قال يحيى وأحمد ثقة توفي سنة عشرين ومائة روى له الجماعة الرابع قيس بن مسلم أبو عمرو الجدلي الكوفي العابد سمع طارق بن شهاب ومجاهدا وغيرهما وعنه الأعمش ومسعر وغيرهما مات سنة عشرين ومائة الخامس طارق بن شهاب بن عبد شمس بن سلمة بن هلال بن عوف بن جشم بن ظفر بن عمرو بن لؤي بن رهم بن معاوية بن أسلم بن أخمس بطن من بجيلة صحابي رأى النبي وأدرك الجاهلية وغزا في خلافة أبي بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ثلاثا وأربعين من بين غزوة وسرية روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة سكن الكوفة توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة أخرج له البخاري عن أبي بكر وابن مسعود ومسلم عن أبي سعيد وأبو داود والنسائي عن النبي هكذا ذكر الشيخ قطب الدين وفاته وهو وهم نبه عليه المزي والذين قالوا في وفاته هو سنة ثلاث وثمانين وقيل سنة اثنتين وقيل سنة أربع وقال أبو داود رأى طارق النبي عليه السلام ولم يسمع منه شيئا قلت بجيلة بفتح الباء الموحدة وكسر الجيم هي أم ولد أنمار بن أراش وهي بنت صعب بن العشيرة السادس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ومنها أن فيه رواية صحابي عن صحابي ومنها أن ثلاثة منهم كوفيون
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن محمد بن يوسف وفي التفسير عن بندار عن ابن مهدي كلاهما عن سفيان الثوري وفي الاعتصام عن الحميدي عن سفيان بن عيينة عن مسعر وغيره كلهم عن قيس بن مسلم عن طارق وأخرجه مسلم في آخر الكتاب عن زهير بن حرب ومحمد بن المثنى كلاهما عن ابن مهدي به وعن عبد بن حميد عن جعفر بن عون به وعن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب كلاهما عن عبد الله بن إدريس عن أبيه عن قيس بن مسلم وأخرجه الترمذي في التفسير عن ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة وقال حسن صحيح وأخرجه النسائي في الحج عن إسحاق بن إبراهيم عن عبد الله بن إدريس به وفي الإيمان عن أبي داود الحراني عن جعفر بن عون به
بيان اللغات قوله من اليهود هو علم قوم موسى عليه السلام وفي ( العباب ) اليهود اليهوديون ولكنهم حذفوا ياء الإضافة كما قالوا زنجي وزنج ورومي وروم وإنما عرف على هذا الحد فجمع على قياس شعيرة وشعير ثم عرف الجمع بالألف واللام ولولا ذلك لم يجز دخول الألف واللام لأنه معرفة مؤنث يجري في كلامهم مجرى القبيلة ولم يجر كالحي انتهى وسموا به

(1/262)


اشتقاقا من هادوا أي مالوا أي في عبادة العجل أو من دين موسى أو من هاد إذا رجع من خير إلى شر ومن شر إلى خير لكثرة انتقالهم من مذاهبهم وقيل لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة وقيل معرب من يهوذا بن يعقوب بالذال المعجمة ثم نسب إليه فقيل يهودي ثم حذفت الياء في الجمع فقيل يهود وكل منسوب إلى جنس الفرق بينه وبين واحده بالياء وعدمها نحو روم ورومي كما ذكرناه قوله معشر اليهود المعشر الجماعة الذين شأنهم واحد ويجمع على معاشر قوله عيدا على وزن فعل أصله عود لأنه من العود سمي به لأنه يعود في كل عام وقال الزمخشري في قوله تعالى تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ( المائدة 114 ) قيل العيد هو السرور العائد ولذلك يقال يوم عيد وكأن معناه تكون لنا سرورا وفرحا ويجمع على أعياد فرقا بينه وبين أعواد الذي هو حمع عود قوله بعرفة يوم عرفة هو التاسع من ذي الحجة تقول هذا يوم عرفة غير منون ولا يدخلها الألف واللام لأن عرفة علم لهذا المكان المخصوص ففيها العلمية والتأنيث وقد يطلق على اليوم المعهود أيضا
بيان الإعراب قوله سمع جعفر فعل وفاعل ومفعول وقبله شيء مقدر تقديره حدثنا الحسن بن الصباح أنه سمع جعفر وقد جرت عادة المحدثين بحذف أنه في مثل هذا الموضع في الخط ولكن لا بد من قراءته كما يحذف لفظ قال خطأ لا قراءة قوله من اليهود في محل النصب على أنه صفة ل رجلا أي رجلا كائنا من اليهود قوله قال له أي لعمر وهذه الجملة في محل الرفع لأنها خبر إن قوله آية مبتدأ وإن كان نكرة لأنه تخصص بالصفة وهي قوله في كتابكم وقوله تقرؤنها جملة في محل الرفع على أنها صفة أخرى للمبتدأ والجملة الشرطية خبره أعني قوله لو علينا إلى آخره ويجوز أن يكون المخصص للمبتدأ صفة محذوفة تقديره آية عظيمة وقوله وفي كتابكم خبره وقوله يقرؤنها خبر بعد خبر ويجوز أن يكون الخبر محذوفا مقدرا فيما قبله وتقديره في كتابكم آية وقوله في كتابكم المذكور مفسر له حذف ذلك حتى لا يجمع بين المفسر والمفسر قوله لو علينا تقديره لو نزلت علينا لأن لو لا تدخل إلا على الفعل فحذف الفعل لدلالة الفعل المذكور عليه كما في قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك ( التوبة 6 ) أي وإن استجارك أحد وقوله تعالى لو أنتم تملكون ( الإسراء 100 ) أي لو تملكون أنتم قوله علينا يتعلق بالمحذوف قوله معشر اليهود كلام إضافي منصوب على الاختصاص أي أعني معشر اليهود قوله لاتخذنا جواب الشرط قوله قال أي آية أي قال عمر رضي الله عنه أي آية هي فالخبر محذوف قوله وهو قائم جملة إسمية وقعت حالا والباء في بعرفة ظرفية وقد قلنا إنه غير منصرف للعلمية والتأنيث والباء تتعلق بقوله قائم أو بقوله نزلت قوله يوم الجمعة وفي بعض الروايات يوم جمعة وهي بفتح الميم وضمها وإسكانها فإن قلت ما الفرق بين فعلة ساكن العين وفعلة بتحريكها قلت إن الساكن بمعنى المفعول والمتحرك بمعنى الفاعل يقال رجل ضحكة بسكون الحاء أي مضحوك وهذه قاعدة كلية فإن قلت عرفة غير منصرف اتفاقا لما ذكرت فما بال الجمعة منصرفا مع أنها مثلها في كونها إسما للزمان المعين وفيه تاء التأنيث قلت عرفة علم والجمعة صفة أو غير صفة ليس علما لو جعل علما لامتنع من الصرف
بيان المعاني قوله إن رجلا من اليهود اسم هذا الرجل هو كعب الأحبار صرح بذلك مسدد في ( مسنده ) والطبري في ( تفسيره ) والطبراني في ( الأوسط ) كلهم من طريق رجاء بن أبي سلمة عن عبادة بن نسي بضم النون وفتح السين المهملة عن إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب عن كعب فإن قلت روى البخاري في المغازي من طريق الثوري عن قيس بن مسلم أن ناسا من اليهود وأخرج في التفسير من هذا الوجه بلفظ قالت اليهود فكيف التوفيق بين هذه الروايات قلت التوفيق فيها أن كعبا حين سأل عمر رضي الله عنه عن ذلك كان معه جماعة من اليهود قوله أي آية كلمة أي ههنا للاستفهام وهو اسم معرب معرفة للاضافة وقد تترك الإضافة وفيه معناها وإذا كان الذي أضيف إليه مؤنثا لا يجب دخول التاء فيه وإنما يجب إذا وقع صفة لمؤنث نحو مررت بامرأة أية امرأة ونظير قوله أي آية قوله تعالى وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ( لقمان 34 ) فإن قلت ما الفرق بين الاستفهام به وبين الاستفهام بما نحو ما تلك ( طه 17 ) الآية قلت السؤال بأي إنما هو عمل يميز أحد المشاركات و بما عن الحقيقة والغرض ههنا طلب تعيين تلك الآية وتمييزها عن

(1/263)


سائر الآيات التي في الكتاب مقروءة قوله قد عرفنا ذلك اليوم معناه أنا ما أهملناه ولا خفي علينا زمان نزولها ولا مكان نزولها وضبطنا جميع ما يتعلق بها حتى صفة النبي عليه السلام وموضعه في زمان النزول وهو كونه عليه السلام قائما حينئذ وهو غاية في الضبط وقال النووي معناه أنا ما تركنا تعظيم ذلك اليوم والمكان أما المكان فهو عرفات وهو معظم الحج الذي هو أحد أركان الإسلام وأما الزمان فهو يوم الجمعة ويوم عرفة وهو يوم اجتمع فيه فضلان وشرفان ومعلوم تعظيمنا لكل واحد منهما فإذا اجتمعا زاد التعظيم فقد اتخذنا ذلك اليوم عيدا وعظمنا مكانه أيضا وهذا كان في حجة الوداع وعاش النبي عليه السلام بعدها ثلاثة أشهر قوله والذي نزلت فيه على النبي عليه الصلاة و السلام زاد مسلم عن عبد بن حميد عن جعفر بن عون في هذا الحديث ولفظه إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه ولأحمد عن جعفر بن عون والساعة التي نزلت فيها على النبي عليه السلام فإن قلت كيف طابق الجواب السؤال لأنه قال لاتخذناه عيدا فقال عمر رضي الله عنه عرفنا أحواله ولم يقل جعلناه عيدا قلت لما بين أن يوم النزول كان عرفة ومن المشهورت أن اليوم الذي بعد عرفة عيد للمسلمين فكأنه قال جعلناه عيدا بعد إدراكنا استحقاق ذلك اليوم للتعبد فيه فإن قلت فلم ما جعلوا يوم النزول عيدا قلت لأنه ثبت في الصحيح أن النزول كان بعد العصر ولا يتحقق العيد إلا من أول النهار ولهذا قال الفقهاء ورؤية الهلال بالنهار لليلة المستقبلة فافهم
34 -
( باب الزكاة من الإسلام )
أي هذا باب والباب منون ويجوز بالإضافة إلى الجملة والزكاة مرفوع بالابتداء وخبره من الاسلام أي الزكاة شعبة من شعب الإسلام وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب السابق هو زيادة الإيمان ونقصانه وقد علم أن الزيادة تكون بالأعمال والنقص بتركها وهذا الباب فيه أن أداء الزكاة من الإسلام يعني أنه إذا أدى الزكاة يكون إسلامه كاملا وإذا تركها يكون ناقصا لا يقال لم أفرد الزكاة بالذكر في الترجمة من بين سائر أركان الإسلام لأنه قد أفرد لكل واحد من بقية الإركان بابا بترجمة
وقوله وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ( البينة 5 )
هكذا هو في رواية أبي ذر وفي رواية الباقين باب الزكاة من الإسلام وقول الله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله ( البينة 5 ) الآية وفي بعض النسخ وقوله تعالى وما أمروا ( البينة 5 ) الآية قوله وقول الله مجرور عطف على محل قوله الزكاة من الإسلام لأنها مضاف إليها وكذلك قوله وقوله تعالى وأما راوية أبي ذر فإنها بلا عطف لأن الواو في قوله وما أمروا ( البينة 5 ) واو العطف في القرآن عطف بها على ما قبله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ( البينة 4 ) فإن قلت كيف التئام الآية بالترجمة قلت الالتئام بينهما معنوي وهو أن الآية فيها ذكر أن الزكاة من الدين والدين هو الإسلام لقوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام ( آل عمران 19 ) وتحقيق ذلك أن الله تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة ثلاثة أشياء الأول إخلاص الدين الذي هو رأس جميع العبادات والثاني إقامة الصلاة التي هي عماد الدين والثالث إيتاء الزكاة التي تذكر دائما تالية للصلاة ثم أشار إلى جميع ذلك بقوله وذلك دين القيمة ( البينة 5 ) أي المذكور من هذه الأشياء هو دين القيمة أي دين الملة القيمة فالموصوف محذوف وقرىء وذلك الدين القيمة على تأويل الدين بالملة ومعنى القيمة المستقيمة الناطقة بالحق والعدل فإن قلت كيف خص الزكاة بالترجمة والمذكور ثلاثة أشياء قلت أجيب عن هذا عن قريب قوله وما أمروا ( البينة 5 ) أي وما أمر أهل الكتاب في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي ولكنهم حرفوا وبدلوا وقال الزمحشري فإن قلت ما وجه قوله وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين ( البينة 5 ) قلت معناه وما أمروا في الكتابين إلا لأجل أن يعبدوا الله على هذه الصفة وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه إلا أن يعبدوا بمعنى بأن يعبدوا الله انتهى قلت العبادة بمعنى التوحيد أي وما أمروا إلا ليوحدوا الله والاستثناء من أعم عام المفعول لأجله أي ما أمروا لأجل شيء إلا للعبادة أي التوحيد والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص

(1/264)


السبب ويدخل فيه جميع الناس قوله مخلصين حال من الضمير الذي في أمروا وقوله الدين منصوب به قوله حنفاء حال أخرى جمع حنيف وهو المائل عن الضلال إلى الهداية قوله ويقيموا الصلاة عطف على قوله ليعبدوا الله من باب عطف الخاص على العام وفيه تفضيل للصلاة والزكاة على سائر العبادات وقد مر معنى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
46 - حدثنا ( إسماعيل ) قال حدثني مالك بن أنس عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول جاء رجل إلى رسول الله من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله خمس صلوات في اليوم والليلة فقال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع قال رسول الله وصيام رمضان قال هل علي غيره قال لا إلا أن تطوع قال وذكر له رسول الله الزكاة قال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع قال فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص قال رسول الله أفلح إن صدق
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأن الترجمة الزكاة من الإسلام وموضع الدلالة في الحديث هو قوله فإذا هو يسأله عن الإسلام فذكر الصلاة والصوم والزكاة وهذا ظاهر في كونها من الإسلام وكذلك مطابقته للآية ظاهرة من حيث أن المذكور في كل واحد منهما الصلاة والزكاة
بيان رجاله وهم خمسة الأول إسماعيل بن أبي أويس وهو إسماعيل بن عبد الله الأصبحي المدني ابن أخت الإمام ( مالك بن أنس ) شيخه وخاله وأبو أويس ابن عم مالك وقد مر في باب تفاضل أهل الإيمان الثاني مالك بن أنس الإمام المشهور وقد مر غير مرة الثالث عمه أبو سهيل وهو نافع بن مالك بن أبي عامر المدني وقد مر الرابع أبوه وهو مالك بن أبي عامر وقد مر الخامس أبو محمد ( طلحة بن عبيد الله ) بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة يجتمع مع رسول الله في الأب السابع مثل أبي بكر رضي الله عنه أسلمت أمه وهاجرت شهد المشاهد كلها إلا بدرا كسعيد بن زيد وقد ضرب له رسول الله بسهمه وآجره فيها وكان الصديق رضي الله عنه إذا ذكر أحدا قال ذلك يوم كله لطلحة وقد وهم البخاري في قوله إن سعيد بن زيد ممن حضر بدرا وهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام والخمسة الذين أسلموا على يد الصديق رضي الله عنه والستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض وهو ممن ثبت مع النبي يوم أحد ووقاه بيده ضربة قصد بها فشلت رماه مالك بن زهير يوم أحد فاتقى طلحة بيده عن وجه رسول الله عليه السلام فأصاب خنصره فقال حين أصابته الرمية حيس فقال رسول الله لو قال بسم الله لدخل الجنة والناس ينظرون وقيل جرح في ذلك اليوم خمسا وسبعين جراحة وشلت أصبعاه وسماه النبي طلحة الخير وطلحة الجواد روي له ثمانية وثلاثون حديثا اتفقا منها على حديثين وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة قتل يوم الجمل أتاه سهم لا يدري من وراءه واتتهم به مروان لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين عن أربع وستين سنة وقيل اثنتين وستين وقيل ثمان وخمسين وقبره بالبصرة وقال ابن قتيبة دفن بقنطرة قرة ثم رأت بنته بعد ثلاثين سنة في المنام أنه يشكو إليها النداوة فأمرت فاستخرج طريا ودفن في دار الهجرتين بالبصرة وقبره مشهور رضي الله عنه روى له الجماعة وطلحة في الصحابة جماعة وطلحة بن عبيد الله اثنان هذا أحدهما وثانيهما التيمي وكان يسمى أيضا طلحة الخير فأشكل على الناس

(1/265)


بيان لطائف إسناده منها أن فيه أولا حدثنا إسماعيل ثم حدثني مالك لأن في الأول الشيخ قرأ له ولغيره وفي الثاني قرأ له وحده ومنها أن فيه التحديث والسماع والعنعنة ومنها أن رجاله كلهم مدنيون ومنها أن إسناده مسلسل بالأقارب لأن إسماعيل يروي عن خاله عن عمه عن أبيه فإن قلت حكى الكلاباذي وغيره عن ابن سعد عن الواقدي أن مالك بن أبي عامر توفي سنة اثنتي عشرة ومائة وأنه بلغ من العمر سبعين أو اثنتين وسبعين فعلى هذا يكون مولده بعد موت طلحة بسنتين قلت قال بعضهم لعله صحف التسعين بالسبعين وحكى المنذري عن ابن عبد البر أن وفاته سنة مائة أو نحوها فيصح على هذا ويستقيم وقد ثبت سماع مالك منه ومن غيره كعثمان رضي الله عنه نبه عليه الثوري وغيره
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الشهادات عن إسماعيل بن أبي أويس بالإسناد المذكور وأخرجه أيضا في الصوم وفي ترك الحيل عن قتيبة عن إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل به وأخرجه مسلم في الإيمان عن قتيبة عن مالك به وعن قتيبة ويحيى بن أيوب كلاهما عن إسماعيل بن جعفر به وقال مسلم في حديث يحيى بن أيوب قال رسول الله أفلح وأبيه إن صدق وأخرجه أبو داود في الصلاة عن القعنبي عن مالك به وعن أبي الربيع سليمان بن داود عن إسماعيل بن جعفر به وأخرجه النسائي في الصلاة عن قتيبة عن مالك به وفي الصوم عن علي بن حجر عن إسماعيل بن جعفر به وفي الإيمان عن محمد بن سلمة عن عبد الرحمن بن قاسم عن مالك به
بيان اللغات قوله من أهل نجد بفتح النون وسكون الجيم قال الجوهري نجد من بلاد العرب وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد وهو مذكر قلت النجد الناحية التي بين الحجاز والعراق ويقال ما بين العراق وبين وجرة وغمرة الطائف نجد ويقال هو ما بين جرش وسواد الكوفة وحده من الغرب الحجاز وفي ( العباب ) نجد من بلاد العرب خلاف الغور والغور هو تهامة وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد وهو في الأصل ما ارتفع من الأرض والجمع نجاد ونجود وانجد قوله ثائر الرأس أي منتفش شعر الرأس ومنتشره يقال ثار الغبار أي انتفش وفتنة ثائرة أي منتشرة قلت مادته واوية من ثار الغبار يثور ثورا وحاصله أن شعره متفرق منتشر من عدم الارتفاق والرفاهية قوله دوى صوته بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء كذا هو في عامة الروايات وقال القاضي عياض جاء عندنا في البخاري بضم الدال قال والصواب الفتح قال الخطابي الدوي صوت مرتفع متكرر لا يفهم وإنما كان كذلك لأنه نادى من بعد ويقال الدوي بعد الصوت في الهواء وعلوه ومعناه صوت شديد لا يفهم منه شيء كدوي النحل وقال الشيخ قطب الدين هو شدة الصوت وبعده في الهواء مأخوذ من دوي الرعد ويقال هو شدة صوت لا يفهم فلما دنا فهم كلامه فلهذا قال فلما دنا فإذا هو يسأل وقال الجوهري دوي الريح حفيفها وكذلك دوي النحل والطائر ويقال دوى النحل تدوية وذلك إذا سمعت لهديره دويا والدوي أيضا السحاب ذو الرعد المرتجس قوله ولا يفقه من الفقه وهو الفهم قال الله تعالى يفقهوا قولي ( طه 28 ) أي يفهموا قوله حتى دنا من الدنو وهو التقرب قوله إلا أن تطوع بتشديد الطاء والواو كليهما أصله تتطوع بتائين فادغمت إحدى التائين في الطاء ويجوز تخفيف الطاء على الحذف أعني حذف إحدى التائين وأي التائين هي المحذوفة فيه خلاف فقال بعضهم حذف التاء الزائدة أولى لزيادتها وقال الأكثرون الأصلية أولى بالحذف لأن الزائدة إنما دخلت لإظهار معنى فلا تحذف لئلا يزول الغرض الذي لأجله دخلت ويجوز إظهار التائين أيضا من غير إدغام وهذه ثلاثة أوجه في المضارع وقال النووي المشهور التشديد ومعناه إلا أن تفعله بطواعيتك وفي ماضيه لغتان تطوع وأطوع وكلاهما يفعل إلا أن إدغام التاء في الطاء أوجب جلب ألف الوصل ليتمكن من النطق بالساكن قوله فادبر من الإدبار وهو التولي قوله أفلح من الإفلاح وهو الفوز والبقاء وقيل هو الظفر وإدراك البغية وقيل إنه عبارة عن أربعة أشياء بقاء بلا فناء وغناء بلا فقر وعز بلا ذل وعلم بلا جهل قالوا ولا كلمة في اللغة أجمع للخيرات منه والعرب تقول لكل من أصاب خيرا مفلح وقال ابن دريد أفلح الرجل وأنجح أدرك مطلوبه
بيان الإعراب قوله من أهل نجد في مجل الرفع لأنه صفة لقوله رجل قوله ثائر الرأس يجوز فيه الرفع والنصب أما الرفع فعلى أنه صفة لرجل وأما النصب فعلى أنه حال وههنا سؤالان أحدهما ذكره الكرماني وأجاب عنه وهو أن شرط الحال أن تكون نكرة وهو مضاف فيكون معرفة فأجاب بأن إضافته لفظية فلا تفيد إلا تخفيفا والآخر ذكرته في

(1/266)


شرح سنن أبي داود وهو أنه إذا وقع الحال عن النكرة وجب تقديم الحال على ذي الحال فكيف يكون هذا حالا قلت يجوز وقوع صاحبها نكرة من غير تأخير إذا اتصف بشيء كما في المبتدأ نحو قوله تعالى فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا ( الدخان 4 ) أو أضيف نحو جاء غلام رجل قائما أو وقع بعد نفي كقوله تعالى وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ( الحجر 4 ) وهنا اتصفت النكرة بقوله من أهل نجد فافهم قوله يسمع بضم الياء على صيغة المجهول ودوي صوته كلام أضافي مفعول ناب عن الفاعل وفي رواية نسمع بالنون المصدرة للجماعة ودوي صوته بالنصب على أنه مفعول وكذلك ولا نفقه بالنون وقوله ما يقول في محل النصب على أنه مفعول وهذه الرواية هي المشهورة وعليها الاعتماد وكلمة ما موصولة و يقول جملة صلتها والعائد محذوف تقديره ما يقوله قوله حتى هنا للغاية بمعنى إلى أن دنا قوله فإذا هي التي للمفاجأة وقوله هو مبتدأ و يسأل عن الإسلام خبره وقد علم أن إذا التي للمفاجأة تختص بالجمل الاسمية ولا تحتاج إلى الجواب ولا تقع في الابتداء ومعناه الحال لا الاستقبال وهي حرف عند الأخفش واختاره ابن مالك وظرف مكان عند المبرد واختاره ابن عصفور وظرف زمان عند الزجاج واختاره الزمخشري قوله خمس صلوات يجوز فيه الرفع والنصب والجر أما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي خمس صلوات وأما النصب فعلى تقدير خذ خمس صلوات أو هاك أو نحوهما وأما الجر فعلى أنه بدل من الإسلام وفيه حذف أيضا تقديره إقامة خمس صلوات عين الصلوات الخمس ليست عين الاسلام بل إقامتها من شرائع الإسلام قوله فقال أي الرجل المذكور و هل للاستفهام و غيرها بالرفع مبتدأ و علي مقدما خبره قوله فقال لا أي فقال الرسول عليه السلام ليس عليك شيء غيرها قوله إلا أن تطوع استثناء من قوله لا وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى قوله وصيام شهر رمضان كلام إضافي مرفوع عطف على قوله خمس صلوات قوله قال وذكر له رسول الله عليه الصلاة و السلام أي قال الراوي وهو طلحة بن عبيد الله قوله وهو يقول جملة حالية قوله افلح أي الرجل قوله إن صدق أي في كلامه وجواب أن محذوف فافهم
بيان المعاني قوله جاء رجل هو ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر قاله القاضي مستدلا بأن البخاري سماه في حديث الليث يريد ما أخرجه في باب القراءة والعرض على المحدث عن شريك عن أنس قال بينما نحن جلوس في المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد وفيه ثم قال أيكم محمد وذكر الحديث وقال فيه وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر فجعل حديث طلحة هذا وحديث أنس هذا له وتبعه ابن بطال وغيره وفيه نظر لتباين ألفاظهما كما نبه عليه القرطبي وأيضا فإن إبن إسحاق فمن بعده كابن سعد وابن عبد البر لم يذكروا لضمام غير حديث أنس قوله ثائر الرأس أي ثائر شعر الرأس وأطلق اسم الرأس على الشعر إما لأن الشعر منه ينبت كما يطلق اسم السماء على المطر لأنه من السماء ينزل وإما لأنه جعل نفس الرأس ذا ثوران على طريق المبالغة أو يكون من باب حذف المضاف بقرينة عقلية قوله عن الإسلام أي عن أركان الاسلام ولو كان السؤال عن نفس الإسلام كان الجواب غير هذا لأن الجواب ينبغي أن يكون مطابقا للسؤال فلما أجاب النبي بقوله خمس صلوات عرف أن سؤاله كان عن أركان الإسلام وشرائعه فأجاب مطابقا لسؤاله وقال الكرماني ويمكن أنه سأله عن حقيقة الإسلام وقد ذكر له الشهادة فلم يسمعها طلحة منه لبعد موضعه أو لم ينقله لشهرته قلت هذا بعيد إذ لو كان السؤال عن حقيقة الإسلام لما كان الجواب مطابقا للسؤال وفيه نسبة الراوي الصحابي إلى التقصير في إبلاغ كلام الرسول وقد ندب النبي عليه السلام إلى ضبط كلامه وحفظه وإبلاغه مثل ما سمعه منه في حديثه المشهور قوله إلا أن تطوع هذا الاستثناء يجوز أن يكون منقطعا بمعنى لكن ويجوز أن يكون متصلا واختارت الشافعية الانقطاع والمعنى لكن استحب لك أن تطوع واختارت الحنفية الاتصال فإنه هو

(1/267)


الأصل في الاستثناء ويستدل به على أن من شرع في صلاة نفل أو صوم نفل وجب عليه اتمامه وبقوله تعالى ولا تبطلوا أعمالكم ( محمد 33 ) وبالاتفاق على أن حج التطوع يلزم بالشروع ولما حملت الشافعية على الانقطاع قالوا لا تلزم النوافل بالشروع ولكن يستحب له إتمامه ولا يجب بل يجوز قطعه وقال الطيبي الحديث متمسك لنا في أصلين أحدهما في شمول عدم الوجوب في غير ما ذكر في الحديث كعدم وجوب الوتر والثاني في أن الشروع غير ملزم لأنه نفي وجوب شيء آخر مطلقا شرع فيه أو لم يشرع وتمسك الخصم به على أن الشروع ملزم لأنه نفي وجوب شيء آخر إلا ما تطوع به والاستثناء من النفي إثبات فيكون المثبت بالاستثناء وجوب ما تطوع به وهو المطلوب قال وهذا مغالطة لأن هذا الاستثناء من وادي قوله تعالى لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ( الدخان 56 ) أي لا يجب شيء إلا أن اتطوع وقد علم أن التطوع ليس بواجب فلا يجب شيء آخر أصلا قلت أما الأول فلا نسلم شمول عدم الوجوب مطلقا بل الشمول بالنظر إلى تلك الحالة ووقت الإخبار والوتر لم يكن واجبا حينئذ يدل عليه أنه لم يذكر الحج والوتر مثله وأما الثاني فليس من وادي قوله تعالى لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ( الدخان 56 ) على أن يكون المعنى لا يجب شيء إلا أن تطوع بل معنى إلا أن تطوع أن تشرع فيه فيصير واجبا كما يصير واجبا بالنذر وقال بعضهم من قال إنه منقطع احتاج إلى دليل والدليل عليه ما روى النسائي وغيره أن النبي كان أحيانا ينوي صوم التطوع ثم يفطر وفي البخاري أنه أمر جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه فدل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام إلا إذا كانت نافلة بهذا النص في الصوم وبالقياس في الباقي قلت من العجب أن هذا القائل كيف لم يذكر الأحاديث الدالة على استلزام الشروع في العبادة بالإتمام وعلى القضاء بالإفساد وقد روى أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت أصبحت أنا وحفصة صائمتين فأهديت لنا شاة فأكلنا منها فدخل علينا النبي فأخبرناه فقال صوما يوما مكانه وفي لفظ آخر بدلا أمر بالقضاء والأمر للوجوب فدل على أن الشروع ملزوم وأن القضاء بالإفساد واجب وروى الدارقطني عن أم سلمة أنها صامت يوما تطوعا فأفطرت فأمرها النبي عليه السلام أن تقضي يوما مكانه وحديث النسائي لا يدل على أنه عليه السلام ترك القضاء بعد الإفطار وإفطاره ربما كان عن عذر وحديث جويرية إنما أمرها بالأفطار عند تحقق واحد من الأعذار كالضيافة وكل ما جاء من أحاديث هذا الباب فمحمول على مثل هذا ولو وقع التعارض بين الأخبار فالترجيح معناه لثلاثة أوجه أحدها إجماع الصحابة والثاني أن أحاديثنا مثبتة وأحاديثهم نافية والمثبت مقدم والثالث أنه احتياط في العبادة فافهم قوله وذكر له رسول الله الزكاة هذا قول الراوي كأنه نسي ما نص عليه رسول الله والتبس عليه فقال وذكر له الزكاة وفي رواية أبي داود وذكر له عليه السلام الصدقة والمراد منها الزكاة أيضا كما في قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء ( التوبة 60 ) وهذا يؤذن بأن مراعاة الألفاظ مشروطة في الرواية فإذا التبس عليه يشير في لفظه إلى ما ينبىء عنه كما فعل الراوي ههنا وفي رواية إسماعيل بن جعفر قال فأخبرني بما فرض الله علي من الزكاة قال فأخبر رسول الله عليه الصلاة و السلام بشرائع الإسلام قوله والله لا أزيد على هذا ولا أنقص وفي رواية إسماعيل بن جعفر والذي أكرمك أي لا أزيد على ما ذكرت ولا أنقص منه شيئا قوله أفلح إن صدق وفي رواية إسماعيل بن جعفر عند مسلم أفلح وأبيه إن صدق أو دخل الجنة وأبيه إن صدق ولأبي داود مثله لكن بحذف أو وقال النووي قيل الفلاح راجع إلى لفظ ولا أنقص خاصة والمختار أنه راجع إليهما بمعنى أنه إذا لم يزد ولم ينقص كان مفلحا لأنه أتى بما عليه ومن أتى بما عليه كان مفلحا وليس فيه أنه إذا أتى بزائد على ذلك لا يكون مفلحا لأن هذا مما يعرف بالضرورة فإنه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب مع الواجب أولى وقال ابن بطال دل قوله أفلح إن صدق على أنه إن لم يصدق في التزامها أنه ليس بمفلح وهذا خلاف قول المرجئة ويقال يحتمل أن يكون السائل رسولا فحلف أن لا أزيد في الإبلاغ على ما سمعت ولا أنقص في تبليغ ما سمعته منك إلى قومي ويقال يحتمل صدور هذا الكلام منه على المبالغة في التصديق والقبول أي قبلت قولك فيما سألتك عنه قبولا لا مزيد عليه من جهة السؤال ولا نقصان فيه من طرق القبول ويقال يحتمل أن هذا كان قبل شرعية أمر آخر ويقال يحتمل أنه أراد لا أزيد عليه بتغيير حقيقته كأنه قال لا أصلي الظهر خمسا ويقال يحتمل أنه أراد أنه لا يصلي النوافل بل يحافظ على كل الفرائض وهذا مفلح بلا شك وإن كانت مواظبته على ترك النوافل مذمومة ويقال يحتمل أنه المراد أني لا أزيد على

(1/268)


شرائع الإسلام ولا أنقص منها شيئا والدليل عليه ما أخرجه البخاري في كتاب الصيام قال والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله تعالى علي شيئا
بيان استنباط الاحكام وهو على وجوه الأول ان الصلاة ركن من أركان الاسلام الثاني أنها خمس صلوات في اليوم والليلة الثالث ان الصوم أيضا ركن من أركان الاسلام وهو في كل سنة شهر واحد الرابع أن الزكاة أيضا ركن من أركان الاسلام الخامس عدم وجوب قيام الليل وهو إجماع في حق الامة وكذا في حق سيدنا رسول الله على الاصح السادس عدم وجوب العيدين وقال الاصطخري من أصحاب الشافعي صلاة العيدين فرض كفاية السابع عدم وجوب صوم عاشوراء وغيره سوى رمضان وهذا مجمع عليه الآن واختلفوا أن صوم عاشوراء كان واجبا قبل رمضان أم لا فعند الشافعي في الأظهر ما كان واجبا وعند أبي حنيفة رضي الله عنه كان واجبا وهو وجه للشافعي الثامن انه ليس في المال حق سوى الزكاة على من ملك نصابا وتم عليه الحول التاسع أن من يأتي بالخصال المذكورة ويواظب عليها صار مفلحا بلا شك العاشر أن السفر والارتحال من بلد إلى بلد لأجل تعلم علم الدين والسؤال عن الأكابر أمر مندوب الحادي عشر جواز الحلف بالله تعالى من غير استحلاف ولا ضرورة لأن الرجل حلف هكذا بحضرة النبي ولم ينكر عليه الثاني عشر صحة الاكتفاء بالاعتقاد من غير نظر ولا استدلال لكنه يحتمل ان ذلك صح عنه بالدليل وإنما أشكلت عليه الأحكام الثالث عشر فيه الرد على المرجئة إذ شرط في فلاحه أن لا ينقص من الأعمال والفرائض المذكورة الرابع عشر فيه جواز قول رمضان من غير ذكر شهر الخامس عشر فيه استعمال الصدق في الخبر المستقبل وقال ابن قتيبة الكذب مخالفة الخبر في الماضي والحلف في مخالفته في المستقبل فيجب على هذا أن يكون الصدق في الخبر عن الماضي والوفاء في المستقبل وفي هذا الحديث ما يرد عليه مع قوله تعالى ذلك وعد غير مكذوب ( هود 65 )
الاسئلة والأجوبة منها ما قيل كيف أثبت له الفلاح بمجرد ما ذكر مع أنه لم يذكر المنهيات ولا جميع الواجبات وأجيب بأنه جاء في رواية البخاري في آخر هذا الحديث قال فاخبره رسول الله بشرائع الإسلام فأدبر الرجل وهو يقول لا أزيد ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا فعلى عموم قوله بشرائع الإسلام وقوله مما فرض الله يزول الإشكال في الفرائض وأما النوافل فقيل يحتمل أن هذا كان قبل شرعها ويحتمل أنه أراد أنه لا يصلي النافلة مع أنه لا يخل بشيء من الفرائض وأما المنهيات فإنها داخلة في شرائع الإسلام وقال ابن بطال يحتمل أن يكون ذلك وقع قبل ورود النهي قلت فيه نظر لأنه جزم بأن السائل هو ضمام بن ثعلبة وقد قيل إنه وفد سنة خمس وقيل بعد ذلك وكان أكثر المنهيات واقعة قبل ذلك ومنها ما قيل إنه لم يذكر الحج في هذا الحديث وأجيب بأنه لم يفرض حينئذ أو لأن الرجل سأل عن حاله حيث قال هل علي غيرها فاجاب عليه السلام بما عرف من حاله ولعله ممن لم يكن الحج واجبا عليه وقيل لم يأت في هذا الحديث بالحج كما لم يذكر في بعضها الصوم وفي بعضها الزكاة وقد ذكر في بعضها صلة الرحم وفي بعضها أداء الخمس فتفاوتت هذه الأحاديث في عدد خصال الإيمان زيادة ونقصانا وسبب ذلك تفاوت الرواة في الحفظ والضبط فمنهم من إقتصر على ما حفظه فأداه ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا اثبات وذلك لا يمنع من ايراد الجميع في الصحيح لما عرفت أن زيادة الثقة مقبولة والقاعدة الأصولية فيها أن الحديث إذا رواه راويان واشتملت إحدى الروايتين على زيادة فإن لم تكن مغيرة لإعراب الباقي قبلت وحمل ذلك على نسيان الراوي أو ذهوله أو اقتصاره بالمقصود منه في صورة الاستشهاد وإن كانت مغيرة تعارضت الروايتان وتعين طلب الترجيح فافهم ومنها ما قيل كيف أقره على حلفه وقد ورد النكير على من حلف أن لا يفعل خيرا وأجيب بأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص وهذا جار على الأصل بأنه لا إثم على غير تارك الفرائض فهو مفلح وإن كان غيره أكثر فلاحا منه ومنها ما قيل كيف الجمع بين حلفه بقوله وأبيه إن صدق مع نهيه عن الحلف بالآباء وأجيب بأن ذلك كان قبل النهي أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف كما جرى على لسانهم عقرى حلقى وتربت يمينك والنهي إنما ورد فى القاصد بحقيقة الحلف

(1/269)


لما فيه من تعظيمه المخلوق وهذا هو الراجح عند العلماء وقال بعضهم فيه حذف مضاف تقديره ورب أبيه فاضمر ذلك فيه وقال البيهقي لا يضمر بل يذهب فيه وسمعت بعض مشايخنا يجيب بجوابين آخرين أحدهما أنه يحتمل أن يكون الحديث أفلح والله فقصر الكاتب اللامين فصارت وأبيه والآخر خصوصية ذلك بالشارع دون غيره وهذه دعوى لا برهان عليها وأغرب القرافي حيث قال هذه اللفظة وهي وابيه اختلف في صحتها فإنها ليست في الموطأ وإنما فيها افلح إن صدق وهذا عجيب فالزيادة ثابتة لا شك في صحتها ولا مرية
35 -
( باب اتباع الجنائز من الإيمان )
أي هذا باب وهو منون ويجوز ترك التنوين بإضافته إلى الجملة اعني قوله اتباع الجنائز من الإيمان فقوله اتباع الجنائز كلام أضافي مبتدأ وقوله من الإيمان خبره اي اتباع الجنائز شعبة من شعب الإيمان واتباع بتشديد التاء مصدر اتبع من باب الافتعال والجنائز جمع جنازة بالجيم المفتوحة والمكسورة والكسر أفصح وقيل بالفتح للميت وبالكسر للنعش وعليه الميت وقيل عكسه مشتقة من جنز اذا ستر وقال الجوهري الجنازة بالكسر والعامة تقول بالفتح والمعنى للميت على السرير وإذا لم يكن عليه الميت فهو سرير ونعش وفي ( العباب ) لابن الأعرابي الجنازة بالكسر السرير والجنازة بالفتح الميت وقال ابن السكيت وابن قتيبة يقال الجنازة والجنازة وقال الأصمعي الجنازة بالكسر الميت نفسه قال والعوام يتوهمون أنه السرير وقال النضر الجنازة السرير مع الرجل جميعا وقال الخليل الجنازة بالكسر خشب الشرجع وقد جرى في أفواه الناس الجنازة بالفتح والنحارير ينكرون ذلك وقال غيره إذا لم يكن عليه ميت فهو سرير أو نعش وكل شيء ثقل على قوم واغتموا به فهو جنازة وقال ابن عباد الجنازة بالكسر المريض وطعن فلان في جنازته ورمى في جنازته إذا مات وقال ابن دريد جنزت الشيء أجنزه جنزا إذا سترته وزعم قوم أن منه اشتقاق الجنازة قال ولا أدري ما صحته وقال الليث جنز الشيء إذا جمع وقيل منه اشتقاق الجنازة لأن الثياب تجمع على الميت وقال ابن دريد إن النوار لما احتضرت أوصت أن يصلي عليها الحسن البصري فاخبر الحسن بذلك فقال إذا جنزتموها فآذنوني قال فاسترككنا هذه الكلمة من الحسن يومئذ يعني التجنيز فان قلت ما وجه المناسبة بين البابين قلت الانسان له حالتان حالة الحياة وحالة الممات فالمذكور في الباب الأول هو أركان الدين التي يحصل الثواب بإقامتها بمباشرة الأحياء بدون واسطة والمذكور في هذا الباب هو الثواب الذي يحصل بمباشرة الأحياء بواسطة الأموات وقال بعضهم ختم المصنف التراجم التي وقعت له من شعب الإيمان بهذه الترجمة لأن ذلك آخر أحوال الدنيا قلت هذا ليس بصحيح لأنه بقي من الأبواب المترجمة بشعب الإيمان باب أداء الخمس من الإيمان وهو مذكور بعد أربعة أبواب من هذا الباب وكيف يصح أن يقال ختم بهذه الترجمة التراجم المذكورة فان قلت ما وجه قوله في الباب السابق باب الزكاة من الإسلام وفي هذا الباب باب اتباع الجنائز من الإيمان قلت راعى المناسبة والمطابقة فيهما فإن المذكور في الباب الأول لفظ الاسلام حيث قال فإذا هو يسأل عن الإسلام والمذكور في هذا الباب لفظ الإيمان حيث قال من اتبع جنازة مسلم إيمانا فترجم الباب على لفظة الإيمان
47 - حدثنا ( أحمد بن عبد الله بن علي المنجوفي ) قال حدثنا ( روح ) قال حدثنا ( عوف ) عن ( الحسن ومحمد ) عن ( أبى هريرة ) أن رسول الله ( ) قال من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فانه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط
مطابقة الحديث للترجمة من حيث أن مباشرة العمل الذي فيه الثواب قدر قيراطين والقيراط مثل جبل أحد شعبة من شعب الإيمان ورأيت من ذكر من الشراح وجه مطابقة الحديث للترجمة قد تعلق بقوله إيمانا واحتسابا وهذا لا وجه له

(1/270)


فان المراد من معنى الإيمان ههنا معناه اللغوي معناه مصدقا بأنه حق وطاعة وقد مر الكلام فيه وفي قوله واحتسابا مستوفى في باب قيام ليلة القدر من الإيمان
بيان رجاله وهم ستة الأول احمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف بفتح الميم وسكون النون وضم الجيم وفي آخره فاء ومعناه الموسع ونسبته إليه وكنيته أبو بكر السدوسي البصري روى عنه البخاري وابو داود والنسائي مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين الثاني روح بفتح الراء وبالحاء المهملة بن عبادة بن العلاء بن حسان بن عمر بن مرثد البصري قال الخطيب كان كثير الحديث وصنف الكتب في السنن والأحكام والتفسير وكان ثقة قال علي بن المديني نظرت لروح بن عبادة في أكثر من مائة الف حديث كتبت منها عشرة آلاف وقال يحيى بن معين لا بأس به صدوق توفي سنة خمس ومائتين روى له الجماعة الثالث عوف بالفاء ابن أبي جميلة بندويه بفتح الباء الموحدة والنون الساكنة والدال المهملة المضمومة وواو ساكنة وياء آخر الحروف مفتوحة وغلط من قال بوزن راهويه وقيل اسمه بنده أي العبد يعرف بالأعرابى ولم يكن أعرابيا وإنما قيل لفصاحته العبدي الهجري البصري سمع جمعا من كبار التابعين منهم الحسن وعنه الأعلام الثوري وشعبة وغيرهما وثقته مجمع عليها ولد سنة تسع وخمسين ومات سنة ست وقيل سنة سبع واربعين ومائة ونسب إلى التشيع روى له الجماعة الرابع الحسن البصري وقد مر ذكره الخامس محمد بن سيرين أبو بكر الأنصاري مولاهم البصري التابعي الجليل أخو أنس ومعبد ويحيى وحفصة وكريمة أولاد سيرين وسيرين مولى أنس من سبي عين التمر وإذا أطلق إبن سيرين فهو محمد هذا وهؤلاء الستة كلهم تابعيون وذكر أبو علي الحافظ خالدا بدل كريمة قال واكبرهم معبد وأصغرهم حفصة قلت وفي أولاد سيرين أيضا عمرة وسودة قال ابن سعد أمها أم ولد كانت لأنس وذكر بعضهم من أولاده أيضا أشعب فهؤلاء عشرة كاتب أنس رضي الله عنه سيرين على عشرين ألف درهم فأداها وعتق وأم محمد وأخوته صفية مولاة الصديق طيبها ثلاث من أزواج النبي ودعون لها وحضر أملاكها ثلاثة عشر بدريا منهم أبي بن كعب يدعو وهم يؤمنون سمع جمعا من الصحابة وخلقا من التابعين قال هشام بن حسان أدرك ثلاثين صحابيا ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان رضي الله عنه وهو أكبر من أخيه أنس وعنه خلق من التابعين الشعبي وقتادة وأيوب مات سنة عشر ومائة بعد الحسن بمائة يوم روى له الجماعة السادس ابو هريرة رضي الله عنه
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة ومنها أن رواته كلهم بصريون ما خلا أبا هريرة رضي الله عنه ومنها أن البخاري رحمه الله تعالى قرن فيه بين الحسن ومحمد بن سيرين لما أسلفنا أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة عند الجمهور فقرنه بمحمد بن سيرين لأنه سمع منه فالاعتماد عليه وعلى قول من يقول إن الحسن سمع منه لا يخلو إما أن يكونا سمعا هذا الحديث من أبي هريرة مجتمعين وإما ان يكونا سمعا منه مفترقين وإنما أورده البخاري كما سمع وقد وقع له نظير هذا في قصة موسى عليه السلام فإنه أخرج فيها حديثا من طريق روح بن عبادة بهذا الإسناد وأخرج أيضا في بدء الخلق عنهما عن أبي هريرة حديثا آخر واعتماده في كل ذلك على ابن سيرين لأن الحسن وإن صح سماعه عن أبي هريرة فإنه كثير الإرسال فلا تحمل عنعنته على السماع وقال الكرماني قالوا لم يصح سماع الحسن عن أبي هريرة أقول فعلى هذا التقدير يكون لفظ عن أبي هريرة متعلقا بمحمد فقط أو يكون مرسلا قلت قوله أو يكون مرسلا إن أراد به أن الحديث يكون مرسلا فلا يصح وإن أراد به الإرسال من جهة الحسن فله وجه على تقدير عدم سماعه من أبي هريرة
بيان من أخرجه غيره أخرجه النسائي في الإيمان عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام عن اسحاق الأزرق وفي الجنائز عن محمد بن بشار عن محمد بن جعفر كلاهما عن عوف عن محمد به
بيان اللغات قوله اتبع بتشديد التاء المثناة من فوق في أكثر الروايات وفي رواية الأصيلي تبع بدون الألف وكسر الباء الموحدة يقال تبعت الشيء تبعا وتباعة بفتح التاء وتبع واتبع واتبع واحد وقيل اتبعه لحقه ومشى خلفه واتبعه حذا

(1/271)


حذوه وفي ( العباب ) تبعت القوم بالكسر اتبعهم تبعا وتباعة بالفتح إذا مشيت خلفهم أو مروا بك فمضيت معهم واتبعت القوم مثل تبعتهم إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم واتبعت أيضا غيري وقوله تعالى فاتبعهم فرعون وجنوده ( يونس 90 ) وقال ابن عرفة أي لحقهم أو كاد ومنه قوله تعالى فاتبعه الشيطان ( الأعراف 175 ) اي لحقه وقال الفراء يقال تبعه واتبعه لحقه والحقه وكذلك قوله تعالى فأتبعه شهاب ثاقب ( الصافات 10 ) وقوله تعالى فاتبع سببا ( الكهف 85 ) و فاتبع سببا ( الكهف 85 ) بقطع الهمزة في قراءة أهل الشام والكوفة كل ذلك لحق وقال الأزهري في قوله تعالى فاتبعهم فرعون بجنوده ( يونس 90 ) أراد اتبعهم إياهم قوله ايمانا واحتسابا قد مر الكلام عليهما في قيام ليلة القدر قوله يرجع من الرجوع لا من الرجع قوله قيراط أصله قراط بتشديد الراء بدليل جمعه على قراريط فأبدل من إحدى الرائين ياء كما في الدينار أصله دنار بدليل جمعه على دنانير والقيراط في اللغة نصف دانق وقال الطيبي قيل القيراط جزء من أجزاء الدينار وهو نصف عشرة في أكثر البلاد وأهل الشام يجعلونه جزأ من أربعة وعشرين جزأ وقد يطلق ويراد به بعض الشيء وفي ( العباب ) وزن القيراط يختلف باختلاف البلاد فهو عند أهل مكة ربع سدس الدينار وعند أهل العراق نصف عشر الدينار انتهى وعند الفقهاء القيراط جزء من عشرين جزأ من الدينار وكل قيراط ثلاث حبات فيكون الدينار ستين حبة وكل حبة أربع أرزات فيكون مائتين وأربعين أرزة ويقال القيراط طسوجتان والطسوجة حبتان والحبة شعيرتان والشعيرة ذرتان والذرة فتيلتان وقد أراد الشارع من القيراط ههنا قدر جبل أحد والمقصود أن القيراط مقدار من الثواب معلوم عند الله تعالى وهذا الحديث يدل على عظم مقداره في هذا الموضوع ولا يلزم من هذا أن يكون هذا هو القيراط المذكور فيمن اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراط بل يجوز أن يكون أقل منه أو أكثر قلت بل الظاهر أن القيراط في الأجر اعظم من القيراط المذكور في نقص الأجر لأنه من قبيل المطلوب تركه والأول من قبيل المطلوب فعله وهو الصلاة على الجنازة وحضور دفنها وقد رأينا عادة الشرع تعظيم الحسنات وتضعيفها دون السيئات كرما منه تعالى ورحمة ولطفا والحاصل أن القيراط اسم لمقدار من الثواب يقع على القليل والكثير وبين في هذا الحديث أنه مثل أحد وفي رواية للحاكم القيراط أعظم من أحد ثم قال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وفى رواية للحاكم من حديث أبي بن كعب مرفوعا والذي نفس محمد بيده لهو في الميزان أثقل من أحد وفي اسناده الحجاج بن ارطأة وفيه مقال وفي السنن الصحاح المأثورة من حديث أبي هريرة مرفوعا من أوذن بجنازة فأتى أهلها فعزاهم كتب الله له قيراطا فان شيعها كتب الله له قيراطين فإن صلى عليها كتب الله له ثلاثة قراريط فإن شهد دفنها كتب الله له أربعة قراريط القيراط مثل أحد قوله مثل أحد بضمتين وهو الجبل الذي بجنب المدينة على نحو ميلين منها وهو في شمال المدينة وسمي بهذا الإسم لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هنالك وفي الحديث من طريق أبي عيسى بن جبر عن رسول الله قال أحد يحبنا ونحبه وهو على باب الجنة قال وعير يبغضنا ونبغضه وهو على باب من أبواب النار قال السهيلي وفي أحد قبر هارون عليه السلام أخي موسى الكليم وفيه قبض وثمة واراه موسى عليه السلام وكانا قد مرا بأحد حاجين أو معتمرين
بيان الإعراب قوله ومحمد بالجر عطف على الحسن قوله من اتبع كلمة من موصولة تتضمن معنى الشرط في محل الرفع على الابتداء و اتبع جملة من الفعل والفاعل وجنازة مسلم كلام إضافي مفعوله والجملة صلة الموصول قوله إيمانا واحتسابا منصوبان على الحال بمعنى مؤمنا ومحتسبا وقد مر الكلام فيه في باب تطوع قيام رمضان من الإيمان قوله وكان معه أي مع المسلم هكذا رواية الأكثرين وفي رواية الكشميهني وكان معها أي مع الجنازة وهذه الجملة عطف على قوله اتبع قوله حتى يصلي عليها على صيغة المعلوم بكسر اللام والضمير في يصلي يرجع إلى من وفي عليها إلى الجنازة ويروى بفتح اللام على صيغة المجهول وقوله عليها مفعول ناب عن الفاعل وكذلك روي ويفرغ من دفنها على الوجهين و حتى هذه للغاية وأن الناصبة بعدها مضمرة وقوله يصلي ويفرغ منصوبان بها قوله فإنه يرجع من الأجر خبر المبتدأ أعني قوله من وإنما دخلت الفاء لتضمنه معنى الشرط كما ذكرنا وكلمة من بيانية فإن قلت ما محل قوله من الأجر قلت حال من قوله بقيراطين وفي الحقيقة هي صفة ولكنها لما قدمت صارت حالا والباء في بقيراطين تتعلق بقوله يرجع قوله كل قيراط كلام إضافي

(1/272)


مبتدأ وقوله مثل أحد أيضا كلام إضافي خبره واحد منصرف لأنه علم المذكر قوله ومن صلى مثل قوله من اتبع جنازة مسلم وقوله ثم رجع عطف على صلى قوله قبل ان تدفن نصب على الظرف وأن مصدرية والتقدير قبل الدفن وقوله فانه خبر المبتدأ كما في الأول قوله من الاجر حال من قوله بقيراط
بيان المعاني قوله فإنه يرجع من الأجر بقيراطين حصول القيراطن ههنا مقيد بثلاثة أشياء الأول الاتباع والثاني الصلاة عليه والثالث حضور الدفن فإن قلت لو اتبع حتى دفنت ولم يصل عليها هل له القيراطان قلت لا إذ المراد أن يصلي هو أيضا جمعا بين الروايتين وحملا للمطلق على المقيد وقال النووي اعلم أن الصلاة يحصل بها قيراط إذا انفردت فإن انضم إليها الاتباع حتى الفراغ حصل له قيراط ثان فلمن صلى وحضر الدفن القيراطان ولمن اقتصر على الصلاة قيراط واحد ولا يقال يحصل بالصلاة مع الدفن ثلاثة قراريط كما يتوهمه بعضهم من ظاهر بعض الأحاديث ولأن هذا النوع صريح والحديث المطلق والمحتمل محمول عليه وأما الرواية التي فيها من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان فمعناه فله تمام قيراطين بالمجموع ونظيره قوله تعالى ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض فى يومين ( فصلت 9 ) إلى قوله فى اربعة أيام ( فصلت 10 ) ثم قال فقضاهن سبع سموات في يومين قال وأما الدفن ففيه وجهان الصحيح أنه تسوية القبر بالتمام والثاني انه نصب اللبن عليه وان لم يهل عليه التراب قال ثم في الحديث تنبيه على مسألة أخرى وهو ان القيراط الثاني مقيد بمن اتبعها وكان معها فى جميح الطريق حتى تدفن فلو صلى وذهب إلى القبر وحده ومكث حتى جاءت الجنازة وحضر الدفن لم يحصل له القيراط الثاني وكذا لو حضر الدفن ولم يصل أو اتبعها ولم يصل فليس في الحديث حصول القيراط له وإنما حصل القيراط لمن تبعها بعد الصلاة لكنه له أجر في الجملة وعن أشهب أنه كره اتباع الجنازة والرجوع قبل الصلاة وحكى ابن عبد الحكم عن مالك أنه لا ينصرف بعد الدفن إلا بالإذن وإطلاق هذا الحديث وغيره يخالفه
استنباط الاحكام الاول فيه الحث على الصلاة على الميت واتباع جنازته وحضور دفنه وقال أبو الزناد حض النبي على التواصل في الحياة بقوله صل من قطعك وأعط من حرمك ولا تقاطعوا ولا تدابروا وعلى التواصل بعد الموت بالصلاة والتشييع إلى القبر والدعاء له الثاني فيه أن الثواب المذكور إنما يحصل لمن تبعها إيمانا واحتسابا فإن حضورها على ثلاثة أقسام احتسابا ومكافأة ومخافة والاول هو الذي يجازى عليه الأجر ويحط الوزر والثاني لا يعد ذلك في حقه والثالث الله اعلم بما فيه الثالث فيه وجوب الصلاة على الميت ودفنه وهو إجماع الرابع فيه الحض على الاجتماع لهما والتنبيه على عظم ثوابهما وهي مما خصت به هذه الامة الخامس فيه حجة ظاهرة للحنفية في ان المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها بظاهر قوله من اتبع وهو مذهب الأوزاعي أيضا وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذهب قوم إلى التوسعة في ذلك وأنهما سواء وهو قول الثوري وأبي مصعب من أصحاب مالك وقال بعضهم وقد تمسك بهذا اللفظ من زعم أن المشي خلفها أفضل ولا حجة فيه لأنه يقال تبعه إذا مشى خلفه أو إذا مر به فمشى معه وكذلك اتبعه بالتشديد قلت هذا القائل نفى حجة هؤلاء بما هو حجة عليه لأنه فسر لفظ تبع بمعنيين أحدهما حجة لمن زعم أن المشي خلفها أفضل والآخر ليس بحجة عليه ولا هو حجة لخصمه فافهم ثم الركوب وراء الجنازة لا بأس به والمشي أفضل وقالت الشافعية لا فرق عندنا بين الراكب والماشي يعني في المشي أمامها خلافا للثوري حيث قال إن الراكب يكون خلفها وتبعه الرافعي في شرح المسند وكأنه قلد الخطابي فإنه كذا ادعى وفيه حديث صححه الحاكم على شرط البخاري من حديث المغيرة بن شعبة وقال به من المالكية أيضا ابو مصعب
سؤال لم كان الجزاء بالقيراط دون غيره الجواب إنه أقل مقابل عادة آخر لم خص بأحد الجواب لأنه أعظم جبال المدينة والشارع كان يحبه وهو أيضا يحبه والله سبحانه وتعالى أعلم
تابعه عثمان المؤذن قال حدثنا عوف عن محمد عن أبى هريرة عن النبى نحوه

(1/273)


اى تابع روحا عثمان بن الهيثم في الرواية عن عوف الأعرابي وعثمان هذا أيضا من شيوخ البخاري يروي عنه في مواضع بلا واسطة وفي بعض المواضع عن محمد غير منسوب عنه وهو محمد بن يحيى الذهلي ثم البخاري رضي الله عنه إن كان سمع هذا الحديث من عثمان هذا فهو له أعلى بدرجة لأنه من روايته رباعي ومن رواية المنجوفي خماسي فإن قلت فلم ذكر رواية عثمان قلت لان رواية المنجوفي موصولة وهي اشد إتقانا من رواية عثمان فان قلت إذا كان الأمر كذلك فما الحاجة إلى ذكر متابعة عثمان قلت لأجل التنبيه بروايته على أن الاعتماد في هذا السند على محمد بن سيرين لأن عوفا ربما كان ذكره وربما كان حذفه مرة فأثبت الحسن ومتابعة عثمان هذه وصلها ابو نعيم في ( المستخرج ) قال حدثنا ابو اسحاق بن حمزة ثنا ابو طالب بن أبي عوانة ثنا سليمان بن سيف ثنا عثمان بن الهيثم فذكر الحديث ولفظه موافق لرواية روح بن عبادة إلا في قوله وكان معها قال بدلها فلزمها وفي قوله ويفرغ من دفنها فإنه قال بدلها ويدفن وقال في آخره قيراط بدل قوله فإنه يرجع بقيراط والباقي سواء وقال الكرماني فان قلت إذا قال البخاري عن فلان نجزم بأنه سمعه منه عند امكان السماع فإذا قال تابعه لم نجزم بأنه سمعه منه قلت قياس المتابعة على العنعنة يقتضي ذلك لكن صرحوا في العنعنة ولم يصرحوا فيها قوله نحوه أي نحو ما تقدم وهو أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال من اتبع جنازة إلى آخره ثم عثمان هذا هو ابو عمرو عثمان بن الهيثم بن جهم بن عيسى بن حسان بن المنذر البصري المؤذن بجامعها روى عن عوف الأعرابي وابن جريج وغيرهما وروى عنه البخاري وروى هو والنسائي عن رجل عنه توفي لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة عشرين ومائتين
36 -
( باب خوف ألمؤمن من أن يحبط عمله لا يشعر )
الكلام فيه على انواع الأول إن قوله باب مرفوع مضاف إلى ما بعده تقديره هذا باب في بيان خوف المؤمن من ان يحبط عمله وكلمة ان مصدرية تقديره من حبط عمله وليس في بعض النسخ كلمة من وهي وإن لم تكن موجودة لكنها مقدرة إذ المعنى عليها قوله يحبط على صيغة المعلوم من حبط عمله يحبط حبطا وحبوطا من باب علم يعلم وقال ابو زيد حبط بالفتح وقرىء فقد حبط عمله ( المائدة5 ) بفتح الباء وهو البطلان قال الكرماني فان قلت القول بإحباط المعاصي للطاعات من قواعد الاعتزال فما وجه قول البخاري هذاك قلت هذا الإحباط ليس بذاك لأن المراد به الإحباط بالكفر أو بعدم الإخلاص ونحوه وقال النووي المراد بالحبط نقصان الإيمان وإبطال بعض العبادات لا الكفر فإن الانسان لا يكفر إلا بما يعتقده أو يفعل عالما بانه يوجب الكفر قلت فيه نظر لأن الجمهور على أن الإنسان يكفر بكلمة الكفر وبالفعل الموجب للكفر وإن لم يعلم أنه كفر قوله يحبط عمله المراد ثواب عمله فالمضاف فيه محذوف قوله وهو لا يشعر جملة اسمية وقعت حالا من شعر يشعر من باب نصر ينصر وفي ( العباب ) شعرت بالشيء بالفتح أشعر به بالضم شعرا وشعرة وشعرى بالكسر فيهن وشعرة بالفتح وشعورا ومشعورا ومشعورة علمت به وفطنت له ومنه قولهم ليت شعري الثاني وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول هو أن حصول الثواب بالقيراطين أو بقيراط الذي هو مثل جبل أحد إنما يحصل إذا كان عمله احتسابا خالصا لله تعالى وفي هذا الباب ما يشير إلى أنه قد يعرض للعامل ما يحبط عمله فيحرم بسببه الثواب الموعود وهو لا يشعر وفي نفس الأمر ذكر هذا الباب إستطرادي لأجل التنبيه على ما ذكرنا وإلا كان المناسب أن يذكر عقيب الباب السابق باب أداء الخمس من الايمان لأن الأبواب المعقودة ههنا في بيان شعب الايمان الثالث ذكر النووي أن مراد البخاري بهذا الباب الرد على المرجئة في قولهم إن الله لا يعذب على شيء من المعاصي ممن قال لا اله الا الله ولا يحبط شيء من أعماله بشيء من الذنوب وإن إيمان المطيع والعاصي سواء فذكر في صدر الباب أقوال ائمة التابعين وما نقلوه عن الصحابة رضي الله عنهم وهو كالمشير إلى أنه لا خلاف بينهم فيه وأنهم مع اجتهادهم المعروف خافوا أن لا ينجوا من عذاب الله تعالى وقال القاضي عياض المرجئة أضداد الخوارج والمعتزلة الخوارج تكفر بالذنوب والمعتزلة يفسقون بها وكلهم يوجب الخلود في النار والمرجئة تقول لا تضر الذنوب مع الإيمان وغلاتهم تقول يكفي التصديق بالقلب وحده

(1/274)


ولا يضر عدم غيره ومنهم من يقول يكفي التصديق بالقلب والإقرار باللسان وقال غيره إن من المرجئة من وافق القدرية كالصالحي والخالدي ومنهم من قال بالإرجاء دون القدر وهم خمس فرق كفر بعضهم بعضا والمرجئة بضم الميم وكسر الجيم وبهمزة مشتق من الإرجاء وهو التأخير وقوله تعالى ارجئه واخاه ( الأعراف 111 ) أي أخره والمرجىء من يؤخر العمل عن الإيمان والنية والقصد وقيل من الرجاء لأنهم يقولون لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة وقيل مأخوذ من الإرجاء بمعنى تأخير حكم الكبيرة فلا يقضى لها بحكم في الدنيا
وقال إبراهيم التيمى ما عرضت قولي علي عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا
الكلام فيه على وجوه الأول أن ابراهيم هو ابن زيد بن شريك التيمي تيم الرباب أبو أسماء الكوفي قيل قتله الحجاج بن يوسف وقيل مات في سجنه لما طلب الإمام ابراهيم النخعي فوقع الرسول بابراهيم التيمي فأخذه وحبسه فقيل له ليس إياك أراد فقال أكره أن أدفع عن نفسي وأكون سببا لحبس رجل مسلم بريء الساحة فصبر في السجن حتى مات قال يحيى هو ثقة مرجىء ومن غرائبه ما روى عن الأعمش عن ابراهيم التيمي قال إني لأمكث ثلاثين يوما لا آكل ومات سنة اثنتين وتسعين روى له الجماعة وتيم الرباب بكسر الراء قال الحازمي تيم الرباب وهو تيم بن عبد مناة بن ود بن طابخة وقال معمر ابن المثنى تيم الرباب ثور وعدي وعكل ومزينة بنو عبد مناة وضبة بن ود قيل سموا به لأنهم غمسوا أيديهم في رب وتحالفوا عليه هذا قول ابن الكلبي وقال غيره سموا به لأنهم ترببوا أي تحالفوا على بني سعد بن زيد قلت الرب بضم الراء وتشديد الباء الموحدة الطلاء الخاثر الثاني أن قول ابراهيم هذا رواه أبو قاسم اللالكائي في سننه بسند جيد عن القاسم بن جعفر انبأنا محمد بن أحمد بن حماد حدثنا العباس بن عبد الله حدثنا محمد بن يوسف عن سفيان عن أبي حيان عن ابراهيم به ورواه البخاري في ( تاريخه ) عن أبي نعيم وأحمد بن حنبل في ( الزهد ) كلاهما عن سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن ابراهيم التيمي به الثالث مطابقة هذا للترجمة من حيث إنه كان يخاف أن يكون مكذبا في قوله إنه مؤمن لتقصيره في العمل فيحرم بذلك الثواب وهو لا يشعر الرابع في معناه قوله مكذبا روي بفتح الذال بمعنى خشيت أن يكذبني من رأى عملي مخالفا لقولي فيقول لو كنت صادقا ما فعلت خلاف ما تقول وإنما قال ذلك لأنه كان يعظ الناس وروي بكسر الذال وهي رواية الأكثرين ومعناه أنه لم يبلغ غاية العمل وقد ذم الله تعالى من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقصر في العمل فقال كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( الشعراء 36 ) فخشي أن يكون مكذبا أي مشابها للمكذبين
وقالابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب النبى كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل
الكلام فيه أيضا على وجوه الأول أن ابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بتكبير الإبن وتصغير الأب واسم أبي ملكية بضم الميم زهير بن عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن تيم بن مرة القرشي التيمي المكي الأحول كان قاضيا لابن الزبير ومؤذنا اتفق على جلالته سمع العبادلة الأربعة وعائشة وأختها اسماء وأم سلمة وابا هريرة وعقبة بن الحارث والمسور بن مخرمة وادرك بالسن جماعة ولم يسمع منهم كعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما مات سنة سبع عشرة ومائة روى له الجماعة الثاني أن قوله هذا أخرجه ابن أبي خيثمة في تاريخه موصولا من غير بيان العدد وأخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الإيمان له مطولا الثالث في معناه فقوله كلهم يخاف النفاق أي حصول النفاق في الخاتمة على نفسه إذ الخوف إنما يكون عن أمر في الاستقبال وما منهم من أحد يجزم بعدم عروض النفاق كما هو جازم في إيمان جبريل عليه السلام بأنه لا يعرضه النفاق هكذا فسره الكرماني وتبعه بعضهم على هذا المعنى وليس المعنى هكذا وإنما المعنى أنهم كلهم كانوا على حذر وخوف من أن يخالط إيمانهم النفاق ومع هذا لم يكن منهم أحد يقول إن إيمانه كإيمان جبريل عليه السلام لأن جبريل معصوم لا يطرأ عليه الخوف من النفاق بخلاف هؤلاء فإنهم غير معصومين فإن قلت روي عن علي بن ابى طالب رضي الله عنه مرفوعا من

(1/275)


شهد لا إله الا الله وإني رسول الله كان مؤمنا كإيمان جبريل عليه السلام قلت ذكره ابو سعيد النقاش في ( الموضوعات ) وقال ابن بطال لما طالت أعمارهم حتى رأوا ما لم يقدروا على إنكاره خشيوا على أنفسهم أن يكونوا في حيز من نافق أو داهن ويقال عن عائشة رضي الله عنها إنها سألت النبي عليه السلام عن قوله تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ( المؤمنون 60 ) فقال هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويفرقون ان لا يتقبل منهم وقال بعض السلف في قوله تعالى وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ( الزمر 47 ) أعمال كانوا يحتسبونها حسنات بدت سيئات وقال الكرماني ويحتمل أن يكون قوله وما منهم إشارة إلى مسألة زائدة استفادها من أحوالهم أيضا وهي أنهم كانوا قائلين بزيادة الإيمان ونقصانه قلت لا يفهم ذلك من حالهم وإنما الذي يفهم من حالهم أنهم كانوا خائفين سوء الخاتمة لعدم العصمة ويؤيد ذلك ما روي عن عائشة وبعض السلف
ويذكر عن الحسن ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق
الحسن هو البصري رحمه الله أي ما خاف الله تعالى إلا مؤمن ولا أمن الله تعالى إلا منافق وكل واحد من خاف وأمن يتعدى بنفسه قال تعالى انما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم ( آل عمران 175 ) وقال الجوهري أمنته على كذا وائتمنته بمعنى وقال تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان ( الرحمن 46 ) وقال فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ( الأعراف 99 ) وقال الكرماني ما خافه أي ما خاف من الله تعالى فحذف الجار وأوصل الفعل إليه وكذا في أمنه إذ معناه أمن منه وأمنه بفتح الهمزة وكسر الميم قلت إذا كان الفعل متعديا بنفسه فلا يحتاج إلى تقدير حرف يوصل به الفعل إلا في موضع يحتاج فيه إلى تضمين معنى فعل بمعنى فعل آخر وههنا ليس كذلك وقال بعضهم عقب كلام الكرماني بعد نقله هذا الكلام وإن كان صحيحا لكنه خلاف مراد المصنف ومن نقل عنه قلت وأثر الحسن هذا أخرجه الفريابي عن قتيبة ثنا جعفر بن سليمان عن المعلى بن زياد سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن وكان يقول من لم يخف النفاق فهو منافق قال وحدثنا ابو قدامة عبيد الله بن سعيد حدثنا مؤمل بن اسماعيل عن حماد بن زيد عن أيوب عن الحسن والله ما أصبح ولا أمسى مؤمن إلا وهو يخاف النفاق على نفسه وحدثنا عبد الأعلى بن حماد وحدثنا حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد أن الحسن كان يقول إن القوم لما رأوا هذا النفاق يقول الإنسان لم يكن لهم هم غير النفاق وحدثنا هشام بن عمار حدثنا أسد بن موسى عن أبي الأشهب عن الحسن لما ذكر أن النفاق يغول الايمان لم يكن شيء أخوف عندهم منه وحدثنا هشام حدثنا أسد بن موسى حدثنا محمد بن سليمان قال سأل أبان عن الحسن فقال نخاف النفاق قال وما يؤمنني وقد خافه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحدثنا شيبان قال حدثنا ابن الاشهب عن طريف قال قلت للحسن رضي الله عنه إن ناسا يزعمون أن لا نفاق أو لا يخافون شك أبو الاشهب فقال والله لأن أكون أعلم اني بريء من النفاق أحب إلي من طلاع الأرض ذهبا وقال احمد بن حنبل في كتاب الايمان حدثنا روح بن عبادة حدثنا هشام سمعت الحسن يقول والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق وما أمنه إلا منافق فإن قلت هذه الآثار الثلاثة صحيحة عند البخاري فلم ذكر الأولين بلفظ قال التي هي صيغة الجزم بالصحة وذكر الثالث بلفظ يذكر على صيغة المجهول التي هي صيغة التمريض قلت لما نقل الأثرين الأولين بمثل ما نقل عن إبراهيم التيمي وابن أبي مليكة من غير تغيير ذكرهما بصيغة الجزم بالصحة ونقل أثر الحسن بالمعنى على وجه الاختصار فلذلك ذكره بصيغة التمريض وصيغة التمريض لا تختص عنده بضعف الإسناد وحده بل إذا وقع التغيير من حيث النقل بالمعنى أو من حيث الاختصار يذكره بصيغة التمريض وهذا هو التحقيق في مثل هذا الموضع وليس مثل ما ذكره الكرماني بقوله قلت ليشعر بأن قولهما ثابت عنده صحيح الإسناد لان قال هو صيغة الجزم وصريح الحكم بأنه صدر منه ومثله يسمى تعليقا بصيغة التصحيح بخلاف يذكر فإنه لا جزم فيه فيعلم أن فيه ضعفا ومثله تعليق بصيغة التمريض
وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى ولم يصروا على ما فعلوا

(1/276)


وهم يعلمون
هذا عطف على قوله خوف المؤمن والتقدير باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وخوف التحذير من الاصرار على النفاق وكلمة ما مصدرية و يحذر على صيغة المجهول بتخفيف الذال وتشديدها والجملة محلها من الإعراب الجر لأنها عطف على المجرور كما قلنا وآثار إبراهم التيمي وابن أبي مليكة والحسن البصري معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه فان قلت فلم أوقعها معترضة قلت لأنه عقد الباب على ترجمتين الأولى الخوف من حبط العمل والثانية الحذر من الإصرار على النفاق وذكر فيه ثلاثة من الآثار وآية من القران وحديثين مرفوعين ولما كانت الآثار الثلاثة متعلقة بالترجمة الأولى ذكرها عقيبها والآية وأحد الحديثين وهو حديث عبد الله متعلقان بالترجمة الثانية ذكرهما عقيبها وأما الحديث الآخر وهو حديث عبادة فإنه يتعلق بالترجمة الأولى أيضا على ما نذكره وهذا فيه صيغة اللف والنشر غير مرتب والترجمة الثانية في الرد على المرجئة لأنهم قالوا لا حذر من المعاصي مع حصول الإيمان وذكر البخاري الآية ردا عليهم لأنها في مدح من استغفر من ذنبه ولم يصر عليه فمفهومه ذم من لم يفعل ذلك وكأنه لمح في ذلك حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا أخرجه أحمد في ( مسنده ) بإسناد حسن قال ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون أي يعلمون أن من تاب تاب الله عليه ثم لا يستغفرون قاله مجاهد وغيره وحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعا أخرجه الترمذي باسناد حسن ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة والآية المذكورة في سورة آل عمران وهي والذين اذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب الا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ( آل عمران 135 ) يفهم من الآية أنهم إذا لم يستغفروا أي لم يتوبوا وأصروا على ذنوبهم يكونون محل الحذر والخوف وقال الواحدي قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء نزلت هذه الآية في نبهان التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية وفي رواية الكلبي أن رجلين أنصاريا وثقيفيا آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بينهما فكانا لا يفترقان قال فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض مغازيه وخرج معه الثقفي وخلف الأنصاري في أهله وحاجته وكان يتعاهد أهل الثقفي فأقبل ذات يوم فأبصر أمراته ضاحية قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها فوقعت في نفسه فدخل عليها ولم يستأذن حتى انتهى إليها فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها فقبل ظاهر كفها ثم ندم واستحى وأدبر راجعا فقالت سبحان الله خنت امانتك وعصيت ربك ولم تصب حاجتك قال فندم على صنعه فخرج يسيح في الجبال ويتوب إلى الله تعالى من ذنبه حتى وافى الثقفي فأخبرته امرأته بفعله فخرج يطلبه حتى دل عليه فوافقه ساجدا لله عز و جل وهو يقول رب ذنبي ذنبي قد خنت أخي فقال له يا فلان قم فانطلق إلى رسول الله فاسأله عن ذنبك لعل الله تعالى أن يجعل لك فرجا وتوبة فاقبل معه حتى رجع إلى المدينة وكان ذات يوم عند صلاة العصر نزل جبريل عليه السلام بتوبته فتلاها على رسول الله عليه الصلاة و السلام والذين اذا فعلوا فاحشة أو ظلموا انفسهم ذكروا الله ( آل عمران 135 ) إلى قوله ونعم أجر العاملين ( آل عمران 136 ) فقال علي رضي الله عنه أخاص هذا لهذا الرجل أم للناس عامة في التوبة قال الحمد لله رب العالمين
48 - حدثنا ( محمد بن عرعرة ) قال ( حدثناشعبة ) عن ( زبيد ) قال سألت أبا وائل عن المرجئة فقال حدثني عبد الله أن النبى قال سباب المسلم فسوق وقتاله كفر
قد قلنا آنفا إن حديث عبد الله هذا للترجمة الثانية وهى قوله وما يحذر عن الإصرار إلى آخره فان قلت كيف مطابقته على الترجمة قلت لما دل الحديث على إبطال قول المرجئة القائلين بعدم تفسيق مرتكبي الكبائر وعدم جعل السباب فسوقا وعدم مقاتلة المسلم كفرانا لحقه طابق قوله وما يحذر عن الإصرار إلى آخره
بيان رجاله وهم خمسة الأول ابو عبد الله محمد بن عرعرة بالعينين المهملتين والراء المكررة غير منصرف للعلمية والتأنيث ابن البرند بكسر الباء الموحدة والراء المكسورة ويقال بفتحهما وسكون النون وفي آخره دال مهملة وكأنه

(1/277)


فارسي معرب ابن النعمان القرشي السامي بالسين المهملة نسبة إلى سامة بن لؤي بن غالب البصري مات سنة ثلاث عشرة ومائتين عن خمس وسبعين سنة قال الشيخ قطب الدين انفرد به البخاري عن مسلم قلت ليس كذلك فإن مسلما روى له معه وكذا أبو داود روى له نبه عليه الحافظ المزي واقتصر صاحب ( الكمال ) على أبي داود الثاني شعبة بن الحجاج وقد مر ذكره الثالث زبيد بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره دال مهملة ابن الحارث بن عبد الكريم ابو عبد الرحمن ويقال له ابو عبد الله اليامي بالياء آخر الحروف جد للقبيلة بطن من همدان ويقال الأيامي أيضا الكوفي روى عن أبي وائل وجمع من التابعين وعنه الأعمش وغيره من التابعين وجلالته متفق عليها وكان من العباد المتنسكين قال البخاري مات سنة اثنتين وعشرين ومائة وليس في الصحيحين زبيد بالضبط المذكور إلا هذا وأما زبيد بضم الزاي وباليائين باثنتين من تحت أبي الصلت فمذكور في ( الموطأ ) وليس له ذكر في الكتابين الرابع أبو وائل بالهمزة بعد الالف شقيق بن سلمة الأسدي أسد خزيمة كوفي تابعي أدرك زمن رسول الله ولم يره وقال ادركت سبع سنين من سني الجاهلية وقال كنت قبل مبعث النبي ابن عشر سنين أرعى إبلا لأهلي وسمع عمر بن الخطاب وعثمان وعليا وابن مسعود وعمارا وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم وعنه خلق من التابعين وغيرهم واجمعوا على جلالته وصلاحه وورعه وتوثيقه وهو من أجل اصحاب ابن مسعود وكان ابن مسعود رضي الله عنه يثني عليه مات سنة اثنتين وثمانين على المحفوظ وقال ابو سعيد بن صالح كان ابو وائل يؤم جنائزنا وهو ابن مائة وخمسين سنة روى له الجماعة الخامس عبد الله بن مسعود وقد تقدم
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث بصورة الجمع وصورة الإفراد والسؤال والعنعنة ومنها ان رجاله ما بين بصري وواسطي وكوفي ومنها أنهم ائمة أجلاء
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه هنا عن محمد بن عرعرة عن شعبة وفي الأدب عن سليمان بن حرب عن شعبة واخرجه مسلم في الإيمان أيضا عن محمد بن بكار بن الريان وعون بن سالم كلاهما عن محمد بن طلحة وعن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة وعن محمد بن المثنى عن عبد الرحمن عن سفيان ثلاثتهم عنه به وأخرجه الترمذي في البر عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان به وقال فيه قال زبيد قلت لأبي وائل أنت سمعته من عبد الله قال نعم وقال حسن صحيح وأخرجه النسائي في المحاربة عن محمود بن غيلان به وعن عمر بن علي عن ابن أبي عدي وعن محمود بن غيلان عن أبي داود كلاهما عن شعبة به وعن قتيبة عن جرير به موقوفا
بيان اللغة قوله عن المرجئة أي الفرقة الملقبة بالمرجئة وقد مر الكلام فيه عن قريب قوله سباب المسلم بكسر السين وتخفيف الباء بمعنى السب وهو الشتم وهو التكلم في عرض الإنسان بما يعيبه وقال بعضهم هو مصدر يقال سب يسب سبا وسبابا قلت هذا ليس بمصدر سب يسب وإنما هو اسم بمعنى السب كما قلنا أو مصدر من باب المفاعلة وفي ( المطالع ) السباب المشاتمة وهي من السب وهو القطع وقيل من السبة وهي حلقة الدبر كأنها على القول الأول قطع المسبوب عن الخير والفضل وعلى الثاني كشف العورة وما ينبغي أن يستتر وفي ( العباب ) التركيب يدل على القطع ثم اشتق منه الشتم وقال ابراهيم الحربي السباب أشد من السب وهو أن يقول في الرجل ما فيه وما ليس فيه قلت هذا أيضا يصرح بأن السباب ليس بمصدر فافهم قوله فسوق مصدر وفي ( العباب ) الفسق الفجور يقال فسق يفسق ويفسق أيضا عن الأخفش فسقا وفسوقا أي فجر وقوله تعالى وانه لفسق ( الأنعام 121 ) أي خروج عن الحق يقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها ومنه قوله تعالى ففسق عن أمر ربه ( الكهف 50 ) أي خرج عن طاعة ربه وقال الليث الفسق الترك لأمر الله تعالى وكذلك الميل إلى المعصية وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها على الناس وقال ابو عبيدة ففسق عن أمر ربه أي جاز عن طاعته وقال أبو الهيثم الفسوق يكون الشرك ويكون الإثم قوله وقتاله أي مقاتلته ويحتمل أن يكون معناها المخاصمة والعرب تسمي المخاصمة مقاتلة
بيان الاعراب قوله ان النبي أصله بأن النبي إلى آخره وقوله قال جملة في محل الرفع على أنها خبر إن

(1/278)


قوله سباب المسلم كلام إضافي مبتدأ وقوله فسوق خبره فان قلت هذا إضافة الى الفاعل او المفعول قلت بل إضافة الى المفعول قوله وقتاله كذلك اضافته إلى المفعول وارتفاعه بالابتداء وخبره كفر
بيان المعاني قوله عن المرجئة معناه سألت أبا وائل عن الطائفة المرجئة هل هم مصيبون في مقالتهم مخطئون ولهذا قال أبو وائل في جوابه لزبيد بن الحارث حدثني عبد الله أن النبي عليه الصلاة و السلام قال سباب المسلم فسوق وقتاله كفر يعني أنهم مخطئون لأنهم لا يجعلون سباب المسلم فسوقا ولا قتاله كفرا في حق المسلم ولا يفسقون مرتكبي الذنوب والنبي أخبر بخلاف ما ذهبوا إليه فدل ذلك على كونهم على خطأ وضلال وبهذا التقدير الذي قدرناه يطابق جواب أبا وائل سؤال زبيد وقال بعضهم في التقدير أي عن مقالة المرجئة وهذا لا يصح لأن على هذا التقدير لا يطابق الجواب السؤال فإن قلت في رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة عن زبيد قال لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل فذكرت ذلك له فدل هذا أن سؤاله كان عن معتقدهم وأن ذلك كان حين ظهورهم قلت لا نسلم هذه الدلالة بل الذي يدل على أنه وقف على مقالتهم حتى سأل أبا وائل هل هي صحيحة أو باطلة فإن قلت هذا الحديث وإن تضمن الرد على المرجئة لكن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذي يكفرون بالمعاصي قلت لا نسلم ذلك لأنه لم يرد بقوله وقتاله كفر حقيقة الكفر التي هي خروج عن الملة بل إنما أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير والإجماع من أهل السنة منعقد على أن المؤمن لا يكفر بالقتال ولا يفعل معصية أخرى وقال ابن بطال ليس المراد بالكفر الخروج عن الملة بل كفران حقوق المسلمين لأن الله تعالى جعلهم أخوة وأمر بالإصلاح بينهم ونهاهم الرسول عن التقاطع والمقاتلة فأخبر أن من فعل ذلك فقد كفر حق أخيه المسلم ويقال أطلق عليه الكفر لشبهه به لأن قتال المسلم من شأن الكافر ويقال المراد به الكفر اللغوي وهو الستر لأن حق المسلم على المسلم أن يعينه وينصره ويكف عنه أذاه فلما قاتله كأنه كشف عنه هذا الستر وقال الكرماني المراد أنه يؤول إلى الكفر لشؤمه أو أنه كفعل الكفارة وقال الخطابي المراد به الكفر بالله تعالى فإن ذلك في حق من فعله مستحلا بلا موجب ولا تأويل أما المؤول فلا يكفر ولا يفسق بذلك كالبغاة الخارجين على الإمام بالتأويل وقال بعضهم فيما قاله الكرماني بعد وما قاله الخطابي أبعد منه ثم قال لأنه لا يطابق الترجمة ولو كان مرادا لم يحصل التفريق بين السباب والقتال فإن مستحلا لعن المسلم بغير تأويل كفر أيضا قلت إذا كان اللفظ محتملا لتأويلات كثيرة هل يلزم منه أن يكون جميعها مطابقا للترجمة فمن ادعى هذه الملازمة فعليه البيان فإذا وافق أحد التأويلات للترجمة فإنه يكفي للتطابق وقوله ولو كان مرادا لم يحصل التفريق الخ غير مسلم لأنه تخصيص الشق الثاني بالتأويل لكونه مشكلا بحسب الظاهر والشق الأول لا يحتاج إلى التأويل لكون ظاهره غير مشكل فإن قلت جاء في رواية مسلم لعن المسلم كقتله قلت التشبيه لا عموم له ووجه التشبيه هو حصول الأذى بوجهين أحدهما في العرض والآخر في النفس فإن قلت السباب والقتال كلاهما على السواء في أن فاعلهما يفسق ولايكفر فلم قال في الأول فسوق وفي الثاني كفر قلنا لأن الثاني أغلظ أو لأنه بأخلاق الكفار أشبه
( أخبرنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس قال أخبرني عبادة بن الصامت أن رسول الله خرج يعتبر بليلة القدر وفتلاحى رجلان من المسلمين فقال إني خرجت لاخبر كم بليلة القدر وإنه تلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم التمسوها في السبع والخمس )
هذا الحديث للترجمة الأولى ووجه تطابقه اياها من حيث أن فيه ذم التلاحى وأن صاحبه ناقص لأنه يشتغل ع كثير من الخير بسببه سيما إذا كان في المسجد وعنه جهر الصوت بحضرة الرسول بل ربما ينجر إلى بطلان العمل وهو لا يشعر قال تعالى ( ولا تجهر واله بالقول كحهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) وقال بعضهم بعد أن أخذ هذا الكلام من الكرمانى ومن هنا يتضح مناسبة الحديث للترجمة ومطابقتها وقد خفيت على كثير

(1/279)


من المتكلمين على هذا الكتاب قلت أن هذا عجيب شديد يأخذ كلام الناس وينسبه إلى نفسه مدعيا أ غيره قد خفى عليه ذلك على أن هذا الذي ذكره الكرماني في وجه المطابقة إنما يقاد بالجر الثقيل على ما لا يخفي على من يتأمله فإذا أمعن الناظر فيه لا يجد لذكر هذا لحديث هنا مناسبة ولا مطابقا للترجمة
( بيان رجاله ) وهم خمسة قتيبة بن سعيد وقد مر ذكره في باب السلام من السلام الثاني إسماعيل بن جعفر الأنصاري المدنى وقد مر في باب علامات المنافق الثالث حميد بضم الحاء ابن أبي حميد واسم أبي حميدتين بكسر التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف البصري مولى طلحة الطلحات وهو مشهور بحميد الطويل قيل كان قصيرا طويل اليدين فقيل له ذلك وكان يقف عند الميت فتصل أحدى يديه إلى رأسه والاخرى إلى رجليه وقال الأصمعي رأيته ولم يكن بذلك الطويل بل كان في مر ذكره الخامس عبادة بن الصامت رضي الله عنه وقد مر ذكره في باب علامة الإيمان حب الأنصار
بيان لطائف اسناده منها أن فيه التحديث والاخبار وبالافراد والعنعنة ولكن في رواية الاصيلي حدثنا أنس فعلى روايته أمن من تدليس حميد ومنها أن فيه رواية صحابي عن صحابي ومنها أن رواته ما بيين بلخي ومدني وبصرى
( بيان تعدد موضعه ومن اخرجه غيره ) أخرجه أيضا في الصوم عن محمد بن المثنى عن خالد بن الحارث وفي الأدب عن مسدد عن بشر بن المفضل بن مغفل ثلاثتهم عن حميد الطويل عنه به وأخرجه النسائي في الاعتكاف عن محمد بن المثنى به وعن على بن حجر عن إسماعيل بن جعفر به وعن عمر أن بن موسى عن يزيد بن زريع عن حميد به
( بيان اللغات ) قوله فتلاحى بفتح الحاء من التلاحى بكسر الحاء وهو التنازع قال الجوهري تلاحوا إذا تنازعوا وقال الشيخ قطب الدين الملاحاة الخصومة والسباب والاسم اللحاء بكسر الحاء وهو التنازع قال الجوهري تلاحوا إذا تنازعوا وقال الشيخ قطب الدين الملاحاة الخصومة والسباب والاسم اللحاء بكسر اللام ممدودا قلت الذي ذكره من باب المفاعلة والذي في الحديث من باب التفاعل لان تلاحي اصله تلاحى بفتح الياء على وزن تفاعل قلبت الياء الفا لتحركها وانفتاح ما قبلها والمصدر تلاح أصله تلاحي فأعل اعلال قاض فان قلت قد علم أن باب التفاعل لمشاركة الجماعة نحو تخاصم القوم وباب المفاعلة لمشاركة اثنين نحو قاتل زيد وعمرو وكان القياس هنا أن يذكر من باب النلاحاة لأنها كانت بين رجلين قلت التحقيق في هذا الباب أن وضع فاعل لنسبة الفعل إلى الفاعل متعلقا بغيره مع أن الغير فعل مثل ذلك ووضع تفاعل لنسبته إلى المشتركين فيه من غير قصد إلى تعلق له فلذلك جاء الأول زائدا على الثاني بمفعول ابدا فأن كان تفاعل من فاعل المتعدي إلى مفعول كضارب لم يتعد وإن كان من المتعدي إلى مفعولين كجاذبته الثوب يتعدى إلى واحد وقد يفرق بينهما من حيث المعنى فان البادىء فيه غير معلوم دون تفاعل وجاه تلاحى ههنا من لاحيته لم يتعد إلى مفعول فافهم فإنه موضع دقيق قوله التمسوها من الالتماس وهو الطلب ( بيان الأعراب ) قوله خرج أي من الحجرة جملة في محل الرفع لأنها خبر أن قوله يخبر جملة مستأنفة والأولى أن تكون حالا وقد علم أن المضارع إذا وقع حالا وكان مثبتا لا يجوز فيه الواو قان قلت الخروج لم يكن في حال الأخبار قلت هذه تسمى حالا مقدرة أي خرج مقدر الأخبار وذلك كما في قوله تعالى فادخلوها خالدين أي مقدرين الخلود ولا شك أن الخروج حالة تقدير الأخبار كالدخول حالة تقدير الخلود قوله فتلاحى فعل ورجلان فاعله وكلمة من بيانية مع ما فيها من معنى التبغيض قوله أني خرجت مقول القول قوله لاخبركم بنصب الراءبان المقدرة بعد لام التعليل إذ أصله لأن أخبركم واخبر يقتضي ثلاثة مفاعيل الأول كاف الخطاب وقوله بليلة القدر سد مسد المفعول الثاني والثالث لن التقدير أخبركمك بأن ليلة القدر هي الليلة الفلانية ولا يجوز أن يكون بليلة القدر سد مسد المفعول الثاني والثالث لان التقدير أخبركم بأن ليلة القدر هي الليلة الفلانية ولا يجوز أن يكون بليلة القدر المفعول الثاني ويكون الثالث محذوفا لأن المفعول الأول في هذا الباب كمفعول اعطيت والمفعول الثاني والثالث كمفعول علمت بمعنى إذا ذكر أحدهما يجب ذكر الآخر لأنهما في المعنى كالمبتدأ والخبر فلا بد من ذكر أحدهما إذا ذكر الآخر قوله وأنه

(1/280)


بكسر الهمزة عطف على قوله إني والضمير فيه للشان وقوله تلاحى فلان جملة في محل الرفع على انه خبر أن قوله فرفعت عطف على تلاحى والفاء تصلح للسببية قوله وعسى أن يكون قد علم أن فاعل عسى على نوعين أحدهما أن يكون اسما نحو عسى زيدان يخرج فزيد مرفوع بالفاعلية وأن يخرج في موضع نصب لانه بمنزلة قارب زيد الخروج والثاني أن تكون أن مع جملتها في موضع الرفع نحو عسى أن يخرج زيد فتكون إذ ذاك بمنزلة قرب أن يخرج أي خروجه إلا أن المصدر لم يستعمل وقوله عسى أن يكون من قبيل الثاني والضمير في يكون يرجع إلى الرفع الدال عليه قوله فرفعت وقوله خير لنصب بأنه خبر يكون
( بيان المعاني ) قوله فتلاحى رجلان هما عبد الله بن أبي حدرد بفتح الحاء المهملة وفتح الراء وسكون الدال المهملة وفي آخره دال اخرى وكعب بن مالك كان على عبد الله دين لكعب يطلبه فتنازعا فيه ورفعا صوتيهما في المسجد قوله فرفعت قال النووي أي رفع بيانها أو علمها والافهى باقية إلى يوم القيامة قال وشذ قوم فقالوا رفعت ليلة القدر وهذا غلط لأن آخر الحديث يرد عليهم فأنه قال عليه الصلاة و السلام التمسوها ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمرهم بالتماسها لا يقال كيف يؤمر بطلب ما رفع علمه لانا نقول المراد طلب التعبد في مظانها وربما يقع العمل مصادفا لها أنه مأمور بطلب العلم بعينها والاوجه أن يقال رفعت من قلبي بمعنى نسيتها يدل عليه ما جاء في رواية مسلم من حديث أبي سعيد فجاء رجلان يحتقنان بتشديد القاف أي يدعى كل منهما أنه المحق معهما الشيطان فنسيتها ويعلم من حديث عبادة ان سبب الرفع التلاحى ومن حديث أبي سعيد هو النسيان ويحتمل أن يكون السبب هو المجموع ولا مانع منه قوله وعسى أن يكون خير لكم لتزيدوا في الاجتهاد وتقوموا في الليالي لطلبها فيكون زيادة في ثوابكم ولو كانت معينة لاقتنعتم بتلك الليلة فقل عملكم قوله التمسوها في السبع أي ليلة السبع والعشرين من رمضان والتسع والعشرين منه والخمس والعشرين منه وهكذا وقع في مستخرج ابي نعيم فان قلت من أين استفيد التقييد بالعشرين وبرمضان قلت من الأحاديث الآخر الدالة عليهما وقد مر في باب قيام ليلة القدر الأقوال التي ذكرت فيها
بيان استنباط الأحكام الأول فيه ذم الملاحاة ونقص صاحبها الثاني أن الملاحاة والمخاصمة سبب العقوبة للعامة بذنب الخاصة فإن الأمة حرمت اعلام هذه الليلة بسبب التلاحى بحضرته الشريفة لكن في قوله وعسى أن يكون خيرا بعض التأنيس لهم وقال النووي ادخل البخاري في هذا الباب لأن رفع ليلة القدر كان بسبب تلاحيهما ورفعهما الصوت بحضرة النبي ففيه مذمة الملاحاة ونقصان صاحبها وقال الكرماني فأن قلت إذا جاز أن يكون الرفع خيرا فلامذمة فيه ولا شر ولا حبط عمل قلت أن أريد بالخير اسم التفصيل فمعناه أن الرفع عسى أن يكون خيرا من عدم الرفع خير فلامذمة فيه ولا شر ولا حبط عمل قلت أن أريد بالخير اسم التفضيل فمعناه أن الرفع عسى أن يكون خيرا وأن عدم الرفع أزيد خيرا وأولى منه ثم أن خيرية ذاك كانت محققة وخيرية هذا مرجوة لأن مفاد عسى هو الرجاء لا غير الثالث فيه الحث على طلب ليلة القدر الرابع قال القاضي عياض فيه دليل على أن المخاصمة مذمومة وأنها مثل العقوبة المعنوية وقال بعضهم فان قيل كيف تكون المخاصمة في طلب الحق مذمومة قلنا إنما كانت كذلك لوقوعها في المسجد وهو محل الذكر لا اللغو سيما في الوقت المخصوص أيضا بالذكر وهو شهر رمضان قلت طلب الحق غير مذموم لا في المسجد ولا فيا لوقت المخصوص وإنما المذمة فيها ليست راجعة إلى مجرد الخصومة في الحق وإنما هي راجعة إلى زيادة منازعة حصلت بينهما عن القدر المحتاج إليه وتلك الزيادة هي اللغو والمسجد ليس بمحل اللغو مع ما كان فيها من رفع الصوت بحضرة النبي فافهم
37 -
( باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة )
الكلام فيه على أنواع الأول أن التقدير هذا باب في بيان سؤال جبرائيل عليه السلام الخ والباب مضاف إلى السؤال والسؤال

(1/281)


إلى جبريل إضافة المصدر إلى فاعله وجبريل لا ينصرف للعلمية والعجمة وقد تكلمنا فيه بما فيه الكفاية في أوائل الكتاب وقوله النبي منصوب لأنه مفعول المصدر وقوله عن الإيمان يتعلق بالسؤال الثاني وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول هو المؤمن الذي يخاف أن يحبط عمله وفي هذا الباب يذكر بماذا يكون الرجل مؤمنا ومن المؤمن في الشريعة الثالث قوله وعلم الساعة عطف على قوله الإيمان أي علم القيامة وقال الزمخشري سميت ساعة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها أو على العكس لطولها فهو تمليح كما يقال في الأسود كافورا ولأنها عند الله تعالى على طولها كساعة من الساعات عند الخلق فإن قلت كان ينبغي أن يقول ووقت الساعة لأن السؤال عن وقتها حيث قال متى الساعة وكلمة متى للوقت وليس السؤال عن علمها قلت فيه حذف تقديره وعلم وقت الساعة بقرينة ذكر متى والعلم لازم السؤال إذ معناه أتعلم وقت الساعة فأخبرني فهو متضمن للسؤال عن علم وقتها
وبيان النبي له ثم قال جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم فجعل ذلك كله دينا وما بين النبي لوفد عبد القيس من الإيمان وقوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ( آل عمران 85 )
و بيان مجرور لأنه عطف على قوله سؤال قوله له أي لجبريل عليه السلام وقد أعاد الكرماني الضمير إلى المذكور من قوله عن الإيمان والإسلام والاحسان وعلم الساعة وهذا وهم منه ثم تكلف بجواب عن سؤال بناه على ما زعمه ذلك فقال فإن قلت لم يبين النبي وقت الساعة فكيف قال وبيان النبي عليه السلام له لأن الضمير إما راجع إلى الأخير أو إلى مجموع المذكور قلت إما أنه أطلق وأراد أكثره إذ حكم معظم الشيء حكم كله أو جعل الحكم فيه بأنه لا يعلمه إلا الله بيانا له قوله ثم قال أي النبي عليه السلام وهذا إشارة إلى كيفية استدلاله من سؤال جبريل عليه السلام وجواب النبي إياه على جعل كل ذلك دينا فلذلك قال ثم قال بالجملة الفعلية عطفا على الجملة الاسمية لأن الأسلوب يتغير بتغير المقصود لأن مقصوده من الكلام الأول هو الترجمة ومن هذا الكلام كيفية الاستدلال فلتغاير المقصودين تغاير الأسلوبان وفي عطف الفعلية على الاسمية وعكسها خلاف بين النحاة قوله فجعل أي رسول الله قوله ذلك إشارة إلى ما ذكر في حديث أبي هريرة الآتي فإن قلت علم وقت الساعة ليس من الإيمان فكيف قال كله قلت الاعتقاد بوجودها وبعدم العلم بوقتها لغير الله تعالى من الدين أيضا أو أعطى للأكثر حكم الكل مجازا فيه نظر لأن لفظه كل يدفع المجاز قوله وما بين النبي كلمة الواو هنا بمعنى المصاحبة والمعنى جعل النبي عليه السلام سؤال جبريل وجواب النبي عليه السلام كله دينا مع ما بين لوفد عبد القيس من الإيمان وبينه في قصتهم بما فسر به الاسلام ههنا وأراد بهذا الإشعار بأن الإيمان والإسلام واحد على ما هو مذهبه ومذهب جماعة من المحدثين وقد نقل أبو عوانة الاسفرائني في ( صحيحه ) عن المزني صاحب الشافعي رحمه الله الجزم بأنهما واحد وأنه سمع ذلك منه وعن الإمام أحمد الجزم بتغايرهما وقد بسطنا الكلام فيه في أوائل كتاب الإيمان وكلمة ما مصدرية تقديره مع بيان النبي عليه السلام لوفد عبد القيس قوله وقوله ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه ( آل عمران 85 ) عطف على قوله وما بين النبي عليه السلام والتقدير ومع قوله تعالى ومن يبتغ ( آل عمران 85 ) أي مع ما دلت عليه الآية أن الإسلام هو الدين أي ومن يطلب غير الإسلام دينا والابتغاء الطلب
( حدثنا مسدد قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا أبو حيان التيمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال كان النبي بارزا يوما للناس فأتاه جبريل فقال ما الإيمان قال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث قال الإسلام قال الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال ما الإحسان

(1/282)


قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال متى الساعة قال ما المسؤل عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا النبي إن الله عنده علم الساعة الآية ثم أدبر فقال ردوه فلم يروا شيئا فقال هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم ) مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة ( بيان رجاله ) وهم خمسة الأول مسدد بن مسرهد وقد مر ذكر في باب من الإيمان أن يحب لأخيه الثاني اسمعيل بن إبراهيم بن سهم بن مقسم أبو بشر مولى بني اسد بن خزيمة المشهور بابن عليه بضم العين وفتح اللام وتشديد الياء وكانت امرأة عاقلة نبيلة وكان صالح المزي ووجوه أهل البصرة وفقهاؤها يدخلون عليها فتبرز لهم وتحادثهم وتسأئلهم وقد مر ذكره في باب حب الرسول من الإيمان الثالث أبو حبان بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف واسمه يحيى بن حيان الكوفي في التيمي قال أحمد بن عبد الله هو ثقة صالح بر صاحب سنة مات سنة خمس وأربعين ومائة روى له الجماعة ونسبته إلى تيم الرباب وحيان أما مشتق من الحياة فلا ينصرف أو من الحين فينصرف الرابع أبو زرعة هرم بن عمرو بن جرير البجلى تقدم ذكره في باب الجهاد من الإيمان الخامس أبو هريرة ( بيان لطائف اسناده ) منها أن التحديث والعنعة ومنها أن إسماعيل بن إبراهيم قد ذكره البخاري في باب حب الرسول من الإيمان بنسبته إلى أمه حيث قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن عبد العزيز وذكره ههنا باسم أبيه وهذا دليل على كال ضبط البخاري وأمانته حيث نقل لفظ الشيوخ بعينه فأداه كما سمعه ومنها أن فيه أبا حيان وهو غير تابعي وقد روى عنه تابعيان كبير أن أيوب والأعمش
( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه ههنا عن مسدد عن إسماعيل وفي التفسير عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير كلاهما عن ابي حيان وفي الزكاة مختصرا عن عبد الرحيم عن عقيل عن زهير عن أبي حيان أخرجه مسلم في الإيمان عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب كلاهما عن إسماعيل بن علية وعن محمد بن عبد الله بن نمير عن محمد بن بشر عن ابي حيان وعن زهير عن جرير عن عمارة كلاهما عن أبي زرعة وأخرجه ابن ماجه في السنة بتمامه وفي الفتن ببعضه عن أبي بكر بن أبي شيبة وأخرجه أبو داود في السنة عن عثمان عن جرير عن أبي فروة الهمذاني عن أبي زرعة عن أبي ذر وأبي هريرة وأخرجه النسائي في الإيمان عن محمد بن قدامة عن جريرية وفي العلم عن إسحاق ابن إبراهيم عن جرير مختصرا من غير ذكر سؤال السائل وقد أخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يخرجه البخاري لاختلاف فيه على بعض رواته فمشهوره رواية كهمس بن الحسن عن عبد الله عن بريدة يحيى ابن يعمر بفتح الياء آخر الحروف وسكون العين المهملة وفتح الميم عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وأخرجه مسلم في الإيمان وأخرجه أبو داود أيضا في السنة عن عبيد الله بن معاذ به وعن مسدد عن يحيى ابن سعيد به وعن محمود بن خالد عن الفريابي عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن يحيى بن يعمر بها الحديث يزيد وينقص وأخرجه الترمذي في الإيمان عن ابي علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن يحيى بن يعمر بهذا الحديث يزيد وينقص وأخرجه الترمذي في الإيمان عن أبي عمار الحسين بن حريث الخزاعي عن وكيع به وعن محمد بن المثنى عن معاذ بن معاذ به وعن أحمد بن محمد عن ابن المبارك عن كهمس به وأخرجه ابن ماجه في السنة عن علي بن محمد عن وكيع به قلت رواه عن كهمس جماعة من الحفاظ وتابعه مطر الوراق عن عبيد الله بن بريدة وأخرجهما أبو عوانه في صحيحه وسليمان التيمي عن يحيى بن يعمر أخرجهما ابن خزيمة في صحيحه وكذا رواه عثمان بن عثمان وعبد الله بن بريدة لكنه قال يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن معا عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنه وأخرجه أحمد في مسنده وقد خالفهم سليمان بن بريدة أخو عبد الله فرواه عن يحيى بن يعمر عن عبد الله بن عمر قال بينما نحن عند النبي فجعله من مسند ابن عمر لامن روايته عن أبيه وأخره أحمد أيضا وكذا أبو نعيم في الحلية من طريق عطاء الخراساني

(1/283)


عن يحيى بن يعمر وذكا روى من طريق عكطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمر أخرجهما الطبراني وفي الباب عن أنس رضي الله عنه أخرجه البزار بإسناده حسن وعن جرير البجلي أخرجه أبو عوانة في صحيحه وعن ابن عباس وأبي عامر الأشعري أخرجهما أحمد بإسناده حسن
( بيان اختلاف الروايات فيه ) قوله كان النبي بارزا يوما للناس وفي رواية أبي داود عن أبي فروة كان رسول الله يجلس بين أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل فطلبنا إلى رسول الله أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه قال فبنينا له دكانا من طين يجلس عليه وكنا نجلس بجنبته واستنبط منه القرطبي استحباب جلوس العالم بمكان يختص به ويكون مرتفعا إذا احتاج لذلك لضرورة تعليم ونحوه قوله فاتاه رجل وفي التفسير للبخاري إذ أتاه رجل يمشي وفي رواية النسائي عن أبي فروة فأناا الجلوس عنده إذا قبل رجل أحسن الناس وجها وأطيب الناس ريحا كأن ثيابه يمسها دنس وفي رواية مسلم من طريق كهمس من حديث عمر رضي الله عنه بينما نحن ذات يوم عند رسول الله إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر وفي رواية ابن حبان شديد سواد اللحية لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي وأسند ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه ولسليمان التيمي ليس عليه سحناء وليس من البلد فتخطى حتى برك بين يدي النبي كما يجلس أحدنا في الصلاة ثم وضع يده على ركبتي النبي قلت السحناء بفتح السين والحاء المهملتين والنون وهي الهيئة وكذلك السحنة بالتحريك قال أبو عبيدة لم اسمع أحدا يقولها أعنى السحناء بالتحريك غير الفراء قوله فقال ما الإيمان وزاد البخاري في التفسير فقال يا رسول الله ما الإيمان قوله أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وفي رواية الأصيلي واتفقت الرواة على ذكرها في التفسير قوله وبلقائه كذا وقعت هنا بين الكتب والرسل وكذا المسلم من الطريقين ولم يقع في بقية الروايات ووقع في حديثي أنس وابن عباس وبالموت وبالبعث بعد الموت قوله ورسله وفي رواية الأصيلي وبرسوله ووقع في حديث أنس وابن عباس رضي الله عنهم والملائكة والكتاب والنبين وكذا في رواية النسائي عن أبي ذر وعن أبي هريرة قولهتؤمن بالبعث زاد البخاري في التفسير وبالبعث الآخر وفي رواية مسلم في حديث عمر رضي الله عنه واليوم الآخر وزاد الاسماعيلي في مستخرجه هنا وتؤمن بالقدر وهي رواية أبي فروة أيضا وفي رواية كهمس وسليمان التيمى وتؤمن بالقدر وهي رواية أبي فروة أيضا وفي رواية كهمس وسليمان التيمي وتؤمن بالقدر خيره وشره وكذا في حديث ابن عباس وكذا المسلم في رواية عمارة بن القعقاع واكده بقوله في رواية عطاء عن ابن عمر بزيادة حلوه ومره في الله قوله وتصوم رمضان وفي حديث عمر رضي الله عنه و تحج البيت إن استطعت إليه سبيلا وكذا في حديث أنس في رواية عطاء الخراساني لم يذكر الصوم في حديث أبي عامر ذكر الصلاة والزكاة فحسب ولم يذكر في حديث ابن عباس غير الشهادتين وفي رواية سليمان التيمي ذكر الجميع وزاد بعد قوله وتحج البيت وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء وفي رواية مطر الوراق وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وفي رواية مسلم وتقيم الصلاة المكتوبة قوله أن تعبد الله كأنك تراه وفي رواية عمارة بن القعقاع أن تخشى الله كأنك تراه وفي رواية أبي فروة فإن لم تره فإنه يراك قوله ما المسؤول عنها بأعلم من السائل وفي رواية أبي فروة فنكس فلم يجبه ثم أعاد فلم يجبه شيئا ثم رفع رأسه قال ما المسؤول قوله سأخبرك وفي التفسير سأحدثك قوله عن أشراطها وفي حديث عمر رضي الله عنه قال فأخبرني عن اماراتها وفي رواية أبي فروة ولكن لها علامات تعرف بها وفي رواية سليمان التيمي ولكن ان شئت عن أشراطها قال أجل ونحوه في حديث ابن عباس وزاد فحدثني قوله إذا ولدت الأمة ربها وفي التفسير ربتها بتاء التأنيث وكذا في حديث عمر رضي الله عنه وفي رواية عثمان بت غياث إذا ولدت الأماء اربابهن بلفظ الجمع قوله رعاة الإبل إليهم بضم الباء الموحدة وفي رواية الإصيلي بفتحها وفي رواية الصم والبكم قوله في خمس وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما سبحان الله خمس وفي رواية عطاء الخراساني قال فمتى الساعة قال في خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله قوله والآية

(1/284)


وفي رواية الإسماعيلي وتلا الآية إلى آخر السورة وفي رواية مسلم إلى قوله خبير وكذا في رواية أبي فروة ووقع البخاري في التفسير إلى الارحام قوله فقال ردوه وزاد في التفسير فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا قوله جاء يعلم وفي التفسير ليعلم وفي رواية الإسماعيلي أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا ومثله لعمارة وفي رواية أبي فروة والذي بعث محمد بالحق ما كنت بأعلم به من رجل منكم وإنه لجبريل وفي حديث أبي عامر ثم ولي فلم نر طريقة قال النبي عليه السلام سبحان الله هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم والذي نفس محمد بيده ما جاء في قط إلا وأنا أعرفه إلا أن تكون هذه المرة وفي رواية سليمان التيمي ثم نهض فولى فقال رسول الله على بالرجل فطلبناه كل مطلبة فلم يقدر عليه فقال هل تدرون من هذا هذا جبريل عليه السلام أتاكم ليعلمكم دينكم خذوا عنه فوالذي نفسي بيده ما اشتبه على منذ اتاني قبل مرتى هذه وما عرفته حتى ولى وفي حديث عمر رضي الله عنه قال ثم انطلق فلبث مليا ثم قال يا عمر أتدرون من السائل قلت الله ورسوله اعلم قال فإنه جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم هذا لفظ مسلم وفي رواية الترمذي قال عمر رضي الله عنه فلقيني رسول الله بعد ثلاث فقال يا عمر هل تدري من السائل الحديث وأخرجه أبو داود بنحوه وفيه فلبث ثلاثا وفي رواية أبي عوانة فلبثا ليالي فلقيني رسول الله بعد ثلاث وفي رواية ابن حبان بعد ثالثةوفي رواية ابن مندة بعد ثلاثة أيام
( بيان اللغات ) قوله كان النبي بارزا يوما للناس أي ظاهر الهم وجالسا معهم غير محتجب والبروز الظهور وقال ابن سيده برزيبر زبروزا خرج إلى البزار وهو الفضاء وبرزه إليه وابرزه وكلما ظهر بعد خفاء فقد برز قال تعالى ( وترى الأرض بارزة ) قال الهروي أي ظاهره ليس فيها مستظل ولا متفيأ وفي الافعال لابن ظريف برز الشيء برزا ذكره عنه صاحب الواعي قوله فأتاه رجل أي ملك في صورة رجل قوله وملائكته جمع ملك واصلة ملاك مفعل من الالوكة بمعنى الرسالة وزيدت لاتاءفية لتأكيد معنى الجمع أو التأنيث الجمع وهم اجسام علوية نورنية مشكلة بما شاءت من الاشكال قوله وبلقائه قال الخطابي ي برؤية ربه تعالى في الآخرة قوله ورسله جمع رسول قال الكرماني الرسول هو النبي الذي انزل عليه الكتاب والنبي اعم منه قلت هذا التعريف غير صحيح لأنه غير جامع لأن كثير من الانبياء عليهم السلام لم ينزل عليهم كتب وهم ورسل مثل سليمان وأيوب ولوط ويونس وزكريا ويحي ونحوهم والتعريف الصحيح أن يقال الرسول من انزل عليه كتاب أو أنزل عليه ملك والنبي بخلافه فكل رسول نبي ولا عكس قوله بالبعث وهو بعث الموتى من القبور ويقال المراد منه بعثة الأنبياء عليهم السلام والأول اظهر قوله أن تعبدوا الله من العبادة وهي الطاعة مع خضوع وتذلل قال الهروي يقال طريق معبد إذا كان مذللا للسالكين وكل من دان للملك فهو عابد له وفي المحكم عبد الله يعبده عبادة ومعبدة ومعبدة تأله له وفي الصحاح التعبد التنسك قوله ما الاحسان مصدر أحسن من حسن من الحسن وهو ضد القبح ويأتي عن قريب معناه الشرعي قوله عن اشارطها بفتح الهمزة جمع شرط بالتحريك يعنى علاماتها وقيل مقدماتها وقيل صغار أمورها وفي المحكم والجامع أوائلها وفي الغريبين عن الاصمعي ومنه الاشتراط الذي يشترط بعض الناس على بعض إنما هي علامة يجعلونها بينهم والمراد اشراطها السابقة لاشراطها المقارنة لها كطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ونحوهما قوله ربها الرب المالك والسيد والمصلح وفي العباب رب كل شيء مالكه والرب اسم من أسماء الله تعالى ولا يقال في غيره إلا بالإضافة وقد قالوه في الجاهلية للمالك قال الحارث بن حلزة اليشكري في المنذر ماء السماء وهو الرب والشهيد على يوم الحوارين والبلابلا وقال الأنباري مخففا وربيت القوم أي كنت فوقهم ورب الضيعة أصحابها وأتممها ورب فلان ولده يربه ربا ورب بالمكان أقام به والربة المولاة ثم قال وفي حديث النبي عليه السلام حين سأله جبريل عليه السلام عن أمارات الساعة فقال أن تلد الأمة ربتها ويقال فلانة ربة البيت وهن ربات الحجال قوله وإذا تطاول إي تفاخر بطول البنيان وتكبر به والرعاة بضم الراء جمع راع كالقضاة جمع قاض وكذا الرعاة بكسر الراء جمع راع كالجياع جمع جايع قوله والبهم بضم الباء الموحدة جمع الإبهم وهو الذي لاشية له قاله الكرماني وقال القاضي جمع بهيم وهو الأسود

(1/285)


الذي لا يخالطه لون غيره وهو شر الإبل قلت إذا كان البهم صفة للرعاة ينبغي أن يكون جمع بهيم وإن كان صفة الإبل ينبغي أن يكون جمه بهماء وكلا الوجهين جائز كما نذكره في الإعراب وأما لبهم بفتح الباء كما هو في رواية الاصيلي فلا وجه له ههنا قاله القاضي عياض وأما قوله في رواية مسلم رعاء البهم فهو بفتح الباء فهو جمع بهيمة وهي صغار الضأن والمعز وقال النووي هذا قول الجمهور وقال بعضهم رواية مسلم إذا رأيت رعاء البهم بحذف لفظة ابل انسب من رواية البخاري وهي زيادة لفظة الابل لأنهم أضعف أهل البادية أما أهل الإبل فهو أهل الفخر والخيلاء والمعنى في الكل أن أهل الفقر والحاجة تصير لهم الدنيا حتى يتباهوا في البنيان قلت ذكر ابن التياني في كتاب الموعب أن البهم صغار الضأن الواحدة بهمة للذكر والأنثى والجمع بهم وجمع البهم بهام وبهامات وفي العين البهمة اسم للذكر والأنثى من أولاد بقر الوحش ومن كل شيء من ضرب الغنم والمعز وفي المخصص يكون بعد العشرين يوما بهمة من الضأن والمعز إلى أن يفطم وفي المحكم وقيل هي بهمة إذا شبت والجمع بهم وبهم وبهام وبهامات جمع الجمع وقال ثعلب البهم صغار المعز وفي الجامع للقزاز بهمة مفتوحة الباء ساكنة الهاء يقال لاولاد الوحش من الظبأ وما جانس الضأن والمعز بهم وفي الصحاح البهام جمع بهم والبهم جمع بهمة والبهمة اسم للمذكر والمؤنث والسخال أولاد المعز فإذا اجتمعت البهام والسخال قلت لهما جميعا بهام وبهم أيضا وفي المغيث لأبي موسى المديني وقيل البهمة السخلة انتهى والبهيمة ذوات الأربع من دواب البر والبحر قوله ثم أدبر من الادبار وهو التولي ( بيان الإعراب ) قوله بارزا نصب لأنه خبر كان قوله يوم نصب على الظروف قوله للناس يتعلق ببارزا قوله ما الإيمان جملة اسمية وقعت مقول القول قوله أن تؤمن خبر المبتدأ أعنى قوله الإيمان وأن مصدرية قوله وتؤمن بالنصب عطفا على قوله أن تؤمن قوله أن تعبد الله في محل الرفع على أنه خبر للمبتدأ أعنى قوله الإسلام وأن مصدرية قوله لا تشرك بالنصب عطفا على أن تعبد قوله شيئا نصب على أنه مفعول لتشرك قوله وتقيم بالنصب عطفا على أن تعبد وكذلك وتؤدى الزكاة وكذلك وتصوم رمضان وأن مقدرة في الجميع قوله ما الإحسان كلمة ما للاستفهام مبتدأ أو الإحسان خبره والألف واللام فيه للعهد في قوله تعالى ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) و ( هل جزاء لإحسان إلا الإحسان ) ( وأحسنوا أن الله يحب المحسنين ) ولتكرره في القرآن ترتب الثواب عليه سأل عنه جبريل عليه السلام قوله قال أن تعبد الله أي قال النبي في جوابه الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فقوله أن مصدرية في محل الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره الإحسان عبادتك الله كأنك تراه وقال الكرماني فإن قلت كأنك ما محله من الإعراب قلت هو حال من الفاعل أي تعبد الله مشبها بمن يراه انتهى كلامه قلت تحقيق الكلام هنا أن كأن للتشبيه قال الجوهري في فصل أن وقد تزاد على أن كاف التشبيه تقول كأنه شمس وقال غيره أنه حرف مركب عند الجمهور حتى ادعى ابن هشام وابن الخباز الإجماع عليه وليس كذلك قالوا والأصل في كأن زيدا أسد ثم قدم حرف التشبيه اهتماما به ففتحت همزة أن لدخول الجار وذكروا لها أربعة معان أحدها وهو الغالب عليها والمتفق عليه التشبيه وهذا المعنى أطلقه الجمهور لكأن وزعم منهم ابن السيد أنه لا يكون إلا إذا كان خبرها اسما جامدا نحو كأن زيدا أسد بخلاف كأن زيدا قائم أو في الدار أو عندك أو يقدم فإنها في ذلك كله للظن الثاني والشك والظن والثالث التحقيق والرابع التقريب قاله الكوفيون وحملوا عليه قوله كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل فإذا علم هذا فنقول قوله كأنك تراه ينزل على أي معنى من المعاني المذكورة فالأقرب أن ينزل على معنى التشبيه فالتقدير الإحسان عبادتك الله تعالى حال كونك في عبادتك مثل حال كونك رائيا وهذا التقدير أحسن وأقرب للمعنى من تقدير الكرماني لأن المفهوم من تقديره أن يكون هو في حال العبادة مشبها بالرائي إياه وفرق بين عبادة الرائي نفسه وعبادة المشبه بالرائي بنفسه وأما على قول ابن السيد فتحمل كأن على معنى الظن لأن خبرها غير جامد فافهم قوله فإن لم تكن تراه أي فإن لم تكن ترى الله وكلمة أن للشرط وقوله لم تكن تراه جملة وقعت فعل الشرط فإن قلت أين جزاء الشرط قلت محذوف تقديره فإن لم تكن تراه فأحسن العبادة فإنه يراك فإن قلت لم لا يكون قوله فإنه يراك جزاء للشرط قلت لا يصح لأنه ليس مسببا عنه

(1/286)


وينبغي أن يكون فعل الشرط سببا لوقوع الجزاء كما تقول في إن جئتني أكرمتك فإن المجيء هو السبب للاكرام وعدمه سبب لعدمه وههنا عدم رؤية العبد ليست بسبب لرؤية الله تعالى يراه سواء وجدت من العبد رؤية أولم توجد فإن قلت ما الفاء في قوله فإن قلت للتعليل على ما لا يخفى قوله متى الساعة جملة اسمية وقعت مقول القول وفي بعض النسخ فمتى فإن صحت فالفاء فيها زائدة قوله ماالمسؤل كلمة ما بمعنى ليس وقوله باعلم خبرها وزيدت فيها الباء لتأكيد معنى النفي قوله وسأخبرك السين هنا لتأكيد الوعد بالإخبار كما في قوله تعالى فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ومعنى السين إن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين قوله إذا ولدت الأمة إنما قال إذا ولم يقل أن لان الشرط محقق الوقوع فجاء بلفظ إذا التي للجزم بوقوع مدخولها فلهذا يصح أن يقال إذا قامت القيامة كان كذا ولا يصح أن يقال إن قامت القيامة كان كذا فإن قلت أين الجزاء قلت هو محذوف تقديره إذا ولدت الأمة فهي أي الولادة من أشراطها وقال الكرماني وإذا ظهر أن تكون إذا متمحضة لمجرد الوقت ي وقت الولادة ووقت التطاول قلت هذا تقدير ناقص والمعنى الصحيح عندي كون إذا لمجرد الوقت أي وقت الولادة ووقت التطاول قلت هذا تقدير ناقص والمعنى الصحيح عندي كون إذا لمجرد الوقت وأن يقدر مبتدأ محذوف والتقدير وسأخبرك عن اشراطها هي وقت ولادة الأمة ربها ووقت تطاول الرعاء في البنيان قوله رعاة الإبل كلام اضافي مرفوع لأنه فاعل تطاول وقوله البهم روى بالرفع على أنه صفة للرعاة أى الرعاة السود وقال الخطابي معناه الرعاة المجهولون الذين لا يعرفون جمع ابهم ومنه ابهم الأمر فهو مبهم إذا لم تعرف حقيقته وروى بالجر على أنه صفة للإبل أى رعاة الإبل السود قالوا وهي شرها كما ذكرناه عن قريب قوله في البنيان يتعلق بقوله تطاول قوله في خمس في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره علم وقت الساعة في جملة خمس وقوله لا يعلمهن إلا الله صفة لخمس ومحلها الجر أو التقدير هي في خمس من الغيب كما جاء في رواية عطاء الخراساني هي في خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله قوله الآية يجوز فيه الرفع على تقدير أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أي الآية مقروء إلى آخرها والنصب على تقدير أن يكون مفعولا لفعل مقدر أي اقرأ الآية ةوالجر على تقدير إلى الآية أي إلى مقطعها وتمامها وفيه ضعف لا يخفي قوله هذا جبريل جاء مثل قولك هذا ويد قام قوله يعلم الناس جملة وقعت حالا فإن قلت لم يكن معلما وقت المجىء فكيف يكون حالا قلت هذه حال مقرة كما في قوله تعالى لتدخلن المسجد الحرام أن شاء الله آمنين
( بيان المعاني ) قوله فأتاه رجل قد ذكرنا في حديث عمر في رواية مسلم ( بينما نحن جلوس عند رسول الله ذات يوم غذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي عليه السلام فاسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام الحديث والضمير في فخذيه يعود على النبي عليه السلام وقال النووي على فخذي نفسه يعني نفس جبريل عليه السلام وأعاد الضمير إليه وتبعه على ذاك التوربشتي شارح المصابيح وليس كذلك بل الضمير يعود على النبي عليه السلام كما ذكرنا والدليل على ذلك ما جاء في روية سليمان التيمي ثم وضع يديه على ركبتي النبي وبه جزم البغوي وإسماعيل التيمي ورجحه الطيبي من جهة البحث والظاهر أنه لم يقف على رواية سليمان فلذلك رجحه من جهة البحث ونظر النووي في ما قاله التنبيه على أنه جلس كهيئة المتعلم بين يدي من يتعلم منه لإقتضاء باب الأدب ذلك ولكن على رواية سليمان إنما فعل جبريل ذلك لزيادة المبالغة في تعمية أمره ليقوى ظن الحاضربن أنه من جفاة الأعراب ولهذا تخطى الناس حتى انتهى إلى النبي عليه السلام كما ذكرنا نافي رواية سليمان التيمي ولهذا استغربت الصحابة رضي الله عنهم صنيعة لأنه ليس من أهل البلد وجاء ماشيا ليس له أثر السفر فإن قيل كيف عرف عمر رضي الله عنه أنه لم يعرفه أحد قيل من قول الحاضرين كما في رواية عثمان بن عفان فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا ما نعرف قوله أن تؤمن بالله الإيمان بالله هو التصديق بوجوده تعالى وأنه لا يجوز عليه العدم وأنه تعالى موصوف بصفات الجلال والكمال من العلم والقدرة الإرادة والكلام والسمع والبصر والحياة وأنه تعالى منزه عن صفات النقص التي عي اضداد تلك الصفات وعن صفات الإجسام والمثحيزات وأنه واحد حق صمج فرد خالق جميع المخلوقات متصرف فيها بما شاء من التصرفات يفعل في ملكه ما يريد ويحكم في خلقه

(1/287)


ما يشاء قوله وملائكته أي الإيمان بجميع ملائكته فمن ثبت تعيينه كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام وجب الإيمان به ومن لم يعرف اسمه آمنا به اجمالا وكذلك الانبياء المرسلون من علمنا آمنا به ومن لم نعلم آمنا به اجمالا وما كان من ذلك ثابتا بالنص أو التواتر كفر من يكفر به والايمان برسل الله عليهم السلام هو بأنهم صادقون فيما اخبروا به عن الله تعالى وأن الله تعالى أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم وأنهم بلغوا عن الله رسالاته وبينوا للمكلفين ما آمرهم ببيانه وأنه يجب احترامهم وإن لا يفرق بين أحد منهم قوله وبلقائه الأيمان بلقائه هو التصديق برؤية الله تعالى في الآخرة قاله الخطابي واعترض عليه النووي بأن أحدا لا يقطع لنفسه برؤية الله تعالى فأنها مختصة لمن مات مؤمنا والمرء لا يدري بم يختم له فكيف يكون من شروط الإيمان ورد عليه بان المراد الإيمان بان ذلك حق في نفس الأمر وقد قيل أنها مكررة لأنها داخلة في الإيمان بالبعث وهو القيام من القبور قلنا لا نسلم التكرار لأن المراد باللقاء ما بعد تلك وقال النووي اختلفوا في المراد بالجمع بين الإيمان بلقاء الله والبعث فقيل اللقاء يحصل بالانتقال إلى دار الجزاء والبعث عند قيام الساعة وقيل اللقاء ما يكون بعد البعث عند الحساب قوله وتقيم الصلاة المراد بها المكتوبة كما صرح بها في رواية مسلم وهو احتراز عن النافلة فإنها وأن كانت من وظائف الإسلام لكنها ليست من أركانه فتحمل المطلقة ههنا على المقيدة في الرواية الأخرى جمعا بينما قوله الزكوة المفروضة قيل احترز بالمفروضة عن الزكوة المعجلة قبل الحول فإنها ليست مفروضة حال الإداء وقيل احترز من صدقة التطوع فإنها زكاة لغوية قوله ما الإحسان وهو يستعمل لمعنيين احدهما متعد بنفسه كقولك احسنت كذا إذا حسنته وكملته منقولة بالهمزة من حسن الشيء والآخر بحرف الجر كقولك أحسنت إليه إذا أوصلت إليه النفع والإحسان وفي الحديث بالمعنى الأول فإنه يرجع إلى اتقان العبادات ومراعاة حق الله تعالى ومراقبته ويقال الإحسان على مقامين الأول كما قال إن تعبد الله كأنك تراه فهذا مقام الثاني قوله فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال عبد الجليل الأول على ثلاثة أقسام الأول في مقام الإسلام وذلك أن الأمور في عالم الحسن ثلاثة معاصي وطاعات ومباحات المعايش فأما قسم المعاصي على اختلاف أنواعها فإن العبد مأمور بأن يعلم أن الله يراه فإذا هم بمعصية وعلم أن الله يراه ويبصره على أي حالة كانت وأنه يعلم خائنه الأعين وما تخفى الصدور كف عن المعصية ورجع عنها وأما الأنسان فيذهل عن نظر الله إليه فينسى حين المعصية أنه يراه أو يكون جاهلا فيظن أن الله تعالى بعيد منه ولا يتذكر ويعلم أنه يحرك جوارحه حين العمل المعمول فينسى ذلك أو يجهل فيقع فيا لمعصية ولو علم وتحقق أن والده أو رجلا كبيرا لو يراه حين المعصية لكف عنها وهرب منها فإذا علم العبد أن الله يراه في حين المعصية كف عنها بحصول البرهان الإحساني عنده وهو البرهان عنده وهو البرهان الذي أوتيه ورآه يوسف عليه السلام وهو قيام الدليل الواضح العلمي بأن الله تعالى موجود حق وأنه ناظر إلى كل شيء ومصرف لكل شيء ومحركه ومسكنه فمن أراه الله تعالى هذا البرهان عند جميع المهمات صرف عنه السوء والفحشاء من جميع المنكرات الثاني قسم الطاعات فهي أن تعلم أن الله تعالى موجود وتبرهن عنده أنه يراه لا محالة إلا أن يكون زنديقا جاحدا لا يقر برب فإن كان مقر بوجوده فترك العبادة فإنما تركها تهاونا لنقصان البرهان الإحساني عنده وهذه حال المضيعين للفرائض لجهلهم بقدر إلا مرو قدر أمره الثالث من المباحات وهو محل الغفلة والسهو عن هذا المقام الإحساني فإذا تذكر العبد أن الله تعالى يراه في تصريفه وأنه أره بالإقبال عليه وقلة الأعراض عنه استحي أن يراه مكبا على الخسيس الفاني مستغر قافي الاشتغال به عن ذكره وعن الإقبال على ما يقطع عنه المقام الثاني في عالم الغيب فإن العبد إذ فكر في مواطن الآخرة من موت وقبر وحشر وعرض وحساب وغي ذلك وعلم أنه معروض على الله تعالى في ذلك العالم ومواطنه تهيأ لذلك العرض فيتزين للآخرة بزينة أهل الآخرة ما استطاع وأما المقام الثالث في الإحسان فإن العبد إذا علم في قلوب اوليائه فيزيل الصفات الممهلكات ويطهره منها ويتصف المحمودات حتى يجعل سره كالمرآة المجلوة قوله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال النووي هذا اصل عظيم من أصول الدين وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين وهو عمدة الصديقين وبغية السالكين

(1/288)


وكنز العارفين ودأب الصالحين وتلخيص معناه أن تعبد الله عبادة من يرى الله تعالى ويراه الله تعالى فإنه لا يستبقي شيئا من الخضوع والإخلاص وحفظ القلب والجوارح ومراعاة الآداب ما دام في عبادته وقوله فإن لم تكن تراه فإنه يراك يعني أنك إنما تراعي الآداب إذا رأيته ورآك لكونه يراك لا لكونك تراه وهذا المعنى موجود وإن لم تره لأنه يراك وحاصله الحث على كمال الإخلاص في العبادة ونهاية المراقبة فيها وقال هذا من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص احتراما لهم واستحياء منهم فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعا عليه في سره وعلانيته وقال القاضي عياض قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والحفظ من آفات الأعمال حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه قوله متى الساعة الساعة مقدار من الزمان غير معين لقوله تعالى ما لبثوا غير ساعة وفي عرف أهل الشرع عبارة عن يوم القيامة وفي عرف المعدلين جزء من أربعة وعشرين جزأ من أوقات الليل والنهار قوله إذا ولدت الأمة ربها أي مالكها وسيدها وذكروا في معنى خذا أوجها الأول قال الخطابي معناه اتساع الإسلام واستيلاء أهله على بلاد الشرك وسبي دراريهم فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها كان الولد فيها بمنزلة ربها لأنه ولد سيدها وقال النووي وغيره هذا قول الأكثرين وقال بعضهم وقال بعضهم لكن في كونه المراد نظر لأن استيلاد الإماء كان موجودا حين المقالة والاستيلاء لعى بلاد الشرك وسبي ذراريهم واتخاذهم سرارى وقع أكثره في صدر الإسلام وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع مما سيقع في قيام الساعة قلت في نظره نظر لأن قوله إذا ولدت الأمة ربها كناية عن كثرة التسري من كثرة فتوح المسلمين واستيلائهم على بلاد الشرك والمراد أن يكون من هذه الجهة فافهم والثاني معناه أن الإيماء يلدن الملوك فتكون أم الملك من جملة الرعية وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته وهذا قول إبراهيم الحربي والثالث معناه أن تفسد أحوال الناس فيكثر بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان فيكثر تردادها في ايدي المشترين حتى يشتريها ابنها وهو لا يدري وعلى هذا القول لا يختص بأمهات الأولاد بل يتصور في غيرهن فإن الأمة قد تلد حرا بوطئ غير سيدها بشبهة أو ولدا رقيقا بنكاح أو زنا ثم تباع الأمة في بيع لأمهات الأولاد والرابع أن أم الولد لما عتقت بولدها فكأنه سيدها وهذا بطريق المجاز لأنه لما كان سببا في عتقها بموت أبيه أطلق عليه ذلك والخامس أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة وغير ذلك وأطلق عليه ربها مجازا لذلك وقال بعضهم لذلك وقال بعضهم يجوز أن يكون المراد بالرب المربي فيكون حقيقة وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه قل هذا ليس بأوجه الأوجه بل أضعفها لأن النبي إنما عد هذا من أشراط الساعة لكونه على نمط خارج على وجه الاستغراب أو على وجه دال على فساد أحوال الناس والذي ذكره هذا القائل ليس من هذا القبيل فافهم وأما رواية بعلها فالصحيح في معناها أن البعل هو السيد أو المالك فيكون بمعنى ربها على ما سلف قال أهل اللغة بعل الشيء ربه ومالكه قال تعالى أتدعون بعلا أي ربا قاله ابن عباس والمفسرون وقيل المراد هنا الزوج وعلى هذا معناه نحو ما سبق أنه يكثر بيع السرارى حتى يتزوج الإنسان أمه ولا يدري وهذا أيضا معنى صحيح إلا أن الأول أظهر لأنه إذا أمكن حمل الروايتين في القضية الواحدة على معنى واحد كان أولى قوله وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان المعنى أن أهل البادية أهل الفاقة تنبسط لهم الدنيا حتى يتباهوا في إطالة البنيان يعني العرب تستولي على الناس وبلادهم ويزيدون في بنيانهم وهو إشارة إلى اتساع دين الإسلام كما أن العلامة الأولى أيضا فيها اتساع الإسلام قال الكرماني ومحصله أن من أشراطها تسلط المسلمين على البلاد والعباد وقال ابن بطال معناه أن ارتفاع الأسافل من العبيد والسفلة الجمالين وغيرهم من علامات القيامة وروى الطبراني من حديث ابن أبي جمرة عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا من انقلاب الدين تفصح النبط واتخاذهم القصور في الأمصار وقال القرطبي المقصود الأخبار عن تبدل الحال بأن يستولي أهل البادية على الأمر ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى تشييد

(1/289)


البنيان والتفاخر به وقد شاهدنا ذلك في هذا الزمان وقال الطيبي المقصود أن علاماتها انقلاب الأحوال والقرينة الثانية ظاهرة في صيرورة الأعزة أذلة ألا ترى إلى الملكة بنت النعمان حيث سبيت واحضرت بين يدي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كيف أنشدت بينا نسوس الناس والأمر أمرنا
إذا نحن فيهم سوقة تنتصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها
تقلب تارات بنا وتصرف
قوله في خمس إلى آخره قال القرطبي لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمس لهذا الحديث وقد فسر النبي قول الله تعالى وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو بهذه الخمس وهو الصحيح قال فمن ادعى علم شيء منها غير مسند إلى رسول الله كان كاذبا في دعواه قال وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان غير أمر عادي وليس ذلك بعلم وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على تحريم أخذ الأجرة والجعل وإعطائها في ذلك
( استنباط الأحكام ) وهو على وجوه الأول أن الإيمان هو أن يؤمن العبد بالله وملائكته وبلقائه ورسله ويؤمن بالبعث والنشور الثاني أن الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان الثالث إن الإحسان أن تعبد الله كأنه يراك وتراه الرابع احتج به من يدعي تغاير الإيمان والإسلام ومع هذا تقدم غير مرة أن الإسلام والإيمان والدين عند البخاري عبارات عن معنى واحد وقال محيي السنة جعل النبي الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال والإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان والتصديق بالقلب ليس من الإسلام بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين ولهذا قال عليه الصلاة و السلام أتاكم جبريل يعلمكم دينكم والتصديق والعمل يتناولهما الاسم والإيمان والإسلام جميعا وقال ابن الصلاح ما في الحديث بيان لأصل الإيمان وهو التصديق الباطن وأصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر ثم اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام وسائر الطاعات لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ولهذا فسر الإيمان في حديث الوفد بما هو الإسلام ههنا واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن ويتناول الطاعات فإن ذلك كله استسلام فتحقق ما ذكرنا إنهما يجتمعان فيه ويفترقان وقال من قال إنهما حقيقتان متباينتان إن حديث جبريل عليه السلام جاء على الوضع الأصلي بالتفرقة بين الإيمان والإسلام فالإيمان في اللغة التصديق مطلقا وفي الشرع التصديق بقواعد الشرع والإسلام في اللغة الاستسلام والانقياد ومنه قوله تعالى قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا وفي الشرع الانقياد في الأفعال الظاهرة الشرعية لكن الشرع توسع فاطلق الإيمان على الإسلام في حديث وفد عبد القيس وقوله الإيمان بضع وسبعون بابا أدناها إماطة الأذى عن الطريق وأطلق الإسلام يريد به الأمرين قال الله تعالى إن الدين عند الله الإسلام وقال بعض العلماء تنافس العلماء في هذه الأسماء تنافسا لا طائل تحته فإنهم متفقون على أنه يستفاد منها بالشرع زيادة على أصل الوضع فهل ذلك المعنى يصير تلك الأسماء موضوعة كالوضع الابتدائي كما في لفظ الدابة أو هي مبقاة على الوضع اللغوي والشرع إنما تصرف في شروطها وأحكامها قلت وهذا الثاني هو قول القاضي أبي بكر الباقلاني قال والقول بالأول يحصل غرض الشيعة على الصحابة فإذا قيل إن الله تعالى وعد المؤمنين بالجنة وهم قد آمنوا يقولون الإيمان هو التصديق في قلوبهم لكن الشرع نقل هذه الألفاظ إلى الطاعات وهم صدقوا وما أطاعوا في أمر الخلافة فإذا قلنا لم تنقل انسد الباب الردي وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي يمكننا أن نقول بأن الأسماء الشرعية منقولة إلا هذه المسألة الخامس فيه وجوب الإيمان بهذه المذكورات في الحديث السادس فيه عظم مرتبة هذه الأركان التي فسر الإسلام بها السابع فيه جواز قول رمضان بلا شهر الثامن فيه غظم محل الإخلاص والمراقبة التاسع يه لا أدري من العلم والاعتراف بعدم العلم وإن ذلك لا ينقصه ولا يزيل ما عرف من جلالته بل ذلك دليل على ورعه وتقواه ووفور علمه وعدم يبجحه بما ليس عنده العاشر فيه دليل على تمثل الملائكة بأي صورة شاؤا من صور بني

(1/290)


آدم كقوله تعالى فتمثل لها بشرا سويا وقد كان جبريل عليه السلام يتمثل بصورة دحية ولم يره النبي عليه السلام في صورته التي خلق عليها غير مرتين فإن قلت لو كان جبريل عليه السلام متمثلا بصورة دحية في ذلك الوقت لكان النبي عليه السلام عرفه من أول الأمر ما عرف أنه جبريل إلا في آخر الحال قلت من ادعى أن جبريل ما يتمثل إلا بصورة دحية فقط فعليه البيان على أن الذي ذكرنا من الروايات أن جبريل أتاه في صورة رجل حسن الهيئة لكنه غير معروف لديهم يرد عليه فإن قلت وقع في رواية النسائي من طريق أبي فروة في آخر الحديث وأنه لجبريل نزل في صورة دحية الكلبي قلت قوله نزل في صورة دحية الكلبي وهم لأن دحية معروف عندهم وقد قال عمر رضي الله عنه في حديثه ما يعرفه منا أحد وقد أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الإيمان له من الوجه الذي أخرجه منه النسائي فقال في آخره فإنه جبريل جاء ليعلمكم دينكم حسب وهذه الرواية هي المحفوظة لموافقته باقي الروايات الحادي عشر قال القرطبي هذا الحديث يصلح أن يقال له أم السنة لما تضمن من جملة علة السنة وقال الطيبي لهذه النكتة استفتح به البغوي كتابه المصابيح وشرح السنة اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالا وقال القاضي عياض اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداء وحالا ومآلا ومن أعمال الجوارح ومن إخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه الثاني عشر فيه دليل على أن رؤية الله تعالى في الدنيا بالأبصار غير واقعة فإن قلت فالنبي قد رآه قلت قال بعضهم وأما النبي فذاك لدليل آخر قلت رؤية النبي ربه عز و جل لم يكن في دار الدنيا بل كانت في الملكوت العليا والدنيا لا تطلق عليها والدليل الصريح على عدم وقوع رؤية الله تعالى بالأبصار في الدنيا ما رواه مسلم من حديث أبي أمامة قال عليه السلام واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا وأما الرؤية في الآخرة فمذهب أهل الحق أنها واقعة بالأبصار فإن قلت الرؤية يشترط فيها خروج شعاع وانطباع صورة المرئي في الحدقة والمواجهة والمقابلة ورفع الحجب فكيف يجوز ذلك على الله سبحانه وتعالى قلت هذه الشروط للرؤيا عادة في الدنيا وأما في الآخرة فيجوز أن يكون الله تعالى مرئيا لنا إذ هي حالة يخلقها الله تعالى في الحاسة فتحصل بدون هذه الشروط ولهذا جوز الأشاعرة أن يرى أعمى الصين بقعة أندلس وقد ادعى بعض غلات الصوفية جواز رؤية الله تعالى بالأبصار في دار الدنيا وقال في قوله فإن لم تكن تراه إشارة إلى مقام المحو والفناء وتقديره فإن لم تصر شيئا وفنيت عن نفسك حتى كأنك ليس بموجود فإنك حينئذ تراه قلت هذا تأويل فاسد بدليل رواية كهمس فإن لفظها فإنك أن لا تراه فإنه يراك فسلط النفي على الرؤية لا على الكون وكذلك يبطل تأويلهم رواية أبي فروة فإن لم تراه فإنه يراك ورد عليهم بعضهم بقوله لو كان المراد ما زعموا لكان قوله تراه نحذوف الألف لأنه يصير مجزوما لكونه على تأويلهم جواب الشرط ولم يجيء حذف الألف في شيء من طرق هذا الحديث وهذا الجواب لا يقطع به شغبهم لأن لهم أن يقولوا الجزاء جملة حذف صدرها تقديره فأنت تراه والجزم في الجملة لا يظهر والمقدر كالملفوظ قوله متى الساعة قال القرطبي المقصود من هذا السؤال كف السامعين عن السؤال عن وقت الساعة لأنهم كانوا قد أكثروا السؤال عنها كما ورد في كثير من الآيات والحديث فلما حصل الجواب بما ذكر حصل اليأس من معرفتها بخلاف الأسئلة الماضية فإن المراد بها استخراج الأجوبة ليتعلمها السامعون ويعملوا بها وهذا السؤال والجواب وقعا بين عيسى ابن مريم وجبريل عليهما السلام أيضا لكن كان عيسى سائلا وجبريل مسئولا قال الحميدي حدثنا سفيان حدثنا مالك ابن مغول عن إسماعيل بن رجاء عن الشعبي قال سأل عيسى ابن مريم جبريل عليه السلام عن الساعة قال فانتفض بأجنحته وقال ما المسؤل عنها بأعلم من السائل قوله جاء يعلم الناس دينهم أي قواعد دينهم وكلياتها وقال ابن المنير فيه دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علما وتعليما لأن جبريل عليه السلام لم يصدر منه سوى السؤال ومع ذلك فقد سماه معلما وقد اشتهر قولهم السؤال نصف العلم
( الأسئلة والأجوبة ) منها ما قيل ما سبب ورود هذا الحديث وأجيب بأن سببه ما رواه مسلم من رواية عمارة بن القعقاع أن رسول الله قال سلوني فهابوه أن يسألوه فجاء رجل فجلس عند ركبتيه فقال يا رسول الله

(1/291)


ما الإسلام الحديث ومنها ما قيل ما وجه تفسير الإيمان بأن تؤمن وفيه تعريف الشيء بنفسه وأجيب بأنه ليس تعريفا بنفسه إذا المراد من المحدود الإيمان الشرعي ومن الحد الإيمان اللغوي أو المتضمن للاعتراف ولهذا عدى بالباء أي أن تصدق معترفا بكذا ومنها ما قيل كيف بدأ جبريل عليه السلام بالسؤال قبل السلام وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك مبالغة في التعمية لأمره أو ليبين أن ذلك غير واجب أو سلم فلم ينقله الراوي قلت الأولان ضعيفان والاعتماد على الثالث لأنه ثبت في رواية أبي فروة بعد قوله كأن ثيابه لم يمسها دنس حتى سلم من طرف البساط فقال السلام عليك يا محمد فرد عليه السلام قال ادنو يا محمد قال أدن فما زال يقول أدنو مرارا ويقول أدن ونحوه في رواية عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما لكن قال السلام عليك يا رسول الله وفي رواية يا رسول الله أدنو فقال أدن ولم يذكر السلام فاختلفت الرواية هل قال يا محمد أو قال يا رسول الله وهل سلم أولا وطريق التوفيق أن رواية من قال سلم مقدمة على رواية من سكت عنه أو أنه قال أولا يا محمد كما كان الأعراب يقوله قصدا ااتعمية ثم خاطبه بعد ذلك بقوله يا رسول الله ووقع عند القرطبي أنه قال السلام عليكم يا محمد واستنبط من هذا أنه يستحب للداخل أن يعمم بالسلام ثم يخصص من يريد تخصيصه ومنها ما قيل لم قدم السؤال عن الإيمان وأجيب بأنه الأصل وثني بالإسلام فإنه يظهر به تصديق الدعوى وثلث بالإحسان لأنه متعلق بهما وقد وقع في رواية عمارة بن القعقاع بدأ بالإسلام وثنى بالإيمان وقالوا إنما بدأ بالإسلام لأنه بالأمر الظاهر ثم بالإيمان لأنه بالأمر الباطن ورجح الطيبي هذا وقال لما فيه من الترقي ووقع في وراية مطر الوراق بدأ بالإسلام وثنى بالإحسان وثلث بالإيمان ويمكن أن يقال عنا أن الإحسان هو الإخلاص كما ذكرنا فكما أن محله القلب فكذلك ذكر في القلب والحق أن هذا التقديم والتأخير من الرواة والله تعالى أعلم ومنها ما قيل أن السؤال عن ماهية الإيمان لأنه سأله بكلمة ما ولا يسأل بها إلا عن الماهية وماهية الإيمان التصديق والجواب غير مطابق وأجيب بأنه عليه السلام علم منه إنه إنما سأله عن متعلقات الإيمان إذ لو كان سؤاله عن حقيقته لكان جوابه التصديق وقال الطيبي قوله أن تؤمن بالله يوهم التكرار وليس كذلك فإنه يتضمن معنى أن تعترف ولهذا عداه بالباء وقال بعضهم والتصديق أيضا يعدي بالباء فلا يحتاج إلى دعوى التضمين قلت الطيبي ادعى تضمين الإيمان معنى الاعتراف وكون التصديق يتعدى بالباء لا يمنع دعوى تضمين الإيمان معنى الاعتراف حتى يقال لا يحتاج إلى دعوى التضمين ومنها ما قيل الإيمان بالكتب أيضا واجب ولم تركه وأجيب بأن الإيمان بالرسل مستلزم للإيمان بما أنزل عليهم على أنه مذكور في رواية الأصيلي ههنا كما ذكرناه ومنها ما قيل لم كرر لفظ تؤمن في قوله وتؤمن بالعبث وأجيب بأنه نوع آخر من المؤمن به لأن البعث سيوجد فيما بعد واخواته موجودة الآن ومنها ما قيل ظاهر الحديث يدل على أن الإيمان لا يتم إلا على من صدق بجميع ما ذكر فما بال الفقهاء يكتفون بإطلاق الإيمان على من آمن بالله ورسوله وأجيب بأن الإيمان برسوله هو الإيمان به وبما جاء به من ربه فيدخل جميع ذلك تحت ذلك ومنها ما قيل أن المراد من قوله ( أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا ) إن كان معرفة الله تعالى وتوحيده فلا يحتاج إلى قوله ( ولا تشرك به شيئا ) وإن كان المراد الطاعة مطلقا فيدخل فيها جميع الوظائف وما الفائدة بعد ذلك في ذكر الصلاة والصوم وأجيب بأن المراد النطق بالشهادتين صرح بذلك في حديث عمر رضي الله عنه قال الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولما عبر الراوي عن ذلك بالعبادة احتيج أن يوضح ذلك بقوله ولا تشرك به شيئا ولم يحتج إليه من باب عطف الخاص على العام ومنها ما قيل أن السؤال عن الإسلام عام والجواب خاص لقوله أن تعبد الله وكذا قوله في الإيمان أن تؤمن وفي الإحسان أن تعبد وأجيب بأنه ليس المراد بمخاطبة الأفراد اختصاصه بذلك بل المراد تعليم السامعين الحكم في حقهم وحق من تخاف عنهم وقد بين ذلك بقوله في آخر الحديث يعلم الناس دينهم ومنها ما قيل لم لم يذكر الحج وأجيب بأنه فرض حينئذ ويرد هذا ما رواه ابن منده في كتاب الإيمان بإسناده الذي هو على شرط مسلم من طريق سليمان التيمي من حديث عمر رضي الله عنه أوله أن رجلا في آخر عمر النبي جاء إلى

(1/292)


رسول الله فذكر الحديث بطوله فهذا يدل على أنه إنما جاء بعد إنزال جميع لتقرير أمور الدين والصواب أن تركه من الرواة إما ذهولا وإما نسيانا والدليل على ذلك اختلافهم في ذكر بعض الأعمال دون بعض ففي رواية كهمس وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا وكذا في حديث أنس وفي رواية عطاء الخرساني لم يذكر الصوم وفي حديث أبي عامر ذكر الصلاة والزكاة حسب كما ذكرناه عن قريب ومنها ما قيل لفظة أعلم في قوله ما المسؤل عنها بأعلم من السائل مشعرة بوقوع الاشتراك في العلم والنفي توجه إلى الزيادة فيلزم أن يكون معناه أنهما متساويان في العلم به لكن الأمر بخلافه لأنهما متساويان في نفي العلم به وأجيب بأن اللازم ملتزم لأنهما متساويان في القدر الذي يعلمان لست بأعلم بها منك وأجيب بأنه إنما قال كذلك إشعارا بالتعميم تعريضا للسامعين إن كل سائل ومسئول فهو كذلك ومنها ما قيل أن الأشراط جمع شرط وأقله ثلاثة على الأصح ولم يذكر هنا إلا اثنان وأجيب بأنه إما أنه ورد على مذهب أن أقله اثنان أو حذف الثالث لحصول المقصود بما ذكر وقال بعضهم في هذه الأجوبة نظر ولو أجيب بأن هذا دليل القول الصائر إلى أن أقل الجمع إثنان لما بعد عن الصواب قلت هذا الذي قاله بعيد عن الصواب لأنه كيف يكون هذا دليلا لمن يقول أن أقل الجمع إثنان لأنه لا يخلو إما أن يستدل على ذلك بلفظ الأشراط أو بلفظ إذا ولدت وإذا تطاول منهما لا يصح أن يكون دليلا أما الأول فلأنه لم يقل أحد أنه ذكر الأشراط وأراد به الشرطين بل المراد أكثر من ثلاثة وأما الثاني فلأنه ليس بصورة التثنية حتى يقال ذكرها وأراد بها الجمع فافهم وقوله أو حذف الثالث لحصول المقصود هو لاجواب المرضي لأن المذكور من الأشراط ثلاثة وإنما بعض الرواة اقتصر على اثنين منها لأن البخاري ذكر هنا الولادة والتطاول وفي التفسير ذكر الولادة ورؤوس الحفاة وفي رواية محمد بن بشر التي أخرج مسلم إسنادها وساق ابن خزيمة لفطها عن أبي حيان ذكر الثلاثة وكذا في مستخرج الإسماعيلي من طريق ابن علية وكذا ذكرها عمارة بن القعقاع ومنها ما قيل لم ذكر جمع القلة والعلامات أكثر من العشرة في الواقع وأجيب بأنه جاز لأنه قد تستقرض القلة للكثرة وبالعكس أو لفقد جمع الكثرة للفظ الشرط أو لأن الفرق بالقلة والكثرة إنما هو في النكرات لا في المعارف ومنها ما قيل كيف أطلق الرب على غير الله تعالى وقد ورد النهي عنه بقوله عليه الصلاة و السلام ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي ومولاي وأجيب بأن هذا من باب التشديد والمبالغة وأن الرسول مخصوص به قلت الممنوع إطلاق الرب على غير الله تعالى بدون الإضافة وأما بالإضافة فلا يمنع يقال رب الدار ورب الناقة ومنها ما قيل من أين أستفاد الحصر من قوله تعالى إن الله عنده علم الساعة الآية حتى يوافق الحصر الذي في الحديث وأجيب من تقديم عنده وأما بيان الحصر في إخواتها فلا يخفى على العارف بالقواعد ومنها ما قيل ما وجه الإنحصار في هذه الخمس مع أن الأمور التي لا يعلمها إلا الله كثيرة أجيب بأنه إما لأنهم كانوا سألوا الرسول عن هذه الخمس فنزلت الآية جوابا لهم وأما لأنها عائدة إلى هذه الخمس فافهم ومنها ما قيل ما النكتة في العدول عن الإثبات إلى النفي في قوله ( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ) وكذا في التعبير بالدراية دون العلم وأجيب للمبالغة والتعميم إذا الدراية اكتساب علم الشيء بحيلة فإذا انتفى ذلك عن كل نفس مع كونه مختصا بها ولم يقع منه على علم كان عدم إطلاعه على علم غير ذلك من باب أولى ومنها ما قيل ما الحكمة في سؤال الساعة حيث عرف جبريل عليه السلام أن وقتها غير معلوم لخلق الله وأجيب بأن أقله التنبيه على أنه لا يطمع أحد في التطلع إليه والفصل بين ما يمكن معرفته وما لا يمكن وقد مر الكلام فيه عن قريب ومنها ما قيل أن جبريل عليه السلام سأل فقط والناس تعلموا الدين من الجواب لا منه فكيف قال يعلم الناس بإسناد التعليم إليه وأجيب بأنه لكا كان سببا فيه أطلق المعلم عليه أو لما كان غرضه التعليم أطلق عليه
( قال أبو عبد الله جعل ذلك كله من الإيمان )
أبو عبد الله هو البخاري قوله جعل أي النبي وأشار بذلك إلى ما ذكر في الحديث فإن قلت قال

(1/293)


البخاري أولا فجعل ذلك كله دينا وقال ههنا جعل ذلك كله من الإيمان قلت أما جعله دينا فظاهر حيث قال عليه السلام في آخر الحديث يعلم الناس دينهم وأما جعله إيمانا فكلمة من إما تبعيضية والمراد بالإيمان هو الإيمان الكامل المعتبر عند الله تعالى وعند الناس فلا شك إن الإسلام والإحسان داخلان فيه وأما ابتدائية ولا يخفى أن مبدأ الإحسان والإسلام هو الإيمان بالله إذ لولا الإيمان به لم تتصور العبادة له
38 -
( باب )
كذا وقع بلا ترجمة في رواية كريمة وأبي الوقت وسقط ذلك بالكلية من رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما ورجح النووي الأول قال لأن الترجمة يعني سؤال جبريل عليه السلام عن الإيمان لا يتعلق بها هذا الحديث فلا يصح ادخاله فيه وقد قيل نفي التعليق لا يتم هنا على الحالين لأنه إن ثبت لفظ باب بلا ترجمة فهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله فلا بد له من تعلق به وإن لم يثبت فتعلقه به متعين لكنه يتعلق بقوله في الترجمة جعل ذلك كله دينا ووجه بيان التعلق أنه سمى الدين إيمانا في حديث هرقل فيتم مراد البخاري بكون الدين هو الإيمان فإن قلت لا حجة له فيه لأنه منقول عن هرقل قلت إنه ما قاله من قبل اجتهاده وإنما أخبر به عن استقرائه من كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأيضا فهرقل قاله بلسانه الرومي فرواه عنه أبو سفيان بلسانه العربي وألقاه إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو من علماء اللسان فرواه عنه ولم ينكره فدل على أنه صحيح لفظا ومعنى وقد يقال إن هذا لم يكن أمرا شرعيا وإنما كان محاورة ولا شك أن محاوراتهم كانت على العرف الصحيح المعتبر الجاري على القولين فجاز الاستدلال بها فإن قلت باب كيف يقرأ وهل له حظ من الإعراب قلت إن قدرت له مبتدأ يكون مرفوعا على الخبرية والتقدير وهذا باب وإلا لا يستحق الإعراب لأن الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب ويكون مثل الأسماء التي تعد وهو هنا بمنزلة قولهم بين الكلام فصل كذا وكذا يذكرونه ليفصلوا به بين الكلامين
51 - حدثنا ( إبراهيم بن حمزة ) قال حدثنا ( إبراهيم بن سعد ) عن ( صالح ) عن ( ابن شهاب ) عن ( عبيد الله بن عبد الله ) أن ( عبد الله بن عباس ) أخبره قال أخبرني ( أبو سفيان ) أن ( هرقل ) قال له سألتك هل يزيدون أم ينقصون فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم وسألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فزعمت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد
( الحديث 51 - انظر الحديث 7 )
لم يضع لهذا ترجمة وإنما اقتصر من حديث أبي سفيان الطويل على هذه القطعة لتعلق غرضه لها وساقه في كتاب الجهاد تاما بهذا الإسناد الذي أورده ههنا ومثل هذا يسمى خرما وهو أن يذكر بعض الحديث ويترك البعض فمنعه بعضهم مطلقا وجوزه الآخرون والصحيح أنه يجوز من العالم إذا كان ما تركه غير متعلق بما رواه بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة ولا فرق بين أن يكون قد رواه قبل على التمام أو لم يروه قال الكرماني فممن وقع هذا الخرم قلت الظاهر أنه من الزهري لا من البخاري لاختلاف شيوخ الإسنادين بالنسبة إلى البخاري فلعل شيخه إبراهيم بن حمزة لم يذكر في مقام الاستدلال على أن الإيمان دين إلا هذا القدر قلت كيف يكون الخرم من الزهري وقد أخرجه البخاري بتمامه بهذا الإسناد في كتاب الجهاد وليس الخرم إلا من البخاري للعلة التي ذكرناها آنفا
ذكر رجاله وهم ستة الأول إبراهيم بن حمزة بن محمد بن مصعب بن عبد الله بن زبير بن العوام القرشي الأسدي المدني روى عن جماعة من الكبار وروى عنه البخاري وأبو داود وغيرهما وروى النسائي عن رجل عنه قال ابن سعد ثقة صدوق مات سنة ثلاثين ومائتين بالمدينة الثاني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني وقد مر فيما مضى الثالث صالح بن كيسان الغفاري المدني وتقدم الرابع محمد بن مسلم بن شهاب الزهري وتقدم ذكره غير

(1/294)


مرة الخامس عبيد الله بن عبد الله بتصغير الابن وتكبير الأب ابن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة بالمدينة وقد مر ذكره السادس عبد الله بن عباس
ذكر لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ومنها أن رواته مدنيون ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين ومنها أن بينه وبين الزهري ههنا ثلاثة أنفس وفي الحديث المتقدم الذي فيه قصة هرقل شيخان هما أبو اليمان الحكم بن نافع وشعيب بن أبي حمزة
ثم أعلم أنا قد استوفينا الكلام في هذا الحديث في أول الكتاب غير أن فيه ههنا بعض التغييرات في الألفاظ نشير إليها فنقول قوله هل يزيدون وقع هنا أيزيدون بالهمزة وكان القياس بالهمزة لأن أم المتصلة مستلزمة للهمزة ولكن نقول إن أم ههنا منقطعة لا متصلة تقديره بل ينقصون حتى يكون إضرابا عن سؤال الزيادة واستفهاما عن النقصان ولئن سلمنا أنها متصلة لكنها لا تستلزم الهمزة بل الاستفهام قال الزمخشري أم لا تقع إلا في الاستفهام إذا كانت متصلة فهو أعم من الهمزة فإن قيل شرط بعض النحاة وقوع المتصلة بين الإسمين قلت قد صرحوا أيضا بأنها لو وقعت بين الفعلين جاز اتصالها لكن بشرط أن يكون فاعل الفعلين متحدا كما في مسألتنا فإن قلت المعنى على تقدير الاتصال غير صحيح لأن هل لطلب الوجود و أم المتصلة لطلب التعيين سيما في هذا المقام فإنه ظاهر أنه للتعيين قلت يجب حمل مطلب هل على أعم منه تصحيحا للمعنى وتطبيقا بينه وبين الرواية المتقدمة في أول الكتاب قوله فزعمت وفيما مضى فذكرت قوله وكذلك أمر الإيمان وفيما مضى وكذلك الإيمان قوله هل يرتد وفيما مضى أيرتد قوله فزعمت وفيما مضى فذكرت قوله لا يسخطه أحد لم يذكر فيما مضى
39 -
( باب فضل من استبرأ لدينه )
الكلام فيه على أنواع الأول أن قوله باب مرفوع مضاف تقديره هذا باب فضل من استبرأ وكلمة من موصولة و استبرأ جملة من الفعل والفاعل وهو الضمير المستتر فيه الراجع إلى من صلة للموصولة و استبرأ استفعل أي طلب البراءة لدينه من الذم الشرعي أي طلب البراءة من الإثم يقال برئت من الديون والعيوب وبرئت منك براءة وبرئت من المرض برأ بالضم وأهل الحجاز يقولون برأت من المرض برأ بالفتح ويقول كلهم في المستقبل يبرأ بالفتح وبرأ الله الخلق برأ أيضا بالفتح وهو البارىء وفي ( العباب ) والتركيب يدل على التباعد عن الشيء ومزايلته وعلى الخلق قوله لدينه أي لأجل دينه النوع الثاني وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول بيان الإيمان والإسلام والإحسان وإن ذلك كله دين والمذكور ههنا الاستبراء للدين الذي يشمل الإيمان والإحسان ولا شك أن الاستبراء للدين من الدين النوع الثالث وجه الترجمة وهو أنه لما أراد أن يذكر حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه عقيب حديث أبي هريرة رضي الله عنه للمناسبة التي ذكرناها عقد له بابا وترجم له بقوله فضل من استبرأ لدينه وعين هذا اللفظ لعمومه واشتماله سائر ألفاظ الحديث وإنما لم يقل استبرأ لعرضه ودينه اكتفاء بقوله دينه لأن الاستبراء للدين لازم للاستبراء للعرض لأن الاستبراء للعرض لأجل المروءة في صون عرضه وذلك من الحياء والحياء من الإيمان فالاستبراء للعرض أيضا من الإيمان
52 - حدثنا ( أبو نعيم ) حدثنا ( زكرياء ) عن ( عامر ) قال سمعت ( النعمان بن بشير ) يقول سمعت رسول الله يقول الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا إن حمى الله في أرضه محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب
( الحديث 25 - طرفه في 2051 )
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة وهو أنه أخذ جزأ منه وترجم به كما ذكرنا
بيان رجاله وهم أربعة الأول

(1/295)


أبو نعيم بضم النون الفضل بالضاد المعجمة ابن دكين بضم الدال المهملة وفتح الكاف وهو لقب له واسمه عمرو ابن حماد بن زهير القرشي التيمي الطلحي الملائي مولى آل طلحة بن عبد الله وكان يبيع الملاء فقيل له الملائي بضم الميم والمد سمع الأعمش وغيره من الكبار وقل من يشاركه في كثرة الشيوخ وعنه أحمد وغيره من الحفاظ قال أبو نعيم شاركت الثوري في أربعين شيخا أو خمسين شيخا واتفقوا على الثناء عليه ووصفه بالحفظ والاتقان وقال أيضا أدركت ثمانمائة شيخ منهم الأعمش فمن دونه فما رأيت أحدا يقول بخلق القرآن وما تكلم أحد بهذا إلا رمي بالزندقة وروى البخاري عنه بغير واسطة ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بواسطة ولد سنة ثلاثين ومائة ومات سنة ثمان أو تسع عشرة ومائتين بالكوفة الثاني زكريا بن أبي زائدة واسمه خالد بن ميمون الهمداني الكوفي سمع جمعا من التابعين منهم الشعبي والسبيعي وعنه الثوري وشعبة وخلق ومات سنة سبع أو تسع وأربعين ومائة قال النسائي ثقة روى له الجماعة الثالث عامر الشعبي وقد تقدم ذكره الرابع النعمان بن بشير بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة ابن سعد بن ثعلبة بن خلاس بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام الأنصاري الخزرجي وأمه عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة ولد بعد أربعة عشر شهرا من الهجرة وهو أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة والأكثرون يقولون ولد هو وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم في العام الثاني من الهجرة وقال ابن الزبير هو أكبر مني روي له مائة حديث وأربعة عشر حديثا قتل فيما بين دمشق وحمص يوم واسط سنة خمس وستين وكان زبيريا وقال علي بن عثمان النفيلي عن أبي مسهر كان النعمان بن بشير عاملا على حمص لابن الزبير لما تمردت أهل حمص خرج هاربا فاتبعه خالد بن حلى الكلاعي فقتله وقال المفضل بن غسان الغلابي قتل في سنة ست وستين بسلمية وهو صحابي ابن صحابي ابن صحابية روى له الجماعة وليس في الصحابة من اسمه النعمان بن بشير غير هذا فهو من الأفراد ومنهم النعمان جماعات فوق الثلاثين
بيان لطائف إسناده منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ومنها أن رجاله كلهم كوفيون وقد دخل النعمان الكوفة وولي إمرتها وقد روى أبو عوانة في صحيحه من طريق ابن أبي جرير بفتح الحاء المهمة في آخره زاي معجمة عن الشعبي أن النعمان بن بشير خطب به بالكوفة وفي رواية لمسلم أنه خطب به بحمص والتوفيق بينهما بأنه سمع مرتين فإن النعمان ولي إمرة البلدتين واحدة بعد أخرى ومنها أن هذا وقع للبخاري رباعيا من جهة شيخه أبو نعيم ووقع له من جهة غيره خماسيا لما سيأتي ووقع لمسلم في أعلى طرقه خماسيا ومنها أن فيه التصريح بسماع النعمان بن بشير عن النبي وفيه رد على من يقول لم يسمع من النبي وقال أبو الحسن القابسي قال أهل المدينة لا يصح للنعمان سماع من النبي وحكاه القاضي عياض عن يحيى بن معين ويحكى عن الواقدي أيضا وقال أهل العراق سماعه صحيح ويدل عليه ما في رواية مسلم والإسماعيلي من طريق زكريا وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه وهذا تصريح بسماعه وكذا قول النعمان ههنا سمعت وهو الصحيح وقال النووي المحكي عن قول أهل المدينة باطل أو ضعيف قلت وهو ممن تحمل عن رسول الله صبيا وأداه بالغا وفيه دليل على صحة تحمل الصبي المميز لأن النبي مات والنعمان ابن ثمان سنين فإن قلت إن زكريا موصوف بالتدليس وههنا قد عنعن وكذا في غير هذه الرواية ليس له رواية عن الشعبي إلا معنعنا قلت ذكر في فوائد أبي الهيثم من طريق يزيد بن هارون عن زكريا قال حدثنا الشعبي فحصل الأمن من تدليسه فإن قلت قد قال أبو عمر هذا الحديث لم يروه عن النبي غير النعمان بن بشير ولم يروه عن النعمان غير الشعبي قلت أما الأول فإن كان مراده من وجه صحيح فمسلم وإن أراد مطلقا فلا نسلم لأنه روي من حديث ابن عمر وعمار وابن عباس رضي الله عنهم أخرج حديثهم الطبراني وكذا روي من حديث واثلة أخرجه الأصبهاني وفي أسانيدها مقال وأما الثاني فإنه رواه عن النعمان أيضا خيثمة بن عبد الرحمن أخرجه أحمد وعبد الملك بن عمير أخرجه أبو عوانة وسالم بن حرب أخرجه الطبراني ولكنه مشهور عن الشعبي رواه عنه خلق كثير من الكوفيين ورواه عنه من البصريين عبد الله بن عون وقد ساق البخاري إسناده في البيوع على ما نذكره الآن ولم يسق لفظه وساقه أبو داود
بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري ههنا عن أبي نعيم عن زكريا عن عامر عنه به وأخرجه في البيوع عن علي بن عبد الله وعبد الله بن محمد كلاهما عن سفيان بن عيينة وعن محمد بن كثير عن سفيان الثوري كلاهما عن أبي ==التالي ح3و.4.بمشيئة الله الواحد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تابع أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار   ج1وج2. ج / 1 ص -3- بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق: لا نعرف عن بدايات التأليف في...